بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 21 يناير 2010

مقابلات صحفية ومقالات أدبية

hassangharib@hotmail.com









مقابلات صحفية
و
قراءات أدبية



محتويات

-مقابلة صحفية1990م (البعد القومي للمعركة).
- جريـدة " الرأي العـام" الكويتـية (2000)
- مقابلة صحفية مع جريدة الكفاح العربي (2000)
- مقابلة صحفية مع جريدة عكاظ (حزيران 2001)
- مقابلة مع مجلة الوطن العربي (حزيران 2001)
- مقابلة مع مجلة ألف باء (تموز 2001)
- مقابلة صحفية مع مجلة التضامن (نيسان 2001)
- مقابلة صحفية حول كتاب الماركسية مع مجلة الوطن العربي (2003)
- مقابلة صحفية مع مجلة المشاهد (كانون الثاني 2001)
- مقابلة مع الوطن العربي (12 كانون الثاني 2007، لم تنشرها)

قراءات أدبية





مقابلة صحفية1990م
أبو حسان / البعد القومي
اما وجهة النظر ذات البعد القومي فكانت للسيد أبو حسان من قيادة حزب البعث في لبنان.. معه كان هذا الحوار.
كيف تنظرون إلى أحداث الخليج الجديدة.. وهي الوجه لحرب الخليج السابقة؟
بداية كانت الحرب العراقية الإيرانية للدفاع عن القرار العربي المستقل ولمنع التدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة من دول المنطقة. كانت الإمبريالية الأميركية وإمداداتها الأوروبية الصهيونية تبتغي أضعاف العراق والأمة العربية كي لا تستطيع الوقوف بوجه الأطماع الإمبريالية المتوجهة نحو منطقتنا العربية والإسلامية وعندما انتهت الحرب العراقية الإيرانية وخرج منها العراق أكثر اقتداراً على الصعد العسكرية والبشرية خاصة والاقتصادية عامة أعادت هذه القوى المتنامية في العالمين العربي والإسلامي وأتخذت الإمبريالية الأميركية نقطة الضعف عند القطر العراقي والتي تنحو بوضع اقتصادي هو العصب الأساسي في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية ولذلك لجأت الى استخدام أمراء النفط في الكويت لممارسة لعبة تخفيض أسعار البترول وذلك عندما أمروا بإنتاج كمية أكثر من المقرر لدولة الكويت وذلك لإغراق الأسواق العالمية بكميات إضافية من البترول وهذه الكميات أثرت تحت سياسة العرض والطلب بتخفيض أسعار البترول وهذا ما شكل عائقاً اقتصادياً منع العراق من متابعة سياسته التنموية على كافة الصعد لا تبقى من اهتمام أمام الشعب العراقي سوى التفتيش عن لقمة الخبز بعيداً عن الاهتمامات الوطنية والقومية هذه السياسة التي تستخدمها الإمبريالية الأميركية في إخضاع إرادة الشعوب العربية والإسلامية ودول العالم الثالث وهذا ما مسموح لها بامتلاك إرادتهم وأن القيادة التي تقود المعركة في القصر العراقي تنبهت لخطر هذه المنزلقات التي وقع فيها أمراء الكويت عن سابق تصور وتصمم لجأ العراق ومن ضمن إيمانه بأن العلاقات الأخوية يجب أن تحل بالحوار ودعاً لذلك حسنى مبارك والملك فهد وآخرين من رؤساء الدول العربية للمتوسط لدى هؤلاء الأمراء لحل هذه المسألة على قاعدة العلاقات الأخوية. لكنهم بقوا على عنادهم وإصرارهم في ممارسة الضغط الاقتصادي وكان يبدو في الأفق نية لديهم لاستدعاء ساداتهم الأميركيان لا نزال قوات أميركية على أرض الكويت العربية لحماية مخططاتهم التآمرية. وهذا مما لم يدع فسحة واحدة أمام الجيش العراقي لدخول الأرض العربية في الكويت بعد نداء وجهه الكويتيون الأحرار إلى قيادة القطر العراقي لمنع أي تدخل أجنبي.
-البعض يرى أن الدخول العسكري العراقي أفسح المجال أمام القوات الأجنبية للتدخل في المنطقة؟
يدعى المغرضون من أصحاب النوايا التآمرية لسبب أو لآخر بأن دخول الجيش العراقي إلى الكويت كان السبب المباشر للتدخل الأميركي في المنطقة لكننا نسأل هؤلاء عندما وجدت إسرائيل في المنطقة العربية وهي ربيبة الإمبرياليتين الأميركية والبريطانية، ه لكان هناك سبب ما لأن لتتلقى الصهيونية دعماً من هاتين الإمبرياليتين غير رغبتهما في زرع جسم غريب على الأرض العربية يكون منطلقاً وقاعدة للسيطرة العسكرية وثم الاقتصادية على هذه الأمة.
ان النفس الانهزامي السائد في بعض القيادات الأمة العربية والذي ظهر بأجلى صوره في تصريحات حسني مبارك الذي أراد أن يبرر انهزاميته وذلك بزرع مزيد من الانهزامة في النفس العربية. من هنا فإن الإمبريالية الأميركية لم ولن تحتاج إلى مبررات للتدخل سوى المواقع الانهزامي الذي يزرعه هذا أو ذاك من الملوك والرؤساء العرب.

في ظل هذا الانقسام الحاصل في صفوف العرب هل تتوقعون مواجهة عربية – عربية؟
ان الأمة العربية التي رضخت لعهود طويلة تحت هيمنة كافة وألوان وأشكال الهيمنة الاستعمارية لن تستعيد قوتها وشرفها إلا بانتفاضتها على كافة أنواع هذه الهيمنة. فالواقع الجامد بالنسبة لهذه الأمة ليس وضعاً صحياً فالجمود يعني الاستسلام لهذا الواقع فإذا كنا نرفضه علينا أن نخلق حالة صراع مع القوى المستفيدة منه وتحريك الجمود تأتي من امتلاك إرادة التغيير وتحريك حالة الصراع. في هذه الحالة علينا أن ندفع الثمن كشعوب تطلب التحرر وهذا ما فعله القطر العراقي والذي أثار تلك الزوبعة الانهزامية من قبل الأنظمة التي رفضت تحريك واقع الجمود. من هنا حصل الفرز الحقيقي على صعيد الأمة العربية بين منهزم وثائر بدفع الأمور باتجاه التغيير. أما هل تحصل المواجهات العربية نحن نطمع أن يكون العرب كلهم بدا واحدة في سبيل الانتفاض على الواقع المعاش. ولكن حركة التغيير لن تنتظر من الانهزاميين أن يصبحوا في حالة صحية. وإذا حصلت المواجهة بين متمرد ومتجمد فلن تخسر الأمة العربية إلا المتخاذلين فيها وهذه لن تكون مهمة الجيوش العربية ولكنها سوف تكون مهمة الشعوب العربية الطامحة نحو التغيير.

كيف سيواجه العراق الحصار المفروض عليه إقليمياً ودولياً والى أي متى سيصمد؟
ان القاعدة الأساسية في مواجهة الغزو الصهيوني تستند إلى وحدة الجهد العربي الصادق والمتجه إلى تقويم التضحيات فلتقل لنا الأنظمة التي أصبحت حريصة اليوم على استمرارية الانتفاضة في الضفة وقطاع غزة وعلى منع هجرة اليهود السوفيات إلى أرض فلسطين المحتلة ماذا فعلوا؟ وماذا فعلوا قبلها أيضاً عندما احتل جزء كبير عن أرض لبنان والجولان وسيناء والأردن. ان هؤلاء ركضوا وراء سراب الحلول الاستسلامية وتراكضوا على أبواب واشنطن استجداء لأي حل في الوقت الذي يعد فيه العدو الصهيوني لملأ ترسانته العسكرية بكل ما لذ وطاب من الأسلحة التدميرية. نحن نعلم أنه لا يقل الحديد إلا الحديد وبامتلاك العراق القوة العسكرية القادرة على أن تقل الحديد الصهيوني تكالبت القوى الإمبريالية وحلفائها الانهزاميين العرب لشل هذه القدرة وأشغالها وبالتالي رش الإشاعات والإعلام لتشويه صورة العراق بأنه المعبق لدبابات الأنظمة المتخاذلة وطائراتها من أن تأخذ دورها في معركة التحرير ولكن للآسف دبابتهم وطائراتهم أصبت بالصدأ وآن للشعب العربي أن يأخذ دوره باستلام هذه الدبابات والطائرات واستخدامها في موقعها الصحيح. الذي يعيق التحرير ليس ما حصل في الخليج بل القوة العسكرية العربية التي يحكمها قرار عاجز إلا عن كبت إرادة جماهيرها بالتضحية في سبيل التحرر القومي.

-مثل هذه الحالة في الخليج والوطن العربي ستفسح للعدو الصهيوني فرصة بتحقيق إطماعه فما رأيكم؟
بالنسبة للعدو الصهيوني فهو يعمل على أساس استراتيجية طويلة المدى عنوانها السيطرة على الإرادة العربية وصولاً إلى السيطرة على الأرض والماء والسماء والبشر فلن يكون من رادع لهذا العدو سوى القدرة العربية على الدفاع والهجوم وهذا العدو مهمة جداً أن يخلق إرادة عربية مستكنة منهزمة. أن موجات الاستيطان والعمليات العسكرية للسيطرة على كل ما ذكرنا لن تم بسهولة في ظل أجواء الحرب وفي ظل أجواء المقدرة العربية على التحدي فاليهودي السوفياتي الذي يحمل حقائبه إلى إسرائيل يأتي وفي ذهنه حلم جميل ولن يأتي في ظل أجواء الحرب وأرجو أن ترصد حركة هجرة يهود السوفيات إلى الأرض المحتلة ومن خلالها حكم على مدى تأثير الأجواء الحالة السائدة في الشرق الأوسط على قلة أو كثرة هذه الهجرة وأنني اعتقد بأن هؤلاء اليهود سوف تقل حركتهم كثيراً لأنهم ليسوا كما نعتقدهم هواة لطلب الموت. أما بالنسبة للعدو فهو ليس بحاجة الآن للقيام بعملية عسكرية الاحتلال مصادر المياه اللبنانية لأنها موجودة في ظل احتلاله وإنما هم العدو الصهيوني الآن هو كيف يؤمن أقنعة ضد الغازات وليس لديه أي هم آخر.

-ماذا عن تطبيع العلاقات الإيرانية – العراقية ولماذا توقيت الخطوات العراقية باتجاه طهران؟
ان العراق عند خاض الحرب ضد إيران خاضها دفاعاً عن النفس لأنه في حينه أشارت كل الدلائل إلى الإرادة الإيرانية للتدخل في شؤون العراق الداخلية وحيث أن هذه الحرب كان حرباً دفاعياً بمفهوم العراق والذي طلب منذ العام 83 حيث كان لبنان بتعرض لاعتداء صهيوني طلب من القيادة الإيرانية إرسال الجيش للدفاع عن لبنان معلناً فتح حدوده وإيقاف الحرب من جانب واحد للتفرغ إلى مقاتلة العدو الأساسي.
أما الآن فإن العراق يعرف تماماً عدوه الأساسي المتمثل بالإمبريالية الأميركية والبريطانية ورببتها الصهيونية يقف تجاه إيران الموقف ذاته الذي وقفه عام 82 وأيضاً عام 75 عندما عقد اتفاقاً مع إيران لتحديد الحدود بينهما في سبيل التفرغ لمقاتلة العدو الأساسي. من هنا تأتي مواقف العراق في 75 و82 و90 لتؤثر على ثبات ومبدئية المواقف تلك. ولم يأتي الموقف الأخير سوى نتيجة لهذه المبدئية ونتيجة لقناعة القيادة في العراق بأن يسود السلام الدائم مع غيران على قاعدة الاحترام المتبادل أما هل هذا الموقف نتيجة ضعف كما تؤكد مجريات الأمور سابقاً أن العراق هو في موقع القوة وأفضل أنواع السلام هو ما يمارسه أي طرف وهو في هذا الموقع حيث يكون أكثر تطمينا للطرف الآخر.
-ما هي أثار حرب الخليج على الأزمة اللبنانية تحديد أو الشرق أوسطه عموماً؟
عندما نتكلم كحزب له منطلقاته القومية عن قضية فلسطين أو لبنان أو الخليج فاننا نؤكد على ترابط هذه القضايا القطرية مع مجمل الوضع على الساحة القومية ونحن نعتقد كذلك أن الضعف والقوة إذا انتابا الوضع القومي سوف ينعكسان سلباً أو إيجاباً على الوضع هذه الأقطار. أخذت فلسطين في غفلة من الضعف العربي وفكك لبنان في لحظة من التفكيك العربي في الوقت الذي كانت تحاول فيه كافة القوى المعادية لأن تحتل الخليج في لحطة من الانهزامية العربية لكن الاقتدار العراقي قلب كافة المقاييس وتحول الوضع العربي الشعبي تحديداً من المحيط إلى الخليج إلى صوت هادرو إلى قوة حقيقية مقاتلة إلى جانب العراق الذي يقود ليس معركة قطرية يقودها العراق سوف تنعكس إيجاباً على استنهاض الشعوب العربية. أما مدى انعكاس ما يجري في الخليج على الوضع اللبناني ورداً على من يقول بأن أزمة الخليج أوقفت الحلول على الساحة اللبنانية نحن نسأل بدورنا لماذا لم توجد هذه الحلول عام 75 أي قبل أزمة الخليج بسبعة عشر عاماً. فإذا أراد البعض أن يسيء إلى العراق بالنسبة لأزمته بأنه كان السبب في طي الملف اللبناني هو مخطئ لأن من كانوا يعيقون أي حل على الساحة اللبنانية معروفون بشكل واضح وعلى رأسهم الولايات المتحدة والعدو الصهيوني ومن لا يصدق فليفتح الملفات الصحفية والإعلامية المكدسة أينما كانت ويعود لتؤكد أنه لا حل لأية قضية قطرية كلبنان وفلسطين وآية قضية عربية متفجرة إلا في ظل مناخ عربي إيجابي.

جريـدة " الرأي العـام" الكويتـية
العـدد ( 11897): الإثنـين 17 ينايـر/ كانون الثاني 2000:
مؤلِّف "في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام" و "الردة في الإسلام":
حسن غريب: من دون العقل والديموقراطية مصيرنا، كما تاريخنا، مشحون بالحروب.
( حـاوره في بيروت حسان الزين )
كتابان جديدان صدرا حديثاً، يعرضان موضوعات في غاية الأهمية والخطورة في زمننا الراهن، نظراً لارتباطهما بواقعنا وبتاريخنا وبالدين الإسلامي الأكثر انتشاراً في المجتمع العربي، وبعض تجلياته الأصولية.
الكتـابان: الأول هو "في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام" (بحث في التاريخ والإيديولوجيا) (دار الطليعة – بيروت). والثاني "الـرِدَّة في الإسلام" (قراءة تاريخية وفكرية في الأصول والاتجاهات والنتائج) (دار الكنوز الأدبية – بيروت) لحسن غريب.
يحاول الباحث في الكتابين إظهار ما للعقل من دور ومكانة وحضور في الدين الإسلامي، وما له من حاجة بالنسبة إلى العرب والمسلمين في سبيل تقدُّمهم.
وهو – الباحث – لا يرى فعلاً ما بين الديموقراطية والعقل، بل إن الديموقراطية مناخ العقل ولغته، ولا يمكن لأحد ما أن يحيا من دون الآخر. من هنا يرى الباحث أن العقلانية ضرورة لِتَقَدُّم العرب والمسلمين، حتى لو كان ذلك يختلف مع تعاليم "الإسلام"، كما هو عند فقهاء اعتبروا العلمانية والديموقراطية خطراً يستهدف الإسلام والمسلمين.
عن الكتابين وموضوعاتهما، هذا الحوار مع مؤلفهما حسن خ. غريب:

لماذا العمل في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام؟
-في الأساس نشأت الفكرة من خلال إيماني بالإيديولوجيا القومية، وكانت العلاقة ما بين العروبة والإسلام قد أخذت سجالاً واسعاً وما زالت، كون الإسلام يشكِّل الثقافة القاعدية للشعب العربي كله تقريباً، باستثناء الإثنيات الدينية غير الإسلامية. وقد وُجِدت اتجاهات للمصالحة بينهما لكني لم أكن مقتنعاً بها. وهناك تيارات أخرى حاولت الفصل بينهما والقول بتميُّز الواحدة عن الأخرى. وهناك بعض المقالات أو الأبحاث حاولت التوفيق بين الطرفين، إلا أن العلاقة بينهما بقيت مُشكِلاً، فالتوفيق بينهما كان مُفْتَعَلاً ولم يقنعني.
وانطلاقاً من هذه النقطة فكرت في أن التراث موجود في التاريخ والفكر، فقلت يجب أن أقوم ببحث خاص. وعادة يكون هناك فرضيات في البحث، تشكل قاعدة لقناعة ما، وهكذا كانت فكرة البحث.
ويبقى السؤال: أَلاَ يستبعد البحث عن علاقة سليمة بين العروبة والإسلام "الإثنيات والطوائف والعقائد العربية" الأخرى من دائرة العلاقة السليمة مع العروبة؟
-حتى تاريخ سقوط الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تُمَثِّل المرجعية السياسية للدولة الإسلامية، وليس المرجعية الدينية، كانت هناك أقليات منها: الأقليات القومية ومنها الدينية؛ فالأقليات الدينية –بالطبع من غير المسلمين –كانت خاضعة لهذا النظام السياسي الذي يعبِّر، إلى حد كبير، عن حمايته للشريعة الإسلامية.

- وكانت الأقليات تخضع لمبادئ الدولة الإسلامية!
تسمح مبادئ الشريعة الإسلامية لهؤلاء بممارسة طقوسهم وعباداتهم، ولكن كان ممنوعاً عليهم المشاركة السياسية في هذا النظام. فكونهم مواطنين موجودين داخل دولة لها نظام سياسي يجب أن يكون لهم حقوق سياسية؛ فكان سكوتهم في تلك المرحلة، بحكم الأمر الواقع، خوفاً على وضعهم كمواطنين داخل هذه الدولة.
وفي الحال هذه، كانت مبادئ الشريعة الإسلامية تتعارض مع أدنى الحقوق السياسية لمواطن يعيش في دولة.
وكل إيديولوجيا لا تتحول إلى الواقع إلا إذا ترجمت نفسها بنظام سياسي. من هنا إذا كانت الإيديولوجيا تستند إلى نص مقدَّس، أو إلى قانون وضعي ممنوع تغييره إلا بصعوبة، تبدأ إشكالية العلاقة السلبية بين النظرية والتطبيق.
من هنا أي إيديولوجيا فكرية كانت أم سياسية أم دينية عليها أن تسمح باستمرار بحرية التعدد بالآراء والأفكار، وإعطاء مبادئ الحرية والديموقراطية متسعاً واسعاً من الأدوار لكي تكون الحسيب والرقيب على أي خلل ينشأ في العلاقة بين الإيديولوجيا والنظام السياسي.

-تتوقَّف في أبحاثك عند الخلل في العلاقة القائمة بين ما يُسَمَّى بالذميين وبين النظام السياسي الإسلامي. كيف يمكن معالجة هذا الخلل؟
إن معالجة هذا الخلل لن تتم من داخل المبادئ السياسية الإسلامية، التي وُضِعَت لتنظيم العلاقة ما بين المسلمين وغير المسلمين، لا سيما من أصحاب الكتاب. إنما يتحقق ذلك من خلال إعطاء الأقليات الدينية حقوقاً سياسية في النظام السياسي الإسلامي كي يطمئنوا ويدافعوا عن الدولة ويسهموا في بنائها كونهم لهم حقوق وعليهم واجبات. في مثل هذه الحال يتساوى الجميع في الحقوق السياسية استناداً إلى المفاهيم الحديثة في الحرية والديموقراطية والمساواة والعدالة.
-أَلاَ ترى في بحثك عن علاقة سليمة بين العروبة والإسلام إلغاءً للديموقراطية، واستبعاداً للعلمانية، التي لطالما ارتبطت – بشكل أو بآخر– إلى هذا الحد أو ذاك، بالعروبة؟
-بطبيعة الحال هناك إشكالية في العلاقة بين العقيدة الإسلامية من جهة، وبين المفاهيم السياسية الحديثة، مثل العلمانية والديموقراطية من جهة أخرى.
من خلال البحث الذي قمت به، وجدت أن الفقهاء الذين تولوا الدفاع عن العقيدة الإسلامية يحسبون بأن العلمانية والديموقراطية ما وُجِدا إلا لمحاربة الإسلام. وهناك مقارنات تفصيلية قمت بإجرائها في هذا البحث. ولم أجد نقطة التقاء بين العقيدة الإسلامية، التي يُعبِّر عنها الفقهاء المسلمون بشتى انتماءاتهم المذهبية، وبين الديموقراطية والعلمانية، سوى أن البعض من الفقهاء حاول أن يقول بأن الشورى هي نفسها الديموقراطية. وتوصلت، كذلك، إلى أن هذا الكلام (أي الشورى هي الديموقراطية) غير دقيق على الإطلاق، إنما التفاصيل الأخرى التي تتعلق بالعقيدة الإسلامية من جهة والمفاهيم السياسية الحديثة من جهة أخرى هي نقاط اختلاف باستمرار.

- لكن من خلال البحث في نقاط الالتقاء ونقاط الافتراق...ماذا وجدت؟
-وجدت نقاط افتراق عديدة، وبهذا المعنى، إذا استمرت الدولة بمفهومها الثيوقراطي الإسلامي، فإنها لن تستطيع أن توفِّر علاقة سليمة بين الإثنيات الدينية غير الإسلامية وبين الدولة الثيوقراطية الإسلامية. والمثير للعجب أن نبحث، ليس العلاقة بين الدولة الثيوقراطية الإسلامية والجماعات الذِمِيَّة فحسب، لأن هذا الجانب هو الوجه الأول في إشكالية العلاقة بين المواطن والدولة؛ أما الوجه الآخر فهو البحث عن إشكالية العلاقة بين المذاهب الإسلامية ذاتها وبين هذه الدولة.

-تنقل معادلة الديموقراطية وقبول الآخر إلى داخل الإسلام نفسه وإلى العلاقة ما بين المسلمين أنفسهم، كأنه تحدٍ أخفق المسلمون في تجاوزه بنجاح، فماذا ترى؟
لا يمكن لأي نظام ثيوقراطي أن يحقق العدالة بين الدين الحاكم والأديان الأخرى، وإنما هو لا يستطيع حتى أن يحقق علاقة إيجابية مع المذاهب الدينية الأخرى، ومنها التي تنتمي إلى الدين الحاكم. وهذه مسألة لم تتميَّز فيها الدولة الإسلامية، وإنما هذا الصراع الديني-الديني والمذهبي-المذهبي قد حصل في أوروبا، وتمَّ تجاوزه منذ أكثر من قرنين من الزمن حين سادت المفاهيم السياسية الحديثة كالعلمانية والديموقراطية.
بما أن هناك نقاط افتراق عديدة بين النظام السياسي الإسلامي وبين الإثنيات الدينية الأخرى، كان من المفترض أن نفتِّش عن صيغة نظام آخر يزيل هذه الإشكالية. وحيث أن الغرب المسيحي قد تجاوز إشكالية مشابهة، باعتماده أسساً سياسية حديثة كالعلمانية والديموقراطية، مع العلم أنه لم يضع هذه الأسس وفي ذهنه أنه سيحارب أو أنه سيلغي أدياناً أخرى، بل وضعها لمعالجة إشكالياته، ونجح فعلاً وإلى حدٍ كبير، في هذه المعالجة، وفي الوقت الذي لم يلغِ فيها – بواسطة قوانينه – الدين المسيحي. والمسيحية في الدول الغربية لا تتعرَّض لأي إشكالات من جرَّاء تطبيق القوانين الوضعية. فلماذا، إذاً، لا نجرِّب نحن أن نطوِّر النظام السياسي الإسلامي بعيداً عن المُسَلّمات الدينية بقوانين ومبادئ وضعية لا تخرج عن أخلاقيات الدين، لمعالجة إشكالياتنا؛ ونطرح للنقاش تلك المفاهيم التي استند إليها الغرب المسيحي في معالجة إشكالياته؟

-وكيف ننقلها؟ ثم هل نجاحها هناك يعني نجاحها عندنا؟
-لسنا مُلزَمين حرفياً بتلك القوانين، بل أن نأخذ منها ما يجعل العلاقة سليمة بين المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية. وإنني أقول، أيضاً، إن دساتير معظم الدول العربية تحتوي على الشيء الكثير من المفاهيم السياسية الحديثة. وبواسطتها تستطيع، أو استطاعت، أن تحقق المساواة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولو نظرياً، بين شتى المواطنين، إلى أي دين أو مذهب انتموا.
-كأنك لا ترى خلاصاً إلا بالعلمانيــة؟
-إنني أدعو بوضوح وبقناعة إلى قيام نظام علماني ديموقراطي لا يلغي أخلاقيات الأديان كلها. أما بالنسبة إلى تفاصيل العلمانية والديموقراطية، وبعد أن نحسم السجال الدائر حول أية سياسية للنظام الذي نريده، أن نُجري حواراً واسعاً بين المواطنين كافة – على قاعدة الحوار الشعبي أو النخبوي أو السياسي على مستوى المؤسسات الدستورية والتشريعية التي تمثِّل تمثيلاً صحيحاً الاتجاهات والتعدديات الدينية السياسية كافة.

-كيف أقمت العلاقة بين التاريخ وبين الأيديولوجيات، وأَلاَ تخدم هذه العلاقة الإيديولوجيا على حساب التاريخ والتأريخ؟
-منهجية البحث استندت إلى قراءة الواقع الذي كان قائماً في شتى مراحل التاريخ الإسلامي.فوصفت الواقع كما كان عليه بالفعل، مما أوصل إلى نتائج اكتَشَفْتً من خلالها أن هناك خللاً في العلاقة بين النظام السياسي وبين شتى فئات المجتمع. مثال على ذلك: النظام السياسي الإسلامي العثماني كان يحكم باسم الإسلام، ولكنه في الوقت نفسه كانت علاقته مع الجماهير الواسعة علاقات سلبية مستمرة، أي أن النظام لم يكن يكترث للعدالة والمساواة، لأنه تحوَّل إلى نظام طبقي على المستوى الاجتماعي والديني أيضاً.

-لكنك في الكتاب تؤكِّد أن ثمة في الإسلام قواعد سياسية واجتماعية إيجابية، وإنه لم يطبقها هذا النظام السياسي أو ذاك؟
-هذا صحيح تماماً، فالأنظمة السياسية، التي حكمت باسم الإسلام، أضرَّت بالعلاقة بين النظام الذي يمثِّل الإيديولوجيا الإسلامية مع المسلمين أنفسهم ومع الإثنيات الدينية الأخرى.

-ولماذا خصًّصت كتاباً كاملاً عن الرِدَّة في الإسلام؟ إذ ليس الإسلام وحده، كدين، يتحدَّث عن الردة. فهناك الأديان الأخرى التي تقول بها أيضاً. كذلك لماذا خصَّصت كتاباً بهذا الموضوع إسلامياًً، وأعفيت العروبة من مثل هذا النقد والهجوم؟
-إن بحثي عن الردة في الإسلام لا يعني أن الردة هي الخلل الوحيد في هذه الصحراء الواسعة. بل هناك الكثير من الإشكاليات الواجب على الباحثين أن يقوموا بالبحث حولها. أما لماذا أعطيت الأولوية للبحث المذكور فلأن له علاقة أساسية بحرِّيَة العقل والتفكير، مع العلم أن الأديان الأخرى، غير الإسلام، اتَّبَعَت مبدأ الردة في محاسبة المنتسبين إلى صفوفها ومنها المسيحية التي تجاوزت هذا المبدأ فأعطت للعقل دوره وللدين دوره أيضاً، ولم يلغِ أحدهما الآخر. بينما بقينا نحن في مشرقنا "الإسلامي" جامدين؛ لم يقم الفقهاء المسلمون بالنظر في مبدأ الردة على ضوء المستجدات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية بعين التجديد. وهناك فقهاء ما زالوا يحكمون على هذا وذاك من المفكرين المسلمين إذا ما أرادوا أن يجتهدوا في النص لصالح الإسلام والمسلمين. والمحاكمات التي جَرَت بحق الكثير من المفكرين العرب المسلمين الذين أدُّوا دوراً إيجابياً مؤثِّراً في تطوير الفكر العربي والإسلامي، لم يكن من نتيجة لها إلا إبقاؤنا في دائرة التخلُّف الفكري.
إذاً لم ينظر الفقهاء إلى مبدأ الردة، ولقد توصَّلت من خلال بحثي-استناداً إلى النقل والعقل-أنه كان مبدأً مرحلياً تكتيكياً اقتضته ظروف الدعوة الإسلامية في مرحلة من المراحل. وإن العودة إلى الاطلاع على الجوانب التفصيلية لهذا الجانب في البحث المنشور تعفينا من تكثيف الإجابة التي قد لا تعطي المضمون الواضح لها.

-الغرب بدأ إجراء المصالحة بين مؤسسات العلمانية وبين الكنيسة كمؤسسات دينية بعد صراع نكاد نقول بعد تحقيق شبه توازن ما بينهما، أي الدين والعلمانية؛ بينما في الكتاب الأول (في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام) تسويغ للمصالحة قبل التوازن، بل في "أوج" تطرف الجماعات الإسلامية وتصلُّبِها، بالإضافة إلى الصورة العالمية الرائجة حالياً حول الإسلامية والمسلمين، كإرهاب؟
إن التأثير الفكري الإسلامي كان وما زال واسعاً في البنى التحتية الشعبية منذ بناء أول دولة إسلامية حتى اليوم، ولم تستطع المفاهيم الحديثة أن تنزل إلى المستوى الشعبي، بل بقيت في وسط النُخْبَة؛ ولهذا فإن هذه الثقافة، التي ما زال يغذِّيها رجال الدين من خلال مذهبياتهم بالثقافة السطحية السريعة، ولذلك بقيت المفاهيم السياسية الحديثة، كثقافة لها علاقة بمصلحة البنى الشعبية التحتية، تشق طريقها بصعوبة؛ ولهذا استمرَّ التأثير الثقافي الديني – حتى السطحي منه – سائداً في مجتمعاتنا. وإلى أن تأخذ النخبة، وغيرها من الذين استوعبوا أهمية المفاهيم السياسية الحديثة استناداً إلى دراسة الثُغَر التي عمَّقت المفاهيم الدينية التقليدية دورها في تعميم وتعميق ما توصلت إليه من نتائج في الفكر بشتى حقوله، يمكن للمعادلة أن تصل إلى حالٍ من التوازن بين الثقافة السطحية القديمة وبين الثقافة الجديدة المُعَمَّقَة؛ لأنه لا يمكن لأي مجتمع أن يتطوَّر ويصل إلى مستوى التغيير بدون ثقافة جديدة تحقق الغاية وهي مصلحة المجتمع كله.

17 / 1 / 2000



مقابلة صحفية مع جريدة الكفاح العربي
نص المقابلــة الصحفيــة مع جريــدة الكفــاح العربي التي تصــدر من بــيروت:
تاريخ 16 / 10 / 2000؛ العدد 2713.
الباحث حسن غريب في حوار حول كتابــه "في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسـلام":
يوجد قواسم مشتَرَكة بين اتفاقية سايكس – بيكو ومواقف الإسلاميين والماركسيين من المسألة القوميـة.
يشدّد الباحث حسن غريب، في بُنية أبحاثه الهادفة إلى قراءة معاصرة وصحيحة لإشكالية العلاقة بين العروبة والإسلام، ولإشكالية الهوية العربية ومفهوم القومية، على ضرورة تحقيق وحدة الفكر والبناء السياسي الداخلي للأمة العربية في مواجهة العدوان الخارجي. كما يشدّد على ضرورة انتهاج الباحثين القوميين والإسلاميين على السواء، منهج البحث الأكاديمي في سبيل تحديد هوية للأمة العربية، لكي لا تصبح مثل بيزنطية، مشرذمة مقسّمة.
الباحث، حاول رصد نقاط الاتفاق والافتراق بين القومية والدين في ثلاثة كتب مختلفة العناوين والموضوعات، لكنها موحَّدَة، بشكل من الأشكال، في البُنية والهدف. أما الكتب، فهي: (نحو تاريخ فكري – سياسي لشيعة لبنان)، و(الردة في الإسلام)، و(في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام).
(الكفاح العربي) ناقشت الباحث حسن غريب حول أبحاثه، وتحديداً حول إشكالية العلاقة بين القومية والدين، في حوار هذا نصه:
• المتابع لمؤلفاتك، يرى اهتمامك بالشأن الإسلامي على مختلف توجهاته وموضوعاته. هل معنى ذلك أنك باحث مختص بالدراسات الإسلامية، دون غيرها، وهل تعتمد في طروحاتك الفكرية على قراءة معاصرة إيجابية للموروث الديني؟
-إن تركيزي على الدراسات الإسلامية، ليس نابعاً من موقعي كمختص بالدراسات الإسلامية. لكن ما لفت انتباهي إلى التعمق في هذه الدراسات، هو مسألة العلاقة بين الإسلام والعروبة. لا شك في أن كتابات كثيرة وُضِعت حول هذا الموضوع: منها ما وفَّق توفيقاً سياسياً وتكتيكياً بين العروبة والإسلام. ومنها ما فصل بينهما انفصالاً تعسفياً. ومنها ما رفض الإثنين معاً، مثل التيارات الماركسية. فمن خلال مطالعاتي المعاصرة حول هاتين المسألتين: القومية والإسلام، وجدت أن المتوافر من الأبحاث لا يفي بالغرض. فلذلك قمت ببحثي، وأنا أحسب أنني سوف أتوصّل إلى نتائج جديدة، بعيداً عن النتائج كلها التي توصّلت إليها كل هذه التيارات. لذلك، حسبت بطبيعة الحال، من خلال مطالعة التاريخ الإسلامي وتاريخ الأمة العربية، ان الأمة العربية لها ثقافة قاعدية مُتوارَثَة من مئات السنين، أي منذ نشوء الدعوة الإسلامية. من هنا اكتسب العرب الثقافة الإسلامية، وأصبحت ثقافة قاعدية لجميع المواطنين العرب. ولكن، وإزاء هذا الواقع، أطلقت سؤالي التالي: هل على أي مجتمع قد اكتسب، منذ زمن، ثقافة معيّنَة، وكانت صالحة لعصر معيَّن، ان يكون مُلْزَماً بهذه الثقافة في الماضي والحاضر والمستقبل؟ من هنا، وفي محاولة للإجابة عن هذا السؤال، وجدت باختصار أن الثقافة الإسلامية، في مرحلة من المراحل، كانت إيجابية لعملية تأسيس المسألة القومية وتكوينها وإخراجها من ضمن دائرة الجزيرة العربية،
فوصلت إلى المغرب الأقصى وإلى حدود العراق. في هذا الإطار اعتبرت أن الإسلام كان له دور في عملية تعريب شعوب، لم تكن بالأصل عربية. فهاتان المسألتان: شعوب جديدة تعرّبت، وثقافة إسلامية قديمة، قد أصبحت لا تفي بالغرض في هذا العصر، يدفعان بي إلى القول: ليس هناك (تدامج) متكامل بين الإسلام وبين العروبة. هناك نقاط التقاء ونقاط افتراق. ولهذا السبب سمّيت كتابي (في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام)، لنه لو كانت العلاقة سليمة، لما كتبت بحثي هذا.

• من أي بوابة ولجت إلى البحث في جوهر العلاقة بين القومية والدين، بمعنى: هل كان لك اهتمام بحثي آخر، دفع بك إلى هذه الإشكالية في ما بعد؟
أساساً، كان لديَّ اهتمام، أو بداية مشروع فكري لفهم طبيعة الطائفية السياسية في لبنان. وقد واكبت الخطاب السياسي الذي يتناول هذه الإشكالية. فبحكم أنني أنهيت دراساتي في العلوم الاجتماعية، وجدت أن الخطاب السياسي، الذي يتناول الطائفية السياسية في لبنان، لا يفي بالغرض إلا من ضمن دراسات أكاديمية تاريخية اجتماعية، لها علاقة مع مدى توافق الفكر مع السياسة، ومدى توافقه مع العلاقات الاجتماعية. فبدأت ببحث يدور حول الشيعة، كمرحلة أولى من مراحل مشروع أحببت أن أنهيه بدراسات أخرى عن السنة السياسية والمارونية السياسية والدرزية السياسية وسواها. إذ لديَّ مشروع بحثي في هذا الإطار. هنا، وعندما توصلت إلى مرحلة من مراحل هذا البحث، الذي صدَر تحت عنوان (نحو تاريخ فكري – سياسي لشيعة لبنان)، والتي لها علاقة بمرحلة تمظهر الفكر القومي العربي، أحببت حينئذٍ أن أعرف ما هي العلاقة بين الفكر الشيعي وبين الفكر القومي. أما الفكر الشيعي فقمت بدراسته واستوعبته بشكل إيجابي، ولكن وقفت حائراً، وأنا الذي قرأت الكثير عن الفكر القومي، إذ وجدت أنه ليس بين يديَّ موقف أكاديمي نظري محايد، أستطيع أن أستند إليه في عملية المقارنة بين الفكرين الشيعي والقومي. لذلك كتبت بحثي (في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام)، حيث استوقفتني وأنا أعمل عليه، مسألة الردة في الإسلام، فاهتممت بها قبلاً، وأخذت مني مجالاً طويلاً، على الرغم من أنني كثّفت كتابتي عنها. إذاً، لقد واكبت دراساتي الإسلامية اهتمامي بالشأن القومي. ولا أنكر أنني كنت منحازاً في أبحاثي إلى المسألة القومية.
• كتابك (في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام)، قام على بحث في التاريخ والإيديولوجيا، وعالجت فيه إشكالية العلاقة بين العروبة والإسلام. وبالتالي إشكالية الهوية العربية ومفهوم القومية. هل يمكن، وفقاً للملاحظات الفكرية، أي الأفكار التي رصدتها في إطار متابعتك لهذه المسألة، تاريخياً وإيديولوجياً، التوصل إلى مثل هذه العلاقة السليمة بين العروبة والإسلام، لا سيما أن "ما يسمَّى الإسلام السياسي ينفي إمكانية قيام أي علاقة صحيحة بين القومية والدين"؟
- لقد تواجهت من ضمن قراءاتي القومية السابقة، بموقف ماركسي رافض للمسألة القومية، وبموقف إسلامي رافض لهذه المسألة، وذلك في الوقت الذي أرى ترى فيه الأمة العربية من المحيط إلى الخليج أن هناك واقعاً عربياً، بمعنى أن هناك أمة عربية، في خطابنا السياسي وخطابنا الفكري وخطابنا التحريضي. من هنا اتَّبعت منهج الدراسات التاريخية، كي أرد على التيار الإسلامي الذي ينفي أي علاقة بين العروبة والإسلام، تحت حجة أن الإسلام هو كل شيء، وفيه كل شيء. بمعنى أنه يحمل الحلول لمشكلات الأمة الإسلامية. فهذا التيار يرى أن أي عقيدة، غير العقيدة الإسلامية، لا يمكن أن تكون رابطاً مُوحِّداً بين المسلمين. حتى المسألة القومية اعتبروا أنها وُجِدَت لمحاربة الإسلام. وللأسف كنا نسمّي مثل هذه الدعوة في التاريخ دعوة شعوبية، لأن الشعوبيين كانوا يحاربون القومية العربية تحت هذه الحجة. واليوم، ومن كل الطوائف، نرى من يدعو إلى هذه المسلَّمَة: أي محاربة القومية، التي أُعِدَّت – كما يعتبرون – لمحاربة الإسلام. وكذلك وقف الماركسيون. وفي هذا الموضوع بالذات، رفعت سؤالاً ليس في كتابي المذكور فحسب، وإنما في أبحاثي الأخرى أيضاً، وقلت: إن هناك توافقاً – لا أظن أنه توافق مقصود – بين اتفاقية سايكس – بيكو، التي تصر على أن تبقى الأمة العربية مجزّأة، وبين مواقف الإسلاميين الذين يحاربون المسألة القومية. إنهم يصبّون شاؤوا أم أبوا في مصلحة هذه الاتفاقية!! وكذلك يفعل الماركسيون!! أنا لا أشك في النيات الإيجابية لهذيْن التيارين. ولكن عليهما أن يراجعا مواقفهما لكي يريا على أية مسافة يقفان من اتفاقية سايكس – بيكو.

• أيّدت في بحثك سعي المفكرين القوميين والإسلاميين على السواء، انتهاجهم منهج البحث الأكاديمي. إلى أي مدى يمكن لمثل هذا البحث أن ينجح في تحديد هوية للأمة العربية، في ظل الإشكالية القائمة حولها بين تياريْ الدين والعلمنة؟
- حتى المفكرون الإسلاميون الإصلاحيون في عصر النهضة، يرون أن الأمراض ليست موجودة في الإسلام، وإنما هي موجودة في المسلمين. وحل مشكلاتنا وإشكالياتنا في هذه الأمة العربية، تحت مقولة: لا يصلح الخلف إلا بما صلح به السلف. ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني أننا يجب أن نطبّق ما جُرِّب في التاريخ الإسلامي. وفي أفضل الحالات، جرى اعتبار المرحلة الراشدة أنها كانت نموذجاً في النظام الإسلامي الذي يؤمّن العدالة الاجتماعية والمساواة. لهذا السبب بحثت في جوانب التاريخ التي يتناساها، أو التي لم يقرأها المفكرون الإسلاميون، لكي أدلّهم إلى أن العهد الراشدي لم يكن بالمستوى الذي يضعونه فيه في خطابهم السياسي. فهو ليس بالنموذج الذي علينا أن نهتدي به. ولذلك كنت مصرّاً على أن أبحث بحثاً أكاديمياً في هذه المسألة التاريخية.

• ذهبت إلى القول إن وحدة الفكر والبناء السياسي الداخلي للأمة العربية يحميان الأمة من العدوان الخارجي أكثر مما يحميها أي موقف توحيد معيّن لمواجهة هذا العدوان. كيف ترى إلى المحاولات الجارية لإلهاء الإنسان العربي بقراءة مصطلحات العولمة والشرق أوسطية، ما بعد الحداثة. هل تعتقد أن المسافة ستصبح أبعد، في القرن الجديد، بين المفكرين العرب وبين التوصل إلى حل إشكالية الهوية، وتحديد الإجابة عن سؤال: أية هوية نريد؟
- سوف أعطي مثلاً مُبسَّطاً جداً عن الشق الأول من هذا السؤال الذي تطرحينه. إذا كانت ثمة أسرة مكونة من خمسة أشخاص تسكن بيتاً واحداً، لكنها غير متفقة بين بعضها البعض، وأتى لص من الخارج لكي يسطو عليهم… فبالتأكيد سيتوحّدون توحداً تكتيكياً لمجابهة هذا اللص، ولكن بعد أن تزول الحادثة، سيرجعون إلى حالة الاختلاف التي كانوا عليها. فما دمنا نحن مختلفين حول تحديد هويتنا، وهناك الأطراف القومية والإسلامية والماركسية التي تغطي تقريباً مساحة الوطن العربي، كمشروعات فكرية، والتي تواصل خلافاتها بين بعضها بعضاً في تحديد مسألة الهوية… فلن تستطيع، في هذه الحالة، أن تواجه ما يأتي من الخارج، وأن تواكب مفاهيم العولمة والشرق أوسطية وسواها… بمعنى الغزو الاقتصادي والفكري الهادم لمصلحتنا الاقتصادية. من هنا علينا أن نحدد ما هي هويتنا، وبالتالي نتفرّغ لمواجهة كل ما يأتي من الخارج… علماً أن لي موقف سجلته في كتابي عبر إطلاق السؤال التالي: الفكر الغربي، هل هو غزو أم إشعاع؟ رافضاً أن نكون في موقف مبتور، بمعنى أن نُخيَّر بين أن نأخذ هذا الفكر بكامله، أو أن نرفضه بكامله. ليست المسألة على هذا الشكل. علينا الانتقاء، وأخذ ما ينفع كياننا وخطابنا ونتاجنا الحضاري. وترك ما يضر بنا. مثلاً، الفكر العربي غزا أوروبا من قبل 300 سنة، ولم يكن شعار العولمة مرفوعاً آنذاك… ولكن لم يشعر الأوروبيون بمركب نقص عندما أخذوا منا ما أفادهم وجعلهم يطوّرون علومهم ونتاجهم الحضاري إلى الصورة التي واكبناها جميعاً. من هنا أدعو إلى معالجة نقاط الافتراق بين الإسلاميين والقوميين، لتحديد هوية الأمة العربية ومجابهة كل التحديات.
حوار: غادة علي كلش
***

مقابلة صحفية مع جريدة عكاظ
(حزيران 2001)
نبذة عن سيرة الباحث الشخصية:
حسن خليل غريب، ولد في لبنان، في العام 1942م، في قرية دبين – قضاء مرجعيون المحاذية للأراضي الفلسطينية المحتلة. عانى من القهريْن الوطني الاجتماعي، وقهر التمزق القومي الذي أسقط فلسطين، وكاد أن يُسقِط لبنان. عايش وقائع الاغتصاب الصهيوني لفلسطين، وتهجَّر سنوات طويلة من قريته نتيجة للاحتلال الصهيوني لجنوب لبنان.
عايش أحداث لبنان في أهم مراحلها منذ العام 1975م، وأكلت من عمره قسطاً وافراً. تألم لما كان يحصل، فجاءت أبحاثه، على الرغم من أكاديميتها، مُشبَعة بالألم الذي ولَّده الواقع المرير. وحاول أن يبحث بالوسائل العلمية الجافة عن أسباب معاناة الأمة نابشاً تاريخها وتاريخ الحركات الفكرية والسياسية فيها. فوجد فيه الكثير مما يرفع درجات الألم إلى أقصى غليانها. وهكذا كان يزداد إصراره على متابعة البحث كلما كان ألم التاريخ يتَّضح أكثر فأكثر أمام بصيرته.
نبذة عن مؤلفاته: صدر للباحث، حتى الآن، المؤلفات التالية:
1- الردة في الإسلام (بحث في أصولها واتجاهاتها ونتائجها): دار الكنوز الأدبية: بيروت: في طبعتين الأولى في العام 1999، والثانية في العام 2000.
2- في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام: (بحث في إشكالية العلاقة بينهما في سياق بحث تاريخي إيديولوجي): صدر عن دار الطليعة: بيروت: في طبعتين الأولى في العام 1999، والثانية في العام 2000.
3- نحو تاريخ فكري – سياسي لشيعة لبنان (الجزء الأول منذ 635م – 1943م): صدر عن دار الكنوز الأدبية: بيروت: في طبعة أولى من العام 2000. أما الجزء الثاني والذي يغطي المرحلة التاريخية منذ العام 1943م حتى المرحلة المعاصرة، فهو قيد الإعداد.
4- نحو طاولة حوار بين المشروعين القومي والإسلامي: صدر عن دار الطليعة: بيروت: في طبعته الأولى في العام 2000م.
ماذا تريد أن تقول في مؤلفاتك؟
- أنا عربي يعيش في قلب آلام أمته. والأمة العربية تعيش في إحدى مراحل المحن المتتالية التي عانت منها طوال قرون عديدة. لا بُدَّ للمتألم من أن يشخِّص مرضه، وأن يفتِّش عن علاج لأسباب آلامه. اعتمدت في تشخيص أمراض الأمة على ما يعتمده أي طبيب في تشخيص مرض عادي، وهي دراسة حالة المريض بشكل شامل. وشمولية دراسة حالة الأمة المريضة لا بُدَّ من أن ينطلق من دراسة تاريخها دراسة نقدية بحيث يسهُل مقاربتها مع العصر الراهن.
ربما كنت متأثراً، في معظم مراحل حياتي، بالخطاب التعبوي الذي كانت تفترضه مراحل التحرر والاستقلال السياسي. وهي شحنة معنوية تتوجَّه بها النُخب المثقفة نحو الجماهير على شتى مستوياتها الثقافية لكي تحرَّك حماسها للانخراط في معارك الاستقلال. ففي حالة مماثلة كان لا بُدَّ من استذكار المحطات التاريخية المضيئة التي سطَّرها الأجداد في تاريخ أمتنا. لكن، وانسجاماً مع ما حققه الخطاب التعبوي في تحفيز أوسع قطاعات الجماهير التي انخرطت بحماس في معارك الاستقلال السياسي، استمر الخطاب على منهجه التعبوي حتى في مرحلة صياغة العلاقة بين السلطة والمجتمع. فلم يعد ذلك الخطاب يقدِّم الخبز لجماهير الشعب، ولم يقدِّم لهم جرعة من الحرية ومن الحياة الكريمة. فوُلِدت مساحة الفراغ بين الثقافة الوطنية أو القومية التعبوية وبين حاجات المواطن الأساسية. وفي الوقت الذي عوَّلت فيه جماهير الشعب من آمال وردية على مراحل ما بعد الاستقلال السياسي فإذا بها تعود بخفيْ حُنَيْن. وبدأت معارك شد وجذب بين السلطة، التي كانت غالباً من النُخب التي لعبت دوراً تحريضياً أساسياً في صفوف الجماهير، وإذا بها بعد أن وصلت إلى السلطة أو مَنْ ورثهم في مقاعدها، تتنكَّر للشعارات التي رفعتها. ولكنها ظلَّت، لأن مهمات التحرر قد تغيَّرت إلى غير مهمات التحرر السياسي، أسيرة للخطاب التعبوي السابق، الذي شجَّع على حمل البندقية في وجه المستعمر، ولكنه أصبح بعد تلك المعارك خالٍ من أي مضمون في معارك التحرر الاقتصادي والاجتماعي.
كان من مهمات المفكرين أن يعملوا لردم الهوَّة التي تعمَّقت بين المجتمع والسلطة من جهة، والعمل في سبيل مقاربة الثقافة، بعيداً عن الخطاب التعبوي السابق، وبين المتغيرات في مشاكل الجماهير وآلامها، ومن هنا أخذت الأسئلة ترتفع: هل حقاً كان تاريخنا مشرقاً إلى الدرجة التي صوَّره الخطاب التعبوي، الديني والسياسي، السابق والراهن؟ وهل حقاً نحن نمتلك حضارة لا تضارعها حضارة في الدنيا؟ وهل حقاً علينا أن نحارب حضارات الدنيا الحديثة لأنها متآمرة على حضارتنا؟ وهل يفترق الخطاب الوضعي عن الخطاب الديني من بعد أن اندلعت معركة التنافس بينهما؟ أيهما المصيب وأيهما الخاطئ، ومن يتحمَّل وزر الخطأ، ومن هو الذي يجب أن يكتسب أجر الصواب؟
وبالإضافة إلى ذلك، أصاب الأمة صراع آخر، هو الصراع حول تحديد هوية للأمة: فعدَّها البعض هوية إسلامية، وعدَّها البعض هوية عربية، وأسبغ البعض عليها هوية أممية، وعمل البعض الآخر على نفي هذه أو تلك من الهويات، وأخذ يدافع عن قوميات قطرية ضيقة تحت ذريعة الانتساب إلى هذه أو تلك من القوميات الضيقة البائدة.
صراع يكتسب شرعيته من علاقته بحياة الإنسان العربي بشتى جوانبها. وصراع مفتعل حول تحديد هوية للأمة. تهنا هنا وهناك، ولم نجد – حتى الآن- أنفسنا. وتقاتلنا وكأننا أطراف أعداء ولسنا أخواناً وجيراناً وأصحاب مصلحة واحدة في الوصول إلى حلول تكفل لنا الحياة في ظل استقلال سياسي وأنظمة اقتصادية واجتماعية تصلح بها حياة أفراد مجتمعنا الواحد. وكأن النصر الذي علينا أن نحرزه هو أن نحقق النصر لهذا الاتجاه السياسي أو ذاك، وكأن مصلحته تنوب عن مصلحة الأمة، فلم يتنازل أي اتجاه –سواء كان وضعياً أو كان دينياً- عن أفكاره فيما إذا أثبتت التجربة فشلها، وكأن المقصود مصلحة الأفكار وليست أن تكون الأفكار في مصلحة المجتمع. وكانت أدوات الصراع أسلحة فكرية وتاريخية وإيديولوجية. وكأننا تهنا عن الصراع الأساس: مصلحة الأمة التي ليست سوى مصلحة أبنائها.
فكان لا بُدَّ، في مثل هذه المعارك الفكرية الداخلية الأهلية، من أن نعود إلى قراءة التاريخين: السياسي والديني، والى قراءة شتى الإيديولوجيات: الدينية والسياسية قراءة تاريخية معاصرة، بحيث يكون من أهم أهداف تلك القراءة أن تفتح أسساً للحوار الهادئ البعيد عن الصخب، أن يكون حوار أهل البيت الواحد الذين يسعون إلى تدعيمه وتصليحه ليصبح سقفه وجدرانه غير مهددة بالانهيار، وأسسه صلبة تحتمل شتى أنواع الزلازل، وباختصار أن يشعر المتحاورون أنه إذا تهدد السقف والجدران بالانهيار سيصبح الجميع تحت الأنقاض ولن ينجو أحد منهم على الإطلاق.

-ألا يكفي الخطاب السياسي التعبوي أن يكون وسيلة في تعميق الثقافة في أوساط المجتمع؟
- إذا كانت فضيلة الخطاب السياسي أن يستنهض حرارة النضال من أجل قضية مشروعة، فإنه سوف يعيش في متاهات التخبط إذا لم يكن مستنداً إلى بحث أكاديمي موضوعي يكشف عن الحقائق بوضوح. فلكل من طرفي المعادلة دوره: فالبحث الأكاديمي جاف بعلميته ولكنه بمثابة المختبر الذي لا غنى عنه في اكتشاف الجراثيم الغازية للجسم، أما الخطاب السياسي فممتع بأسلوبه، ولا بُدَّ، لكي يكون صادقاً ومفيداً، من أن يستند إلى حقائق، وهذه الحقائق لا يستطيع سوى البحث الأكاديمي أن يسهم باكتشافها بشكل واضح. لكي يُصوِّب للخطاب اتجاهاته. وللأسف فقد تهنا تارة بخطاب سياسي وصل، أحياناً، إلى حد التزييف والتزويق الإنشائي، أو تقاعد الباحثون عن الحقيقة الموضوعية فتجنَّبوا كل قضية يحسبون أنها خط أحمر، فلم يقتحموها لأن الخشية من الملامة، أياً كان مصدرها ودرجتها، أبعدتهم عن التفتيش عن أصول القضايا الساخنة والأشد إلحاحاً في حياة المجتمع. وبتنا نعيش بين خطاب تعبوي، يعبٍّر –في معظم الأحيان عن ديماغوجية إيديولوجية- وبين بحوث تبتعد ما استطاعت عن مواطن التعب والملاحقة. فتعالى عملنا الثقافي عن كل ما هو أساسي، لأن ما هو أساسي في قضايانا، متعب ومرهق وقد يجلب من المتاعب ما لم يؤهِّل النخبة المثقفة أنفسهم لكي يتواجهون معها بشجاعة.

• دور المثقف اللبناني: الصعوبات والعقبات. وكيف استطعت أن تتخطاها؟
- إن للمثقف في لبنان هموم عامة، وهي هموم أمته العربية، وهموم خاصة هي هموم وطنه. وهناك تلازم وثيق بين الهمَّين: القومي العربي والوطني اللبناني، وأثبتت تجارب التاريخ، من خلال قراءات أكاديمية، أن الفصل مستحيل بين الهمين باستثناء الخصائص المحلية.
ولبنان هو أكثر الأقطار العربية تعددية في المشارب والاتجاهات الفكرية. ففيه تتمزَّق الاتجاهات كثير من الإيديولوجيات المتعارضة والمتناقضة أحياناً. فمن قطرية محلية خائفة، وأممية ماركسية تائهة بين قطرية وأممية حالمة، وأممية إسلامية تعيش الماضي بطوباوية لا علاقة لها بالتاريخ العملي، وقومية تتلقى السهام من هنا وهناك. وكان لهذا الجانب مكان خاص ومميَّز في أبحاثي الأكاديمية، وقد أفرزت له بحثاً متكاملاً في كتابي »في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام«. فإذا كان هناك تلازم بين الهموم القومية والقطرية / الوطنية، فهناك تلازم، أيضاً، بين القومية والإسلام. لكن هذا التلازم بين حدَّيْ الإشكالية لا يفرض التطابق التام بينهما. وكان من واجب المثقفين أن يعوا، بمستوى أكبر من الدقة، أين تقع حدود الخصائص المميَّزة / حدود التعارض، وأين تقع حدود التلاقي. وبدون هذه المعرفة سيبقى الحوار فيما بين الوحدويين ساخناً، وبينهم وبين القطريين أكثر سخونة.
واستناداً إلى معرفة حدود الإشكاليات يصبح دور المثقف، إذا ما اقترنت ثقافته بالدفاع عن قضية يؤمن بها، أساسياً ولا غنى عنه. فهو النخبة / الطليعة التي بدونها لا يمكن لقضايانا القطرية والقومية، وهي كثيرة، أن تصل بطريقة واعية إلى عقول ووجدان أفراد المجتمع القومي أو الوطني، وليس إلى عواطفهم فقط. ونتيجة لهذا الوصول أو الإيصال الواعي تبدأ عملية التغيير الفعلية تشق طريقها في العمق، وتذهب السطحية والانفعالية إلى حيث لا أسف عليها.
وهنا تواجه المثقف في لبنان عدة من الصعوبات والمهمات: هم فهم إشكالية العلاقة بين المجتمع والسلطة، وهي همُّ محلي. وفهم إشكالية العلاقة بين الأممية والقطرية: الماركسية والإسلامية، وهي همٌّ عربي عام. إشكالية علاقة المثقف بالسلطة، وليس مثقف السلطة. وإشكالية علاقة المثقف برفع وتيرة أداء المثقفين من جهة، والعمل على توسيع رقعة الثقافة بين شتى أوساط المجتمع، وخاصة منها الأوساط الشعبية التي تشكِّل القاعدة الواسعة التي يحتاج التغيير إلى ضرورة رفع مستواها الثقافي بما يتناسب مع روح العصر؛ ولن يكون التغيير، بدون توسيع رقعة الثقافة لتشمل تلك الشرائح، سهلاً وميسوراً.
وهنا كم نرى من المثقفين في لبنان خاصة، والأمة العربية عامة، من الذين يلعبون دورهم في نشر الثقافة الملتزمة بقضايا الأمة، فهذا لا يخضع لعملية إحصائية، وإن كان ليس من المستحيل أن نعرف ذلك. بل المقياس الذي نستند إليه في معرفة هذا الواقع، ليس بمعرفة أعداد المنخرطين في العمل الثقافي الملتزم، بل من خلال رصد المتغيرات والتحولات التي أثَّرت على الصعيد الثقافي الشعبي. وإذا انطلقنا من هذه الزاوية فإننا لا نرى إلا ما يُؤسَف له. وهنا من الخطيئة الكبرى أن لا نعترف بواقع الجهالة المستشري على الصعيد الشعبي، بل على صعيد مَنْ يُصنَّفون في قوائم المثقفين، أيضاً.
فواقع الحال في لبنان، وفي غيره من أقطار الأمة العربية، أنه لم يوجد –حتى الآن- واقع ثقافي مميَّز يستطيع أن يشق طريقه حاملاً صليب النضال؛ واقع لم يصل إلى مستوى من القناعة أن على المثقف الملتزم أن يحمل في حقيبة سفره الثقافي كفنه، فيكون جاهزاً لأن يلقى وجه ربِّه بأمان واطمئنان.
لقد انزلقت الثقافة، بفعل جهود بعض المثقفين الذين يقفون على أبواب الصروح الثقافية والإعلامية، إلى درك الاستهلاك، وملاحقة خيرات الإعلان عن السُلَع. فروَّجوا لكل فعل ثقافي أو فني، بمستوى من الوعي أو بدونه، بما يستأهل التقدير أو الترذيل، فشدَّوا كل ما يغري المواطن العادي أو حتى المتعلم من فنون الرقص والغناء … إلى واجهاتهم ووسائلهم الإعلامية، فأسهموا بشكل يدعو للأسى والأسف الكبير في إسقاط المواطن العادي إلى أدنى درجات السطحية، فمارسوا بذلك أسوأ فنون إبعاده عن الالتزام بالقضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية. أَوَ ليس هذا ما يدعو إلى الحزن والألم؟

كيف يتعامل النقَّاد مع مؤلفاتك؟
- حيث إنني توجَّهت في أبحاثي إلى شتى المثقفين أو الملتزمين بقضايا الأمة على الصعيدين القومي والإسلامي بنداء ودعوة إلى الحوار الجاد المستند إلى عامليْن: إعادة قراءة الفكر والتاريخ قراءة نقدية معاصرة، ومقاربة التراث الفكري والسياسي من مشاكلنا الراهنة. وعلى هذا الأساس، وبسبب من أهمية الثقافة الإسلامية في حياتنا العربية، قمت ببحثٍ عن أي إسلام نريد، فكان كتابي »الردة في الإسلام« هو فاتحة هذا الحوار. ومن خلاله توصَّلت إلى عدد من النتائج، ومن أهمها: أن ما يجري من مجاملات توفيقية بين المذاهب الإسلامية من جهة، وبين الإسلاميين والمسيحيين من جهة أخرى، لا يمكن أن تؤدي أي غرض توحيدي إذا ما بقي الحقن الديني والمذهبي يقوم على أساس تكفير الآخر عندما يعجز الإسلاميون عن الرد على الحجة بالحجة.
وعلى الرغم من ذلك، لم أتلقَّ أي نقد من أية جهة معنية بالمسألة، ولم يحصل سوى بعض من اللقاءات المحدودة مع بعض الذين زرعوا الثقة في نفسي من خلال ملاحظاتهم القيِّمة، والتي لا تخرج عن إطار التأييد لأهمية المنهج الذي أسلكه في دراساتي. لكن هذا لا يكفي إلاَّ بأن يبادر أصحاب الاتجاهات الأخرى / الرأي الآخر إلى نقد جدّي تنفتح من خلاله أبواب الحوار الهادف للوصول إلى الحقيقة كاملة أو إلى بعضها. وإنني على يقين بأنه لن نصل إلى نتائج موضوعية ومُرضيَة إلاَّ من خلال حوارات تشارك فيه شتى التيارات الفكرية، دينية ووضعية ليبرالية. فالحوار يُغني الموضوع، ووضع الحواجز بينها سوف يشكِّل، وهو يشكِّل حتى الآن، حواجز تحول دون الوصول إلى بناء نهج فكري للمبادئ العامة.
حاولت أن أعرض وجهة نظر حول المسائل الرئيسة، على قاعدة أبحاث أكاديمية علمية تحقق غرضين، إذا ما أصابت: الوصول إلى بعض النتائج المفيدة في تقريب طاولات الحوار. والوصول إلى مثل تلك النتائج أو بعضها سيفرض نفسه حتماً على مضامين الخطاب التعبوي، السياسي والديني، وهو الخطاب الذي يُعدَّ –حتى الآن- المادة التثقيفية الوحيدة لمجتمعاتنا. وهذه الوسيلة لا تكفي في تأهيل المواطن لكي يلعب دوره الإيجابي في تغيير البُنى الفكرية أو تطويرها بما يُسهم بجدية في تغيير شتى البُنى السياسية والفكرية والاجتماعية المعيقة لتطور أمتنا العربية وأقطارها واحداً واحداً.
***

مقابلة مع مجلة الوطن العربي
(حزيران 2001)
تعدَّدت أبحاثه حول موضوع واحد، وكل همه أن يجلي بعض الحقائق الملتبسة حول إشكالية العلاقة بين حرية الفكر وتعدديته، وإلزام النص الديني للعقل، حتى حدود الإكراه والقتل، تحت ذريعة الاستناد إلى حقائق مطلَقَة من الممنوع على العقل أن يخوض فيها، أو يخترق قداستها المزعومة.
ولأن في حسم الإشكالية نتيجة إيجابية على الارتقاء بمستوى الثقافة الموروثة إلى مستوى العصر الراهن، يعمل الباحث حسن غريب على الحفر في أسس التراث الديني الإسلامي، للتنقيب عن كل ما يحسبه معيقاً لتلك الأسس عن أن تكون متينة، ولكي يطمئن بال الأمة، التي تبني نفسها، أن بناءها لن ينهار، لأن أسسه صامدة في وجه الزلازل.
أجرت مجلة الوطن العربي حواراً مع الباحث حسن غريب، وهذا نصه:

* تطغى على عناوين أبحاثك مصطلحات مثل، نحو… وفي سبيل… وكأنك متردد في قول حقيقة فكرية محددة تحديداً واضحاً وحاسماً، فما هو السبب؟
- على العكس من استنتاجاتك، إنني أرى في هذه المصطلحات موقف واضح. فالحقيقة، التي ندَّعي البحث عنها، ليست في الواقع مطلَقَة لكي نحددها تحديداً واضحاً وحاسماً. إن الذين يلجأون إلى استخدام مصطلحات الحسم والحتمية هم نرجسيون في ثقافاتهم، وكأنهم بأساليبهم يجمِّدون الحقيقة ويمنعون الآخرين من الحوار، فهم يقودون المجتمع إلى طوباويات لا تتحقق في التاريخ. ليس هناك حقائق مطلقة في الفكر، باستثناء القِيَم العليا: كالعدالة والمساواة والحرية والسعادة… وحتى القِيَم، كنظريات، ليست في الغالب حقائق مطلقة على صعيد الواقع والتاريخ؛ وإنما هي نماذج نظرية فكرية صحيحة نعمل للارتقاء بها من الواقع الأكثر سوءاً إلى الأقل سوءاً. ونحن نتصور أن نحقق بعضاً منها في مجتمعاتنا، ولكن…

* هل تنفي، في قولك هذا، الحقيقة المطلقة عن النصوص المقدسة في الأديان السماوية؟
- إذا أردت أن استخدم ملَكَة العقل، التي هي هبة من الله وحده، فليس عليَّ من حرج في أن أتجاوز كل الدوائر التي تمنعها من الانطلاق. وإرادتي هذه، التي وهبنيها الله أيضاً، ليست محدَّدة بأية روادع ليس من هدف لها إلاَّ أن تمنعني من التفكير الحر كوسيلة للعقل والذي يتناقض مع خلق الله للإرادة فينا. فعندما أستخدم العقل، وأدافع عن الإرادة الحرة، يعني أنني أمارس طقساً من طقوس العبادة لله تعالى. أَوَ لا يدل قول الرسول العربي، (من اجتهد فأصاب له أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد)، على مدى اعتراف بعض النص الديني بحرية العقل في التفكير بإرادة حرَّة، حتى ولو أخطأ؟
* إن ما تقول به هو دليل على أن النص الديني يعمل من أجل الحقيقة المطلقة، ينص عليها ويدافع عنها. أَلا تعتقد بأنك تتناقض مع نفسك عندما تنفي الحقيقة المطلقة عنه؟
- في النص الديني إيجابيات لا يمكن التنكر لصحتها، بل علينا أن ندافع عنها. لكن هذا لا يعني أن تمنعني تلك الإيجابيات من أن أنتقد السلبيات. وإليك مثلٌ على ذلك: إعترف النص الديني، الذي ذكرته في الجواب السابق، بحق العقل في الاجتهاد حتى ولو أخطأ؛ وهذا اعتراف صريح وفيه احترام لحرية العقل، لكنه الوجه الأول. لكن من وجه آخر، نرى أن بعض النص الديني، أيضاً، يعمل على سلب هذا الحق تحت طائلة التهديد بالقتل.

* هل من المعقول أن يحصل تناقض بين نصين دينيين كما ذكرت؟ وكيف تفسِّر ذلك؟
- أرجو أن لا يغيب عن ذاكرتك قول الرسول: (من ارتدَّ منكم عن دينه فاقتلوه). والذريعة هو أن الإسلام دين الفطرة التي فطرنا عليها الله تعالى. فكيف تستطيع أنت أن توفِّق بين متناقضين: الاعتراف بحرية المسلم بالاجتهاد، حتى لو كانت نتائجه خاطئة، وقتل من يختار غير دينه؟ أَوَ ليس الارتداد عن الدين، لو افترضنا، نتيجة خاطئة لاجتهاد من اجتهد؟ أَوَ ليس من التناقض في شيء أن يُستبدَل الأجر الواحد بعقوبة القتل العمد؟

* لكن للاجتهاد أصول حددتها المؤسسات التعليمية الإسلامية. وعلى كل من يدَّعي أنه يجتهد أن يلتزم بالشروط المحددة له، ومن أهمها أن يكون فقيهاً وعالماً بنص الكتاب والسنة وتراث السلف.
- جاءت المؤسسات، التي ذكرتها، في استنانها شروطاً لاكتساب العلوم الدينية، لتحتكر الاجتهاد لنفسها. وكأن المسلم مُلزَمٌ أن يعتكف الشطر الأكبر من عمره في تلقي تلك العلوم، وعليه أن ينسى معاشه ومعاش أسرته، لكي يقضي السنوات الطوال في تلقّي علوم الشريعة ليستطيع أن يجتهد لنفسه، وهو إذا لم يفعل ذلك لن يستطيع، كما يحسب حرَّاس الشريعة، إلاَّ أن يقلِّدهم. وحتى لو التزم المسلم بما تقوله تلك المؤسسات، فإنه لا بُدَّ من أن يتولَّد عن هذه المسألة عدد من الإشكاليات، ومن أهمها:
- ليس هناك مؤسسة دينية إسلامية تستطيع القول إنها تشكِّل مرجعية مركزية جامعة لكل المسلمين. بل بقي المسلمون مذاهب شتى. وكل مذهب يدَّعي، حسب اجتهاد حرَّاس الشريعة فيه، أنه يمتلك الحقيقة المقدسة بمفرده، أما الآخرون فهم خارجون عن الدين.
- تتعدد الاجتهادات في داخل المذهب الواحد أيضاً. فتتعدد المرجعيات. لكن تلك التعددية ليست دليل صحة، كما يحسب بعض المفكرين الإسلاميين، والسبب أن كل اجتهاد يزعم أنه ارتقى إلى مرتبة قدسية النص لأنه يستند وحده إليه.
-لم يعرف عصر النبوَّة، ومن بعده العصر الراشدي، مؤسسات دينية، كالتي نعرفها في هذا العصر، تفرض شروطاً محددة تحديداً جامداً على كل من كان يريد الاجتهاد لنفسه أو لغيره.
- هناك تعدديات دينية، في داخل المجتمع الواحد، لا تُدين بالإسلام. فكيف تلزمها بأن تعيش تحت وطأة اجتهاد من هنا أو هناك، اجتهاد قلَّما يُجمع عليه كل المسلمين، وهذه التعدديات لا تؤمن بقدسية النص الإسلامي، فكيف بها إذا نظرت إلى الاجتهاد المستند إلى ذلك النص؟
* إن غياب مرجعية إسلامية واحدة، التي هي سبب في تعددية المذاهب، يمكن أن نتجاوزه بالعودة إلى الإسلام الصحيح.
- دعني، هنا، أسألك: كيف تحدد أنت الإسلام الصحيح؟
* إن ذلك يتم بالعودة إلى الكتاب والسنَّة، أي النص الإسلامي الأصيل.
- وهل تتوهَّم أن أي مذهب من مئات المذاهب، وأي اجتهاد فقهي من عشرات آلاف الاجتهادات، لا يستند إلى الكتاب والسُنَّة؟ وهل تتوهم أن أياً من المذاهب يُقرُّ أنه لا يستند إليهما؟ أرجوك أن تعود إلى بحثي المنشور تحت عنوان (الردة في الإسلام) لترى هذا الواقع بوضوح.

* وما هو مضمون هذا البحث، الردة في الإسلام، وإلى ماذا تريد أن تصل من خلاله؟
-لقد لاحظت، بدايةً، التناقض الموجود بين اعتراف النص الإسلامي بحرية الاعتقاد  لا إكراه في الدين، و}من اجتهد فأصاب…{، وبين الحديث النبوي }من ارتدَّ منكم عن دينه فاقتلوه{.
- المحاكمات التي عقدتها المؤسسات الدينية، أو الحركات السياسية الإسلامية، لمحاكمة عدد من المفكرين المسلمين الذين يعملون، من خارج تلك المؤسسات والحركات، على تطوير الفكر الإسلامي لمقاربته مع عصر الحداثة والانفتاح العالمي. وليس في نيتهم إلاَّ أن يسهموا في تطوير وضع الأمة من خلال تطوير ثقافتها. وكان من نتائج تلك المحاكمات أن صدرت أحكام الاتهام بالردة عن الإسلام، وبناء عليها صدرت بحق أولئك المفكرين عقوبات، يقول حرَّاس الشريعة إنها أحكام شرعية إلهية.
حدت بي تلك الملاحظات إلى البحث عن القانون الشرعي الذي يستلُّ منه حراس الشريعة أحكامهم. فرجعت إلى النصوص وإلى الوقائع التاريخية، وغايتي أن أبحث عن أصل القانون. فكانت الحصيلة أنني توصلت إلى حقائق كثيرة لم تكن بالحسبان، ومن أهمها:
-حقيقة أن النص }من ارتد منكم عن دينه فاقتلوه{ كان نصّاً مرحلياً. وهذا مُثبَتٌ بالواقعة التاريخية أولاً، وبالنص القرآني ثانياً، وبالمحاكمة العقلية ثالثاً. فكان على فقهاء الشريعة أن ينسخوه بعد أن انتهت المرحلة التي فرضت تطبيقه. ولكنهم لم يفعلوا تحت ذريعة أنه نص مقدس يُمنع الاقتراب منه.
- لم تقف حصيلة بحثي عند حدود تأصيل الحديث، بل وقفت مذهولاً أمام تعدد الاتجاهات وكثرة المذاهب الإسلامية التي استلَّت سيف الاتهام بالردة، بحيث أكثرت تلك المذاهب من تطبيقه بحق بعضها البعض. وطبَّقت نصوصه بعين الرضا عندما أخذت تستحل على أساسه دماء وأعراض المذاهب الأخرى التي تخالفها في الرأي والاجتهاد الفقهي.
- أما النتائج فكانت رهيبة لكثرة دماء المسلمين التي أُريقَت على أيدي إخوانهم المسلمين، فلم يكونوا، على الإطلاق رحماء فيما بينهم.
ولأن الحديث طويل، وطويل جداً، ويبلغ طوله ألف وأربعماية سنة، أرجو العودة إلى البحث المذكور للنظر بما خلَّفه النص من مآسي، فتبدو الصورة واضحة بشكل لا لبس فيه أن الحاجة ماسة لإطلاق حرية العقل، الذي أقرَّ به بعض النص، وأنكره بعضه الآخر.
أما النتيجة الأخيرة، التي توَّجت بحثي، فهي دعوة علمية موضوعية تأخذ أهم مقاصد الشريعة، التي هي مصلحة الأمة في المقام الأول، أنني قمت باجتهاد، حتى ولو كنت من خارج المؤسسات والحركات، يبرهن على ضرورة نسخ الحكم النصي الذي يستخدم أقسى وسائل الإكراه في سبيل إكثار عدد المنافقين وليس المؤمنين. وهو بالتالي يجعل المفكرين في حرية تامة تمنع عنهم الأذى، وهم لا يطمعون بالأجر الواحد لو أخطأوا. وكل ما يعملون من أجله ليس إلاَّ أن يخلِّصوا الأمة من ثقل الأوزار التي يصر عليها الكثيرون من حراس الشريعة تحت حجة أن النص مقدس. ونحن نحسب أن حياة الإنسان لم تُخلق من أجل النص، وإنما وضع النص لكي يكون في خدمة الإنسان. فبدلاً من اللجوء إلى نسخ حياة إنسان تحت حجة الحفاظ على النص، لا ضير من أن يُنسخ النص في سبيل الحفاظ على حياة الإنسان التي هي أقدس ما خلق الله على الأرض. ولهذا يقول النص في جانب آخر منه، مخاطباً النبي  أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ؟؟؟!!!
حبذا لو كانت التعدديات المذهبية عامل إغناء للفكر وليس عاملاً للتكفير والتكفير المضاد، لكان من المريح على الإنسان أن يختار طريقه الروحي من غير إكراه، ولانفتحت أبواب الحرية للعقل لتطوير النص في سبيل مصلحة من سخَّر الله له كل ما على الأرض وما فيها.
***

مقابلة مع مجلة ألف باء
جاء في مجلة ‌»ألف باء«: العراق: العدد 1710 / تاريخ 4 تموز / يوليو 2001م، ما يلي:
الباحث العربي المناضل حسن غريب: العراق يلهم الجماهير طموحات التحرير والتقدم
ستسقط العقوبات الغبية بصمود العراقيين وبطولاتهم
حسين فوزي
• شهدت بغداد انعقاد الندوة الثانية عشرة التي يقيمها مكتب الثقافة والإعلام في القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي لمناسبة رحيل الرفيق القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق.
» ألف باء« حرصت من جانبها على لقاء عدد من المفكرين المشاركين في الندوة. فكان هذا اللقاء مع المناضل اللبناني المعروف حسن غريب.
• بصفتكم باحثاً متخصصاً في تطور الصراع العربي - الصهيوني. بماذا تفسرون إصرار تحالف واشنطن على شن عدوان شامل على العراق، وإبقائه محاصراً بعد ذلك؟
-إن كل ما نفذَّته واشنطن يؤكد على عدوانيتها ضد العراق. ولقد وجَّهت ضربة عدوانية شاملة إليه بهدف الحيلولة دون مواصلة نهجه المستقل في امتلاك التقنية المتطورة. وهذا هو الخط الأحمر الذي يعمل الاستعمار على منع أي بلد عربي من الوصول إليه. وفي هذا المجال هناك لقاء بين واشنطن والصهيونية، التي تركز استراتيجيتها على إبقاء العرب متأخرين في مجالات العلم والتقنية بقصد تصدير التقنية المدنية إلى الوطن العربي من جهة، والاستحواذ على الثروات العربية من جهة أخرى.
وبالطبع، فإن الصهيونية حريصة على الانفراد بالتقنية العسكرية، لكي تظل القوة الوحيدة طويلة اليد في الوطن العربي. وبحكم هذه الحقيقة حشدت واشنطن ولندن والصهيونية قوى عديدة لشن العدوان العسكري الشامل في مطلع العام 1991م. وجاء الحصار بعد ذلك امتداداً للعدوان العسكري، وللأسباب ذاتها التي هوجم بسببها، وهي:
أولاً: موقف العراق القومي ومنهجه الداعي إلى استنهاض الإرادة العربية، وجمع الصف العربي نحو تحقيق أهداف البناء النهضوي.
ثانياً: الموقف الثابت من قضية فلسطين، حيث أن العراق يؤمن إيماناً راسخاً بأن تحرير فلسطين شرط أساسي لضمان الأمن القومي، وضمانة أكيدة لطاقات البناء الوطني.
وهكذا يبدو واضحاً أن القوى التي تعمل على محاربة الكيان الاغتصابي في فلسطين سوف تبقى مستهدفة من قبل المشاريع الاستعمارية الصهيونية. وعليه فإن العراق، بفعل تاريخه السياسي وممارسته المستندة إلى الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولته المستقلة، سيظل هدفاً لأعداء الأمة العربية الذين أقاموا الكيان الصهيوني.
وأعداء العروبة، في مخططهم العدواني على العراق، توهموا أن العدوان والحصار سيثنيان العراق عن مواصلة سياسته المبدئية في نهجه الوطني والقومي، وهو وهم سيكتشفون استحالة وصولهم إليه إلا إذا كان السراب قد أصبح يقيناً.
• لماذا تحاول أميركا الآن، ومنذ أحد عشر عاماً من الحصار والعدوان، ترقيع سياسة الحصار وإذكائه باسم العقوبات الذكية… لماذا هذه المناورة الأميركية؟
إنني مؤمن بأن نقطة الارتكاز لأية متغيرات على الصعيدين العربي والعالمي هي صمود العراق شعباً خلف قيادته، على وفق المبادئ التي يؤمن بها. لقد تجاوز هذا الصمود كل التصورات، حيث إن الاعتقاد الذي ساد إثر الضربة العدوانية العسكرية في كانون الثاني من العام 1991م، هو أن العراق سيرضخ، لكن الوطن العربي والعالم أدركا أن التصورات التقليدية عن موقف العراق أسقطتها الإرادة العراقية. فالشعب العراقي تحمّل الهجمة العسكرية التي لم يسبق لها مثيل منذ الحرب العالمية الثانية، وهي هجمة تُدام من خلال حرب لقمة العيش والدواء والمعرفة. فكان لهذا الصمود دوره الحاسم في إحداث متغيرات مهمة على الصعيدين العربي والعالمي، وغلى الحد الذي أضعف الموقف الأميركيين لكن من دون أن نتوهّم حدوث تغيير جذري فيه، ذلك أن الأميركيين قد حددوا أهدافهم بدقة، وهي استمرار إخضاع العراق للحصار حتى الرضوخ والكف عن:
أولاً: المناداة بالوحدة القومية.
ثانياً: المطالبة بخضوع الكيان الصهيوني للقوانين والاتفاقات الدولية، وإنهاء الجرائم البشعة المرتكبة بحق شعب فلسطين ومحاسبة الكيان الصهيوني على كل ما ارتكبه من جرائم ضد الإنسانية، والعمل من أجل قيام دولة فلسطين الحرة كاملة السيادة إلى التراب الفلسطيني.
إن واشنطن التي لم تتعرض بعد إلى الضغط الكافي الذي يجبرها على التراجع عن نهجها العدواني ضد العراق، وبعد أن أصيبت العقوبات المتسترة بالشرعية الدولية بشرخ واضح، وبعد أن لم يعد بالإمكان الدفاع عن استمرارها، جاء ابتكار مشروع العقوبات الذكية في محاولة أعدتها مطابخ المخابرات الأميركية والحركة الصهيونية للالتفاف على تطور الموقف العالمي لصالح العراق.
والشيء المؤكد هو أن في جعبة واشنطن مؤامرات متعددة بقصد إطالة أمد الحصار، وليس هناك أية قوة قادرة على ردع تلك المؤامرات، أو العمل على تطويقها إلاَّ إرادة صمود الشعب العراقي وقيادته البطلة. فهذا الصمود سيظل يحرك الأمة العربية والإسلامية وبقية دول العالم الحر، وهذا الصمود هو مولِّد عظيم لطاقة التحدي عربياً ودولياً، حيث إن ثبات العراق على الدعوة إلى الوحدة واتخاذ خطوات عملية للتكامل الاقتصادي، والدعوة إلى تحرير فلسطين والكف عن العدوان ضد العراقيين هو الأنموذج الأسطوري في التطوع من أجل تحرير فلسطين، يلهم الوطن العربي والإنسانية قوة ستطوّق المؤامرات الأميركية وتُفشلها.
• كيف تنظرون إلى صورة واقعنا العربي الراهن، حيث تقف الجماهير العربية بوضوح في نصرة الانتفاضة ونصرة الشعب العراقي وكسر الحصار وإنهائه، وحيث يحول بعض الحكومات العربية من دون تعبير فعال لهذه الإرادة القومية؟
إن صورة الوضع العربي الراهن، مع الأسف الشديد، تشبه في بعض جوانبها ما كانت عليه في العام 1948م، عام النكبة. فالصراع قائم بين الحكومات والشعوب. وهذا ما دفع بالمرحوم الراحل الأستاذ فقيد الأمة أحمد ميشيل عفلق إلى أن يقول: » لا تنتظرن المعجزة من الحكومات العربية، بل إن الأمل المنقذ هو الكفاح الشعبي«.
هذه المعادلة التي صاغها القائد المؤسس ميشيل عفلق تكتسب قوتها اليوم أكثر من أي وقت مضى. فالحكومات العربية عاجزة، والجماهير العربية مبنية عليها الآمال، وهي موضع كامل الثقة في استكمال معجزة التغيير. وقد يؤثر الضغط الرسمي على الجماهير لبعض الوقت، لكنها لن تخضع إلى الأبد لمخطط إبعادها عن قضية فلسطين ودعم الانتفاضة بكل الوسائل. كما لن تستطيع ثنيها عن كل النشاطات المطلوبة لمواصلة دعم العراق وفك الحصار المجرم من حوله. فهذه الجماهير تختزن في وجدانها وعقلها كل خلاصة التجربة الراهنة.
إن الحصار المفروض على العراق هو حصار للعرب، وحصار لإرادتهم ومستقبلهم. وإن احتلال فلسطين نقطة ارتكاز إمبريالية للنيل من بقية العرب بالعدوان عليهم. فالجماهير العربية التي وقفت بحزم في العام 1956م ضد العدوان الثلاثي على مصر، ومع ثورة الجزائر، ومع المقاومة الفلسطينية، هذه الجماهير هي المعوَّل عليها في هذه المرحلة. وستعطي حتماً كل ما يستدعيه الالتزام المصيري بقضايا الأمة. وقد تفاجئنا بما لا يخطر على البال لتقلب كل الحسابات.
ومن المؤكد أن من معالم الوعي الجماهيري هذا الربط بين قضية فلسطين وحصار العراق. فالجماهير تدرك أن تحرير القدس يستدعي اقتلاع حصار العراق. ومن المؤكد أن قرارات الشعب العراقي في التطوع لتحرير القدس، واقتسام رغيف الخبز مع شعب الانتفاضة، على الرغم من كل مصاعب حياة العراقيين، عن هذا النهج النضالي البطولي يؤجج أكثر فأكثر شعلة النضال القومي العربي.
***
مقابلة صحفية مع مجلة التضامن

نُشِرت في مجلة التضامن - بيروت: العدد: 17، تاريخ 23 نيسان /أبريل 2001
لماذا سقط المشروع القومي؟ وكيف بقي القوميون في السلطة؟
حاوره في بيروت: عدنان فوزي
المفكر والباحث اللبناني الأستاذ حسن غريب واحد من المهتمين بالفكر القومي وبدراسة العلاقة بين القومية العربية والدين الإسلامي. كما أنه من الداعين إلى إقامة حوار شامل بين العروبة والإسلام، مستنداً إلى قناعته بضرورة الحوار وحتمية الوصول إلى مشروع فكري – سياسي يكون فيه الحل للكثير من المشكلات التي تعاني منها المنطقة العربية التي مزَّقتها اتفاقية سايكس – بيكو.
وقد صدرت له، حتى الآن، مجموعة من الكتب، منها: في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام (1999). الردة في الإسلام (1999). نحو تاريخ فكري – سياسي لشيعة لبنان (2000). نحو طاولة حوار بين المشروعين القومي والإسلامي (2000).
التضامن التقت في بيروت حسن غريب وحاورته:
• ما الجديد الذي تقدِّمه في دراسة الطائفية في لبنان؟
- كعربي وجدت أن الساحة اللبنانية –تاريخياً- تعاني من مشكلة المذهبية. فليس هناك من توازن بين مصالح الطوائف. وعندما قامت الحرب في لبنان كان هذا التوازن مختلاً أصلاً لمصلحة فئة طائفية سياسية، ثم تعمَّق بعد انتهائها لمصلحة فئة طائفية أخرى.
سيبقى هذا الاختلال مشروع صراع دائم. وعلى الرغم من أننا نرى أن الخطاب السياسي يتركز حول تعداد مساوئ الطائفية، إلاَّ أنه يبقى قاصراً عن فهمها في عمقها التاريخي والفكري. فكان هذا السبب من الدوافع التي حدت بي إلى القيام بدراسات أكاديمية حول هذين الجانبين، وأنا أحسب أن مثل هذه الدراسات تصوِّب الكثير من جوانب الخطاب السياسي.
• لماذا اقتصرتم، في كتابكم «نحو تاريخ فكري سياسي لشيعة لبنان»، على دراسة طائفة واحدة دون غيرها؟
-لقد رسمت في ذهني مشروعاً كاملاً لدراسة تاريخ وفكر الطوائف اللبنانية المؤثِّرة سياسياً على الساحة اللبنانية. وبما أنني أنتمي للطائفة الشيعية، رأيت من المناسب أن أبدأ من البيت، حتى لا نُلام من قبل الآخرين. لكن لا بُدَّ من دراسة السُنيَّة السياسية والمارونية السياسية…
• من الملاحظ أنكم، في جميع مؤلفاتكم، تركزون على البعد القومي. فهل ترونه كفيلاً بحل جميع الإشكاليات؟
-أولاً، أنا كلبناني أحاول دراسة التركيبة الطائفية السياسية في لبنان. وفي الوقت نفسه أنطلق من تكويني الفكري. فأنا احمل، في أعماقي، جذوراً فكرية قومية. وأنا مقتنع بجدوى الفكر القومي كجامع لكل التعدديات الدينية، ومقتنع بقدرته على أن يستوعب الاختلاف والتعدد الديني. وعلى التعدديات الدينية أن تقتنع بوجوب الاتفاق حول أنظمة تحقق مصالح الجميع.
• لكن الذي يميِّز الخطاب الديني عن القومي كونه عالمياً…
-صحيح، إن كل فكر ديني، وليس الإسلام فحسب، يحمل بذور العالمية، لأنه يحسب نفسه أممياً. ويعمل المنتمون دينياً على التبشير بدينهم ونشره بين كل الأمم. لكن التجربة التاريخية الطويلة دلَّت على أن الفكر الديني فعلاً لم يكن على مستوى العالمية، والسبب أن كل الأديان تشرذمت واختلفت حول مسائل واحدة في الدين الواحد وتحولت إلى عشرات المذاهب، بل إلى مئاتها.
وفي دراستي للتاريخ الإسلامي، وجدت أن الإسلام لم يستطع، في خلال 1400 سنة، أن يوحِّد المسلمين. فتفرَّق إلى أكثر من 188 فرقة قديمة باستثناء الفرق التي ولدت حديثاً ولا تزال تتوالد. كما تجدر الإشارة إلى أن هناك أكثر من 200 فرقة صوفية نشأت في الإسلام.
لذا، عندما تعجز أية دعوة عن أن تكون واحدة مُوَحَّدَة، فلن تكتسب صفة العالمية. ولأن الأديان تشرذمت إلى مذاهب متناحرة فلم تحقق في ذاتها صفة العالمية. هذا لا يدعونا أبداً إلى أن نستخدم المقاييس ذاتها على القيم العامة والمثل المطلقة.
• لكن هذه التعددية دليل صحة.
-لم تكن تعددية الفرق داخل الإسلام دليل صحة، كما يدَّعي بعض فقهاء المسلمين. ولو كان هذا صحيحاً لما شهدنا ذلك التاريخ الدموي الطويل بين الفرق الإسلامية. أنا أفهم التعددية على أساس أن يُغني طرف الطرف الآخر فيتكاملا. ولكن إذا دخلت المذاهب إلى حلبة الصراع الدموي على قاعدة أن كلاًّ منها يحتكر المقدس ويحصره في نفسه، فيبدأ على أساسها صراع التكفير والتكفير المضاد، فلن تسير التعددية على طريق السلامة والصحة. ولهذا وجدنا، من خلال استقراء التاريخ الإسلامي، أن كل فرقة إسلامية –استناداً إلى الحديث النبوي «تفترق أمتي …»- تحسب أنها هي الناجية وحدها من النار، أما الفرق الأخرى فهي الكافرة. وبذلك فإن استحلال كل فرقة دم وأعراض وأموال الفرق الأخرى تؤدي إلى تعددية تفقد لغة الحوار والاعتراف بالآخر. فبدلاً من أن تتكامل الرؤى فإنها تتذابح، فأين هي الصحة في مثل هذه التعددية؟
• إلى ماذا تستندون في تحليلكم للطائفية السياسية في لبنان؟
-لقد وجدت، في خلال دراستي للطائفية السياسية في لبنان على قاعدة الفكر القومي، أنني كنت منفعلاً بالمقالة القومية أكثر من فهمي للفكر القومي في داخل حالته التاريخية. لذلك عكفت على دراسة تشكُّل الفكر القومي من خلال التاريخ في كتابي «في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام». ولما وجدت أنني عاجز عن تحديد مصطلح (الإسلام الصحيح)، قمت بدراسة الإسلام في كتاب «الردة في الإسلام». ومن خلاله وجدت أن الإسلام تعرَّض إلى تمزق هائل من داخله، فأصبح مجموعة من المذاهب بحيث تدَّعي كل واحدة منها أنها تمثِّل الإسلام الصحيح. وهنا بنيت، من خلال دراساتي الأكاديمية تلك، أرضية فكرية سمحت لي بأن أنطلق منها إلى رؤية أكثر وضوحاً في معالجة مشكلة الطائفية السياسية في لبنان من منظار وطني وقومي.
• مما تقدَّم، هل يمكن القول إن الفكر القومي يمكن أن يكون حلاً، وضامناً لوحدة جميع المذاهب أو الطوائف، أم أنه بديل عنها؟
-أعتقد أن الفكر القومي قد يكون حلاًّ، لأن التعدد المذهبي لم يكن، على الإطلاق هو الحل. كما أن الفكر الديني لم يكن مُوَحَّداً ليصبح مُوَحِّداً. فوجدت أن علينا أن نفتش عن الحل، وأحسب أنه موجود في الفكر القومي. لكن هنا علينا أن نميِّز بين حاجة الانتماء الروحي للإنسان وبين حاجات الانتماء السياسي للمجتمع.
الانتماء الروحي هو اختيار حر، ويجب أن لا يتحوَّل هذا الانتماء إلى عامل عداء. فالقومية تترك حرية الانتماء الروحي لأي فرد في المجتمع، ولكنها تعمل على توحيد النظم والقوانين التي تنظم الشؤون المادية والحياتية للأفراد والمجتمعات.
لكن لا تسألني عن أي مشروع سياسي مفصَّل يمكن أن يحقق العدالة والمساواة بين كل التعدديات الدينية، فليس عند أحد وصفة جاهزة. لكن لندعو إلى حوار يُوحِّد الاتجاهات الفكرية أولاً، ليصبح من السهل الاتفاق على تفصيلات النظام السياسي. وهذا الحوار الفكري يمكن أن يؤدي أغراضه من خلال النقد الهادف.
• كثيرون يقولون إن المشروع القومي متَّهم لم يحقق للأمة شيئاً يُذكَر. وإنه قد استُهلِك بما فيه الكفاية. ولنجرِّب الخيار الديني.
- هذا الموضوع في غاية من الأهمية. لقد حاولت إلقاء الضوء عليه في كتاب «في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام». تحاول الاتجاهات الفكرية، من خلال أغراضها الإيديولوجية، أن تنظر إلى اللحظة التي تعيش فيها فقط من دون أن تربطها بأصولها التاريخية. وإذا لم نقرأ التاريخ جيداً نقع في قصور كبير ونبتعد عن التشخيص السليم. إن البعض يتَّهم المنهج الأكاديمي بأنه خالٍ من الروح. أما، برأيي، إذا لم نقم بأبحاث أكاديمية تلقي الضوء على التاريخ بشتى لحظاته، سنقع في قصور عن التشخيص السليم؛ لأن لحظة ما في التاريخ ليست منفصلة عن التي سبقتها. أما الذي يحسب أن المشروع القومي قد أثبت عجزه وفشله فيدفعني إلى أن أتساءل: متى قيل هذا الكلام؟ لقد قالته في بداية السبعينات التيارات الإسلامية وهي بلا شك ذات أغراض فئوية. [لقد انطلقت تلك المزاعم في الوقت الذي لم يمر من عمر ذلك المشروع، بما فيها مرحلة التكوين الفكري السياسي، سوى ثلاثين سنة. وقبله كان المشروع السياسي الديني قد عاش ألفاً وأربعماية سنة. فهل أثبت النظام السياسي الإسلامي جدارته طوال تلك المدة؟ فكيف ننقد مشروعاً عمره ثلاثون سنة ونتهمه بالفشل وندعو إلى قيام نظام جُرِّب ألفاً وأربعماية سنة، وهو قد فشل فعلاً؟]
هنا ليس سوى البحث الأكاديمي الذي يستطيع أن يلقي الضوء على أمثال تلك الأحكام. ومنه يتَّضح أن ما يقوله أولئك ليس إلاَّ قصوراً في النظر عن رؤية التجربة التاريخية بوضوح موضوعي.
• في كتاب الردة في الإسلام أثرت موضوع الردة. فإلى أين تريد الوصول؟
- [لقد ناقشت هذه المسألة في الفصل الأول من الكتاب. وجئت بأدلة نقلية وعقلية على أن الحكم بقتل المرتد عن الإسلام، كما ورد في الحديث النبوي، كان ظرفياً، ولم يكن حكماً دائماً يصعب إلغاؤه. والإشكالية أن فقهاء المسلمين أجمعوا، على شتى مذاهبهم، حول صحة هذا الحكم ووجوب ديمومته كنص مقدَّس.]
إنني توجهت، وما زلت، إلى الفقهاء المسلمين، بنداء أدعوهم فيه إلى قراءة ما توصلت إليه من نتائج في كتاب الردة، لعلَّهم يصلون إلى فهم جديد لموضوع بمثل الخطورة، التي يشكلها موضوع محاكمة المرتدين، على حرية العقل والتفكير.
***

مقابلة صحفية حول كتاب الماركسية مع مجلة الوطن العربي
العدد (1353): تاريخ 7/ 2/ 2003م: الصفحات (40 – 41).
حسن خليل غريب كاتب وباحث من لبنان، تميَّزت أبحاثه بنقد الفكرين الديني والمذهبي من جهة، وبتعميق الفكر القومي من جهة أخرى. وهو في كتابه الجديد »الماركسية بين الأمة والأممية« يضع محاولة للحوار بين التيارين الماركسي والقومي، وكان قد نشر بحثاً سابقاً تحت عنوان »نحو طاولة حوار بين المشروعين القومي والإسلامي«. وبذلك نستشف، من خلال عناوين كتبه أنه يسعى إلى مد طاولات من الحوار بين مختلف التيارات الفكرية والسياسية والحزبية الفاعلة على الساحة العربية.
صدر للباحث الكتب التالية:
1-»في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام«، و»نحو طاولة حوار بين المشروعين القومي والإسلامي« صدرا عن دار الطليعة في بيروت.
2-»الردة في الإسلام«، و»نحو تاريخ فكري سياسي لشيعة لبنان« بجزئين صدرا عن دار الكنوز الأدبية في بيروت.
بعد أن أصدر كتابه الأخير »الماركسية بين الأمة والأممية«:كان لنا معه حوار حول مشروعه الحواري:

• تميَّزت أبحاثك بأنها اتَّخذت منهجاً نقدياً حول الدين، ألا ترى أن طريق نقد الفكر الديني مشوب بالصعوبات؟
ليس نقد الفكر الديني مسألة ضرورية فحسب، بل هي مطلوبة أيضاً. تستند ضرورتها إلى الأسباب التالية:
-يُقاس تقدم الشعوب أو تخلفها نسبة إلى ثقافتها. فلا تعجب أن تكون الثقافة السطحية دليل جهل وتخلف. وإذا أردت أن تعرف أسباب تخلف الشعوب عليك أن تفتِّش عن مستوى ثقافة أفرادها. فإذا كانت الثقافة سطحية لهو دليل على عجز العقل الذي يحملها، ومتى كان العقل عاجزاً عن اكتساب ثقافة عامة عميقة، ومنها الثقافة الدينية، لهو دليل على ضعف مقدرة ذلك العقل. ومتى تعطَّلت قوة العقل أصيب الفكر البشري بالعقم لأن أداة إنتاجه مصابة بالشلل. ولهذا ترى الكسل العقلي مستفحلاً في أوساط شعبنا، إذ تدع الأكثرية الساحقة أقليات نخبوية في صفوفها لكي تفكر عنها.
أما بالنسبة للفكر الديني فهو نتاج لعقل يتميَّز بصفات معينة، ومن أهم تلك الصفات هي التقليد والتسليم والاتكالية. تقوم النخبة من المتدينين، وهم غالباً من رجال الدين، بتقليد السلف والاتكاء على نص مجمَّد، ويُطلق عليه »النص المقدَّس« تهرباً من مسؤولية مناقشته عند من هم مصابون بعقل كسول ومعطَّل.
ولما انحدر الفكر الديني، بمساعدة من العقل الذي يستسهل التقليد، انتشرت بؤر التعصب في ثياب مذهبية تأخذ من النص المجمَّد ما يخدم ذرائعها وأهدافها، وتضفي عليها صفة القداسة.
ولما كان العقل المذهبي منتشراً في أوساط أوسع ما يمكن من شرائح المجتمع، ويقوم بدوره بتغذية العقل المستسلم الاتكالي بالتعصب والأوهام من جهة، وتكفير الآخرين من جهة أخرى، أُصيبت الأمة بالخمول العقلي وبكل ما هو صالح للتفتيت والتفرقة. فأتت من تلك الأسباب حاجتنا الملحة إلى نقد مثل هذا العقل. مع العلم أن انعكاساته السلبية لا تعطل العقل الفردي فحسب، وتطال ما له علاقة بالسماء فحسب، بل تنعكس على عقل الأمة كلها وتنال كل ما له علاقة مع الأرض أيضاً.

• نرى أنك قد انتقلت بمشروعك النقدي، من النقيض إلى النقيض، بعد أن أصدرت كتابك الأخير »الماركسية بين الأمة والأممية«. كنت تتوجه بنقدك نحو الفكر الديني وهو ذو جانب روحي، أما الآن فإنك تتوجه به نحو الفكر الماركسي، وهو ذو جانب مادي؟
لا يكمن الخلل في منهج المعرفة الديني فحسب، بل يكمن في مناهجنا المعرفية ككل أيضاً. ومن التعسف أن نحمَّل جانباً واحداً وزر التخلف الذي نعاني منه.
جاء الفكر الماركسي نتيجة لشعور مجموعات واسعة من النخب العربية بواقع التخلف الذي تعاني منه الأمة، ولأن الفكر الديني بكل مواصفاته كان سائداً على العقل العربي، ولأنه يمثل القاعدة الثقافة الأساسية واليومية للفرد العربي تمَّ تحميله وزر التخلف. فنشأت تيارات فكرية من هنا وهناك كردة فعل على ما أصاب الفكر الديني من الجمود، فقاد بدوره حالة مستفحلة من الجمود الفكري العام والجمود الثقافي. مما أصبح من الممتنع على العقل العربي أن يتطوَّر نحو التجدد مستنداً إلى مسلمات دينية تُنكر على الإنسان أن ينقد ويجدد تحت طائلة العقوبتين الدنيوية والأخروية.
لقد نشأت في الوسط العربي، منذ أواخر القرن التاسع عشر، عدة من التيارات الفكرية والسياسية التي انكبَّت على معالجة عوامل التخلف. فبرز من الوسط الديني الإسلامي تيار للتجديد، وكذلك على المستوى القومي السياسي، وبرزت، منذ الربع الأول من القرن العشرين تيارات حسبت أن في الماركسية أدوية يمكنها أن تسهم في علاج أمراضنا.
ولأن العقل العربي قد تأثر بمناهج المعرفة الدينية المستسلمة والمقلِّدة والمتَّكلة، اكتسبت كل مناهجنا المعرفية، ولن نستثني الحديثة منها، سمات التجميد والقدسية. فكان التيار الماركسي هو إحدى تلك المظاهر الثقافية التي حوَّلها العقل العربي إلى نص مقدس آخر.
ولأننا نعلم أن في الأمة العربية ثلاثة تيارات أساسية تستند إلى منهج التغيير، وهي: التيار الإسلامي والماركسي والقومي، وهي تعمل من أجل نشر فكرها ومشاريعها السياسية.
ولأنه لا يمكن لشعب أن يتطوَّر ويتغيَّر إلاَّ من خلال وحدة الفكر والثقافة،
ولأن التيارات الأساسية لم تتوصَّل، طوال عقود طويلة من الزمن إلى نتائج فكرية مشتركة تساعد الشعب العربي على تطوير مستواه الفكري والثقافي، فيكتسب وسائل ناجعة في التغيير،
كان من الضروري، كما نحسب، أن تلتقي تلك التيارات حول طاولات من الحوار الجدي والبنَّاء والموضوعي يتناولون فيه الأسس الفكرية التي تستطيع أن تجمعهم فيُنتجون من الفكر والثقافة المتجانسين مما يسهم في توحيد الرؤى العملية والمشاريع السياسية فيعملون على هديها من أجل مواجهة الكثير من التحديات الموجَّهة ضدهم من الخارج. فكان ما يحدوني للعمل في سبيل هذه الغاية أمل يتظلل تحت خيمة قاعدة توحيدية تقول بأنه لا يمكن مواجهة الخطر القادم من الخارج إلاَّ بوحدة من الداخل. فكيف نواجه الخارج ونحن نقف في مواجهة بعضنا البعض.
ولمثل هذه الغاية، ومن موقعي الفكري القومي العربي، قدَّمت دعوتين في كتابين منفصلين، أدعو من خلال الكتاب الأول إلى مشروع حواري بين التيارين الإسلامي والقومي، وفي الآخر دعوة إلى طاولة حوارية بين المشروعين الماركسي والقومي.

• يطغى على أبحاثك اتجاهات الإسلام والعروبة من جهة، والدعوة إلى الحوار بين مشاريع إيديولوجية ثلاثة: القومية والإسلامية والماركسية. نحن نعرف أن تلك الإيديولوجيات عايشت أجيالاً عديدة من الصراعات الداخلية على حساب الصراعات مع الخارج، فهل أنت متفائل بالوصول إلى نتائج إيجابية؟
-فلنبدأ في الإجابة من القسم الأخير للسؤال. ليس لمنطق التفاؤل والتشاؤم في تعريفات التغيير تأثيرات كثيرة، فلو عدنا إلى منطق التغيير لرأينا أنه لا علاقة له بمساحة الزمن، بل له علاقة بوعي المشكلة التي تعمل على تغييرها من جهة، وتأمين وسائل النضال من أجل تغييرها من جهة أخرى. فلو كانت المشكلة واضحة والإيمان بتغييرها حاراً نكون قد قطعنا مسافة أساسية على طريق تغييرها، لأن ما تعي خطورته وتنوي العمل لدرء تلك الخطورة هي الخطوة الأساسية الأولى في منطق التغيير. ومن هنا لا نقيس التغيير بالمسافة الزمنية، التي إذا ما عجزنا في خلالها عن إحداث التغيير نصاب باليأس والتشاؤم. يكفي أن تكون المشكلة واضحة في مردوداتها السلبية على الفرد أو المجتمع لتكون حافزاً دائماً أمام الذين يعملون من أجل تغييرها.
إن الصراع بين الإيديولوجيات الداخلية، التي تتجمَّع –بأهدافها- لإحداث تغييرات في مجتمع واحد، متوحِّدة في غاياتها وأهدافها، فبها ومن خلالها نكون قد قطعنا نصف المسافة، لكنه النصف الأقل عناء. أما لو تباينت تلك الإيديولوجيات حول مشاريع الحلول فذلك يعني أنه علينا أن نقطع نصف المسافة الآخر والذي هو النصف الأكثر صعوبة.
قطعت الإيديولوجيات العربية نصف المسافة الأول، فعليها –لكي تتوحَّد مشاريعها- أن تنتقل إلى نصف المسافة الآخر. وعلى الرغم من أن المدة الزمنية لقطع مسافة النصف الأول قد طالت إلاَّ أنها أصبحت على نهاياتها، خاصة وأن المشاريع المعادية أصبحت على درجة بالغة الخطورة من الشراسة.
استهلكت مسافة الزمن في الأجيال السابقة سلسلة من الصراعات الإيديولوجية بين مشاريع ثلاثة: قومية، وأمميتان إسلامية وماركسية، شهدت بعدها عدة من التحولات باتجاه توحيد الرؤى الفكرية – السياسية على قاعدة وحدة الفكر القومي، الذي أصبح المرجعية الأساسية في فكر الإيديولوجيات الثلاث.
وقياساً إلى منطق التشاؤم والتفاؤل، أصبحنا أكثر تفاؤلاً في المستقبل لأن المسافات التي كانت تفصل التيارات الثلاثة أصبحت أقل وأضيق، وتحولت إمكانية التباعد في الماضي إلى واقع التلاقي في الحاضر.
لقد دفعنا هذا السبب لكي نلعب ولو دوراً صغيراً في ترسيم المشكلات لتكون بدايات لجداول أعمال طاولات الحوار.

• ما هي أهم الإشكاليات التي تحول دون الوصول إلى جوامع مشتركة بين التيارات الثلاث؟
هناك إشكاليات عديدة تواجه الباحث في محاولاته لتقريب المسافة بين التيارات الثلاث، ومن أهمها الخلاف حول عدد من الثوابت:
-هل هي قومية أم أممية: يتفق الماركسيون والإسلاميون حول العمل من أجل بناء مجتمع أممي. لكنهما يختلفان حول الأسس التي تنبني عليها الدولة الأممية. فما يجمعهما هو الإطار الأممي، وما يفرقهما هي الأسس التي ينبني عليها نظام الحكم الأممي: أدينية هي أم علمانية.
-حول تحديد أسس النظام السياسي: علماني أم ديني. يتفق التياران الماركسي والقومي حول علمانية الدولة. فما يجمعهما هي الأسس الرئيسة لنظام الحكم، وما يفرقهما هو قومية النظام أم أمميته.
-حول الفلسفة الروحية: يتفق التياران الإسلامي حول أهمية دور الروح في بناء الإنسان. ويختلفان حول مضمون ذلك الدور: أهو ديني خاص أم ديني عام. ويفترق التياران عن التيار الماركسي الذي يفسِّر أسس الكون تبعاً للعامل المادي.

• هل واجهت عقبات وصعوبات في قول كل ما تريد أن تقوله؟
-إن الانخراط في ورشة نقد الفكرين الدين والمذهبي دونه عقبات مؤلمة، وهي نابعة من المفهوم العام للمقدَّس. فالفكر الديني مكبَّل بمفاهيم مقدَّسة تحول بين الباحث وبين التفكير بحرية، لأن من يتجرّأ على نقد المقدسات يقابَل بالتكفير. وكأن العقل البشري لا مكان له في قاموس التديُّن.
فأينما ذهبت، تجد نفسك تعيش في بيئة ثقافية مُشبَعة بحالات من التدين، بعضها السطحي، وبعضها المكبَّل بالنص، وبعضها المجامل…
• هل أصبح المواطن العربي في مستوى ثقافي يستطيع أن يهضم مناهج النقد، أم أنك تكتب لطبقة نخبوية من المثقفين؟
-قل لي ما هي ثقافتك أقل لك من أنت. لا يمكننا فصل التغيير في واقع المجتمعات عن التغيير في بنيتها الثقافية. فلا يمكن للتغيير، شئنا أم أبينا، أن يشق طريقه بشكل سليم من دون إحداث تغيير في البنية الثقافية. فإذا كانت الثقافة تعني فهم الواقع فقط، فهي ليست ثقافة تغييرية. لأنه أن تفهم الواقع هو أن تكتشف فيه أسباب إعاقة المجتمعات عن التطور. ولا يمكن لكل الناس أن يفهموا الواقع على درجة متساوية، وتتسع الهوة المعرفية إذا كان الهدف التفتيش عن وسائل التغيير. وهذه العملية المعرفية: درس الواقع ومعرفة زواياه الإيجابية والسلبية، تتطلَّب مستوى ذهنياً وعقلياً متطوراً وعلى درجة من العمق، وهذا ما لا يمكن أن يكون في متناول كل الناس على درجة واحدة من التساوي. فلا بُدَّ من وجود نخب مثقفة، والنخبوية ليست مسألة طبقية على الإطلاق. وتتحول النخبوية إلى طبقية عندما تصبح المقاييس مداراً لتعالي المثقف لى أبناء مجتمعه. لكن وبما أن للمثقف دور يتمثل بالعمل من أجل التغيير، يتحول المثقف والثقافة إلى ثقافة ثورية وإلى مثقف ثوري، والثقافة الثورية تتحسس مشاكل المجتمع وتعمل على رفع مستوى وعيه لمشاكله، فيصبح قليل الوعي مدار اهتمام للمثقف الثوري فيلتصق معه في ورشة تربوية ثقافية، وعندما يلتصق هم المثقف بهم الأقل ثقافة ويصبح مدار اهتمام تنهزم الطبقية بين النخبوية والشعبوية.
عندما أكتب، فإنني أكتب من أجل الأقل ثقافة، ومن الطبيعي أن أجهد نفسي لأجل أن تكون كتاباتي في متناول محور التغيير، أما إذا فشلت في ذلك، فالنخبوية هي حالة متكاملة ومترابطة، ففي تعاون شتى المستويات النخبوية المثقفة يمكن أن يؤدي إلى تسهيل مهمة إيصال الثقافة ذات الوظائف التغييرية إلى أوسع قطاعات الشعب، خاصة إذا ما تم توظيف الفكر من خلال وسائل سياسية تلقى أضواءها على مشاكل المحتمع المعيوشة، الملموسة والمحسوسة. فليست الثقافة، خاصة إذا كانت موادها فكرية مجردة، بمتناول الجميع. ولا يمكن أن يبقى الفكر، لكي يكون شعبياً، في دائرة المحسوس، وإلا تحوَّل إلى درجة من التبسيط قد يؤدي بانحراف الفكر إلى مستوى من البساطة فيحرم نفسه من العمق النظري الذي هو غالباً ما يستند إلى نظريات مجرَّدة تساعد على استنباط القوانين النظرية العامة.
• هل يوجد أزمة ثقافة ومثقفين في العالم العربي؟
-لكي تستدل على وجود أزمة ثقافة أو عدم وجودها، فما عليك إلاَّ أن تنظر إلى واقع المجتمع. فإذا كان المجتمع متخلفاً يعني بما لا شك فيه أن هناك أزمة ثقافة، فمقياس التخلف أو التطور هو المستوى الثقافي، فإذا كان المستوى الثقافي، وأقصد فيه انتشاره أفقياً وشعبياً وليس نخبوياً فقط، متخلفاً فواقع المجتمع لا شك انه متخلف. والعكس صحيح، أيضاً، فالتخلف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي هو أهم وأبرز مظاهر التخلف الثقافي.
فإذا تساءلنا: هل نحن متخلفون على الصُعُد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؟ سيكون الجواب، بلا شك، إننا متخلفون على تلك الصُعُد. ولأننا متخلفون على تلك الصُعُد، فنحن بلا شك متخلفون ثقافياً.
هنا علينا التمييز بين اكتساب العلوم التقنية والمهنية وبين المستوى الثقافي. فالذي يكتسب علوماً تقنية مهنية، لن يكون بالضرورة مثقفاً، لأنه قد يكون منفذاً ومسانداً لإيديولوجية الطبقة المالكة المال والسلطة. فالمثقف، يقول جان بول سارتر، هو الذي يعي مشاكل طبقته ويعمل من أجل وضع حلول لتغييرها. وهنا يجب التمييز بين المالك للعلم التقني والبعيد عن الاهتمام بمشاكل طبقته العاملة، وبين الواعي لمشاكل طبقته والعامل في سبيل تغييرها.

مقابلة صحفية مع مجلة المشاهد
العدد 254 تاريخ 21 – 27 / 1/ 2001

باحث في إشكالية العلاقة بين العروبة والإسلام
حسن غريب: لا بُدَّ من وحدة الفكر والبناء السياسي الداخلي
يشدِّد الباحث حسن غريب في بُنية أبحاثه الهادفة إلى قراءة معاصرة وصحيحة لإشكالية العلاقة بين العروبة والإسلام، ولإشكالية الهوية العربية ومفهوم القومية، على ضرورة تحقيق وحدة الفكر والبناء السياسي الداخلي للأمة العربية في مواجهة العدوان الخارجي. كا يشدِّد على ضرورة انتهاج الباحثين القوميين والإسلاميين على السواء، منهج البحث الأكاديمي في سبيل تحديد هوية للأمة العربية لكي لا تصبح مشرذَمة مقسَّمة.
لقد حاول رصد نقاط الاتفاق والافتراق بين القومية والدين في ثلاثة مؤلفات مختلفة العناوين، لكنها موحَّدَة بشكل من الأشكال في البُنية والهدف. وهذه المؤلفات هي:
- الردة في الإسلام (قراءة تاريخية وفكرية في الأصول والاتجاهات والنتائج)، وقد صدر عن دار الكنوز الأدبية في بيروت.
- نحو تاريخ فكري سياسي لشيعة لبنان: وقد صدر عن دار الكنوز الأدبية في بيروت.
- في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام: وقد صدر عن دار الطليعة في بيروت.
وسيصدر له قريباً عن دار الطليعة في بيروت كتاب تحت عنوان: نحو طاولة حوار بين المشروعين القومي والإسلامي.

حول أبحاثه وكتاباته الفكرية والأدبية كان هذا الحوار:
• تركِّز في كتاباتك وأبحاثك عل مسألتين: القومية والدين، العروبة والإسلام، لماذا أعطيتهما هذا الاهتمام الخاص؟
-لكل مجتمع خصوصياته الثقافية، ولا يمكن لأية عملية في التغيير أن تتم من دون نقد ثقافة المجتمع الذي تريد أن تقوم بالتغيير فيه. والخصوصيات الثقافية هي تلك القاعدة من العادات والتقاليد، على شتى المستويات النفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وهي التي تحدد علاقة الفرد بالمجتمع، وتحدد علاقة المجتمع بالمجتمعات الأخرى المتمايزة عنه ثقافياً. ومن هنا يأتي المحتوى الثقافي لمجتمع ما على درجة في غاية الأهمية.
وإذا حاولنا أن نحدد المحتوى الثقافي لمجتمعنا العربي لوجدنا أنه يستند إلى ثقافة إسلامية متوارثَة منذ مئات السنين، وتسود هذه الثقافة في شتى المستويات الشعبية والنخبوية. ولما كنا نشكو من التخلف والأمية بشكل شديد، فلا بد من أن نحمِّل المحتوى الثقافي السائد جزءاً كبيراً من المسؤولية.

• فماذا تعني بالتخلف والأمية؟ ولماذا تُحمِّل المحتوى الثقافي هذا الجزء الكبير من المسؤولية؟
- بالإجمال لما كنا عرباً، ولما كانت الثقافة السائدة، أي التي ما زالت تحكم عاداتنا وأنظمتنا وعلاقاتنا، ذات جذور إسلامية، كان لابد في سبيل الخروج من حالة التخلف والأمية من أن نفتِّش عن أسبابهما في داخل أنفسنا، بصفتنا عرباً وبسبب أن ثقافتنا تُعدُّ ثقافة إسلامية.
ولما كانت هويتنا العربية، كما ينظر إليها كثير من الإسلاميين، على تناقض مع هويتنا الإسلامية. ولما كانت الشريحة الكبرى في مجتمعنا العربي تحسب أن الإسلام والعروبة شيئاً واحداً. ولما لم يكن النظام السياسي الإسلامي نظاماً عادلاً على مرِّ التاريخ، كما نحسب نحن، وجدنا أنه من الضروري، في ساحة الاختلاف حول تحديد أسباب التخلف، أن تنفتح أبواب الحوار على مصراعيها بين كل أبناء الأمة على تعدد انتماءاتهم ومشاربهم الفكرية والسياسية في سبيل تقييم موضوعي لأسباب التخلف التي نشكو منها جميعنا: قوميين علمانيين، وإسلاميين منفتحين على الحوار. من هنا كان تركيزنا بشكل لافت على طرفي إشكالية الصراع الفكري – الثقافي الدائر على طول الساحة العربية وعرضها، وهما القومية والدين، العروبة والإسلام. ومن المستغرَب أن الإسلاميين من غير العرب يشكِّكون بالقومية العربية ويتهمونها بشتى أشكال العنصرية، في الوقت الذي لا يرشقون فيها قومياتهم بزِرٍّ من الورد. ومن المستغرب أكثر أن ينساق كثيرون من الإسلاميين العرب مع تلك الأطروحات وينجرّوا في طريق الاتهامات ضد القومية العربية!!!

• إن المجتمع العربي مُثْقَلٌ بالمشاكل، وأنت تجاوزتها كلها وحسبت أنه لم يبق علينا فقط إلا أن نحل مشكلة العلاقة بين العروبة والإسلام لكي نصل إلى شاطئ السلامة. ونحن نرى أن التنوع بمعالجة المشاكل الأخرى وإعطائها مكاناً في أبحاثك هي من الأهمية بمكان، فلماذا لا تلتفت إلى هذا الجانب وتوليه اهتماماً، خاصة وإن كل أبحاثك المنشورة، حتى الآن، تدل على أنك تتناسى المشاكل الأخرى؟
-ما أشرت فيه إلى استئثار أبحاثي بعناوين متجانسة أركِّز فيها على حل إشكالية العلاقة بين العروبة والإسلام، هو صحيح. وأنا بالذات، عندما خضت غمار البحث حول إشكالية العلاقة بين العروبة والإسلام، لم أكن أتصور أن البحث كبير ومتشعب، وكنت أدرك أنها ليست الإشكالية الوحيدة على الساحتين العربية والإسلامية. ولكن بعد أن بدأت في البحث، وكنت أحسب أنها لن تستهلك أكثر من كتاب صغير الحجم، وجدت أن للموضوع حجماً أكبر وأكثر أهمية مما كنت أتصور قبل البدء في العمل. فعن موضوع الشيعة في لبنان، وهو الموضوع الأول الذي بدأت البحث فيه على قاعدة أنه لا يمكننا أن نفهم إشكالية الطائفية السياسية في لبنان من دون أن نفهم تاريخ الطوائف السياسي والفكري فيه، إصطدمتُ بإشكالية العلاقة بين القومية العربية والفكر الشيعي بعدما أُثيرَ كثير من الشكوك حول علاقة الفكر الشيعي بالشعوبية، السبب الذي دفعني إلى تأجيل نشر البحث عن شيعة لبنان كي أتمم البحث عن علاقة العروبة / القومية بالإسلام بشكل عام. وبعد أن أنجزت البحث الثاني، أثيرت في وجهي إشكالية أي إسلام نريد، أو أي إسلام يريده الإسلاميون؟ ولذلك أوقفت نشر بحث العلاقة بين العروبة والإسلام إلى الوقت الذي أتممت فيه البحث عن الردة في الإسلام الذي بيَّنت فيه أنه ليس هناك إسلاماً مُوَحَّدَاً ومُوَحِّدَاً. فأنصار كل فرقة أو مذهب في الإسلام يحسبون أن الإسلام كله هو ملك أيديهم.
اكتملت تلك الأبحاث، ولكنها نُقِدَتْ من قبل كثيرين بسبب طولها، لأن مزاج القارئ لا يطيق الأبحاث المطوَّلَة. لكنني لم أجد بداً من التطويل فيها والسبب أنه لا يمكن النظر إلى المشكلة، وخاصة إذا كانت ذات تأثير كبير ومستمر كمثل المسألة الدينية الإسلامية، بشكل جزئي ومُبسَّط، إلا بمنظار تاريخي استراتيجي، لكي تُلِمَّ بشتى اتجاهاتها الفكرية. فالإسلام أفرز كثيراً من التشتت والفرقة بين أبنائه وهم أبناء دين واحد. فإذا كانت هذه هي صورة الدين الإسلامي الذي سادت ثقافته، وما زالت، بين أبناء الشعب العربي لقرون عديدة، فكيف بنا إذا كانت الأديان المتنوعة الأخرى غير الإسلام قد دخلت في حلبة الصراع على مقاعد الجنة في الآخرة؟
بعد أن اكتملت الأبحاث الاستراتيجية / المطولَّة تلك، أصبحت الصورة أمامي واضحة إلى حد كبير، ولذلك وجدت أن الاستمرار في البحث حول طرفي الإشكالية: العروبة والإسلام، هي موضوع كبير ومهم وأساسي. وإن معظم ما ينجم من إشكاليات سياسية واقتصادية واجتماعية ونفسية، لها علاقة وثيقة بحسم إشكالية الصراع بين القومية والدين. فإذا حُسم الصراع بين طرفيْ هذه الإشكالية، يُمَهَّد طريق الحلول لأكثر مشكلاتنا حدَّةً. وهنا نعطي مثلاً على ذلك: إذا أقرَّ العرب، مسلمين وغير مسلمين، بالولاء أولاً للوطنية أو للقومية، وليس للدين، يصبح بالإمكان أن نبني وطناً موحَّداً يحصل على ولاء كل أبنائه ورعاياه من كل الأديان. أما إذا بقي الولاء أولاً للدين فلن نستطيع أن نبني هذا الوطن الموحَّد، لأن أصحاب الأديان سيتطلَّعون إلى الخارج الذي يرتبطون معه بدين واحد أو حتى بمذهب واحد.
وعلى منوال هذا المثال يمكننا أن نأتي بعشرات الشواهد والمشاكل التي ترتبط بجذورها بحسم إشكالية الصراع بين القومية والدين. وأحسب أنني أوضحت بما يكفي حول السبب الذي دعاني إلى التركيز، حتى أستكفي كل ما أريد أن أقوله حول الإشكالية الأم، على إشكالية العلاقة بين العروبة والإسلام من جهة وحتى يحصل حوار موضوعي وهادف بين أنصار وتيارات كل طرف من طرفيْها من جهة أخرى.

• إستطراداً، نؤكد على استفسارنا حول تركيزك على موضوع العلاقة بين العروبة والإسلام، فنتساءل: أَوَ ليس هناك إشكالية بالعلاقة بين الأممية الماركسية وبين القومية العربية؟ إلا تستأهل هذه الإشكالية وقفة نقدية في مشروعك؟
- بلى هناك إشكالية في العلاقة بينهما، ولكن على الرغم من أن الماركسيين قد جمَّدوا النص الماركسي وتحولوا من خلال تجميده إلى أصوليين يمنعون الاجتهاد فيه، إلا أنهم لم يصلوا إلى الحد الذي كفَّروا فيه الآخرين وهددوهم بمصير أخروي مكانه نار جهنم. ولم يسبغوا عليه صفة قدسية إلهية تحكم على الآخرين بتهمة الردة عنه، وتخضعهم للمحاكمة أمام محاكم التفتيش الدينية لتلقي بهم أمام أحكام التعذيب والقتل بحجة الدفاع عن حق الله، كما يفعل الإسلاميون.
لكن ... خاض الفكر القومي صراعات فكرية وسياسية مع التيارات الماركسية والأحزاب الشيوعية العربية في مرحلة ما بعد انهيار الأممية الإسلامية بعد الحرب العالمية الأولى. ومن بعدها أخذت تطل على الساحة السياسية تراجعات ملحوظة من قبل الماركسيين والشيوعيين اللاقوميين عن المواقف المتشنجة ضد القومية. وتكاثرت هذه المواقف التراجعية بعد انهيار أول تجربة سياسية أممية في أواخر القرن العشرين بعد انهيار منظومة الدول الإشتراكية في الاتحاد السوفياتي سابقاً. وابتداءً من تلك اللحظة تحوَّلت أنظار الماركسيين والشيوعيين العرب نحو خطاب قومي عربي لم يتجاوز، حتى الآن، الموقف النقدي للاتجاهات القومية الأخرى. فلا هم، أي الشيوعيون والماركسيون، وقفوا مؤيدين للمضامين الفكرية للتيارات القومية السائدة، ولا هم طلعوا علينا باتجاهات نظرية قومية واضحة تميزهم عن غيرهم من التيارات القومية الموجودة على الساحة العربية. مجمل القول نستطيع أن نحسب أن الشيوعيين العرب يمرُّون الآن بمرحلة مخاض فكري نقدي، يعمل لبلورة أفكار قومية على الصعيدين السياسي والفكري. ونحن نتمنى أن يتابع الشيوعيون العرب خطاهم، ولكن بوتيرة أسرع، للانخراط في ورشة العمل الفكري القومي بكل صدق استراتيجي، وأن لا تحكم خطاهم تكتيكات مرحلية يحكمها هاجس حالة العداء التاريخية بينهم وبين التيارات القومية العاملة منذ أواخر النصف الأول من القرن العشرين حتى الآن. وأن يتجاوزوا تلك المرحلة كما هو مطلوب الشيء ذاته من تلك التيارات القومية.
ولهذا فإن كان إحجامنا عن إعطاء حيز أكبر لنقد التيارات الماركسية والشيوعية فلأن ما يجمعنا معهم هو ابتعادنا كلينا عن ممارسة أسلوب التكفير والتبديع والتفسيق والحكم بالموت على من لا يؤيدنا أفكارنا، تحت ذريعة قدسية وإلهية نصوصنا. وإنما البديل هو أن نخوض غمار حوار هادئ موضوعي هادف حول اتجاهات وضعية من دون اتهام بالمساس بقدسية هذا أو ذاك من النصوص، التي نقبل، نحن القوميين والماركسيين، أن تلغى إذا ما دلَّت التجربة على عدم صلاحيتها لمصلحة المجتمع.

• هل تحسب أن هذا كل ما تريد أن تقوله حول طبيعة أبحاثك؟
-إنني أرجو أن يكون توضيحي شفافاً حول إيلاء أهمية كبيرة لموضوعات الأبحاث التي أقوم بها الآن. وهي إن كانت وحيدة الجانب إلا أنه لها علاقة مع أكثر من إشكالية يعاني منها المجتمع العربي. ولهذا فإنني أتوجَّه من على منبر مجلتكم الكريمة إلى توجيه نداء صادق إلى كل المخلصين لأمتهم أن ينخرطوا في ورشة حوار مستمرة، وأن لا يعلنوا انتهاءها إلا متى توصلوا فيها إلى نتائج توحيدية قائمة على اعتراف الأطراف ببعضهم البعض في تعددية فكرية لا تقوم على إلغاء الآخرين ولا على تكفيرهم، بل أن يفتحوا أبوابهم لتتلقى رياح التغيير بدون أن نحمَّل أنفسنا وزر ذنوب ارتكاب آثام تؤدي بنا إلى نار جهنم. وعلينا، والكلام موَجَّه إلى الإسلاميين بشكل خاص، أن يلتفتوا بعد ألف وأربعماية سنة من التكفير والتكفير المضاد بين شتى الفِرَق الإسلامية إلى ما جاء في القرآن الكريم، وهو يقول:  ولو شاء ربك لآمَنَ مَنْ في الأرض جميعاً، أفأنت تُكْرِهُ الناس حتى يكنوا مؤمنين ؟؟!!
المشاهد السياسي - بـيروت
***

مقابلة أجرتها مجلة المشاهد السياسي
النص الأصلي للمقابلة
(العام 2004)
صدر للباحث والكاتب حسن خليل غريب، من لبنان، ثمانية كتب: الردة في الإسلام، وفي سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام، ونحو تاريخ فكري وسياسي لشيعة لبنان (بجزئين)، ونحو طاولة حوار بين المشروعين القومي والإسلامي، والماركسية بين الأمة والأممية (نحو طاولة حوار بين المشروعين القومي والماركسي)، وصدر له أخيراً كتاباً فكرياً سياسياً وهو المقاومة الوطنية العراقية (معركة الحسم ضد الأمركة).
من موقعه البحثي الفكري، ومن موقعه النضالي الوطني في جنوب لبنان، ومن موقع فكره القومي التقته مجلة المشاهد السياسي، وكان لها معه الحوار التالي:
1-تدور أبحاثك حول عدة محاور: إسلامية، ومذهبية، وقومية، وماركسية. لماذا هذا التنوع؟ وفي أي الأبحاث تجد نفسك مرتاحاً؟ وأي منها هو الأقرب إلى التعبير عن اتجاهاتك؟
-تنوَّعت عناوين أبحاثي لكن وحَّدتها الرؤية والزاوية الفكرية التي أستند إليها. فإذا نظرت إلى تنوُّع التيارات الفكرية وتعدد المشاريع السياسية على مساحة لبنان، وعلى المساحة القومية العربية، لوجدت أنه من الضروري أن تتقارب تلك التنوعات والتعدديات من خلال حركة حوارية جدية بينها. فإذا كانت التعدديات دليل عافية وصحة، فإنها تتحول إلى حاجز يحول دون الوصول إلى الاتفاق حول مشروع سياسي يكون الأقرب إلى التعبير عن مصالح شتى التعدديات لكي ينظِّم حركتها نحو الوحدة.
فالتيار الفكري سيتحول إلى عبثية نظرية إذا لم يمتلك رؤية نحو مشروع سياسي. ولأن التيارات الفكرية على الساحتين الوطنية والقومية متعددة، وينتج عن تعدديتها الفكرية تعددية بمشاريعها السياسية. فإذا أصر كل تيار فكري على مشروعه السياسي، يعني أن على الساحة الوطنية أو القومية أن تتشرذم إلى العديد من تلك المشاريع، وهذا ما يتناقض مع بناء وطني موحَّد، على المستوين القطري والقومي، وهذا ما سوف يقود الأمة إلى عدة من الكيانات السياسية، فنسترجع بها عصر الدويلات المتناحرة التي عرفها العصر العباسي، بحيث كان لكل دويلة بناء ديني أو مذهبي أو سياسي، ومنها تسللت القوى الخارجية للقضاء على ما كان يُعرَف بالإمبراطورية العربية الإسلامية.
ففي رأينا، أن مقياس مصداقية الوحدوية عند أي تيار فكري، ديني، أو مذهبي، هو مدى صدقه في العمل من أجل توجيه كل التعدديات الفكرية إلى مشروع توحيد سياسي على المستوى القطري وعلى المستوى القومي العربي.
وما لم تكن الحركة الفكرية العربية، بشتى تنوعاتها وأطيافها، جادة في الانخراط بورشة حوارية فسوف تبقى بعيدة كل البعد عن وحدوية، وطنية أو قومية عربية، وهذا ما سوف يؤدي بالتالي إلى بقاء الأمة ضعيفة ومستضعفة أمام شتى ألوان الأطماع الخارجية.
من هذا المنطلق كانت أبحاثي متَّجهة نحو نقد كل المشاريع السياسية الأممية: دينية وغير دينية، كما أنها اتجهت إلى نقد المشاريع المذهبية. فكانت نتائجها، وهي ليست جديدة لأن الحركة السياسية –منذ عقود- كانت تصوِّب نحو خطورتها. وكان ما أنتجته يصب في تلك الدائرة.
من أهم نتائج الأبحاث التي قمت بها، أنه لن يجمع شتات الأمة إلاَّ مشروع سياسي توحيدي واحد، يصهر كل التناقضات الفكرية والسياسية، على أن يقف على مسافة واحدة من كل تلك التيارات من حيث الحقوق والواجبات.
2-هل تجد نفسك مقيَّداً في أبحاثك؟ أي هل تجد عقبات تحول دونك والتعبير عن آرائك؟ وما هي مساحة الحرية التي تتحرك فيها، سواء من حيث الحريات الديموقراطية السياسية التي يسمح بها النظام العربي الرسمي الآن، أو من حيث البيئة الفكرية، بتياراتها المتشعبة؟
-كثيرة هي العوائق التي تقف في مواجهة الفكر الوحدوي: المشاريع السياسية الدينية، والمشاريع السياسية المذهبية، والمشاريع السياسية القطرية، والمشاريع السياسية التي تتجاوز أهدافها حدود القومية العربية، ومشاريع العولمة والهيمنة على المستوى العالمي، ويأتي على رأس كل هؤلاء النظام العربي الرسمي الذي هو نسيج يجمع واحداً أو أكثر من كل تلك المشاريع التي أشرت إليها.
أما وسائل مواجهتها لأية دعوات وحدوية فهي متعددة ومتنوعة، وقد تستند إلى وسائل مشتركة أو تتنوع أساليب مواجهتها لأية حركة وحدوية وطنية أو قومية.
ليس النظام الرسمي العربي – بأجهزته القمعية- هو المذنب الوحيد. وهو إن كان يتحمَّل الجزء الأكبر من المسؤولية، فهو يمثِّل واحداً أو أكثر من تلك التيارات الفكرية والسياسية. ونحن نتناسى أن التيارات الفكرية والسياسية تقمع بعضها البعض الآخر بشتى الوسائل والأساليب، ولا يعني أن وسائلها تتميز بالديموقراطية لأنها لا تستخدم البوليس أو أجهزة المخابرات، فليس البوليس والمخابرات هي الوسيلة الوحيدة في القمع. فللقمع أوجه أخرى، وهذا ما يطرح على الحركة الفكرية العربية أن تعمِّق وتوحِّد مفاهيمها للديموقراطية. وفي هذا المجال أطرح جملة من الإشكاليات، ومنها:
-هل من الديموقراطية في شيء أن نعتبر الخيانة الوطنية، على قاعدة الأهداف الأممية، وجهة نظر لأصحابها الحق في الدفاع عن سلوكهم بالتعاون مع قوى الاحتلال؟
-وهل من الديموقراطية في شيء أن نعتبر الخيانة الوطنية، على قاعدة الأهداف الأممية الدينية أو المذهبية، وجهة نظر لأصحابها الحق في الدفاع عن سلوكهم بالتعاون مع القوى التي تحتل أو تعمل من أجل احتلال أرضهم الوطنية؟
-هل من الديموقراطية أن يستعين الوطني، لأي دين أو مذهب أو تيار سياسي معارض انتمى، بالأجنبي في سبيل إسقاط نظام سياسي يدَّعي أنه لم يشارك في اختياره، أو هذا النظام قد أنزل الظلم به؟
-هل من الديموقراطية في شيء أن تهيمن الطبقات والنخب، ذات المصلحة في تجميد وضع الأمة، على شتى وسائل الإعلام المسموع والمقروء والمرئي؟ وأين هي المساحة التي تركتها تلك النخب لقوى التغيير؟ من أين تأتي قوى التغيير بمنبرها الإعلامي؟ من أين تحصل على الإمكانيات التي تؤهلها لامتلاك تلك الوسائل؟ (وهنا نشير إلى معاناة وسائل الإعلام التي لا تستطيع أن تستمر بدون دعم مادي إذا لم تروِّج لإيديولوجيات التيارات التي تملك الإمكانيات المادية).
ليس دفاعاً عن وسائل القمع التي يمارسها النظام العربي الرسمي، نقول: ليست مظاهر القمع البوليسي أو المخابراتي النظامية، هي القامع الوحيد على ساحتنا القطرية والقومية، بل تشارك كل التيارات الفكرية والسياسية بوسائل القمع. وهنا تتحمَّل الحركة الفكرية العربية مسؤولية كبرى، خاصة تلك القائمة على بناء فكر فلسفي عربي لا يتأثر بالإيديولوجيات المنحازة المتعصبة التي تتميز بها كل الحركات والتيارات السياسية والحزبية العربية.
3-هل توجِّه خطابك الفكري إلى الجميع؟ ومن تخاطب أولاً؟
-إنني أحسب أن أجوبتي على السؤالين السابقين تحدد كثيراً من جوانب الإجابة حول هذا السؤال. ولذا أضيف: إن خطابي يتوجَّه أولاً للمفكرين العرب، خاصة أولئك الأكاديميين، (الذين على الرغم من أنهم يتعرَّضون لسهام الحركة السياسية العامة، و على الرغم من أن التيارات السياسية لم ترتق –بعد- إلى مستوى العمل الفكري المجرد فهو يشكِّل حصانة لها) أن يقوموا بدورهم –وهو أساسي- من دون خوف أو لومة لائم.
وثانياً أتوجه بخطابي إلى كل الحركات الفكرية السياسية، هيئات وقوى وأحزاب، إلى تعميق فكرها العام، وفكرها السياسي الخاص، وتخرج من بعض عوائق التعصب الإيديولوجي. لأنه ما لم ترتق إلى هذا المستوى، فهي –حتماً- سوف تنتج مؤيدين يتَّصفون بالتعصب والتشرنق والجمود. وتكون النتيجة إنتاج ثقافة شعبية عاجزة عن مواكبة التغيير، وعاجزة عن تحقيق الحد الأدنى من التوجه الوحدوي السليم. وساعتئذٍ سوف تبقى ثقافة كل شريحة شعبية تنادي بوحدويتها على طريقتها الخاصة. وعندما تتشرذم الرؤى التوحيدية على المستوى الشعبي، سوف نبقى في حالة من التخبط والعشوائية التي هي الأساس في أن تسقط بيزنطية كل يوم والبيزنطيون غارقون في خلافاتهم وعصبياتهم وأوهامهم، يوجِّهون الشتيمة إلى قوى الاستعمار والاستغلال، متهمينها بأنها تحول بينها وبين التقدم والرقي والحضارة!!!

4-صدر لك كتاب، الأول من نوعه في هذه المرحلة، حول المقاومة الوطنية العراقية. فهل تعتقد أن لتلك المقاومة حظ بالاستمرار في مواجهة التحديات على المستوى العالمي والعربي والعراقي؟
-لقد استند حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي يقود المقاومة في العراق، إلى رؤية استراتيجية في تغيير معادلة موازين القوى (النظامية – النظامية) إلى معادلة أخرى تستند إلى موازين القوى (النظامية – الشعبية). واستند في تغيير تلك المعادلة إلى قناعته باستحالة أن تحصل الشعوب الخاضعة لرحمة التكنولوجيا الرأسمالية على توازن في القوى (النظامية – النظامية). فمن أهم نتائج بحثي وجدت أنه –في أثناء استلامه للسلطة السياسية في العراق- أعدَّ الحزب موجبات خوض حرب تحرير شعبية؛ على أن يتحوَّل إلى ممارستها في الحالة التي تستنفد فيها الحرب (النظامية – النظامية) وسائلها وإمكانياتها. وهو عندما وجد أن أنموذج معارك مطار صدام الدولي قد تحولت إلى حرب استنزاف كبيرة لقواته النظامية بعد أن استخدمت لجأت القوات الأميركية الغازية قنابل غير تقليدية أبادت آلاف الجنود العراقيين بلحظات، انتقل –فوراً- إلى أسلوب المعارك (النظامية – الشعبية)، وهذا الانتقال المفاجئ أثار في وقته كثيراً من علامات الاستفهام والتعجب والاستياء. وكان السبب هو الجهل باستراتيجية الحزب في الصراع مع القوى المعادية.
ففي التاسع من نيسان، الذي نعت فيه –حتى النخبة المثقفة- نظاماً عربياً آخر، كان البعثيون يقاتلون العدو المحتل على قاعدة حرب التحرير الشعبية، وهذا ما أخذ يتنامى ويتسع إلى ما أثار الاعجاب واستعادة الثقة بالنفس.
أما ردَّاً على السؤال: هل تستمر المقاومة وتصمد؟ فأنا أحيلكم إلى ما تتناقله وسائل الإعلام الأميركية والغربية لتروا كما هي مؤثرة حرب التحرير الشعبية في العراق. وهذا يجعلني أذكِّر بما فعل الفيتناميون، والجزائريون، واللبنانيون… وما يفعله الفسطينيون.
من المؤكد أن إمكانيات سلطة نظام البعث في العراق قد وُضعت في خدمة هذه المرحلة: سواء بإعداد مئات الآلاف من المقاتلين، أو بتخزين كميات هائلة من السلاح، أو بإعداد من ينتجون وسائل تصنيع السلاح البسيط الذي يستخدمه الثوار في حرب التحرير الشعبية….
ونحن نراهن بكل ثقة موضوعية، وليست سوريالية أو رومانسية.. على نتائج الصراع الذي تخوضه المقاومة الوطنية العراقية الآن، فهي منتصرة في النهاية. لكن الرهان لدينا ليس الظن في هل تنتصر أم لا. وإنما الرهان لدينا يدور حول الزمن الذي سوف تستغرقه معركة النصر.

5-هل يؤثر اعتقال الرئيس صدام حسين على مستوى فاعلية المقاومة: استمراراً وأداء؟
-أعتقد أن جوابي السابق يصلح كجزء للجواب عن هذا السؤال. أما ما أريد أن أضيفه، فهو التالي: من خلال بحثي الذي نشرته في كتاب »المقاومة الوطنية العراقية« وجدت أن صدام حسين قائد متميز لمؤسسة حزبية، وليس قائداً فرداً. فالمقاومة العراقية تستند إلى عمق مؤسساتي، ومن يعمل على قاعدة المؤسسة فلن تموت استراتيجيته إذا غيَّب الأسر أو الشهادة أو الاعتقال أفراداً أو قادة، لأن المؤسسة تنتج الكثيرين. وما كان يُقال عن شبيهين لصدام حسين، بالمعنى الأمني، لهو نوع من السطحية والسذاجة. لكن في داخل المؤسسة تجد شبيهين فعليين، بالمعنى الاستراتيجي، أي الذين يتابعون تنفيذ استراتيجية المؤسسة، على الرغم من غياب بعض القادة.
في كتاب المقاومة الوطنية العراقية، وجَّهت الأنظار نحو لعبة الشطرنج الأميركية في العراق، والتي تقوم على العمل من أجل اصطياد الملك، الذي باصطياده تنتهي اللعبة لمصلحة الصائد. وبرهنت على لا صوابيتها لأن لعبة الشطرنج القديمة كانت تستند إلى فردية الملك أو الامبراطور، بحيث كانت تنتهي المملكة أو الامبراطورية بسقوط الفرد. أما لعبة الشطرنج الحديثة والمعاصرة، بمفهوم التنظيمات المؤسسية لا تنتهي المعركة إلاَّ باصطياد كل القوى (الوزير والقلعة والأفيال والمجانين والبيادق…)، وهل بإمكان قوات الاحتلال الأميركي أن تصطاد مئات الآلاف من أعضاء المؤسسة التي أسهم صدام حسين، بعقل مبتكر ومؤسساتي، في تأهيلها لممارسة حرب التحرير الشعبية؟
6-ما هي الأسباب التي دفعت بالنظام العربي الرسمي للرضوخ للإدارة الأميركية على القبول بنزع أسلحة الدمار الشامل، إن وُجدت، وهي لا تضغط من أجل إلزام العدو الصهيوني بنزع أسلحته وهي موجودة بالفعل؟
إذا عدنا لما ذكرناه من أجوبة سابقة لوجدنا ما يلي:
-تقوم استراتيجية النظام العربي الرسمي على نظرية التوازن في الحروب (النظامية - النظامية). ولأنها لن تستطيع الوصول إلى مثل تلك الحالة، لأكثر من سبب، فهي ترى نفسها عاجزة عن المواجهة. ولأن أركان وإدارات النظام العربي الرسمي تنتمي –كما ذكرنا في أجوبة سابقة- إلى أكثر من تيار يرى مصلحته خارج دائرة الوحدوية العربية فهو لن يتَّخذ من حرب التحرير الشعبية استراتيجية له لأنه غير مستعد أن يطلِّق القصور وبهارج الحياة ومظاهرها من أجل تحرير الشعب الذي يعمل، أو يساعد، على سرقته واستغلاله.
ولأن مصلحة أولئك مرتبطة باستمرار النظام الرأسمالي العالمي، فمن غير المستحيل أن ينخرطوا مع من يعمل من أجل تهديمه. وهنا أذكر ما قاله هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركية الأسبق: »على حلفاء أمريكا أن يواجهوا حقيقة أنهم جنود في إمرة القائد الأمريكي، وأن يقوموا بالتالي بأداء المهام المطلوبة منهم لأن في ذلك ضماناً لمصلحة أمريكا ولمصالحهم هم«.
ولأن الكيان الصهيوني مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمشروع الهيمنة الرأسمالية العالمية، يعتبر الكثيرون من أصدقاء أميركا في النظام العربي الرسمي أن ترسانة »إسرائيل« النووية لا تشكل تهديداً لمصالحها، فلذلك نراها غير جادة في المطالبة بنزعها، وهي إن طالبت فليس إلاَّ من القبيل تضليل الرأي العام العربي، وهي تعرف أن ما هو مسموح لها –على القاعة الديموقراطية الأميركية- هو حرية القول وليس حرية الفعل.
7-من موقعك الفكري، ومن موقعك كمواطن لبناني من جنوب لبنان، بحيث ذقت معاناة الاحتلال وحلاوة دحره، كيف ترى الترابط بين التجربتين: المقاومة الوطنية اللبنانية والمقاومة الوطنية العراقية؟
-أنا فقدت الأمل مما يطالب به البعض في نقد الأنظمة بسبب عجزها عن تأمين توازن على قاعدة الحروب (النظامية – النظامية) لأنه لن يحصل. وبالتالي أصبحت من المؤمنين بأن على حركة التحرر العربية أن تبتكر صيغاً ووسائل تعيد حالة التوازن في القوى للقيام بمهماتها في التحرير ضد قوى الاحتلال والهيمنة والاستيطان. وبها تنتقل إلى صياغة مفاهيم جديدة لمعاني النصر والهزيمة تتجاوز فيها تقليدية حركتها النقدية التي غرقت في ما يُسمَّى ب»نقد الهزيمة«؛ فهي بمثل تلك الحركة النقدية التقليدية لم تصل إلى نتائج محسوسة وملموسة لأن النظام العربي الرسمي لم، ولن، يستطع تأمين حالة التوازن (النظامي – النظامي)، فأصبح على حركة التحرر أن لا تبقى أسيرة آلياتها السابقة في التفكير والعمل، وأن تستنبط من تجارب الأمة العربية، ومن التجارب العالمية، التي مارست النضال الشعبي المسلح، دروساً وعبر، وهي وحدها التي حققت انتصارات للشعوب. ومن هذا المنطلق كنت أمارس دوري في جنوب لبنان المحتل، منذ أوائل السبعينيات.
وقياساً على اعتناقي استراتيجية حرب التحرير الشعبية، فكراً وممارسة، لم تصبني المفاجأة عندما اندحر العدو الصهيوني عن أرض الجنوب، بل ما شعرت به هو الفخر واجتاحتني موجة الفرح العارم، وجعلتني أقتنع –أكثر فأكثر- بأن البندقية والعبوة الناسفة تواجهان أحدث المعدات العسكرية وأكثرها تعقيداً. فما حصل في لبنان، هو ذاته ما سيحصل في العراق.

8-كيف تنظر إلى العلاقة بين واقع الثقافة العربية والعولمة؟ وما هي أسباب القصور في الثقافة العربية التي تحول دون مخاطبة العالم الغربي؟
-إن الثقافة العربية هي كعك من عجين المنهج المعرفي الذي تستند إليه. وللعبور إلى المنهج المعرفي الصحيح لا بُدَّ من تأسيس حركة نقدية فكرية على شتى المستويات. وهي الانتقال من تكديس المعارف إلى إنتاجها. فالحركة الثقافية العربية، هي حالة من التكديس الثقافي؛ ولم ترتق –حتى الآن- إلى مؤسسة فكرية إنتاجية لها خصوصيات قومية تستفيد من مناهج الآخرين.
إن الثقافة العربية حركة مستهلكة، سواء من الموروث أو من المستورد. وهي لم تتجرأ –حتى الآن- على نقد الموروث إما لعجزها عن النقد أو لخوفها ممن صنَّموه؛ وهي قاصرة عن نقد المستورد لانبهارها بنتائجه على حركة المجتمعات التي أنتجته قبل تصديره. والاستناد إلى حركة نقدية للموروث، والحضارة العربية مليئة بالموروث الذي نعتز به، كما هي مليئة بالموروث الواجب نقده والخروج من أسره، مسألة أساسية في حركة بناء معرفي سليم، لأن ما لا تنقده سيبقى ذا تأثير على الثقافة المتداولة.
لقد تفاعلت معظم الحركة الثقافية العربية بالبنى المعرفية العالمية ذات الاتجاهات في العولمة السائدة، كما بناها خدَّام العولمة بمضامينها الاقتصادية، وراحوا يبثُّون تلك الثقافة من خلال امتلاكهم لمعظم وسائل الإعلام والتثقيف. بينما بقيت الأقلية، التي تنشد التغيير، قاصرة -وفي أكثر الأحيان- لأسباب موضوعية، عن مواجهة ضخامة القوى التي تنشر فكر العولمة الاقتصادية وتروِّج له.
وهنا تستحضرني فكرة المقارنة بين اللا توازن على صعيد الإمكانيات العسكرية في الصراع بين الجيوش، مع واقع اللاتوازن على صعيد الإمكانيات التسويقية على الصعيد الثقافي. وهنا يرتفع السؤال: هل على الحركة الثورية العربية، فكرياً وسياسياً وإعلامياً، أن تستسلم أمام واقع اللا توازن بينها وبين قوى العولمة الاقتصادية؟
إنني أرى أن وسائل استعادة التوازن على الصعيد العسكري تأتي من معادلة (النظامي – الشعبي)، تؤدي إلى تعزيز ثقة الشعوب بمقدرتها على المواجهة الشعبية للآلة العسكرية الحديثة، وهذا ما سوف ينتج ثقافة جديدة بوسائلها ومقاييسها ووظائفها. وإذا ما نالت الشعوب ثقتها بأنها تستطيع أن تحقق إنجازات لم تستطع أن تصل إلى تحقيقها بالوسائل التقليدية التي أسرتها الثقافة العربية التقليدية في داخل أسوارها، فهي تُعدُّ –بلا شك- نقلة نوعية وثورية في بنى المعرفة العربية وفي بناها الثقافية وفي إمكانية انعكاس تلك الثقة على إمكانية تحقيق تغيير في الداخل على شتى الصُعُد، إذ يصبح بإمكان الشعوب أن تبتكر وسائلها الثقافية والمعرفية البسيطة لمواجهة الواقع السياسي لمعظم الواقع الذي يعاني منه النظام العربي الرسمي.
وهنا تأتي المقاومة الشعبية العسكرية وغيرها ضد قوى الاحتلال عاملاً مهماً في توفير بناء معرفي وثقافي شعبي يلعب دوراً مؤثراً في الصراع من أجل التغيير في الداخل.
بيروت: حسن جوني
***


المقابلة كما نشرتها المشاهد
(41): حسن خليل غريب: لتحقيق وحدة الفكر للأمة العربية على الثقافة العربية الانتقال من تكديس المعارف إلى إنتاجها
المشاهد السياسي: العدد (452)، تاريخ (7 – 13/ تشرين الثاني 2004م).
يسعى الباحث والمفكر اللبناني حسن خليل غريب، في بنية أبحاثه الهادفة إلى قراءة معاصرة وصحيحة لإشكالية العلاقة بين العروبة والإسلام، إلى تحقيق وحدة الفكر والبناء السياسي الداخلي للأمة العربية في مواجهة العدوان الخارجي. كما يشدد على ضرورة انتهاج الباحثين القوميين والإسلاميين والأمميين على السواء، منهج البحث الأكاديمي في سبيل تحديد هوية للأمة العربية لكي لا تصبح مشرذمة مقسمة، ولكي تتفاعل مع القوميات الأخرى.
أبحاثه تعدَّت الثمانية، وتحدثت عن العروبة والإسلام، والردة في الإسلام، وعن الماركسية والأممية، وعن التفاعل بين القومية العربية والقوميات الأخرى. ومؤخراً صدر له كتابان عن المقاومة الوطنية العراقية، تحدَّث فيهما، ومن رؤيته، عن الدور الفاعل الذي تقوم به هذه المقاومة لدحر الاحتلال الأميركي، ولرسم صورة جديدة لخارطة العالم العربي.
التقته مجلة «المشاهد السياسي» في بيروت، وكان الحوار التالي:

* تعددت أبحاثك العلمية وتنوعت بين المذهبية والإسلامية والقومية والماركسية؟ لماذا هذا التنوع؟ وأين تجد نفسك؟ وما هو الأقرب للتعبير عن تطلعاتك؟
-تنوَّعت العناوين ولكن وحَّدتها الرؤية والزاوية الفكرية التي أستند إليها. ومن الضروري أن تتقارب تلك التنوعات والتعدديات من خلال حركة حوارية جدية بينها. فإذا كانت التعدديات دليل عافية وصحة، فإنها تتحول إلى عبء وحاجز إذا لم تتفق حول مشروع سياسي يكون الجامع بينها، والمعبِّر عن مصالحها، وينظِّم حركتها نحو الوحدة. فالتيار القومي سيتحول إلى عبثية نظرية إذا لم يمتلك رؤية سياسية. وإذا لم ترق بدورها إلى مشروع يوحد بين شتى أطياف المجتمع ستصاب بالانقراض. ولأن التيارات الفكرية على الساحتين الوطنية والقومية متعددة، وينتج عن تعدديتها الفكرية تعددية بمشاريعها السياسية، وإذا أصر كل تيار فكري على مشروعه السياسي، يعني أن على المجتمع الوطني أو القومي سيتشرذم إلى دويلات فكرية سياسية متنافرة. وهذا ما يتناقض مع بناء مجتمع وطني على قاعدة وحدوية. وهذا ما سوف يقود الأمة إلى عدة من الكيانات السياسية، فنسترجع بها عصر الدويلات المتناحرة التي عرفها العصر العباسي، لكل دويلة بناء ديني أو مذهبي أو عرقي، ومنها تسللت القوى الخارجية للقضاء على ما كان يُعرَف بالإمبراطورية العربية - الإسلامية. وفي رأينا، أن مقياس مصداقية الوحدوية عند أي تيار فكري، ديني، أو مذهبي، أو سياسي هو مدى صدقه في العمل من أجل توجيه كل التعدديات الفكرية إلى مشروع توحيد سياسي على المستوى القطري وعلى المستوى القومي العربي.
أما الطريق إلى ذلك فلن يكون ميسوراً ما لم تكن الحركة الفكرية العربية، بشتى تنوعاتها وأطيافها، جادة في الانخراط بورشة حوارية موضوعية وواقعية وهادفة. ولا يمكن للحوار أن يكون هادفاً إذا لم يستند إلى رؤية نقدية. من هذا المنطلق كانت أبحاثي متَّجهة نحو نقد كل المشاريع السياسية الأممية والقطرية: دينية وغير دينية، كتعميق لحركة نقدية عربية تسير بخطى بطيئة، ومن أهم عوامل بطئها أنها إما تسلك طريق التوفيق والمجاملات من جهة، أو أنها تخشى سلوك هذا الطريق باعتباره وعراً من جهة أخرى.
*هل تجد نفسك مقيَّداً في أبحاثك؟ أي هل تجد صعوبات تحول دون التعبير عن آرائك، الفكرية والسياسية؟ وما هي مساحة الحرية التي تتحرك فيها، من حيث الحريات التي يسمح بها النظام العربي الرسمي الآن؟
كثيرة هي العوائق التي تقف في مواجهة الفكر الوحدوي، منها الدينية، والمذهبية، والسياسية، ومشاريع العولمة والهيمنة على المستوى العالمي، ويأتي على رأس كل هؤلاء النظام العربي الرسمي الذي هو نسيج يجمع واحداً أو أكثر من تلك المشاريع التي أشرت إليها. وليس النظام الرسمي العربي – بأجهزته القمعية- هو المذنب الوحيد. وهو إن كان يتحمَّل الجزء الأكبر من المسؤولية، فهو يمثِّل واحداً أو أكثر من التيارات الفكرية والسياسية. ونحن نتناسى أن التيارات الفكرية والسياسية تقمع بعضها البعض الآخر بشتى الوسائل والأساليب، ولا يعني أن وسائلها تتميز بالديموقراطية لأنها لا تستخدم البوليس أو أجهزة المخابرات، فليس البوليس والمخابرات الوسيلة الوحيدة في القمع. فللقمع أوجه أخرى، وهذا ما يطرح على الحركة الفكرية العربية أن تعمِّق وتوحِّد مفاهيمها للديموقراطية. وفي هذا المجال أطرح جملة من الإشكاليات، ومنها:
-هل من الديموقراطية في شيء أن نعتبر الاختلاف بين المواطن والسلطة، على قاعدة الأهداف الأممية، الدينية والمذهبية، وجهة نظر ديموقراطية يمتلك أصحابها الحق في سلوك طريق التعاون مع قوى الاحتلال؟
-وهل من الديموقراطية في شيء أن يستعين المواطن، إلى أي دين أو تيار سياسي انتمى، بالأجنبي في سبيل إسقاط نظام سياسي يدَّعي أنه لم يشارك في اختياره، أو لأن هذا النظام قد أنزل الظلم به؟
-هل من الديموقراطية في شيء أن تهيمن الطبقات والنخب، ذات المصلحة في تجميد وضع الأمة، على شتى وسائل الإعلام المسموع والمقروء والمرئي؟ وأين هي المساحة التي تركتها تلك النخب لقوى التغيير؟ من أين تأتي قوى التغيير بمنبرها الإعلامي؟ من أين تحصل على الإمكانيات التي تؤهلها لامتلاك تلك الوسائل؟
ليس دفاعاً عن وسائل القمع التي يمارسها النظام العربي الرسمي، نقول: ليست مظاهر القمع البوليسي أو المخابراتي النظامية، هي القامع الوحيد على ساحتنا القطرية والقومية، بل تشارك كل التيارات الفكرية والسياسية بوسائل القمع عندما تنغلق على ذاتها وتتصرف على قاعدة امتلاكها لوحدها الحقيقة المطلقة. وهنا تتحمَّل الحركة القومية الفكرية العربية مسؤولية كبرى، خاصة تلك القائمة على بناء فكر فلسفي عربي لا يتأثر بالإيديولوجيات المتعصبة. فهي قد أغلقت على نفسها في أسار أكاديمي صارم، وامتنعت عن التفاعل مع الإيديولوجيات ونقدها.
*هل توجِّه خطابك الفكري إلى الجميع؟ ومن تخاطب أولاً؟
-إنني أحسب أن أجوبتي على السؤالين السابقين تحدد كثيراً من جوانب الإجابة حول هذا السؤال. ولذا أضيف: إن خطابي يتوجَّه أولاً للمفكرين العرب، ولا سيما إلى أولئك الأكاديميين، أن يقوموا بدورهم –وهو أساسي- من دون خوف أو لومة لائم.
وثانياً أتوجه بخطابي إلى كل الحركات الفكرية السياسية، هيئات وقوى وأحزاباً، إلى تعميق فكرها العام، وفكرها السياسي الخاص، وتخرج من بعض عوائق التعصب الإيديولوجي. لأنه ما لم ترتق إلى هذا المستوى، فهي –حتماً- سوف تنتج مؤيدين يتَّصفون بالتعصب والتشرنق والجمود. وتكون النتيجة إنتاج ثقافة شعبية عاجزة عن مواكبة التغيير، وعاجزة عن تحقيق الحد الأدنى من التوجه الوحدوي السليم. وساعتئذٍ سوف تبقى ثقافة كل شريحة شعبية تنادي بوحدويتها على طريقتها الخاصة. وعندما تتشرذم الرؤى التوحيدية على المستوى الشعبي، سوف نبقى في حالة من التخبط والعشوائية التي هي الأساس في أن تسقط بيزنطية كل يوم والبيزنطيون غارقون في خلافاتهم وعصبياتهم وأوهامهم، ويوجِّهون الشتيمة إلى قوى الاستعمار والاستغلال، متهمينها بأنها تحول بينها وبين التقدم والرقي والحضارة!!!

*كيف تنظر إلى العلاقة بين واقع الثقافة العربية والعولمة؟ وما هي أسباب القصور في الثقافة العربية التي تحول دون مخاطبة العالم الغربي؟
-إن الثقافة العربية هي كعك من عجين المنهج المعرفي الذي تستند إليه. وللعبور إلى المنهج المعرفي الصحيح لا بُدَّ من تأسيس حركة نقدية فكرية على شتى المستويات. وهي الانتقال من تكديس المعارف إلى إنتاجها. فالحركة الثقافية العربية، هي حالة من التكديس الثقافي؛ ولم ترتق –حتى الآن- إلى مؤسسة فكرية إنتاجية لها خصوصيات قومية تستفيد من مناهج الآخرين.
إن الثقافة العربية حركة مستهلكة، سواء من الموروث أو من المستورد. وهي لم تتجرأ –حتى الآن- على نقد الموروث إما لعجزها عن النقد أو لخوفها ممن صنَّموه؛ وهي قاصرة عن نقد المستورد لانبهارها بنتائجه على حركة المجتمعات التي أنتجته قبل تصديره. والاستناد إلى حركة نقدية للموروث، والحضارة العربية مليئة بالموروث الذي نعتز به، كما هي مليئة بالموروث الواجب نقده والخروج من أسره، مسألة أساسية في حركة بناء معرفي سليم، لأن ما لا تنقده سيبقى ذا تأثير على الثقافة المتداولة.
لقد تفاعلت معظم الحركة الثقافية العربية بالبنى المعرفية العالمية ذات الاتجاهات في العولمة السائدة، كما بناها خدَّام العولمة بمضامينها الاقتصادية، وراحوا يبثُّون تلك الثقافة من خلال امتلاكهم لمعظم وسائل الإعلام والتثقيف. بينما بقيت الأقلية، التي تنشد التغيير، قاصرة -وفي أكثر الأحيان- لأسباب موضوعية، عن مواجهة ضخامة القوى التي تنشر فكر العولمة الاقتصادية وتروِّج له.
بيروت – المشاهد السياسي
***

مقابلة مع الوطن العربي
(12 كانون الثاني 2007، لم تنشرها)
تناول الباحث والكاتب حسن خليل غريب جملة من المواضيع الفكرية ذات العلاقة بالفكرين الديني والقومي وحاول استشراف مستقبل العلاقة بينهما على أسس موضوعية.
وقد أصدر عن تلك المسائل سبعة كتب من أهمها، كتابا «الردة في الإسلام» أضاء فيه على تكوين المذاهب الإسلامية، تحليلاً تاريخياً، ونقداً نصياً لعوامل الخلافات بينها. كما حاول أن يقرأ تكوين القومية العربية التاريخي، ودور الإسلام فيه، في كتابه (نحو علاقة سليمة بين العروبة والإسلام)، وفيه أطلَّ على المرحلة الحديثة والمعاصرة، وعمل على تحديد أسس الصراعات بين قوى ثلاث (الحركات الإسلامية، والماركسية، والقومية)، تلك الصراعات التي لا تزال تلعب دوراً سلبياً في تسريع التكوين الوحدوي السياسي للأمة العربية، ودوراً سلبياً في إعاقة حالة المواجهة مع القوى المعادية للأمة العربية.
وكان آخر إصداراته كتاب «الجريمة الأميركية المنظمة في العراق»، بعد أن سبقه كتابا: «المقاومة الوطنية العراقية: معركة الحسم ضد الأمركة»، و«المقاومة الوطنية العراقية: الامبراطورية الأميركية بداية النهاية».
كان لمجلة الوطن العربي في بيروت لقاء معه، تركَّزت وقائعه عن رؤيته للواقع الفكري السائد الآن، وعن تطلعاته إلى آفاق المستقبل.

الوطن العربي: في أجواء الأمة العربية الساخنة تلاحظ بوضوح برودة زائدة في الحركة الفكرية القومية، إلى ماذا ترد السبب؟
-إن سخونة الأجواء السياسية في السماء القومية العربية يترافق مع سخونة ونشاط في الأجواء الفكرية المعادية لمصالح الأمة العربية التي تهب عليها من الخارج أو بتأثير منه وتشجيع، مترافقاً مع سخونة من حالات العداء الفكري الموجَّه من بعض الحركات السياسية والحزبية العربية إلى القومية العربية، محتوى فكرياً وسياسياً. أي أن حركة الفكر العربي التي تروِّج لـ«التغريب الثقافي» تتفق من دون تنسيق أو لقاء مباشر مع بعض حركات الفكر العربي التي تتجه به خارج الإطار القومي لتجعل منه فكراً أممياً، وهو الذي تمثله بعض الأصوليات الفكرية الدينية والعلمانية الأممية. أما الأصولية الأولى فاتخَّذت وجه الحركات الدينية السياسية، وأما الثانية فاتَّخذت وجه الأممية الماركسية.
إن حالة الافتراق الفكري بين تيارات عربية أساسية ثلاث، القومية والدينية السياسية والماركسية العلمانية، تجعل الأمة أقل حصانة في مواجهة موجة التغريب، كما تجعل منها أكثر ضعفاً في المواجهة مع الخارج، وفي هذه الحالة الكثير مما تستفيد منه القوى الراغبة في الهيمنة على الأمة والاستيلاء عليها عبر أكثر من وسيلة ومن أهمها اجتثاث الفكر القومي.

الوطن العربي: تبدو كأنك في واد وواقع الأمة في وادٍ آخر. تخوض الأمة مواجهة عسكرية وسياسية، تتطلب توفير إمكانيات عسكرية وسياسية، فهل الخوض في مسألة التوحيد الفكري توفر للأمة دبابات ومدافع؟
-إن العدوان القادم من الخارج له إستراتيجيته العسكرية لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية، ويستخدم لتحقيقها كل أسلحته العسكرية والإعلامية والثقافية والفكرية أيضاً، ولن يستطيع ذلك إلاَّ إذا قضى على توق الجماهير العربية إلى الوحدة السياسية، وهذا لن يتم إلاَّ بتبديل الثقافة الوحدوية بثقافة أخرى تناصبها العداء. وتتعاون كل تلك الوسائل من أجل تبديل الفكر الوحدوي ويكمِّل أحدها الآخر، ومن أهم البدائل التي يستخدمها تفتيتية المذاهب الدينية، وكل فكر عابر للقومية. إن التكامل بين وسائله يعني أن جوهر استراتيجيته الفكرية تعمل على أساس تعميق حالة التفتيت السائدة في الأمة من أجل إضعاف وحدتها إن لم يكن إلغاءها، خاصة وأن مظاهر التفتيت وواقعه يكمن في أكثر زاوية: تبتدئ بحالة التمزق المذهبي وثقافة المذاهب، وتمر بحالة التقسيم القطري وثقافة التجزئة السياسية، لتنتهي عند التصارع بين المذاهب الفكرية الكبرى بين قومي يدعو إلى تغليب المصلحة القومية بوحدتها في المواجهة، وأممي ديني وماركسي يقفز فوق الأطر القطرية والقومية ليتعامل مع قوى خارجية تتناقض مصالحها مع المصلحة القومية.
ألا ترى معي أن التفتيت الحاصل بين التيارات السياسية والفكرية الكبرى ينعكس على وحدة المواجهة؟
ألا ترى أن الثقافة القطرية تُبعد القطريين عن هموم وقضايا قطرية أخرى، هذا إذا لم تنتصب خنادق العداء أحياناً بين قطر عربي وقطر عربي آخر، بحيث ينشغل كل قطر بهموم الوطنية وحدها؟
ألا ترى أن الثقافة المذهبية، التي تغلِّب الدفاع عن المذهب على الدفاع عن الوطن، تدفع بالغارقين فيها إلى التعاون مع قوى خارجية ولمصلحتها على حساب مصالحهم وسيادة دولتهم الوطنية؟
إننا نرى بناء على ذلك أن مضمون الثقافة، المبنية على وحدة الفكر القومي والوطني، هي شرط أساسي من شروط المواجهة مع قوى العدوان القادمة من الخارج.
فإذا كانت هذه النتيجة تتوافق مع الفكر الموضوعي النظري، فإن الواقع السائد الآن، يبرهن على صحتها، ومن أهم مظاهرها أن الكثير من الحركات الدينية السياسية تقع في أخطاء التحالفات على حساب أوطانها. فتكون من أهم نتائج تلك الأخطاء أن التعدديات الفكرية تحول مسار المواجهة مع الخارج إلى مسارات المواجهة بينها في الداخل.
واستناداً إلى ذلك لا نرى خلاصاً من حالة التشرذم في المواجهة الدائرة الآن إلاَّ بالانتقال إلى وحدة الفكر، وليس هناك من خلاص إلاَّ بوحدة الفكر على الصعيد القومي.

الوطن العربي: ولماذا تدعو إلى التوحيد على قاعدة الفكر القومي وليس على قاعدة الفكر المذهبي أو الديني أو الأممي الماركسي؟
-من البديهيات أن نرى أن كل مجتمع تعددي يتطلب استراتيجية موحَّدَة تلبي مصالح قوى التعدد فيه، وليس مصلحة فئة واحدة. ولأن ثقافة كل فئة تتعارض، أو تتناقض أحياناً كثيرة، مع الثقافات الأخرى، ولأنه لا يمكن تجزئة المجتمعات الوطنية أو القومية إلى دويلات لكل منها قوانينها الخاصة، فلا يمكن إذاً أن يكون الحل إلاَّ بقوانين عامة تضمن مصالح الجميع، كما لا يمكن على المدى الطويل أن تنصهر تلك التعدديات في مجتمع واحد متماسك إلاَّ بوجود ثقافة واحدة. ومنطقياً لا يمكن أن تكون هذه الثقافة واحدة إلاَّ على قاعدة توحيد الفكر. ولأن ثقافة المذاهب الدينية تشد المذهبيين إلى مرجعياتهم المذهبية حتى لو كان على حساب الانشداد إلى وطنهم، وتشد الأمميين إلى مرجعياتهم الأممية حتى ولو كان على حساب أوطانهم، فهل بعد كل ذلك يجوز ألاَّ نحصر وحدة الفكر إلاَّ بالفكر الوطني أو القومي؟

الوطن العربي: وماذا يبقى للحركات الدينية، أو للطوائف الدينية، من تعاليمها؟ وهل تتنازل هي عنها؟ وأين موقع الدين في الدولة القومية أو الوطنية؟
-إن علاقة الدولة القومية بالدين هي من الإشكاليات الصعبة التي تعاني من البحث فيها تيارات الفكرين القومي والديني ممن يولون اهتمامهم بالتوفيق بينهما. وعلى ضوء النظر إلى حدود العلاقة بين الفكرين، بما يجعل المسافة بينهما أكثر قرباً، نرى وجوب ضمان وجود عاملين أساسيين، وهما:
1-الاعتراف المتبادَل بسلطة كاملة للدولة القومية على المجتمع القومي سياسياً واجتماعياً واقتصادياً.
2-توفير ضمانات تطمئن المتدينين إلى أن عقائدهم لن تتعرَّض للانتقاص من حقوقها أو منعها من ممارسة طقوسها، بل احترامها وحمايتها.
الوطن العربي: كيف نظرت أنت، من خلال أبحاثك، إلى تلك الإشكالية؟
-من البديهيات التي على التيار الديني أن يعترف بها، هو أن عصر الدول الدينية قد انتهى بانتهاء مرحلة التوسع الإمبراطوري، وبدأ عصر جديد هو عصر الدولة القومية. فعصر الدولة القومية أصبح بديهياً لأن قوانين العالم أصبحت محكومة بمفاهيم العولمة. وعلى الرغم من رفضنا للشوائب التي ترافق تطبيق العولمة والنظر إليها، فإن المؤسسات الأممية والإنسانية تعمل على قوننة العلاقات بين الدول، وتُخضِع تلك العلاقات إلى تشريعات وقوانين موحَّدة تقوم هيئة الأمم المتحدة بضمان تطبيقها وحمايتها. ومن أهم أحكامها الاعتراف بسيادة الدول على أراضيها، بحيث يُعتَبر أي اختراق لها منافٍ للتشريعات الأممية، وتُلزم، مبدئياً، منظومة الدول بالدفاع عن أراضي الدولة التي تتعرَّض للعدوان.
ونتيجة لذلك يصبح من المحال أن تفكر أية حركة دينية، ممن يعتقدون بقيام دولة دينية عالمية، أن تبنى دولة دينية مكتملة الشروط الأممية. أما استراتيجيتها ببناء دولة دينية، داخل حدودها الجغرافية المعترف بها دولياً، تحكم بفقه المذهب الحاكم، ففيه من الصعوبات الكثيرة التي يُعتبر عامل العدالة والمساواة مفقوداً بين التعدديات الدينية التي لا تخلو منها أية دولة.
أما عن كيفية العلاقة بين قوانين الدولة القومية وتشريعاتها، من وجهة نظرنا القومية، وبين تطبيق قوانين وتشريعات تحفظ للتعدديات الدينية حقوقها، فتنطلق من الاعتبارات التالية:
1-إن معرفة مصير الإنسان بعد الموت هو من أكثر الإشكاليات حدة، ومن أكثرها تأثيراً في التاريخ البشري. وقد لعب العامل الديني، ولا يزال يلعب، التأثير الكبير على ثقافة البشرية منذ وجود الإنسان على الكرة الأرضية حتى الآن. سواءٌ أكان الأمر يعود إلى التاريخ السحيق أم التاريخ المعاصر. ولهذا لا يمكن لأي فكر أن يلغي الدين كأكثر الحاجات الروحية الضرورية للبشر. فالدين، إضافة إلى ذلك، كان من أكثر القضايا الفلسفية انتشاراً واهتماماً به. فلهذا السبب يُعتبر إلغاء الظاهرة الدينية ضرب من ضروب المستحيل. وهذا ما أراه صالحاً ليشكل عامل التطمين الأول للمتدينين.
2-في عصر العولمة من ضمن ظاهرة انتشار مئات الأديان أيضاً، أصبح من المستحيل أن تفرض دولة ما نظاماً دينياً أحادي الجانب، فمن يريد أن يفعل ذلك، لا يمكنه أن يتجاهل القوانين والتشريعات الأممية التي تُلزم الحكومات أخلاقياً بالاعتراف بحقوق الأديان والمذاهب من غير الدين أو المذهب الحاكم.
3-في الدولة القومية، المتعددة الأديان والمذاهب، تعترف الدولة القومية بحرية الاعتقاد الديني وتحترمه وتحميه، لكنها لا تستند في أنظمتها وتشريعاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى فقه الأديان والمذاهب وتشريعاتها الخاصة، إلاَّ إلى كل ما هو مشترك ويتعلق بالقيم الإنسانية العليا، وتكافح كل ما فيه من تعاليم ومعتقدات تتسرب منها عوامل التفرقة بين أبناء المجتمع الوطني أو القومي الواحد.

الوطن العربي: لكن هل هناك حركات دينية لا تزال تعمل من أجل بناء أنظمة دينية سياسية؟
-إن الحركات الأصولية الدينية، تنتشر في شتى المجتمعات، وفي شتى الأديان. والكثير منها، سواءٌ أكان في الشرق أم في الغرب، تنشط من أجل إحياء مشاريعها مما تستند إلى تسميته بـ«الأوامر الإلهية» لخوض المعركة الأخيرة بين ما تسميه «قوى الخير، وقوى الشر»، وتلك مظاهر تبرز واضحة فيما يدور من صراعات دموية تشهدها أمتنا العربية بشكل خاص، وتشكل المسرح الأساسي لها.

الوطن العربي: ولكن هل يمكن الوصول إلى حلول لتلك الصراعات الدينية؟
-إن فكرة ما يعتبرونه مقدَّساً، المتغلغلة في دعوات تلك الحركات، هي السبب في ذلك. ولكل حركة منها مقدساتها التي تحقنها في عقول المنتمين إليها، ومن أهم مخاطرها أنها تحقن أتباعها بأنه لا خلاص لأنفسهم في مرحلة ما بعد الموت إلاَّ إذا قاتلوا من أجل تطبيق تلك التعاليم وماتوا من أجلها.

الوطن العربي: إذا كان الأمر كذلك، فهل ترى حلاً لمشكلة يبدو أنه يقترب من حدود المستحيل؟
-إن العقل البشري لم يُصب باليأس من معالجة أية مشكلة مهما بلغت درجة التوهم بأنها مستعصية على الحل. وإنني أرى حول هذه القضية أن من يُعقِّد البحث عن الحلول هم قادة الحركات الدينية السياسية أنفسهم. فمنهم من يستندون إلى تأويل النص الديني بما يخدم اتجاهاتهم الفكرية السلبية في تكفير الآخر، أي الحكم بحرمان روحه من النجاة بعد الموت على قاعدة «الفرقة الوحيدة الناجية»، ويهملون النصوص المُحكَمة أو التي يمكن تأويلها، والتي تفسح الطريق أمام الآخر بخلاص نفسه، واعتبار أن أي خيار روحي يمكنه أن يشكل خلاصاً للنفس في الآخرة. فمتى انتهت قواعد الحوار بين الأديان والمذاهب إلى نتيجة مشتركة يعترف فيها الدين الواحد للآخر، أو المذهب الواحد للآخر، بأن تعاليمه وخياره الروحي يشكلان طريقاً لخلاصه، تبدأ إشكالية المقدَّس خطوتها الأساسية نحو لجم جموح الحركات الدينية السياسية من التأثير على أتباعهم. ومن بعدها تبدأ الخطوات الأولى الأساسية في ترسيخ أسس لمرحلة تعايش فعلي بين أبناء المجتمع الوطني الواحد، أو المجتمع القومي الواحد، إذ أنهم ساعتذاك، بعد أن يطمئنوا إلى أن مصيرهم بعد الموت واحد، تبقى مسألة التعاون على إنتاج سعادة الجميع في حياة الدنيا سالكة وميسورة.

الوطن العربي: وهل ما يتم تسميته في هذه المرحلة «إرهاباً» عائد إلى ثقافة الحركات الأصولية؟
-إنني أعتقد أن الإرهاب ليس إنتاجاً أصولياً دينياً بقدر ما هو إنتاج سياسي، تستخدمه بعض الحركات الأصولية الدينية من أجل غرض سياسي، كما تستخدمه الحركات السياسية العلمانية أو بعض الأنظمة السياسية من أجل تحقيق أهداف لا علاقة لها بالدين، وتستخدمه مافيات سياسية أو اقتصادية بعيدة كل البعد عن الدين والأخلاق الإنسانية.
وعلى الرغم من أن بعض الدول الرأسمالية أنتجت وشجَّعت واستخدمت بعض الحركات الدينية السياسية في تنفيذ مخططاتها، إلاَّ أنه بعد أن انقلب بعضها على أوامر تلك الدول تمَّ تعميم ذلك المصطلح، وألصقته بتلك التي انقلبت عليها، بينما الحركات التي لا تزال خاضعة لها لم تنل شرف شمولها به. كما أن الحركات المافيوية نجت أيضاً من إلصاق التهمة بها، لأنها على تنسيق دائم بين الحكومات التي تستفيد منها في كل ما تقترفه من جرائم.
بيروت : حوار وتصوير حسن جوني


قراءة في اشعار هدى محمد
7/ 6/ 2004.
هدى محمد في هلوسات ثورية عاقلة
الأخت هدى
لقد قرأتك من خلال القصائد التي نشرتها في »دورية العراق« وأنا قلَّما أقرأ الشعر، كما ليست لديَّ ملَكَة نقده. وإنما غامرت في القراءة، يشدني إليه أن امرأة تكتب شعراً في زمن المقاومة. ومرد عجبي في هذا الزمن هو أنه عزَّت فيه الرجولة على الكثيرين، فأشاحوا بوجوههم لكي لا يروا العار اللاحق بالأمة، أو أنهم إذا نظروا فإنهم لن يميزوا بين معالم العار ومعالم الشرف. وأشاحوا بوجوههم عن معالم البطولة التي يتم تسجيلها في العراق وفلسطين، لأنهم لا يريدون أن يروا جبنهم وتخاذلهم.
كان لي في مغامرة القراءة فائدة كبرى في أنني رأيت أن معاني الكرامة أمر يعيه الرجل والمرأة معاً فتتكامل بوعيهما رؤية الدفاع عنها. ولكنهما يتمايزان في أن المرأة عندما تعي أنها ليست الضحية التي على الرجل أن يدافع عنها ويحميها، بل لديها المقدرة على أن تحمي نفسها وتدافع عنها، فهي لن تنتظر »المعتصم« دائماً ليحميها ويسترجعها من السبي، بل قد تتحوَّل هي نفسها إلى »معتصم« يحمي الرجال الذين تحولوا إلى »فحول مخصية« إما بقيادتهم إلى الموت خجلاً من خصيهم وصمتهم، أو أنها تساعدهم على أن يثوروا على »خاصيهم« أو »آكل« ألسنتهم.
كان مما شدَّني إلى شعر هدى محمد أنها عشقت البطولة، البطولة القائمة على رفض الواقع الآسن. وانتقلت من ميدان الندب النقدي إلى ميدان استفزاز الطاقات الشعبية الكامنة في بنيتنا الفكرية لتعطي أفضل ما عندها لمواجهة العدوان الظاهر في وجهين: وجه »الناهبين الغاصبين« القادمين من الخارج، ووجه »الساكتين المشتتين« القابعين في الداخل.
جميل أن يترك الرجال الندب فيثوروا للمحافظة على كرامتهم، والأجمل أن تطلِّق المرأة »الولولة والنحيب«، والصورة الأكمل أن يشبك الرجل والمرأة أيديهما ويتحوَّلا إلى كتلة من الثورة على الظلم وسداً ضد الغزو الخارجي، وبها يتحول »المعتصم العربي« إلى رمز آخر، تأخذ فيه المرأة العربية حصتها من ذلك الرمز.
في قصائدها تنبت آلام هدى محمد في وسط بيئة من »الصامتين والمقعدين« الذين يتكاثرون كلما ألمَّ بالأمة عارض جديد. وهي لا ترى المُقْعَد أنه الذي حبسه المرض الجسدي على كرسي، كمثل ما ترمز إليه حالة الشهيد الشيخ أحمد ياسين، بل المُقعَدون هم الذين أعاقهم افتقادهم للحس الوطني والكرامة الوطنية. ومنه تتطلَّع إلى مثال الشيخ أحمد ياسين لتراه رمزاً للثورة التي ملأت عقله ووجدانه وحبه للشهادة وهو يرى وطنه خائر القوى من وطأة النعال الصهيونية. فترى في المعاني التي يختزنها ذلك الرمز »حارس الأقمار« مبتسماً لأنه وصل إلى قناعة أن الموت والحياة يتساويان في ظل الخنوع والاستسلام لإرادة الغاصب المحتل، فاختار أن يكون ميتاً ولا كالأموات، بل ليشق منفذاً للخلاص أمام اللاحقين من ثوار فلسطين. وقد أوصلته تلك القناعة إلى أن يكون عند هدى محمد »حارس الأقمار مبتسماً«. وبمثل تلك الإشارة الفنية تبقى روح الثورة أمل المستقبل الجديد.
في مقابل رمز الثورة والدفاع عن الكرامة الوطنية تبرز حالة الأنظمة الرسمية واضحة في مسخها لكل قضايا الأمة الساخنة، كما حصل في مؤتمر القمة العربية الأخير، الذي به تناسى أمراء وملوك وأولياء أنظمة رسمية كثيرة كل قضايا الأمة الساخنة التي تلسع وجه الشعب العربي وجلده ومعدته وكرامته، واختزلوها في حفنة من الأوامر الإصلاحية القادمة على دبابة جورج بوش، وبها تحولنا إلى أننا »ليس لنا هم وقضية«، فتحولت كل همومنا إلى أنه ليس لدينا إلاَّ »الإصلاح قضية«.
لقد حملت إلينا دبابة »أشباح الكهوف« كل المآسي، فتحوَّل القادة العرب –من مشرق ومغرب- إلى أدوات تطيع وتأتمر بالرسائل المحمولة على ظهر دبابات الأشباح، تُؤمر فتنصاع، فتحولوا إلى »ساقطين مشتتين« يتآكلهم العار، وتحوَّلت »جمرة الرجولة« عندهم إلى رماد، فلم يعد يؤثر فيها لهيب الأمة التي يزداد اشتعالها في كل أقطارها من المحيط إلى الخليج.
لكن وضوح الرؤية الثورية عند هدى محمد لا تخمدها مظاهر الضعف تلك، بل ترى أن برودة الرماد في بواطن »الساقطين المشتتين« تحوَّلت إلى نار عند الأحرار في الفلوجة، ورفعوا راية المجد بزنودهم، تلك الزنود التي ابتكرت من شدة شعورهم بالكرامة سلاحاً جعلت المتخاذلين يكتوون بنار العار، وجعلت من قرون »أشباح الكهوف« تتكسَّر تحت أقدامهم. وبمثل هذا التفاؤل الثوري عند هدى محمد ج علت من مهر المرأة رمزاً مقداره قطرة من دماء الغزاة.
لم تنتظر هدى محمد، برمزها الثوري لدور المرأة، أن تجعل من المرأة »حاضرة ناطرة« لتستلم مهرها من الرجل أي رجل، بل جعلت منها زنداً يلاحق مهر وطنها وكرامتها، فلديها سلاح، وهي تجيد استخدامه. وإذا افتقدت الماجدة وجود الرجال فإنها تعرف »شيم العروبة من نساء، لمَّا توارى تحت جبنهم الرجال«، فهي كريمة وأصيلة تعرف أنها تستطيع أن تذل القاهر الغازي ولو بضربة من نعالها. فنع الها أشد تأثيراً من كل الأسلحة المكدَّسة في المخازن الرسمية، فالغازي باعها لتلك الأنظمة ليستفيد من أثمانها على شرط أن تبقى أسيرة المخازن.
لقد أقسمت هدى محمد، وهي ترى أن »العصماء العربية« لن تنتظر –بعد الآن- مهرها من »الفحول المخصية«، إنها لن تبكي حال الماجدة العربية، فالماجدة تشبَّعت بالعفاف والطهارة، كما تشبعت بروح اللبوة التي تعرف كيف تدافع عن أشبالها وعرينها، ولكن هدى محمد راحت تبكي »شعوب القهر والدونية«. فتحولت الثورة إلى رمز لا يجيد امتلاكه الرجل فحسب، وإنما المرأة هي شريك بالثورة وقد نجحت في دورها أيما نجاح.
فإذا كانت الثورة، عند هدى محمد، رمزاً عربياً ماثلاً في التُراث العربي، فإن رمز »بابل« العراقية له خصوصية عندها حيث تشتعل أكبر ثورات العالم على أرضه اليوم. وكأن الشاعرة قد جعلت من المقاومة العراقية ماجدةً للعرب في تاريخهم المعاصر، فبأبطالها تحول ماء دجلة والفرات ناراً فوق رأس الغاصبين.
هدى محمد، كماجدة عربية، تحمل راية الكرامة والشجاعة، فتنتخي لماجدات العراق وفلسطين، وتقسم –والحال الثورية كما هي عليه الآن- أنهن لن يتحولن إلى سبايا، ما دامت أرض العراق وفلسطين عريناً يواجه أسوده ولبواته الغاصبين من الخارج والقابعين في أوكارهم وجحورهم في الداخل، الساكنين في القصور وما هي بقصور، تحرسهم عصابات الناهبين من كل حدب وصوب.
بوركت هدى، ولا تيأسي في أن تري الطريق وعراً لقلة سالكيه، فأنت زرعت أملاً كبيراً في إمكانية انتقال المرأة العربية من عصر إلى عصر. وسجلت في سجل الرجال طريقاً طالما تاه عن سلوكه الكثيرون من رجال ونساء.
5/6/2004
***
رد هدى محمد
21/ 6/ 2004.
الأخ الكريم المقاوم حسن خليل غريب.
السلام عليكم وبعد
أشكرك لك مقالك التحليلي الرائع حول ما أنشره في دورية العراق، ولا اتفق معك أنك لست ( ناقدا) فالنقد هو التفكيك والتحليل من نقد الدراهم أي فرقها وعدّها. ويوجد من المحترفين من ينقد أشعاري نقد لغوي ، ولسوف يتحدث عن الصور والبلاغة واللغة والوزن وسائر القوانين الآخرى، وهذا أمر يحترم، لكن تقييمك عندي له وزن آخر تماما لانك لمست لب الشيء وقلب الجوهر، وفهمت كل الفهم الرسالة التي أحاول أن أبثها.
ما أهمية الأديب اذا كان دورة ينحصر في العويل والبكاء ، أجل لا بد ان يعبر عن آلام الأمة والناس ، لكن يجب أيضا ان يلتزم بأهداف أهم وأكبر، كتثبيت معنى الهوية مثلا، كترسيخ حقيقة التلاحم على كل الاصعدة بيننا نحن الشعوب العربية ( شاء من شاء او اباء من اباء) والاهم حاليا محاربة ثقافة الهزيمة والانكسار والسلبية التي تتفشى بيننا وفق خطط موضوعة بدأت قديما ولن تنتهي قريبا.
صورة الفقير الذي لا يجد الخبز وهو عار وبردان لكنه ينام فوق كنز ولا يعرف كيف يستخدمه ، هذه اقرب صورة لحالنا العربي.
الأعداء ضيقوا الخناق كثيرا، وتأثيراتهم القبيحة تفشت في ديارانا ابتداء من الجرائم الفوق بشعه في فلسطين والعراق انتهاء بصور شبابنا، وهم يضعون المكياج ويبكون ويتحاظنون في صورة قبيحة جدا، اقسم يقف لها شعر جنب كل كريم، في السوبر ستار وغيرة من ثقافة ( الدعارة ) الفكرية، والتفريغ المقزز.
تحت كل هذا الثقل ومع وجود المؤهلات الجوهرية التي لا يستطيعون سلبنا اياها محاله، توجد شرارة، وكل شرارة لا بد لها من نفخ ومداراه وأغصان حتى تشتعل وتكبر، اذا لم تولد شرارة الثورة الآن فإنها لن تولد قط، نحن في أكثر المراحل حرجا... لحظات المخاض التي تحدد حياة ميلاد جديد او موت في رحم، وكما ان الشرارة بداية النار الكبرى وكما ان الولادة بداية الحياة والمشوار طويل جدا بعدهما، ذلك نحن اليوم.، لعل دورنا اليوم في النفخ اللطيف في الشرارةو تنبيه الأخرين انها هناك. نحن في مرحلة الإعلام والإفهام، وتحديد الإنتماءات. نحن في مرحلة تغيرات جذرية وانقلابات خطيرة، أرادوها ان تكون لهم ، لكن نستطيع ان نقلبها عليهم.
سيد حسن خليل غريب، انا سعيدة جدا ان شخص واحد بأقل تقدير فهم رسالتي، وهي صيحة في صحراء كبيرة، واعتبر نفسي في بداية بداية المشوار.
ويكفيني فخرا ان انجح في خلق أو تجديد إحياء رسالة واضحة المعالم تحمل هوية خاصة متفردة، في عالم الابداع. فالابداع بلا رسالة كالسراب يحمل شكل الماء ولا يروي أبدا.
وفي ظل ثقافة تهميش الأساسيات وتأسيس الهامشيات، فإن المشوار صعب، لأن الحياة دائما أصعب من الموت على أنها ألذ.
ولعل زبدة مقالك تكمن في فقرتين اولهما: شدَّني إلى شعر هدى محمد أنها انتقلت من ميدان الندب النقدي إلى ميدان استفزاز الطاقات الشعبية الكامنة في بنيتنا الفكرية
والأخرى: لكن وضوح الرؤية الثورية عند هدى محمد لا تخمدها مظاهر الضعف تلك، بل ترى أن برودة الرماد في بواطن »الساقطين المشتتين« تحوَّلت إلى نار عند الأحرار في الفلوجة.. الخ
وهنا مفصل آخر، فالحق أن العدو تمادى لدرجة جاوزت الاحباط ووصلت للغليان، وهذا أمر لا بد للأديب صاحب الرسالة أن يغذيه.
وآخر القول انه لا بد للاديب ان يكون موضوعيا دون تنازل يبتعد عن التطرف على ان لا يتخلى عن مقدار ذره من هويته، يخلق توازنا نفسيا عند المتلقي ليصل لهدف واحد يختلف عن التحفيز اللحظي وهو ( بث الوعي الجوهري)
ولك جزيل الشكر، ولقد كان لمقالك عليّ تأثير المطر على رمل الصحراء.
هدى محمد
***

نقد قصيدة مناحة النخيل
14/ 7/ 2004
مدخل إلى رؤية صدام حسين لمعركة التحرر القومي
وهل تتحول السياسة إلى قصيدة شعرية؟
وهل السياسي شاعر رومانسي يغزل وطنه ومستقبل وطنه كما يغزل الشاعر قصيدته؟
وهل هناك علاقة ما بين رؤية على مثال قصيدة حب للوطن ينشدها شاعر ورؤية على مثال مصنع يُنتج وبندقية تقاوم كما يخطط لها السياسي؟ وهل ينفصل الإنشاد والتخطيط عن بعضهما لدى مواطن يخطط لحياة دنيوية سعيدة يرى فيها نفسه محمياً من غائلة الجوع وغائلة العدوان؟
من الغرابة أن يبني كاتب رؤيته بجمع الروحي مع المادي، وقصيدة الحب مع لقمة العيش. أن يوازن بين قلبه ومعدته. أن يفكر بهما معاً. أن يخطط لحمايتهما من الاغتيال والاغتصاب والعدوان، ضد كل غوائل القدر!!
لا معدة بدون كائن حي، ولا قلب من دون إنسان، ولا إنسان من دون وطن، ولا وطن من دون محبة، ولا محبة لوطن من دون شجاعة الدفاع عنه.
رومانسي هذا الذي يجمع كل تلك الغرائب والعجائب. وإنما حلاوة الحياة بغرابتها. وهل الحياة إلاَّ لحظة يشعر بها الإنسان بأمان من غائلة الجوع والعدوان؟. وهل الأمن الغذائي وسيادة الوطن منفصلان؟ وهل الروحي والمادي متناقضان؟ وهل يعيب الروحي أن يكون مكملاً للمادي؟
الخطر والأمن متضادان. فالخطر حافز لضمان الأمن. فلا إنسان سعيد من دون أمنين، مادي وروحي. فالخطر صنو للتعاسة، والأمن صنو للسعادة.
وفي مجتمع بشري ليس الأمن مطلباً جماعياً فحسب، بل مطلباً فردياً أيضاً. ولأن الأمن ذو علاقة مع أرض، أصبحت الأرض روحاً، فتحوَّلت الأرض إلى رمز للوطن، حمايته تعني توفير الأمن للإنسان، وهنا يأتي دور الروحي في تحفيزه لكي يبني موجبات أمنه. ومن وظيفتيهما تتكامل قصيدة الشاعر مع تخطيط السياسي. فالسياسي شاعر قبل كل شيء، وللشعر وظيفة سياسية.
في حسم النصر لأحدهما، الأمن والخطر، يتقرر مصير سعادة الإنسان وبؤسه، ففي حدود الوطن الآمن تنتعش السعادة وتزدهر.
تلك قصيدة السياسي، وهي ليست قصيدة رومانسية، بل هي في منتهى الواقعية؟ وإذا كان الشاعر يأتي بالسعادة على جناح كلمة حلوة، ويحث على توفير الحوافز أمام السياسة، فقد يأتي بها السياسي على جناح مصنع يُنتج ما يلبي حاجة البشر المادية وجناح سور يحمي من عوامل الخطر.

فيتلاقى الشاعر والسياسي حول الغاية من سر الوجود الوطني. ويتكاملان برؤية السعادة من مناظير تعبيرية متوازية. فيلتقيان على حب وطن ويزرعان الحوافز للدفاع عنه، لذا خلَّد التاريخ الشاعر الذي زرع حوافز حب الوطن إلى حدود الموت من أجله، والسياسي الذي آمن بالموت من أجل الوطن فسار في طليعة المدافعين عن حياضه.
هل تنطبق المقارنة تلك على شعر هدى محمد؟ وهل هي إلاَّ سياسية تعبِّر عن إيديولوجيتها الوطنية بالكلمة المفعمة بالثورة؟
يحلو لبعض المثقفين الليبراليين أن يصفوها بالرومانسية، والرومانسية تعني –بمنظورهم- مذمَّة لكل العرب الذين يدعون إلى حماية أوطانهم والدفاع عنها بكل الوسائل المتاحة في مواجهة كل صنوف التكنولوجيا الغربية. وردحوا بالدفاع عن الوطن على طريقة الشعراء. وأصبحت عندهم محبة الأوطان حلماً مذموماً. ولم تعد تعني وسائل الدفاع عندهم إلاَّ صاروخاً وطائرة تقصفان، ومدفعاً يمهد ساحة الحرب أمام الدبابة التي تحتل أو تدافع. وافتقدوا جانب الإحساس بالوطنية والسيادة الوطنية والكرامة الوطنية. وبمثل هذا الإحساس لم تبق الأرض عاملاً يشدهم إلى الدفاع عنها، وافتقدوا حس الدفاع ضد العدوان ودعوا للاستسلام له ما لم تقابل طائرة طائرة، ودبابة دبابة، ومدفع مدفعا. فأصبح الموت –عندهم- من أجل الوطن قصيدة رومانسية تضر أكثر مما تنفع. وكثيراً ما شبَّهوا السياسي الذي يدعو للدفاع عن الوطن من دون تأمين مستلزمات التوازن العسكري التقليدي بالرومانسي. فتحوَّل صدام حسين، مثلاً، إلى رومانسي يقود شعبه إلى التهلكة إذا ما اختار طريق الدفاع عن سيادة العراق من دون تأمين مستلزمات القوة الموازية للقوة الأميركية.
نظرت هدى محمد إلى وطنها الكبير، كالحب: »الأحلى والأغلى«، والمثل »الأعلى والأكبر«. وجعلت من ترابه شخصاً تخاطبه، شخصاً تحوَّل إلى قطعة من وجودها. ورداً على كل الذين افتقدوا كل علاقة روحية بالوطن، حوَّلته إلى روح وعقل وقلب قائلة: »لن يفهمني غير ثراك«. فربطهما التفاهم بعلاقة مصيرية لن تحيا بدونه ولن يحيا بدون دفاعها عنه. وهنا نتساءل: وهل يحيا الإنسان بدون وطن؟
إن الوطن رمز روحي لن يكتمل إلاَّ بوجود عقد بين إنسان حي وأرض جامدة، يعطي كل واحد للآخر معناه، فيتبادلان الحماية، فيصبح أحدهما صنواً للآخر. وإذا انفسخ العقد بينهما، لسبب أو لآخر، لأصبح من المنطقي أن نلغي من قواميس المفاهيم الإنسانية مصطلح »الوطن«، و»الوطنية«، وبإلغائهما تتكسَّر الحدود أمام كل طامع وغازٍ ومالك لقوة الفتح والاغتصاب.
هنا تتَّضح الفروقات بين إنسانين: من يدعو إلى بقاء علاقة الحماية المتبادلة بين الأرض/ الوطن والساكن عليها مهما غلت التضحيات. وإلى من يدعو إلى فتح كل الأبواب أمام جحافل الاغتصاب والاحتلال بحجة افتقاد عوامل الحماية المادية.
إنحازت هدى محمد إلى الصف الأول، ودعت إلى قيام الإنسان من أجل القيام بموجبات شروط العقد بين ثنائية (الأرض – الإنسان)، وأقسمت مع من يقفون إلى صفها قائلين: »ولسوف نقاوم يا وطني ولسوف نموت لكي تزهر«.
ولا يرتبط فعل المقاومة عندها بعامل التوازن في القوى المادية، بل تقول، على الرغم من أنني »عزلاءٌ .. ما عندي خنجر«، »سأقتل نفسي يا وطني بسلاح ٍ أخطر«، وليس هذا السلاح إلاَّ »بمتاعب عشقك يا وطني وفنون هواك«..
أوَ ليست تلك عبثية؟ وهل عشق الوطن يوازي رصاصة واحدة؟ أو دبابة واحدة؟ أو طائرة واحدة؟
علاقة الحب بين الأرض والإنسان، عامل أساسي في أن يقاتل الإنسان من أجل الأرض، وبدون علاقة حب بين الإنسان والإنسان لن نحصل على تعريف واضح عن التضحية التي يبذلها الحبيب من أجل حبيبه. وبدون غريزة الحب بين الأبوين والأبناء سيفتقد الأبوان أية دوافع أو حوافز للتضحية من أجل أبنائهم. ومن دون علاقة حب بين الأرض والإنسان ستبقى الأوطان مشاعاً لكل قوي، ولكانت الأوطان هي عطية الله للأقوياء فقط.
أن يفتقد الإنسان علاقة الحب مع وطنه، يعني أن يهون عليه الوطن/ الأرض. وأن يهون الوطن، يهون الأقرباء والأهل والأخوة. وأن تهون العلاقات الأسرية والقرابية يهون معنى الإنسان والإنسانية. فيصبح هذا النوع من البشر مطواعاً لكل غازٍ ومغتصب، ومأتمر بأوامره. ومنتهٍ بنواهيه. لابساً ما يلبسه إياه، وآكلاً ما يطعمه، ومقترفاً الموبقات التي يوفرها له. فيتحول الوطن إلى »نخل« »لقَّحه الريح الغربي«. أما ثمراته فلا تتناقض مع »مسوخ بني الأصفر«، فيتحوَّل الوطن إلى معادلة جديدة، إذ يصبح الوطن مرتعاً للغازي، ومستباحاً أمام كل رغباته من جانب، و»سجن عبيد« للمتقاعسين عن الدفاع عنه من جانب آخر.
أما الثمن الذي يحصل عليه العبيد، فليس أكثر مما يمنُّ به عليهم الأسياد. ولن يكون أكثر من فتات قذارات الحضارة المادية التي حملها الاحتلال إليهم يتلهون بها.
عرف التاريخ الذي ننتسب إليه حضارة كانت فاتحة خير للبشرية. لا نزال نحتفظ لرموز تلك الحضارة بمكانتها اللائقة بها، ولا يزال الأوفياء منا يضعون تلك الرموز في مواقعها اللائقة بها. وهنا تنفجر هدى محمد –دفاعاً عنها- في وجه أولئك المرتزقة من الذين باعوا الوطن، وباعوا رموز الحضارة عندنا، وفي لهجتها مرارة مملوءة بحب الدفاع عما أنتجته الأرض التي عشقت. وكان أكثر قسوة عليها عندما فرضوا على حمورابي أن يحلق شاربيه وألبسوه »أقنعة (الهيب هوب)، وباروكة (صوفيا لورين)، وحمائل (نهديْ مونيكا)«.
ولم يقف الأسى عند هدى محمد عند ما ألحقه بائعو الوطن من إهانة بحمورابي -أبي الشرائع- فحسب، بل في أنهم جعلوا »عشتار« »تراقص ذاك الجرذ القابع في الجحر الأبيض وبعد السهرة تقبض شيكا« أيضاً. وفتحوا الأبواب أمام العدوان »واحتل العقرب … حجرات وبرج العذراء«.
تلك إهانات لم تدع هدى محمد تعلن الهزيمة، على الرغم من أن أرض حمورابي أصبحت تحت الاحتلال، و على الرغم من أن »عبيد الاحتلال« قد هانت عليهم كراماتهم، فباعوا الوطن بعشرين من الفضة، بل استنجدت برموز التاريخ العربي ولم تفقد الأمل. استنجدت بهم وأعلنت المقاومة في الوقت ذاته.
»بغداد تنادي يا جدّي«...
»عزلاءٌ .. ما عندي خنجر
لكني من أجل علاك
سأقتل نفسي يا وطني بسلاح ٍ أخطر
بمتاعب عشقك يا وطني وفنون هواك…«
وتلك هي مضمون المقاومة التي ترمز إليها هدى محمد، تلك المقاومة التي يخوضها، باللحم الحي، الذين أحبوا وطنهم. تلك هي الروح الوطنية التي تتحول إلى قوة أقوى من الصاروخ والطائرة والدبابة. وبها وحدها ينبت الرد على كل المثقفين الذين أرهبتهم قوى الحرب المادية، فاتهموا المقاومين، أو الداعين إلى المقاومة بالرومانسية. وهؤلاء هم الآن يقفون مستغربين كيف تتغلَّب رومانسية المقاومين، باللحم الحي، على آلة التكنولوجيا وتتحول إلى غالب، وتقع الدبابة والطائرة والجندي المدجَّج فريسة ضعيفة أمام قوة إيمان المقاومين بوطنهم ومحبتهم له. تلك صورة كانت أبعد من رؤى المثقفين الليبراليين وأبصارهم، وكانت واضحة المعالم في رؤى الرومانسيين، من الشعراء والسياسيين، لأنهم نظروا إلى أمن الوطن بعين القداسة/ الضرورة، فوجدوا أن الحياة والموت متساويان في الدفاع عن أمن الوطن وسيادته. بل لا معنى لحياة محاطة بالخطر، ولا معنى لسعادة من دون أمن الوطن والمواطن.
أيتها الأخت هدى
لقد عبَّرت في قصائدك عن رؤيا وجدانية تتعمَّق في استشراف تأثير الشعور القومي العربي، وهو جانب أساسي من جوانب الفكر القومي، أما الوجه الآخر الذي يتكامل معه، ولا ينفصل عنه، فيتعلق بالرؤية السياسية لمجتمع قومي موحَّد تحت قيادة سياسية تعمل على تأسيس مشروع نهضوي عربي يعيد للأمة العربية دورها الحضاري. وبه تواكب التطور الحضاري العالمي المعاصر، وتسهم في إغنائه وتجديده على أسس إنسانية شاملة.
وأنا أرى أنه لا يمكن لأي استنهاض قومي أن يكون جدياً إلاَّ من خلال تنظيمات حزبية على الرغم من أن وسيلة التغيير عن طريق التنظيمات الحزبية تعرَّض، ولا يزال، إلى الكثير من المحاربة والتشويه من قبل الأوساط التي تريد إبقاء الأمة مكبَّلة في قيود التجميد على شتى المستويات.
إن الحديث يطول حول هذا الجانب، وسوف أحاول من فترة إلى أخرى، أن أقوم بصياغة بعض المقدمات التي تسهم في توضيح جوانب السؤال، ليس بكون صدام حسين فرداً بل بكونه عضواً في مؤسسة حزبية تحترم إمكانيات الفرد، وتفسح للفرادة الشخصية بقيادتها، ولكنها لا تنتهي بانتهائها، فالمؤسسة الحزبية لها صفة الاستمرار والتجديد في قياداتها.
وإذا كان لديك من الاستفسارات ما يساعدني على تحديد بعض التوضيحات سأكون شاكراً.
وأخيراً، يمكنك أن تختزلي أو تلغي الجزء الخاص بتوضيح بعض جوانب السؤال، ليصبح تقييم قصيدتك منفصلاً عنه. كما يمكنك الطلب من إدارة الموقع أن ينشر التقييم الخاص بالقصيدة في موقعه المناسب.
ملاحظة: أرى أيتها الأخت أن تبتدئي في قراءات سياسية وفكرية ذات علاقة بالسؤال المطروح. وأكون سعيداً إذا ابتدأت بقراءة الكتاب الذي قمت بنشره في تشرين الأول/ أوكتوبر من العام 2003م، وعنوانه »المقاومة الوطنية العراقية: معركة الحسم ضد الأمركة«. كما قام موقعا »المحرر (www.al-moharer.net)«، و»شبكة البصرة (www.albasrah.net)« بنشر نصه الحرفي. ويمكن العودة إلى أحدهما في قراءته.
كما أنني قمت، في حزيران/ يونيو 2004م، بنشر كتاب آخر تحت عنوان »المقاومة الوطنية العراقية: الإمبراطورية الأميركية بداية النهاية«. وسأقوم بنشره في بعض مواقع الأنترنت عندما يسمح الناشر بذلك.
وبناءً للتجربة السابقة، وتأكيداً على وصول رسالتي هذه، أرجو الإشارة إلى ذلك في البريد الخاص، حتى لو لم يكن هناك رد عليها.
حسن خليل غريب
***

رأي حول قصيدة (آخر العنت) لهدى محمد
هذا رأي أرسله لي الأستاذ الكبير حسن خليل غريب، رأيت لأهمية ما يقول، أن أترك تعليقة بين أيدي القراء قبل أن أكتب ردي، كي لا يؤثر على أراء الأخرين، أرجو من الأخوة والأخوات المشاركة، فأني ارى أن ما يقوله الأستاذ حسن خليل ،أهم من النص نفسه. وله جزيل الشكر على اهتمامه المقدّر والكريم.
رأي حول قصيدة (آخر العنت) لهدى محمد
12/ 10/ 2004
أن يخلق الشاعر من هوَّة اليأس كلاماً جميلاً لهو الإبداع بأم عينه. ولكن أن يبقى عند حدود يأسه فهو مخالف لسنة الطبيعة. فعلى الشاعر أن يعود بنا من جحيم اليأس إلى أحضان الحياة لكي تكتمل صورة الإبداع وتتكامل مع ما هو خارج قوانين الكون الثابتة.
قوانين الكون الثابتة هي في استمرارية تكامل التناقضات في حياة الإنسان. ولكم تكون الصورة مأساوية وأليمة إذا سارت الحياة على نمط واحد. أليس ما نسميه ب(الروتين) هو قاتل ومميت؟
تناقضات الحياة هي مزيج من العوامل والأقدار التي لا يمكن أن تتعايش. وبينهما خلق الله للإنسان ملًكًة المقدرة على إدارة ذلك الصراع، على أن يكون مشدوداً إلى نصرة ما نسميه تقليدياً (إرادة الخير على إرادة الشر).
ليست مكاييل (أنكيدو) الثابتة إلاَّ طرف أول في صراع التناقضات الذي يمثِّل طرفه الآخر مكاييل (الحرية والاختيار الحر) أي التجديد كثورة في وجه تلك الثوابت. فبين ثوابت الكون فواصل كبرى من إرادة التجديد والاختيار.
لقد كنت يا هدى متعسَّفة عندما أسرت الوليد الجديد في داخل سجون (أنكيدو) وثوابته، أو انك في منتهى الحزن لأن من اتَّخذ من ثوابت (انكيدو) نصاً مقدساً يحدد أقدار كل مولود جديد بحدود مقاييسه.
ثوابت (أنكيدو) هي من صنع البشر وليست من صنع الله. وإذا كان الحال على عكس ذلك، لكان الله (وهو صاحب صناعة الكون الأكبر) قد أعفى البشر من صراع بين الثوابت والمتغيرات ليست منه أية فائدة لمصلحة البشر.
لقد وضع أنكيدو نفسه مكان الله، وأنكيدو نفسه من صناعة بشرية. ووضعه أنصاره مكان الله ولهم مصلحة في أن يكونوا ممثليه على الأرض. ليس لله، بمعنى خالق الكون، مصلحة في فرض قيود على الإنسان إلاَّ بما يجعل من تناقضات الحياة سراً لا يشعر (ذو عقل) بحلاوة في الحياة من دون وجودها. وأنا شخصياً أقف حائراً في اتخاذ موقف إذا ما استطعنا أن نبني (جمهورية أفلاطون) في يوم من الأيام.
ثقيلة هي وطأة التناقضات في الحياة. ولكن يبقى الخيار الأمثل لحياة بشرية أفضل، خالية من التناقضات، قضية قد لا تجد جواباً شافياً ومقنعاً. وتبقى أكثر زوايا الرؤية إليها مشوَّشة وبحاجة إلى أجوبة قد لا تقنع الكثيرين.
أنت يا هدى تريدين الخلاص من فلسفة (الكون المدبلج وفق ( إيزو ) القدرة العليا ...قياساً .. لايقل ولا يزيد). وتلك الرغبة، التي تكمن في نفس المتمرد على الجمود في التقاليد والأفكار والمقدَّس وممثلي المقدَّس على الأرض، لم يرافقها –كما عهدنا في قصائدك السياسية- رغبة في ترسيم كوَّة للخلاص. وإنما استمرَّت لديك الرغبة في الهروب، كما تدل نهاية قصيدة (آخر العنت)، عندما تثبتين مصير الطفل (وهكذا ... بالرغم منه يُسَـلـَّـم المسكين _ أعني الطفل _ للأسفِ الشديد !!) إلى قدر مرسوم، يرى قارئ القصيدة أنك قمت بإقفال أبواب الأمل في وجه القارئ والوليد الجديد معاً. ولأنك تريدين الخلاص من تلك الثوابت عليك أن تبذلي الجهد في تكوين مقاومة واعية ضد حصونه. لقد دعوت إلى مقاومة ثوابت (انكيدو) السياسي والعسكري، وأرى أنه عليك أن تسهمي في تأسيس مقاومة واعية وطويلة النفس ضد ثوابت (أنكيدو) الاجتماعي والثقافي.
رفقاً بنا، هدى، وبك أيضاً. لا تجعلي من نهاية قصيدتك نهاية لحالة الأمل التي قمت بزرعها في قصيدتك السياسية. ولعلَّ لقصيدة (آخر العنت) تتمة نحن بانتظارها.

تعليق حول قصيدة حوارية الألم
27/ 10/ 2004
العزيزة هدى
إن المعين الطيب المنهل لن ينعدم بأمثالك.
ومعينك فيَّاض لن تجفَّ مياهه. فأنت ابنة هذه الأمة العريقة التي لم تستكن منذ أيام التاريخ الأولى المعروفة.
بوركت. وبورك المنبع والنبع.
ولنا عودة أخرى إن شاء الله
الأستاذ الفاضل :حسن خليل غريب
لطالما كانت كلماتك وأهتمامك، مصدر فخر لي ومنبع لرفع معنوياتي، بل أنها تدفعني دفعا رفيقا ،كي أواصل.أنا افخر بك كثيرا لانك لبناني وأفخر بنزار بشير لانه مصري وبالزهيري الفلسطيني وبالرشيد العماني، لانكم تمثلون روح القومية التي يراد لها أن تباد وتذوب في أحواض من الاسيد الصهيوني، وفي القدور العربية التي تمزجها أيدي عميلةأو جبانة.
قطعا لا أرتاح للتجمعات ذات (الجنسية) الواحدة، لانها نداء خفي، لارساء روح التفرق التي بثها فينا الآخر.
ثق يا أستاذنا أنني اعاني من ناحيتين، فالدائرة التي حولي تستنكر علي اهتمامي بالقضايا القومية الكبيرة المهمة، خصوصا مع تركي ما يجلب الربح المباشر وربما الشهره الاعلامية المحلية والاقليمية.
والناحية الثانية، أنني وجدت وصادفت من يعتبر قصيته المباشرة قضيته فقط! وأستنكر علي الاهتمام بها!! بل حاول طردي منها، واعجب من أشخاص يرون في حرم الادب والشعر والحرم الفكري كذلك، إطار يخصه ويحق له طرد الآخرين منه.على أني وجدت من يشد على يدي، كمدير الدورية الفاضل، فشكرا له.
على العموم بما ان الايمان بالمبدأ إيمان لا يتزعزع، فيدا بيد نستمر يا استاذنا الكبير.
***




من هدى محمد عن ديوانها
أشكر جميع الأخوة الكرام والأخوات الفاضلات( رغم أني لم أقرأ لاحدهن تعليقا!، رغم ان القصيدة في المجاهدات)
كل كلمة سطرتها أناملكم كانت كزخة المطر، على جدب روحي العطشى لأرض المواجهة الحقيقية، أشكركم كثيرا جدا، ولعل أكثر ما أسعدني هو الأسماء الجديدة التي علقت لأول مرة، رغم أنني افتقدت كلام بعض الأصدقاء والصديقات المقربين أو هكذا ظننتهم .
ثقوا يا أصدقاء أن الهدية الوحيدة التي أتلقاها على قصائدي هي كلماتكم المنعشة، أما الجائزة العظمى فهي التأثير الإيجابي في نفوس الشرفاء ولعل ذلك هو الهدف.
سيدي المدير.. أجل ونعم وابصم بالعشرة... صوت بناتنا لا يخرج خارج الدورية...
أيها الناس فلتشهدوا أن ولي أمري في دوريتنا العظيمة هو مديرنا الجهبذ وكلمته فوق الرأس دائما وأبدا.
يسعدني أن أخبر الأصدقاء والأحباء والمهتمين أن ديواني الأول قد ولد وأبصر النور وخلال أيام سوف يتم الإعلان عن أماكن أقتناءه.في ديواني تقديم أضعه كتاج على رأسي من كاتبنا الشامخ حسن خليل غريب ..ويا أستاذنا أنا أحمل كتابي وأري الناس ما كتبت واشعر بفخر كبير، ثم أنني وضعت اشارة ضمنية لن يفهمها الا المتابعين للدورية فقد كتب لي مقاوم بالسلاح والشعر كلمة ايضا، وقد كتبها لي منذ عام تقريبا فاشكره هنا.
وسوف يتبع ذلك قرص مدمج تلقى فيه القصائد بصوت مذيع محترف،حسن الصوت، وليس بصوتي لأن ذلك خارج حدود الدورية وأنا أعد لهذا القرص منذ أكثر من عام وقد أخرت كل ما فيه بعناية فائقة ابتدأ من القصائد، لصوت المؤدي للموسيقى المصاحبة.
مقاوم قديم ..أعجب ثم أعجب ثم أعجب من كلامك... أنا لا أعد المعجبين دون المعجبات وأنت لا يجب أن تعد المعجبات دون المعجبين.
والله ثم والله أن أجمل كلمة ثناء أحصل عليها تكون من شخص لا يعرف عندي أي شيء سوى نصوصي.. أي لا يعرف جنسي وعمري أو أي معلومة أخرى عني. ثم أنني اسعد كثيرا جدا لما تأتيني كلمة ثناء من سيدة أو فتاة بل أكاد أطير فرحا والله على ما اقول شهيد.
تسميتي بشاعرة الدورية لا ينفي بأنك شاعرها أيضا,, وفي مقامنا الشامخ هذا أي منبر الدورية لا مكان للاحتكار بل نحن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.
كل الشكر وكل الود وكل المحبة للأصدقاء الكرام.
نقد قصيدة «عبلة تواسي معتقلات الأعادي في العراق» للشاعرة هدى محمد
دورية العراق 8/8/2004
وصلتنا هذه القراءة للقصيدة من الاستاذ حسن خليل غريب من لبنان :
أخشى من أن تشوِّه صنعة التحليل الجاف جمال الكلمات، فليعذرني أصحاب الكلمة الجميلة، فأنا أدين لهم بأنهم مني في موقع الندى للزهرة الذابلة. ولا أخفي أن جمال الكلمة حفَّزني لتحليل معاني قصيدة هدى محمد.
ليس جمال الكلمة غاية في ذاتها بالقدر الذي تريد أن توصل المعنى بالتشويق. فقالب المعنى عنصر مهم في إيصاله إلى الأذن فإلى القلب، ومنهما إلى العقل. فلعلَّ التكامل بين جمال الكلمة وجفاف التحليل يجدان عند القارئ ما يستمتع به ويجد بعضاً من الفائدة.
غزت الكلاب السود أرض العراق. فراحت عبل تناشد من كان للاستغاثة يستجيب، ولكن صوت الصدى يبقى الصدى الوحيد لصوتها، فارغاً خاوياً. وصوتها يملأ الصحراء لعلَّ سراب الأمل يتحول إلى حقيقة ليرى حال »عبلة« في العراق تنادي: »وما في القيد إلا معصمي«. »دمي المسفوحُ شأن دم ِ الحسين «. »الكرامةِ… هُتكت – وياللعار-«.
من تناشدين يا »عبل«: »ويبيت عنترُ« أصماً كما لم تعهده، ومثله »عبس«، و»ذبيان وقحطان..وعدنان«. فتصرخين: »أواهُ يا مجدا يضاعْ«.
أما القاتل فيختال على أرض العراق. وأما عنترة فليس بعنترة. فيا ويل عبل وحماها، فقد »ولغت به سود الكلاب..«.
تستلهم الشاعرة ماضِ لتعصرنه وتحدثنه. وتنتقل بعبلة عبس –عبلة عنترة- إلى عبلة الكفاح الشعبي المسلح، بحيث تتكامل عبلة مع عبس، وتتكامل عبلة مع عنترة. وهذه حال رمز عبلة العصري في فلسطين ولبنان والعراق… كما كانت »جميلة بو حيرد« الجزائرية…
وعيل صبر عبلة العراق. فلن تتحول اللبوءة العراقية –بالواقع وعند هدى محمد- إلى »سبية« في وكر الثعالب. بل عرينها سيبقى عريناً. فإذا بعبل العراق قد أصبحت عنترة وعبس وذبيان وقحطان وعدنان معاً. وإذا بعبل العراق تأنف أن تكون نادبة لدم الحسين، بل تستل سيفه لتموت وهي تقاتل، أو تنتصر فتكتب للحسين حياة جديدة. وعلى يديها يأتي الخلاص. وهكذا تريد الشاعرة لعبلة أن تكون كما تخاطبها، وكما هي بالفعل: »يا بنت العراق وأنتِ تعطين َ الورى ،درس الفدى. لن تُهزمي..«.
ولما تطمئن هدى إلى أن »الخير معقود بنواصي عبلة«، فيا ويل »الكلاب السود« إذا لبوة العرين وُضعت في موقع الدفاع عن أشبالها. فترتاح هدى إلى رؤيتها، فتمد »عبلة« في الإمارات يدها لتبايع »عبلة« في العراق، قائلة: »مُدي كي أبايعك اليدا«. فأنت أهل للبيعة. وإذا كانت هدى محمد عنترة فلن تبايع من »عبالى« العالم إلاَّ »عبل العراق«.
فيا »عبالى« الأمة، ويا »عناترتها«. ويا »عبابسة« العرب: »عدنانها«، و»قحطانها«، لقد أغوتكم »الكلاب السود« »المتفرنجة« فزوَّقت لكم »ياورها«، و»علاويها«، و»بحر علومها«، و»حكيمها«، و»عبد المحسنها«، و»هوشيارها«... إحذروا فكسرى قادم من الشرق ليبني إيوانه من حجارة البيت الأبيض. واحذروا فالبيت الأبيض آتٍ ليبني إيوان كسرى على الطريقة الأميركية. وبين طامع وطامع يقف »دويلوي« خلع الكوفية العربية، وراح يروِّج لسوق النخاسة ليبيع »عبلة« العربية قطعة قطعة على طريقة »السندويتش« بعد أن عجز عن بيعها بالجملة.
ولكن عبلة، عند هدى محمد، ستبقى الرمز الذي لن تكون إلاَّ في طليعة المقاومين. ولن تكون على الإطلاق »سبيَّة«. ولن تنتظر إلاَّ عنترة المدافع عن العائلة المنافح عن الحبيبة. وإذا لم تجده، فهي وعنترة في »جبَّة واحدة«.
***
تقديم ديوان (دموع البنفسج) للشاعرة هدى محمد
حينما شرَّفتني الشاعرة هدى محمد بكتابة تقديم لديوانها كنت أمام تحدٍّ كبير لعدة أسباب، من أهمها: أنني لست بأديب أولاً، وليس لديَّ إلمام بالفن الشعري ثانياً. لكن ما جذبني إلى القيام بمثل تلك المهمة هو إحساسي بالدفق الوجداني القومي الذي تميَّزت به هدى محمد، وهو المشحون بسلسلة متلاحقة من الشعور بالمسؤولية الثورية. لقد قرأت بعقلي معادلة العلاقة بين الوجدان والثورة، ولكن من خلال قصائدها قرأته بقلبي وإحساسي فأعطى جفاف العقل شحنة مهمة من حرارة القلب والوجدان.
ترافقت المعاني في قصيدة هدى مع سيل من الدفق الثوري العربي الذي سطَّرته المقاومة العراقية. تلك المقاومة اخترقت حواجز خضوع الأكثرية وركوعها أمام إرادة الشر الأميركية. فقد حسبت الأكثرية أن إرادة الشر تلك ترتفع فوق مستوى المواجهة، كما حسبت أن كل من يتوهم أن بمقدوره مخالفتها فكأنه يرتكب عبثية ونرجسية.
جاء عشق هدى لثورة الزنود السمر العراقية، مستكملاً عشقها لحجارة الصوان في زنود أطفال الحجارة في فلسطين المحتلة، متكاملاً مع فتوَّة الزنود الوطنية اللبنانية التي طردت العدو الصهيوني من الأرض اللبنانية، مخالفاً ومتناقضاَ مع حسابات المتعقِّلين من أبناء الثقافة من العرب الليبراليين.
جاء الدفق الثوري في قصائد هدى محمد، وهي البعيدة جغرافياً عن مواقع الثوار، ليعطي دلالة عميقة وقصوى طالما عجزت الأبحاث العلمية عن البرهان عليها، وهي مدى تأثير الوجدان القومي العربي على إشعال فتيل الثورة أينما كان انتصاراً لكل ثائر عربي حتى وهو يقاتل باللحم الحي.
قفزت من فوق كل حواجز الجغرافيا المصطنعة، فقصَّرت المسافات بين الأقطار فعبرت من قطر إلى آخر من دون جواز سفر من تلك الجوازات التي تجعل من العربي غريباً وأجنبياً في رحاب أرضه العربية الواسعة. فاختصر ذلك الشعور كل المسافات وأخذ يتنقل من قطر إلى آخر ويحط الرحال حيث تضطرم الثورة ضد الاستعمار.
واختصر الشعور العفوي لهدى محمد كل مساحات الزمن فانتقل غير مستأذن روزنامات المشاريع السياسية الوحدوية فأعلن وحدويته ووحدته من دون اعتبار لمسافات عشرات الأجيال التي يراها السياسيون مدى زمنياً واقعياً للحاق بزمن الوحدة السياسية. وبدفق شعورها القومي أعلنت هدى محمد وحدة الشعور القومي وما يستتبعه من تأثيرات تجمع ماجدة الإمارات إلى ماجدات فلسطين والعراق ولبنان… بل وسبقت بإعلانها »الحب على الأمة والثورة« كل آمالنا، وجعلتنا نعتز بتلك العروبة التي لن يجمعنا حولها إلاَّ وحدة الشعور، وهل ينشدُّ بنو البشر إلى بعضهم بعضاً إلاَّ بأواصر الحب؟
تستثير المشاريع الفكرية والسياسية الوحدوية خلايا العقل، فتبرهن على الملموس من شؤون الحياة بالملموس. ولكن أواصر الشعور لا يمكن أن تبرهن عليه إلاَّ بالشعور، ولكن هل يُحسن الشعور برهاناً؟
لا يمكن للحب أن يكون خاضعاً لبراهين المنطق الفلسفي. بل الحب يكون من دون برهان. فحركة العين أو خفقة القلب أو لمحة الحلم هي من تلك البراهين التي لا تخضع لدليل أو برهان. فالحب يبتعد عن البرهان ويقترب إلى خلايا الوجدان. فلو ترجم المفكر أو السياسي الحياة بين بشرين إلى أرقام فهو لن يستطيع أن يختزل مخزون الشعور إلى رقم واحد إلاَّ وفقد الشعور ميزته وخاصيته.
ومن تلك النقطة جاء دور الشاعرة هدى محمد.
فإذا كانت الوحدة القومية ترجمة سياسية للفكرة القومية، أي يمكن ترجمتها إلى مصالح مشتركة، فإن الشعور اللاحم بين أبناء المجتمع القومي لا يمكن أن يكون غير الحب. والحب بين أبناء المجتمع الواحد يعني الحياة بتناغم معاً أو الموت معاً. ومن أجل حياة هادئة وسعيدة بين متحابين تحلو فكرة الموت والشهادة. ومن هنا تأتي أهمية الشاعر ونبضات كلماته الجميلة.
ومن أجل التعبير عن حب هدى محمد لأمتها، من خلال دفق وجداني عارم لفَّ كيان ابنة الإمارات، اندفعت لتضع يدها بيد قرينتها العربية أينما كانت لتصرخ لا لحياة العبودية بجملة مملوءة بالصدق والحب والوجدان، تستثير بها النخوة في قلوب رجالات أمتها متحدية بأنها لن تكون إلاَّ للماجد من الرجال الذي يقدم لها إكليل النصر على كل الذين استباحوا الأرض والعرض والثروة، وغزوا القلوب ليحولوا دونها واحتضان السعادة بالحبيب.
ولأن للأنثى خصائصها، كانت هدى محمد خاصية بذاتها، فهي وإن حالت حواجز الجغرافيا دون أن تقوم بما يمكنها أن تكون ثائرة بكل معنى الكلمة على أرض المواجهة المباشرة، جعلت من المرأة العربية مشاركة فعَّالة لأختها في كل مكان من أرض العروبة عندما امتشقت كلمتها الجميلة التي توحي بكل ملامح الثورة وفعلها وفجَّرتها ليس بوجه الاحتلال فحسب، وإنما في وجه المتقاعسين من رجالات ونسوة أمتها من الذين لوَّثوا الأرض بنذالتهم قبل أن يلوثها الاحتلال ويدنسها.
لقد اشتقنا يا هدى لماجدات العروبة في الزمن الغابر. فإذا بك تنبتين من التاريخ فتضمين قبضتك إلى جانب قبضات الفحول من رجالاتنا في أرض الثورة العربية فتتكاملان في ثنائية حب ولا أروع.
وهل يمكن أن يكون أجمل من ثنائي يجمع بين ثائرة وثائر؟
وهل هناك أجمل من ثنائي يقاتل من أجل أن يكون بيت المستقبل الذي يبنونه آمناً من كل ما ينغص عليهما لحظات الحب والسعادة؟
وهل هناك أجمل من بيت يطمئنون فيه إلى مصير أبناء يحميهم من الخطر والأذى؟
وهل أجمل من أن تكون أرض العروبة هو ذلك البيت الآمن الذي تحميه قلوب المرأة العربية والرجل العربي فيهنآن إلى الأبد؟
بوركت هدى، وبوركت المرأة العربية التي تنظر إلى بناء البيت القومي كأساس لا بُدَّ منه لبناء بيتها الخاص.

احتراق: مهداة الى الاستاذ الفاضل : حسن خليل غريب
شعر: مقاوم قديم (قاف العراق)
(( عد عيناك ) )
احتراق
جرح عتيد على اطنابه أقف
وكلهم خلفوني فيه وانحرفوا
عتقت ذاكرة الايام في خلدي
وعلقما بحنيني كنت ارتشف
هم اخوتي وقميصي بات يعرفهم
فواحدا واحدا عروه وانكشفوا
أي أحتراق همو ولم يشف كيدهمو
فعمدوه بحزن الذئب .. وانصرفوا
نسوه في وحشة البردي قبرة
لا الاهل فيه ولا الاوطان تعترف
تناثروا في شفاه الليل اغنية
فأي ذنب مخيف سوف اقترف
جرح المسافات يصحو في تسكعهم
مذ جاوزوني هنا في الهم وانكسفوا
للحب طعم احتراقي حين كلمهم
تساقطوا في الدم المسفوح وارتشفوا
وللرمال العطاشى .. عري خارطة
اكلما حاصروها تنزف الصحف
الشعر بحر اراه تحت نافذتي
هو الحنين فافشى سره الصدف
الوجد اسلمني للريح فانكسرت
احلى القوافي وظل القلب يرتجف
وتجلد الريح بالنسيان ذاكرتي
هل يسلم القلب من جرح به خرف
وكم اعد ارتعاش الشمس في ولـه
لكي تلم اشتهائي هذه الشرف
حملت جرح الرفاق اليوم في شفتي
فكلما هاج فيهم كبرهم نزفوا
الكبر سلمهم للشمس يا وطني
للمجد صبراً على اضلاعهم زحفوا
ويكبر الحلم في احداقهم وطناً
حدوده باحتراق الروح تلتحف
عيناه ابصرتا في غربتي قمراً
يضيء جرحاً على اعتابه أقف
مكللين بغار النخل يا وطني
كأنهم غير هذا الفخر ما عرفوا
سيعزف القلب جرح الواقفين هنا
حتى يعي القصب المذبوح ما عزفوا
قد ضيعتني دروب العمر اجمعها
فأي درب به الاوهام تنكشف
وكان اسمك قبل البدء ساريتي
وفي جبينك نور البدر ينخسف
ان كان لي لوعة في الحب انزفها
فأنني باحتراقي فيك اعترف
رد هدى محمد 25/ 11/ 2004
الله أكبر
قتلتنا يا أيه المقاوم القديم
الوجد اسلمني للريح فانكسرت
احلى القوافي وظل القلب يرتجف
الله الله على عمق تصوير الوجع هنا.
وهذه الابيات تختصر كل الحكاية وتكتنز كل المعاني
سيعزف القلب جرح الواقفين هنا
حتى يعي القصب المذبوح ما عزفوا
كل التحيات الى استاذي الكبير حسن خليل غريب، والذي طالما اولى نصوصي الضئيلة اهتمامه الابوي الحنون، لقد غبت عنا فترة، فاشتقنا لك
لله در هذا الموقع ومن يجمعهم فيه.
رد حسن خليل غريب
27/ 11/ 2004
جرحان ينزفان عند هذا المقاوم: جرحه وجرح الوطن. فأيهما يداوي؟
لقد اختار أن يداوي جرح الوطن ففي مداواته برء لجرحه، أو لجراحه. وذلك اختيار المناضلين.
أيها الواقف على حدود الوطن صامداً في كل شبر فيه (ويكبر الحلم ... وطناً حدوده باحتراق الروح تلتحف).
أيها النازف من جرح ذوي القربى، وما دبَّ اليأس في نفسك. فيك خزان كبير من دماء تجري في عروقك، فدمك لن يجف كما لن تجف مياه دجلة والفرات.
جرحك الخريفي لم يمنعك من تجديد عهد الوفاء لأرضك، لشعبك، لرفاقك (سيعزف القلب جرح الواقفين هنا. مكللين بغار النخل يا وطني كأنهم غير هذا الفخر ما عرفوا)، لمبادئك ولقيمك العليا. ألا تكفي تلك الصفات لإثبات الأصالة؟
أيها المقاوم على رؤية أن جراحنا الصغرى تهون أمام الجرح الأكبر، فجراحنا الصغرى لا بلسماً لها غير ما رأيته أنت من علاج. إذ (تجلد الريح بالنسيان ذاكرتي، هل يسلم القلب من جرح به خرف)؟.
جراحنا الصغرى لها دواء في إيقاف النزيف الأكبر. وتلك هي بدايتك، تلك هي خياراتك التي تمارسها. وأنت تنتظر أن ترخي الشمس بنورها على الجميع، ولا ترى نفسك إلاَّ واحداً ممن سينعمون بدفئها. (وكم اعد ارتعاش الشمس في ولـه لكي تلم اشتهائي هذه الشرف).
إن بعضنا أيها المناضل يكمل بعضه الآخر. وكلنا في وجه الاحتلال نار مشتعلة.
وكلنا لن نبقى كلنا لأنه لا بدَّ للأوراق الصفراء من أن تتساقط، ويبقى الربيع للأوفياء خير منتج للورق الأخضر، وبهم تنتعش الأرض وتصفو السماء، وتطمر الأرض في جوفها ما تساقط. وتغذي ما بقي أخضراً يانعا. فبك وبرفاقك الذين تروون الأرض بدمائكم خير ما تختزن الأمة في وقتها العصيب.
ولن أقول شيئاً أجمل مما قلته أنت (سيعزف القلب جرح الواقفين هنا، حتى يعي القصب المذبوح ما عزفوا).
ولن يبقى قصب العراق إلاَّ شامخاً على الرغم من إرادة الاحتلال الأميركي في ذبحه. وستنقل النايات المصنوعة منه، من جيل إلى جيل، أخبار هولاكو الأميركي الذي تكسَّرت قرونه على أبواب بغداد، والفلوجة «أم المناضلين»، وعتبات الشهادة التي صنعها «الحسين» على الرغم ممن زيَّفوا مواقفه.

يا سيدي
أنا أشعر بالفخر أن تهدي إليَّ قصيدة، لكن لا تزال قامتي أقصر من قامة أي مقاوم يردي جندياً محتلاً يختال على أرض العراق أو فلسطين أو لبنان...
شكراً للأخت هدى محمد على كلماتها الطيبة التي تزرع الثقة في النفس وتشحذ الهمة، وهي زاد لاستكمال الطريق الوعر ووحشته إلاَّ من قلة من المؤمنين.
وشكراً للأخ كنعان الذي التقط ما أراه جوهراً لحركة الثورة في وجه الاحتلال المدجج بأعتى القوة العسكرية التكنولوجية، لأنه ليس بالصاروخ «الليزري» وحده يتحرر الإنسان إذا لم يكن مسكوناً بحس الكرامة الوطنية.
شكراً لموقع «دورية العراق» الذي جعل التقاء الثوريين أكثر حميمية وأكثر صدقاً وانفتاحاً.
حسن خليل غريب

مسرحية يا علي
مقاومة مسرحية شعبية من نوع آخر تفتح الطريق أمام تجربة جديدة
29/ 5/ 2004م حسن خليل غريب - لبنان
منذ أن تطأ قدماك بوابة الأونسكو تشعر أنك تدخل إلى جو الضيعة، أطفال كشفيون وطفلات، عيون ليست غريبة عنك، أعضاء في النادي تطوعوا لاستقبال الحاضرين. وجوه مألوفة. كل ضيافة الضيعة في استقبالك. طريقة الجلوس لا تخضع لصرامة سعر البطاقة، باستثناء من يمثلون أكثر من أنفسهم.
الكل في ورشة عائلية يمثلون منتهى الاندماج الجمعي في عمل يشعر كل واحد أنه يؤدي الخدمة لنفسه، إنها والله لنعمة أن تعيد تجربة مثل مسرحية »يا علي« أواصر الانشداد والمحبة والتعاون الجمعي في إنجاح عمل من الكل وللكل. أواصر طالما اشتقنا إليها ودفعنا الحنين إلى إعادة استذكارها في ظل تفسخ ساد أكثر من ثلاثين عاماً وعادت الانتخابات البلدية الأخيرة لتعيد إنتاجه من جديد استجابة لأغراض سياسية ومواقف قاصرة عن النظر إلى العمل البلدي بعين إعادة التلاحم واللحمة بين الناس على أساس مشاركة كل الأهالي في تنمية بلدتهم التي طالما نالها الحرمان. لقد ربحنا –في الغالب الأعم- لوائح الذين أيدناهم في الانتخابات، وأهملنا التفكير في ربح ضيعنا وبلداتنا موحدة.
لست من الذين يمتلكون ثقافة فنية لكي أقوم بنقد متكامل للعمل المسرحي الذي كان لي شرف حضوره في قاعة الأونسكو في بيروت. ولكنني سأقوم بواجب إعطاء تجربة »يا علي« حقها في هذا الزمن الذي غاب فيه العمل الشعبي عن المسرح، وأوكل فيه الشعب أعباء العمل كله إلى مؤسسات رسمية أو حزبية، فيكون الشعب –بذلك- قد استقال من مهماته وأوكل المهمة إلى مؤسسات لا تبغي من القيام بها أكثر من استثمارها لأهداف انتخابية لا تخدم إلاَّ مصالح نخبها وأغراضهم الفئوية.
بعد أن تُطفأ الأنوار تتعالى أصوات الموسيقى التي تشعرنا بالفرح وتعيدنا إلى أجواء الأيام الخوالي، الفرح الذي طالما عرفناه قبل أن تنطلق الطلقة الأولى في الحرب الأهلية اللبنانية لتحرمنا منه سنوات طوال وعجاف ما زلنا نعاني من تأثيراته حتى الآن.
فتنطلق الطلقة الصهيونية لتحرق بساتين أهل الضيعة فتغيب –بغياب أشجارها- أصوات العصافير وتختفي. ويفتقد المزارع لأهم شيء يملأ حياته.
تنطلق الطلقة الصهيونية الأولى، مترافقة مع طلقة الحرب الأهلية، لتقضي على تقاليد المحبة والإلفة في عرس حسين بعد أن تميته. وبموته وبعد أن يتأكد العدو الصهيوني أن اللبنانيين قد تمَّ ترويضهم بما يكفي، وكأنه قرأ رغبتهم في الخلاص مما هم فيه، توهَّم أنه المنقذ المخلِّص فاجتاح لبنان وكأنه يريد أن يقطف ما عجز عن قطافه منذ اغتصابه فلسطين. فكانت النتيجة انتقال أهل الضيعة من لحظة ألم إلى أخرى، فابتدأت موجات التهجير في المنافي داخل الوطن. وانتقل معظم أهل الضيعة من حرب إلى حرب، وما أن تنتهي لحظة ألم حتى تبتدئ أخرى.
يغيب الناس في المنافي عن حقولهم فيمتهنوا ما لم يكونوا قد تعودوا عليه، ويغيب الأطفال عن الساحات ليسجنهم الأهل في سجون المنافي خوفاُ عليهم وحرصاً. وتتوالى فصول اليأس والاحباط فيصبح الألم سيد الساحة. وتغيب معالم الأفق ويغيب معه الأمل في استعادة لحظات الفرح التي أصبحت سراباً عشناه في الماضي. إلى أن…
وفي حبكة فنية مهمة يعود الأمل فجأة فيعود الأطقال معه إلى الشوارع. أما عودة الفرح فمرتبط باستمرار المقاومة الشعبية في بيروت. وكان من أهميتها أنها أجبرت العدو على الانكفاء إلى خارج المدينة، فحوَّل الأطفال ألعابهم إلى تقليد المقاومين في مهماتهم، وبها صوَّر الأستاذ حسن خليل ضاهر –في نصه- أهم مفاصل الربط بين فعل المقاومة وعمقها الشعبي، فمن أهم عوامل نجاح المقاومة هو تحويلها إلى ثقافة شعبية فتضمن لها الاستمرار والاحتضان.
جميل جداً ذلك الربط، بين عودة الفرح وانطلاق المقاومة الشعبية واستمرارها.
ولا يعني انطلاق المقاومة واستمرارها انحسار للحظات الألم الشعبي، بل في ظل الاحتلال استمرار للكثير من لحظات الألم التي يدفع بها الشعب الثمن. ولكن الألم يشتد كلما كان الأمل في الخلاص بعيداً، وينحسر الألم ويستعيد الفرح دوره كلما تعمَّق الأمل في الخلاص. فالمقاومة زرعت الأمل في النفوس اليائسة المنتظرة خلاصاً من المؤسسات الرسمية.
ومن ضمن تعميق أهمية الفعل الشعبي المقاوم حوَّل صاحب النص مهر الحبيبة إلى رمز جميل جداً في أن جعل مهر ليلى »وردة المقاومة«، وفرض فيه على الحبيب أن يأتي بوردة مزروعة في تلة كفر رمان، وردة محروسة بقلاع من الجنود الصهاينة لتقديمها كمهر لحبيبته. وهذا رمز مهم استخدمه كاتب المسرحية للدلالة على عمق الثقافة الشعبية وتعليقها الأمل على إمكانياتها البسيطة ولكنها الفاعلة والفعَّالة.
وإذا كان لي من نقد أوجهه للمسرحية هو الإطالة في الجزء الأخير منها، وتبيَّن ذلك من غياب الحماس الذي ساد القاعة في تلك الفقرات منها، إلى أن استعاد الجمهور حماسه في نهايتها. مع الاعتذار أنني لن أستطيع أن أعطي البديل لما لمسته، لعدم كفايتي بهذا الموضوع. ويكفي الإشارة إليه للأستاذ حسن ضاهر وهو الكفيل بالمعالجة على الرغم من أن ذلك قد يكون من الصعب تنفيذه في ظل مؤسسة مسرحية تقوم على الهواية وليس الاحتراف الذي يدعم الاعداد والتعديل من دون عوائق كثيرة.
وفي المحصلة العامة يكون الأستاذ حسن ضاهر صاحب الفضل الأول في تجنيد الطاقات الشعبية لخلق مسرح شعبي، ويحلو لي أن أسميه المسرح الشعبي المقاوم الذي يشق طريقه بأدوات وإمكانيات وكفاءات وإسهامات كلها تستند إلى إرادة »شعبية« لم توظَّف فيها أية إمكانيات »نظامية« مما يعتمد عليها المسرح التقليدي.
كما أود أن أنوِّه بالدور المهم الذي لعب فيه تعاضد أكثر من مؤسسة أهلية في كفر رمان لإنجاح هذه التجربة اللافتة للنظر، ابتداء من أطفال الكشاف الذين جذبوا الاهتمام بحيويتهم وحماسهم وكفايتهم، من حيث مشاركتهم في الأعمال الإدارية أو التمثلية، مروراً بشباب المستوصف الخيري، انتهاءً بإدارة وأعضاء نادي النهضة الرياضي.
فللكاتب والمخرج تحية من القلب، وتحية مماثلة لكل الذين شبكوا أيديهم معه، فأنتجوا الشيء الكبير والواعد على صعيد القرية اللبنانية، وتقديم الأنموذج عن الدور المطلوب من المؤسسات الأهلية.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق