بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 22 يناير 2010

مقالات العام 2006 (2)

(): نجاد يتوقع ظهور المسيح والمهدي قريباً ومصير الفراعنة لأميركا وبريطانيا
طهران - حسن فحص الحياة - 21/12/06//
زفّ الرئيس محمود أحمدي نجاد، في إطار التوقعات التي يطلقها، «بشرى» توقع فيها «زوال إسرائيل والولايات المتحدة وبريطانيا كما زال الفراعنة»، مشيراً الى أن النبي عيسى عليه السلام والمهدي المنتظر سيظهران قريباً.
وقال نجاد في كلمة ألقاها في مدينة جوان رود في اقليم كرمانشاه الكردي: «قوى الاستكبار ستزول فيما الشعب الإيراني سيبقى، لأن أي قوة تقف إلى جانب الله تستمر بينما القوى التي تبتعد عن الله تزول كما زال الفراعنة».
وكان المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي توقع لدى استقباله رئيس الوزراء الفلسطيني اسماعيل هنية قبل أقل من أسبوعين «زوال الكيان الصهيوني وقيام دولة فلسطين المستقلة الموحدة».
وشدد نجاد على «وعد الهي»، خصوصاً في ما يتعلق بـ «الولايات المتحدة وبريطانيا والكيان الصهيوني التي ابتعدت عن تعاليم الله والسيد المسيح»، مؤكداً أن «زمن الصعاب والأحقاد ولّى وإن شاء الله سيعود عيسى المسيح قريباً إلى الأرض، كذلك الإمام المهدي للقضاء على الظلم». وطرح قبيل عيد الميلاد تساؤلات عن علاقة السيد المسيح بالعالم المسيحي الآن، قائلاً: «لو کان السيد المسيح حياً، هل کان وافق على سلوك القوى الكبرى ما الذي سيفعله في مواجهة بعض الدول المسيحية المتسلطة، وأيّها سيبقى وأيها سيزيل؟ وإذا كان السيد المسيح موجوداً بيننا الآن، أي من هؤلاء سيتبعه وأيّهم سيبتعد عنه»؟
الى ذلك، قال سياسي إيراني رفض كشف اسمه لـ «الحياة» إن خطاب نجاد يأتي بعد الانتخابات التي شهدتها إيران وأسفرت عن هزيمة لتياره. ويرى الرئيس الإيراني ان وصوله إلى سدة الرئاسة كان توفيقاً «إلهياً» وتكليفاً لإنجاز مهمة «سماوية»، وأن العالم «متعطش لسماع هذه الرسالة».
***
لقد نشرت دورية العراق الخبر المذكور أعلاه، وأضافت التعليق التالي:
حسن خليل غريب: صدقت توقعاته وأعلنت ايران البشرى!!
في 22/ 12/ 2006: تعليق الدورية : كان الكاتب الاستاذ حسن خليل غريب قد نشر في الدورية مقالة بعنوان "قتل البشر والشجر في انتظار عودة المنتظر" بتاريخ 17/6/2006 استقرأ فيها وبجلاء يليق بالكتاب ذوي الالهام والبصيرة ان الاعتقاد بعودة المسيح وعودة المهدي المنتظر ، مشروعان يتفقان على أن لكل منهما نصوصاً مقدسة تتناقض في أهدافها، فكانت أرض العراق قاعدة الانطلاقة للمشروعين، ولا ضير في أن يدفع العراقيون الثمن عند من يعتقدون أنهم ينفذون أوامر «إلهية».

(13): إذا كانت الإدارة الأميركية مسؤولة عن جنودها أمام أُسَرِهم
فمن المسؤول عن الشعب العراقي أمام الله والتاريخ؟
21/ 6/ 2006
بعد العثور على جُثتيْ الجنديين الأميركيْين اللذيْن خُطفا على أيدي المقاومة العراقية، وبطلعته البهية، خرج الناطق الأميركي من على منبر له منصوب على أرض العراق ليعلن النصر أن ثمانية آلاف جندي استطاعوا أن يجدوا الجندييْن المفقوديْن، ولكن جثتيْن هامدتين. وبرَّر تجنيد الثمانية آلاف جندي بأن الجهود المبذولة كانت من أجل أن تبرهن إدارة المأفون جورج بوش أمام عائليتهما أن إدارته حريصة على حياة أبنائهما.
وأردف الناطق باسم جلاَّدي البيت الأبيض أن الجنديين قُتلا بوحشية!!!
مسألتان أثارهما الناطق البهي لا يمكن أن تمرَّا من دون تعليق أو تعقيب، وهما:
-إثبات إنسانية إدارة المجرمين الجدد من خلال حرصهم على جنديين اثنين، جنَّدت إدارة الاحتلال العسكرية ثمانية آلاف جندي، وقد أشارت الأخبار إلى أن العشرات منهم قد أُصيبوا بجروح على الأقل في جولاتهم التفتيشية لأن تلك الجولات لم تكن مريحة لهم بل كانت بنادق المقاومة بانتظارهم. فهم وإن خرجوا بمكسب العثور على الجنديين، وإن كانا جثة هامدة، إلاَّ أن المفتشون قد خرجوا بحصيلة محترمة من الجرحى.
-إرسال إشارة خبيثة إلى الرأي العام الساذج بأن ما قدَّمه الجيش الأميركي للعالم كان خدمة كبيرة، لأن الذين من أجلهم جاء إلى العراق كانت رسالة إنسانية مضمونها القضاء على الذين يقتلون بوحشية.
لم نكن نهدف إلى تسليط الضوء على وحشية الناطق البهي كرسول إلى العراق ينطق باسم المجرمين الأميركيين الجدد، لأنه على الرغم من تشديد إعلام الناطقين باسم المجرمين محاولاً أن يغطي بشاعة ما يرتكبه جورج بوش وزمرته من جرائم في العراق، فإن جرائم نظامه من المنفِّذ الأدنى إلى الآمر الأعلى أكثر من أن تُحصى. تلك الجرائم لا يمكن أن يستوعبها مؤتمر صحفي، بل ولا تكفي آلاف الصفحات في تعداد تلك الجرائم ووصف وحشيتها.
إننا من خلال قراءة وقائع الحادثة، لم نكن نهدف إلى البرهان على أن الناطق البهي يكذب، كرئيسه ونائب رئيسه ووزير دفاعه وجنرالاته الكبار، لأنهم كذَّابون بشهادة أهل دارهم، من أفراد وتجمعات شعبية، وفنانين وممثلين، وسياسيين ومفكرين، ومن تلفزيونات وصحف... كلهم لم يخفوا جرأتهم في حضور أولئك المجرمين حينما كانوا يصرخون في وجوههم أنهم كذَّابين. ذلك الحكم الذي عندما نعلنه يتم وصفنا بعدم الموضوعية، أو لكنا أمام المثقفين العرب الراديكاليين «أحمد سعيد» عصرنا. ولكانوا هم المثقفين الناضجين ولأصبحنا نحن المتخلفين نظراً لما يمتازوا به من تقدمية ووعي.
لم نكن نهدف إلى البرهان على أن المجرمين الجدد ليسوا مسؤولين عن جنودهم الذين دفعوهم إلى احتلال العراق لا من أجلهم ولا من أجل ذويهم، بل دفعوهم إلى جهنم العراق من أجل بتروله الذي سيملأ جيوب مجرمي الرأسمالية، القدامى والجدد، بالجواهر واللآلئ. تلك الأحجار الثمينة عندما ترصِّع تاج إمبراطورهم، أو متى دخلت جيوب أحفاد من اجتثوا شأفة الهنود الحمر، وكبَّلوا الأفارقة السود بالأغلال وساقوهم إلى العمل في المزارع الأميركية التي اغتصبوها من سكانها الأصليين، فعلى جنودهم وأهاليهم السلام في قبورهم أو في دساكر الفقراء والمحتاجين ومؤسسات رعاية المجانين أو العميان أو على كراسي المعاقين.
كان أشد ما لفتنا في تصريح الناطق باسم جماعة البغي والعدوان هو كثرة «المخصيين» في المنطقة الخضراء، من العملاء والجبناء، وعتاة الإجرام والخيانة، الذين كانوا كلهم من السامعين والصامتين والمرحبين ببطولة الناطق، وبطولة من ينطق باسمهم. هاتفين بحياة المجرم الذي يدفع بثمانية آلاف جندي من أجل العثور على جندييْن. وهاتفين بحياة الناطق والجنرالات الناطق باسمهم الذين يلاحقون الذين يقتلون بـ«وحشية».
وهنا نتساءل: أوَ لم يسأل كل أولئك أنفسهم أمام إعجابهم بالجيش الأميركي الذي لا ينسى جنوده، هل هم خارج المساءلة عندما شرَّد الاحتلال مئات الآلاف من الجيش العراقي، وتالياً من الشعب العراقي؟
كما نتساءل أيضاً: أوَ لم يسألوا أنفسهم، أمام جرأة الناطق الذي فضح وحشية من قتل الجنديين: ماذا فعل جيش الاحتلال عندما وطأت قدماه أرض العراق؟
أوَ ليس الاحتلال بحد ذاته إلاَّ صادر عن قرار وحشي عريق؟
أوَ ليس قتل النساء والأطفال والمسنين جريمة تتصف بـ«الحيوانية» وليس بالوحشية فحسب؟ «حيوانية» مرَّت من أم قصر، وعبر البصرة والنجف وكربلاء، معرِّجاً على بغداد، مجتثاً كل شيء في الفلوجة وسامراء والقائم، باستثناء روح المقاومة وهمة المقاومين وشجاعتهم... ماراً في الموصل وتلعفر وبيجي، واصلاً إلى الرمادي وبعقوبة والخالص...
لم نكن نهدف للإشارة إلى «الخصيان» لأن المخصي فقد ميزة الرجولة منذ أن ارتضى أن يكون «مخصياً»، و«خائناً»، و«ذئباً» يفترس أبناء جنسه وعرقه ودينه ووطنه.
كان الناطق بمثابة «السلطان» والعراقيون الناطقون بالعربية من «الخصيان»، فما يقوله السلطان عندهم يصبح «سلطان الكلام». أوً ليس هو ولي نعمتهم؟
لم نكن نهدف إلى المزيد من كشف جرائم «السلطان المجرم»، ومن جرائم «خصيان السلطان» المشاركين بالجريمة. لم نكن نقصدهم، وهم العتاة بالجريمة، ولا يعرفون أن يعيشوا من دونهم، فانغرست في نفوسهم كالفطرة. ولم نكن نهدف إلى البرهان عن أكاذيبهم، فالكذب لديهم أصبح «ملح الرجال».
بل ما نهدف إليه هو الإسهام أمام الطيبين من شعبنا، المخدوعين بوسائل الإعلام الأميركي الذي يخدم مجرمي الحرب، في الكشف عن عناصر الجريمة الأميركية المنظَّمة وكذبهم المنظَّم، والتحذير من أن إعلامهم كان، ولا يزال، أداة يستغفلون بها المغفَّلين، ويؤثِّرون بها على عقول السُذَّج.
تبقى هناك حقيقة واحدة ماثلة في أذهان المقاومين هو أن الاحتلال جريمة الجرائم الكبرى، ومن ارتكبها فلن تعيقه الجرائم الأخرى. ومن أجل محو كل الجرائم لا يمكن أن يتم إلاَّ بالحكم على المحتلين وعملائهم إلاَّ بالإعدام المستمر، بالبندقية والعبوة الناسفة والسلاح الأبيض والإغراق في الأنهر وقصف القواعد العسكرية والكمون لدورياتهم، وباختصار الاستعانة بكل وسيلة متاحة أمام المقاوم من أجل تقصير أجل الاحتلال واختطاف أرواح جنوده بكل الطرق والوسائل...
لم يسأل أحد أياً من أولئك المجرمين الكبار، والصغار أيضاً، كيف يقتلون ومتى وإلى أي مدى؟
ولم يسأل أحد أياً من أولئك العملاء الكبار، والصغار أيضاً، كيف يخونون وطنهم، وينهشون بلحم أبناء وطنهم ويسرقون الأمن من عيونهم واللقمة من أفواههم، ومتى وإلى أي مدى؟
فليس، إذاً، من حق أحد أن يسأل المقاوم كيف يقتل عدوه، لأنه متى خُيِّر بين أن يموت هو أو يموت الاحتلال وجنوده وعملائه، فالخيار الإنساني والقانوني يقتضي بأن تقتل خصمك قبل أن يتمكن منك.
فاقتلوهم أيها الأبطال حيث ثقفتموهم ولا تأخذكم بهم شفقة ولا رحمة. لأنهم لو تمكنوا منكم فسيسحلوكم في الشوارع والأزقة، بين البيوت وعلى كثبان الرمال.
إقتلوهم حيث ثقفتموهم، وبوركت الزنود التي تردي المجرمين قتلى غير عابئين بأكاذيب الناطق «الوحش الأصغر» عن الناطق باسمهم لأنهم «وحوش كبار».

(14): المحامي خميس العبيدي: مقاوم يحمل سلاح القانون يشمخ شهيداً
23/ 6/ 2006
أخاطب في شهادتك كل الشهداء الذين شمخوا على أرض الرافدين.
كما أخاطب في شهادتك كل المنتظرين صفوفاً إلى أن يأتيهم الدور لسلوك طريق الشهادة.
أيها المحامي المقاوم الشهيد
أخاطب من خلال شهادتك كل أبطال القانون من زملائك، فريق الدفاع والإسناد عن الأسرى والمعتقلين العراقيين وإخوانهم ممن قصدوا العراق للدفاع عن أرض العروبة...
إذا كان لكل مقاوم طريقته ورسالته في الدفاع عن الأرض المغتصبة، فكان لك أيها الشهيد ولرفاقك في فريق الدفاع، طريقتكم التي لا تقل عن طريقة الآخرين أهمية، وإن كانت أحياناً تفوقها خطورة.
سلاماً واحتراماً لكل المقاومين فقد جمعهم الإيمان بالدفاع عن الكرامة والسيادة الوطنية، ومن يختار هذا الطريق فلن يخيفه أن يتخطى حدود الحياة الدنيا ويقتحم حدود الحياة الأخرى بقلب لا يعرف الخوف.
أما سلاماً خاصاً لك، وتحية خاصة إليك، وعبرك، إلى فريق الدفاع، فلأنكم رفعتم سلاح القانون في عصر الاحتلال وعملائه، من دون حماية، لهو من أرقى أنواع البطولة.
كانت رسالتكم واضحة وشديدة الأهمية عندما تطوعتم لمهمة شائكة لم يكن أقل صعوباتها مثولكم أمام محكمة فرض الاحتلال كل شيء فيها، ديكوراتها وتشريعها، أي أنها لا تحوز على شرط شرعيتها وقانونيتها.
فبين المثول أمامها والخشية من الاعتراف بشرعيتها، وبين المثول أمامها لتكشفوا من خلال منبرها الإعلامي عن تلك اللاشرعية، وهي فرصة ترغم وسائل الإعلام على نقلها مجاناً، اخترتم أن تجازفوا بالحضور، وكشفتم بالفعل عن المخالفات القانونية المبدئية التي تحيط بتشكيل تلك المحكمة وسقطت عنها ورقة التوت التي كانت تخدع الملايين من المتابعين. وبهذا قد شكّلتم قيادة للمقاومة ضد العدوانيين على القانون واحتلال مقدساته وتدنيس محرابه. ولهذا رضيتم التحدي وكنتم جديرين به. كانت أهدافكم حماية القانون والشرائع الدولية. وباختياركم الجريء ارتكبتم جريمة كبرى في نظر جورج بوش. ذلك الرئيس المغرور قال عن القانون الدولي: «هذا شيء أركله برجلي».
لقد شكَّلتم أيها الشهيد عبئاً ومأزقاً أمام الاحتلال وعملائه. وبلغت درجة المأزق حداً أعجزت وسائل إدارة الاحتلال السياسية والعسكرية عن تحملها. فكانت البداية عندما هوَّلت وسائل الإعلام المعادية، بمساعدة وتنفيذ من زمر عملائها، بتوزيع التهديد والوعيد لكل محام يجرؤ على الدفاع عن الأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال الأميركي في العراق، وعلى رأسهم إمام المناضلين الرئيس صدام حسين، ولكنكم واجهتم بإصرار المؤمنين بالدفاع عن كرامة العراق والعراقيين عبر الدفاع عن الرئيس صدام حسين ورفاقه.
وبمثل تلك الخطوة الجريئة حملتم أكفانكم وأنتم مؤمنون بقدركم، فكان مهر الدفاع عن العدالة بقناعتكم يوازي حياتكم، فرضيتم أن تدفعوا للعدالة مهرها كاملاً.
حسب العدو المحتل، كما حسب عملاؤه الخونة، أنهم بإحالة الرئيس ورفاقه إلى المحاكمة يخدعون الرأي العام العالمي والعربي والعراقي بأنه يمارسون الديموقراطية، وهم كانوا قد أعدوا المسرح جيداً متوهمين أن السيناريو الخادع سيمر بسهولة. ولكن ما لم يحسبوه، وليست المرة الأولى التي تدل على أن حساباتهم خاطئة، كانت مسألتين:
الأولى أنهم لم يحسبوا أنهم سيشاهدون أبطالاً، أمثال الرئيس ورفاقه، كل رفاقه ممن كانوا في موقع المسؤولية في السلطة وفي قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي. أولئك الذين أرغموا، بمواقفهم البطولية تلك التي فاقت كل تصورات المتعصبين ضدهم، على احترامهم.
أما الثانية فإنهم لم يحسبوا أن هناك أبطالاً يمثلهم فريق الدفاع والإسناد، سيغامرون بحياتهم من أجل كرامة أمتهم، وكرامة القانون الذي يحملون لواءه.
لقد ابتلى الاحتلال وعملاؤه، بالإضافة إلى ابتلائهم بنضال المقاومة المسلحة وجهادها، بمقاومتين من نوع جديد:
-إحداهما مقاومة الأسرى العنيفة ضد المحكمة المهزلة وضد أولياء أمرها وعلى رأسهم إدارة الاحتلال.
-أما الثانية فيرمز إليها إصرار فريق الدفاع على حضور الجلسات وتعرية المحكمة والاحتلال وكشف عوراتهم بشكل تام.
في مواجهة ما لم تضعه إدارة جورج في حساباتها لم يكن أقل من إظهار الوحشية في ممارسة العنف ضد الأسرى، ولم يكن أقل من تحييد فريق الدفاع والإسناد لإبعاده عن المسرح حتى بالاغتيال.
لقد بدأت مظاهر المأزق الأميركي في طريقة التعامل مع المناضلة بشرى الخليل. إذ طردها القاضي «الطرطور» في جلسة 8/ 4/ 2006، وافتعل عوامل طردها في المرة الثانية، طبعاً كانت الأوامر تأتي إليه بواسطة أوراق/ أوامر على قصاصات ورق صغيرة لا تليق إلاَّ بقاضٍ وضيع.
واستكملت الأجهزة الآمرة مهمتها عندما بلَّغها الضابط الأميركي قرار المنع من حضور المحاكمة. وعلى الرغم من أنها بيَّنت له أكثر من وجه من وجوه المخالفات القانونية التي تحيط بقرار المنع إلاَّ أنه كان يتهرَّب من الجواب على طريقة «عنزة ولو طارت».
وانتهى الفصل الأول من عملية إفراغ قاعة المحكمة، بـ«تطفيش» المناضلة بشرى.
وظهر لاحقاً أن الفصل الثاني كان مُتَّخذاً باغتيال المناضل خميس العبيدي.
أما الفصل الثالث فلسنا ندري كيف سيكون، وجلَّ ما نتوقعه من خلال معرفتنا بأساليب العدو وأهداف عدوانه، أن قراراً بإعدام كل من يعمل على كشف أكاذيب «الكذَبَة» أصبح في يد خليل زلماي زاده، وبيد كل الخونة الذين يتاجرون بالدين.
فإذا كان الاحتلال قد اعتدى على العراق تحت ذرائع كشف كذبها بنفسه. فهو قد وقع في فخ تأسيس محكمة يغلِّف فيها ديموقراطيته، فكنت أيها الشهيد ممن أسهم في كشف الكذب والعهر فيها وفي أهدافها، فكان قصاصك الموت بالطريقة البشعة التي مورست في اغتيالك.
بعد أن دمَّر العدو الأميركي العراق، بكل شيء فيه، بدءاً ببنيته التحتية في النهضة العمرانية، والبنية التحتية العلمية، المُمَثَّلة بعلماء العراق وأكاديمييه وأساتذة الجامعات، ولما لم يستطع أن يحتوي ضمير القانونيين وإرهابهم، وهو الضمير الذي أفشل مؤامراتهم في تمرير محاكمة للمناضلين الأسرى تكون سريعة ومجزية لهم إعلامياً، وضعكم تحت نار حامية لـ«اجتثاث» روح الضمير فيكم.
أيها الشهيد الكبير
كما لم تنفع الاحتلال وعملاؤه الخونة، تهديداتهم في محاولة لـ«أسر الضمير» فيكم، فهم لن يأسروه بوسائل الاغتيال والقتل.
وهم إن نجحوا في إرهاب الأنظمة التي لم يرف لأحد جفن فيها، وإن نجحوا في زرع المزيد من الخوف في قلوبهم، إلاَّ أن مسيرة الثورة والثوار، والحرية والأحرار، ومسيرة ضمير الشعوب في رد العدوان بالمقاومة، ستبقى مستمرة حتى تطهير العالم، من بؤر الشر والعدوان التي يقودها المشروع الأميركي والصهيوني ضد كل معالم الخير في العالم، وفي مقدمتهم وطننا العربي.
أيها الشهيد الكبير
ونحن نبكيك، كما بكينا كل المعاناة التي وقع فيها أشقاؤنا في العراق.
ونحن نبكيك كما نبكي كل المعاناة التي وقع فيها أشقاؤنا في فلسطين.
لن يلحق الخوف بنا، كما لن يعرف الخوف طريقاً إلى قلوب الشرفاء في أمتنا، ولن يكون بكاؤنا دليل ضعف أو خوف، بل دليل وفاء لمن يقدمون أرواحهم على طريق تحررنا من الاستعمار والصهيونية.
لن نخاف من أن ترتجف قلوب زملائك، فقد عقدوا العزم منذ أن تطوعوا للدفاع عن الأسرى في العراق، على متابعة المسيرة، مسيرة الدفاع عن الضمير الوطني والقومي والإنساني، فهم اختاروا سلوك الطريق وهم يعرفون مخاطره.
لذا نتقدَّم منهم فرداً فرداً، وإلى كل الذين عزموا على أن يتطوعوا إلى جانبكم ولم يتسن لهم شرف الالتحاق، بأحر التعازي. كما نبارك لعائلتك الكريمة فرداً فرداً بشهادتك الكبيرة.
***

(15): المشهد العراقي في شهر حزيران2006
سلسلة من المآزق تتبعها سلسلة من محاولات الهروب

حفل شهر حزيران بالتطورات بدءاً من محاكمة الرئيس صدام حسين ورفاقه، مروراً بالانتهاء من تشكيل حكومة نوري المالكي، انتهاءً بالأزمات التي تعصف في وجهها: ليس أقلها بداية التداعي الفعلي لوعودها ومستوى المراهنة عليها من قبل الطاغية جورج بوش وتابعه طوني بلير، انتهاء بمأزقها، بل بمآزقها، ابتداء من الملف الأمني الذي فتحته على طريقتها ليشهد المزيد من التآكل على طريقة المقاومة.
لا تجدي معالجة كل مظهر من المظاهر بشكل منفصل عن الآخر، بل كل أوجهها مترابطة لتؤدي إلى نتيجة واحدة، وهي بداية العد العكسي للهروب بعد أن سقطت كل مراهنات الاحتلال الأميركي. وبسقوطها راحت إدارة بوش تحتال على توفير طريقة للانسحاب تعفيها من خروج مكلَّل بالهزيمة.
هروب الإدارة الأميركية وعملائها من مأزق المحكمة الصورية باجتثاث نتائجها
ضاقت الإدارة الأميركية ذرعاً بالمحكمة الصورية التي نصَّبت عليها الحاقدين على نظام حزب البعث السياسي، ورئيسه الشرعي الأسير، فتميَّز شهر حزيران بعنوان كبير وهو كيف يمكن لإدارة جورج بوش أن «تجتثَّ النتائج الإيجابية» التي مالت موازينها لمصلحة البعث من خلال المواقف الجريئة للأسرى وشهود النفي ومحامي الإسناد والدفاع.
توزَّعت إدارة المحكمة الأميركية الأدوار مع «طراطيرها» حَمَلة الهوية العراقية، الذين أحسنوا التنفيذ بتفريغ المحكمة من محامي الإسناد بالطرد بشكل تعسفي، وإرهاب الشهود واعتقالهم، أولئك الذين أظهروا شجاعة فائقة مشهوداً لها، وإرهاب الأسرى بالنفي عن مسرحها الإعلامي وتكسير أيديهم من قبل جلاوزتها، كمثل ما حصل مع المناضل برزان التكريتي، واستكملت مهمتها شللٌ وعصابات من الحاقدين، تارة تحت غطاء وزارة الداخلية، وتارة أخرى تحت غطاء الميليشيات الطائفية الحاقدة من الذين رضعوا من أثداء الخيانة حتى شبعوا، فقاموا بخطف فقيد العراق والعروبة والقانون، المحامي خميس العبيدي، وقتلوه ومثلَّوا بجثته.
فكان شهر حزيران شهر تقويض المحكمة التي نصبَّوها لأهداف انقلبت عليهم كانقلاب السحر على الساحر. فاجتثوها للهروب من الفضائح التي لاحقهم بها الأبطال الأسرى، والمحامون الشجعان، بكل رباطة جأش.
الهيئة الأممية تنجد الإدارة الأميركية بتمويه جريمة الاحتلال بالاستجابة لطلب المالكي
بعد أن تأخَّرت الإدارة الأميركية عن تلبية استحقاقات القرار 1546الدولية، التي هي طبعاً استحقاقات المساومة التي جرت في أروقة مجلس الأمن الدولي لتحصل الدول التي استجارت بها إدارة جورج بوش على حصتها في العراق، مدَّدت تلك الدول تحت شكلية طلب حكومة نوري المالكي ستة أشهر أخرى لبقاء قوات الاحتلال في العراق. ونحسب أن تلك الفرصة لن تتكرر إلى الأبد، بل هي فرصة مدفوعة الثمن للدول المتواطئة في مجلس الأمن، لعلَّها تحت سقفها تساعد إدارة جورج بوش على تدبير أمورها في صياغة طريقة للهروب تحفظ ماء الوجه لأكبر جيش في العالم، ولعلَّ تلك الدول التي هي من قادة النظام الرأسمالي بحفظها لماء وجه جيش الرأسمالية الأميركي تحفظ ماء وجه النظام الرأسمالي في العالم، من أجل ألآَّ يفقد النظام الرأسمالي هيبته.
الإدارة الأميركية تنقل مأزقها إلى محاولة التفاوض مع من جاءت بالأصل لـ«تجتثه»
تجدر الإشارة هنا إلى أن تلك الخطوات تترافق مع رغبة مُلحَّة عند الإدارة الأميركية في جرِّ المقاومة العراقية إلى التفاوض على قاعدة إلحاقها بما تسميه «العملية السياسية» وهي تغدق لها كل أنواع المغريات، وتطلق الإشاعات عبر الإعلان عن لقاءات وهمية، تارة على لسان جلال الطالباني، وتارة أخرى على لسان المالكي، ومرة ثالثة بتكليف عملائها مما يُسمون «ممثلو السُنَّة» بدعوة قادة المقاومة إلى الاستجابة لدعوات الحوار.
ليس اللغط الدائر حول إلغاء قرار «اجتثاث البعث»، وهو القرار الذي حمل الرقم (واحد) تحت توقيع بول بريمر، والذي ضمَّنته الإدارة الأميركية، مترافقاً مع حماس الحاقدين من الطائفيين والخونة، في صُلب ما سمُّوه الدستور العراقي، إلاَّ وجهاً من وجوه الإغراءات التي تروِّج لها لاجتذاب حزب البعث العربي الاشتراكي إلى مصيدة كان متنبهاً لها منذ الأساس، ورفضها رفضاً مطلقاً منذ البداية.
ذلك الإعلان / المصيدة لم ترفضه المقاومة والبعث لوحدهما فحسب، لأن ما يتم تحت سلطة الاحتلال وعملائه مرفوض بالمطلق، بل رفضته القوى الطائفية الحاقدة أيضاً لأنها تعلم علم اليقين أنها مرفوضة في ظل النظام الوطني. فالنظام السياسي إما أن يكون لكل أبنائه وإما ألاَّ يكون، والدولة الوطنية إما أن تكون لكل أبنائها أو لا تكون. فالصراع بين البعث، الذي يعبِّر عن قراره الوطني، والشلل الطائفية التي تريد تفتيت الوطن لحفظ حصص للطوائف على حسابه، هو صراع وجود لا صراع مصالح بين الطوائف.
على وقع الإعلام المكثَّف عن هذا الجانب، تعمل الإدارة الأميركية على نار حامية من أجل تجميل ديكور الهروب تبعاً للخطوات التالية:
1-هروب الإدارة الأميركية من أوساخ احتلالها لتعلِّقها برقبة حكومة نوري المالكي
كاستحقاق دولي مُلزمة بتوفيره، تنفَّست الإدارة الأميركية الصعداء بعد أن قامت بإنجاز تشكيل صوري لحكومة المالكي، فوصفته بالإنجاز التاريخي، وراحت تنسج على تاريخيته من أجل أن تعلٍّق أوساخ الاحتلال عليه، كانت قد مهَّدت له بالكشف عن دور أجهزة حكومة عملائها في الخطف والقتل والاحتجاز والتعذيب.
وكاستحقاق أمام الراكعين من الدول المشاركة في الاحتلال تحت خديعة القيام بـ«إعادة إعمار العراق»، كمثل اليابان، من الذين ضغطت عليهم منظمات الضمير في بلدانهم للانسحاب، ابتدأت قوات الاحتلال الأميركي، بالتوافق مع تابعها القوات البريطانية، بتسليم مهمة الأمن لما يُسمَّى الأجهزة الأمنية التابعة لحكومة نوري المالكي، في محافظة السماوة، على أن تُستكمل الخطوة الأولى بتسليمها الأمن في محافظة ميسان في وقت لاحق.
من الواضح أن إستراتيجية الهروب للقوات البريطانية كانت واضحة، وأصبحت أكثر إلحاحاً، بعد انفجار الوضع في كل من العمارة والبصرة، دفعت فيها قوات الاحتلال البريطاني عدداً من جنودها سقطوا قتلى أو جرحى. وأصبحت حاجتها للهروب أكثر من ضرورية بعد أن غرقت في بحر الفوضى الأمنية التي اندلعت شرارتها بين العصابات التي تتسابق على امتصاص دم العراق. تلك العصابات التي ترتبط مع مافيات أجنبية ومنها المافيات الإيرانية.
ليس كل ما يجري في الجنوب عموماً، والبصرة والعمارة خصوصاً، يتم على قاعدة الصراعات الداخلية بين عصابات الخونة بسبب السيطرة على عائدات التهريب، وهو وجه من الحروب الداخلية المتوقع حصولها فحسب، وإنما الجزء الأساسي منها، وهو الأهم، فهو تصعيد المقاومة الوطنية العراقية من عملياتها في تلك المنطقة أيضا. تلك المقاومة التي أبرزتها وسائل الإعلام بصورة أهل البصرة الغاضبين على الاحتلال، فلم يمض يوم من دون أن تتناقل الأخبار والتقارير جزءًا منها. ومما يثبت ذلك هو انكفاء لقوات الاحتلال البريطانية التي أخذت تعزل نفسها في ثكنات تحيط بها الحواجز الكونكريتية.
أما عن الدور الإيراني في تأجيج الفوضى، ومنها افتعال عمليات التطهير الطائفي في البصرة، فعائد إلى استغلال فرصة الإرباك الأميركي والبريطاني من أجل استكمال مخطط الهيمنة على جنوب العراق.
2-هروب الإدارة الأميركية من شوارع العراق بتكليف مهمة الأمن لعملائها
تحاول قوات الاحتلال الأميركي، وبعجلة من أمرها، إلى تمهيد ساحة أمنية أمام عملائها، باجتياحات وحصارات وعمليات عسكرية وحشية من أهم معالمها حصار الرمادي وبغداد. تقوم بذلك ظناً منها أنها «تجفِّف» تلك المناطق من عناصر المقاومة وقياداتها. ولكن تلك الحصارات، على الرغم من أنها تصيب العراقيين بأشد أنواع المعاناة والضيق، إلاَّ أن المقاومة تتصدَّى لها على طريقة الكمائن، وهي بدلاً من أن تقود إلى تحقيق أهداف الاحتلال وعملائه، فهي تصيب منهم الخسائر الكبيرة التي يتم التعتيم عليها.
3-هروب الإدارة الأميركية من شراكة النظام الإيراني في الاحتلال إلى علقم المساومة معه على الملف النووي.
تراهن الإدارة الأميركية على أن إصرارها على التفاوض مع النظام الإيراني حول الملف العراقي قد يؤدي إلى استراحة المحارب المنهوك القوى. وعلى طريقة المساومة على ما لا يملكه الطرفان أصبح على العراق أن يدفع ضريبة حماية المشروع النووي الإيراني حسب الخطة الإيرانية، والمراهنة الأميركية على منع فتح أبواب جديدة تنال من أمن قواتها في العراق وأمن قوات حليفتها البريطانية.
وعلى العموم، تُعتبر خطة احتواء العراق المفكك المعزول عن الوطن العربي بمثابة إستراتيجية تخدم مصالح الطرفين الأميركي والإيراني. ولا يغيب عن تحليل المراقب أن إيران تعمل من أجل تعزيز موقعها الإقليمي، وهذا لا يمكن أن تتوفَّر شروطه بوجود عربي فاعل ومستقل القرار، وبوجود عراق وطني موحَّد الأرض والشعب، وتلك شروط تلبي أيضاً مصالح الإدارة الأميركية التي تعمل جاهدة من أجل تفكيك الوطن العربي، لأنه بدون هذا التفكيك لا يتناسب مع مخطط «الشرق الأوسط الكبير». ذلك مشروع يقف على طرفيْ نقيض مع أية دعوة توحيدية. وحيث إن حزب البعث العربي الاشتراكي لا يزال مصراً على شعاراته في الوحدة العربية، سيبقى نقيضاً استراتيجياً للمخططين الأميركي والإيراني على حد سواء، وسيبقى عرضة لاستهدافاتهما بالخلاص منه.
إن ذلك الالتقاء بين مصالح الطرفين لا يلغي دعوتنا إلى النظام الإيراني لبناء علاقات ثقة مع الأمة العربية، ومع العراق بشكل أكثر خصوصية، بسبب من الانتماء إلى محيط جغرافي واحد ومحيط ثقافي تعود جذوره للتراث العربي الإسلامي. وإن إصرار النظام الإيراني على تنفيذ إستراتيجيته لهو مغامرة لن يُكتب لها النجاح، وهي مغامرة تخدم الاستعمار والصهيونية على المديين القصير والطويل.
إن نداءنا هذا، وإن كان يتكرر من فترة إلى أخرى، فهو لحرصنا الشديد على تكامل جهود دول المنطقة من أجل القضاء على أحلام النقيض الأساسي، المتمثل بالمشروع الاستعماري والصهيوني أولاً، ومن بعده لكل حادث حديث.
ليس نداؤنا مستنداً إلى فراغ، بل ازداد رسوخاً بفعل العوامل التي أخذت تطفو على السطح بشدة ملفتة للنظر، وهي وإن كانت الأحداث التاريخية قد أثبتتها فإن واقع الحال الراهن جاء ليؤكدها. إن الواقع الراهن الآن هو ما يتسرب من أخبار، وما يُعلن من بيانات، كلها تنتسب إلى أصوات شيعية، لم تكن أحداث إسقاط العلم الإيراني عن القنصلية الإيرانية في كل من البصرة وكربلاء إلاَّ أقل مظاهرها. وما على كل من يريد أن يصل إلى الصورة الحقيقية لموقف سكان جنوب العراق تجاه النظام الإيراني إلاَّ أن ينزل إلى شوارع البصرة والكوفة والنجف وكربلاء...
4-هروب الإدارة الأميركية من شر الاعتراف بالهزيمة الكاملة إلى شر تقسيطها بالانسحاب التدريجي
لو قرأنا تصريحات جورج بوش، وزمرته الحاكمة المحيطة به، قراءة سطحية لنال منا اليأس كل منال. فهم لن يخرجوا من العراق، كما يتوهمون، إلاَّ منتصرين.
وبقراءة لبعض زوايا تلك التصريحات، التي يدعون فيها الأميركيين إلى التحلي بالصبر، لا نجد فيها إلاَّ توسلاً للمعترضين على الحرب في العراق، والداعين إلى الانسحاب منه بسرعة، بما له من دلالة تنبئ عن شدة حالة الاعتراض وتصاعدها وتناميها كلما استقبل الأميركيون أحد قتلاهم، أو كلما قرَّرت إدارة بوش صرف دولار جديد لتمويل نفقات الحرب في العراق وأفغانستان.
بالإضافة إلى اعتراض الحزب الديمقراطي في أميركا، بعد أن أصبح العدوان مُكْلِفاً بالدم والمال الأميركي، لم تستطع بعض القوى النافذة في الحزب الجمهوري من إخفاء حقيقة مواقفها الداعية إلى الخروج من العراق بناء على معرفتها بالوضع المأساوي للجنود الأميركيين نتيجة المواجهة البطولية التي تقودها المقاومة الوطنية العراقية.
لقد صرَّح السيناتور جيمس دين، رئيس الحزب الديمقراطي: من واجب إدارة جورج بوش ألاَّ تدع الشعب الأميركي يفكر ببناء جدارية أخرى كأحد نتائج الحرب في العراق، شبيهة بجدارية ضمت أسماء خمسة وخمسين ألف جندي قتلوا في فيتنام.
ومن أهم معالم حالة الاعتراض الأميركي، في هذه المرحلة، خاصة وأن من المعروف عن الشعب الأميركي أنه الأكثر انفصالاً عن قضايا العالم والأكثر جهلاً بها، هي أن العدوان على العراق أخذ يؤسس لحالة شعبية ناقمة، ودخلت تأثيراته وتداعياته إلى ذهن المواطن العادي وذاكرته وأسلوب تعبيره. ليس أقلها المواقف الجريئة لأحد المخرجين الأميركيين ضد الاحتلال، ودخول تلك الحالة إلى الأغنية الشعبية التي يؤديها عدد من المغنين في أميركا، هذا بالإضافة إلى تداول بعض الحكايات الساخرة عن هروب الجنود الأميركيين من الخدمة العسكرية، وإلى دخول النقد الساخر لسلوكات رئيس الولايات المتحدة الأميركية عن طريق قصص مخصصة للأطفال، وفيها يتم وصف الرئيس بالغبي والدمية...
وإن كان الرئيس الأميركي يستطيع أن يركل القانون الدولي برجله، فهو لا يستطيع أن يركل بها أصوات الناخبين في الانتخابات القادمة. وهو لا بدَّ من أنه سيكون مجبراً على الاكتراث لرأي الناخب الأميركي قريباً. وقد ظهرت المعالم التي تدل على ذلك، ومن أهمها إعلان الجنرال جورج كايسي عن البدء بالانسحاب التدريجي للجنود الأميركيين في شهر أيلول من هذا العام، على أن يكون تخفيض القوات ملحوظاً حتى نهاية العام 2007.
قد يعزو البعض أسباب هذا القرار، كفسحة تكتيكية تمارسها إدارة جورج بوش لجذب أصوات الأميركيين في الانتخابات لصالح الحزب الجمهوري، وهذا صحيح برأينا. إلاَّ أن ضغط الشارع الأميركي الذي أعطى نتائجه، بينما لم تتجاوز عتبة القتلى حسب إحصاءات البنتاغون الألفين وخمسمائة قتيل، وعتبة النفقات الحربية التي تصل إلى عتبة بضع مئات من المليارات، لن تنخفض حرارته أبداً، خاصة وأن ارتفاع عدد القتلى وعدد المليارات تمر في مراحل تصعيدية.
على العموم يُجمع المحللون، سواءٌ منهم ممن يتعاطفون مع الإدارة الحالية أم ممن هم على تناقض معها، على أن العد العكسي لإنهاء الاحتلال الأميركي قد بدأ.
ونحن نقول إن العد العكسي هو بمثابة السم الذي أصبح جورج بوش وزبانيته مجبرين على أن يتجرعوه. وقد سبقهم غيرهم إلى تجرعه. والحبل على جرَّار قوارير السم الذي تقوم المقاومة الوطنية العراقية بصناعتها من رمل صحراء العراق وسعف نخيله.

(16): عبير ذبيحة الشرف العربي تلعن شرف الصامتين والخونة
6/ 7/ 2006
حتى لو كانت مأساتك يا عبير قد ملأت الشاشات، ومقدمات الأخبار، إلاَّ أنك أصبحت الرمز الذي يؤشِّر على مئات حوادث النذالة والخسة التي يصنعها جنود مجرم أميركا الأكبر، ورئيسها الذي يزيد ملفاتها عاراً على عار.
مأساتك يا عبير، ومأساة الأب والأم والأخت، مرَّت على مسامع قائد الولايات المتحدة الأميركية، عفواً «قوَّادها»، ولكنها لم تصفعه بحذاء على وجهه، بل وضعها في خطة جنونه كأسلوب «ديموقراطي» يعتبره إحدى الضرورات التي تثير الخوف في نفوس من يقاوم «ديموقراطيته» المزعومة التي يصدِّرها إلى العراق أولاً. ويرغب في تصديرها إلى أرجاء الوطن العربي لاحقاً.
مأساتك يا عبير، ومأساة من سبقنك في «بوسفورات» أبو غريب: زينب وناديا و.. و..
مأساتك يا عبير، ومأساة من خُطفن من شوارع مدن العراق، وقراه، ليُبَعْنَ في شوارع دول الخليج رقيقاً أبيض...
مأساتك يا عبير، ومأساة العراق كله، ليست مأساة عبير وأخواتها، كما ليست مأساة العراق كله.
مأساتك يا عبير هي مأساتنا في الأمة التي ارتضت الذل.
الأمة التي وقفت في الصف أمام جلالة الإمبراطور تتسابق على تقبيل يديه، ورجليه، وقفاه...
مأساتك ابتدأت عندما وقف العرب متفرجين، ومشاركين، في العدوان الثلاثيني على وطنك.
مأساتك ابتدأت منذ اليوم الذي وُلدت فيه، أي مضى على العدوان على وطنك خمسة عشر عاماً، وبلغت أنت يوم العدوان عليك خمسة عشر ربيعاً. فابتدأت مأساتك يوم أن تواطأت الأنظمة العربية وأسهمت في مأساة الوطن الذي وُلدت على أرضه.
مأساتك يا عبير ابتدأت قبل ولادتك عندما عصف الشر بوطنك من الشرق تحت عاصفة «تصدير الثورة» مستكملة عاصفة «هولاكو»، و«جنكيزخان»، فأوقفت زنود الأبطال عصفها وحوَّلته إلى «برد وسلام» على العراقيين، وعلى العرب الذين كانوا خائفين.
اختارت عاصفة «الشرق» الانحناءة أمام «عاصفة الصحراء»، تمهيداً للتحالف مع«عاصفة العواصف» لردَّ التحية. وهكذا دار الدولاب لمصلحة أعداء «الشيطان الأكبر». فراحوا يثأرون، وأيما ثأر كان؟
لقد دفعت أنت الثمن يا عبير، ودفعت أمك واختك وأبيك الثمن أيضاً. ودفعت قبلكم، وستدفع بعدكم، الماجدات العراقيات من شرفهن وكرامتهن، ثمناً لرغبة الوحوش المفترسين من أبناء المشرق وأبناء المغرب.
سيدفع العراقيون والعراقيات من بعدكم الثمن طالما أن «المعتصم العربي» لا يزال غارقاً في سباته.
سيدفع العراقيون والعراقيات من بعدكم الثمن طوال ما غاب الأسد عن حراسة العرين.
وطوال ما سيغيب الأسد عن حماية عرينه ستستبيح الثعالب «كرومنا» العراقية، و«كرومنا» العربية أيضاً. فهل سيولِّي عهد كافور الإخشيدي؟
يا حسرتي على أمتي
يا حسرتي على غياب عهد الأبطال، ويا حسرتي على «المثنى»، لقد استباحت الروم والفرس حدود العروبة عندما استباحت حدود العراق.
لقد استباحوا عرضك، وكرامتك يا عبير، عندما استباحوا حدود العراق من دون أن يرفَّ جفن ابن امرأة رسمية عربية. فاستكانوا تحت جناح ثعالب الشرق والغرب.
ولكن هل سيطول الليل؟
وهل سينجلي من جديد؟
بلى أيتها الماجدة، فليس عرضك هو المستباح، فعرض الخونة المتواطئين الضعاف النفوس هو المستباح. وعرض أبناء النساء الرسميات هو المستباح. فإن لم يكن بالفعل الآن، فدورهم آتٍ بلا ريب.
أنت تدفعين اليوم ثمناً لحماية الفيدراليين والفيدراليات، الطائفيين والطوائفيات، العرقيين والعرقيات.
أنت تدفعين اليوم ثمناً لحماية مشاريع لا ناقة لك فيها ولا جمل، مشاريع آتية من الشرق ومن الغرب. كما أنه لا ناقة فيها للعراقيين والعرب ولا جمل. أما السبب فهو أن «الناطور العربي» تحوَّل إلى «خيال في الصحراء»، فتاه بين قادم من الغرب يرغي ويزبد، وقادم من الشرق يعربد يساوم ويزايد على عِرض العراقيين وكرامتهم.
يا حسرتي على أمتي، ولكن يا عبير،
لا يساورنا الشك، ولن يساورنا، ولن يساورك يا ضحية العراق والعرب، أن الأمة لا تغوى النوم، فما يستفزها الكثير الكثير... وهي تصحو، وتفرك العيون التي آرقها السهاد.
لن يطول ليلنا يا عبير طالما أن «الطك» يلعلع في كل زاوية من زوايا العراق.
لن يطول ليلنا يا عبير طالما أن زنود العراقيين تعصف بكل «الطيور» التي تستبيح سماءه.
لن يطول ليلنا يا عبير طالما أن رمال الصحراء تُنبت «عبوات ناسفة»، عراقية الهوى والصنع والهوية.
لن يطول ليلنا يا عبير طالما أن رجال العراق ينتزعون النوم من جفون جنود الاحتلال، ويحرمون عملاءه، الخونة المرتزقة، من الأحلام الخضراء في «المنطقة الخضراء». أولئك «الكافوريون» الذين بشموا من السرقة والنهب والقتل والاغتيال، لكن جيوبهم لم تمتلئ بعد من عناقيد العراق وخيراته.
لن يطول ليلنا يا عبير، والمالكي فيهم خائف من انسحاب القتلة والوحوش، رفاق الوحش الذي اعتدى عليك، ونكَّل بأمك وأبيك واختك.
لن يطول ليلنا يا عبير طالما أن صدام حسين، الأسد العربي، حتى لو كان في قفصه، يزأر فيزلزل جدران البيت الأبيض. وطالما أن رفاق صدام حسين يزرعون الرعب في نفوس كل الخونة والمارقين والخائفين من هزيمة «ولي نعمتهم».
رحمة الله عليك يا عبير، ورحمة الله على عائلتك، وعلى كل الذين قضوا دفاعاً عن العراق. فأنتم الأحياء ونحن الأموات، ولن نحيا إلاَّ إذا ثأرنا لكم جميعاً.
يا عبير، يا عروسة العرب، إن احتضنتك تربة العراق، فإنك أصبحتِ الضمير الذي لن يستطيع الخائفون والمرعوبون قتله والخلاص منه.
***

(17): إلى دول الجوار العراقي، والعراقيين اللاهثين وراء حلول سريعة
ليكن هدفكم الانحياز إلى تحرير العراق وإعادة توحيده أولاً
10/ 7/ 2006
لقد لفتنا في المؤتمر الذي عقدته دول الجوار الجغرافي في طهران، بتاريخ 9/ 6/ 2006، مبادرة النظام الإيراني التي تدعو إلى برمجة انسحاب قوات الاحتلال الأميركي من العراق. ولأن أية مبادرة مماثلة تًعيد الحق إلى نصابه، كان لا بدَّ من أن تستوقفنا.
هل تلك المبادرة مقصودة من أجل موقف حق؟ ام هي مبادرة حق يُراد بها باطل؟
حول ذلك دلَّت كل تجارب السنوات السابقة، خاصة بعد التنسيق الإيراني الأميركي في احتلال «كابول وبغداد»، أن مبادرة النظام الإيراني ليست أكثر من مبادرة حق يُراد بها باطل. واستتباعاً للتنسيق المذكور استكمل النظام الإيراني مخططاً تخريبياً في العراق لم تعد تخفى معالمه على المراقبين لاتساع مظاهره وآثاره. ولكن فلندع لحسن النية مكاناً لعلَّ وعسى. وعلى أساس حسن النية ننظر إلى تلك المبادرة من منظار مبدئي، فنرى أن استكمالها بما يطمئن على أرض العراق وفضائه هو أمر ضروري لنحكم من بعده على مصداقية اللفظ مع روح المشروع الإيراني وأهدافه المضمرة والظاهرة على أرض العراق الواقع تحت الاحتلال. وهل هناك متغيرات أجازت هذا التحول أم أنه تحول تكتيكي للضغط على الإدارة الأميركية من أجل إنقاذ المفاعل النووي الإيراني؟
فإذا كان تحولاً مبدئياً فنحن نباركه لأنه يسير في الطريق الصحيح. واما إذا كان خطاباً تكتيكياً فننصح بتحويله إلى وجهته الاستراتيجية الصحيحة. وساعتئذِ، على الرغم من أن البعض سيستغرب وثوقنا بسهولة بالنوايا الإيرانية، سنظلّ ندعو جيران العراق والأمة العربية إلى سلوك الطريق الصحيح على شرط ألاَّ نقع في غفلة واستغفال.
إن نظرتنا إلى بعض ما جرى في المؤتمر المذكور من الزاوية المذكورة، ولكي نُبقي اليد ممدودة إلى كل من تتناقض مصالحهم مع المشروع الأميركي والصهيوني، ومنها النظام الإيراني مشمولاً بمواقف كل دول الجوار العربي وغير العربي للعراق، ومشمولة بمواقف ورؤى بعض التيارات العراقية والعربية، نرى أنه لا بدَّ من أن نطل على ما فات من مواقف ومحاولات سارت، ولا تزال تسير، على الطريق الخطأ من أجل وضح حلول للقضية العراقية. وبها ومعها لعلَّنا نستفيد منها في المراحل القادمة التي تنتظر هزيمة محققة للاحتلال الأميركي وعملائه.
لقد تعب أولياء الأمر في دول الجوار الجغرافي للعراق، وكدَّهم العرق، من جرَّاء اللهاث وراء حلول للقضية العراقية تحت الاحتلال. وما نالهم إلاَّ تعب جلسات المناقشة وجهدها، فلم يفلحوا، ولن يفلحوا، في الوصول إلى حلول تجمع بين مصالحهم المتناقضة.
وانبرى للجلوس إلى طاولة المصالحة، أو بعض «قصيري النفس» من الذين يسوَّقون لمبادرات كل همها أن تحفظ لهم مواقع متقدمة في أي نظام سياسي للعراق.
لن نجهد أنفسنا في تشخيص أسباب الفشل لنقول بأن قضية وطنية سائرة على طريق التحرر من الاحتلال لن تُنتَج الحلول السليمة لها إلاَّ على قاعدة وطنية تحررية. وهذا الهدف لن يكون بمنال أحد إلاَّ بأن يقوم الوطنيون التحرريون بوضع تلك الحلول والعمل من أجل تطبيقها.
تلك المعادلة ليست بوارد الوصول إلى اتفاق على حلول للقضية العراقية ، سواءٌ أكان الأمر يتعلَّق بدول الجوار أم كان عند اللاهثين وراء تسويق «حلول كيفما كان» طمعاً بمواقع شخصية.
لقد تناسى الجميع أن العراق واقع تحت الاحتلال، ومن احتل العراق ليس بوارد أن يترك لأحد في العراق حصة فيه، جيراناً كانوا أم من أهل الدار. فعلى واقعية منطق توفير المصلحة بـ«ميكيافيليته»، وعلى الرغم من القذارة التي تأنفها نفوس الشرفاء من الذين يأبون أن تكون «مصائب قوم عند قوم فوائد»، لا يمكن للاعب «ثانوي» أن يحلم بتوفير مصلحته في ظل وجود لاعب «أساسي». فاللاعب الأساسي هو الاحتلال، وهم اللاعبون الثانويون.
تلك المعادلة تدعو دول الجوار والانتهازيين إلى العمل من أجل طرد الاحتلال أولاً لأنه صاحب المصلحة الأساسي في احتلال العراق، ومن بعد طرده يمكنهم أن يحلموا بحصة لهم.
ليس الاحتلال الذي يعمل الواهمون والمساومون تحت رايته هو اللاعب الوحيد الذي عليهم أن يتفاوضوا معه أو يساوموا على حصصهم. ففي العراق المحتل لاعبان رئيسان: الاحتلال والمقاومة، أما البقية من الذين يحسبون أنفسهم من اللاعبين فتتملَّكهم أوهام بالقوة والقدرة على حيازة حصة في العراق. لا يعلم هؤلاء، أو يعلمون وينكرون، بأن الذي يسَّر لهم دوراً يلعبونه هو الفعل المقاوم، ولكن المقاومة لم يكن من أهدافها أن يستفيد هؤلاء من فعلها، وإنما لأنها أضعفت جسد الاحتلال برد فعل تحرري تجرَّا كل من الصيادين في الماء العكر على اقتناص فرصته.
ولأن قرار الاحتلال واضح من خلال عمله في أن يستفيد من كل الثغرات للتسلل من أجل إضعاف المقاومة، فبإضعافها إضعاف للمتسللين، ترك لكل هؤلاء، إذا لم يكن قد دفعهم إلى أن يلعبوا ادوارهم التي تصب في إنقاذه، فحسبوا أنفسهم «ديوكاً». ونسوا أنهم ليسوا أصحاب القرار على الإطلاق، بل هم أدوات في يد الاحتلال صاحب القرار لأول والأخير، فاستعجلوا الأمر لاهثين واهمين بأنهم سيقتطعون حصصهم ويتلذَّذون بها.
فإذا كان الاحتلال احتلالاً لا يعمل لمصلحة أحد بل إن مصلحته تفوق كل مصلحة أخرى،فهو يريد احتلالاً دائما ومستمراً من دون وجود أي شريك أو نصف شريك أو ربعه، فإن المقاومة تعمل من أجل تحرير الوطن، وهي لا تعمل لأي مصلحة أخرى إلاَّ تحرير الوطن من الاحتلال، بشكل نهائي وناجز وتام.
وبناء على المعادلة تلك سيبقى السابحون في الفضاء الفاصل بين الاحتلال والمقاومة تائهون في حالة من انعدام الوزن، إذ لن يكون الاحتلال مطمئناً لهم ولن تحسبهم المقاومة إلاَّ من المعرقلين لعملية التحرير، وهم من موقعهم سيكونون أقرب إلى الاحتلال ومنطق الاغتصاب منهم إلى ثوابت التحرير والدفاع عن الكرامة والسيادة الوطنية.
من تلك الوقائع لا بدَّ من أن نضع الحقائق الأساسية التي لا يمكن لعاقل أن يرى غيرها، لنقول ليس للاحتلال فهو يعرف حقيقة مواقف المقاومة، ويعرف حقيقة تأثيرها، بل نقول إلى دول الجوار الجغرافي للعراق، وإلى اللاهثين وراء سراب «حلول كيفما كان»: انتم لستم بالفعل أصحاب القرار، بل أنتم تعيشون على هوامشه مجرد تفصيلات يعمل الاحتلال على الاستفادة منها في مرحلة ضعفه. وما تجتمعون من أجله، أو تبادرون لأجله، ليست أكثر من مساحة أمل تكتيكية يستفيد منها الاحتلال. أنتم تفصلِّون حلولاً للعراق على مقاييس ما تخدعكم به أحلامكم، اما صاحب القرار الفعلي والشرعي الوحيد فهو المقاومة الوطنية العراقية. ولذا سيكون أي حل تتوهمون أنه سيرسم مستقبل العراق ليس إلاَّ حلاً عبثياً لا فائدة منه، وسيُنتج المزيد من العبث في مصير العراق والعراقيين.
فإذا كان الأمر واضحاً لديكم، فلستم من الغباء بما يجعل الحقيقة ملتبسة أمام عقولكم الراجحة، عليكم أن تحسموا الأمر في الاتجاه والسلوك نحو إحدى حقيقتين لا ثالث لهما: إما الانحياز إلى الاحتلال وبه تغامرون بمصير دولكم، أو بمصيركم الشخصي، والمخاوف تعرفونها أكثر منا، أو الانحياز إلى ثوابت المقاومة فتنقذوا العراق وفيه إنقاذ لدولكم ومصائركم الشخصية.
تعالوا إلى كلمة الحق التي أجازت وشرَّعت مقاومة الاحتلال حتى طرده من آخر شبر من الأرض المحتلة.
تعالوا إلى المقاومة الوطنية العراقية، فصدرها رحب وذهنها مفتوح وأنظارها تتطلع للحوار مع كل من ليس وجوده في العراق احتلالاً او عميلاً للاحتلال.
ابتعدوا عن الاحتلال وخدعه فهو يستغِّل مواقفكم العبثية ليمنعكم من الاعتراف بشرعية المقاومة المسلَّحة تحت خداع الدخول في ما يسميه «العملية السياسية السلمية»، أو في «العمليات التصالحية»، التي تتساقط الواحدة منها بعد الأخرى.
فعندما لا أحسب أنني أنطلق من أمنيات، والأمنيات مشروعة خاصة إذا كان الرهان معقوداً على بقية من ضمير، أفترض انها لا تزال حيَّة عند البعض. تعالوا إلى صحوة ضمير تدفع إلى استفاقة تجعل ما تبقى في النفوس الخيِّرة تندفع بعد سبات طويل إلى اليقين بهزيمة المشروع الأميركي الذي يتساقط. المشروع الذي لا يتساقط على أبواب مدن المقاومة العراقية من الشمال إلى الجنوب وحسب، بل في شوارع المدن الأميركية الكبرى أيضاً.
***

(18): الحلقات المفقودة في المواجهة الدائرة في لبنان وفلسطين والعراق
19/ 7/ 2006
إن لحظة المواجهة الشاملة في هذه المرحلة قد نقلت الأمة العربية، وحركة الثورة العربية، بطليعتها المقاومة الشعبية المسلَّحة، إلى مصاف الجبهة غير المعلنة، بدءًا من الساحة الفلسطينية، على الرغم من وجودها تحت رقابة العدو الصهيوني وقمعه المباشر، مروراً بالساحة اللبنانية، على الرغم من أنها ممنوعة من أن تتحول إلى إجماع وطني، انتهاء بأهم مفاصلها في العراق كونها تطول رأس الأفعى بشكل مباشر.
في هذه اللحظة التي تشتعل فيها ثلاث جبهات معاً، وفي وقت واحد، فيها ما يدعو إلى الاعتزاز والفخر، يُعيد فيها المقاومون الأبطال صياغة جديدة لآليات المقاومة لم يعهدها تاريخ المواجهة مع المشروع المعادي الأم الماثل بالمشروع الاستعماري – الصهيوني.
ونحن نتابع ما يجري على الساحات الثلاث، على الرغم من المآسي والتدمير التي يُلحقها العدوان الأميركي والصهيوني في أرواح الناس وكراماتهم وممتلكاتهم، نرى أن هذه اللحظة تعبِّر تمام التعبير عن إمكانيات الأمة العربية التي استحضرت عوامل القوة الكامنة فيها. تلك العوامل التي لو استثمرتها الأنظمة الرسمية، وهي لن تفعل، لوضعنا الأمة على سكة التاريخ المعاصر بدلاً من وضعها في موقع الخادم، غير الشريف، لأباطرة الأمركة والصهينة.
فإذا كان الحد الأدنى من التنسيق مفقوداً بين ثلاثية المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق إلاَّ أنه أعطى زخماً كبيراً لحالة المواجهة الراهنة، فهي ستكون أكثر تأثيراً، وأشد إيلاماً، إذا كان التنسيق حاصلاً بينها الآن أم في المستقبل.

الحلقة المفقودة بين المقاومين
إن الحلقة الأولى المفقودة هي إذاً حلقة الاعتراف بأن على المقاومين أن يشكلوا جبهة واحدة تتبادل الأدوار وتوزعها على قاعدة أن احتلال العراق وفلسطين، والعدوان على لبنان، يتم من قبل تحالف واحد يجمع الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني، حيثما ينجح يشكل ضعفاً لجبهتيْ المقاومة في الساحات الأخرى، وحيثما يفشل يشكِّل عامل قوة للمقاومة في تلك الساحات.
لقد جاء توقيت تفجير ثلاث جبهات في المواجهة، سواءٌ أفرضته المتغيرات أم جاء صدفة تاريخية، فأعطى الأنموذج الواضح الأمثل في أن المقاومة القومية الشاملة هي الحل المطلوب لإلحاق التراجع والهزيمة في المشروع الأميركي – الصهيوني.
إن للحلقة المفقودة الأولى أسباب، وقد يكون لها نتائج لا ترتقي إلى مستوى الآمال والطموحات. ومن أجل ذلك، لا يمكننا تقدير الموقف الاستراتيجي إلاَّ بتبيان تلك الأسباب كخطوة أولى على طريق تصحيح المسار من أجل ردم حفر الحلقات المفقودة الأخرى ليكتمل، ولو ببطء وطول صبر، العَقد الاستراتيجي المطلوب بين كل تيارات المقاومة على أية أرض عربية.

كيف نحوِّل الدعم التكتيكي لصالح الهدف الاستراتيجي
من الثغرات الأولى في مظاهر العمل المقاوم الآن في فلسطين ولبنان هو اعتماده على دعم خارجي يتأكَّد يوماً عن يوم أنه دعم تكتيكي وليس دعماً استراتيجياً. وإذا اعتمدنا أسلوب التصريح، وليس التلميح، لقلنا إن الدعم الإيراني لتيارات المقاومة فيهما يُعد الدعم الأساسي إذا لم يكن الوحيد. لكن هذا الدعم ليس مرفوضاً بل هو مطلوب، لأنه في مواجهة إمكانيات التحالف المعادي الهائلة لا يمكن إلاَّ أن تكون إمكانيات المواجهة الشعبية متوفرة في حدها الأدنى. وقد أثبتت التجربة أن «حزب الله» في لبنان لم يكن ليحصِّل على نتائج التحرير لولا توفُّر الدعم الإيراني الواسع له، أو من دون الدعم السوري، أو من دون وضع إمكانيات الدولة اللبنانية بتصرفه.
وفي جميع الأحوال نرى أنه على الرغم مما نحسبه دعماً تكتيكياً إيرانياً لـ«حزب الله»، بشكل أساسي، ولتيارات المقاومة الفلسطينية الأخرى بشكل عام، لا يمكننا أن نقلِّل من شأن إيجابيات هذا الدعم على القضيتين اللبنانية والفلسطينية. ولكن لكي لا تكون تلك الخطوة تكتيكية أو منقوصة، نرى ما يلي:
ما يجمعنا مع حزب الله أكثر مما يفرِّقنا
-إن تكتيكية الدعم الإيراني لا تدعنا نشكك بما وفَّره حزب الله من إيجابيات تمثَّل في الإسهام بشكل أساسي بتحرير الأراضي اللبنانية المحتلة. بل تجعلنا نفصل بين تكتيكية الدعم الإيراني له وبين النتائج الاستراتيجية التي وفَّرها للبنان خاصة والأمة العربية عامة. ولهذا ندعوه إلى الأخذ بعين الاعتبار لكي يكون حذراً، إذا استطاع، من استثمار دوره لاحقاً في مشاريع إيرانية قد تصب في غير مصلحة الأمة العربية.
-إن ما يجمعنا مع «حزب الله» في لبنان جوامع مشتركة أساسية طالما استمرَّ بدوره الاستراتيجي، ليس في تحرير الأرض اللبنانية فحسب، بل في استمراره بمقاومة العدو الصهيوني أيضاً إلى أن تصبح فلسطين حرة عربية من النهر إلى البحر.
-وانسياباً منطقياً مع اعتبار العدو الصهيوني غاصباً استراتيجياً مدعوماً من الأمبريالية الأميركية لا يمكن فصل المواجهة معه عن المواجهة مع العدوان الأميركي في العراق. فنحن نعتبر أن تحالف الصهيونية والاستعمار كأفعى يمتد رأسها من واشنطن ليصل ذنبها إلى أرض فلسطين المحتلة دعماً وحماية واحتضاناً، ومن دون كل ذلك لا يملك ذَنَبُ الأفعى عوامل الاستمرار ومقوِّمات وجوده بعد قطع رأسها. أما الآن فقد احتل رأس الأفعى الأرض العراقية بشكل مباشر، وتحت حمايته امتدَّ التأثير الصهيوني إلى كل مفاصل التأثير في العراق المحتل. وقد تأكَّد وجوده الرسمي في مدينة «أربيل»، إضافة إلى ما تُسمى «المنطقة الخضراء» في بغداد.

ما ليس متوفراً في نوايا إيران يجب أن يكون على جدول أعمال حزب الله في المستقبل
نتيجة لذلك لا بدَّ من أن نضع «حزب الله» أمام مسؤولياته. إذ ليس المطلوب أن ينقل مقاومته إلى العراق، لأن المقاومة الوطنية العراقية كفيلة بكل ذلك، ولا تنقصها الإمكانيات على شتى الصُعًد، بل إن المسؤوليات الأخلاقية المترتبة عليه هو أن يعترف بأن المقاومة العراقية تمثِّل المفصل الأساس في سحق رأس الأفعى، الذي إن سُحق، وهو سيُسحق، سوف يوفِّر على المقاومة في لبنان وفلسطين الكثير من الجهد والتضحيات، كما أنه سيقصِّر مسافات الوصول إلى بوابات النصر والتحرير في كل من القطرين معاً.
أما الاحتمال الأسوأ، أي في الحالة التي يبقى فيه رأس الأفعى في العراق من دون سحق يُفقده حتى سُبُلَ المناورة، فستتعرَّض كل الانتصارات على الساحات الأخرى، وخاصة في لبنان وفلسطين، إلى التآكل والانهيار بفعل إعادة اجتياحهما من جديد. فالاستعمار الأميركي إذا انتعش من جديد في العراق، فسينتعش في العالم كله، وستظهر أبرز معالمه في الوطن العربي. ومعه سينتعش المشروع الصهيوني ليخوض معارك حاسمة، على أن يكون أكثرها حسماً في لبنان وفلسطين كونهما القطرين الصامدين المقاومين.
إننا، ومن خلال تلك الحقيقة التي لا يختلف حولها عاقليْن، مؤكدين أننا في استشرافنا لمستقبل الصراع لن نشكك بأهمية الدور الذي يقوم به حزب الله في هذه المرحلة، والمرحلة التي سبقتها، بل نضعهما في الموقع الذي نحترم، يحق لنا أن ندعو إلى توظيف تلك الإنجازات لمصلحة الصراع الاستراتيجي بين أمتنا والتحالف الاستعماري الصهيوني.
إن الكسب الذي يحققه «حزب الله» على الجبهة اللبنانية يصب في المصلحة القومية من دون أدنى شك، وحتى لا يتم توظيفه لمصالح الآخرين من دول الجوار الإقليمي بالتفاف عليه من خلال الصراع الدائر الآن بين النظام الإيراني والإدارة الأميركية فيعمل على إيقاف الإنجازات التي تتحقق وتجميدها عندما تصل المساومات الجارية الآن بينهما إلى نهاية سعيدة للنظام الإيراني، نضع أمام أعين الجميع أن هناك حلقات أخرى مفقودة في خطة المواجهة ضد المشروع المعادي الأم.

الحلقات المفقودة في وعي أهداف النظام الإيراني وفهمها
ليس من قبيل التكرار أن نؤشر إلى التناقض بين الخطاب الإيراني المُعلَن وبين حقيقة ممارساته.
ففي خطابه المُعلن يعتبر أن الولايات المتحدة الأميركية هي بمثابة «الشيطان الأكبر»، وأن «إسرائيل غدة سرطانية» يجب اجتثاثها من المنطقة. ونحن نرى أن هذا الخطاب يحدد الثوابت التي ننطلق منها تماماً، ونؤيدها ونعتبرها خطنا الاستراتيجي، وليس هذا فحسب، بل إننا نضع كتفنا إلى جانب كتفه للنضال من أجلها أيضاً.
وإذا كانت الاستراتيجية ليست خطاباً فقط، بل تكتسب مصداقيتها في ميدان التطبيق. فنحن متفقان حول ثوابت الاستراتيجية، ولكن لا بدَّ من تساؤلات مشروعة حول وسائل التطبيق التي يمارسها النظام الإيراني، سواءٌ أكان بالواسطة أم كان بشكل مباشر.
أولاً: في لبنان: كان للمساعدات الإيرانية لـ«حزب الله» في لبنان الأثر الأكبر في تحرير الأراضي المحتلة في الجنوب, ونحن خلافاً لكل الآراء لا نرى في قبول «حزب الله»، أو غيره، لمساعدات من إيران أو غيرها لتوظيفها في تحرير أرض وطنية محتلة ما يستوجب الملامة أو «القدح والذم». وليس هذا فحسب بل إن تقديم مساعدات مماثلة هو واجب مطلوب تقديمه على كل من وقَّع على الشرائع الأممية التي تعتبر أن مقاومة الاحتلال هو واجب وطني وإنساني مشروع. ومن أجل ذلك يقتضي الواجب منا أن نوجه الشكر للنظام الإيراني لأنه أقدم على ما أقدم عليه عندما قدَّم لحركة تحررية مساعدات توفِّر لها الانخراط في واجب تحرير أرضها الوطنية. وهذا يستدعي رفع التحية لـ«حزب الله» لأنه استطاع الحصول على تلك المساعدات ووظَّفها توظيفاً سليماً من أجل الهدف الذي صُرفت له. من كل ذلك نستنتج أن حلقات المعادلة كانت متكاملة في لبنان، بين المساعدات الإيرانية وأهداف تقديمها إلى «حزب الله». وهو ما يجعلنا نقتنع بأن الخطاب الإيراني المُعْلَن مطابق تماماً لوسائل تطبيقه.
الحلقة المفقودة الأولى لفهم حقيقة الأهداف الإيرانية
ثانياً: في العراق: لقد احتلَّ رأس الأفعى «الشيطان الأكبر» العراق، وأصبح جاراً لإيران. وتحت حمايته تسلل ذَنَبُها «الغدة السرطانية» إليه. ففي العراق الآن موجود «الشيطان الأكبر» و«الغدة السرطانية» معاً. ومنه يمكننا أن نقارب بين الخطاب والتطبيق العملي.
فهل ما شهدنا حسن تطبيقه في لبنان هو الأنموذج الذي يسلكه النظام الإيراني في العراق؟
أما بالنسبة لـ«الشيطان الأكبر» فلم نر ما يقنعنا بأن العلاقة بين الخطاب الإيراني والتطبيق متكاملان أو منطقيان. وإنما الواقع أن هناك تنسيقاً متكاملاً بين النظام الإيراني و«الشيطان الأكبر». وقد مهَّد هذا التنسيق للعدوان على العراق، واستكمله العدوَّان اللدودان بالتنسيق أثناء احتلاله. فهل نستعيد حكاية جبران خليل جبران الرمزية التي أقنعنا فيها بإمكانية عقد تحالف بين «الخوري والشيطان»؟ لنقتنع بإمكانية التحالف بين المنطق واللامنطق؟
هذه هي الحلقة المفقودة الأولى بين ما يجري في لبنان وما يجري في العراق.

الحلقة المفقودة الثانية لفهم حقيقة الأهداف الإيرانية
أما بالنسبة لـ«الغدة السرطانية» فهي انتقلت إلى العراق لتصبح «غدَّتين سرطانيتين» واحدة اغتصبت جسد فلسطين منذ العام 1948، والثانية تغتصب جسد العراق منذ العام 2003. والمفارقة في الأمر هو أن النظام الإيراني قدَّم مساعدات مشكورة لـ«حزب الله» في لبنان لاقتلاع «الغدة السرطانية» من لبنان. بينما «الغدة الأخرى» في العراق تعيش في أمان واطمئنان من دون أدنى إزعاج إيراني. وليس هذا فحسب بل وقائع الأمور تبرهن على أن التسميات التي أطلقها النظام الإيراني على «حلفائه» العراقيين كمثل «فيلق بدر»، و«حزب الدعوة الإسلامية» يقتاتون من دم الضحايا العراقيين جنباً إلى جنب جراثيم «الغدة السرطانية» التي تنتشر في مفاصل حياة العراقيين.
تلك هي الحلقة المفقودة الثانية بين ما يجري في لبنان وما يجري في العراق.
تلك الحلقات المفقودة وغيرها مما سلَّط عليه الأضواء الكثير من الكُتَّاب والباحثين نضعها برسم «حزب الله»، ونحن لن نطالبه بأكثر مما يستطيع أن يتحمَّله في هذا الجانب، إذ يكفيه شرف أن مناضليه ومجاهديه يقفون في خندق مواجهة «الغدة السرطانية» بشرف وإباء. إلاَّ أن حقائق المستقبل ستفرض عليه أن يقف أمام نفسه ليساعدنا على فهم ما لا نستطيع فهمه من سلوكات النظام الإيراني.
ردم النظام الإيراني للحلقات المفقودة هي الخطوة الأولى على الطريق الصحيح
ومن منطلق حسن النية، وحسن النية مشروع دائماً بين أصحاب قضية «جوارية» واحدة، نسأل سواءٌ من يقف على رأس السلطة في إيران أم الشعوب الإيرانية، إذا كان ما تمارسونه من دهاء في سياسة ميكيافيلية تستند إلى مقولة «مصائب قوم عند قوم فوائد» من أجل تحصيل أكبر مصلحة ممكنة لإيران، نرى نحن بدورنا أن العكس هو الصحيح، «فوائد الجار عند الجار فوائد» لأن المصائب لن تبقى مصائب، والفوائد التي تُجنى من مصائب الآخرين ستتبخَّر أيضاً.
فهل يسلك النظام الإيراني مسار المنطق في العراق، التوليف بين الخطاب المعلن والسلوك الشاذ، فيوظِّف مساعداته لـ«حلفائه» من أجل تحرير العراق من الاحتلال الأميركي، وليس من أجل إنتاج احتلال جديد؟
ودعاؤنا الأخير، بمعزل عن إضاءتنا على الحلقات المفقودة في الصراع الدائر على ساحتنا القومية على قاعدة الكفاح الشعبي المسلَّح، أن تتوحَّد جهود المناضلين والمجاهدين على سابق تصور وتصميم في مواجهة «الشيطان الأكبر»، و«الغدة السرطانية» خير وأفضل من حالات الصدفة. وهي صدفة مهمة اكتشفنا من خلالها أن وحدة جهود المقاومين لهي أجدر وأبقى وأشد تأثيراً فيما لو تجاوزت خصوصيات الحالات وقطريتها، والانتقال بها إلى مستوى الوحدة النضالية والجهادية القومية.
***

(19): الحلقات المفقودة دولياً وعربياً وإقليمياً في المواجهة على الساحة اللبنانية
2/ 8/ 2006
بداية للتأكيد، وليس للتكرار، نعتبر أن الساحة اللبنانية الآن تمثِّل حلقة أساسية من ساحات المواجهة القومية ضد تحالف الشر الأميركي – الصهيوني، ولا بدَّ من أن تصب نتائجها في مصلحة هذا الصراع بمعزل عن هوية الذين يقاتلون وأهوائهم السياسية وارتباطاتهم الخارجية.
لذا نؤكد أنه حقاً لهم وواجباً علينا أن نؤيدهم ونشاركهم مهمتهم كلٌّ حسبما توفره له ظروف المشاركة.
وحيث إننا عملنا على استشراف الحلقات المفقودة بين المقاومات الثلاث في العراق وفلسطين ولبنان. وهي ما نرى فيها ضرورة تستقوي أحدها بالأخرى من أجل اختصار مسافات من الزمن نحن بحاجة إليها على المستوى التكتيكي والاستراتيجي، سنحاول في مقالنا هذا أن نطل على الحلقات المفقودة على الصُعُد الدولية والعربية والإقليمية.
أما لماذا نحسب أن تلك الصعد معنيَّة بالصراع الدائر؟
وهل هي قائمة على فائدة ما لتلك الأطراف يمكنها أن تحصل عليها كثمن يدفعها للإسهام الجدي في رفد تلك المقاومات بسُبُل الدعم والإسناد؟
أولاً: على الصعيد الدولي
وبمعزل عن التقاء أكبر دوله مع التحالف الأميركي – الصهيوني حول تحصين النظام الرأسمالي العالمي وحمايته، نرى أن هذا النظام لا يحقق في هذه المرحلة المساواة بين أقطابه في سرقة ثروات الشعوب. فهواجس الشك والريبة تسود بينهم خاصة وأن المشروع الأميركي الراهن يعمل ليس من أجل «عولمة» النظام الرأسمالي بل من أجل «أمركته»، و«صهينته»، على قاعدة الاستفادة من «صهينة» هذا النظام لتدعيم أهداف «الأمركة» فيه.
لسنا بحاجة إلى تدعيم هذه الحقيقة ببراهين، فمسلسل تدهور العلاقات بين مشروع «أمركة» العالم منذ ما قبل العدوان على العراق واحتلاله، ومشروع دول العالم الرأسمالي الأخرى، باستثناء ذيلية الحكومة البريطانية، قد ظهرت بشكل واضح وصريح في ممانعة فرنسا وألمانيا وروسيا للحرب ضد العراق، وقد تمثَّل في معارضتهم حينذاك لإصدار قرار عن مجلس الأمن يشرِّع فيه تلك الحرب. وذلك هو الواقع الآن، فيما له علاقة بالعدوان على لبنان، الذي يدلُّ عليه الحنق الفرنسي، ممثلاّ الحنق الأوروبي، ضد المواقف الأميركية من مسلسل العدوان الصهيوني على لبنان وفلسطين في هذه المرحلة.
على قاعدة استشرافنا لوجود تناقضات داخل أصحاب المشروع الرأسمالي الواحد، نرى أنه لما كان المتضررون الرأسماليون من مشروع «أمركة» العالم لمصلحة الطبقة الرأسمالية الأميركية لا يمتلكون إمكانيات «كسر اليد الأميركية»، طبعاً حرصاً على نهب ثروات الشعوب الضعيفة وتوزيعها بعدالة بينهم، راحوا «يقبِّلونها ويدعون عليها بالكسر»، ولهذا راحوا يراهنون على الاستفادة من عوامل أخرى لكبح جماح المخططين للمشروع من أجل «كسر اليد الأميركية». وهكذا كان أنموذج تصرفهم تجاه القضية العراقية فراهنوا، وإن بالسر من دون إعلان، على المقاومة الوطنية العراقية، متمنين انتصارها لكن من دون إلحاق «هزيمة كاملة» بأكبر جيش يدافع عن الرأسمالية ويحميها. وليس من المُستغرب أن يراهنوا على المقاومة في فلسطين ولبنان، ولكن يأخذون بعين الاعتبار عدم إحراز «نصر كامل» للمقاومة من جهة، وعدم إلحاق «هزيمة كاملة» بالعدو الصهيوني من جهة أخرى.
ولكن مواقف تلك الدول، التي تمسك بالعصا من «الوسط»، ليست ثابتاً دائما. ولأن لها مصالح في وطننا العربي، فهي لا تريد للمشروع الصهيوني «هزيمة كاملة»، أو للاحتلال الأميركي للعراق «هزيمة كاملة» أيضاً، لهذا نرى أنه لا بدَّ لها من أن تتحوَّل، تحت ضغط شعوبها، لتقترب من مرحلة إمساك العصا بأرجحية لتأييد نضالنا إذا تأكَّدت بأن مصالحها لن تكون مهدَّدة في المستقبل، وعلينا نحن أن نقنعها بأننا طُلاَّب مصالح أيضاً، ولا يمكننا أن نقاطع العالم الغربي ودوله. وعليهم أن يستوعبوا ثنائية المعادلة في تبادل المصالح، القائمة على قاعدة كما أنهم بحاجة لأمن يحمي مصالحهم في وطننا، فنحن أيضاً بحاجة إلى تبادل المصالح معهم، وهذا ما عبَّر عنه قول (تخونني الذاكرة في نسبته إلى صاحبه): «نحن العرب لن نشرب بترولنا، لأننا بحاجة لبيعه».
ومن ناحية أخرى علينا أن نقنعهم بأننا لسنا «إرهابيين»، كما يحاولون تصويرنا، مهنتنا القتل لأجل القتل. بل عليهم أن يتأكَّدوا أننا طلاب حرية وتحرر، ومن حقنا أن نسترد أرضنا عندما تتعرض للاحتلال، ومن حقنا أن نحمي ثرواتنا لمصلحة شعبنا من الاستغلال والهيمنة أمام شبق مشاريع الاستغلال الرأسمالي وأكثرها وحشية مشروع «أمركة العالم، وصهينته».
ثانياً: على الصعيد الرسمي العربي:
آخذين بعين الاعتبار يأسنا من أي دور قد يبذله هذا النظام من أجل حماية حركة المقاومة الشعبية العربية، لأن المقاومة الشعبية تمثل نقيضاً لطبيعة تكوين تلك الأنظمة، ولكن من الخطأ أن نعتبر أنه من المستحيل إرغامها على اتخاذ أية خطوة رسمية إيجابية، وهذا الإرغام يأتي نتيجة لضغط شعبي سيتزايد، هذا الضغط الذي، على الرغم من أنه لا يرقى إلى قامة المقاومة في العراق وفلسطين ولبنان، إلاَّ أنه يزداد مع كل انتصار تحرزه تلك المقاومة.
إننا نلمح في أفق المرحلة بعض «الحياء والخجل الرسميين»، وإن كانت لم تُسمن المشرَّدين والمهجَّرين من منازلهم وتحمي حياتهم من وحشية الصهاينة، وهي مظاهر لم تكن لتحصل لو لم تسعفها وحشية الصهاينة في لبنان وفلسطين التي فاقت قدرة النظام العربي الرسمي على اتخاذ جانب الصمت والخذلان. إن استمرار العدوان الأميركي – الصهيوني، ومدى همجيته، سيزيد من سرعة ارتفاع وتائر الإحراج والخجل عند أرباب الكراسي الرسمية، كما أن صمود المقاومين سيُعرِّيهم ويكشف خوفهم وتخلَّفهم عن مواجهة العدوان الذي يتقهقر كل يوم أكثر من اليوم الذي يسبقه أمام إرادة المقاومين بسلاحهم الخفيف وإيمانهم القوي بالكرامة والحرية.
لن نطلب ممن أثبت عجزه النظامي عن التصدي للعدوان أن يكدسوا الأسلحة المتقدمة لأنهم لن يحصلوا عليها، بل ما نطلبه هو أن ينبشوا صفحات تاريخ لم يجف حبره بعد، ومنها ما جرَّبته الأنظمة العربية في الرد على «حرب تشرين» في العام 1973.
ترافقت حرب 1973م مع قرار عربي يُحَظِّر تصدير النفط إلى الدول المساندة لـ«إسرائيل» لكي يدب المزيد من الحرارة في الجهود الأميركية. وهذا ما يُعَبِّر عنه سايروس فانس-وزير خارجية أميركا الأسبق-حول حرب 1973م وقرار حظر النفط بأنهما أحدثا «تحولاً في دور الولايات المتحدة للبحث عن السلام في الشرق الأوسط. فلم يعد في مقدور الولايات المتحدة أن تترك المسؤولية الأولى في تقديم مبادرات لتحقيق تسوية في أيدٍ غير أيديها. ولا عاد بوسعها أن تظهر في أعين العرب معدومة الحساسية للمشاكل الفلسطينية ولاحتلال أراضيهم… وبدون أن تُضْعِف الولايات المتحدة التزامها الأساسي بوجود «إسرائيل»، بدأت تتحرك باتجاه وضع الوسيط النشيط بين الجانبين». (راجع، سايروس فانس: خيـارات صعبـة: المركز العربي للمعلومات: بيروت: 1983: ص 7).
صحيحٌ أن الملك فيصل دفع حياته ثمناً لذلك القرار، إلاَّ أنه سجَّل موقفاً شريفاً لم يسبقه إليه أحد من أمراء البترول، ولا أحسب أن التذكير بالماضي إلاَّ تحفيزاً وأمثولة. فهل يكون الرد على وحشية العدو الصهيوني، الذي يستجيب حالياً لحاجة جورج بوش، ممكناً؟
لقد أشارت جريدة «العمل» المصرية إلى نبأ أثار فيَّ حسن النوايا، وآخذاً رفض السذاجة في الاستنتاج بعين الاعتبار، فوجدت أن في النبأ ما يمكننا البناء عليه.
يقول النبأ أن عمرو موسى، الأمين العام لجامعة الدول العربية، وعدد من موظفي الجامعة، بلغ منهم الحزن مبلغاً دفع بهم للتفكير بتقديم استقالاتهم من مناصبهم احتجاجاً على حالة اللامبالاة الدولية عامة والعربية خاصة.
ربما يكون النبأ صحيحاً.
وسواءٌ أكان صحيحاً أم كان كاذباً، فهو يفتح الباب أمام ظهور «مقاومة» من داخل البنيان الرسمي العربي، على صعيد المؤسسات العربية المشتركة، أو حتى على صعيد الأنظمة الرسمية للأقطار العربية، يعبِّر فيها أصحاب الضمير عن مصداقية عروبتهم وإنسانيتهم، وأحسب أنهم ليسوا قلة.
حسب هؤلاء، الذين سيكونون طلائع «مقاومة» تنطلق من داخل بنيان الأنظمة الرسمية العربية، أن يتساووا مع أمثالهم من الغربيين، ومنهم أميركيون وبريطانيون، عندما قدموا استقالاتهم إلى حكوماتهم احتجاجاً على ارتكابهم جرائم حرب بحق العراقيين والفلسطينيين. ووقَّعوا استقالاتهم داعين إلى إحالة كل من شارك في تلك الجرائم إلى «المحكمة الجنائية الدولية»، ويأتي على رأسهم كل من جورج بوش وتابعه الأمين طوني بلير.
ثالثاً: على صعيد دول الإقليم غير العربي، ويستفرد به النظام الإيراني بمواقفه غير المفهومة للمنطق والسلوك.
غنيٌّ عن القول وعن التذكير أن ازدواجية مواقف النظام وتناقضاته في مساعدة من يقاوم «الغدة السرطانية» في لبنان، بينما يتعاون ويخطط ويُنسِّق مع «الشيطان الأكبر»، ويتجاهل قيام «غدة سرطانية» في العراق، أعلنت عن افتتاح قنصلية لها في «أربيل». وليس الأمر كذلك فحسب، بل هناك ما هو أمرُّ وأدهى، سنشير فيها إلى ثلاثة أمثلة جديدة تزيد من فضحه وكشفه، وهي:
الأول: أوردته مفكرة الإسلام (29/ 7/ 2006): كشفت المنظمة العراقية للمتابعة والرصد (معمر) عن إجراء مباحثات بين عبد العزيز الحكيم رئيس «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق» مع مسئولين «إسرائيليين» في العراق خلال الفترة من 10 إلى 13 من تموز الجاري. وقد تمت بحضور عمار نجل عبد العزيز الحكيم وأحد وزراء حكومة نوري المالكي. وأحد المسؤولين «الإسرائيليين» المذكورين برتبة دبلوماسي كان يعمل في السفارة «الإسرائيلية» بالأردن ومختص بالشئون الدينية.
الثاني: كشفت مصادر أمنية عراقية ان وزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفيلد ورئيس وزراء الاحتلال «الاسرائيلي» الاسبق أيهود باراك «يمتلكان ثلاث شركات أمنية في العراق». وكانت قوى ومنظمات مجتمع مدني حذرت من نشاط جهاز الاستخبارات الاسرائيلي (الموساد) في العراق خصوصا في اقليم كردستان وبغداد، واتهمت قوات الاحتلال بتوفير الحماية والتغطية لنشاطه (الموساد).
الثالث: عمَّمت وكالات الأنباء أمر الكونغرس الأميركي «نوري المالكي» بالاعتذار عن دعوته لدعم «حزب الله». ونوري المالكي هم ممن تربوا على أيدي إيديولوجيي النظام الإيراني، وحاز على ثقته في تنصيبه رئيساً لحكومة عميلة لـ«الشيطان الأكبر»
ليست الأمثلة الثلاثة مفاجأة، بل وكأنها أسرار منفصلة عن سياق المواقف والسلوكات الإيرانية السابقة، بل لأنها «طازجة» وقد يأتي الغد بما هو جديد وبما هو أمرُّ منها أيضاً، ولكننا جئنا بها للبرهان على كذب الادعاءات الإيرانية التي تعلن الحرص على دماء اللبنانيين من وحشية «الغدة السرطانية». هذا الكذب مرده إلى أن حقيقة تلك التصريحات وأهدافها غير المعلنة تعود إلى إثبات قوة الموقع الإقليمي الذي يحتله النظام الإيراني من أجل ابتزاز «الشيطان الأكبر» لحماية المشروع النووي الإيراني، والاعتراف به قوَّةً إقليمية عظمى.
إنه في الوقت الذي يُعلن النظام الإيراني مساندته لـ«حزب الله» في لبنان في القضاء على «الغدة السرطانية» لحماية اللبنانيين، ينسِّق عملاؤه في العراق مع موفديها من جهة، كما يقوم رامسفيلد وزير دفاع «الشيطان الأكبر» بمشاركة رئيس وزراء سابق لـ«الغدة السرطانية» في ذبح العراقيين بواسطة شركاتهم الأمنية. وليس لدينا من تعليق على هذا أكثر من التساؤل: كيف يمكن التوفيق بين الدعوة لحماية اللبنانيين والسكوت عن ذبح العراقيين؟؟!!
إن تحالف «الشيطان الأكبر» و«الغدة السرطانية» يمثِّل ثابتاً استراتيجياً، فالرد عليه ثابت استراتيجي أيضاً. فقتاله في لبنان دون قتاله في العراق ليس أكثر من انتهازية تدين النظام الإيراني، ولا تعفيه من المسؤولية. وإن إظهاره الحرص على دماء اللبنانيين لهو حرص كاذب. كما أن اللبنانيين لن يخدعهم الحرص عليهم بمعزل عن الحرص على حياة العراقيين وأمنهم ولقمة عيشهم وكرامتهم الوطنية، والحرص على حياة الفلسطينيين وأمنهم ولقمة عيشهم وسيادتهم على أرضهم. فهل سكوت النظام الإيراني عما يجري في العراق، وهو أشد هولاً وفظاعة ووحشية مما يجري في لبنان، كان ثمنه الحصول على فيدرالية في جنوب العرق؟
وهل إذا نال وعداً بالحصول على فيدرالية في جنوب لبنان يقترب التنسيق بين النظام الإيراني والتحالف الصهيوني - الأميركي من أبواب الحل؟
نحن لن نطلب من النظام الإيراني أكثر من أن يتساوى دعمه لـ«حزب الله» في لبنان بدعم مماثل لجماعاته في العراق لينخرطوا في قتال «الشيطان الأكبر» و«الغدة السرطانية» وهم في العراق أقرب إليه من حبل الوريد.
ونحن لن نطلب من النظام الإيراني أن يعرِّض أمن مواطنيه ولقمة عيشهم وكراماتهم للتهديد والتدمير، بل نطلب منه قراراً واحداً هو تهديده بقطع البترول أو تجميد تصديره لمدة شهر واحد. وبغيره لن يردع عدوان جورج بوش وأولمرت على لبنان.
مسألتان بغاية من البساطة يخففان وطأة العدوان على لبنان يمكن للنظام الإيراني أن يقوم بهما:
قتال التحالف الشرير الهمجي على أرض العراق. وإقفال أنابيب البترول حتى الانتهاء من العدوان على لبنان. وبغير ذلك يكون بكاء النظام الإيراني على مأساة اللبنانيين ضحكاً على «الذقون».
سلمت الأيدي التي تقاتل «الشيطان الأكبر» و«الغدة السرطانية» بدءاً من كفركلا وبنت جبيل مروراً بالضفة الغربية وانتهاء بالبصرة والنجف وبغداد والموصل.

(20): المشهد العراقي: في شهريْ تموز وآب 2006
في ظل «غوما» عربية، وفراغ قومي يملأه حضور إقليمي:
تبقى المقاومة الشعبية العربية الأمل في الصمود والتصدي
المقاومة الوطنية العراقية: دعوة لتوحيد جهود المقاومات العربية في لبنان وفلسطين والعراق، ودعوة للنظام الإيراني لسلوك في العراق يرقى إلى مستوى مواجهة التناقض الرئيسي
على الرغم من أن المشهد اللبناني استأثر باهتمام وسائل الإعلام العالمية، وفي مقدمتها الإعلام المحسوب على العرب، فرض المشهد العراقي نفسه بحيث لم تستطع كل وسائل الإعلام، على الرغم من تواطئها، أن تتجاهله. فهناك مركزية الصراع، وهناك لهيب المقاومة تزداد أواراً واشتعالاً. وهناك سيتبيَّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود بالنسبة لمشروع أمركة العالم، ومشروع الشرق الأوسط الجديد.
تحت دخان الهمجية الصهيونية في لبنان، وتحت حالة الإكبار التي نرى فيها أداء المقاومة اللبنانية، والإجماع الذي حصلت عليه، كانت في العراق تتفاعل وسائل عديدة لاحتواء المقاومة العراقية من أجل إجهاضها، يتشارك في التآمر عليها أطراف عديدة داخلية وخارجية وتمارسها تنظيمات عراقية بعضها مشدود الصلة بالمخطط الأميركي الأم، وبعضها الآخر مشدود الصلة بالنظام الإيراني.
إن ربط المؤامرة على العراق بين اللاعبين الأساسيين المشروع الأميركي والمشروع الإيراني يجب أن لا يزعج مؤيدي النظام الإيراني، وأن لا ينتقص من مستوى الأداء الباسل الذي أبداه مقاتلو حزب الله في جنوب لبنان. فعلى هذا الصعيد ميَّزت فصائل المقاومة الوطنية العراقية بين الموقفين: مباركة قتال العدو الصهيوني في لبنان وشجب التنسيق الإيراني مع العدو الأميركي في العراق. واستندت مواقفها بالتمييز بينهما على قاعدة مدى تقارب السلوك السياسي والعسكري لأي طرف مع الهدف الاستراتيجي أو تباعدها عنه. أو تقاربه مع التناقض الأساسي أو ابتعاده عنه.
ولما كانت أهداف التحالف الأميركي – الصهيوني تمثل التناقض الرئيسي مع أهداف الشعوب الأخرى، ويأتي على رأسها الأمة العربية والأمة الفارسية، كقوميتين متجاورتين، وتتشاركان بمصالح كثيرة، كان من الواجب على الأمتين أن تتحالفا معاً لمقاومة أطماع التحالف المعادي في أكبر مواجهات تخوضها الأمة العربية في فلسطين المحتلة ولبنان المهدد والعراق المحتل. ولكن إذا كانت المقاومة في لبنان ضد العدو الصهيوني تتطابق مع الثوابت الاستراتيجية للصراع العربي مع التحالف الصهيوني - الأميركي، وحازت على مساعدة واسعة من النظام الإيراني، إلاَّ أنها ليست كذلك فيما يخص الصراع الحاصل ضد الاحتلال الأميركي في العراق.
ما هو حاصل في العراق أن النظام الإيراني، بدلاً من أن يشارك في مواجهة الاحتلال الأميركي قام بالتنسيق معه، واستخدم نفوذه من خلال الميليشيات التابعة له في ملاحقة المقاومة الوطنية العراقية، فهو بمثل هذا السلوك ابتعد كلياً عن الثوابت الاستراتيجية للتحرر من الاستعمار والصهيونية. وبهذا ميَّزت فصائل المقاومة العراقية بين موقفين: تأييدها غير المشروط للمقاومة اللبنانية على الرغم من تقاربها مع النظام الإيراني، ورفضها المطلق لسلوك النظام الإيراني في العراق.
تمزيق الأمة على قواعد «الشرق الأوسط الجديد»
إن ما يدور الآن في العراق يشكل بداية لوضع ترتيبات أساسية تعمل على ترسيخ الرؤية الأميركية في مشروع «الشرق الأوسط الجديد» الذي لا يرفضه النظام الإيراني على طريقة ما أكَّده علي أكبر ولايتي، مستشار الخامنئي، رداً على كونداليزا رايس بأن الشرق الأوسط الجديد قادم إلى المنطقة ولكن ليس كما تريده أميركا.
لقد نشرت مجلة تابعة للجيش الأميركي تفاصيل مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، بما يوضِّح أن عموده الفقري يقوم على الاستفادة من التعدديات القومية والمذهبية والدينية السياسية من أجل بناء أنظمة سياسية تتجانس فيها الأعراق أو المذاهب. وهو ما تقوم بتنفيذه تماماً الإدارة الأميركية في العراق، تحت موافقة النظام الإيراني ومشاركته.
ويشترط واضعو المشروع، والقائمون على تنفيذه، أنه لكي يصبح قابلاً للتطبيق لا بدَّ من أن ينجح في العراق أولاً. ويؤكد نصه على استخدام مصطلح «الدولة الشيعية العربية» لكي يضم إليها «عربستان» بعد سلخها عن إيران، بالإضافة إلى المنطقة الشرقية من السعودية والبحرين. أما أهداف الجانب الإيراني من مشروع الشرق الأوسط الجديد فهو سلخ جنوب العراق لضمِّه إلى الدولة الإيرانية، كخطوة على طريق اقتطاع شرق السعودية مع البحرين وضمه أيضاً.
ولذلك نرى أنه على مقدار الحرارة والنشاط التي تعمل الإدارة الأميركية من أجل إنجاحه، يأتي ما يؤكد أن النظام الإيراني يعمل بنشاط وحرارة لافتين يترجمهما نشاط عبد العزيز الحكيم واستعجاله لقيام فيدرالية تضم جنوب العراق ووسطه.
بمثل هذه الإستراتيجية تتلاقى مصالح الطرفين الأميركي والإيراني بالعمل من أجل «شرق أوسط جديد»، قائم على تقسيم جديد للأمة العربية مستفيديْن من النعرات الطائفية التي يغذيانها في العراق في هذه المرحلة. وتلك، بدورها، تمثِّل النقيض الأساسي لإيديولوجيا القومية العربية بثالوثها الوحدة والحرية والاشتراكية.
فهل يستطيع النظام الإيراني أن ينافس أميركا في تنفيذ مشروعها؟ وهل يستطيع أن ينال منه ما يخطط له؟
إن طبيعة اتجاهات المرحلة القادمة في العراق، كما يُوحي بها الواقع الأمني والسياسي الآن، أي الأهداف المخطط لها من «العملية السياسية»، تعمل على تعميق الهوِّة الطائفية بين أطياف المجتمع العراقي. وهذا إذا كان يصب في إستراتيجية «أمركة المنطقة» من أجل تفتيتها على أسس جديدة، لا نرى إلاَّ أنه يصب في مصلحة النظام الإيراني هذا إذا ما ظلَّ مصراً على اعتماد إستراتيجية قيام «دولة شيعية عالمية»، يعمل على فتح بوابتها من العراق. أما إذا كان يستخدم تكتيك الضغط في العراق من أجل توفير مقعد إقليمي فاعل، فهو يخطئ التقدير بلا شك، لأن مشروع «أمركة العالم» لن يترك لأحد مقعداً بعد نجاح مشروعه بالاستيلاء على العراق كما هو واضح في تفاصيل مشروعه «الشرق الأوسط الجديد».
وإذا كان لا بدَّ من أن ننظر إلى مصلحة الأمة العربية بمنظار وجود إقليم جغرافي تتوازن فيه المصالح بين أطرافه، لا يمكن إلاَّ أن ننظر إلى إيران. وإذا كان النظام الإيراني يرى مصلحته من خلال وجود عراق ضعيف، وأمة عربية ممزَّقة، فلا شك بأن هذا الضعف سيجعل من إيران ضعيفة في مواجهة المشروع الأميركي الذي عجزت دول العالم عن ردعه. فمصلحة إيران اليوم لا يمكن فصلها عن وجود عراق موحَّد، وعن أمة عربية موحَّدة. وإذا فكَّرت بغير هذا الاتجاه فلا شك بأنها تسير في الاتجاه الخاطئ.
وعليه لا يمكننا التغافل عما حقَّقته المقاومة اللبنانية من مكتسبات لصالح القضية القومية في مواجهة مشرِّفة ضد العدوان الصهيوني عندما ضربت الغرور الصهيوني الأميركي في الصميم، وجعلت النظام العربي الرسمي يخجل من سباته العميق، بل المهين، ليرفع صوتاً خافتاً للحصول على قرار بوقف إطلاق النار في لبنان. ولعلَّ حالة الخجل تستمر عنده من أجل العمل على إنقاذ العراق من التفتيت، على أن تكون حالة عربية جديدة توازن التدخل الإيراني السافر الذي ملأ فيه كل الفراغات الأمنية والسياسية التي تركها النظام العربي الرسمي في العراق من أجل تفتيته.
وفي هذه الحالة يُطلب من النظام العربي الرسمي ألاَّ يوازن التدخل الإيراني بما يجعل الحالة المذهبية تشتعل، أي بدعم لون مذهبي في مواجهة لون مذهبي آخر، بل أن يكون تدخلاً من أجل العمل على التقاء جناحيْ العراق، بكل ألوانه المذهبية، في مقاومة يتساوى فيه أداؤهما ضد الاحتلال الأميركي، والخروج من أوهام «العملية السياسية» التي يضع الاحتلال كل ثقله من أجل إنجاحها، فهي كما يتوهم تشكل له خشبة الخلاص.
أما حول هذا الجانب، فللنظام الإيراني دور في تسريعه، خاصة إذا قطع ما يوظِّفه من إمكانيات كبرى لدعم عملائه في العراق من أجل تفتيته، وهو بدلاً من أن يوظفها لمقاومة الاحتلال يدفع بها، لأسباب ثأرية إيديولوجية وسياسية، لملاحقة المقاومة العراقية، وكأنَّ إضعافها أو إنهاءها يُعتبر بوابة للحصول على موقع إقليمي إيراني قوي.
مبادرة المالكي للمصالحة خديعة رفضتها المقاومة العراقية
ولأن الاحتلال الأميركي تأكَّد أن إنهاء المقاومة العراقية أصبح مستحيلاً لجأ إلى خديعة حملت عنوان مبادرة المالكي للمصالحة وهماً منه أنه يجر المقاومة العراقية إلى إلقاء السلاح ومشاركة العملاء بالسلطة العميلة. لكن على الرغم من أن تلك المبادرة قد وُلدت ميتة فإنها لا تزال تشكل أحد الأوهام التي يراهن عليها الاحتلال الأميركي من أجل رفد «عمليته السياسية». ولا يزال يراهن على أن ما لم يستطع الحصول عليه بالقوة العسكرية سينجح فيه بواسطة خديعة المصالحة.
إن المبادرة المذكورة أصبحت بدون أي معنى بعد أن أعلنت كل الفصائل رفضها لها تحت مبدأ ثابت واحد ووحيد هو أن بداية الحل لن تكون بأقل من جدولة الانسحاب الأميركي الكامل والتام من كل شبر من أراضي العراق بدون قيد أو شرط.
على إيران أن تثبت حسن النية تجاه المقاومة العراقية
فإذا كان الاحتلال الأميركي، بكل جبروته، أصبح مرغماً على الاعتراف بأنه لا حل في العراق ما لم توافق عليه المقاومة العراقية، فبيدها مفاتيح الحل، وليس بيد أحد غيرها، ترى المقاومة العراقية من المستغرب أن يستمر النظام الإيراني بمراهنته على أن مفاتيح الحل هي بيده، كما تستغرب أيضاً سلوكه الشاذ في مساندة من يقاتل العدو الصهيوني في الوقت الذي تقوِّي الاحتلال الأميركي بملاحقة المقاومة العراقية!!
إن مشروع الاحتلال، بكل ألوانه وأشكاله، أصبح في أواخر مراحله، خاصة أن المقاومة العراقية، لا تزال تلبي شروط التحرير في جعل الاحتلال يدفع من ماله ودمه.
وإن ما يجعل عملية التحرير تعطي نتائج أسرع هي أن يتلاقى جناحا العراق على مقاومة الاحتلال. وإزالة العوائق من دربه ستكون سريعة، كما ترى المقاومة العراقية، إذا كفى النظام الإيراني العراق شرَّه وأذاه، لأن مشاريعه تقوم على ميكيافيلية تزاوج العلاقات الشاذة بين خطابه وسلوكه.

ثورة السابع عشر - الثلاثين من تموز تكتمل بالكفاح الشعبي المسلَّح
عندما تميَّز حزب البعث العربي الاشتراكي بخروجه من منطق المؤامرة وإلقاء تبعات التخلف العربي على الآخرين، كانت ثورة 17 – 30 تموز المعبِّر الأمين عن ذلك التميُّز. فتحمَّلت مسؤوليتها عندما عزت تخلف العراق إلى عاملين: ذاتي وخارجي.
فالذاتي دفعها إلى أن تتصدى لعوامل التخلف الداخلي وتحمّلت مسؤوليتها، فأنجبت الخير الكثير، من خلال مشروعها النهضوي، خاصة بعد أن أرغمت قوى التحالف الرأسمالي واستعادت من شركاته حق العراق بثرواته.
وأما الخارجي فقد أصرَّت على رؤيتها الإستراتيجية في اعتبار الاستعمار والصهيونية مصدراً أساسياً في إعاقة الأمة وتعويقها من أخذ أمورها بيدها.
في تلك اللحظة كانت موازنة المواجهة بين البعث في التصدي لعوامل التخلف الداخلي والتصدي لعوامل الإعاقة من الخارج، أداة التغيير الأساسية. وتلك التي أنتجت مشروعاً نهضوياً قومياً جمع بين المصلحة الوطنية العراقية والمصلحة القومية العربية. وما كان يصب في مصلحة الأمة كان، في نظر التحالف الأنجلو صهيوني، لا يتناسب مع مصلحة ذلك التحالف. فصوَّب سهامه لتقويض ذلك المشروع على قاعدة تقويض البنيان الإيديولوجي الذي يُعتبر البوصلة الهادية.
ولأن الكثير من الإنجازات التي حققها نظام الحزب في العراق، على الصُعُد العلمية والاقتصادية والعسكرية، كانت مادة لكثير من الكُتَّاب والباحثين، سنولي الاهتمام بالإضاءة على زوايا أخرى.
آخذاً بعين الاعتبار، ولكي تتكامل الصورة، أن حالة التحول الجوهري في قيادة الدولة الوطنية لا يمكن له النفاذ إلاَّ إذا أعدَّ مستلزمات حمايته، كان نظام حزب البعث العربي الاشتراكي الذي وصل إلى حكم العراق، منذ ثورة 17 – 30 تموز من العام 1968، حريصاً على إحداث الموازنة بين طرفيْ المعادلة (الثورة والسلطة).
كان المشروع النهضوي القومي الذي أنجزه نظام حكم الحزب ثورياً بجوانبه، الاقتصادية والعسكرية، وكان ثورياً أيضاً في جوانبه الفكرية والسياسية والتنظيمية. فهو لم ينظر إلى الوصول للسلطة من منظارها كغاية أو كهدف، بل نظر إليها من منظارها كوسيلة تحقق إنجازات ثورية في حقلين، وهما:
-توفير كل مستلزمات الارتفاع بالعراقيين إلى مستوى متقدم، والقضاء على التخلف كعامل إعاقة داخلي.
-وتوفير كل مستلزمات المواجهة ضد الطامعين بالعراق وسيادته، والعاملين على إبقائه متخلفاً داخلياً.
إن مادة الحقل الأول متوفِّرة من خلال الثروة التي يمتلكها العراق، وبتحريرها، من خلال تأميمها، أفسحت الفرصة لوضعها في خدمة تحويل المجتمع العراقي إلى مجتمع منتج. وهذا التحويل ابتدأ بإنتاج البنية العلمية المؤهلة لمواكبة المشروع الضخم فتوصَّلت إلى نتائج باهرة دبَّت الخوف في نفوس التحالف الأميركي – الصهيوني. وبذلك تكون القيادة العراقية، انطلاقاً من ثورة 17 – 30 تموز قد أرست دعائم أساسية لأية بُنية نهضوية، وذلك ما يتناقض مع اعتبار كل الأسواق غير السوق الأميركية أسواقاً استهلاكية.
أما مادة الحقل الثاني، وهو حقل «اجتثاث الأهداف الاستعمارية» فاستدعى تطبيق إستراتيجية الحزب من خلال محاربة الاستعمار، وحليفته الصهيونية، بإنتاج «البنية الثقافية التحررية» لتحرير الإرادة العربية من هيمنتهما، حتى لا تبقى الأرض العربية رهينة لوجودهما العسكري والأمني سواءٌ أكان بشكل مباشر، كما هو حاصل في السعودية ودول الخليج، أم بالواسطة كما هو حاصل باغتصاب أرض فلسطين.
لقد كانت صورة النظام العربي الرسمي التقليدية، والتي لا تزال ثقافتها سائدة حتى الآن، تنظر إلى العلاقة مع الاستعمار والصهيونية نظرة ميكانيكية لا تأخذ بعين الاعتبار «علاقة التكافؤ والعدالة» بالمصالح، بل تعمل على أساس التابع لهما متذرِّعة بغياب إمكانيات الحد الأدنى للدفاع العسكري والاقتصادي عند العرب.
لقد غيَّرت قيادة الثورة في العراق آليات التفكير النظامي العربي بأن ارتقت بآلياتها إلى مستوى ما يمكن أن تختزنه الأمة من توق إلى التحرر والاستقلال، فأعدت نفسها، كما أعدَّت جماهيرها، لاستثمار تلك الطاقات ووضعها في ساحة الصراع مع الاستعمار والصهيونية، فكانت استراتيجية «الكفاح الشعبي المسلَّح» حاضرة في كل مشاريع ثورة تموز المجيدة.
إن اعتماد آليات مماثلة تتطلب حضوراً قيادياً مؤهلاً، يتميز بسمات استثنائية لا تتوفر في مواصفات حكَّام النظام العربي الرسمي، فكانت معادلة التوازن بين «الثورة والسلطة» ماثلة بشكل استراتيجي في ذهن قيادة ثورة تموز في العراق. وذلك أنموذج كان ينال الاستخفاف في تحليل الحكَّام، كما في تحليل أكثر تيارات «حركة التحرر العربي». ولم تتزحزح تلك الصورة حتى أثبتت التجربة الميدانية مصداقية الأنموذج على الصعيدين النظري والعملي.
إن واقع المقاومة الوطنية العراقية وتأثيرها في مواجهة الاحتلال في العراق لم يكن إلاَّ من إنتاج فكر حزب البعث العربي الاشتراكي، تحت قيادة الرئيس صدام حسين، ليس رمز الثورة العربية فحسب، بل رمز الثورة العالمية أيضاً.
وبمثل هذه التجربة ستضع ثورة تموز أسساً جديدة لنظام عربي تتكامل فيه مكاييل الموازنة بين تحمل المسؤولية الذاتية في تحويل المجتمع العربي إلى مجتمع مُنتج، وتحويل ثقافته إلى ثقافة تحررية تستند إلى إمكانيات وعي الأمة بطاقاتها الهائلة في مقارعة الاستعمار والصهيونية حسب إستراتيجية الكفاح الشعبي المسلح.

(21): كوندوليزا تحمل سلة من ثمار ديموقراطيتها إلى لبنان:
أمامكم خياران: «أمن إسرائيل»، أو «أمن إسرائيل»
26/ 7/ 2006
أطلَّت كوندوليزا على ربوع لبنان متسلِّلة ففاجأت الجميع كمثل «بابا نويل» حاملاً هداياه إلى المنتظرين شوقاً، وعادة ما ينتظر الأطفال وحدهم قدومه بترتيب من أمهاتهم وآبائهم.
لم نشعر بشوق انتظارها في يوم من الأيام، فهي ليست «بابا نويل»، الذي يزرع الفرح في عيون الأطفال، بل هي بارجة حربية لا تحمل إلاَّ الموت والدمار للأطفال لتزرع الرعب في نفوسهم.
ليست خطيئتها لوحدها، بل الخطيئة الكبرى هي التي يرتكبها الآباء اللبنانيون المتحالفون مع إدارتها وأمهاتهم ويتوهَّمون أنها تحمل لهم ما يُسرُّ البال والخاطر، وما يملأ مخيلات أطفالهم البريئة بأحلام تجعلها تنتظر عاماً آخر لتتلقى هدايا أخرى.
وإذا كان «بابا نويل» يأتي كل عام، فإن كوندو تأتي كل يوم.
وإذا كان «بابا نويل» يدخل البيوت، ليس من أبوابها، بل من «مداخنها» لتكتمل أسباب الفرحة بقدومه، إلاَّ أن كوندو تفعل ذلك خوفاً ورعباً على أمنها. فلا يشعر بالخوف إلاَّ اللصوص المتسللين لأنهم لا ينقلون الهدايا للأطفال بل يتسللون ليسرقوها منهم.
يفضِّل «بابا نويل» أن يحمل الهدايا التي تسر قلب الأطفال، كما يفضِّل أن يكون سواد المداخن قد جلَّل لحيته البيضاء، بينما كوندو ليزا جلَّلت وجوه أطفالنا بحرائق قنابل العزيزة على قلبها «إسرائيل»، وأردت جثث آبائهم وأمهاتهم في أتون من الرماد الفاحم السواد. وتسلَّلت إلى لبنان حاملة المزيد منها. وبكل وقاحة أعلنتها في العلن وأثبتت وقاحتها مقررات مؤتمر روما. وكل نتائجه جاءت لتقايضنا «الكرامة مقابل سلة من المساعدات».
وصلت كوندوليزا، إذ لا يُحمَد على مكروه سواه، حاملة المكروه مما لذَّ وطاب من أنواع الديموقراطية، وأنها اقتطفت أنواعاً منها مما تطبقه في العراق. وما أخبرها أحد سوى «فوكوياما»، و«أولبرايت»، أن تلك الأنواع من الديموقراطية قد سوَّدت وجه أميركا والأميركيين إلى آماد طويلة.
وصلت كوندو إلى لبنان، متسللة بشجاعة لا مثيل لها إلاَّ شجاعة رئيسها عندما يتسلل إلى العراق. وشجاعة المتسللين لا يماثلها إلاَّ شجاعة اللصوص.
وصلت كوندو إلى لبنان لتقدِّم عرضها الديموقراطي، أي لتملي علينا، وتقول مقلِّدة حسني مبارك، «اللهم إني قد بلَّغت». فكانت إملاءاتها الديموقراطية كأنها تقول: امامكم أيها اللبنانيون خياران لا ثالث لهما، فاختاروا بملء إرادتكم أحدهما: إما «أمن إسرائيل»، وإما «أمن إسرائيل».
بلَّغت ورحلت، بلَّغت «مالكيِّيها» وأثلجت قلوبهم، بينما «مالكيها» العراقي، اعتذر في البيت الأبيض عن تصريحه الأسود عندما دعا إلى دعم «حزب الله» في لبنان.
بلَّغت كوندو رسالتها الديموقراطية ورحلت، تاركة أطناناً من الهدايا لأطفالنا، تحمل في طياتها الموت والحرق والتعذيب، ومنعت عنهم حبة الدواء وقطرة الحليب ليتلذذوا بـ«القنابل الذكية» التي زوَّدت حبيبة قلبها «إسرائيل» بها. وأعلنت أن تلك القنابل ستتوجَّه، للآسف الذي لا يوصف، من «قاعدة السيلية» في قطر. وبها تساوى أطفال لبنان بأطفال العراق، فقاعدة «السيلية» جمعت المجد بطرفيه، فهي مستودع يصدِّر القنابل التي تقتل الأطفال لبنان، كما تقتل الأطفال في العراق.
يا كندوليزا، ارجعي إلى رحمة رئيسك غير راضية ولا مرضية.
إرجعي إليه وقولي له، ليقرَّ عيناً، ويحسم الشك باليقين، لا أمن لمن لا يعترف بأمن الشعوب الأخرى. فإذا كانت ترَّهات آل صهيون قد أخذت من عقلكم قطعة كبيرة، فنحن لا نبالي بها. وإذا كان «مالكييكم» في كل مكان من الوطن العربي قد خُدعوا بـ«ديموقراطية» رئيسك، فنحن لن ننخدع.
كوندوليزا رايس، يا عزيزة هنري كيسنجر، وأولمرت، وكل من ملأ المساحة التاريخية بينهما، نوجِّه إليكم رسالة، على الطريقة الديموقراطية التي لا نفهم لغة سواها، ولن نستخدم لغة غيرها، فاسمعي، وعي:
إن أطفال العراق وفلسطين ولبنان، يرفضون «لبنـ»ك، و«عسلـ»ك. وكل «هدايا»ـك. كما يرفضون أن تكوني «بابا نويل» إليهم، فيداك ملوثتان بدمائهم. وحملت إليهم من «المدخنة» التي تسللت منها كل أنواع «السواد».
وإن أحرار العراق وفلسطين ولبنان، يرفضون «ديموقراطيتك». فهي قد أصبحت حتى أمام من لم يكن لديهم بصر، بضاعة فاسدة. فاعفينا من تلاوة فصولها الممجوجة، فعلى من تقرأين «ديموقراطيتك» يا كوندوليزا؟
إن قرارنا يمتد من «أم قصر» إلى «جينين» ومنها إلى «مارون الراس».
إن قرارنا يمتد من غزة إلى الفلوجة، ومن الفلوجة إلى بنت جبيل.
لا نقول شعراً ولا أمنيات.
فالأبطال المقاومون يقدِّمون أبرع النماذج، وأكثرها بطولة، تمتد صفوفهم من بنت جبيل لتمر في غزة وتصل إلى «الأعظمية» في بغداد.
نفصح عن واقع جديد اكتشفته الأمة في ذاتها.
لا نقول شعراً، ولا نحلم بأمنيات مستحيلة.
البرهان يكتبه الأبطال في «مارون الراس»، و«بنت جبيل»، وحبل بطولاتهم على الجرار.
البرهان أثبته الأبطال في غزة، وفي كل مكان في فلسطين المحتلة.
البرهان يكتبه الأبطال في «الفلوجة»، و«الرمادي»، و«الموصل»، و«البصرة»، و«كركوك». وغيرها وغيرها، لتشمل كل حبة تراب في العراق المحتل.
أبطال آمنوا بربهم، وآمنوا بكرامة أوطانهم، وسيادة أمتهم.
أبطال يواجهون جنوداً غمرتهم الجرائم والبغي في فلسطين المحتلة والعراق المحتل، وهم يحضِّرون أنفسهم لإعادة احتلال لبنان على وقع أنَّات الأطفال وطمرهم تحت الأنقاض.
إننا لا نحلم يا كوندوليزا. فأنت تعرفين مع رئيسك الواقع أكثر منا. لكنكما تعرفان وتكذبان على شعبكما. تعرفان هول الخسائر التي يتكبدها جنود «ديموقراطية» آخر زمان، سواءٌ أكان في العراق، ام في فلسطين، أم في لبنان.
إنك تسدين خدمة كبرى إلينا في حالة واحدة فقط، وسنعتبرها هدية نظيفة من «بابا نويل»، كما ستكون هدية نظيفة إلى الشعب الأميركي، هو أن تستعيدوا هدايا الموت وتبعدوها عن حياة أطفالنا الذين لن يغفروا لأطفالكم «جريمة آبائهم».
فهذه هي أرواح أطفالنا تنبت في العراق وفلسطين ولبنان سكاكين لن ترضى بأقل من تعليق كل من يتآمر على شعبنا على المشانق. فانتظري يا كونوليزا وسترين، لأنه لن يكون لك ممر إلى أمتنا إلاَّ تسللاً ما دام في أمتنا «مالكيون»، ولكنها لن تفتح أبوابها على الإطلاق إذا اندحر «المالكيون» عن كل شبر من أرض وطننا العربي الكبير، وهم سيندحرون أمام الزحف الهائل الذي يكشف عن حقيقتهم كل يوم أكثر من اليوم الذي سبقه.
كوندوليزا
نخاطبك، ونحن واثقون من أن آذانك قد قُدَّت من فولاذ، ولكن لعلَّ يسمع المخدوعون بـ«إملاءاتك» وبـ«ديموقراطيتك» بأن التاريخ لن يعود إلى الوراء، وأن عهود الذل والقيود لا بدَّ من أن تنكسر. كما أن أنموذج «المالكي» في العراق قد ولَّى، وسوف لن يتكرَّر في لبنان وفلسطين.
نخاطبك بصوت الجزء من الضمير الحي في الشعب الأميركي، لعلَّه يوقظ الجزء من الضمير الميت في شعبنا.
لعلَّك شاهدت كيف استقبلت تلك الأميركية الباسلة «مالكي» العراق، فهو يطلب من الجنود الأميركيين البقاء فيه، وهي تطلب انسحابهم. لقد جرَّها بوليس «الديموقراطية» التابعة لرئيسك إلى خارج القاعة بينما صفَّق «حيتان» الرأسمالية الأميركية لـ«خيانة المالكي» الذي استمرأ طعم الخيانة فراح يشرب كأسها حتى الثمالة.
وأنت أتيت يا ممثلة تلك الحيتان إلى لبنان لكي تزفِّين لنا بشرى الاستمرار في قبول الموت والدمار حتى نستسلم ونرضخ لحمم الدمار والتخريب.
لن نراهن على ضميرك، فأنت قد فقدتيه منذ أن ارتضيت أن تكوني ممثلة لـ«جيوب» الحيتان، ومتى كان لـ«لجيوب» ضمير يتحرك؟
فيا ويل «الشيطان الأكبر»، و«الغدة السرطانية» إذا اتَّحد جناحا العراق. وهما سيتَّحدان سواءٌ أشاء عملاء الاحتلال أم أبوا.
ويا ويلهما، إذا اتَّحد جناحا لبنان.
ويا ويلهما إذا اتَّحدت أجنحة الأمة العربية في العراق ولبنان وفلسطين. ومن بعدهما، ومن بعد بعدهما. هذه الأمنية التي نراها مستحيلة سيقرِّبها من التحقق ضغط شعبي عربي لن يبقى هامداً إلى الأبد، بل سيُنتج بعض عوامل «الحياء والخجل» عند من أصموا آذانهم من أولي الأمر في الأمة.
لقد انتفضت الأمة ولن تسترخي بعد الآن. لقد أنتجت الأمة سلاحاً استراتيجياً يساعدها على التمرد ورفض العودة إلى قماقم «الهزيمة».
لقد تلاقت الزنود الباسلة، وتشكَّل منها مذهب واحد هو «مذهب المقاومة» حتى تحرير الأمة من كل أشكالكم: صهاينة واستعماريين و«مالكيين/ علاقمة جدد».
كلهم أبناء هذه الأمة ونتاجها.
كلهم يصوِّبون الرصاص إلى صدوركم.
كلهم سيستمرون في خط استراتيجي واحد: إما النصر وإما الشهادة.
عودي يا كوندوليزا وخبِّري رئيسك أن أمنه، وليس أمن «إسرائيل» فقط، سيكون في مهب الريح. فليس للذين يعانون من ظلم الاحتلال ما يخسرونه.

(22): من يتحمَّل مسؤولية انفلات «عفاريت» الفتن الطائفية في العراق من قماقمها؟
(18/ 8/ 2006)
إنفلتت عفاريت الطائفية في لبنان من قماقمها في أواخر الستينيات من القرن الماضي، تلك الظاهرة التي انعكست سلباً وظهرت آثارها التدميرية في حرب السنتين في لبنان (1975 – 1976)، ولم تكن أية طائفة في لبنان بعيدة عن الغزل في نسيج حالة الانفلات السيئة الصيت. وحاول المشروع الأميركي، منذ العام 2004، أن يُعيدها تجربة مُرَّة لولا أن استدرك اللبنانيون آثارها التدميرية في حرب السنتين الآنفتيْ الذكر.
لم يكن لـ«لتكفيريين»، من أي شكل أو لون، مكان في العراق
بعد أن لم تكن لها أية آثار في ماضي العراق الحديث أو المعاصر فاجأ العراقيون العالم كله، كما فاجأوا أنفسهم أيضاً، باجتياح عفاريت الطائفية المجتمع العراقي، بحيث تحوَّلت أيام العراقيين إلى «سبت أسود»، تيمناً بالمصطلح اللبناني، فأصبح ليله كالح الظلام، ونهاره أكثر ظلاماً من ليله. وطبعاً كان للعدو الأميركي دوره الخبيث فجمع استخباراته وعملائه تحت طائفة «فرق الموت»، وراحوا ينخرون في نسيج العراقيين الوطني فحوَّلوه إلى برك من الدم والخطف والتعذيب.
ظاهرتان يجمع بينهما لاعب ظاهر، هو المشروع الأميركي – الصهيوني، فذلك هو الوجه الأول. وللأسف، وكأنه هو السبب الأساسي الذي نحمِّله مسؤولية ابتكار الطائفية، رحنا نعلِّق على مشاجبه أوساخها، وأوساخ عنفها، خطفاً واغتيالاً وتعذيباً، تارة في استخدام «الدريل» بالتعبير العراقي، وتارة أخرى بقطع الرأس على طريقة فرق الموت الأميركية، ...
أما الوجه الثاني، وهو الوجه الأكثر خطورة وأشدُّها، فهو الوجه الأكثر قبحاً، فهو وجهنا نحن. فما كان للمشروع الأميركي – الصهيوني أن يطل علينا بوسائل التفرقة لو لم نكن نحن، بتربيتنا وإيديولوجيتنا، طائفيين ومؤهلين لارتكاب أفظع الجرائم باسم الطائفية وحماية المذهب.
لم يصنع المشروع الصهيوني – الأميركي الخبيث «عفاريت الطائفية»، وهو إن أراد فلن يفلح. فإذا لم يكن هو الصانع فهو سيكون المستفيد.
ليست الصهيونية والاستعمار هم من صنعوا عفاريت «التكفير»؟
يمتدُّ أصلها إلى حوالي الألف وأربعماية سنة، أي بعد وفاة الرسول العربي الكريم مباشرة. كما يمتد إلى ما يقارب الألفي عام، أي منذ «وفاة» السيد المسيح حتى الآن.
في ذلك الحين، سواءٌ أكان منسوباً للمسيحية أم كان منسوباً للإسلام، لم تكن الصهيونية قد تأسست سياسياً، ولم تكن قرون أصحاب «القرن الأميركي الجديد» قد نبتت. بينما كانت مصانع الفرق المسيحية، كما كانت مصانع الفرق الإسلامية، تعمل ليل نهار من أجل أن يغزل كل صاحب فرقة خيمة لفرقته.
وقياساً عليه حبس أصحاب الفرق عفاريت التحريض والشحن في قماقمها كلما تلاقت المصالح والأهواء، وكانوا يفلتونها كلما افترقت مصالحهم. فمفاتيح القماقم ليست بأيدي الصهيونية ولا الاستعمار بل هي بأيدي أصحاب الفرق والمذاهب السياسية الدينية.
كما ليست مفاتيح القماقم بأيدي علماني هنا أو هناك، بل مفاتيحها بأيدي أصحاب المصالح الفرقية والمذهبية. فليعذرنا أصحاب الفرق الذين يعترفون بهذا الواقع ويتألمون منه، لكنهم قلة قليلة.
لم تكن الصهيونية ولا أصحاب «القرن الأميركي الجديد» قد تأسسوا عندما نُصبت محاكم «الفرقة الوحيدة الناجية من النار» لمحاكمة «الفرق الضالة»، وبما يشبه محاكم التفتيش التي راح ضحيتها آلاف الفلاسفة والصوفيين والعلماء. كما ذهب ضحيتها مئات الآلاف من أتباع الفرق الأخرى. هذا مع العلم أنه كانت كل فرقة تحسب نفسها «الناجية الوحيدة» بينما كل الفرق الأخرى كانت «ضالَّة» تستحق القتل والسحق. فكانت كل فرقة مصدراً للفعل، وكل فرقة تمارس ردة الفعل.
لم تكن الصهيونية السياسية، ولا أصحاب «القرن الأميركي الجديد» قد تكوَّنوا نطفة في أصلاب مؤسسيهم، عندما كانت «محاكم التفتيش» منصوبة في روما وبعض عواصم أوروبا في العصور الماضية.
وقبل أن تصبح الصهيونية نطفة في رحم اليهودية، وقبل أن يصبح جورج بوش نطفة في رحم أمه، كانت عفاريت الطائفية تتوالد في كل زوايا المسيحية والإسلام، ولم تكن الشياطين هي التي تتناسلها، بل كان أصحاب الفرق والأهواء هم الذين يشرفون على صناعتها وتربيتها وحضانتها.
فليس، إذاً، كعك العفاريت التي انطلقت من قماقمها اليوم، في لبنان والعراق، والحبل على جرار الدول العربية والإسلامية الأخرى، إلاَّ من عجين العصور السود السالفة. فلا يؤاخذنا السلفيون إلى أي دين انتموا أو إلى أي مذهب أو طائفة دينية التحقوا وآمنوا بها طريقاً للخلاص في الآخرة. فنحن نؤمن بالقول النبوي الشريف الذي يحض على «قول كلمة حق في وجه ظالم» وعلى أنها من أسس الجهاد، سواءٌ أكان بمراميه الدينية، أم كان بمراميه القيمية الإنسانية. فليسمحوا لنا بتقديم تشخيص واقعي وعملي:
الفرق «التكفيرية» المعاصرة امتداد لمثيلاتها في التاريخ
لا تزال تنسج الفرق السياسية الدينية، في عصرنا هذا، على منوال ما كانت الفرق في العصور السحيقة تنسجه. وعلى الرغم من أن تاريخ الفتن الدموي بين الفرق الإسلامية كان أشد هولاً مما نشاهده اليوم إلاَّ أننا سلفيين وغير سلفيين لم نتعلم ولم نتَّعظ منه شيئاً، ونحن نصر على أن ندخل الجنة من بوابة «تكفير» أتباع الفرق الأخرى وقتلهم.
وأغرب ما في الأمر الآن، هو أن بعض الفرق تحاول أن تخدعنا من أنها ليست فرقاً تكفيرية، بينما نحن نرى أن كل فرقة سياسية دينية، مذهباً وطائفة، لا يمكن إلاَّ أن تكون تكفيرية ما دامت تعتقد أنها مسؤولة على إرغام الآخرين على الاعتقاد بأن الله وكَّلها ببناء نظام سياسي، بحيث لا يمكن للفرد أن ينال خلاصه في الآخرة إلاَّ بالخضوع له. وبهذا المعنى لن نبرِّأ كل من يعمل الآن من أجل تأسيس دولة دينية، لأنها بشتى المقاييس لن تكون عادلة بين أتباعها ولن تحصل على إجماعهم، فكيف لو تعلَّق الأمر بإجماع المذاهب الأخرى والأديان الأخرى؟
إن دعاة كل فرقة والمنتمين إليها، وهي بالطبع فرق متعددة تحسب كل منها أنها تمثل الإسلام الصحيح، يعتقدون أن فقه فرقتهم يُعبِّر عن الأوامر الإلهية، وغيره من فقه الفرق الأخرى ضالٌ ومنحرف. وعلى أساس هذا الاعتقاد تجري أحكام «التكفير» و«التكفير المضاد».
الصهيونية والاستعمار يستفيدان من «عفاريت التكفير» التي صنعناها بأنفسنا
استفادت الصهيونية والاستعمار من عجين «الطائفية» الذي صنعنا نحن خبزنا منه، وراحت تستخدمه للتحريض والتعبئة، وبما أننا محقونون بفيروساته، وكل أصحاب فرقة يغنُّون على أنغام فرقتهم، انسقنا بسهولة فأخذ الأكثر حقناً فينا يقتل الآخر بتهمة «تكفيره» وهو موعود بالجنة إذا قتل «كافراً».
مستفيديْن من وجود المرض الخبيث القابع فينا، فكانت أساس المشكلة في لبنان هو الترويج لمشروع الفدرلة الطائفية، فلم ينجح.
والآن أساس المشكلة في العراق هو العمل لإنجاح فدرلته، على أسس طائفية وعرقية، بعد فرضه دستورياً بشكل مشبوه. فهل ينجح؟
«الفدرلة» في العراق من إنتاج «التكفيريين» في مصانع الغرب والجوار العربي
من أجل إنجاح فدرلة العراق كانت لأصحابه روزنامة متسلسلة، تعود جذورها إلى مشروع إيديولوجي إيراني اتَّخذ عقيدة ما يسمونه «ولاية الفقيه» الذي يتأسس على حكم الفقيه العالم والعادل، والذي له صلاحية الإمام والنبي، فمن خالفه فقد خالفهما وخالف الله أيضاً. بحيث يكون الجميع، ومنهم الفقهاء الآخرين «مأمورين ومؤتمَرين» له.
أما الخطوة الأخرى فهي التي ظهرت في ما سُميَّ في حينه «إعلان شيعة العراق» الذي صدر في لندن في شهر حزيران من العام 2002. وكان في الإعلان المذكور ما يروِّج إلى ظلم لحق بحقوق شيعة العراق، فجاء البيان / التمهيد للاحتلال ليحدد قواعد لقيام نظام فدرالي عراقي مفصَّلاً على أسس «حقوق الطوائف»، وكان ممن وقَّعه، ودافع عنه، موفَّق الربيعي المسؤول الآن عن الأمن القومي في حكومة «نوري المالكي». وهو للمناسبة معيَّن من قبل بول بريمر بضمانة أنه لا يجوز لأية سلطة أخرى غير سلطة الاحتلال تغييره.
فمن ناحية نظام «ولاية الفقيه»، الذي اختاره الشعب الإيراني، أو فُرض عليه، فلا علاقة لنا به فهو اختيار لشعب يمكنه أن يختار النظام السياسي الذي يرتضيه أو يرفضه. يمكنه أن يخضع أو يثور، فعلينا أن نعترف بسيادته ونحترم خياراته.
أما أن يُعمِّم خياراته أو يفرضها على شعوب دول أخرى، فهو مما لن نكون حياديين تجاهه. فهو أولاً يتدخَّل في شؤون الآخرين، وثانياً يعمل على تعميم نظام سياسي على قواعد مذهبية محدَّدة سلفاً تحديداً دقيقاً واضحاً لا لبس فيه. والعودة إلى «وصية (الإمام الخميني) الإلهية» ما يُغني عن التعليق والتأكيد.
إن نظرية «ولاية الفقيه» لم تكن ولاَّدة وحيدة لـ«عفاريت» الطائفية، وإنما سبقها للظهور، دعوات أخرى من أهمها الفرق التي توالدت عن «حركة الإخوان المسلمين»، وكذلك «حزب التحرير الإسلامي». وكل من النظريتين شرَّعتا العمل تحت ظل الاحتلال، وهي تجهد من أجل إنجاح ما تسميه إدارة جورج بوش بـ«العملية السياسية» في العراق. وإذا كان العراقيون، المتمسكون بـ«نظرية ولاية الفقيه»، يرتبطون بالنظام الإيراني ويتلقون دعمه وحمايته وتشجيعه، فإن الطرف الآخر يرتبط بدعم النظام السعودي ويتلقى دعمه وحمايته وتشجيعه.
«الفدرلة» جامع مشترك لأصحاب المشاريع «الإلهية»
فلو كان ما قمنا باستعراضه مما له علاقة بحقوق سياسية واجتماعية واقتصادية تنشط تلك الفرق من أجل توفيرها لجماعاتهم لهان الأمر. ولكن للأمر جانب أمرُّ وأدهى. وهو ما قمنا بكتابة المقال لأجل توضيحه. وهو مرتبط أساساً بمحاولة كل من الفرقتين، الدينية السياسية، الترويج لما تعتقدان أنه «مشروع إلهي» عليهما تقع مسؤولية الجهاد من أجل تطبيقه. فالنظام الإيراني يعمل على تصدير أنموذجه في نظام «ولاية الفقيه» السياسي. والذي من أجله حضَّر أدواته العراقية ممن اختاروا اللجوء إلى إيران في مرحلة الحرب الإيرانية العراقية، أو من الأسرى العراقيين الذين تم التغرير بهم وألحقوهم في «فيلق بدر»، و«المجلس الأعلى للثورة الإسلامية». وقامت الأجهزة الإيرانية المختصة بتأهيلهم، تدريباً وحقناً أيديولوجياً، وتحضيرهم من أجل استخدامهم في اللحظة المناسبة.
إن للفتنة التي تجري في العراق الآن علاقة وثيقة بـ«العفاريت» التي حبسها الحاقنون في قماقمها، بالتحريض والتعبئة والتكليف الشرعي، أي «الأمر الإلهي»، الذي يفتي به الفقيه فلا يجوز للمقلدين الاعتراض عليه، فالاعتراض بمثابة تمرد على الرسول والإمام والله، وعقابه الدخول إلى النار.
«التكفيريون» الحقيقيون يتذاكون علينا ويستغفلوننا
كما أنه من غرائب الأمور وأعجبها أنَّ شُلَّة معروفة من الذين نصَّبهم الأميركيون في مواقع سياسية في العراق، وهم ممن تدرَّبوا في إيران، (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وفيلق بدر، وحزب الدعوة الإسلامية)، أو تدربوا في أقبية الـ«سي آي إيه» (موفَّق الربيعي وأمثاله)، يتصرَّفون على أساس أنهم أولياء أمور المسلمين الشيعة، فراحوا يفتون بـ«تكفير» الآخرين، أو يدفعون بالمراجع الدينية لممارسة هذا الدور، وبذلك راج على لسان من هم «تكفيريون» اتهام الآخرين بها، والتكفيريون حسب المصطلح الأميركي هم ذاتهم «الإرهابيون».
إنه لمن أعجب الأمور أن ينبري من هو «تكفيري» حتى العظم أن يتهم الآخرين بالـ«تكفيريين»، ويتصرف على أساس أنه المسلم المنفتح الذي يريد اجتثاث الفرق التكفيرية الأخرى على قاعدة اجتثاث الفرق السياسية العلمانية. وعلى هذا القياس هو مصرٌّ على اجتثاث حزب البعث وأفكاره وفلسفته.
ينبري عبد العزيز الحكيم، وعمار الحكيم، وابراهيم الجعفري، وموفق الربيعي، مدعومون بشلة من رجال الدين للتبشير بـ«العفة» الإسلامية، والوحدة الإسلامية، ويلقون بتبعة ما يحصل في العراق الآن على التكفيريين من أمثال «الزرقاويين»، وأنصار «القاعدة»، بينما «عفاريتهم» تسرح وتمرح في وزارة الداخلية من جهة، كما تملأ جرائم «ميليشياتهم» كل زوايا المدن أو الأحياء التي يستبيحونها من دون وازع ديني أو أخلاقي.
وللمزيد من التعمية على دورهم وتجهيل من هم أصحاب «المصانع» التي تُنتج «عفاريت الطائفية»، يختبئون تحت زي رجل الدين الحريص على الوحدة الإسلامية، ويلقون تبعات الأعمال المنافية للـ«مندسين» في صفوفهم، ويلقون عليهم تبعات «الحمامات» الدموية التي يُغرقون فيها العراق الآن. وهم بمثل دورهم التمثيلي كمن يستغفلنا. فهم يبرؤون أنفسهم من تهمة «التكفير»، كما يبرؤون أنفسهم من تهم حقن «العفاريت» الذين هم من العامة. ولمثل هذه الغاية يجتمع رؤوساء الطوائف، ومن يحسبون أنهم علماءها، لينادوا بالوحدة علناً، ولكنهم يعودون إلى زواياهم وتكاياهم من جديد ليمارسوا حقناً جديداً وتحريضاً جديداً ضد الفرق الأخرى.
قبل أن تدخل الفرق الإسلامية التي تتبوَّأ مقاعد في العملية السياسية الأميركية، لم يعرف العراق، في تاريخه الحديث والمعاصر، وخاصة في ظل حكم النظام الوطني للعراق، أية دعوات «تكفيرية»، بل وهم يعرفون أن حزب الدعوة، وغيره من الأحزاب الدينية الإسلامية ومنهم تيار «الزرقاوي»، كان محظوراً نشاطه ليس لسبب آخر إلاَّ لأنه كان حزباً «تكفيرياً»، فخدعوا العامة بأن حزب البعث كان يظلم الشيعة. وهل منع حزب تكفيري من النشاط هو ظلم؟
كما خدعوا العامة أن حزب البعث، بسبب وقوفه ضد قيام نظام «ولاية الفقيه» في العراق، دافعاً نتائج حرب مريرة دامت ثماني سنوات، أن حزب البعث قد ظلم الشيعة. وهل منع قيام نظام ديني سياسي، على قاعدة تكفيرية، هو ظلم للشيعة؟
نظام حزب البعث الوطني كان حاجزاً يحول دون انتشار الفكر التكفيري
لم يمنع نظام حزب البعث السياسي قيام أحزاب شيعية تكفيرية فحسب، وإنما كان يحظر قيام أحزاب سنية تكفيرية أيضاً. وكما كان حزب الدعوة محظوراً كان فكر «القاعدة» كفكر سُني، سواءٌ أكان «زرقاوياً» أم كان «بن لادنياً» محظوراً أيضاً. أوَ يجهل «التكفيريون» من أتباع حزب الدعوة أو أتباع المجلس الأعلى للثورة الإسلامية أن «الزرقاوي» كان يعيش في شمال العراق مشمولاً بحماية منطقة الحظر الجوي الأميركي؟
فإذا كان فكر «القاعدة»، ومنها الزرقاويين، كما يصفه «التكفيريون المموَّهون» هو العفريت الوحيد في ليل منظمات إسلامية صافية لهان الأمر. ولكن التكفيريين لجأوا جميعهم إلى مظلة الأميركيين، سواءٌ اكانت تحت حماية مناطق الحظر الجوي الأميركي، أم كانوا في شوارع لندن وواشنطن وعماراتها الشاهقة، أم كانوا في المخيمات الإيرانية، وقد تمَّ جمعهم هنا أو هناك من أجل إطلاقهم من «القماقم» في الوقت المناسب. وهم قد أطلقوهم بالفعل في اللحظة المناسبة. ووضعوهم في بوابة التنفيذ ليمزقوا العراق بواسطتهم. أما استخدامهم من قبل الاحتلال الأميركي فلأنه عندما شعر الأميركيون أنهم لن يسيطروا على العراق موحداً «يحلبون» نفطه وثرواته، من دون منافس أو غريم، استخدموهم ليفتعلوا بهم في العراق تمزيقاً. وهم يعملون ذلك لعلَّهم تحت واقع التمزق الذي يقومون به يحصلون على قطعة هنا أو هناك. وهكذا فعل النظام الإيراني لأنه بغير تمزيق المجتمع العراقي على قاعدة «الملل والنحل» لن يستطيعوا أن يقتطعوا حصة في العراق.
الحالة «التكفيرية» وليد للفرق الطائفية السياسية كلها
وبالنتيجة، فقد علبَّت الفرق السياسية الدينية، من كل حدب وصوب، ومن كل ملة أو مذهب، بحيث يتساوى الجميع في التعليب في التكايا والزوايا، «عفاريت المذهبية والطائفية» في قماقم، منذ زمن بعيد، وانتظروا الاحتلال الأميركي، واستفادوا من غياب نظام حزب البعث الوطني، فتسلَّلت «العفاريت» المحقونة مذهبياً تحت مظلة الاحتلال، وأفلتوها الآن من عقالها لتأكل نارها كل أخضر ويابس في الشارع العراقي. وكان كل الدور الذي لعبته الصهيونية والإمبريالية هي أنها أسهمت في تجميعها، واستفادت منها، وتعمل على تجييرها لمصلحتها، وتغطية على هزيمتها، ومشجباً تعلِّق عليه الآن أوساخها لعلَّها تظهر نظيفة ناصعة البياض أمام شعوبها، وطاهرة الذيل أمام أنظار الرأي العالمي. وهي تخدع الجميع بأنه لا يجوز أن تترك العراق خوفاً عليه من الحرب الأهلية القائمة على قاعدة الفتن الطائفية.
ولهذا نناشد، ليس الصهيونية والاستعمار، من أجل لجم «العفاريت» الطائفية، وهم لن يلجموها لأنهم يستفيدون من انفلاتها. بل نقول لـ«لتكفيريين» من الملل الإسلامية، وعلى رأسهم أتباع النظام الإيراني، إلى أنهم بكونهم صنَّعوا «عفاريت الفتنة» وأطلقوها من «قماقمها»، أن يعيدوها إليها، وهم لن يفعلوا.
الرهان على المقاومة الوطنية العراقية في أي حل استراتيجي
ولكننا نراهن على المقاومة الوطنية العراقية، بكل فصائلها، تلك المقاومة التي تنشد تحرير العراق وتعيد إليه وجهه الوطني. تُعيد إليه نظاماً وطنياً يحترم الدين ويعتبره خياراً روحياً أساسياً في بناء الإنسان العراقي وطنياً وقومياً وإنسانياً، ويوفر للجميع حقوقهم على قاعدة المواطنة من دون خوف من مظلومية يدَّعيها عراقي «شيعي» في حظر نشاط أية أحزاب أو حركات سياسية شيعية، وأيضاً من دون خوف من مظلومية يدَّعيها «سُنِّيٌ» عراقي في حظر نشاط أية أحزاب أو حركات سياسية سنية.
***
تعليقات على المقال: موقع (منتدى بطناش)
مصيبة المصائب التي نعاني منها في العراق هي ضبابية الرؤيا التي اكتنفت الأحداث الحالية فالكل محتار من أين يبدأ وأين ينتهي ومن أين جاءت هذه الثقافات الدخيلة وكيف يسعى أبناء البلد الى تفتيته ومن الذي يقف وراء فرق الموت .. ولهذا تأزمت الرؤيا وتعددت المواقف بسبب غياب معرفة الحقيقية وما يجري من مخططات ومن الذي يقودها..
أن هذا التحليل الذي تفضلت بنقله يا أخي العزيز قد أصاب كبد الحقيقة وأوضح الأمور ووضع النقاط على الحروف وأنا أدعو كافة المخلصين في بلدنا للاطلاع عليه فأن معرفة الداء هو الطريق الأمثل لوصف الدواء وفهم المشكلة هو الطريق الصحيح لحلها . رسالة خاصة الى أبن خالي :
أخي العزيز أحس وأشعر بالتذمر والمرارة وغصة الألم الذي يغمرك ويكتنف جميع المواضيع التي تطرحها..
أتابع شخصيا كل كلمة كتبتها في هذا المنتدى .. تذكرني بأيام الشباب التي عشناها من حرب عام 1967 الى نهايات حرب القادسية ... أفهمك وأفهم ما يعتريك من ثورة وغضبة المواطن الشريف والغيور الأبي...
ليس لدي ما أضيفه سوى أن أقول لك أستمر ولا تهادن فالحق بائن والباطل بائن ولولا العيال يا أخي فلن تجد لي قبرا يؤوينى في هذه الأرض.. أشكرك وحماك الله.
الاخ ابن خالي
اشكرك على هذه الغيرة العراقية الاصيلة والتي هي بالتأكيد وراءها غيرة عربية ثم غيرة اسلامية. ولكن الموضوع الذي تنقله فيه الكثير الكثير من الجوانب وفي بعض جوانبها العمومية تجانب الصواب.
اخي: لم تقم محاكم تفتيش في الوطن الاسلامي كما ذكرت بل ظهرت جماعات مكفرة اولها الخوارج فاستباحوا دماء المسلمين واول دم استباحوه هو دم الامام علي ابن ابي طالب كرم الله وجهه كما ظهرت فرق الاسماعيلية كفرقة الخناجر والحشيش وهي فرق خاصة بالاغتيالات وقد قضى على جلها القائد التكريتي المولد صلاح الدين الايوبي ومن ضمنهم فرقة الخناجر والحشيش لان الاسماعيلية كفرت برمتها من قبل علماء السنة.
هناك سياسي قال "حينما نتكلم في العموميات فكلنا متفقون ولكن سرعان ما يدب الخلاف بيننا عندما نقترب من التفاصيل" اخي نحن كمسلمين سنة وشيعة هناك الكثير مما نتفق عليه فالايمان بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والغيب واركان الاسلام الخمسة الشهادة والصلاة والصوم والزكاة والحج ولكن عندما نهبط الى التفاصيل يدب بيننا الخلاف. كسنة لم يكن اي مذهب يعالج الخلافات بموضوعية اكثر منه ولذا لم يكفر اهل السنة الشيعة الاثني عشرية ولم يكفروا الشيعة الزيدية كمذاهب مثلما حدث في تكفير الاسماعيلية وانما وضعوا حدودا للتكفير يستتاب المرء منها فان تاب فيعفى وان لم يتب ينظر بامره مرات ومرات ولو قرأت قصة اعدام الحلاج لرأيت كم كانوا يخشون تكفير المسلم.
عدا ابن تيمية الذي خالف الاجماع وكل المكفرة الحاليين من السنة هم اتباع ابن تيمية وحتى هؤلاء السلفيين الذين يدعون انهم ليسوا بمكفرة فاحذرهم لانهم هم الذين يلتقطون المندفعين او يهيئوهم ليخبروا المكفرة عنهم فيلتقطوهم. قبل حوالي خمسة سنوات ظهرت فضائية اسمها "المستقلة" ولم تكن كذلك فقد جمعت متششدة السلفية مع متشددة الشيعة لتشعل افكار العراقيين خاصة لتهيئة الجو لمثل هذه الايام.
عذرا فقد كنت بالامس على عجالة من امري ولما اكمل الموضوع.
اقول ان مسألة التكفير فيها قسمين هو اما القسم العام الذي تكفر فيه فئة لان كفرا يدخل في اساس معتقد تلك الفئة كما حدث مع الاسماعيلية وكما يحدث مع فئات اخرى كاليزيدين (عبدة الشيطان في شمال العراق) وكالطريقة البكداشية في تركيا بعد انحرافها عن الخط الصوفي الصريح.
واما ان يأخذ التكفير خطا شخصيا كتكفير شخص لدعوة يدعيها وهي خارج الايمان في الدين الاسلامي كتكفير الحلاج وكاعتبار بعض الكتاب مرتدين لانهم اعلنو صراحة في الصحافة اعتراضهم على بعض جوانب الدين الاسلامي كاعتراض تسليمة نسرين في بنكلادش على القرآن الكريم في معالجته لقضية المرأة.
خلاصة القول انه ما لا يمكن تجاوزه في الدين الاسلامي لانه واجب علينا عندما تخرج ملة او اشخاص لحرف هذا الدين. ولكن ...................... هناك اشياء لا بد من ضبطها وهي مضبوطة عند اهل السنة والجماعة (علمة بان من يسمون انفسهم حاليا بانهم سلفيون هم ليسوا سلفيين بل هم اتباع ابن تيمية وقد اخرج ابن تيمية من الاجماع عند كثير من علماء السنة والحقيقة ان مشكلة ابن تيمية عويصة بعض الشيء عسى ان يتسع المجال لمناقشته لاحقا). من ضمن هذه الاشخاص هو من يحق له تكفير فئة ومن يحق له تكفير اشخاص وكيف تعالج كل حالة ومن يعالجها واذا غاب المحكم والمعالج كيف يبت بالمر. وكيف يبت بالمر بوجود حاكم غير مسلم او اتا به غير مسلم او حاكم ظالم لا يمكن البت بالحكم بوجوده كل هذه الاشياء والتفاصيل موجودة عند اهل السنة والجماعة ومفروغ منها. وبالمناسبة فبالرغم من ان الاسلام يكفر المسيحيين الحاليين لشركهم فإنه لا يوجب القتل بهم لانه ليس كل من كفر يوجب عليه القتل هذه ميزة مهمة بين الحكم والعمل.
الآن لنأتي الى الوضع الراهن بالعراق انه حالة خاصة من حالات الوضع الاسلامي على مر التأريخ وعلى مستوى الساحة الاسلامية الان خاصة. انه امر اعد بعناية خاصة وبتخطيط مسبق.
فكما قلنا فان اهل السنة والجماعة يتشددون في الحكم على التكفير اي انهم لا يكفروا فئة او شخصا بسهولة واكبر مثال فعلى علمي لم يكفر علماء السنة في العراق الامام الخميني ولم يصدروا حكمهم عليه برغم الحرب القائمة آنذاك وبرغم جبروت صدام حسين الذي استفتاهم فيه فلم يصدر اجماع بتكفيره وانما قام افراد منتفعين باصدار حكمهم بدون اجماع وهذه للاسف لا يذكرها الاخوان الشيعة الاثني عشرية. لان تكفير شخص يتطلب حضوره واستتابته وبما ان هذا غير ممكن لم يفت علماء السنة في العراق بتكفير الخميني.
وبما ان هذا هو موقف اهل السنة فانهم استبعدوا عن الخطة فبحثوا في تيارات الاسلام الحالية فوجدة ضالتهم في ابن تيمية ومن يتبعه وعثروا على شاب صحفي اسلامي اي لم يتتلمذ على ايدي علماء دين فصعدوه واعدوه اعدادا خاصا وبدعم خاص ذلك هو الالباني ووجدو ان اقرب فئة لابن تيمية هم اتباع محمد ابن عبد الوهاب فاخذوا من اتباع محمد ابن عبد الوهاب ليتبعوا ما يأتي به الالباني فبدأ ما يسمى بالسلفية.

(23): حروب الاستتباع للاحتلال الأميركي للعراق تبدأ فصولها تباعاً
29/ 8/ 2006
كما أشرنا في مقالات سابقاً عن أن حكومة المالكي، كحكومة تعمل على التوفيق بين روزنامة الاحتلال الأميركي والتدخل الإيراني، سيتولد عنها سلسلة من حروب الاستتباع، والسبب الذي قمنا بتشخيصه هو أن حكومة المالكي تنفذ كل ما ليس له أية علاقة بالمصلحة العراقية أولاً، والمصلحة القومية ثانياً. فهي تعمل على الأقل على رعاية مهمتين استراتيجيتين:
1-تفتيت العراق: وهو هدف أميركي – إيراني مشترك. يريد الطرف الأول أن يمرر خريطة الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، كما يتناغم تفتيت العراق مع مضمون الأهداف الإيديولوجية الإيرانية القائمة على التفتيت المذهبي على حساب وحدة الأرض الوطنية.
2-إلغاء كل آمال وحدوية قومية عربية: وهو هدف أساسي يترجم أهداف المشروع المذكور على القواعد المذكورة.
إن حروب الاستتباع الظاهرة حتى الآن ثلاث:
-الأولى: عملية الفرز في جنوب العراق بين تيارين عريضين: التيار المناهض للاحتلال الأميركي، والتدخل الإيراني. والتيار الموالي للاحتلال الأميركي والحاضن العراقي للتدخل الإيراني.
-الثانية: الفيدرالية الكردية تثير المخاوف الاستراتيجية لدول الجوار، وقد واجهت سورية تلك المخاوف في أحداث القامشلي منذ أكثر من عام، وهذه الدولة التركية تدخل على خط مكافحة تلك المخاوف بتهديدها في غزو شمال العراق حيث تتأسس الدولة الفيدرالية الكردية، ولن تسلم إيران من تأثيرات الدولة الكردية السلبية في المستقبل القريب. فهي ساكتة عنها الآن لأن لديها هم أساسي هو تركيز مواقع فيدرالية الجنوب وتثبيتها.
-الثالثة: فيدرالية شيعية في الجنوب يقودها عملاء إيران: وهي تثير عدة مخاوف في الوسط السياسي لدول الخليج، من أهمها اثنين: الأول جغرافي وسببه اختراق إيران حاجز العراق الجغرافي الذي كان يحمي دول الخليج كجزء من الوطن العربي،وبهذا الاختراق تصبح إيران على الحدود الجغرافية المتاخمة لتلك الكيانات. اما الثاني فهو الغزو الإيراني الطائفي المحتمل لجزء من التركيبة السكانية لدول الخليج، بعد أن يستتب له الأمر في فيدرالية جنوب العراق، مما يؤدي إلى تقسيمات مذهبية للمجتمعات القطرية في تلك المنطقة.
لقد أثارت المتغيرات المحتملة، التي تنفَّذ على نار حامية، الهواجس السعودية التي كانت مكبوتة أميركياً، السبب الذي دفع سعود الفيصل وزير خارجية السعودية إلى عقد مؤتمر صحفي لإعلان تلك الهواجس مداورة، ومن أجلها دعا إلى أن يأخذ العرب دورهم فيما يجري على ساحة الأمة كلها، بدءاً من لبنان، مروراً بفلسطين، وصولاً إلى العراق، وهو بتقديرنا مربط فرس الهواجس السعودية.
أن تأتي متأخراً، خير من أن لا تأتي أبداً، ونقول صح النوم غيرة على الكيان العربي الذي يُراد تهديمه، وإذا ما سارت الأمور على ما هي عليه، نعتبر أن هذا الكيان أصبح في حكم المهدَّم لا ينقصه إلاَّ الإعلان عنه.
يضع البعض تصريحات سعود الفيصل في دائرة المناورة ذات الأبعاد الأميركية التي تشتبك مع الإيرانيين حول مضمون مشروع الشرق الأوسط الجديد، وليس على هويته وأهدافه من جانب. وفي دائرة إستحضار المعادلة التي كانت سائدة منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي، التي كانت تشير إلى وضع «الأصولية الإسلامية» في مواجهة «المد القومي العربي»، ولما استقوت الأصولية على صانعيها، استحضر سعود الفيصل، بدفع أميركي أم بدونه، إلى قلب المعادلة بحيث يدفع الآن «الشعارات القومية» لوضعها في مواجهة «الأصولية الإسلامية».
باستثناء جانب التوافق بين بعض الأصوليات الإسلامية والقوى القومية العربية على هدف مواجهة الاستعمار والصهيونية وممارستها على أرض الواقع، مما يجب أن تبقى مستمرة وأن لا تشكل أية أسباب أخرى مسلكاً لصراع بينهما، لا يجوز أن يكون في إعلان سعود الفيصل ما يمكن أن يضع التيارين في مواجهة بينهما، التي ستكون إضعافاً لتيار التحرر من الاستعمار من جهة، ومن جهة أخرى ستهب مجاناً للاستعمار فرصة إعادة إحياء آماله التي تتجه نحو الانحسار أو على الأقل تأجيلها إلى ظروف مؤاتية.
ومن منطلق حسن الطوية، المبنية على معطيات الواقع واحتمالات المستقبل، نرى أنه ليس لدول الخليج العربي من خلاص أكثر من خشبة إعادة النظر من جديد، وبعين المصلحة القطرية على الأقل، عما ارتكبته تلك الدول من أخطاء وخطايا بحق النظام الوطني في العراق. إن الإدارة الأميركية بعد أن أوهمت دول الخليج أن النظام الوطني في العراق، نظام حزب البعث العربي الاشتراكي، يهدد أمنها ومصالحها، وبعد أن أثبتت وقائع الأمور كذب التخويفات الأميركية أصبح من الثابت لتلك الأنظمة أن العكس هو الصحيح، إذ كان نظام حزب البعث يشكل أحد أهم عوامل الحماية للأمن القومي العربي بشكل عام والأمن الوطني لدول الخليج بشكل خاص.
واستناداً إلى قراءة الحركة الشاملة، وفيها الكثير من المتغيرات التي لم تصبح واضحة تماماً أمامنا حتى الآن، نعتبرها نقلة نوعية في المتغيرات التي يمكن المراهنة عليها في استشراف آفاق المستقبل القريب.
إننا نرى أن المأزق الأميركي، كما الإيراني، في العراق أخذ ينعكس سلباً منذ الآن على المخططين المذكورين من خلال انعكاسه سواءٌ على الداخل العراقي، خاصة في الجنوب، أم على الجوار العربي وغيره للعراق. وعلى تلك المظاهر نرى أن في الأفق عوامل ومتغيرات جديدة دخلت، بشكل غير مباشر، لمصلحة المقاومة العراقية. فالمقاومة كانت كفيلة وجديرة بوضع المشروع الأميركي أمام المأزق التي من خلالها دفعته إلى اتخاذ بدائل سياسية ليتجاوز بها مآزقه، ولكنها انعكست تأزيماً على دول الجوار العراقي فوضعت أسس حروب الاستتباع المذكورة أعلاه، والتي من أهم نتائجها أن دول الجوار أخذت تحضِّر نفسها، من أجل حماية أمنها العسكري والسياسي والسيادي، لاستعادة وحدة العراق، فتفتيت العراق هو الأنموذج الماثل لتفتيت المنطقة كلها. ومن أهم معالمها هو «تسخين موتورات الدبابات التركية» التي لا يزال ما تبقى من «هيبة» أميركية يؤخر حركتها. وإصبع سورية على الزناد من أجل منع امتداد تأثير انفصالية الأكراد في شمال العراق على أكراد سورية، وهي ترى في السكوت على انفصالية أكراد العراق تهديداً استراتيجياً ودائماً لوحدة الأرض السورية والشعب السوري.
ومن النتائج التي أصبح من الممكن استشرافها بأكثر ما يمكن من الوضوح هو أن معالم «القادسية الثالثة» تتراكم، وشروط خوضها من جديد تتوفر من خلال مظهرين اثنين:
-الأولى: حالة العداء ضد التدخل الإيراني تتراكم في جنوب العراق من خلال أكثر من مظهر، حتى لو كانت في بعض جوانبها تنطلق من أسباب وأهداف قاصرة عن الثوابت الوطنية، وهي قابلة لتجميع وتوحيد كل الجهود المخلصة والجادة، ونرى أنها ستكون كرة من الثلج سوف تجرف أمامها كل العوائق التي تنادي بالانفصالية وتعمل جاهدة لتثبيتها، وهي كرة ستشق الطريق أمام المقاومة الوطنية من أجل استعادة وحدة العراق، وهي ستشكل الجناح الثاني للعراقيين، فيكتمل جناحا الطائر ويتوحَّدا.
-الثانية: حالة الرعب التي بدأت تشق طريقها في الأوساط الحاكمة في دول الخليج، وهي بدورها ومن أجل الحفاظ على أمنها ووجودها وسيادتها الوطنية، ستكون الحاملة التي ستمد الطائر العراقي الموحَّد الجناحين ببعض أسباب القوة والاحتضان والحماية، فهي ترى أنه بدون عراق موحد لن تحلم بأن وحدة أراضيها وشعبها سيكون من الممكن أن تستمر.
إن ما يحول دون حصول «قادسية ثالثة» هو أن يقوم النظام الإيراني بمراجعة أخلاقية أولاً تؤدي إلى الوقوف في مواجهة «الشيطان الأكبر»، والخروج من نفق محاباته ومجاراته بمشاريعه، أما ثانياً فإنه لا دور فاعل لإيران في المنطقة من دون وجود عربي فاعل وقوي. بل بالأحرى من دون وجود جار عراقي قوي، خاصة وأن النظام الإيراني متأكد أنه ليس للعراق خاصة، بل للجوار العربي بشكل أعم، أطماعاً جغرافية في إيران وليس لهم أطماع مذهبية أو عرقية في المجتمع الإيراني.

(24): استنكار اعتقال الصحفية كلشان البياتي
11/ 9/ 2006
ليس من الغريب أن يقوم الاحتلال الأميركي باعتقال الصحافيين الذين لا يؤدون خدمات له، وتغطية جريمته باحتلال بلد مستقل من أجل نهب ثرواته واستخدامه قاعدة عسكرية لحماية مصالحه في العالم.
لقد بدأت قوانين الاحتلال الأميركي في العراق بـ«قانون اجتثاث حزب البعث»، واستكمله بقرارات قتل الصحافيين أو اختطافهم، ومن حالفه الحظ منهم كان التهديد والوعيد هو العقوبة المفروضة.
لقد قارب عدد من نالتهم نِعَمُ الديموقراطية الأميركية من الصحفيين العراقيين، أو العاملين في العراق سقف المئة صحفي. وكانت آخرهم الصحافية كلشان البياتي.
لم تكن كلشان إلاَّ من الذين يدعون العالم إلى الوقوف ضد الاحتلال وجرائمه التي ترتكب بحق شعبها في تحرير أرضه من الاحتلال، كحق طبيعي وإنساني، والعمل على كشف جرائم الاحتلال التي يرتكبها في كل زاوية من زوايا حياة العراقيين، وهو، بحد ذاته، مطالبة للاحتلال بأن يكون مسؤولاً عن أمن وحياة ووسائل عيش مواطني البلد طيلة فترة الاحتلال تنفيذاً للقوانين الدولية والإنسانية.
ولما انتشر نبأ اعتقالها لم نجد أن وسيلة الاعتقال غريبة عن منهجية الاحتلال الأميركي الذي زرع عيونه الصحفية التي تشوِّه الحقيقة لتتناسب مع منهجه في الكذب والخداع، وعمل على فقأ العيون التي تكشف الزيف والتضليل الذي يمارسه منذ احتلاله العراق.
إننا نضم صوتنا إلى جانب الأصوات التي تحمِّل الاحتلال الأميركي مسؤولية المحافظة على حياة المناضلة كلشان البياتي، وإعادة الحرية إليها. وفي هذا الصدد نطالب الهيئات الإنسانية، وخاصة الهيئات الإعلامية، بالعمل بشتى الطرق من أجل إطلاق سراحها.
12/ 9/ 2006 حسن خليل غريب / لبنان

(25): الدكتور فاضل البدران يدفع من حريته ثمناً تستحقه حرية وطنه
إذا كان من واجبنا أن نتضامن مع المناضلين، فمن حقهم علينا أن نفعل ذلك، ففي حمايتهم حماية لنا أيضاً. وفي انتصار قضيتهم انتصار لحرية الكلمة.
كلما سقط صاحب كلمة شهيداً، أو قام الاحتلال باعتقاله، ليس له من دلالة إلاَّ ضيق الاحتلال ذرعاً بمن يكشفون الغطاء عن خداعه في جلب الديموقراطية إلى بلادنا. تلك الديموقراطية، التي قالت عنها مادلين أولبرايت، وزيرة سابقة للخارجية الأميركية، إن الأميركيين قد أصبحوا يكرهونها لأنها ليست أكثر من غطاء واهٍ كن دون مضمون تتلطى به إدارة جورج بوش.
فاضل البدران، كما كل الذين سبقوه على طريق الشهادة والاعتقال، زرع الأرق في جفون الاحتلال وعملائه، فضاقوا به ذرعاً، خاصة بما يمتلكه من حيوية الحركة والحماس التي تنبع من شدة إيمانه بقضيته، وهو غير خائف ولا جزع، فهو من بيئة كريمة بالعطاء الوطني، وهو الذي دفع من دماء شقيقيه مهراً لوطن يستحق كل الدماء والأرواح.
نضم صوتنا إلى صوت الشرفاء في دفع المؤسسات الإنسانية لملاحقة قضيته حتى عودته إلى الحرية من جديد.
حسن خليل غريب/ لبنان 15/ 9/ 2006

(26): المقاومة الوطنية العراقية تعيد للفكر القومي العربي حيويته
23/ 9/ 2006
لما نعق « غربان البين» ونعوا الفكر القومي العربي وأعلنوا وفاته، فإنما فعلوا ذلك ليس لأن الفكر قد مات فعلاً، وإنما كان نعيقهم عبارة عن أمنية يحلمون بتحقيقها.
أما الواقع فهو ليس كذلك، وإنما ما بدا للآخرين موتاً إنما كانت عوارض من الضعف ميَّزت أداء القوميين العرب، منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي. أما أسباب الضعف فتعود إلى مواجهات عديدة ساقتها بعض التيارات السياسية والإيديولوجية العربية، ويأتي على رأسها تياران أمميا الأهداف والهوى وهما: الماركسيون العرب والتيارات السياسية الدينية العربية.
ولم تكن مواقف المناهضين للفكر القومي العربي تشكل عامل الإضعاف الوحيد، وإنما أيضاً شكَّل سوء أداء التيارات القومية نفسها سبباً مساعداً. ومن أهم معالم السوء فيه هو أنها غلَّبت الصراعات السياسية فيما بينها فأتت على حساب الفكر وأضعفت انتشاره خاصة وأن تلك التيارات أغفلت أهمية تجديد الفكر وإغنائه، إذ كانت تلك المهمة تأتي في نهاية اهتماماتها.
إننا نعتبر أن عوامل إعاقة الفكر القومي، ومنعه من الانتشار، يعود إلى سببين: الأول خارجي، والثاني داخلي.
فحول السبب الخارجي وكان مصدره المخططات الاستعمارية والصهيونية التي عملت منذ البداية على منع انتشار أي فكر وحدوي منذ اتفاقية سايكس بيكو. والتقطت نقاط الخطورة فيه، فوضعت الحواجز السياسية والجغرافية، وارتقت بها، في تاريخنا المعاصر، إلى صياغة حواجز فكرية وضعت لنشرها وتعميقها وترسيخها كل وسائل إعلامها، وظهرت بأوضح معالمها في إيديولوجيا «صراع الأفكار» و«صراع الحضارات».
أما السبب الثاني، فقد تلاقى السبب الخارجي على محاربة الفكر القومي مع تيارات سياسية ودينية داخلية يقودها عدد كبير من النُخب الدينية السياسية من جهة، وتيارات الماركسية وأحزابها الشيوعية من جهة أخرى.
وعلى الرغم من أن التيارات القومية لم تشكك بأن الفكر القومي هو فكر الحداثة والمعاصرة والمستقبل أيضاً، الذي لا يرى للأمة العربية مستقبلاً من دونه، فواجهت الآخرين بصفوف متفرقة السبب الذي جعلها تحصد الوهن والضعف في مواجهة التيارات الأخرى وتراكمها على الوهن الذي كان حصيلة الصراعات فيما بينها.

أولاً: تحالف أممي سياسي يقف في صف العداء للفكر القومي العربي
لقد انقسم « غربان البين» من الذين نعوا الفكر القومي إلى ثلاثة ألوان يجمعهم العداء له، وهم:
-الصهيونية والاستعمار صانعا سايكس بيكو بطبعتها القديمة، وهي سياسة استراتيجية لم تفقد أهميتها منذ مطلع القرن الماضي. وقد جاءت في حينها نتيجة طبيعية تنسجم مع إسقاط الإمبراطورية العثمانية وتفتيت وحدويتها، وبالأخص منها الجزء العربي لاعتبارات عديدة.
-التيارات السياسية الإسلامية، التي استفاقت على انهيار الدولة العثمانية، منذ أوائل القرن الماضي، وحلَّ بديلاً عنها نظام استعماري وصهيوني، فأعلنت هدف استعادة نظام الخلافة الإسلامية. ولأن هذا النظام كان نظاماً أممياً، تحول دون استعادته الدعوات القومية اعتبرت تلك التيارات أن أية دعوة قومية ستحول دون تحقيق الحلم السياسي الأممي الإسلامي.
-التيارات الأممية ذات المنحى المدني، وبشكل خاص الماركسية والأحزاب الشيوعية العربية، والسبب هو اعتبارها أن أية دعوة للقومية العربية سيكون عائقاً يحول دون تحقيق الحلم السياسي الأممي، أي بناء دولة عالمية تقودها طبقة البروليتاريا.

ثانياً: استعادة تاريخ العدائية لأنها لا تزال مستمرة في المرحلة الراهنة
1-تيار الأمميين الماركسيين: ليس تذكيرنا بالتاريخ آتٍ من أجل إحياء ما لا فائدة منه، بل لأنه على علاقة وثيقة ليس بحاضر الأمة فحسب، وإنما بمستقبلها أيضاً. وليس هدفه معالجة قضايا نظرية قومية فحسب، وإنما لأنه على علاقة وثيقة بمجريات الصراع الحاضر أيضاً.
ليس تذكيرنا بالتاريخ السياسي آتٍ من أجل النظر بالجملة إلى هذا الصراع فحسب، وإنما لأنه على علاقة وثيقة بتفصيلات هذا الصراع أيضاً، وهو لا يزال يترك تأثيراته السلبية على كل جوانب المواجهة التي تخوضها الأمة العربية ضد العدوان الإمبريالى الصهيوني المستمر والمتصاعد. خاصة وأن تفصيلات هذا العدوان الآن ماثلة في ساحات قطرية ثلاث: فلسطين ولبنان والعراق. وفي تلك المواجهة تخوض الحركة القومية العربية، إلى جانب المعركة مع الخارج، لا تزال الإيديولوجيا الأممية التي تنتشر في الداخل العربي، ماركسياً ودينياً سياسياً إسلامياً، تشكل معرقلاً لا يُستهان به في معركة المقاومة والتحرير.
فنحن إذا نظرنا إلى مواقف تلك القوى من الصراع الدائر على الساحات الثلاث سنخرج بانطباعات استراتيجية تدل بما لا يقبل الشك بأن للقوى الثلاث: الاستعمار والصهيونية من جانب والأمميتان الماركسية والدينية الإسلامية من جانب آخر، علاقة وثيقة بالصراع الدائر الآن، بحيث تصطف أجنحتها في مواجهة يقف فيها التياران الإسلامي والماركسي في مواجهة الاستعمار والصهيونية، ولكن لكل منهما رؤيته الخاصة واستراتيجيته الخاصة. وللأسف تتناقض استراتيجيتهما مع استراتيجية الفكر القومي في أكثر جوانبها.
إذا نحن قمنا باستثناء بعض القوى، من التيارات الإسلامية التي نستطيع تصنيفها في دائرة التوافق القومي الإسلامي وهم ليسوا قلة، ومن التيارات الماركسية التي تقترب مواقفها من الاستراتيجية القومية، وهم ليسوا قلة أيضاً، لا بدَّ من أن نشير إلى كثير من الزوايا الاستراتيجية الشاذة التي يعمل على هديها عدد من التيارات الإسلامية والماركسية.
وإذا استثنينا، لأغراض لها علاقة بحدود هذا المقال، كلاً من الساحتين اللبنانية والفلسطينية، سنحصر اهتمامنا بالقضية العراقية، التي من خلالها سنطل على مختلف جوانب التناقضات التي تحكم العلاقات غير السليمة بين التيارين الأممين والتيار القومي.
لقد حصر بعض التيار الماركسي نفسه في ثنائية «الاحتلال والديموقراطية» منحازاً بموقفه إلى جانب تحميل ما يسميه «الديكتاتورية» مسؤولية احتلال العراق، وبمثل هذا الموقف تاه عن سلوك الطريق الصحيح فشارك في العدوان على العراق، وساند الاحتلال الأميركي ووقف إلى جانبه. وبمثل هذا الموقف غلَّب القضية الديموقراطية على القضية الوطنية، فانحدر نحو الخيانة الوطنية. وإذا كانت الخيانة الوطنية مفهوماً تشريعياً حديثاً ترافق مع تأسيس الدولة القومية الحديثة ولا يفهمه بعمقه وروحه إلاَّ القوميون، فقد دلَّت تجربة العراق على قاعدة مفهومية الأمميين أن «الخيانة الوطنية» ليست مسألة ذات علاقة بقيمة إنسانية عليا.
وتبريراً لعزوفه عن الانخراط بمواقف نضالية تُرتِّب عليه مسؤوليات في التحرير وموجبات في الدعم والإسناد، حشر بعضه الآخر نفسه في موقف غير مفهوم، مدَّعياً أن جهله بطبيعة التركيبة الطبقية للمقاومة العراقية تشكل حائلاً دون اتخاذه تلك المواقف العملية. فهو لن يشارك في مقاومة قد تعود نتائجها لمصلحة البورجوازية. وبالأخص إذا عاد حصاد تلك النتائج لمصلحة حزب البعث العربي الاشتراكي الذي يمثِّل بمنظار هذا التيار ممثِّلاً للشوفينية القومية والطبقة البورجوازية.
ليس من المفيد الغرق في رد تلك الاتهامات، بل من المفيد أن نوجِّه النظر إلى أنه لا مصلحة لتغليب المطلب الديموقراطي، في أثناء مرحلة التحرر من الاستعمار والصهيونية على قضية التحرير الوطني، فكما أن الاحتلال لن يجلب الديموقراطية للشعوب المسلوبة أرضها، فإن الشعوب ستخسر سيادتها الوطنية ولن تربح الديموقراطية.
كما أنه من المفيد أن نوجِّه النظر إلى أنه لا مصلحة لتغليب المطلب الطبقي في أثناء مرحلة التحرر من الاستعمار والصهيونية على قضية التحرير، فكما أن الاحتلال لن يعمل من أجل الطبقات الكادحة بل هو احتل لكي يعيث فيها استغلالاً، ولا عجب من ذلك لأن الاستعمار هو أعلى درجات الرأسمالية. وتحت الاحتلال ستخسر الشعوب سيادتها الوطنية وهي لن تربح مصلحة الطبقة العاملة.
لقد عكست بعض التيارات الماركسية منطق العلاقة بين التكتيك والاستراتيجيا، حينما أعطت الأولوية للنضال من أجل «التكتيكي» الذي يمكن تأجيله، أي جانب التناقضات المطلبية الطبقية والديموقراطية، على النضال من أجل «الاستراتيجي»، أي التحرر من الاحتلال الرأسمالي الذي سيركل «البروليتاريا والديموقراطية» برجله، بينما كان المنطق يدعوها إلى أن تنخرط في معركة التحرر الوطني كونها التناقض الرئيسي، ومن بعد إنجازها تنتقل إلى مرحلة صراع التناقضات المطلبية كونها التناقض الثانوي. ومن أسوأ الأمور أن تنخرط بعض التيارات الماركسية تحت راية النظام الرأسمالي الاستعماري من أجل جلب الديموقراطية للشعوب.
إن ترتيب أولويات الصراع، بشكل منطقي، قد ميَّزت مواقف بعض تيارات الماركسيين والشيوعيين العراقيين ممن أدركوا حجم المخاطر التي تحيط بالأمة الواقعة تحت الاحتلال. ووجدوا أنه لا يمكن التفرغ للنضالات المطلبية في ظل الاحتلال، لأن الشرط الموضوعي والمدخل الطبيعي لها لن تكون من بوابة الاحتلال بل من بوابة التحرر الوطني وهو ما جعلهم يحسمون موقفهم إلى جانب مقاومة التناقض الرئيسي، خاصة وأنه تحوَّل إلى احتلال عسكري مباشر للأرض العربية، مروراً باحتلال العراق كخطوة أولى سيتفرغ بعدها لاحتلال كافة الأراضي العربية سواءٌ أكان عبر احتلال قمة الهرم السياسي للأنظمة العربية، أم كان باحتلال عسكري مباشر لأراضي الأقطار التي لا تستجيب أنظمتها للإملاءات الاستعمارية والصهيونية.
2-تيار الأمميين في الحركات الدينية السياسية: أما التيارت السياسية الإسلامية فلها شواذاتها الاستراتيجية أيضاً، ولنا على الساحة العراقية المثال الأبرز والأكثر دلالة على تلك الشواذات.
لقد اجتمع في تحالف واحد متناقضان، وقد جمعهما تحالف شاذ، لم يستطع أحد أن يقوم بتفسيره، وهما: التيارات السياسية الدينية «السنية»، والتيارات السياسية الدينية «الشيعية»، واجتمعا تحت سقف واحد «الاحتلال الأميركي» في العراق. وطريقة تعاملهما معه أكثر من واضحة.
إن التيارات السياسية الدينية «الشيعية» بكل تشكيلاتها ومسمياتها المعروفة في العراق، التي لم يكن لها وجود في أثناء الحكم الوطني، إذ كانت ممنوعة من النشاط، ليس لأسباب «ديكتاتورية» أو «ديموقراطية»، بل لأسباب تهديدها لأواصر النسيج الوطني في العراق.
وإن التيارات السياسية الدينية «السنية»، بتشكيلها الرئيسي «الحزب الإسلامي في العراق» المدعوم من بعض التيارات المنبثقة عن «الإخوان المسلمين» خارج العراق، التي لم يكن لها وجود في أثناء الحكم الوطني، فهي كانت ممنوعة أيضاً من النشاط، للأسباب ذاتها التي مُنعت لأجلها التيارات السياسية الدينية «الشيعية».
من المثير والمستغرب أن تلتقي حركتان دينيتان، تقوم أحدهما بـ«تكفير الأخرى»، في تحالف واحد. والأكثر استغراباً أن تقوما معاً بالتحالف مع ما تعتبرانه «عدواً كافراً».
إنهما تحالفا معاً تحت سقف «شاذ» على الرغم من أسباب تكفير أحدهما للآخر. كما تحالفا مع الاحتلال الأميركي تحت سقف «شاذ» على الرغم من أسباب تكفيره من قبل الطرفين معاً.
فإذا كنا من السذاجة بمكان، واستغفلنا الطرفان، لكي نصدِّق بأن مشروعهما الإسلامي واحد مُوحَّد ومُوحِّد، فهل تصل بنا السذاجة مبلغاً لكي نصدِّق بأن تحالفهما مع الاحتلال الأميركي «العدو الكافر» يتوافق مع استراتيجيتهما الدينية الإسلامية؟
إن من بديهيات الأمور، ومن أهم أركان الإسلام، عند الطرفين معاً، أن «الجهاد»، أي حماية «ثغور الإسلام»، هي الحد الأدنى الذي على «المسلم» أن يؤديه من دون نقاش أو تساؤل، فهو تكليف شرعي يمكن أن يتجاوز فيه كل الفتاوى الفقهية. أوَ ليس في هذا ما يدفعنا إلى الاستغراب والتساؤل عن أسباب تلك التحالفات؟
من بديهيات الأمور أيضاً أن تعمل الحركات السياسية الدينية، من أجل إسقاط الأنظمة العلمانية، كخطوة أولى وأساسية لبناء «دولة دينية»، ولكن هل يجوز من أجل إسقاطها أن تتعاون مع من لا ترتبط مع دعاتها بأي رابط ديني أو وطني؟
لقد اختارت الحركتان معاً أن تسقطا النظام العلماني في العراق، كنظام لا يتبنى الفقه الإسلامي مصدراً وحيداً للتشريع، ولكن أن يتعاونا ليس فقط مع احتلال «علماني» فحسب، بل يتبنى عقيدة دينية «أصولية مسيحية» يرفضها معظم المسيحيين أيضاً، فهنا تظهر وجوه الغرابة فيه.

ثالثاً: التحالفات الشاذة تقية يمارسها أصحاب عقائد متناقضة
لقد التبست وجوه التناقضات فيما نرى أنها «تحالفات شاذة»، وهي أن يلتقي على هدف واحد، محاربة الفكر القومي العربي، كل من الآتية مسمياتهم:
-تيارات الماركسيين دعاة «الدولة الاشتراكية» مع ظاهرة الاستعمار الأميركي الداعية إلى «الدولة الرأسمالية»، خاصة وأن في الفكر الماركسي يضع الاستعمار في «قمة الهرم الرأسمالي»، حيث إن الاستعمار هو أعلى درجات الرأسمالية.
-تيار الماركسيين دعاة «الدولة المدنية»، التي هي الحد الأدنى لقيام «دولة لا تعترف بالدين»، مع دعاة قيام «دولة دينية» تعتبر الماركسية عدوها «العلماني» الأول.
-تحالف التيارات السياسية الدينية: أنصار إيران بشتى مسمياتهم الذين يجاهدون من أجل تأسيس دولة إسلامية على قاعدة «ولاية الفقيه»، وتيارات تعود أصولها إلى إيديولوجيا الإخوان المسلمين الذين يجاهدون من أجل استعادة «الدولة الراشدة».
-هذا التحالف، بـ«شذوذية» قواعده وتناقض أهدافه، يتحالف، ليس مداورة بل مباشرة مع قوى الاحتلال الأميركي التي لا تتناقض معها بالأهداف الإنسانية فحسب بل بالإيديولوجيا الدينية أيضاً.
رابعاً: نقد التحالفات الشاذة بين العقائد الإسلامية المتناقضة خطوة على الطريق الوحدوي الصحيح
حول هذا الجانب قد يأخذه بعض «المصطادين بالماء العكر»، من الذين يزايدون على الآخرين بمحبة «الوحدة الإسلامية»، سبباً يرفعون من أجله إصبع الاتهام بالدعوة إلى التفرقة، فنجيب بأن ما نراه نحن لهو حقيقة ماثلة في نصوص كل تيار منهم، المنشورة منها والمستورة، بأنهم يمارسون جميعهم التقية على بعضهم البعض عن سابق تصور وتصميم. وإذا كانوا ينشدون «وحدة المسلمين» فعلاً، فعليهم قبل كل شيء أن يعلنوا على الملأ إلغاء تلك النصوص، التي شكَّلت بالفعل أساساً لدينا استندنا إليه في النتائج التي نعلنها.
إن ما أشرنا إليه من مظاهر تؤكد أن تلك التحالفات هي «شاذة» بالفعل. وقد التقت حول أهداف تكتيكية جامعة، يكمن أحدها للآخر، من بعدها ينقلب الواحد منهم ضد حليفه. أما المطلوب الرقم واحد فهو رأس الفكر القومي العربي، ورأس حلمنا الثابت في الوحدة العربية، ومن خلاله يستهدفون إحباط كل ما يمت بصلة إليهما. وليس من غرائب الأمور أن تكون المقاومة الشعبية العربية المسلَّحة على رأس تلك الأهداف، ليس لسبب آخر إلاَّ لأنها ذات هوى ولون وشكل وعمق وروح قومية وعربية.
فهل من تفسير لذلك؟
خامساً: العقائد السياسية الأممية والدينية لا تكترث بمصلحة الأمة العربية الواحدة
إن الاستعمار والصهيونية مذهبان استغلاليان، والاستغلال عندما يمتلك قوة التوسع يصبح عابراً للقارات. وتلك السمات والوقائع لا تنفصل عن حالهما في هذه المرحلة، ولا يمكنهما التمدد والانتشار من دون كسح الحواجز والعوامل التي تعيق حركتهما، والفكر القومي العربي، كفكر توحيدي إيديولوجياً وسياسياً ونضالياً، هو أكثر العوامل إعاقة لذلك المشروع.
أما التيارات الماركسية، كتيارات لها حلمها الخاص في بناء دولة البروليتاريا العالمية، فقد عبرت الحدود القومية وأصبحت لا تشكِّل لها حاجة إيديولوجية أو سياسية، طالما أن هدفها الاستراتيجي كسح كل العوائق من أمام أهدافها الأممية. وهذا ما عبَّرت عنه بوضوح في كل سلوكاتها الفكرية والسياسية والتنظيمية والنضالية. وهذا ما طبع مواجهتها في عشرات السنين الماضية ضد تيارات الفكر القومي العربي من دون استثناء.
هذا ناهيك عن التيارات الدينية السياسية الإسلامية التي انتشرت بعد انهيار ما اعتبره البعض منها مركزية الدولة الإسلامية، بانهيار الامبراطورية العثمانية، وكانت أهدافها تروم استعادة تلك المركزية ولكن على أن تبني نواة أخرى، مقامة على قاعدة بناء دولة «الخلافة الراشدة»، تشكل جاذباً مركزياً تعمل على نشر الإسلام على المستوى الأممي من أجل بناء دولة سياسية إسلامية عالمية. وتلك دعوة أيضاً لا يمكن إلاَّ أن تكون عابرة للقارات والحدود، فهي بالتالي عابرة للحدود القومية والوطنية، وأصبحت أية دعوة للقومية العربية عندها وكأنها بديلاً، أو نقيضاً مع الدعوة للإسلام، فوضعتهما في موقع العدوين المتنافسين بحيث لا يمكن أن يجتمعا تحت سقف واحد. ولا يمكن المرور على ذلك من دون التنويه إلى مقولات تلك التيارات التي تردد أن «القومية ما وُجدت إلاَّ لمحاربة الإسلام». وعلى خطى هذه التيارات، التي كانت محسوبة على الإخوان المسلمين بشكل رئيسي، انتشرت دعوات دينية سياسية أخرى محسوبة على نظرية قيام دولة إسلامية بمنطلقات فقهية جديدة وهي دولة «ولاية الفقيه».
تجمع هذه مع تلك الأهداف الأممية التي ترى في حدود الدولة القومية حائلاً دون ما يجاهدان من أجله. أما النتيجة التي نصل إليها من خلال النظر إلى استراتيجيتهما معاً فهي أنهما أحلاَّ الولاء للدين مكان الولاء للوطن، لا بل أحلاَّ الولاء للمذهب مكان الولاء للدين والوطن معاً.
ولن تكون نتائج محاكمتنا لكل من الأهداف الاستعمارية والصهيونية، ولأهداف الأممية الماركسية، بعيدة عن محاكمتنا لأهداف التيارات الدينية السياسية الإسلامية، فكلهم أمميون على الرغم من أن أهداف كل منهم الاستراتيجية تتناقض تماماً وتتصارع. أما المؤسف في الأمر فهو أن كلاً منها ينشد الحصول على رأس الفكر القومي وأهدافه.
فهل في هذا التوضيح ما يدفعنا إلى الاستغراب والاستهجان؟
يا وحدنا، لقد توحَّد الأمميون كلهم من أجل محاربة الفكر القومي العربي، نظرية طالما استرشدت بها التيارات القومية العربية. وقام الأمميون بنعيه وهم يتحالفون اليوم على وأده.
لن نقوم بمحاكمة هؤلاء محاكمة سياسية، من خلال نبش كل ما ارتكبوه من جرائم وخطايا وأخطاء من أجل الوصول إلى أهدافهم، بل عند المتتبعين لتاريخية الحالة ما يكفي من الأدلة والوقائع والبراهين. لكن لم يكن في نتائج مواجهة كل هؤلاء وأولئك ما يجعلهم مطمئنين إلى أن الفكر القومي العربي قد لفظ أنفاسه الأخيرة، ولا نجد فيها ما يدفع الحريصين على هذا الفكر وأهدافه إلى اليأس والقنوط. فعند المقاومة الوطنية العراقية الرد الذي يغيظ المتحالفين ضدها لأنها تهتدي بالفكر القومي العربي الأصيل، وفيها ما يُحيي الأمل عند القوميين العرب من أجل تحضير أنفسهم لاستئناف النضال والجهاد، في وحدة متماسكة متجددة، من أجل وحدة أمتهم وحريتها عندما تتكسر أجنحة الاستعمار وقرونه على أرض الرافدين، وعندما تنعكس نتائج نضالات المقاومة الوطنية العراقية، بكل فصائلها وأجنحتها، أملاً في لجم وحشية العدوان الصهيوني في كل من فلسطين ولبنان بعيداً عن هواجس اجتياح «الإمبراطور الأميركي» للأمة والعالم. فهو على استعداد لسلب ما حققته المقاومة الفلسطينية واللبنانية من انتصارات ستبقى انتصارات تكتيكية من دون استكمالها بالنصر الاستراتيجي الذي تعمل المقاومة الوطنية العراقية على حياكته من دم مناضليها وحياتهم وتضحياتهم في المعاناة وطول الصبر على الأذى الوحشي الذي يتعرَّض له الشعب العراقي.
ولكي تتّضح أمام رؤيتنا أهمية الفكر القومي العربي، كنظرية حديثة ومعاصرة، وكنظرية للمستقبل، وعلى قاعدة نفي النظريات الأخرى ونقدها، نتساءل: هل الفكر السياسي الأممي يصلح قاعدة لبناء دولة أممية؟
لما أثبت التاريخ العربي الإسلامي أن الدولة الأممية الإسلامية، على الرغم من أنها استهلكت قروناً كثيرة من التجربة، أنها لم توفر العدالة بين رعاياها. وإنما كانت في شتى جوانبها، وأكثرها وضوحاً مرحلة حكم المماليك والأتراك العثمانيين، وسيلة للاستغلال والاضطهاد لصالح الطبقة الحاكمة.
ولما أصبحت الدولة القومية، كمفهوم وتشكيل سياسي حديث، تحميها حدود جغرافية معترف بها دولياً، تجمع تعدديات دينية ومذهبية دينية، وأحياناً أقليات قومية، ألغت مفهوم الإمبراطورية، كشكل للدولة القديمة التي كانت حدودها تبقى مفتوحة طالما كان الإمبراطور يمتلك القوة العسكرية اللازمة لضم أراض أخرى.
ربما لا تزال الدعوات الأممية، الاستعمار، والماركسية، والتيارات السياسية الدينية، تحن إلى زمن الإمبراطوريات القديمة. وإذا كان للاستعمار قوة عسكرية تحفزه لتوسيع مناطق نفوذه بقوة السلاح، فإن التيارين الآخرين، ربما لديهما حوافز عقائدية تدفعهما إلى إبقاء الحلم الإمبراطوري ماثلاً للتحقيق.
ولما فشلت مركزية التجربة الماركسية في انهيار الاتحاد السوفياتي، إلاَّ أن ذلك لم ينه الحلم العقائدي الماركسي، وبدلاً من المحافظة عليه في إطاره الفلسفي الإنساني، إلاَّ أنه يبدو أن المشروع السياسي في أذهان الماركسيين لا يزال حياً.
ولما فشلت مركزية الدولة الأممية الإسلامية وانهارت بانهيار الدولة العثمانية إلاَّ أن المثال التاريخي لا يزال جاهزاً في طموحات التيارات السياسية الدينية المعاصرة، هذا في بعض الجانب السني أما عند بعض الجانب الشيعي فقد أحيت نظرية «ولاية الفقيه» في إيران المثال التاريخي الصفوي. وعلى حد سواء يواجه الجانبان مسألة بناء «دولة دينية». وإن أشد ما يضعنا أمام حيرة هو أن الجانبين لا يأخذان حدود الدولة القومية على محمل الجد بل يؤسس كل منهما نظرياً، وقد يربطانه بالإرادة الإلهية، مشروع بناء «إمبراطورية» إسلامية عالمية، أي إمبراطورية عابرة للحدود.
كان يكفي لبناء إمبراطورية دينية، أو أية إمبراطورية أخرى، امتلاك القوة العسكرية وهو الشرط الوحيد والكافي للتوسع الجغرافي. وسبب كفاية هذا الشرط كان غياب نظام دولي يحمي حدود الدول، بل أساساً لم تكن الدولة القديمة ذات حدود معترف بها، وإنما كانت الشعوب كلها مؤهلة لأن تكون غالبة، وتطمح لأن تشكل إمبراطوريات على حساب الشعوب المغلوبة. أما اليوم فقد تغيرت الظروف والأنظمة ومفهوم الدولة. إلاَّ أن أصحاب الدعوة إلى بناء دولة أممية دينية لم تشكل بعد حقائق العالم الجديد قناعة لديهم، بل هم لا يزالوا يعيشون في عصور عفى عليها الزمن. ومن تلك الحقائق التي أصبحت مرفوضة ومدانة وممنوعة هي أن تكون حدود الدول مُستباحة تحت أي ذريعة أو سبب.
وما لم يعترف أصحاب الأهواء الدينية السياسية بتلك الحقائق ستبقى حدود الدول والقوميات في نظرهم عرضة للاستباحة والغزو، وستبقى الدولة القومية غير ذات معنى لديهم، بل والأمرُّ من كل ذلك، وعلى الصعيد القومي العربي الخاص، أن تعتقد تلك التيارات بأن «القومية العربية ما خلقت إلاَّ لمحاربة الإسلام».
إن الاعتراف بالقومية أولاً، والقومية العربية ثانياً، والاعتراف بحقيقة أن النظام السياسي للقومية العربية هو نظام تتساوى أمامه كل التعدديات ثالثاً، هي من حقائق العالم الحديث. بينما كل تلك الحقائق مرفوضة من تلك التيارات، وهذا ما يفسِّر لدينا عدم اكتراثها بمفاهيم «الخيانة الوطنية»، لأنها لا تكترث بمفاهيم «السيادة الوطنية»، فحدود الوطن ليست حدودها، وإنما التعصب للمذهب والدين هي حدودها الوحيدة.

سادساً: الفكر القومي العربي بوصلة استراتيجية لحزب البعث والمقاومة الوطنية العراقية
لقد أخذ حزب البعث العربي الاشتراكي بحقائق العالم المعاصر، واعتبر أن القومية العربية حقيقة العصر، ولا يمكن مواجهة النظام العالمي الإنساني الجديد إلاَّ بفكر موحَّد وموحِّد، ولا يمكن تحقيق العدالة بين مواطني الدولة العربية بتشريعات تقوم على قاعدة المصالح الفئوية، سواءٌ أكانت قومية أم دينية أم مذهبية دينية، بل تستفيد من كل ما يوحِّد من تشريع قومي أو ديني أو مذهبي وتستبعد كل ما يزرع الشقاق والتنافر بين أبناء الدولة القومية المدنية الواحدة.
أما من أهم عوامل النصر الذي تصنعه المقاومة الوطنية العراقية، فهي أنها تسترشد بالفكر القومي العربي. وهو الفكر الوحيد الذي يضع كل إمكانيات الأمة في مواجهة العدوان الخارجي من دون «تقية»، فهي واضحة تمام الوضوح في أهدافها الاستراتيجية، كما هي واضحة كل الوضوح في وسائلها التكتيكية. وتسير على هدي «توظيف كل الإمكانيات في المعركة الكبرى»، وعلى هدي تغليب مصلحة الوطن والأمة على أي مصلحة أخرى، وهي ترى أن المصالح الفئوية، الطبقية والمذهبية الدينية، لا يمكن أن تتحقق في ظل وطن منقوص السيادة مرتهن للاستعمار والصهيونية.
أما التناقضات الأخرى، باستثناء ما وُظِّف منها لتبرير العمالة مع الاحتلال الأميركي، فهي شأن داخلي عراقي أو عربي فستبقى في دائرتها الطبيعية التي عليها أن تأخذ حقها الكامل في الحوار السياسي والفكري في مرحلة ما بعد تحرير العراق تحريراً غير منقوص.
تمتلك المقاومة الوطنية العراقية، عمقاً فكرياً ولوجستياً استراتيجياً، تشكل مبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي، كرائد أساسي من روَّاد الفكر القومي، القاعدة والأساس الفكري، وهو ما أسهم في وضع الأسس اللوجستية السياسية والعسكرية للمقاومة الوطنية العراقية.
لم ينصب حزب البعث العربي الاشتراكي والمقاومة الوطنية العراقية «فخاً» لأي كان، ولم يمارسا «تقية» في تحالفاتهما، بل هما واضحان تمام الوضوح، سواءٌ ما جاء في دستور الحزب، الذي أقره المؤتمر القومي الأول في العام 1947، أم ما جاء في المنهج السياسي الاستراتيجي الذي أعلنته المقاومة في 9/ 9/ 2003، حيث أكَّد الدستور على أن:
-«الاستعمار وكل ما يمت إليه عمل إجرامي يكافحه العرب بجميع الوسائل الممكنة»، لذلك يقرر الحزب «النضال ضد الاستعمار الأجنبي لتحرير الوطن العربي تحريراً مطلقاً كاملاً». ودعا إلى أن «يناضل العرب بكل قواهم لتقويض دعائم الاستعمار والاحتلال وكل نفوذ سياسي أو اقتصادي أجنبي في بلادهم».
وحسماً للجدل مع كل التيارات الأممية، ومنها التيارات السياسية الدينية، أكَّد الحزب على أن «الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة واحدة، وتكافح سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية». على أن « يجلى عن الوطن العربي كل من دعا أو انضم إلى تكتل عنصري ضد العرب وكل من هاجر إلى الوطن العربي لغاية استعمارية».
ومن أجل أن يتساوى مواطنو الدولة بالحقوق والواجبات اعتبر دستور الحزب أن «حرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفن مقدسة لا يمكن لأية سلطة أن تنتقصها». و« قيمة المواطنين تقدر، بعد منحهم فرصاً متكافئة، بحسب العمل الذي يقومون به في سبيل تقدم الأمة العربية وازدهارها دون النظر إلى أي اعتبار آخر». كما أكَّد على أن «تمنح حقوق المواطنين كاملة لكل مواطن عاش في الأرض العربية وأخلص للوطن العربي وانفصل عن كل تكتل عنصري».
فعلى تلك الأسس يطمئن كل صاحب مذهب على مذهبه، وكل من اعتقد على معتقده، فالدولة الوطنية حريصة على حمايتهم، وعلى مساواتهم بالحقوق والواجبات، ومنها تصبح حماية سيادة الدولة القومية أو الوطنية من واجبات جميع المواطنين، والاستقواء بأية قوة خارجية تُعتبر تهمة يعاقب عليها القانون بـ«الخيانة العظمى».
إن الرابط القومي، أو الوطني، إذا نال قسطه من الاهتمام تربوياً، سيكون النقيض الأساس لكل رابط آخر، وستُعتبر الحدود الجغرافية من الأسس الثابتة التي تجعل جميع الذين يسكنون عليها شركاء في الدفاع عنها وحمايتها. وخارج هذا المفهوم ستبقى الدعوات الأممية السياسية مناقضة للمفاهيم القومية تجيز لمواطن الدولة المدنية الحديثة أن يرتكب جريمة الخيانة الوطنية العظمى، لأن المخدوعين بتلك الدعوات سيفتقدون أي شعور بالانتماء إلى وطن، بل إلى إيديولوجيات لا تعترف بالقيم الوطنية، بل هي لا تنتمي إلى مكان بل إلى أيديولوجيا عابرة للحدود. ومن هنا نعتبر أن كل الدعوات الأممية السياسية دعوات لا تمت إلى الروابط الوطنية أو القومية بأية صلة. وحتى لا نُفهم بأن الحزب يدعو إلى شوفينية قومية، وكي لا تتحول حدود القوميات إلى مراكز للتعصب والشوفينية، تأتي مسألة التمييز في تعريف الأممية لتزيل مخاوف الخائفين.
كما للعولمة وجوه سلبية، ووجوه إيجابية، فللأممية كذلك. وما يزيل الالتباس بين تلك الوجوه هو تعريف مضامينها.
فالعولمة أو الأممية لها أبعاد إنسانية، وهي القيم العليا، أو المُثُل العليا، التي تشكل جامعاً بين شتى شعوب العالم، على شتى تعددياتهم الدينية والسياسية والاقتصادية، ستبقى الحصانة الوحيدة والأكثر ضماناً لمنع الشوفينية القومية، وكذلك التعصبية الدينية والمذهبية الدينية، من أن تتسلل إلى المجتمعات القومية، بل تبقى العامل الأكثر واقعية في فتح جسور التفاعل بين الشعوب على مستوى رفد الحضارة الإنسانية بكل عوامل التوحد ومنع الحروب والصراعات أو التخفيف من آثارها السلبية. ومن هنا لا تتناقض الدعوة إلى القومية مع الدعوة إلى أممية تقودها مفاهيم القيم العليا المطلقة، سواءٌ أكانت قيماً إنسانية نصّت عليها الكتب الدينية المقدَّسة، أم كانت أعرافاً وتقاليداً وأفكاراً، تناقلتها الحضارة الإنسانية عبر تطورها المعرفي عبر التاريخ.
سابعاً: المقاومة الوطنية العراقية تعيد للفكر القومي، نظرية وعملاً، حيويته وأهميته
وكما أن فكر البعث عبَّر عن أهمية الرابط القومي، على قاعدة من مفاهيم الأممية الإنسانية، جاء المنهج السياسي الاستراتيجي للمقاومة الوطنية العراقية ليؤكد على أهمية النضال ضد الاستعمار من داخل تجربة ميدانية تدور على أرض العراق، وفيها ربط العلاقة بين واجب تحرير العراق من الاحتلال وواجب مشاركة كل العراقيين في التحرير. وعلى هذا الأساس وعد المنهج بـ« باستمرارية المقاومة طالما كان هناك احتلال وبأي صيغة وعلى أي جزء من أرض العراق»، ودعا إلى «تعميم المقاومة المسلحة على أرض العراق كلها وبفعل ومشاركة العراقيين كلهم، والتأكيد على واجبهم وحقهم المتكافئين في المقاومة وتحرير العراق تحت أي عنوان أو مسمى».
وكما وعدت قيادة المقاومة باستمرارية المواجهة فقد أوفت بوعدها، وكما دعت إلى تعميمها فهي اليوم تشمل كل الأطياف الدينية والسياسية، وتغطي كل الساحة العراقية، كما هي حريصة على تعميق العمل الجبهوي من دون أية شروط إلاَّ التفرغ لقتال المحتل حتى طرده نهائياً من العراق.
وهكذا، وبعد أن انتظر الناعقون إعلان وفاة الفكر القومي العربي، وبعد أن أصاب الوهن التيارات القومية العربية، جاءت المقاومة الوطنية العراقية لتعيد الحيوية للتيارات القومية والشارع العربي لتعلن أن الحل الوحيد للأمة على المستوى السياسي عليه أن يمر عبر المشروع التوحيدي الشعبي العربي وليس عبر الأنظمة الرسمية، وهذا عليه أن يوظف الطاقات الشعبية في مقاومة الاستعمار والصهيونية عبر «الكفاح الشعبي المسلح». وبهذا على التيارات القومية العربية أن تحضِّر نفسها لملاقاة نتائج نضال تلك المقاومة، وتعمل على استثمارها في إعادة الحيوية السياسية والفكرية للمشروع القومي العربي. وعلى التيارات الأخرى التي ناهضت ذلك المشروع، أو أظهرت العداء له، أن تعيد حساباتها بعد أثبت الواقع أن مشاريعها السياسية لن تلبي حاجات القومية العربية في التحرر والوحدة، ومن هو عاجز عن تلبية مصالح أمته وقومه فلن يكون إلاَّ عاجزاً عن تحقيق آماله الأممية، أو قل أوهامه السياسية الأممية. وما هو مطلوب منها على الأقل أن تترك مواقعها العدائية ضد من أثبت أنه بالفعل يشكل صمام الأمان في الدفاع عن الأمة والجماهير وحمايتها. ولم ينزلق، كما انزلقت هي، إلى متاهات خيانة سيادة الشعب العربي على أرضه وموارده تحت حجج أممية واهية. وهذه تجربة العراق تشكل الدليل الأكبر. فعسى أن تعود تلك التيارات إلى رشدها، وتشارك في طرد الاستعمار والصهيونية أولاً كخطوة ضرورية وواجبة على طريق الحوار بين أهل البيت الواحد بعد أن يطمئنوا على تحريره بشكل كامل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق