بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 22 يناير 2010

مقالات العام 2009

مقالات العام 2009


محتويات الملف
1-التحضير الأميركي للانسحاب من العراق
2-مركزية المقاومة العربية
3-معادلة الصراع بين المقاومة والاحتلال
4-افتتاحية طليعة لبنان الواحد عدد آذار 2009
5-المصالحة العربية مرفوضة
6-احتلال العراق حلقة أخيرة في استراتيجية الأمركة
7- افتتاحية طليعة لبنان الواحد عدد نيسان 2009
8-هل يُنبئنا العرَّافون العرب، القارئون بالفنجان الإيراني:
9-افتتاحية طليعة لبنان الواحد عدد أيار 2009
10-إزدحام سير عربي رسمي على أبواب محمية المنطقة الخضراء في بغداد.
11-قبل أن نمسخ الخونة ونحولهم إلى «معارضين».
12- بعد انتحار الجنود الأميركيين على أسوار بغداد.
13-مراجعة كتاب (فرص التغيير) للأستاذ رياض صوما
14-افتتاحية شهر آب 2009
15-سايكس بيكو ووعد بلفور بحلة أميركية
16-يا أحرار العروبة اتحدوا
17-شمعة واحدة تضيء الجبهة الوطنية
18-كي لا تتحول القضية العراقية إلى قضية مطلبية وإصلاحية
19-ياسين الحافظ وإشكالية علاقة المفكر الملتزم مع الأحزاب العقيدية
20-مخطئ من يراهن على العبور من غير بوابة المقاومة الوطنية العراقية
21-عبد الأمير حلاوي فارس البعث
22-صدام حسين أمام قطار الشهادة
23- كفاح الطلبة تفتتح عصر الشهادة في جنوب لبنان
24-عروبة المقاومة ووطنيتها تحصين لأهدافها ونتائجها
25-الحوار فن جناحاه: سؤال عميق وجواب واضح


1-التحضير الأميركي للانسحاب من العراق
يمهد لمهمات جديدة أمام المقاومة العراقية
افتتاحية طليعة لبنان الواحد
العدد كانون الثاني 2009
لا بدَّ قبل كل شيء من الاعتراف بأن إعلان الرئيس الأميركي الجديد، بالإعداد للانسحاب من العراق، لا يخرج عن كونه وعداً قابلاً للتنفيذ كما هو قابل للمماطلة. وكان سبب هذا القرار – الوعد نتيجة لنضال المقاومة العراقية التي لم تمنع الاحتلال من تحقيق أهدافه فحسب، وإنما جعلته يدفع ثمناً باهظاً أيضاً بالأرواح والمال.
إذن فهو قابل للتنفيذ إذا ما استمر السبب الضاغط لاتخاذ هذا القرار، وهو قابل للمماطلة إذا بطل السبب. وبناء عليه فمهمة المقاومة العراقية لم تنته أيضاً، ويجب أن لا تنتهي إلاَّ بعد ضمان خروج آخر جندي أميركي من الأرض العراقية، من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه.
فإذا توفَّرت ضمانة استمرار المقاومة، وليس هناك ما يدل على عكس ذلك، وكما تبرهن المواقف السياسية لكل الفصائل التي تقاتل العدو الأميركي، ستوفر أيضاً الإدارة الأميركية الجديدة كل العوامل التي تضمن تنفيذ قرار الرئيس الأميركي الجديد.
إن استمرار المقاومة العراقية، وبالتالي استمرار الإدارة الأميركية في توفير عوامل الانسحاب الجدي، لا تمثلان نهاية لمعركة التحرير، وإنما تشكل البداية لتوفير مستلزمات الانتقال السليم من مرحلة الاحتلال إلى مرحلة التحرير الناجز والكامل. وهي مهمة أساسية وملحة ومطلوب البدء بالإعداد لها على نار حامية على قاعدة: (قاتل العدو المحتل كأنه باقٍ في العراق أبداً، وأعد لمرحلة ما بعد رحيله وكأنه سينسحب غداً).
مستلزمات الانتقال السليم ما بين المرحلتين تنقسم إلى أكثر من مهمة داخلية وخارجية، لعلَّ الرفيق الأمين العام قد حدَّد بعضها في خطابه الموجه إلى الأمة بمناسبة الذكرى الثامنة والثمانين لتأسيس الجيش العراقي.
وبالاستناد إلى الخطاب المذكور، كما إلى الوثائق التي نشرتها المقاومة الوطنية العراقية تباعاً منذ 9/ 9/ 2003، انتهاء بكل الوثائق التي أصدرتها اللقاءات الجبهوية لفصائل المقاومة العراقية، نستطيع استنتاج المهمات المطلوب إنجازها بالتالي:
أولاً: على صعيد التفاوض مع العدو المحتل:
التفاوض بين الاحتلال والمقاومة لها مشروعيتها القانونية والدولية والعملية. وليس على المحتل الأميركي أن يفرض أية شروط أكثر من أن يضمن انسحاباً هادئاً بتوقيتات زمنية محددة بدقة. وفي المقابل من الحقوق الثابتة للمقاومة العراقية أن تفرض على قوات الاحتلال الأميركي الخروج من العراق والانسحاب الكامل والاعتراف بحقوق العراق وتعويضه عن كل الأضرار التي لحقت به. وبعد ذلك يمكن النظر في كيفية رسم العلاقة المستقبلية مع أمريكا وفقاً للمصالح المشتركة والعلاقات المتكافئة، وليس وفقا لقانون القوة والغطرسة التي تمارسها الإدارة الأمريكية في العلاقات الدولية.
ثانياً: على صعيد إعداد الساحة العراقية الداخلية لمواجهة استحقاق الانسحاب:
من متطلبات المرحلة الانتقالية أن يتم حشد أوسع القطاعات الشعبية والسياسية والقوى العراقية من أجل تشكيل أكبر ضغط سياسي ومعنوي على الاحتلال من جهة، وضمان وجود أرضية شعبية واسعة للإسهام في إعادة إعمار ما خرَّبه الاحتلال على شتى الصعد الإنشائية والسياسية والاجتماعية من جهة أخرى. ولعلَّ أهمية هذا الجانب تكمن في استعادة وحدة العراق المجتمعية والسياسية والجغرافية من خلال توفير ضمانات للخائفين والمترددين والمضلَّلين. كما أنه من متطلباتها أيضاً حشد أوسع إطار جبهوي من العراقيين الذين مانعوا الاحتلال، من غير الطامعين بالسلطة والنفوذ.
ثالثاً: على الصعيد القومي العربي:
إن واقع النظام العربي الرسمي الذي لم يقدِّم المساعدة للمقاومة العراقية فحسب، وقبلها لم يعترض على احتلال العراق، بل انخرط معظم أنظمته في التآمر أيضاً، يطرح إشكالية على غاية من الحساسية تتلخص بالسؤال التالي: هل سيولِّد ما حصل ردة فعل عند المقاومة العراقية في هذه المرحلة بالذات، وكيف يمكنها أن تواجهها؟
حول ذلك لا بدَّ من الإشارة إلى أن التجربة السابقة التي مثَّلها غياب الدور العربي كانت مرة بلا أدنى شك، ففي تلك التجربة انقسم النظام العربي الرسمي بين ملتحق بعجلة المشروع الأميركي، وبين متردد أو خائف، وتُرك العراق ليواجه مصيره منفرداً في مواجهة أعتى قوة عسكرية في العالم. تلك المرارة لمسها الحس الشعبي العربي، كما لمستها فصائل المقاومة العربية، أما الأشد مرارة منها فكانت دخول كل ألوان الخارج وأشكاله على خط سد الفراغ السياسي والعسكري الذي خلَّفه غياب الدور العربي، ولعلَّ أهمه التدخل الإيراني. وقد وصل هذا التدخل إلى حدود أن انتدب النظام الإيراني نفسه لوضع سيناريوهات من الحلول لقضية العراق لعلَّ أكثرها خطورة تقسيم العراق وتفتيته، ليس كهدف مرحلي فحسب بل لهدف إيديولوجي استراتيجي أيضاً، ويعمل على فرض هذا الهدف أمراً واقعاً سيعمل على حمايته بعد انسحاب جيش العدو الأميركي، الأمر الذي سيُبقي الساحة العراقية مفتوحة على احتمال حرب عراقية - إيرانية، بل عربية – إيرانية.
من هذه التجربة لا بدَّ أمام المقاومة العراقية من معالجتها بموقف لا تحكمه ردود الأفعال فحسب، بل أن توازن أيضاً بين مشهدين قادمين خطيرين من المحتمل حصول أحدهما بعد الانسحاب الأميركي من العراق:
-الأول أن تبقى العلاقات العربية – العربية متوترة ومستنفرة، بحيث تتلهى الأنظمة بصراعاتها الداخلية، وتُبقي العراق مرة جديدة ليواجه وحده احتمال احتلال آخر. وهذا الواقع سيغري كل من له مطامع بشبر من أرض العراق، أو بجزء من شعبه.
-الثاني أن يُعدَّ لبناء جدار عربي جديد، الذي على الرغم من أنه قد يكون هشَّاً فهو سيكون الأفضل بين أن يخوض العراق لوحده تجربة جديدة في مواجهة المستفيدين من استمرار الفراغ العربي، وبين أن يكون مستنداً إلى عدد من عوامل القوة التي سيوفرها ردم الفراغ الحاصل الآن، أو على الأقل ردم بعض ثغراته.
على الرغم من تآمر معظم أنظمة العرب الرسمية، في مرحلة العدوان على العراق واحتلاله، استطاعت المقاومة العراقية، بما امتلكته من إصرار ومقدرة، أن تحقق أكبر إنجاز تاريخي في إرغام الاحتلال الأميركي على الانسحاب. إلاَّ أن هذا الواقع غير المسبوق في تجارب الشعوب الثورية لا يجوز أن يُغفل حقيقة أن الفراغ العربي قد مُلئ بتدخلات أجنبية طالت بالأذى الوطن العربي بأكمله ووضعته أمام مستقبل سيكون الأخطر على وحدة الأمة العربية ومصالحها في الوحدة والتحرر، ولن يكون أمن العراق المحرر بمأمن من المخاطر القادمة. وهذا ما يطرح الحاجة إلى تجاوز ردود الفعل، مهما كانت الجراح عميقة، من أجل مواجهة استحقاق إعادة وحدة العراق الوطنية، واستعادة عروبته أولاً، وإنجاز مرحلة إعادة إعمار العراق المحرر بأقل ما يمكن من العوائق ثانياً.
رابعاً: على صعيد العلاقات العراقية مع الإقليم الجغرافي غير العربي:
إذا كانت نقطة التقاطع بالمصالح مع تركيا تتمحور حول محاربة الانفصالية الكردية لخطورتها على الوضعين العراقي والتركي معاً، فإن نقطة الاختلاف مع إيران تتمحور حول حرب محتملة جديدة بين العراق وإيران بسبب الانفصالية الجنوبية التي يدعمها نظام الملالي الإيراني.
إنه إذا ما ظلَّت إيران مصرة على تنفيذ حلمها الانفصالي في جنوب العراق، ولم تغيِّر أهدافها الإيديولوجية الإمبراطورية التوسعية، وتنكفئ إلى داخل حدودها المعترف بها، وتعلن سياسة حسن الجوار مع الأمة العربية عبر بوابتها الشرقية في العراق، فإن نُذر حرب جديدة بين العراق وإيران ظاهرة في الأفق. وإذا ظلَّت إيران مصرة على مواقفها، فلا يجوز فصل إصرارها عن استنادها إلى العجز النظامي الرسمي العربي والتلاعب على الخلافات العربية – العربية من جهة، وعما تعتبره عمقاً عربياً مؤيداً لها من جهة أخرى. من أجل تلك الأسباب يأتي بناء علاقات ثقة بين المقاومة العراقية وبعض النظام العربي الرسمي على قاعدة الاطمئنان لنواياه الحسنة، ضرورة أساسية من أجل ليس خدمة مرحلة البناء بعد التحرير فحسب، وإنما من أجل مواجهة مخاطر اندلاع حرب جديدة بين العراق وإيران يكون عنوانها استعادة وحدة العراق المهددة بالتدخل الإيراني السافر والمكشوف أيضاً.

2-مركزية المقاومة العربية ومعايير توظيف نضالاتها لمصلحة الأمة
افتتاحية طليعة لبنان الواحد
عدد شباط 2009
أصبحت المقاومة الشعبية المسلحة، من دون شك، عقيدة التحرير المركزية في عصرنا الراهن. وفي المقابل تكاد استراتيجية القوى المعادية تقتصر على اجتثاث تلك العقيدة.
في تعريفنا للمقاومة أنها كل فعل أو نشاط، عسكري أو سياسي أو اقتصادي، يعمل على تحرير أرض الأمة العربية المغتصبة من احتلال عسكري أو تحرير قرارها من هيمنة سياسية أو تحرير ثرواتها من استغلال اقتصادي. كما أن تعريفنا للجهة التي تتوجه المقاومة بفعلها ضدها لا يمكن أن يختلف باختلاف الزمان والمكان، بل هي كل جهة تهدف إيديولوجياً، أو تقوم بالفعل، من أجل احتلال أرضنا، أو رهن قرار أمتنا السياسي أو استغلال ثرواتها، أو الحؤول دون وحدتها.
فالمقاومة هي، إذن، فعل ضد أي استراتيجية تعمل بالضد من مصلحة الأمة العربية، بغض النظر عن لونها أو شكلها أو طعمها. فالمقاومة العربية، لا يمكن أن تكون عربية ما لم تصب نتائجها في مصلحة الأمة.
لذا تشكل قومية أهداف المقاومة ووسائلها مركزية تتفرع عنها الأهداف الوطنية ووسائلها. فإذا انطلقت المقاومة من أهداف قومية، فلا بد من أنها ستوظف نتائج جهدها لمصلحة المجموع القومي وأهدافه، لأنها ستستفيد بالتالي من جهد مثيلاتها على ساحة الوطن العربي بكامله. وتلك محصلة تجمع الجهود الفردية بعمل جماعي قومي تتكامل عوامله وتتآزر فتعطي للمقاومة الوطنية زخماً وفعالية أكثر.
تلك هي المعضلة التي تعاني من سلبياتها المقاومة التي تدور على الساحات العربية الثلاث في العراق وفلسطين ولبنان. توجد هذه المعضلة على الرغم من أن تلك المقاومات قد حققت انتصارات كبيرة كل منها على ساحتها الوطنية. يتم هذا على الرغم من أن تزامن المقاومات الثلاث قد أعطى لكل منها زخماً كبيراً أسهمت بشكل غير مباشر في إرباك العدو وتعميق مآزقه. وليس أكثر دلالة على ذلك من التخبط الذي عرفته إدارات كل من المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأميركية، والعدو الصهيوني في فلسطين المحتلة.
إن المرحلة القادمة، بعد تغيير الإدارة الأميركية الجديدة، هي بامتياز مرحلة التقاط الأنفاس لتلك الإدارة من أجل الالتفاف على مآزقها، بتغيير وسائلها وليس بتغيير أهدافها، وستقوم باستغلال كل الوسائل لأجل تجميل صورتها التي شوَّهتها بشكل كبير إدارة جورج بوش الراحلة كي تستطيع استئناف مخططها الاستراتيجي من جديد. ومن الدلالات على ذلك أنها أحلَّت استراتيجية الاحتواء بالحوار كبديل للإخضاع بقوة السلاح.
ومن الملفت للنظر أن الإدارة الجديدة قد حددت الأطراف التي ستحاورها، وهي تتجاوز الحوار مع العرب وتستثنيه لقلة فاعليته، وهنا تبتدئ المخاوف من النتائج، لأنها ستكون حتماً على حساب المقاومة العربية، بخاصة وأن استراتيجية الاحتواء الأميركي بالحوار، لا يمكن إلاَّ أن تطلب رأس المقاومة العربية كشرط أساسي من كل الذين ستقوم بالتفاوض معهم.
والمخيف في الأمر هو أن واقع الحال يؤكد أن بعض فصائل المقاومة العربية ليس لها مكان على الطاولة، بل هناك من يفاوض عنها بالنيابة. والأخطر منه أن المفاوضين لديهم ملفاتهم التي تتعلق بمصالحهم وهم قادرون على المساومة على كل شيء في سبيل تلك المصالح، ولن يكون رأس بعض فصائل المقاومة العربية بمنأى عن عملية بيعها لقاء ثمن ترفع سقفه القوى الإقليمية، أو تخفضه، بما يتناسب مع أصول المزايدات أو المناقصات على طاولة المساومات التي تجري بين الأفرقاء الدوليين والإقليميين في هذه المرحلة والمراحل القادمة.
إن ما يؤكد استنتاجنا جاء في تصريح الديبلوماسي البريطاني جون ساورز، لشبكة الـ(بي بي سي)، كاشفاً فيه عرضاً إيرانياً، طُرح على حكومته، جاء فيه: " نتوقف عن قتلكم في العراق، وتتوقفون أنتم عن نسف العملية السياسية هناك وتسمحون لنا بالاستمرار في برنامجنا النووي دون عراقيل".
ولن نتوقف كثيراً أمام التزوير الذي تنسب فيه إيران المقاومة في العراق لنفسها، إلاَّ إذا كانت تعني أن القتل المقصود هو الذي تمارسه ميليشياتها المسلحة ضد حلفائها في العملية السياسية المشبوهة ممن لا يؤيدون المشروع الإيراني في العراق. وهي بالتالي كانت أشد قسوة من الاحتلال الأميركي في ملاحقة المقاومة العراقية وتصفية أبطالها بشكل منفرد، أو بمساعدة قوات الاحتلال الأميركي في كل عملياته الوحشية ضد تلك المقاومة.
وفي مقابل هذا المشهد المدان، هناك مشهد مشرق يستند إلى مبدئية وطنية وقومية، وهو الموقف الذي أعلنته المقاومة الوطنية العراقية، بشكل واضح وجلي وحاسم، أنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب العراقي، أي أنه لا يمثل الشعب العراقي أحد آخر غير مقاومته سواءٌ أكانت مسلحة أم كانت سياسية، وهي بالتالي المؤهلة للتفاوض مع الاحتلال الأميركي على قاعدة وحيدة لا تسبقها قاعدة أخرى، وهي أن تعلن الإدارة الأميركية أن المفاوضات ستكون حول بحث ترتيبات الانسحاب الكامل والشامل أولاً.
إن إعلان المقاومة الوطنية العراقية هذا يؤكد، كما يضمن، أن مقعدها على طاولة المفاوضات سيكون عراقياً، وأن المفاوض عراقي، وبهما ستصب نتائج المفاوضات بمصلحة العراق أولاً، ولمصلحة المقاومة العربية ثانياً. أما سبب الحسم في قرار المقاومة العراقية فهو أنها لم ترهن قرارها، ولن ترهنه، لأحد.
من هذا الأنموذج، نتطلع صوب المقاومتين، اللبنانية والفلسطينية، لنرى أن العكس هو الذي يحصل. وهذا السبب يدفعنا، من منطلق الحرص والخوف، إلى إثارة عدد من الهواجس التي لا بدَّ من أن نضعها أمامهما بصدق وشفافية، ومن أهمها:
-هل من سيمثلهما على طاولة المفاوضات سيكون حريصاً على تثبيت حق المقاومة بالاستمرار؟
-هل تشعر المقاومتان بالاطمئنان على أن نضالهما لن يُعرض في سوق المساومات الدولية والإقليمية؟
-هل هما مطمئنتان على أن الإقليم الداعم لهما لن يوظِّف نتائج دماء شهدائهما في سبيل أغراض خاصة؟
وإن كنا لا نشك بمصداقية كل منهما خاصة وأنهما بذلا الدم السخي والأرواح العملاقة في التصدي للعدو الصهيوني، إلاَّ أن ما نشكك فيه هو نوايا النظام الإيراني، كداعم لهما معاً، لسبب يتعلق بمضامين أهدافه السياسية المرحلية، ومضامين أهدافه الإيديولوجية. وهنا نتساءل:
-هل ما صرَّح به علي أكبر ناطق نوري عن البحرين كان دخاناً من دون نار؟
-وهل الدور الإجرامي، الملعوب في العراق، هو مجرد انتقام من نظام البعث السياسي، أم أنه خطوة على طريق تنفيذ مشروع التفتيت الطائفي والعرقي فيه؟
-هل من باع المقاومة في العراق، وعمل على اجتثاثها، جنباً إلى جنب الشيطان الأميركي الأكبر، سيكون حريصاً على مستقبلها في فلسطين ولبنان؟
لحظة من تأمل موضوعي قد توفِّر النتائج التي تصب في مصلحة الأمة العربية، وتُبعد عنها مخاطر توظيف الدم العربي لمصلحة الآخرين من غير العرب.

3-المشهد العراقي:
معادلة الصراع بين المقاومة والاحتلال
تحولت إلى معادلة نفسية ومعنوية
زيادة في المنسوب المعنوي عند أبطال التحرير ومؤيديه
وانهيار في المعنويات عند جنود الاحتلال وعملائهم
26/ 2/ 2009
وأخيراً تصاعد الدخان الأبيض من مداخن باراك أوباما، الذي أيقن أن جورج بوش وعد شعبه بخيرات العراق فخاب. وأن المقاومة الوطنية العراقية وعدت شعبها بالتحرير فأوفت. ولهذا قرَّر ترك العراق لأهله من أجل تخفيض النفقات على الشعب الأميركي بعد أن أرهقته المقاومة العراقية واستنزفت، حسب الأرقام المعلنة، ما يعادل المبلغ الذي قرَّرت أخيراً المؤسسات التشريعية في الولايات المتحدة الأميركية إنفاقه من أجل دعم المؤسسات الصناعية المنهارة.
لقد رحل جورج بوش مع إدارة اليمين الأميركي الجديد غير مأسوف عليهما، كما أعلنت أصوات الشارع الأميركي في الانتخابات الأخيرة التي أطاحت نتائجها بهما، طالبة من الرئيس والإدارة اللذين سيخلفانهما بإعادة أبنائهم إلى أرضهم، لتوفير فاتورة الدم والمال الباهظة، التي كانت تُدفع من أجل مصالح حيتان الرأسمالية في الولايات المتحدة الأميركية. أولئك الحيتان، الذين يشكل معظم أقطاب الإدارة السابقة، أعضاء أساسيين فيها، وهم من المنتسبين إلى (الحركة السيناركية) التي يشعل أعضاؤها الحروب بقصد الربح غير آبهين بمن سيكون المنتصر. وهكذا باتوا بعد رحيلهم نائمين على مبالغ خيالية سرقوها من ثروات العراق كما من جيوب المكلف الأميركي. ولم يبق أمام الشعب الأميركي إلاَّ الضغط من أجل إحالتهم على المحاكم الجنائية الأميركية والدولية أيضاً، ليقطعوا الطريق في المستقبل على كل من تسوِّل له نفسه بالقيام بمغامرات كما فعلوا في كل من أفغانستان والعراق.
في ظلال تلك الوقائع. وأخيراً، تصاعد دخان النصر الأبيض من مواقد المقاومة الوطنية العراقية، ليؤكد لكل من كان يشكك بمصداقيتها أن تشكيكه كان قائماً على أغراض وأهواء كانت غير قادرة على رؤية حزب البعث العربي الاشتراكي منتصراً في العراق.
بعد أن تسربت أنباء بداية طلائع الانسحاب الأميركي من العراق، كما أوردته وكالة الأسوشيتدبرس، ابتدأ عصر جديد لينسج ثوباً جديداً للعراقيين يستقبلون به مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي من العراق. وعلى أساسه انفتحت أبواب مرحلة جديدة لاستقبال متغيرات على غاية من الأهمية. قد تكون مرحلة صعبة بلا شك، ولكنها لن تكون بأصعب من المراحل التي خاضها أبطال التحرير طوال ست سنوات ضد كل أنواع الأعداء الذي جردوا سيوفهم لنحر العراق ونهب ثرواته وتدمير كل بناه البشرية الأساسية التي لا وجود لدولة من دونها.
إنها بالفعل لا تزال مرحلة لن تنتهي إلاَّ بانسحاب آخر جندي أميركي من العراق، وقد لا يكون التوقيت الذي حدده أوباما هو التوقيت الدقيق، بل من المرجَّح أن يكون أقصر مما هو مقدَّر له، على الرغم من تعقيدات الانسحاب بسبب من كميات العتاد الهائلة المخزونة في العراق، كميات كانت مخزنة أصلاً لاحتلال دائم طويل الأمد وقد يمتد إلى الأبد.
ويظهر من خلال ما أعلنته الأسوشيتد برس أن البداية الأساسية ستكون مركَّزة على سحب ما ثَقُل من العتاد وغلا ثمنه. أو من العتاد السري خوفاً من وقوعه في أي يد قد تستفيد من أسرار تصنيعه. هذا ما يقودنا إلى الاستنتاج أنه في الوقت الذي تنتهي قيادة الاحتلال فيه من إخلاء السلاح ذي المواصفات التي ذكرنا يصبح كل انسحاب آخر سهل التطبيق.
إن سلاح المرحلة القادمة نفسي ومعنوي
إنه بعد البدء بالمرحلة الأساسية، التي ابتدأت في الثالث والعشرين من شباط، ستطرأ عوامل جديدة ستتحكم بطول فترة صمود الجندي الأميركي وعملاء الاحتلال، أو بسرعة انهيارهم، وتأتي على رأسها الحرب النفسية التي ستسيطر على مزاج المحتلين: الجندي الأميركي، وعملاء الاحتلال أولاً. وبالتالي ستطرأ عوامل نفسية جديدة سيرتفع منسوبها الإيجابي عند الشريحة الواسعة من العراقيين الرافضين للاحتلال ثانياً.
لهذا السبب ستتغير معالم معادلة الصراع في المرحلة التي تسبق إتمام الانسحاب الأميركي، ولكي نوضحها أكثر، سنقوم بعملية رياضية أسسها التالية:
-بعد الاحتلال مباشرة كانت الحالة المعنوية لقوات الاحتلال وعملائها في أوج سقوفها، يقابلها انخفاض في الحالة المعنوية عند شريحة واسعة من الجماهير العراقية، وشبه انهيار عند قطاعات واسعة ممن يعملون في السياسة، ناهيك عن أن صفوة المقاومين كانوا يقاتلون لتحرير العراق من دون أفق زمني معروف. في مثل تلك المعادلة كان الاحتلال وعملاؤه يقاتلون بضراوة المنتصرين.
-بعد سلوك الخطوة الأولى لانسحاب الاحتلال أخذت معايير المعادلة تتغير. وبها أصبحت المقاومة في أوج سقوفها المعنوية، والحالة الشعبية الأوسع ستجد انفراجات نفسية لأنها لمست بالفعل أن معاناتها لن تطول بعد أن تأكد لديها أن هناك مدى زمني محدود للتخلص من الاحتلال. وبدوره أصبح الجندي المحتل موعوداً بالعودة إلى أهله، وسيعمل كل جهده من أجل أن يعود إليهم حياً وليس ميتاً، ولن يمارس طريقة إما أن يكون قاتلاً أو مقتولاً، وهو عامل ستتغلب فيه عنده إرادة الحياة وليس احتمال الموت. أما عملاء الاحتلال الكبار، ممن قادوا العمليات السياسية والإرهابية ضد شعبهم، فسيصبحون في أدنى درجات حالاتهم النفسية ضعفاً كلما انسحب جندي أميركي أو كلما تقلصت أعداد القواعد الأميركية. أما الشريحة التي كانت مترددة في حسم خياراتها، إما لجهل أو لحاجة مادية أو حماية لحياة، فسوف تكون الأسرع استجابة لنداءات التحرير. ومن تلك الشريحة أكثرية الذين انضموا إلى جيش العملاء أو الشرطة أو تنظيمات الصحوة، إذ أنهم لن ينتظروا طويلاً في الانقلاب على من قاموا بتضليلهم وإغرائهم، فهم سيكونون الأكثر استجابة للارتداد عن مساندة من يقف في وجه المقاومة، وسيكونون على أهبة الاستعداد باللحاق بركبها وملاحقة من سيبقى من عملاء الاحتلال.
بمثل تلك المعايير نستنتج بأن الموعد الزمني الموضوع نظرياً للانسحاب لن يكون موعداً ثابتاً بل سيكون عرضة للتسريع باحتمال حصول متغيرات، من أهمها:
-إذا استخدمت المقاومة سلاحاً قد تكون قد حصلت عليه ولم تظهره حتى الآن.
-انهيارات سريعة في البنى العسكرية والأمنية التابعة للحكومة العميلة.
وكل احتمال في المتغيرين، ليس ببعيد عن الحصول. وإذا كنا نجهل ما تخطط له المقاومة للاحتمال الأول، فإن الاحتمال الثاني لا بدَّ من أنه سيتحقق بفعل متغيرات موازين القوة المعنوية والنفسية بين الاحتلال وعملائه والقوى المقاومة ومناصريها، حيث إن الضغط الشعبي والعشائري ستزداد وتيرته على كل المنخرطين في تلك الأجهزة. فهم بانضمامهم إلى المقاومة ينخرطون في مشروع سيعيد لهم كرامتهم بعد طول إذلال، وسيقاتلون تحت سقف زمني أصبح أفقه منظوراً بوضوح، وسيقابلون عدواً مهزوماً منهار المعنويات، وإذا قاتل فلن يغيِّر من معادلات الأمور شيئاً، فبحالته النفسية المنهارة سيكون راغباً في الهروب أكثر من استمراره في الدفاع عن مشروع أصبح خاسراً ولا يمكن المراهنة عليه على الإطلاق.
وفي شتى الاحتمالات سيبقى المقاومون الأبطال هم البدريون الذي لن يلقوا سلاحهم لملاحقة سلب هنا أو هناك، بل سيبقون على رأس التلة شاهرين سلاحهم حتى يتأكدوا من هروب آخر جندي أميركي من أرض العرق، متبوعاً أو مسبوقاً بآخر عميل أو خائن باع وطنه.

افتتاحية طليعة لبنان الواحد
عدد آذار 2009
الذكرى الثانية والستون لتأسيس البعث
والذكرى السادسة لانطلاقة المقاومة العراقية
يحملان بشرى النصر القادم ويدعون العرب للاستفادة منها
لم يكن إعلان أوباما روزنامة الانسحاب من العراق أقل من تأكيد لانتصار البعث في معركة المواجهة مع الاحتلال الأميركي. ولن يكون أقل من هزيمة لأكبر جيوش العالم وأنظمته السياسية والاقتصادية. وبدوره قدَّم البعث هذا الإعلان هدية للأمة العربية في عيده الثاني والستين الذي سيحتفل به البعثيون في السابع من نيسان من هذا العام.
إن هذا الإعلان يحمل البشرى للأمة العربية بأنها تقف على أعتاب القرن الحادي والعشرين لتطرق أبواب التاريخ بقوة، ولتعلن أنها اليوم صانعة التاريخ الجديد للعالم بأسره بعد أن كانت مبتلاة بسلسلة من الهزائم والتراجعات.
أما كيف تطرق الأمة بوابة التاريخ الجديد، فإنما لأن البعث واجه، منذ بدايات تأسيسه، أطماع الاستعمار والصهيونية وتقودها اليوم الولايات المتحدة الأميركية. وهو يعرف أن أيديولوجيا أباطرة أميركا وحيتانها الرأسماليين تقوم على العدوان والقرصنة على شعوب العالم وثرواتهم، وسبيلهم إلى ذلك كانت سياسة الكذب والخداع. كما يعرف أيضاً أن ما دفع آخر أباطرتهم للاعتراف بالهزيمة في العراق ليست صحوة من ضمير، بل كان اعترافاً بضعف إمبراطوريتهم في مواجهة البعث الذي قدَّم أفضل التجارب في مقاومة غطرسة القوة، المقاومة التي تواجهت فيها إرادة الكرامة والقرار الوطني مع إرادة الشر والإرهاب الرأسمالي.
إن معرفة البعث بمواصفات أولياء الرأسمالية تاريخياً، كما في العراق قبل الاحتلال وبعده، جعلته يقف حذراً من إعلان أوباما بالانسحاب من العراق، وأن لا يطمئن إلى وعود طالما لم توضع على سكة التنفيذ. ولهذا فقد ردَّ البعث على قرار أوباما بشكل واضح لا تراجع عنه، هو أن المقاومة التي يقودها في الخنادق المتقدمة لن تدع البندقية تسترخي طالما ظلَّ جندي أميركي يخيِّم على أرض العراق.
إن الإدارة الأميركية الجديدة، على الرغم من أنها أعلنت روزنامة للانسحاب من العراق تنفيذاً للوعد الذي قطعته للناخب الأميركي، فهي لم تتحرر من وسائل الخداع والدوران تحت تأثير شياطين الإدارة القديمة الذين لا يزالون حاضرين في قرار الانسحاب للالتفاف عليه إذا ما لاحت لهم فرصة مناسبة لذلك.
إن الفرصة التي يراهن عليها أولئك الشياطين لا تزال كامنة في دسم ما تسميها إدارة أوباما حركة الحوار التي تديرها بمرونة فائقة مع دول الجوار الجغرافي للعراق، والتي لا تحمل للعراق إلاَّ سماً كامل المواصفات والشروط.
في حركة الحوار الجارية الآن، التي تلح عليها إدارة أوباما، مراهنة حقيقية تحمل آمالاً تنعش الاحتلال الأميركي من جديد إذا ما نجحت. وإذا كنا نبارك أي طاولة للحوار المتكافئ بين الدول، خاصة بين أميركا ودول العالم الأخرى، فإن اتجاهاتها في هذه المرحلة مع النظام الإيراني تسير بالعكس من مصلحة الأمة العربية لأنها تحصل بين طامعيْن بثرواتها وقرارها السياسي.
إن هذه الحركة الدائرة الآن على قدم وساق تعمل على توظيف نضالات المقاومة الوطنية العراقية لغير مصلحة العراق. وإن إلحاح إدارة أوباما عليها لم يكن ليحصل لولا تلك النضالات ونتائجها. ولأنها كذلك، ولأنها عراقية أولاً، وعربية ثانياً، فكان من الواقعي والمفروض أن تحصل بين الولايات المتحدة الأميركية من جهة، وبين المقاومة الوطنية العراقية من جهة أخرى. ولأنها تسير على العكس من ذلك فإنها تؤسس لصراعات جديدة، ومعارك جديدة، لا تصب في مصلحة الولايات المتحدة الأميركية كما أنها لا تصب في مصلحة الإقليم الجغرافي المجاور للوطن العربي.
إن البعث في الذكرى الثانية والستين لتأسيسه، يقف بشكل واع وواضح أمام مرحلة الوعد والتجديد والعهد للبعثيين والمقاومة الوطنية العراقية والأمة العربية، وأمام مرحلة الوعيد للولايات المتحدة الأميركية وغيرها من الطامعين، يقف معلناً أن المقاومة التي انتزعت قرار الانسحاب من أوباما لقادرة على انتزاع أكثر من قرار بالانسحاب عن كل شبر محتل من الأرض العربية، أو كل شبر من المحتمل أن يكون موجوداً في مخيلة أي كان طامعاً باحتلاله الآن أو في المستقبل.
وإن البعث الذي وقف على أرضية تحرير الإرادة العربية، يجدد العهد والوعد بأنه لن يرتاح إلاَّ إذا تحررت الأمة العربية من عقدة الضعف والاستكانة ووقفت على أرضية الثقة بقدرتها وإمكانياتها على أن تكون الأمة القادرة على حماية نفسها من كل معتد خبيث، تحت أي مسمى كان، القريب منها أو البعيد. وأن تكون الأمة التي تنتزع حقوقها القومية بقوة سواعد أبنائها، الأمة التي لا ترضى أن تأكل من حقوق الأمم الأخرى وعلى حساب نضالات أبنائها.
وإن البعث يحذِّر كل الذين يقتاتون من دماء غيرهم، وخاصة النظام الإيراني، أن يقلعوا عن دورهم الطفيلي، خاصة إذا كان قوتهم يتم بتسهيل من العدو الرئيسي، أن يعودوا إلى رشدهم. كما يحذر كل المتلاعبين من الأنظمة العربية التي أرهقتها أدوار التبعية والالتحاق ويبشرهم بأن عصراً عربياً جديداً قد أشرق، هو عصر المقاومة والتحرير. كما يدعوهم إلى التقاط اللحظة التاريخية المتاحة لهم الآن ليأخذوا مقعدهم بين الأمم التي تصنع تاريخها بجهد أبنائها ودمائهم، وبأرواحهم أيضاً.

5-المصالحة العربية مرفوضة إذا كانت نسخة طبق الأصل عن المصالحة بمفهوم حكومة العراق العميلة
حسن خليل غريب في 27/ 3/ 2009
عرفت مرحلة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي بداية لتضامن عربي كانت الأنظمة التقدمية فيه تشكل الخط الضامن لتجميع العرب في منظومة رسمية وشعبية تدور في فلك التقارب والتنسيق كخطوة أولى على مسار الوحدة خطوة خطوة.
في حينها لم ينجز العرب تلك الخطوات من دون عوائق ومؤامرات، وتأتي مؤامرة التحالف الاستعماري – الصهيوني في المقدمة منه. لكنها على الرغم من قصورها كانت متقدمة جداً، وبما لا يقاس، عما أصاب العرب في هذه المرحلة من تفكك وتصارع وذل وهوان.
كما أنه على الرغم من ارتباط بعض الأنظمة الرسمية العربية بعجلة المشروع المعادي، فقد أنجزت الكثير من خطوات التلاقي والتقاطع التي نندبها اليوم، ونضرع إلى الله أن تعود. ولأننا اليوم في أسوأ حال، وعلى سبيل المقارنة بين الأمس واليوم، لا بدَّ من التساؤل:
-إذا كانت رياح التغيير تسير في خط متصاعد، فلماذا تنحدر رياح العرب اليوم بخط هابط؟
-ولماذا تبدو المرحلة في خط تراجع مستمر وصل إلى النقطة ما دون الصفر؟
-وما هي الأسباب التي جعلت العالم كله، بما فيه الإقليم المجاور للوطن العربي، هم الوحيدون الذين يقررون مصائرنا ويضعون الحلول لمشاكلنا؟
-ولماذا نحن ننتظر على قارعة التاريخ نتائج ما سترسمه لنا طاولات المفاوضات التي يجلس إليها كل من هو ليس عربياً.
على الرغم من كل الثغرات التي رافقت تجربة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، إلاَّ أنها زرعت القلق في أوساط التحالف الاستعماري – الصهيوني، فخطط للقضاء عليها وإحباط مفاعيلها واستباق تراكمها، وكانت حرب حزيران من العام 1967 أكثر مظاهر المخطط بروزاً. وراح يستكمل خططه وازداد إصراراً على تنفيذها، سيما وأن الأنظمة ذاتها قد اتخذت لمرة واحدة، في أعقاب حرب تشرين الأول من العام 1973، قرار إقفال أنابيب النفط ومنع تصديره إلى كل دولة تؤيد الكيان الصهيوني.
لم يكن وضع الأنظمة العربية الرسمية، سابقاً ولاحقاً، يسمح بتحقيق إنجازات تثير مخاوف التحالف المذكور، وكل من يدور في فلكه، إلاَّ لوجود مجموعة من الأسباب، لعلَّ أهمها كان التالي:
-كانت الحركة القومية العربية تمر في العقدين السالفيْ الذكر بمرحلة حيوية لافتة للنظر، خاصة وأن قيادتها كانت معقودة اللواء لكل من حزب البعث العربي الاشتراكي والحركة الناصرية. وكانت مدعومة شعبياً من جهة، كما كانت تفرض احترامها، ولو على مضض، على النظام الرسمي العربي من جهة أخرى.
-وكان العالم محكوماً بقطبيتين عالميتين متناقضتين: الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي. وتوازن الرعب بينهما كان يحد من سرعة تنفيذ المشروع الأمبريالي – الصهيوني.
-وكانت بينهما دول منظومة الحياد الإيجابي تبني مواقعها وتفرض وجودها على القرار الدولي.
وبمراجعة نتائج تلك المرحلة على المستويات كلها نجد أن تلك العوامل كانت من العوامل الأساسية التي أجَّلت إلى حين تنفيذ مخطط التحالف الاستعماري – الصهيوني، ولكنها لم تمنعه. واستمر المخطط انتظاراً لحصول ثغرة ما، وقد حصلت تلك الثغرة، وكان أشدها إيلاماً غياب الحيوية عن أقطاب الحركة القومية العربية بغياب الناصرية وحضور الساداتية من جهة، واستفراد التحالف بنظام حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، والذي كان من الملحِّ إسقاطه من جهة أخرى.
هذه النتيجة أصابت الحركة القومية السياسية بنقص من المناعة، وغاب تأثيرها على الأنظمة الرسمية العربية، كما خفتت فعاليتها على الجماهير الشعبية وفقدت عوامل استقطابها، مما دفع بالأنظمة للاستسلام الكامل فارتمت في أحضان محركيْ التحالف الاستعماري – الصهيوني، ودخلت في مرحلة السبات لتنفذ كل الأوامر والإملاءات التي ينقلها المندوبون والمبعوثون من قصور أباطرة الاستعمار.
كما أدى غياب الحركة القومية العربية بالحركات الدينية السياسية إلى إملاء الفراغ الذي تركه القوميون، وربما بتشجيع واحتضان من قبل التحالف المذكور، الذي إن استطاع أن يحقق أهدافه في اجتثاث الفكر القومي، جملة وتفصيلاً، فإنه لن يخشى من تلك الحركات لأنها تشكل بديلاً تتوافق مشاريعها السياسية التفتيتية على قواعد دينية ومذهبية مع مضامين مشروع الشرق الأوسط الجديد.
كان لا بدَّ من نبش خبايا التاريخ أمام مشهد حركة المصالحات العربية النشطة التي كانت استجابة للمبادرة السعودية في الكويت، تلك المبادرة التي أنعشت حركة عدد من الأنظمة. وهنا لا بدَّ من معرفة أين تصب هذه الحركة في مجرى حركة الصراع التاريخية التي تخوضها الأمة العربية مع الاستعمار والصهيونية، وهنا يقفز إلى الذهن عدد من التساؤلات:
لماذا المصالحة، وأين تصب نتائجها في مصلحة الأمة؟
ولماذا المصالحة الآن؟
وما هي شروط الحد الأدنى لتكون مقبولة؟
قبل كل شيء لا بدَّ من تأكيد أهمية لقاء أفراد الأسرة الواحدة، التي يجمعها رباط المصير الواحد. والمصالحات الجارية، وإن كانت لا تبشِّر بالخير الكثير لأسباب سنتابع الإضاءة عليها في تحليلنا، لا بدَّ من أن نضعها في دائرة المصالحة الضرورة كخطوة لا بدَّ من القيام بها كتمهيد للجمع بديلاً للتفرقة والتمزق واستمرار الفراغ على شتى المستويات القومية.
ربما كانت دوافع المصالحة إحدى أهم إفرازات فشل مشروع أمركة العالم، ومن أهم نتائجه سيكون الفراغ الذي سيتركه بعد الانسحاب من العراق، والذي ستملأه دول الإقليم الجغرافي، وأكثرها تصميماً المشروع الإيراني. فهو المشروع الذي يحسب، واهماً، أنه سيكون البديل للاحتلال الأميركي.
فالخطورة التي تنتظر الوضع العربي تبدو في أفق ما بعد الانسحاب الأميركي من العراق وهي الخروج من مأزق عربي إلى مأزق عربي آخر. وإذا كان بعض العرب قد راهن في مرحلة الإعداد للعدوان على العراق واحتلاله على حماية تبسطها الولايات المتحدة الأميركية على تلك الأنظمة، إلاَّ أن نتائج الاحتلال، بالنسبة إليهم، لم يكن بفشل المشروع الأميركي فحسب وإنما قد فتح بوابة الوطن العربي عبر العراق وجعلها مشرَّعة للأطماع الإيرانية. البوابة التي من أجل إبقائها محمية ساعد بعض العرب العراق في حرب الثماني سنوات على إفشال مشروع تصدير ثورة الخميني. تلك التجربة كانت واعدة بإبقاء الحد الأدنى من التضامن العربي ضمن مدار الحد الأدنى لحماية الأمن القومي العربي لو استمرت. ولكنها لم تستمر لأن بعض الأنظمة العربية وقعت في أفخاخ الخداع الأميركي سواءٌ أكان الخداع في شن العدوان الثلاثيني على العراق في العام 1991، أم في الحصار الذي فُرض عليه طوال ثلاثة عشر عاماً، أم في احتلال العراق في العام 2003.
تجربة الاستجابة للخداع الأميركي كانت أكثر من مُرَّة حتى على الأنظمة المتواطئة على العراق والمشاركة في احتلاله، وهي تشكل اليوم لها أزمة كبرى في مواجهة تداعيات فشل احتلال العراق. تلك التداعيات التي دفعت تلك الأنظمة إلى القيام بقفزات مفاجئة على صعيد تحويل مسارات الخصومات وسلوك مسار المصالحات. وهي المرحلة التي نعيش فصولها الآن ونتابع تسلسل خطواتها وتسارعها.
حسناً فعلت تلك الأنظمة، والوجه الحسن فيها هو أنها حتى ولو أتت متأخرة فهذا خير من أن لا تأتي أبداً. ولكي تكون تلك الخطوة أقل سوءاً مما لو ظل التناحر سائداً، فلا يجوز أن تقع الأنظمة في خداع آخر وحسابات خاطئة.
ولكي تصب هذه الخطوة مرحلياً في مصلحة العرب، فعلى الأنظمة ذات الثقل السياسي أن تضع في حساباتها أن هناك احتمالاً تعد له الإدارة الأميركية يقضي بتسوية الخلافات المرحلية مع دول الإقليم الجغرافي للوطن العربي، بخاصة مع إيران. وإذا ما حصلت تلك التسوية فسيعود العرب للدوران في فلك الاتفاق بينهما الذي لن يكون أقل من تواطؤ جديد سيدفع الوطن العربي بأكمله ثمناً له.
إن خطورة ما تحيكه إدارة أوباما، الرئيس الأميركي الجديد، في فتح حوار مع إيران، كأسلوب حوار لا نرفضه، هو أن استفرادهما بطاولة المفاوضات سيؤدي إلى إبقاء جزء من العراق قابعاً تحت هيمنة النظام في إيران للاستفادة من خدماته كموطئ قدم للمشروع الطائفي السياسي لنظام «ولاية الفقيه». خاصة أن تفتيت الوطن العربي إلى كيانات طائفية يأتي في صلب مشروع الشرق الأوسط الجديد.
وفي حركة المصالحات النشطة حد أدنى من استعادة الاهتمام العربي المباشر بالقضايا العربية الساخنة، وفيه بداية لإضعاف التأثير الخارجي الذي طالما وظَّفها وفصَّلها على مقاييس مصالحه. وإذا كانت قضية لبنان وفلسطين تقع في دائرة السخونة، فإن القضية العراقية هي من أهم مراحلها الآن. وطريقة معالجتها ستنعكس سلباً أو إيجاباً على مجمل وسائل المعالجات الرسمية العربية لكل القضايا الأخرى.
إنه وبقدر ارتياحنا لحركة المصالحات العربية الجارية على قدم وساق، كانت زيارة عمرو موسى، أمين عام جامعة الدول العربية، إلى العراق مزعجة ومخيفة. أما أنها مزعجة فلأنها تدل على اعتراف بالأمر الواقع الذي فرضه الاحتلال. وهذا في حال استمراره لا يبشر بالخير وتدل معاني الزيارة على أن الأنظمة العربية لم تتعلَّم ولم تدرك خطورة ما سيترتب على مثل هذا السلوك. فإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية قد اعترفت بهزيمة الاحتلال، وهذا يعني هزيمة إفرازاته، فهل من المنطقي والمقبول أن لا تفهم الأنظمة الرسمية رسالة الإدارة الأميركية على حقيقتها؟
وهنا لا بدَّ من التساؤل: ما الفرق بين أن يكون الاحتلال مباشراً، أو أن يكون بالواسطة؟
وما الفرق بين الاحتلال كعدوان صريح على القانون الدولي والتشريعات الإنسانية، وبين من خان وطنه وتعاون مع الاحتلال على تدمير بلده؟
وإذا قال قائل يمكن العمل على إنجاز مصالحة بين العراقيين، كمثل ما تروِّج له حكومة الاحتلال. وهل يمكن أن تتم المصالحة من دون أن تكون المقاومة طرفاً فيها؟ وهل تتصور الأنظمة التي كلفت عمرو موسى بزيارة العراق أن المقاومة التي هزمت المحتل ستتصالح مع إفرازاته؟
فلتقلع الأنظمة عن رهان خاسر لأنها ستلعب دور الاحتلال ولكن بعباءة عربية. وهي ستقع في دوامة أخرى لن تجديها نفعاً، ولن تنجز حلاً للقضية العراقية، بينما عليها أن تعمل على كسب وقت ثمين لا أن تضيع الفرصة في أوهام أخرى طالما عجزت إدارة جورج بوش عن تحقيقها. فعليها أن تدخل إلى القضية العراقية من بوابتها المسؤولة. ومفاتيح البوابة هي بيد المقاومة الوطنية العراقية، وأقسم مناضلوها أنهم لن يسلموها إلى أحد أياً كان هذا الأحد، حتى ولو كان معتمراً كوفية عربية. وهذا يعني فيما يعنيه أن الأنظمة لا تزال غارقة في بؤرة الخداع: لا ترى ولا تسمع ولا تتكلم.
ولقد أعلنت المقاومة العراقية، منذ التاسع من أيلول من العام 2003، عبر المنهج السياسي الاستراتيجي، أنها ستحرق أصابع الإقليم الجغرافي للعراق، عرباً وغير عرب، وتعمِّق مآزقهم إذا لم ينظروا للعراق من منظار وطني وقومي، على أن يكون عراقاً عربياً موحداً، وأن يكون وطناً لكل أبنائه، وأن يكون عضواً فاعلاً في الوطن العربي غير منقوص السيادة.
فهل تعي الأنظمة التي انخرطت في ورشة المصالحات العربية، التي نؤيدها، أن عليها يقع عبء استعادة القرار العربي، القرار الوحيد الذي لن يُسمح لهم بدخول أعتاب العراق من دون إشهاره بوضوح تام لا لبس فيه ولا غموض؟

6-احتلال العراق حلقة أخيرة في استراتيجية الأمركة
لنهب ثروات العالم واستعباد شعوبه
نيسان 2009
مقالة بناء على طلب السفارة الكوبية في بيروت
التجزئة العربية استراتيجية استعمارية – صهيونية
كان احتلال العراق، في العام 2003، نتيجة إعداد استراتيجي طويل للإدارة الرأسمالية الأميركية، تعود أصوله التاريخية إلى ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. أما أصوله الإيديولوجية فتعود إلى أطماع إمبراطورية أميركية رأسمالية الأهداف للسيطرة على العالم بأسره، وفي القلب منه أقطار الوطن العربي الكبير، لتميز موقعه الجغرافي الاستراتيجي من جهة، ولموقعه الاقتصادي كمخزن لثروة البترول من جهة أخرى.
إن الاستراتيجية الطويلة الأمد لها عمق تطبيقي تأتي اتفاقية سايكس بيكو لتمزيق المنطقة، ووعد بلفور لتأسيس وطن قومي يهودي في فلسطين، في القلب منه. وهذان العمقان يشكلان القاعدة الرئيسية لكل سياسة العدوان العسكري والاحتواء السياسي التي مارستها الإمبريالية القديمة (فرنسا وبريطانيا) وراحت الإمبريالية بطبعتها الأميركية تستكمل تنفيذ المخطط المرسوم.
لم يكن احتلال العراق إلاَّ حلقة من حلقات تنفيذ المشروع الاستراتيجي المذكور أعلاه، إذ كانت أهداف ضرب الاتجاهات القومية الفكرية من جهة، وتقويض أي ترجمات سياسية عملية لها من جهة أخرى، هي السياسية الاستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية التي ابتدأت في الخمسينيات لتقويض التجربة الناصرية في مصر وتجربة حزب البعث العربي الاشتراكي في سورية. وكان العدوان على مصر بما كان يُعرف بـ(حرب السويس) في العام 1956، وعدوان 6 حزيران في العام 1967، من أهم مظاهر تلك العدوانية من أجل منع قيام أي هيكل وحدوي بين الأقطار العربية وفي الوقت نفسه فرض الحماية على الوجود الصهيوني في فلسطين المحتلة. وجاءت اتفاقية كامب ديفيد، في العام 1979، لتمثل أهم مظاهر سياسة احتواء الحركة القومية العربية لتحقيق الأهداف الاستعمارية الأميركية المركزية.
وإذا كانت أهداف الإمبريالية قد أخرجت مصر من دائرة الصراع العربي – الصهيوني، إلى دائرة ما تسميه السلام مع العدو الصهيوني فإنها أخرجت مصر أيضاً من دائرة الصراع مع الإمبريالية وجعلت منها ملحقاً يستجيب لإملاءات التحالف الصهيوني الاستعماري.
من مراجعة الأصول التاريخية والإيديولوجية للمشروع الرأسمالي الحديث والمعاصر، يمكننا أن نستنتج أن هناك حقيقة واحدة لا جدال فيها، أنه حيثما تتواجد الإمبريالية الرأسمالية فسوف تجد أثراً عميقاً للمصلحة الصهيونية والتأثير الصهيوني. وهذا يؤكد أن مواجهة أحدهما لا يمكن إلاَّ أن تواجه الآخر. فالصراع معهما رزمة واحدة. فحيثما حلَّت الصهيونية في أرضنا العربية لا يمكن إلاَّ أن تكون أرضية للرأسمالية الأميركية، وإذا تم إضعاف الصهيونية فهو إضعاف للتأثير الرأسمالي الأمبريالي، ولذلك يكون تحرير فلسطين من الصهيونية هو تحرير لها من الوجود الأمبريالي.
فالصراع الذي تخوضه القوى التقدمية والجذرية في الأمة العربية هو بالضرورة صراع ضد تحالف نعتبر من المستحيل التمييز بين قطبيته. وهذه هي الإيديولوجية التي تخوض فيه الحركات القومية العربية الصراع على أساسه منذ مرحلة الخمسنيات من القرن العشرين.
وعندما ذلل التحالف الأميركي – الصهيوني العقبة المصرية باتفاقية كامب ديفيد في العام 1979، والعقبة الفلسطينية باتفاقية أوسلو في العام 1993، ومن بعدها العقبة الأردنية التي لم تكن عصية على الحل باتفاقية وادي عربة في العام 1993 أيضاً، وأدخلت سورية على طاولة المباحثات عن تسوية في العام 1992 في مؤتمر مدريد، ظلت العقدة العراقية عصية على الحل سواءٌ أكان بالتهديد بالقوة العسكرية أم كان بالاحتواء السياسي، الأمر الذي وضعه في دائرة المعالجة السريعة. وهكذا اتخذ قرار احتلال العراق منذ العدوان الثلاثيني عليه في العام 1991، ومرَّ بحصار طويل لا يخضع لأي معايير إنسانية أو أخلاقية، وانتهى بعدوان عسكري في آذار من العام 2003.
وُضعت القضية العراقية على نار حامية في الروزنامة الأميركية بعد أن سيطر اليمين الأميركي المتطرف على البيت الأبيض بإحكام. وكان قد تحالف مع عدد من الحركات اليمينية المتطرفة أيضاً، وقد ضمَّ هذا التحالف، كل من: اليمين المتطرف الأميركي الذي يعتقد ببناء إمبراطورية أميركية تحكم العالم وتتحكم بمصيره، واليمين الصهيوني المتطرف الذي يعتقد ببناء دولة توراتية حدودها تمتد بين نهر النيل المصري ونهر الفرات العراقي، واليمين المسيحي المتصهين الذي يعتقد بظهور المسيح المخلص في معركة هرمجدون في أرض فلسطين، وهم يعدون أنفسهم لخوض تلك المعركة، كمعركة تدور بين قوى الخير وقوى الشر. وكان الطرف الخفي في هذا التحالف يتمثل بحركة سرية اقتصادية يطلق عليها اسم (الحركة السيناركية) وهي تضم مافيات من تجار الحروب التي تقصد الربح من دون الاهتمام بمن سينتصر بالحرب.

لماذا احتلال العراق؟
بات من الواضح أن احتلال العراق جاء من ضمن استراتيجية اليمين الأميركي المتطرف في بناء إمبراطورية أميركية تُعتبر نهاية للتاريخ بعد انهيار النظام الاشتراكي العالمي بتفكيك الاتحاد السوفياتي. ولعلَّ كتاب (نهاية التاريخ) لفوكوياما، الفيلسوف الأميركي، يشكل المظهر الأكثر تعبيراً عن تلك الاستراتيجية. وفي تلك الاستراتيجية ما يؤكد أن البناء الأمبراطوري الأميركي الجديد لن تكتمل مقوماته إلاَّ بالسيطرة على الثروة النفطية في العالم لأنها تشكل عصب الاقتصاد العالمي، ولأن من يسيطر عليه يستطيع السيطرة على العالم. ولما كان العراق، في منطقة الشرق الأوسط يحتل مرتبة المقاومة الأول في مواجهة المشروع الأميركي، ولأنه استعصى على سياسة الاحتواء الأميركية، نفذ صبر الإدارة اليمينية المتطرفة، التي تمثلها إدارة جورج بوش، فلجأت إلى وسيلة التدخل العسكري المباشر، كبديل لسياسة الاحتواء، واتخذت قراراً باحتلال العراق واعتباره محطة عسكرية دائمة تسيطر بواسطتها على كل المحيط العربي والإقليمي المجاور وإقفال بوابتها في وجه أي تدخل روسي من الشمال، وحماية وجودها المباشر في أفغانستان الذي يشكل حلقة السيطرة على دول شرقي آسيا. وهذا يؤكد أن للاحتلال الأميركي للعراق أهداف استراتيجية دولية، ولم تكن أهدافاً مرحلية كما حاولت وسائط الإعلام الأميركي أن توحي بذلك.
غطَّت إدارة جورج بوش أهداف احتلال العراق بـ(إسقاط نظام صدام حسين) لسبب أنه نظام ديكتاتوري. فظهر للرأي العام العالمي، والعربي، وكأن هدف نشر الديموقراطية في العراق هو ما كان يشغل بال إدارة جورج بوش. وقد انطلت وسائل الخداع على عقول قطاعات واسعة من الرأي العام.
لقد كانت الحقيقة التي استندت إليها إدارة جورج بوش في احتلال العراق، هو أن النظام السياسي الحاكم كانت له أهداف إيديولوجية معلنة تصوِّب له طريقة حكمه السياسي. وتلك الأهداف هي أهداف حزب البعث العربي الاشتراكي التي تعمل على مسارات فكرية قومية عربية ثابتة تتلخص في العمل من أجل الوحدة العربية، كمظهر سياسي للفكر القومي، وتطبيق الاشتراكية كنظام اقتصادي يوجِّه خطوات الدولة العراقية لتوفير العدالة والمساواة بين مواطني الدولة العراقية على أن تكون خطوة أساسية لتعميمها على المجتمع العربي الموحد.
أما هدف الوحدة العربية فهو يتناقض تماماً مع الاستراتيجية الاستعمارية التقليدية المحكومة بسقف اتفاقية سايكس بيكو، وهذا الهدف يشكل خطاً أحمر أول مع الأهداف الأميركية.
وهذا الهدف أيضاً يتجاوز الخطوط الحمر الصهيونية لأنه يستهدف اقتلاع (إسرائيل)، الدولة التي قامت على عوامل الاغتصاب لأرض ليست لها، وإنما أكسبتها الصهيونية، بدعم من الاستعمار، شرعية دولية قائمة على ذرائع دينية تعود أصولها إلى آلاف السنين، وترتبط بالعقيدة اليهودية.
أما هدف الاشتراكية، فهو غني عن التوضيح لتناقضه التام مع العقيدة الرأسمالية العالمية بشكل عام، والعقيدة الإمبراطورية الرأسمالية الأميركية بشكل خاص. وإذا كانت النزعة الرأسمالية قد سجَّلت انتصارها على أقوى دول العالم الاشتراكي الذي كان يمثلها الاتحاد السوفياتي، فلا يجوز أن تبقى دولة أخرى على الخريطة الدولية على قيد الحياة ما دامت تؤمن بمبدأ الاشتراكية، بل عليها أن تتبنى عقيدة الاقتصاد المؤمرك القائم على اقتصاد السوق والخصخصة.
لقد تجاوز نظام حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق خطاً اقتصادياً أحمر عندما انخرط في ورشة بناء نظام اقتصادي منتج، لأنه سيبقى يشكل الحافز أمام دول الوطن العربي أنموذجاً يغذي حركات التغيير السياسية والاقتصادية.
كان من المؤسف أن هذه الأسباب الحقيقة التي كانت تقف وراء احتلال العراق أن أكثر الحركات الحزبية والفكرية والسياسية والاقتصادية التقدمية، ومنها قطاعات واسعة من الشيوعيين العرب، قد انخدعت بالأسباب المفتعلة التي روَّجت لها وسائل الإعلام الأميركية والرأسمالية العالمية، وحصرتها في دائرة الصراع بين الديموقراطية والديكتاتورية، وهذا ما جعلها تمحض تأييد بعضها المعلن لإسقاط نظام حزب البعث العربي الاشتراكي السياسي، ودفع البعض الآخر لمحض تأييدها المضمر لتلك الخطوة. وكان من أشد ما يُؤسف له أن جناحاً منها، وهو الحزب الشيوعي العراقي، يشارك في العدوان ويساعد الاحتلال الأميركي من خلال مشاركته في ما سمته غدارة الاحتلال (العملية السياسية).

احتلال العراق جريمة قانونية وإنسانية دولية
أصبح من الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة الأميركية عندما أقدمت على احتلال العراق اختلقت أسباباً وذرائع صوَّرت فيه العراق وكأنه يشكل تهديداً للأمن العالمي، كبؤرة للإرهاب، يمتلك أسلحة الدمار الشامل من جهة، ومن جهة أخرى ينسج علاقات مع تنظيم القاعدة الأصولي المتهم بما سُمي (اعتداءات 11 سبتمبر) على مبنى التجارة العالمي في نيويورك.
إن تلك الذرائع لم تشكل دليلاً أقنع بعض الدول الممثلة في مجلس الأمن الدولي، الأمر الذي دفعها إلى عدم الموافقة على إصدار قرار دولي يجيز استخدام القوة ضد العراق. لكنه على الرغم من ذلك اتخذت الإدارة الأميركية قراراً أحادي الجانب، بمشاركة حكومة بريطانيا وبعض الحكومات الأوروبية الأخرى كإيطاليا وأسبانيا، بشن العدوان على العراق واحتلاله. فتكون بذلك قد تجاوزت الإجماع الدولي كسبب يطعن بشرعية عدوانها. وبقيامها بإسقاط النظام السياسي في العراق بالقوة العسكرية تكون قد تجاوزت القوانين الدولية التي لا تجيز تدخل أي دولة بالشؤون الداخلية للدول المنضوية تحت راية الأمم المتحدة أولاً، والتي لا تجيز لدولة أن تحتل دولة أخرى ثانياً.

أبعاد الجريمة الأميركية المنظمة في العراق ذات علاقة بمشروع الشرق الأوسط الجديد
الوجه الأول: أنموذج تفتيت العراق السياسي على أسس طائفية
الوجه الثاني: أنموذج هيكلة الاقتصاد العراقي على مقاييس اقتصاد السوق
من أجل إنجاح مشروع الشرق الأوسط الجديد، أي الشرق المرتهن للإرادة الرأسمالية الأميركية، كان لا بدَّ من تقويض معالم الدولة العراقية سياسياً واقتصادياً لإعادة هيكلتها من جديد بما يخدم استراتيجيتها، وهذا ما خدعت به الرأي العام الدولي عندما سمته (إعادة إعمار العراق). وهذا يقتضي اتباع كل الوسائل والسبل، التي يمكن حصرها في سلسلة من الجرائم التي تخالف كل القوانين والاتفاقيات والتشريعات الأممية.
يصح الوصف أن الاحتلال الأميركي وعملاءه كانوا، طوال السنوات الست التي انقضت من عمر الاحتلال، يمارسون يومياً كل أنواع الجرائم وفي شتى الاتجاهات. وإذا كان وصف كل تلك الجرائم يفوق طاقة هذا التقرير لكثرتها واتساعها، فإنه من الممكن تصنيفها إلى عناوين كبرى.

عدم التزام الولايات المتحدة الأميركية بواجباتها كدولة محتلة جريمة ضد القانون الدولي
1-مرحلة تقويض معالم الدولة:
منذ تعيين بول بريمر، حاكماً مدنياً للعراق الواقع تحت الاحتلال، راح ينفذ أجندة كانت معدَّة سلفاً من قبل إدارة جورج بوش، وكان مضمونها يعمل على إعادة تغيير كل معالم النظام السياسي السابق، لضمان بناء نظام يستجيب للإملاءات الأميركية وينفذ تعليماتها على شتى الصعد، لذلك عملوا على تقويض كل مظاهره السياسية والعسكرية القائمة على أسس مفاهيم وطنية عراقية ومفاهيم قومية عربية. وهذه كانت مرحلة التقويض، التي تمثَّلت بقرارين استراتيجيين، وهما:
أ-قرار اجتثاث حزب البعث: لأن اجتثاث كل فكر أو اتجاه قومي وحدوي، أو كل فكر اشتراكي يتناقض مع الفكر الرأسمالي، يأتي في أولوية شروط إنجاح مشروع الشرق الأوسط الجديد. ولأن حزب البعث العربي الاشتراكي يتبنى الفكرين معاً، كان القرار الأول هو الذي أصدره بول بريمر في الأول من أيار من العام 2003، أي قبل مرور شهر واحد على احتلال العراق. وقد بدأ تطبيقه بتشكيل هيئة مركزية لتنفيذه، كما أُدخلت نصوص في الدستور العراقي الذي أملاه الاحتلال بعد سنة تقريباً من الاحتلال. وكانت نتائج التطبيق قد طالت ما يفوق الماية وعشرين ألفاً من البعثيين الذين قُتلوا. وما يناهز الآلاف من المعتقلين وأسرى الحرب، التي شملت أهم كوادر الدولة العراقية من مدنيين وعسكريين. وهنا كان إعدام صدام حسين، كرئيس لجمهورية العراق وكأمين عام لحزب البعث العربي الاشتراكي. وهذا ما حصل لنائبه طه ياسين رمضان.
ب-قرار حل الجيش العراقي: كانت إدارة الاحتلال تعتبر أن الجيش العراقي يشكل امتداداً فكرياً لعقيدة حزب البعث العربي الاشتراكي. وإن بقاءه متماسكاً يشكل خطورة على استقرار الاحتلال، فكان قرار حل الجيش العراقي جاهزاً، وقد شمل ملايين الضباط والجنود وكافة الرتب العسكرية.
كان لقرار الحل آلية تنفيذية شملت عدداً من الإجراءات، منها:
-ممارسة سياسة الترهيب والترغيب للجهاز العسكري، قيادات وأفراد، من الذين يتأكد عدم إشباعهم بالروح الوطنية على قاعدة التربية السابقة.
-ممارسة سياسة التصفية الجسدية لكبار القيادات العسكرية ممن لم تستطع قوات الاحتلال أسرهم أو اعتقالهم.
-تدمير كل معالم البنى التحتية العسكرية من ثكنات وآليات، وتركها عرضة للنهب والسرقة من قبل الميليشيات الموالية للاحتلال. وقد استفاد تجار الحروب من ذلك عندما حولوا حتى الآليات الجديدة إلى خردة كانت تباع بالأسواق للاستفادة من معدنها...
ج-القضاء على الجهاز الإداري للدولة: وقد استخدمت قوات الاحتلال وعملاؤها أسلوب إقصاء الإداريين الذين يُشكُّ بولائهم لسلطات الاحتلال واستبدالهم بالموالين لها ولعملائها.
2-مرحلة (إعادة الإعمار):
من بعد أن اطمأنت سلطات الاحتلال إلى تدمير معالم الدولة العراقية، ولضمان تثبيت خطواتها، ابتدأت في إرساء تشكيلات سياسية وأمنية ووضعتها بعهدة ومسؤولية من أتت بهم على دباباتها ممن يضمنون لها السيطرة واتخاذ القرارات اللازمة لترسيخ قواعد الاحتلال وجعلها دائمة ومستقرة من غير تشويش، وكان من أهم القرارات المركزية هي التالية:
أ-تشكيل مجلس الحكم الانتقالي: بعد مرور أقل من شهرين من الاحتلال، أي في تموز من العام 2003، وقد ضمنت إدارة الاحتلال تعيين كل من تطمئن إلى ولائه من الذين تعاونوا معها قبل العدوان، وممن تعبت على تأهيلهم وضمان طواعيتهم، فكان تعيين (مجلس للحكم الانتقالي) هو بداية بناء جديد للهرمية السياسية المطلوبة. فاختارت خمسة وعشرين شخصية من المضمون ولاءهم في متابعة مسيرة تغيير كل بنى الدولة العراقية. هذا المجلس الذي كان من مهماته أن يعد لما سموه (انتخاب مجلس نيابي) تخوله صلاحيات إقرار التشريعات اللازمة التي تسبغ شرعية على الاحتلال.
ب-إجراء انتخابات في ظل الاحتلال: تشارك (مجلس الحكم الانتقالي) بتواطؤ مع مجلس الأمن الدولي في إصدار القرار 1546، في حزيران من العام 2004، والذي بموجبه شرَّع وجود الاحتلال الأميركي عندما نفى عنها صفة الاحتلال واستبدله بصفة (القوات المتعددة الجنسيات)، كونها قوات صديقة دورها أن تعد لانتخابات تشريعية كتمهيد لإقرار دستور عراقي يغطي كل العملية السياسية ويشرعها.
بناء عليهما، تقرر إجراء انتخابات تشريعية في آخر العام 2004، والتي تمت في موعدها، فكانت تلك الخطوة الأهم في تجاوز كل التشريعات الدولية ومخالفتها لكل التشريعات الأممية. ولذلك مهَّدت الانتخابات غير الشرعية إلى تعيين حكومة عراقية أعدَّت لإقرار دستور عراقي، بدت بها كل العملية السياسية وكأنها تكتسب شرعيتها أمام الرأي العام العالمي والدولي.
ج-تعديل الدستور العراقي: حري عن البيان أن إقرار دستور عراقي في ظل احتلال أميركي كانت من أهم أهدافه الاستقرار الدائم في العراق لحماية الوجود الأميركي في منطقة الشرق الأوسط ضد تهديدات الصين من الشرق وروسيا من الشمال، أن على هذا الإقرار أن يضمن وجود اتفاقيات مع حكومة عراقية تظهر وكأنها تكتسب شرعية دولية، فأتت نصوص الدستور لتتضمن كل الصيغ التي تمهد الطريق أمام تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد، وهذا ما تدل عليه النصوص ذات العلاقة بما يلي:
-إنشاء النظام الفيدرالي القائم على أسس عرقية (أكراد شمال العراق)، وأسس دينية ومذهبية (فيدرالية الجنوب الشيعية)، و(فيدرالية الوسط السنية).
-حفظ صلاحية الدولة المركزية في عقد اتفاقيات أمنية وعسكرية واقتصادية لتضمن الوجود الدائم لما سماه قرار مجلس الأمن الدولي (القوات المتعددة الجنسيات) للإشراف المباشر في العراق.
مواجهة الاحتلال ومقاومته أربكت الاحتلال وعمَّقت مآزقه
لم تكن مرحلة تهديم بنية الدولة العراقية، ومرحلة إعادة صياغتها على أسس تشرع البقاء الطويل الأمد للاحتلال، تجري من دون عوائق أو حواجز، وما بقي يدل على لا شرعيتها هو استمرار المقاومة الوطنية العراقية التي كانت من أهم الأسس التي أحبطت كل محاولات الاحتلال في اكتساب شرعية قانونية عملية.
إن انطلاقة المقاومة الوطنية العراقية بطريقة سريعة وقوية أذهلت إدارة جورج بوش، التي كانت تنتظر أن يقابلها العراقيون بالورود. تلك المفاجأة لم تحبط مراهنات تلك الإدارة وأحلامها. فهي كانت تعد كل الوسائل والسبل من أجل القضاء عليها أو التخفيف من وطأتها بالعمل على إضعافها.
فمنذ العاشر من نيسان، من العام 2003، تحولت معادلة الصراع على أرض العراق من مرحلة تقابل الجيوش النظامية التي تميل أرجحية نجاحها والانتصار بها إلى القوة الأميركية، إلى معادلة جديدة تقابلت فيها حرب التحرير الشعبية مع قوات الاحتلال النظامية. ومنذ ذلك التاريخ أصبحت المعادلة تُعرف بمعادلة الصراع بين المقاومة والاحتلال. وهذه المعادلة هي التي ستحسم الصراع على المدى الطويل لمصلحة المقاومة في حال تثبيت أدائها وضمان استمرارها.
في معادلة الصراع تلك، استخدمت المقاومة مخزونها النضالي وعزَّزت عوامل استمراره. وفي المقابل عزَّز الاحتلال الأميركي عوامل القضاء عليها، فكانت من نتائج محاولات الاحتلال ملايين الجرائم التي ارتكبتها قواته وعملاؤه.
ولكثرتها، وهولها وفظاعتها، يمكننا تصنيفها إلى عناوين رئيسية، وهي التالية:

تقصير الاحتلال بحماية المدنيين جريمة ضد اتفاقيات جنيف
-العمليات العسكرية لجيش الاحتلال ضد المدن والقرى: لقد شنَّت قوات الاحتلال مئات العمليات العسكرية الكبرى ضد المدن والقرى تحت ذرائع ملاحقة المقاومين، ممن كانت تطلق عليهم (العصاة)، أو المتمردين)، أو (الإرهابيين)، أو (الخارجين على القانون)، أو (فلول النظام السابق)، ولم تستخدم في وصفهم اسم (المقاومين) بل كانت تستخدم مصطلحات (تنظيم القاعدة)، أو أسماء تنظيمات إسلامية مما كانت ترتبط أسماؤهم في أذهان الرأي العام العالمي بـ(الإرهابيين). وقد أطلقت عليها أسماء متعددة مثل : (الأفعى المتسلقة)، و(القبضة الحديدية)، و(زئير الأسد)، ... وكان من نتائج تلك العمليات آلاف الضحايا المدنيين، وكان الأطفال والنساء والمسنين، هم معظم أولئك الضحايا.
وفي هذا الصدد وجَّهت المؤسسات الإنسانية الدولية ضد قوات الاحتلال الأميركي اتهامات بارتكاب جرائم حرب كانت قد وثَّقتها، وفي ملفات تلك المؤسسات مئات التقارير منها. ومما اتهمت به قوات الاحتلال استخدام الأسلحة المحرمة دولياً، كاستخدام (اليورانيم المنضَّب)، و(القنابل الفوسفورية)، والعنقودية، و.. و..
كان من أبرز العمليات الوحشية الأميركية تدمير مدينة الفلوجة، التي وإن ارتبط اسمها بفظاعة الجريمة الأميركية فإنها أيضاً ارتبطت بأنموذج البطولة التي سطرتها قوات المقاومة العراقية.
ومن أبرز تلك الحملات، مجازر (تلعفر)، و(الخالص)، و(القائم) ... و(بعقوبة)...
لقد ذهب ضحايا تلك الحملات الوحشية، ودائماً حسب إحصائيات محايدة، مئات الآلاف من الضحايا المدنيين، وما يشابههم من المعطوبين... وملايين الأرامل والأيتام...
-جرائم الميليشيات الطائفية والعرقية: لقد نمت في ظل الاحتلال الأميركي، عشرات التنظيمات الميليشياوية، ممن تقودها جماعات مذهبية وطائفية وعرقية، وأصبح لكل ميليشيا دولتها وأجهزتها الأمنية والعسكرية. وتحولت كل جماعة ميليشاوية إلى دولة ضمن الدولة.
ومن المؤسف أنه كان للنظام الإيراني دور كبير في مشاركة الاحتلال الأميركي في العدوان والاحتلال، وتشكيل ميليشياتها الخاصة التي تكاثرت في الشارع العراقي. وكان لها دورها الكبير والواضح في تهديم بنى الدولة العراقية، لأسباب بعضها يعود إلى ثارات حرب الثماني سنوات بين إيران والعراق. وبعضها الآخر هو ضرب آخر معاقل الدفاع عن الأرض العربية من تدخلات الجوار ومن أهمها أطماع إيران التي تريد أن تحتل موقعاً قوياً في صياغة الوضع السياسي والاقتصادي والأمني في المنطقة، والتي لا يمكنها احتلاله إلاَّ في حال إضعاف الشعور القومي العربي، واجتثاث من يعمل من أجل بناء وحدة عربية.
ولأن مشروع النظام الإيراني لا يمكنه النفاذ والتطبيق إلاَّ في بيئة تقسيم طائفي، أدخلت ميليشياتها من العراقيين الذين استقطبتهم في حرب السنوات الثمان (1980 – 1988) تحت حراب الاحتلال الأميركي، بالإضافة إلى إدخالها عشرات الآلاف من العناصر الأمنية الإيرانية، والبعثات الدينية. ولم تكتف السلطات الإيرانية بما كان لها من نفوذ في الأجهزة السياسية والعسكرية الأمنية للحكومات العميلة، بل أنشأت عشرات الأجهزة الميليشياوية التي ترتبط بها مباشرة. وقد استخدمت تلك الميليشيات في عدة اتجاهات، من أهمها: العمل على اجتثاث حزب البعث العربي الاشتراكي ومقاومته الوطنية من جهة، وتعميق الشرخ الطائفي بين المذاهب الإسلامية من جهة أخرى. وغالباً ما مارست تلك الميليشيات وسائل التطهير الطائفي لمناطق من العراق كانت قد وضعتها على لائحة ضمها إلى الفيدرالية الشيعية.
-جرائم الشركات الأمنية: إن الشركات الأمنية، بالأصل ابتكار رأسمالي حديث، وهي وجه من وجوه خصخصة القطاع العام، لمصلحة الرأسمال الخاص. كما هي وجه من وجوه سلب الدولة أهم واجباتها الوطنية التي تنحصر في توفير الأمن الوطني.
وهذه الشركات مملوكة من قبل القوى الرأسمالية الدولية أو الأميركية، أو تُعتبر هذه القوى المالك الرئيسي لها. وقد أكدت التقارير أن طوني بلير، الحليف الرئيسي لإدارة جورج بوش، مساهم فعلي في الشركات الأمنية البريطانية التي أُعطيت عقوداً للعمل في العراق. وأن شركة (بلاك ووتر) مملوكة من قبل المافيا السياسية في تلك الإدارة. وإذا كانت جرائم شركة (بلاك ووتر) هي التي كانت أكثر بروزاً إلاَّ أن هناك عشرات الشركات التي عملت في العراق. ويكفي أن أعداد العاملين فيها، للدلالة على حجم تأثيرها وفعاليتها، فاق الماية والخمسين ألف متعاقد مع تلك الشركات.
إن هذا العدد يفوق عدد قوات الاحتلال الفعلية، وكانت غاية حفظ أمن قوات الاحتلال وعملائها هي الهدف الأول، لذا ارتكب المتعاقدون معها عشرات الآلاف من الجرائم البشعة بحق العراقيين المدنيين، وكان مما يشجعهم على ذلك هو أن إدارة جورج بوش قد حمتهم من الملاحقات القضائية أمام المحاكم بإسباغ الحصانة عليها ومنع محاكمة أصحابها والمتعاقدين معها.
ولما لم يعد باستطاعة قوات الاحتلال التغطية على جرائم تلك الشركات، وأصبحت الحكومات العراقية العميلة في حرج كبير، ألغت قوات الاحتلال صورياً التعاقد شركة (بلاك ووتر) وهي أكثر تلك الشركات تأثيراً وإجراماً وأعادت التعاقد معها بأسماء أخرى.
نتائج الأعمال الإجرامية لقوات الاحتلال والميليشيات والشركات الأمنية
تقدر التقارير الصادرة عن المؤسسات الأهلية، كما مؤسسات الأمم المتحدة، ولا تنكرها قوات الاحتلال، أن حجم الجرائم وضحاياها بلغت الملايين، وهي على سبيل المثال، لا الحصر، شملت ما يلي:
-أحصى حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق عدد شهدائه الذين سقطوا في معارك المقاومة أو التصفيات الجسدية، فبلغ عددهم في آخر إحصائية له، ما يفوق الماية والخمسين ألفاً.
-القتلى المدنيون: أكدت الإحصائيات أن عدد القتلى من المدنيين فاق المليون قتيل. وقد بلغت الأرقام اليومية لشهور عديدة، ماية جثة في اليوم الواحد، وهي تعود لمن كانوا يتعرضون للخطف على الهوية ومن ثم يُقتلون ويُرمون في الشوارع. وقد مارست هذه الجرائم الأجهزة الأمنية للحكومة العميلة، كما مارستها الميليشيات الطائفية التي ترعاها الحكومة الإيرانية.
-ضحايا التهجير والتطهير العرقي والمذهبي في الداخل: ولكثرة الملاحقات وعمليات التطهير العرقي والمذهبي لغير المؤيدين للاحتلال أو عملائه أو عمليتهما السياسية، أخذ الملاحقون بتلك التهم يفتشون عن ملاذات آمنة لهم داخل العراق. وقد وصلت عدد الذين طالتهم تلك الحملات الملايين من العراقيين. وقد انعكست تأثيرات التهجير الداخلي خللاً كبيراً في البنية الديموغرافية للمجتمع العراقي، وربما وصلت تأثيراتها إلى تأسيس كانتونات تسيطر عليها النخب الطائفية أو العشائرية، الأمر الذي كان يؤدي إلى زيادة المنسوب في الاحتقان الطائفي والعرقي في داخل التجمعات السكانية المشار إليها.
-ضحايا التهجير إلى خارج العراق: لقد أدت عمليات الإرهاب التي كانت تمارسها قوات الاحتلال الأميركي، وتلك التي كانت تمارسها الأجهزة الحكومية العميلة، وأجهزة الأمن والمخابرات الإيرانية، إلى صعوبة ملاذات آمنة لمئات الآلاف من العائلات، التي أُرغمت على الهجرة إلى خارج العراق. وتشير التقارير المبنية على إحصائيات دولية إلى أن عدد أفراد هذه الفئة قد ناهزت الخمسة ملايين مواطن عراقي، توزعوا بشكل أساسي بين سورية والأردن، وجاء بعدهما اليمن ولبنان ومصر. وغني عن البيان أن نتذكر الآلام والمتاعب وحالات الفقر والجوع التي يتعرَّض لها ملايين الأشخاص، خاصة وأن الدول التي تأويهم عاجزة عن توفير حاجاتهم الضرورية من مسكن وطعام وتعليم وطبابة. . ,. . .

-تصفية العلماء وكبار الضباط: من أهم أسباب احتلال العراق كان تدمير بنيته الصناعية والثقافية، أي إعادته إلى ما قبل العصر الصناعي كما عبَّر (وارن كريستوفر)، وزير خارجية إدارة جورج بوش الأب، عن ذلك. لقد أسس النظام السياسي في العراق بنية نهضوية صناعية، وأهَّل من أجل ذلك عشرات الآلاف من العلماء وأساتذة الجامعات والاختصاصيين الذي فتحوا أمام العراق بوابة عصر الصناعة، وهذا يُعتبر تجاوزاً لخطوط الاحتكار الرأسمالي الحمر. إضافة إلى ذلك أهَّل بنية عسكرية اخترقت الخطوط الحمر في التصنيع العسكري من جهة، وعبأت جيشاً يؤمن بمقاومة الصهيونية الغاصبة لأرض فلسطين بشكل خاص، ومقاومة المشاريع الاستعمارية بشكل عام.
من أجل كل ذلك تعرَّض علماء العراق، وكبار ضباطه إلى حملة تصفية واسعة، شملت اغتيال ما لا يقل عن خمسة آلاف عالم في شتى الاختصاصات، وتهجير الآلاف منهم إلى خارج العراق، كما أن مراكز أبحاث بعض الدول، ومنها الولايات المتحدة الأميركية، قدَّمت إغراءات للمئات منهم، واستوعبتهم في مؤسساتها العلمية والبحثية.
-المعتقلون والأسرى ووسائل التعذيب: كان من أكبر جرائم العصر التي مارستها قوات الاحتلال الأميركي، هو أنها تحت ذريعة نشر الديموقراطية في العراق، تم اعتقال مئات الآلاف من العراقيين، ضاربة عرض الحائط كل اتفاقيات جنيف التي تنص على حقوق واضحة لأسرى الحرب، ووجوب حماية المدنيين. فلا هي اعترفت بحقوق الأسرى العسكريين، ولا السياسيين، ولا حتى حقوق المدنيين. ويكفي الإشارة إلى أنموذج سجن (أبو غريب) وفظاعة الجرائم التي كانت تُرتكب فيه. فكيف يكون الأمر لو أشرنا إلى وجود مئات المعتقلات الرئيسية في البصرة ومطار صدام الدولي، والسجون الفرعية في كل المدن والمحافظات حيث تتواجد مئات القواعد العسكرية؟
لم تكن معتقلات الاحتلال الأميركي وسجونه هي الوحيدة، بل كان لأجهزة الحكومات العميلة معتقلاتها وسجونها، وكذلك كل ميليشيا كانت لها سجونها أيضاً. ولا نستثني أجهزة الأمن الإيرانية التي كانت مسؤولة عما يماثل ما سبق وصفه.
أما عن ظروف المعتقلات والأسرى فهناك كم كبير من وسائل الاعتقال التعسفي والتحقيق القاسي ووسائل التعذيب، وهو ما يستهلك من دون أية مبالغة عشرات المجلدات الوصفية، ويكفي الإشارة إلى ما أعلنه عدد من المؤسسات التي تعنى بحقوق الإنسان عن أن العراق يتعرض إلى (مجزرة ديموقراطية) في انتهاك حقوق الإنسان في العراق.
-المحاكمات الصورية وأبرزها محاكمة صدام حسين وإعدامه: غاب القضاء في العراق تحت الاحتلال وبلغت درجة غيابه دون مرتبة الصفر. وقد حلَّ قانون شريعة الغاب بكل معاني الكلمة محل القانون الذي يحمي حقوق المواطنين، وكان من أهم مظاهر الفلتان القانوني التالية:
-كلَّفت قوات الاحتلال محاكم برداء عراقي شكلي محاكم لإخراج الأحكام المسبقة التي اتخذتها بحق من أرادت إحالتهم إلى المحاكم. وكان أكثرها وضوحاً المحكمة التي شُكِّلت لمحاكمة الرئيس صدام حسين وعدداً من رفاقه. فكانت النتائج هو أحكام بالإعدام صدرت بحقهم. وهي تتابع جلساتها المسرحية لمحاكمة عدد آخر من كبار المسؤولين العراقيين.
-للحكومة العميلة محاكمها الخاصة التي عُيِّنت من أجل الانتقام من أخصامها السياسيين والأمنيين.
-لكل ميليشيا محاكمها الخاصة التي تصدر أحكامها المسبقة والسريعة على أخصامها المذهبيين والعرقيين، وفي أحيان كثيرة تنفِّذ فرقها الخاصة أحكاماً بالتصفية الجسدية حتى من دون اعتقال. وقد اشتهرت سجون الميليشيات بوسائل توصف بأنها أكثر من وحشية حين تقتل بعض المعتقلين لديها بواسطة المثقاب الكهربائي قبل أن ترمي جثثهم في الشوارع.

الفساد الإداري والمالي
عرَّفت التقارير الصادرة عن مؤسسات محايدة أن العراق، بعد الاحتلال الأميركي، احتل المرتبة الأولى في استفحال الفساد والسرقة على كل المستويات، ومن بعض معالم الجرائم العامة، استطعنا أن نرصد العناوين العامة التالية:
-تدمير البنى التحتية للاقتصاد العراقي: بغض النظر عن الهدف الأساسي لقوات الاحتلال، لأنها تنفذ استراتيجية تجار الحروب، وهذا الهدف هو أن عليها أن تهدم ما هو قائم من بنى تحتية على شتى الصعد ليكون الهدم مبرراً للقيام بما أسموه تزويراً (إعادة الإعمار)، وهي الفرصة التي تتيح لشركاتها الحصول على عقود البناء. والاستفادة من الأرباح الطائلة التي تجنيها من تلك العملية. ولهذا لم تسلم أي منشأة حكومية، أو أي منشأة خاصة، من عملية الهدم والتدمير. وذلك يشمل حتى المؤسسات والمنشآت والآليات العسكرية. وقد تم تفكيكها قبل تدميرها لبيع معظم تجهيزاتها خردة من المعادن بأسعار مغرية لتجار المعادن أو لتجار الحروب.
-تدمير البنى العسكرية: مما نقلته التقارير أن الثكنات العسكرية تعرضت للنهب. وتذكر التقارير على سبيل المثال، أن الدبابة الجديدة التي لم تُستعمل والبالغ سعرها المليون دولار، كانت الميليشيات تفككها أو تقصها وتبيعها كحديد بما لا يتجاوز الأربعين ألف دولار.
هذا التدمير والنهب لم يبقِ حتى للتشكيلات العسكرية والأمنية التي أنشأها الاحتلال ما تستطيع أن تستخدمه، الأمر الذي أرغم المؤسسات التي تخضع لإرادة المحتل أن توقع عقوداً لشراء أسلحة خاصة بها. وحتى عقود الشراء كان يعتريها عيوب المبالغة بالأسعار ودفع المبالغ الطائلة للسماسرة، وقد أكدت بعض التقارير إلى أن السلاح الذي كانت تشتريه تلك المؤسسات كان يختفي من المخازن على احتمال أنه بدوره كانت تتم سرقته وبيعه في السوق السوداء.
-نهب النفط وتهريبه: لقد كانت المنشآت النفطية، ومنها وزارة النفط، هي المؤسسة الوحيدة التي لم تتعرض للتدمير أو التخريب. إلاَّ أن تنظيم استخراجه وبيعه هو ما كان عرضة للتلاعب والهدر والسرقة. وتشير التقارير إلى أن عدادات الانتاج قد خُرِّبت لمنع مراقبة ما يتم إنتاجه، والسبب هو العمل على تهريبه من دون رقابة أحد. وكان يتقاسم عائدات النفط المهرَّب جهات متعددة، وهي على التوالي:
-القيادات العسكرية العليا لقوات الاحتلال، طبعاً تحت غطاء حماية سياسية ممن يشكلون امتداداً لهم في الإدارة الأميركية.
-مافيات محلية للنفط شكلت فصائل عسكرية ميليشياوية لحماية عمليات التهريب. وهذه الميليشيات مرتبطة مع مراكز قوى في الحكومة العميلة.
-الميليشيات المرتبطة مع الحكومة الإيرانية كانت واسطة لتصدير النفط المهرَّب إلى إيران. كما أن إيران مارست عمليات السطو على عدد من آبار النفط في جنوب العراق.
-سرقة مليارات الدولارات: لقد بلغ حجم السرقات من الأموال المنقولة، التي زعمت الإدارة الأميركية أنها خصصتها لعملية إعمار العراق، بما يوازي الماية والعشرين ملياراً من الدولارات. وهذه المسألة تخضع حالياً لتحقيقات تقوم بها الإدارة الأميركية الجديدة. وستكشف المراحل اللاحقة عن جرائم أكثر من عمليات الفساد والسرقة.
-مظاهر الغنى الفاحش لدى القيادات العراقية المتعاونة مع الاحتلال: ونقلت التقارير معلومات عن نشاطات مالية يقوم به هؤلاء. ومما يُشار إليه أنهم يقومون بشراء العقارات، وتأسيس المصانع، وجمع الأموال في المصارف. وكل ذلك يتم عبر تهريب السرقات إلى خارج العقارات كما لو أنهم يحسبون نهايتهم عندما يهربون من العراق بعد الانسحاب الأميركي في العراق. وقد تركزت معظم أنشطتهم التجارية في دول الخليج العربي، ومن أهمها قطر والإمارات. هذا ناهيك عن الدول الأجنبية ومن أهمها بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا.
أما المسؤولين الصغار، كأمثال من يُسمون بأعضاء مجلس النواب، فهم يتم إسكاتهم بإغداق الرواتب الكبيرة عليهم. ومن مظاهر ذلك، أنه يُصرف لكل منهم رواتب العشرات من الحمايات الأمنية. . .
أما رؤوساء الميليشيات فهم ممن أُتخموا بالعائدات المالية نتيجة تهريب السلع وممارسة التجارة غير النظيفة بشتى الوسائل والطرق. كما نضم إلى ذلك عائدات التشبيح والخوات على شتى أصنافها وأنواعها. . . ولعلَّ المرور على ترويج المخدرات والنفط المسروق والأدوية الفاسدة وصفقات المواد الغذائية الملوثة والفاسدة وابتزاز أهالي من يتعرضون للخطف، و. . . , و. .
خلاصة عامة
عندما احتلت الولايات المتحدة الأميركية العراق إنما جاءت لتستكمل مشروع الهيمنة على أقطار الوطن العربي تطبيقاً لاتفاقية سايكس بيكو بواسطة القوة العسكرية المباشرة بعد أن أسقطت أميركا كل من كان ينافسها على الحصول على موطئ قدم في المنطقة. وقد موَّهت خطتها بشعارات فضفاضة من الديموقراطية والعيش الكريم خدعت الكثيرين إلى أن تم كشف النقاب عنها من داخل أميركا وبريطانيا بالذات.
لم تكن الولايات المتحدة الأميركية لتجرؤ على القيام باحتلال العراق لو لم تتحول دول العالم قاطبة إلى مستوى من الضعف والاستكانة، الأمر الذي أغرى أميركا للقيام بما قامت به. أما الآن، وبعد أن أثبت الشعب العراقي بقيادة مقاومته التي أسسها وقادها حزب البعث العربي الاشتراكي قدرته على إخراج أكبر القوى العسكرية في العالم من أرضه وفرض عليها الاعتراف بضرورة الانسحاب، أصبح من غير الجائز على دول العالم إلاَّ أن تدرس تلك التجربة بكل جدية من أجل لجم عدوانية الرأسمالية العالمية من التمدد العسكري خارج حدودها. وهذا يدفعنا إلى استحضار تجربة (منظومة دول الحياد الإيجابي) في الستينيات من القرن العشرين، المنظومة التي كانت القطبية الثنائية (الاتحاد السوفياتي و الولايات المتحدة الأميركية) تحسب لها حساباً وتحد من نزعاتها التوسعية العسكرية. فهل من الممكن أن تشكل منظومة دول أميركا اللاتينية أن تستفيد منها في رسم صورة العالم في المستقبل القريب؟
وخلافاً لكل ما كان سائداً من وسائل التضليل التي سادت لعشرات السنين، ولا تزال، الوسائل التي تغطي على حقيقة وجود دولة (إسرائيل) وتعترف لها بحق الوجود في الوقت الذي قامت به على عامل اغتصاب أرض ليست لها لأسباب دينية، بينما حقيقة الهدف الكامن من وراء زرعها في المنطقة العربية لم تكن أكثر من هدف استعماري رأسمالي.
كما أنه وخلافاً لكل ما كان يُشاع من أن شوفينية يتميز بها القوميون العرب، الداعون إلى ترجمة الحقيقة القومية لوحدة عربية سياسية، أن يتأكد من كان يتبنى هذا الإعلام من أن القومية العربية لا يمكن إلاَّ أن تكون قومية إنسانية تنشد بناء العلاقات المتكافئة مع كل دول العالم.
وخلافاً لكل وسائل الخداع التي انطلت على نسب كبيرة من الرأي العام العالمي من أن حزب البعث العربي الاشتراكي هو حزب شمولي يطبق الديكتاتورية في قيادة المجتمع العربي، أصبح من الضروري أمام الرأي العام المعادي للرأسمالية والأمبريالية أن ينفتح لمعرفة حقيقة مبادئ هذا الحزب بعد تجربته في السلطة أولاً والمقاومة ثانياً. تلك المبادئ التي تتلخص بشعاراته الثلاث: الوحدة والحرية والاشتراكية.


7-بانتظار السابع من حزيران المقبل
دعوة للتنمية الوطنية والاجتماعية والاقتصادية
ونبذ لتأجيج الغرائز الطائفية واستفحال المال السياسي
افتتاحية طليعة لبنان الواحد عدد نيسان 2009
عندما يختار الشعب ممثليه في الندوة النيابية فإنما كي لا يرفعوا صوته من على منابر تلك الندوة فحسب، بل ليعملوا على تشريع حقوق الشعب بقوانين نظرية وتنفيذية أيضاً.
تلك بديهية لا لبس فيها ولا التباس. وكل من لا يستطيع من ممثلي الشعب أن ينجح في ذلك فعليه أن يكاشف ناخبيه بالأسباب التي أعاقت قيامه بواجباته تجاههم. أي أن يكون صادقاً ممتثلاً لتطبيق شروط العقد الأخلاقي الذي التزم به أمامهم.
وكما يتحمل ممثلو الشعب مسؤولية احترام العقد، على الشعب الذي اختارهم أن يكون مسؤولاً أيضاً عن اختياره، وأن يسائل المقصرين ويحاسبهم عن أي تقصير.
وبين مسؤولية النائب تجاه منتخبيه، وحق الشعب بمساءلة من يمثلونه، نرى أن طرفيْ عملية الانتخاب يقعان تحت غربال النقد والتحليل. وكل منهما يتحمل مسؤولية في ذلك: النائب الذي يقصِّر عليه أن يدفع ثمن تقصيره، والناخب عليه أن يدفع ثمن السكوت عن التقصير. خاصة وأن هذه المعادلة كانت، ولا تزال، تربط العلاقة بين النائب والناخب، فالأول يقصر ولا ينال الحساب العادل، والثاني يقصر بالمحاسبة ويتغافل عنها.
السابع من حزيران على الأبواب، فإذا وقعت نكسة بإعادة التجديد للنائب الذي نكث بعهوده ووعوده، فسيتحمل وزرها الناخب وليس المنتخب لأنه لُدغ من جحر ألف مرة. فالناخب هو صاحب المصلحة الأولى في عملية الاقتراع، مما يحتِّم عليه أن يكون أميناً لمصلحته وأن لا يخونها بإعادة التجديد لمن لم يكن أميناً لوعده ولعهده.
جميل أن تكون البوصلة النظرية ماثلة في ذاكرة الناخب، ولكن الأجمل منها أن يقوم الناخب باستخدامها أمام صندوقة الاقتراع.
وجميل أن يمارس الناخب سيف حقه بالاختيار الديموقراطي كل أربع سنوات، ولكن الأجمل منه أن يُسفر هذا الحق عن سيف يُشهر ليُستخدَم.
ففي عملية الانتخاب القادمة، وعلى وقع ترديد شعارات من مختلف الكتل تزعم أنها المنتظر الموعود لخلاص اللبنانيين، كما على وقع حالة الاحتقان المذهبي والمناطقي التي لفَّت الشريحة الكبرى من اللبنانيين، لا نرى ما يُنبئ بالخير. لكن هذا لا يجب أن يضعنا على حافة اليأس، لأن عمليات التغيير تبدأ رحلة الألف ميل بالخطوة الأولى. وعلينا أن نخطوها.
ما هو مفهومنا للخطوة الأولى، وكيف نبتدئ بها؟
إذا كان الرأس المطلوب تغييره هو رأس الطائفية السياسية أولاً، والبديل عنه يمكن الحصول عليه بالعمل من أجل بناء نظام علماني ثانياً، فالمهمة قد تستغرق أجيالاً طويلة ترافقها عملية تغيير ثقافي دؤوب، وهي مهمة لن يستطيع حزب واحد أو تيار واحد أن يفي بمستلزماته، بل هي مهمة كل القوى والأحزاب والشخصيات والمؤسسات المدنية التي يجمعها الإيمان بالفكر الوطني الذي لا يرى حلاً لبناء دولة تتساوى فيه حقوق المواطنين وواجباتهم إلاَّ بتغيير بنيوي لمفهوم الدولة الطائفية ونقلها إلى دائرة مفهوم الدولة الحديثة. تلك المفاهيم التي جاءت رداً وحلاً للمعاناة التاريخية الطويلة من عوامل التمييز واللامساواة واللاعدالة.
فنظام الطائفية السياسية في لبنان كان وليداً شرعياً لمراحل التناحر الطائفي والمذهبي التاريخي، والطائفية والمذهبية كانت، ولا تزال، تشكل البنية الأساسية في ثقافتنا الشعبية بحيث استفادت منها النخب الوصولية في الطوائف، واستغلتها لاستخدامها في وجه خصومها السياسيين تحت ذريعة من هو الأقدر على حماية الطائفة في مواجهة الطوائف الأخرى، وهو السبب الأساسي الذي أنتج الكثير من أعراف السياسة الغريبة والعجيبة والتي لا علاقة لها بالتشريعات الوطنية الجامعة.
ولأن عملية التغيير الثقافي طويلة، وتتطلب الصبر والعمل المستمر، نرى مرحلياً، أن لبنان دخل، منذ فترة ليس بالوجيزة، مرحلة استخدام ليس تأثير المال السياسي فحسب، بل تأثير المال الطائفي أيضاً. فإغداق المال الطائفي راح يعيث تمزيقاً وتفتيتاً بين التعدديات الطائفية، فحلَّت المؤسسات الطائفية حتى على الصعد الإنسانية مكان المؤسسات الوطنية، وأخذت تعمق حالة الانقسام الوطني، حتى لتكاد حبة الإسبيرين تكتسب هوية طائفية. والأخطر من ذلك راحت تلك المؤسسات تمهد لترسيخ أزمة بطالة مقنَّعة من خلال اتساع ظاهرة المساعدات النقدية التي تُصرف على عشرات الآلاف من الشبان والشابات، في ظاهرة لافتة وخطيرة، سيعرف اللبنانيون تأثيراتها السلبية عندما تُجفَّف مصادر التمويل من الخارج، وهي واصلة إلى ذلك لا محالة.
فإذا كانت التنظيمات تكفي مؤقتاً المنتسبين إليها، فإن عشرات الآلاف من الشباب الآخرين الذين لم تُنعم عليهم المساعدات النقدية قد تحولوا إما إلى عاطلين عن العمل يتآكلهم الجوع واليأس، أو إلى الغربة لتأكلهم وتنتزعهم من بين أحضان أهلهم ومحبيهم.
فعلى أبواب الانتخابات القادمة على حصان التحريض الطائفي والاستقطاب المالي لا نرى ما يمكن إثارته، كصرخة مؤقتة نحذِّر فيها من مغبة ما يجري إلاَّ الصراخ بالفم الملآن: أنقذوا لبنان، وشباب لبنان، واقتصاد لبنان، من مخاطر الحلول المؤقتة والسريعة، وانتقلوا إلى البحث عن عناوين التنمية بشتى وجوهها وأشكالها، ابتداء من تفعيل تنمية الشعور الوطني والدور الوطني والتربية الوطنية، مروراً بالتنمية الاجتماعية والإنسانية، وانتهاء بالتنمية الاقتصادية.
إن مهمة التنمية الاقتصادية يجب أن تحتل أولوية مطلقة في اهتمامات الشباب سواء أولئك الذين يجدون وسيلة معيشتهم من المساعدات المؤقتة، أو الشهرية، أم الآخرين الذين لا تشملهم تلك النعم، حيث عليهم جميعاً أن يرفعوا شعار التنمية من خلال تعزيز دور الصناعة والزراعة، ونشر سلاسل من المصانع في شتى المناطق اللبنانية خاصة البعيدة عن العاصمة، أي المناطق المحرومة التي هاجر أبناؤها وتركوها، وهم لا يعودون إليها، هذا إذا عادوا، فلكي يقضوا فيها وقتاً قصيراً يشكل لهم استراحة مؤقتة. ونشير هنا إلى إعطاء الأولوية للمناطق المحرومة تاريخياً، ومنها وفي أولوياتها مناطق الأطراف التي تشمل كلاً من الجنوب والبقاع والشمال.
وإذا كنا نخص الجنوب الآن فإنما كي تشكل مشاريع التنمية الاقتصادية، صناعة وزراعة، فيه عاملاً أساسياً من عوامل الصمود الشعبي، وهو الصمود الأساس الذي يجعل من الجنوبي متمسكاً ليس بأرض محروقة ومهجورة بل بأرض توفر له سبل العيش الكريم والدائم، ولكي لا يبقى الجنوب وبيوت الجنوب محطة استراحة فقط يتركها أبناؤها حينما تنتهي إجازاتهم.
وإذا كانت المقاومة المسلحة تحرر أو تحمي من عدوان وتوسع صهيوني، فإنما مقاومة حالات الهجرة إلى داخل الوطن أو خارجه، هي الوجه المقاوم الأكثر إلحاحاً في مرحلة ما بعد التحرير من الاحتلال.
وإذا كان التحريض الطائفي والمناطقي يشكل مادة ضرورية للقوى المنخرطة في العملية الانتخابية، فحبذا لو كان خطاب مقاومة البطالة هو المطالبة بإقرار مشاريع التنمية في المناطق المحرومة هو الخطاب الذي يرفعه المواطن اللبناني في موسم الانتخابات أو غيرها من المواسم، ليشكل الصوت الدائم والمستمر في الخطاب الذي يبني من المواطن فرداً منتجاً، وليس فرداً ينتظر المساعدات التي لن تسمن من غوائل الجوع عندما تجف منابع التمويل من داخل ومن خارج.
فهل ستجد صرختنا مكانها في موسم الانتخابات القادمة؟

8-هل يُنبئنا العرَّافون العرب، القارئون بالفنجان الإيراني:
لماذا ساعدت إيران باحتلال العراق؟
ولماذا تطالب بالانسحاب منه؟
في 20/ 4/ 2009

في 20/ 4/ 2009، ومن على منبر مؤتمر الأمم المتحدة حول العنصرية في جنيف، طالب الرئيس الإيراني أحمدي نجاد الولايات المتحدة الأميركية بالانسحاب من العراق!!!
وكان محمد علي أبطحي نائب الرئيس الإيراني للشئون القانونية والبرلمانية قد أعلن في محاضرة ألقاها في ختام أعمال مؤتمر "الخليج وتحديات المستقبل" الذي ينظمه مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية سنوياً، كان قد أعلن في ختام أعمال مؤتمر عقد بإمارة أبو ظبي مساء الثلاثاء في 13-1-2004، قائلاً: إن بلاده قدمت الكثير من العون للأمريكيين في حربيهم ضد أفغانستان والعراق، كما أكد أنه " لو لا التعاون الإيراني لما سقطت كابول وبغداد بهذه السهولة".
ماذا تغيَّر في المشهد السياسي الإيراني؟
هل صحا ضمير إيران على أيدي أحمدي نجاد بعد أن لوَّثه محمد علي أبطحي؟
فإذا كان ذلك كذلك، فيجب على نجاد، بالإضافة إلى دعوة أميركا بالانسحاب من العراق، أن يعترف بالخطأ الإيراني بمساعدة أميركا باحتلال العراق، ويعتذر من العراقيين الذين دُمِّرت دولتهم بكل ما تعنيه الكلمة من تدمير. كما كان من الواجب عليه أن يعترف، من على منبر لنبذ العنصرية، بأن الولايات المتحدة الأميركية ارتكبت أقذر أنواع الجرائم العنصرية بحق العراقيين وأن يطالبها بالتعويض الكامل عنها.
ولأن إيران كانت شريكاً كاملاً بتلك الجريمة لأنها لم تسكت عنها فحسب، بل لأنها شاركت فيها أيضاً عبر ميلشياتها التي دخلت إلى العراق عبر الحدود الدولية بين إيران والعراق، وعبر أجهزة مخابراتها التي لا تزال حتى الآن ترتكبها، أن يعلن بأن إيران نتيجة الخطأ الذي ارتكبته عليها أن تعوِّض على العراقيين ليس لقاء ما نهبته من ثروات العراق فحسب، بل عما ارتكبته ميليشياتها وأجهزة مخابراتها من جرائم رهيبة أيضاً.
وإذا كان المثل يقول للجاني "من فمك أدينك" فهل يجرؤ أصدقاء إيران من العرب أن يستندوا إلى تصريحات نجاد وقبله تصريحات محمد علي أبطحي ليعلنوا أنهم يوجهون الإدانة لإيران استناداً إلى التصريحين اللذين خرجا من فم المسؤوليْن الإيرانييْن؟
وهنا، نتوجه ليس إلى النظام الإيراني بالمساءلة، بل إلى محامي الدفاع عنه، الذين يعملون على تبرئته من جريمة كاملة العناصر والأركان، ومن الذين يدافعون عنه سواءٌ أكان ظالماً أم كان مظلوماً، فنقول لهم:
-نعم إيران قامت بمساعدة المقاومة في لبنان وفلسطين، وهي شهادة لصالحهم. ولن نقول إن المساعدة لم تكن إلاَّ مقدمة للحصول على براءة مسبقة لما سترتكبه من جرائم، أو ما تعمل للحصول عليه من أثمان تجتثها من جثة العراق، وبالتالي من جثة الأمة العربية.
-ولكن عندما وعد الله سبحانه وتعالى الناس قائلاً: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره). فنقول لمحامي الدفاع عن النظام الإيراني أن يستندوا إلى حكم الله في محاسبة ذلك النظام ومساءلته: كما اعترفوا بمثقال الخير الذي قدمته إيران للمقاومة في لبنان وفلسطين، عليهم أن يحاسبوها لقاء كل مثقال من جريمة الاحتلال الأميركي للعراق وأفغانستان، لأنهم أسهموا فيه وشاركوا في كل جرائمه. كما ندعوهم ليس لاتباع ما قاله أبو نواس، الشاعر العباسي وهو مخمور: "خير ذا بشر ذا فإذا الله قد عفا".
لا يسعنا توجيه التهمة للنظام الإيراني ما دام بعض العرب يتسترون على الجرائم التي يرتكبها في العراق ويعطونه براءة ذمة عن جرائم لم يستطع هو إلاَّ أن يعترف بها، ويفخر بها أيضاً.
ولا يسعنا إلاَّ أن نقول للعرَّافين العرب، أنهم لم يجيدوا قراءة الفنجان الإيراني، ولم يفسروا لنا لماذا شارك النظام الإيراني باحتلال العراق وعاث به فساداً جنباً إلى جنب الاحتلال الأميركي، كما أنهم لم يفسروا لنا لماذا يطالب النظام المذكور بالانسحاب الأميركي من العراق؟
كما لا يسعنا إلاَّ أن نقول إلى النواسيين (الذين يقلدون فقه أبي نواس) في هذه الأمة: بين مساعدة إيران لأميركا باحتلال العراق، ودعوتها للانسحاب منه، مساحة لاستغفال عقولنا للمرة الألف. وندعوهم بالتالي إلى صحوة من ضمير، فحكم التاريخ لن يحمي المغفَّلين.


9-افتتاحية طليعة لبنان الواحد عدد أيار 2009
هل ينتقل لبنان من مأوى يتسول الصدقات
إلى وطن يأكل أبناؤه مما يزرعون ويلبسون مما ينسجون؟
غريب وضع هذا الوطن سواءٌ أكان من زاوية محاولة فهمه سياسياً أم اقتصادياً أم اجتماعياً.
إنه لأمر محير أن تفهم لبنان كدولة، أو أن تصنفه في ملاك الدول الحقيقية، أي الدول التي تحوز شروط مفاهيم دولة. فهل يمتلك هذا البلد مقومات الدولة تلك؟
نحن نعرف أن من أهم واجبات الدولة نحو مواطنيها أن توفِّر لهم سبل العيش الكريم من خلال خطة اقتصادية واجتماعية ترتكز قواعدها على أسس ثابتة من برامج التنمية الانتاجية الصناعية والزراعية، التي توفر لهم فرص العمل، والسلعة الخدمية. ومن شروط التنمية أن تقوم على مفاهيم توفير حياة اجتماعية ثابتة في مواردها وثابتة في أهدافها في مناحي التحصيل العلمي والتربوي، كذلك توفير الضمانات الصحية. وفي ظروف استثنائية، كالتي يعيشها لبنان في الصراع مع العدو الصهيوني، توفير وسائل حمايتهم ضد الاعتداءات العسكرية، والتعويض عن الأضرار الناتجة عن تلك الاعتداءات.
فالدولة اللبنانية إذن يجب أن تقوم على مرتكزين أساسيين: حماية سيادة اللبنانيين الوطنية وحماية استقلالهم الاقتصادي. ولن تكون دولة بمعنى مفهوم الدولة إذا اعتنت بجانب منهما على حساب الآخر.
وإذا حاولنا أن نحاكم وضع لبنان على هذه الأسس، فماذا نجد؟
في جانب حماية السيادة الوطنية تصدى اللبنانيون بكفاءة وتضحية للدفاع عن سيادتهم. ولكن لم يحم أولو الأمر المرتكز الاقتصادي بمسؤولية وحسن بصيرة. لذا شاهدنا في لبنان، بعد العدوان الصهيوني في تموز من العام 2006، أن الحكومة اللبنانية فتحت باب استدراج الصدقات، فدخل بعض العرب من باب التبرع لصندوق إعادة إعمار ما هدمه العدوان ليس من منطلق الواجب القومي بأكثر منه في باب النفعية السياسية السائدة في صراع الخارج للاستيلاء على لبنان، فتبرَّع من تبرَّع بمبالغ نقدية، وتبرع من تبرع بمبالغ عينية. وبها استطاع لبنان أن يعيد ما دُمِّر. هذا عدا ما صرفته بعض الجهات الإقليمية من باب النفعية ذاته من أجل إيواء من خسروا منازلهم.
وإذا كانت باب الصدقات السياسية خطيراً فإن الأخطر منه، هو أن أحداً ممن يتولون أمر اللبنانيين، أقلية وأكثرية، لم يهتم بمرتكز حماية الاستقلال الاقتصادي والسيادة الاقتصادية، بل أغرقوا لبنان واللبنانيين بمزيد من الارتهان للمال السياسي القادم من الخارج العربي والإقليمي.
إنه لمن المذهل أيضاً، أن يساور بعض اللبنانيين الندم لأن بيوتهم لم تدمرها آلة العدوان الصهيونية، والسبب من وراء ذلك، هو ما رأوه من إغداق تجاوز التعويض عن الخسائر الفعلية لبعض الذين نال العدوان من منازلهم وأملاكهم إلى كم ربحوا من وحدات سكنية جديدة لم يكونوا ليحلموا بالحصول عليها من دون العدوان.
لقد ساد الشعور آنذاك، أن شراء سكوت اللبنانيين عما دمَّره العدوان قد أتى أُكُله، وراح اللبناني يحصي كم خسر وكم سيحصل عن ثمن لهذه الخسارة، أو كم سيحصل من زيادات عن الأضرار الفعلية. كما ساد الشعور بأن ما تمَّ دفعه لم يكن لـ «وجه الله»، وإنما لكل حسنة أو صدقة ثمناً، والثمن هو شراء شبر من سماء لبنان وأرضه وقراره السياسي والأمني.
وبعد الاعتداء الصهيوني في العام 2006، وبعد أن كاد «السابع من أيار» من العام 2008، يأكل الأخضر الوطني، أو ما بقي من ذلك الأخضر، لولا مطفأة «مؤتمر الدوحة»، استفحل دور المال السياسي استكمالاً للحصول على ما يقابله من الأثمان المأمولة، من خلال تقديمات «المال الانتخابي».
وهذا هو لبنان في مرحلته الحاضرة، مرحلة الحصاد الانتخابي.
وقبل فصل تبن البيدر الانتخابي عن قمحه، راح الأفرقاء المتسابقون، باسم فاعلي الخير من الخارج، على الحصول على أكثرية نيابة تتيح للحاصل عليها تشكيل حكومة لبنان القادمة، فراحوا يبذرون الكثير من سماد هذا المال لعلهم به يحصلون على حبوب القمح الوفير لتقديمه قرباناً للذين قدموا الصدقات للمأوى اللبناني من الذين لم تبق لهم دولتهم سبلاً للعيش من كدح اليمين. بل راحت بمن يمسكون بقرارها تستدر عطف المحسنين من المتربصين بشبر من جنته وسمائه.
في قراءة هذا المشهد لا بدَّ من الوقوف على حقيقة أبعاده وأصوله وأهدافه ووسائله، فكيف نقرأ المشهد على حقيقته؟
في النظام البورجوازي يصرف البورجوازيون مالهم في المعارك الانتخابية من أجل الوصول إلى البرلمان.
وفي النظام الرأسمالي يصرف أرباب رأس المال من أرصدتهم الخاصة لإيصال ممثليهم إلى الندوة النيابية لكي يشرِّعوا ما يحفظ مصالحهم.
أما في لبنان، فلا بورجوازية ولا ما يحزنون، لأن الصناعة هي أكثر القطاعات تخلفاً وأقلها إنتاجاً.
كما أنه لا رأسمالية، ولا ما يحزنون، فالقطاع المصرفي في لبنان، وهو من أهم معالم الرأسمالية، لا يقتات على قوة رأس المال اللبناني، وإنما هو قطاع مصرفي يؤدي خدمات لكل أنواع الرساميل القادمة من الخارج.
فلا الطبقة البورجوازية بخير، ولا الطبقة الرأسمالية بخير أيضاً، وفي الوقت نفسه يُغدق المال الانتخابي بكرم لا مثيل له، فمن أين هو مصدر هذا المال إذاً؟
وللجواب على السؤال لن يبذل أحد جهده لمعرفة ذلك، بل الجميع يعرفون أن مصدره هو من الخارج. والخارج الذي له امتدادات في تيارات البنية السياسية اللبنانية تحديداً. وهؤلاء وأولئك ينشطون في الإنفاق على أيتام المأوى من الذين لا مصدر شرعياً لقوتهم وقوت أطفالهم، ولا مصدر شرعياً لثمن حبة الدواء التي يحتاج إليها مرضاهم، كما لا مصدر شرعياً لثمن كتب أطفالهم وأقساط مدارسهم.
أما أيتام المأوى، فليس من مصدر لتوفير الطمأنينة لاستمرار حياتهم إلاَّ مصدر الهبات والصدقات. فوقفوا يصفقون لهذا أو ذاك من المحسنين. المحسنون الذين فتحوا جيوب المال الانتخابي لتوفير معظم نفقات الأيتام. هذا يدفع بدلاً للعاطلين عن العمل من الشباب اليافع ليأكلوا مستقبلهم بعد أن يعودونهم على التسول والوقوف على أبواب المحسنين. وذاك يوفر فاتورة الطبابة لطالبيها. وذياك يعرض صوته للبيع لمن يدفع الثمن.
ومن هذا إلى ذياك يتحول الشعب اللبناني، بأكثريته الساحقة، إلى متسول يهتف بحياة أصحاب الخير والأيادي البيضاء. هؤلاء يدفعون وأولئك يصفقون. أولئك يبيعون من كرامتهم الإنسانية، وهؤلاء تحولوا إلى وسطاء يتاجرون بدم الشعب وكرامته.
لم يرف جفن أي من الشاري والبائع، فحولوا لبنان إلى دولة لا تمتلك مواصفات الدولة، وبنوا دولة عجيبة التركيب غريبة الإدارة. وبين الشاري والبائع تضيع دولة لبنان وتضمحل، ويتركنا الوضع الراهن أمام حيرة من أمرنا. ونحن بالفعل أمام تساؤلات الحيرة وعلامات الاستفهام والتعجب لنرفع صوتنا ونهتف من حناجر يكاد اليأس يخنقها، لنقول:
متى يفيء أولو الأمر إلى رشدهم ليقضوا على مفاهيم دار الأيتام وينتقلوا بلبنان إلى مفهوم دار الوطن / الدولة التي يأكل أبناؤها مما يزرعون ويلبسون مما ينسجون؟
وإلى متى يفيء الناخب إلى رشده ليطالب بالانتقال إلى بناء الدولة التي توفر على أبنائها ذل السؤال والاستجداء. وتحول الوطن من ملجأ للأيتام الذين ينتظرون الصدقات الموبوءة بالغائية والنفعية الدولية أو العربية أو الإقليمية، إلى الوطن الذي يبنيه العامل اللبناني بكده وجهده الذي يموله لبنانيون، والفلاح بعرق جبينه في أرضه التي تآكلتها عاديات الإهمال والنسيان، ونامت في أدراج دور الصدقات والحسنات، أرضاً بوراً جدباء وقاحلة؟
وإلى متى الانتظار حتى يتكامل شرطا بناء الدولة من أجل حماية سيادتها الوطنية من عدوان الخارج مع حماية سيادة اللبنانيين لقمة عيشهم وحبة دوائهم؟


10-إزدحام سير عربي رسمي
على أبواب محمية المنطقة الخضراء في بغداد
أيار 2009
أطلق المثل على كل من يدخل لعبة في الوقت الضائع، وليس له أمل في النجاح، عبارة تقول (الله يطعمك الحج والناس راجعة)، فهل ازدحام السير الذي يعيق حركة الوفود العربية الناشطة إلى العراق المحتل إلاَّ نوعاً من الحج في غير أوقاته؟ وإلاَّ نوعاً من الحج إلى غير وجهته الصحيحة؟
لقد أعلن أوباما، الرئيس الأميركي الذي نجح بفعل أصوات الأميركيين الضاغطين للانسحاب من العراق، انه سينسحب من العراق، ونظَّم جدولة لانسحابه، وزار المنطقة الخضراء في بغداد خلسة ليس إلاَّ ليضع عملاء إدارة جورج بوش أمام مصيرهم القادم الذي سيحاسبهم فيه شعب العراق على ما اقترفت أياديهم من خيانة لوطنهم وما ألحقوه من جرائم مشينة بحقهم. فتكون زيارة أوباما لإعلان طلاق بين الولايات المتحدة الأميركية وبين الاحتلال، راضياً بأقل ما يمكن من المساكنة مع حكومته العميلة، وما يوفره له حلفاؤه من العرب والإقليم من شروط الحد الأدنى بالعلاقة مع طليقته.
وإنه في الوقت الذي رضيت أميركا بالطلاق القسري مع حكومة الاحتلال، تزداد حركة بعض الرسميين العرب إلى المنطقة الخضراء طلباً لود حكومة المالكي، طمعاً ببعض فتات من المصالح التي لن تدوم، والتي ما تكاد تواقيعهم تنزل على اتفاقيات معها، ستكون طليقة الاحتلال هاربة مع القوات المحتلة الهاربة. وهنا لا بدَّ من رفع علامات التعجب أقلها وصولهم إلى تصديق أوهام يتخيلونها بأنهم سيفوزون برهاناتهم.
ولقد عرفت أبواب المنطقة الخضراء ازدحاماً في السير أمام المواكب العربية، ذات الصفة الرسمية، قبل تسلل أوباما وبعده، افتتحها أمين عام جامعة الدول العربية. الذي على الرغم من إعلانه الخيبة من نتائج زيارته راحت بعض الأنظمة الرسمية الملتحقة أميركياً تقتفي خطاه، الأمر الذي أثار دهشة من يراقب تلك الحركة وأبعادها خاصة وأن الإدارة الأميركية أعلنت الطلاق بالثلاث من أجل الخروج بشكل تزعم أنه سيكون مشرفاً، بينما الوفود الرسمية العربية تتوهم أنها تدخل إلى العراق دخولاً مشرفاً.
إنه بمنطق المصالح، وحتى بمنطق الانتهازية، لا يجوز للانتهازي أن يكون حريصاً أكثر على مصلحة من يقدم له الولاء أكثر من (وليه)، فإذا اختار الأميركي، صاحب المصلحة الأولى، الخروج من العراق، فلحساب من ينتهز بعض الرسميين العرب فرصة زيارة حكومة العمالة للاحتلال، ولمن يقدمون فروض الطاعة والإذعان؟
إنه بمنطق المصالح مع العراق أن ينتظر الانتهازيون ما سترسو عليه أمور العراق بعد الانسحاب الأميركي، لأن السبب الواضح أن العامل الذي أرغم أكبر جيش على تجرع الهزيمة لن يحتاج إلى جهد كبير في دفع العملاء الصغار على تجرعها أيضاً.
إن هذا الأمر يعني أن حكومة المالكي العميلة، ورئاسة الطالباني الكاريكاتورية، لن تصمد بعد الانسحاب الأميركي، مما يعني أن أهداف الراحلين إلى بغداد في هذه المرحلة هي أهداف عبثية، والمصالح التي يريدون ضمانها ويعقدون الاتفاقات حولها، فهل تساءلوا عن مصير من سيوقعها؟ أوَ لم يتساءلوا أن من يوقع الآن من العملاء سيكون توقيعه شيكاً من دون رصيد، ولن يستطيع الالتزام به. وهذا يعني بالتالي أن ضمان المصالح هو وهم من دون شك. فهل لم يتساءلوا أن هذا النوع من التجار لن يجني إلاَّ الخسائر المؤكدة؟
فأي اتفاقات ستكون قابلة للحياة خاصة وأن من سيوقع عليها هو هارب مع الاحتلال بالقوة؟
وأي ثمن ينتظره من يراهن للحصول على مصالح ممن لا يستطيعون ضمان أنفسهم وحمايتها؟
كنا ننتظر من بعض الرسميين العرب أن يقلدوا (ولي نعمتهم) بالانسحاب من العراق المحتل بعد أن ساعدوه على احتلاله. وإن كان عليهم الرجوع بشكل مشرَّف أن يعودوا إلى العراق المحرر من أجل ترسيخ قواعد التحرير. ولكنهم أصروا على أن يكونوا أميركيين أكثر من أوباما المنسحب، كما كانوا أكثر أمركة من جورج بوش المحتل. فهم، بحساب المصالح، لم يحسبوا مصالحهم جيداً كما حسبها جورج بوش عندما احتل العراق، وكما يحسبها أوباما وهو يعلن الانسحاب من العراق. وإذا حُوكموا بحساب المبادئ فسوف يرسبون من دون شك، ولكن لم يفتهم حتى الآن قطار مساءلة أنفسهم عما فعلوه، بل هو بانتظارهم حتى ولو جاءوا متأخرين من أجل درء مخاطر ما بعد الانسحاب الأميركي، وهي مخاطر كثيرة ليس على وحدة العراق وعروبته فحسب، بل هي مخاطر على وحدة أقطارهم وعروبتها أيضاً.
لقد أعلن أوباما أنه سيترك العراق لأهله. فهل اتعظ الرسميون العرب بترك العراق لأهله؟
من يقصد أوباما بـ(أهل العراق)؟
من البديهي أنه لا يعني أياً من عملائه لأنهم فشلوا في حكم العراق كنتيجة لفشل الاحتلال نفسه. وإلاَّ لو كانوا قد نجحوا لما كان قد فكر بتركه. فأهل العراق، الذي يعنيهم أوباما هم غير هؤلاء العملاء حكماً.
ودعوة أوباما للمصالحة العراقية لا تعني مصالحة العملاء بعضهم للبعض الآخر لأنهم اتفقوا على احتلال العراق وتقسيم ثرواته بينهم. فالمصالحة إذاً ستكون مع طرف آخر، وهذا الطرف لم تحجم إدارة أوباما، وقبله جورج بوش، عن تسميته بالإسم. فقد جاء الإسم واضحاً لا لبس فيه وحوله، إذ جاء في الإعلان عن إلغاء قرار (اجتثاث حزب البعث).
فإذا كان (ولي نعمة) بعض الرسميين العرب قد اتخذ هذا القرار، وراح يسعى جاهداً للحصول على موافقة حزب البعث للتفاوض بشتى الطرق والوسائل، فلماذا لا يلجأ هؤلاء إلى طرق بوابة الحزب، كأحد أكبر فصائل المقاومة الوطنية العراقية، من أجل عقد مصالحة معه لترسيم خارطة طريق (إعادة إعمار) عروبة العراق واستعادة وحدته الوطنية بعد تحريره من الاحتلال الأميركي؟
أوَ ليس تلك هي أقصر الطرق وأكثرها أمناً وسلاماً، وأكثرها أمانة للمبادئ القومية العربية؟


11-قبل أن نمسخ الخونة ونحولهم إلى «معارضين»
علقوا المشانق لجواسيس العدو الصهيوني
أيار 2009
حينما علَّق صدام حسين المشنقة لإعدام بازوفت (الجاسوس البريطاني في العراق) في العام 1990، قامت دنيا الغرب ولم تقعد، واتهموا رئيس العراق بـ «الديكتاتورية».
وعندما هرب الجواسيس العراقيون من العراق لحفظ رقابهم من القطع قامت دنيا بعض الحركات السياسية العربية أيضاً ولم تقعد، ووصفوا الهاربين بأنهم من المعارضين لقمع «ديكتاتورية حزب البعث». وما برح «المعارضون» المزعومون في خارج وطنهم يتلقون الدعم والتدريب من كل مخابرات الدنيا حتى عادوا إلى وطنهم ولكن على دبابات الاحتلال الأميركي، فأسبغت عليهم بعض تلك الحركات لقب «المحررين».
وهكذا تحت ستار من دخان التضليل الملَّون بألوان الديكتاتورية، وبهدف التآمر على القومية العربية، التي يحمل حزب البعث لواءها، مسخ الغرب الخونة من العراقيين إلى معارضين. وشارك الغرب المتآمر قوى إقليمية متضررة من المد القومي العربي العلماني، بالتعاون مع بعض العرب المنفعلين إيديولوجياً من المتعصبين ضد الدعوة القومية.
بين الخيانة والتحرير مسافة تعامت عن النظر إلى حقيقة الخداع فيها أبصار من أعمت الإيديولوجية المتعصبة أبصارهم. فضاعت حقيقة حكومة المالكي في العراق، كمثال لكل الحكومات التي سبقته وعلى رأسها مجلس الحكم الانتقالي الذي تزعمه محمد بحر العلوم كواجهة للاحتلال، وضاعت أصول خيانته لبلده في متاهات تضليل الأبصار بأنه كان من المعارضين لديكتاتورية البعث. وهكذا تقوم الإيديولوجيا المتعصبة بدورها الخبيث في التعمية على الحقائق والمبادئ والقيم العليا. ولكن الحقيقة الثابتة تبقى ناصعة البياض في مناظير الذين لم تتسلل بقع الحول أو العور إلى عيونهم. إذ تبقى عند هؤلاء الخيانة خيانة بالفم الملآن من دون تحوير أو تزوير.
فلو نُصبت المشانق لمحمد بحر العلوم، وطارق الهاشمي، وعبد العزيز الحكيم، ومحسن عبد الحميد، وأحمد الجلبي وأياد علاوي، ومسعود البارازاني وجلال الطالباني، قبل أن يهربوا إلى أحضان السي آي إيه والمخابرات البريطانية والصهيونية والإيرانية، لما وجدت تلك المخابرات من يتجرأ على تولي حكومات العراق الشكلية باسم الاحتلال الأميركي بعد التاسع من نيسان من العام 2003، والذين لا يزالون مستمرين حتى الآن. وهؤلاء هم لا يزالوا يعبثون بأمن المقاومة العراقية وأمن العراق والعراقيين.
ولأن التجربة لا تزال ماثلة في العراق، حتى يأتي زمن التحرير فيكنس كل قذارات الجواسيس هؤلاء، يتعرض لبنان إلى تجربة مماثلة كشفت عنها حملات تفكيك خلايا جواسيس العدو الصهيوني على أيدي مخابرات الجيش اللبناني.
تلك الخلايا التي لعبت أقذر دور ضد أمن المقاومة اللبنانية أولاً، وأمن لبنان ثانياً، وأمن اللبنانيين ثالثاً، لا يجوز التهاون والاسترخاء في مواجهتها ومساءلة عناصرها ومحاكمتهم أمام الملأ، ونصب المشانق لهم ليصبحوا عبرة لكل من تسوِّل له نفسه بخيانة وطنه.
على اللبنانيين أن يرتقوا فوق الإيديولوجيات المتعصبة العمياء، وأن لا يدعوا الحول الإيديولوجي يتسلل إلى أحكامهم حين النظر إلى قضية الجواسيس الذين ألقي القبض عليهم في لبنان، كما فعلت بعض الحركات السياسية العربية بالنظر إلى الجواسيس العراقيين.
إن الإقدام بحزم وعزم على تنفيذ حكم الله والشعب بهم هو المطلوب، وإذا تحول الأمر خلاف ذلك، فسوف نرى هؤلاء، وغيرهم ممن لم ينكشف أمرهم بعد، على كراسي حكومة قد يشكلها احتلال صهيوني محتمل في لبنان. العدو الصهيوني الذي يبقى مهدداً لأمن لبنان على الرغم من إجباره على الانسحاب في العام 2000، وتجرع الهزيمة المرة في العام 2006.
ونحن نستذكر درس العراق، لا نزال نتساءل: هل يتعظ اللبنانيون من درس جواسيس العراق الذين يحكمون الآن باسم الاحتلال الأميركي؟
ونقول: لو أن المشانق نُصِبت للجواسيس العراقيين، لما كانوا قد وصلوا إلى حكم العراق باسم الاحتلال الأميركي. وحتى لا يحكم جواسيس العدو الصهيوني من اللبنانيين باسم الاحتلال الصهيوني في المستقبل نطالب بتعليقهم على المشانق الآن قبل الغد.
* * *


12-بعد انتحار الجنود الأميركيين على أسوار بغداد
العملاء والخونة ينتحرون في أوكار مآزق الاحتلال
حزيران 2009
بداية وقبل الإطلالة على مصير عملاء الاحتلال الأميركي في العراق، لا بدَّ من أن نضع أمام عيوننا حقيقتين استراتيجيين تحولان دون الغرق في أخطاء قد تحرف رؤيتنا لطبيعة اللحظة الراهنة في العراق. وهما:
-الحقيقة الأولى: أن أصل المشكلة العراقية هو في احتلال العراق.
-والحقيقة الثانية: أن أصل الحل هو باقتلاع جذور الاحتلال.
إن أصل المشكلة العراقية هو الاحتلال الأميركي محملاً بسلسلة المخاطر الاستراتيجية الكبرى التي رافقته، أما فروع المشكلة فهي الأخطاء الفرعية التي يرتكبها عملاؤه.
وإن الحل الجذري للمشاكل التي أخذت تظهر في العراق هو في تحريره جذرياً من الاحتلال وعملائه، وأما النظر إلى حل المشاكل التي يعاني منها العراق اليوم فليس من الجائز أن ننظر إليها من مناظير إصلاح ما يرتكبه عملاؤه من أخطاء.
لقد ظهرت إلى العلن على ساحة العراق المحتل مشاكل الفساد التي حمَّلوا مسؤوليتها لوزير تجارة حكومة المالكي، وغيره العشرات ممن فاحت روائح فسادهم حتى الآن، وكانت بواكيرها الأولى قد أعلنتها قوى كردية من داخل الكتلة الكردية الانفصالية لما يُسمى بـ(إقليم كردستان)، عندما هدد عدد من قيادات حزب جلال الطالباني بالاستقالة احتجاجاً على استفحال الفساد في إدارات الإقليم الانفصالية.
وبالنظر إلى السابق والراهن من حالات الفساد، لا نرى أن المستقبل سيقضي على الفساد السائد، لأنه طالما ظل العراق تحت الاحتلال، الذي هو الأصل في كل علة، سيبقى الفساد واقعاً لا مفر منه. أما السبب فيعود إلى أن استراتيجية الاحتلال قائمة على أسس من تدمير العراق بثرواته ونسيجه المجتمعي والوطني والقومي، وهو لم يأت بعملاء من الملائكة وإنما جنَّد زمرة كبيرة من الشياطين الذين لم يأتوا لإصلاح ولا من يُصلحون، بل أتوا من أجل تخريب بلدهم ومجتمع بلدهم الوطني من أجل السرقة والنهب.
ولأن الفساد مقصود بذاته، فلن تنفع، كما تتوهم حكومة المالكي، أو ما يُعرف بـ(مجلس النواب العراقي)، كل محاولاتهم في الإصلاح، أولاً لأن الفاسد لن يكون صالحاً لإصلاح مفسدين، وثانياً لأن من يشاركون فيما يسمى بـ(العملية السياسية) يقتتلون حول حجم حصصهم من السرقة والنهب. وإذا كان وزير التجارة قد حاول الهرب من مطار بغداد فإنما لكي يهرب مع ما سرقه من دم العراقيين وثروتهم وصحتهم لكي ينعم بها في الخارج، كما يفعل أمثاله. ولم يعتقلوه إلاَّ ليحصلوا على حصتهم مما سرق.
وعن مصير الخونة والعملاء لا بدَّ من النظر إليها من زاويتي ترابط رحيل الاحتلال مع رحيل عملائه، على قاعدة أن مشكلة العملاء لا يمكن أن تُحل بجهود إصلاحية لما ارتكبوه من خيانات وسرقات وجرائم، ولا يمكنهم البقاء بعد رحليه لأنه لن يبقى لهم من يحميهم من غضب الشعب العراقي. ولهذا سننظر إلى مستقبل العراق من خلال حتميتين مترابطتين: رحيل الاحتلال، ورحيل عملائه.
إن رحيل الاحتلال أصبح واقعاً لا مفر منه، لأن المقاومة العراقية كانت السبب الفاعل في إفشال خططه وأهدافه بعد أن وضعته أمام كمٍّ كبير من الخسائر البشرية والمادية، تلك الخسائر فاقت طاقة الاحتمال التي لم تستطع حتى إدارة جورج بوش أن تبررها أمام الشعب الأميركي، بل أثارت غضبه ونقمته عليها. وهذه النقمة تحولت إلى عامل ضغط شعبي شديد برز في أقوى أشكاله بتغيير الإدارة الجمهورية والمجيء بإدارة أوباما على شرط وعد منه بالانسحاب من العراق وإنهاء احتلاله.
لم يكن أوباما واضحاً تماماً بإعلانه خطة الانسحاب، والضبابية تلف المرحلة الانتقالية التي تفصل بين إعلان الخطة وموعد اكتمالها، وتحتمل وجود نوايا مبيَّتة من الخداع بالالتفاف على الوعود من أجل تجميل وجه الاحتلال على طريق تثبيته. وفي هذا السياق قد تكون محاولات الاستعانة بعوامل الإقليم الجغرافي المجاور للعراق، من العرب أو من غيرهم، أحد تلك المحاولات.
وما استبدله أوباما، من أجل إحراز مساعدة عربية وإقليمية ليس تغييراً في أهداف الاحتلال بل غيَّر في وسائل تثبيته فقط، إذ استبدل وسائل القوة العسكرية بقوة الحوار السياسي والدبلوماسي، متوخياً تشكيل قوة ضغط سياسي قوامه بناء تحالف عربي – إقليمي – عراقي، من خلال تفاهمات على توزيع المصالح وتقسيمها، بإغداق الوعود والعهود.
إن مركزية هذا التحالف ستكون برعاية خيمة أميركية لحكومة نوري المالكي، أو أية حكومة تنال رضى الولايات المتحدة الأميركية وبركتها، على أن تكون محمية بسقف خيمة عربية وإقليمية.
فخطة عمل أوباما الجديدة تقوم على تضافر أربعة أعمدة: أميركي وعراقي وعربي وإقليمي.
فإذا كان العامود الأميركي يشكل الركيزة الأساسية لخيمة التفاهمات، فإن العامود العراقي يجب أن ينال رضى وقبولاً من العامودين العربي والإقليمي، وهو بالتالي يجب أن يكون مقبولاً من الشعب العراقي ومرضياً عنه. وقبوله عراقياً لا ينفصل عن تجميل صورته وأسلوب عمله على شتى الصعد الأمنية والاقتصادية والاجتماعية. ولهذا كله صدرت أوامر الإدارة الأميركية الجديدة بتشكيل ورشة عمل لتنجز عملية التجميل المطلوبة، وتقوم خطواتها على الصعد التالية:
-إنجاز عملية المصالحة، أولاً: بتمتين أواصر العلاقات بين عملائه من الفسيفساء الطائفي والعرقي، وتقريب مصالحهم المتناقضة. وثانياً: محاولة استقطاب ما تستطيع استقطابه من فصائل المقاومة ووعد من يجرأ على الانجرار إلى هذا المخطط بإعطائهم الامتيازات التي لن تكون إلاَّ من جيوب العراقيين وخيرات العراق.
-إنجاز عملية الإصلاح السياسي من خلال إشهار سيف القضاء على الفساد. وهو ما يترجم نفسه بفتح ملف وزير التجارة العراقي، كخطوة معلنة أولى، تبعتها خطوات أخرى، وقد تستكملها لاحقاً بمثيلات لها لتوحي بأن الحل هو إصلاحي، وبه تجهيل لدور الاحتلال الذي وحده نشر الفساد وغيره من الجرائم التي قضت على الدولة العراقية.
-ملء الفراغ الأمني، وهو الملف الأخطر، الذي من أجل إنجازه تزعم حكومة الاحتلال، أنه لا بدَّ من بقاء عشرات الآلاف من الجنود الأميركيين تحت غطاء تدريب الأجهزة الأمنية العراقية وتأهيلها. وقد تستعين الولايات المتحدة الأميركية بمساعدة أمنية إقليمية وعربية من أجل توفير غطاء آخر لبقاء الاحتلال وغيره من القوى المساعدة، التي ستتشكل من أصحاب المصالح.
-ملء الفراغ السياسي العربي والدولي بإغراء الدول ذات المصلحة بإعادة علاقاتها الديبلوماسية إلى أوكار ما تعرف بـ«المنطقة الخضراء».
من كل ذلك يظهر بوضوح أن جذب شركاء لتثبيت احتلال العراق، معترف لهم بمصالحهم، تظل الهاجس الاستراتيجي الأميركي في عهد باراك أوباما. وأصبح من الواضح أيضاً أنه أطلق استراتيجية الحوار مع الإيرانيين، وشجَّع الأتراك وقدَّم لهم الإغراءات الاقتصادية، من أجل المحافظة على أهدافه الأساسية. وليس من المستبعد أن يكون «حلف بغداد» آخر آتٍ على الطريق يطرق الأبواب من جديد.
مصالحة وإصلاح و«حلف بغداد» جديد، هي «خطة طريق» رسمها عهد أوباما، ويقع في صلبها عرب ينفذون الإملاءات بإتقان وطواعية. «خطة طريق» إصلاحية لا يمكن أن يتصدى لها إلاَّ المقاومة الوطنية العراقية التي تصدت للخطة الأصل التي بدأتها إدارة جورج بوش. ولذا ستكون النتيجة كامنة في أنه كما فشل الأصل سيفشل الفرع.
إن فشل الفرع لن يتم بمواجهته أو التلهي بطرائق مواجهته، بل التركيز على أن الأصل يبقى المعركة الأساس، وإن الضغط على قوات الاحتلال بالشكل الأساسي يبقى المعركة الأساسية.
وإلى جانب كل ذلك، تبقى «خطة طريق» المقاومة في المرحلة الانتقالية حاجة ضرورية، ويمكن أن تتشكل خطوطها الرئيسية من التالي:
-مواجهة مركزية الاحتلال بحلته الجديدة، «حلة باراك أوباما الديبلوماسية»، كما واجهت «حلة بوش العسكرية». ومركزية المقاومة يتمثل بالعمل المسلح أولاً، على أن يتم رفده بعمل سياسي وديبلوماسي ليكون مكملاً له لا أن يحل محله.
-رفض المصالحة المزعومة مع عملاء الاحتلال أياً تكن المتغيرات التي طرأت على خطابهم، وكشف استحالة الإصلاح وعبثيته، وكشف الخداع والتضليل عن أهداف الحملة الإصلاحية التي يملأ دخانها اليوم سماء العراق.
-مواجهة «حلف بغداد» الجديد من خلال فتح نوافذ وأبواب مع أطرافه المحتملين، من عرب وغيرهم، وبناء جدران من الثقة والتطمين بأن مصالحهم المشروعة ستكون موفورة وأكثر ثباتاً في ظل النظام الوطني الذي ستبنيه المقاومة بعد التحرير.
وختاماً تبقى نتائج المرحلة الراهنة المنظورة أن إدارة أوباما اليوم تحاول أن تسد ثغرات إدارة بوش بإجراء تجارب الفرصة الأخيرة على فئرانها من العملاء، الذين لا شك في أنهم ينتحرون على أسوار أوهام خطة أوباما.

13-مراجعة كتاب (فرص التغيير) للأستاذ رياض صوما
من أجل تكوين صورة واضحة عن أوضاع أمتنا العربية في خارطة العالم، ومن أجل أن يضع أمامها رؤيته لدور لها عليها أن تلعبه في هذه المرحلة، ينطلق الباحث صوما من أن العالم (كقرية كونية) في القرن الراهن أصبح الوعاء الكبير الذي لا يمكن النظر إلى كياناتنا بكل تفاصيلها منفصلة عما يدور فيه، من سياسة واقتصاد واجتماع وأمن وعسكر.
وبالتالي منطلقاً من أن هذه المرحلة بالذات تحمل العديد من (فرص التغيير) ينجز بحثه مبرهناً على أن أمام أمتنا فرصاً لتغيير ما بنفسها فيدعوها إلى التقاطها، لأنها من دون ذلك ستجدد لنفسها لعب دور الطريدة التي لا تستطيع النجاة من شباك الصياد الأمبريالي كونها الهدف الأول منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى.
لكن الباحث صوما لا يرى أن الفرص المتاحة أمام الأمة يمكن أن تأتي من دون جهد وعناء ومقاومة، بل إن معرفة هذه الفرص، على قاعدة معرفة واضحة لما يدور الآن في العالم، يجب أن تتكامل مع إرادة ومقاومة لما يجري، وهو في هذا الميدان يضع مسؤولية كل ذلك على عاتق الحركة اليسارية العربية كونها الأمل والمرتجى.
لكل ذلك يبدأ في تشخيص الداء بمهارة وسلاسة وموضوعية بعيدة عن الانفعال، فيقول:
لأن البنيان المعرفي في القرن الراهن أصبح يشكل المولدة والحاضنة والكتلة الجاذبة للبشرية، وأمتنا تتواصل وتتفاعل معها، تؤثر فيه وتتأثر به. ووعاؤنا المعرفي، بكل تفاصيله التقنية والإنسانية، هو جزء منه.
ينطلق الباحث من تحديد القواعد المعرفية والسياسية والعسكرية التي تقود العالم وتتحكم بمصيره ومستقبله ليحدد مكاننا في ذلك التراكم الهرمي ومصيرنا ومستقبلنا. فماذا يجد؟
يجد تقدماً سريعاً وهائلاً هناك، وتخلفاً وانحطاطاً هنا.
وكي لا يجعلنا الباحث عرضة لليأس والقنوط، يعلن بالفم الملآن أن أمام العالم فرصاً للتغيير، ويتساءل: هل يمكننا نحن أيضاً التقاط هذه الفرص؟
وكي ينأى بدعوته عن الرومانسية يسير بنا طوال فصول بحثه خطوة فخطوة كي يعيد الأمل إلى نفوسنا معلناً أن النفق المظلم الذي نعيش فيه لن يبقى مظلماً إذا أخذنا بسبل العلم والمعرفة، والخطة السياسية المدروسة الهادفة إلى التقاط فرص التغيير المفتوحة أمام العالم كله، وفرصتنا نحن ستكون مضمونة إذا سعينا إليها. وأما إذا فاتنا القطار فلن تكون المؤامرة هي السبب وإنما تقصيرنا عن مواكبة المتغيرات العالمية سيكون من صنع أيدينا.
يبشرنا الباحث بأن أوهام الرأسمالية باقتصاد السوق والليبرالية المتطرفة قد بان فشلها بفشل مشروع استراتيجية جورج بوش والحزب الجمهوري، وبه ظهر فشل حكم العالم بقطبية واحدة، خاصة وأن أحد أكبر مفكريه (جوزيف ستينغلر) قد حذَّر منه، قبل وقوع الكارثة، ولم يستمع إليه أحد بسبب ما يتميز به أصحاب المشروع من (العمى الإيديولوجي، والعناد السياسي).
وقد نعاه أيضاً، حسب ما توصَّل إليه الباحث، عدد من المظاهر، التي شاركت فيه بعض أنظمة الغرب الرأسمالية نفسها، ومن أهمهم الرئيس الفرنسي. ولم تكن حركات الاحتجاج الشعبي العالمية إلاَّ في القلب من الذين نعوا المشروع.
تنامت مظاهر الرفض العالمي للمشروع المذكور، وراحت تدعو للخروج من (دوامة العنف المفتوحة، لأنها جعلت العالم اليوم أكثر اضطراباً وركوداً وتسلطاً، وأقل ديموقراطية وعدالة).
فقد قامت موجة الرفض عندما رأى صناع القرار في العالم، أن التوازن في إدارة العالم قد اختلَّ منذ أن سادت أوهام الرأسمالية الأميركية باقتصاد السوق والليبرالية المتطرفة، ووصل هؤلاء إلى نتيجة مؤكدة، وهي أن التوازن سيستعيد مكانه بعد هزيمة الاستراتيجية الأميركية، ولجم السياسات الليبرالية الأميركية المتطرفة على الصعيد العالمي.
هذه النتيجة نصل إليها، كما يراها الباحث صوما، تبعاً للمعادلة التالية:
سقطت التجربة الاشتراكية بسقوط الاتحاد السوفياتي، فاستفرد التحالف الأميركي – الأطلسي بحكم العالم، فساد الاضطراب وعمَّ أنحاء الكرة الأرضية، الأمر الذي أربك هذا التحالف، فانشغل العالم بالتفتيش عن مخارج لتجاوز المرحلة المضطربة، وتلك فرصة ثمينة للتغيير.
ولكن التغيير ليس سهلاً وميسوراً لأن المشروع الأميركي، الذي ظهر لنا وكأنه مات، لا يزال قادراً على إحباطنا لسببين: أولهما أنه لا يزال يمتلك عناصر قوة. وثانيهما أن خصومه لا يزالوا مشتتي القوى. ولأن أمتنا من خصومه بالدرجة الأولى يقف الباحث ليبشرنا بأن الشروط الموضوعية للتغيير تنضج تدريجياً، فيدعونا إلى التقاطها.
لماذا نحن، وما هو دورنا؟
سؤال يطرحه الباحث، ليجيب عليه:
في مرحلة الاستفراد بحكم العالم، وبعد أن قضى التحالف الرأسمالي على عدوه السابق المتمثل بالاتحاد السوفياتي، راح يعد للسيطرة على القارة الآسيوية، وفي المقدمة منها المنطقة العربية، فخلق عدواً جديداً تحت عنوان (الإسلام الفاشي) لبناء الشرق الأوسط الكبير، وموَّه معركته بعنوانيْ (الحرب على الإرهاب، ونشر الديموقراطية)، كعنوانيْن مضلليْن لإدخال منطقتنا في واقع استعماري جديد.
هذا الشبق الإمبراطوري الأميركي زرع الخوف في نفوس حلفائه، وأثار شعلة المقاومة العربية معاً، تلك المقاومة جعلت إفشال المشروع أمراً ممكناً (في المدى المنظور). وكان العدوان على العراق واحتلاله أبرز مظاهر (مخطط احتلال كامل الشرق الأوسط الكبير)، لكن المقاومة العراقية أسقطته، وأرغمت أصحابه على الانسحاب. وهنا يحذِّر الباحث من مناورات جديدة تقوم بها الإدارة الأميركية إذ تموَّه انسحابها بالاتفاقيات الأمنية التي وقَّعتها مع المتعاونين مع الاحتلال نفسه.
ولمزيد من التحصين الموضوعي يدعو الباحث إلى تجاوز حديْ التفاؤل المفرط بالحصول على نتائج سريعة، والتشاؤم المفرط الذي ينفي إمكانية الحصول على نتائج، وهنا يثبت الباحث ما توصل إليه، إذ يقول: (إن التراجع الأميركي والغربي تراجع حقيقي ولكنه بطيء ونسبي) ولا يمكن ضمان نتائج فرض انسحابه إلاَّ بضمان استمرار (خيار المقاومة).
من بعد أن يخيَّل إلينا أن الباحث أغرق في البحث النظري، فإذا به ينتقل من هدوء الباحث إلى حرارة السياسي المجرِّب الذي اكتوى بنار الهوة الفاصلة بين هدوء النظرية وحكمتها فيرفع الدعوة إلى إشعال النار تحت مراجل التطبيق، وفيها يضع إصبعه على جرح عميق أصاب دورنا فيدعو إلى مداواته من أجل إيقاف نزيفه، فيرفع صرخته في وجه اليسار العربي الذي تنازل عن دوره لكل (الإيديولوجيات الأخرى).
لم تكن صرخته، من خلال فقرات بحثه، دعوة رومانسية أو مبنية على خطاب تحريضي، بل بالإضافة إلى دعوته باستمرار (خيار المقاومة) العسكرية، يرى من المنظار المقاوم أن أحد أهم أوجه المقاومة يتمثل الآن في مواجهة (الحرب الإيديولوجية) التي تشنها الإدارة الأميركية لزرع اليأس في نفوس القانطين من محللين ومفكرين بعضهم يساريون سابقون نعوا مفاهيم التحرر الوطني.
لكل هذا يدعو الباحث إلى التحرر من عقدة الخوف من الحرب الإيديولوجية والأسلحة النارية المعادية، ويعتبر أن (النصر النهائي) هو لمن ( يعبِّر عن مصالح القوى الاجتماعية الصاعدة، بغض النظر عن النكسات المؤقتة لهذا الطرف، أو النجاحات العابرة للطرف المقابل).
لم تكن دعوة الباحث إلاَّ مترافقة مع جملة من المهام التي يرى أنه على حركة اليسار العربي أن تقوم بها في عملية إعادة تأهيل جديدة لكل أحزابها وقواها. وكلها من المهام المطلوب حملها لكي تستعيد الحركة وهج تأثيرها السابق، على أسس جديدة، ولكن هذه المرة على وقع خطاب جبهوي ناقد لسلبيات طالما عانت منها أحزاب حركة التحرر العربية.
ومن أهم تلك المهام، كما يحددها الباحث صوما، هي التالية:
الاستقلال الوطني، استعادة الوحدة القومية، بناء دولة المواطنة والرعاية، الاستقلال الاقتصادي والحد من التبعية، التنمية المستدامة، ثقافة المقاومة والتنوير، العدالة الاجتماعية، الحريات العامة والديموقراطية وحقوق الإنسان، النزوع الأممي، مقاومة الأفكار العنصرية ومنها الفكر الصهيوني، والدعوة إلى العلمنة...
ويدعو الباحث أخيراً إلى أن هذه المهام لن تتحقق (بالوعظ، بل عبر البرامج الملموسة، والنضال الميداني الطويل النفس، والبناء التنظيمي المناسب).
ونحن نضم صوتنا إلى جانب صوته، من أجل تخصيص صرخة نرفعها في وجه اليسار اللبناني، وندعوه إلى إيلاء العناية ببناء أسرة يسارية لبنانية تؤسس لدور لها يتكامل مع الأسرة اليسارية العربية التي عليها أن تستعيد مقعدها في مواكب التغيير على المستوى القومي العربي، وبه تفرض مقعداً لها في الأسرة اليسارية العالمية.
لن نترك قراءة هذا الكتاب القيم، الذي يتميز بشموليته، وتسلسله التاريخي والمنطقي، بأسلوب التكثيف الشديد والمعبِّر والواضح، من دون أن نقرأ ما خلف السطور.
إن قراءتنا لما خلف السطور لها علاقة وثيقة بإعادة تأهيل أحزاب حركة اليسار العربي التي من أهم عوامل إعادة تأهيلها هو سلوكها منهج الانتقال من أساليب الخطاب التعبوي إلى الاستفادة من نتائج الأبحاث العلمية، كمثل البحث الذي قدَّمه الأستاذ رياض صوما تحت عنوان (فرص التغيير)، خاصة وأنه يشغل موقع الانتماء الحزبي، وموقع الباحث الأكاديمي الرصين.
نقرأ ما خلف السطور، فندعو ما لم يدع إليه الباحث مباشرة، لنقول:
هناك حاجة للتجديد في استيعاب أحزاب اليسار لدور الباحث الموضوعي وتوظيف جهده في تصويب بوصلة مواقف الحركة الحزبية كلما زاغت بمواقفها المناهج الإيديولوجية المنفلتة تجاه التعصب. فندعو إلى التمييز بين الإيديولوجيا المنظمة المستندة إلى نتائج الأبحاث العلمية، والإيديولوجيا المنفلتة المستندة إلى الخطاب السياسي الجاذب للأهواء على حساب الجذب للعقول، وبين هذه وتلك نتجه بالحركة الفكرية الحزبية إلى علاقة تتصالح فيها الإيديولوجيا التعبوية، كعامل يشد الملتزم بعقيدة إلى عقيدته، والإيديولوجية المحمَّلة بالعقلنة كمرشد لاتخاذ الموقف السياسي الموضوعي، لتجعل إحداهما مكملة للأخرى. فتستمر العلاقة الحميمة بين العقيدة والعقائديين كطرف أول وبين العقيدة والعقل الراشد الذي يصوِّب الاتجاهات كلما زاد منسوب التعبئة نحو التعصب.
ومن هنا نطرح إشكالية أي موقع على الأحزاب العقائدية أن تفسحه للباحث الأكاديمي؟
إننا ندعو إلى تفريغ كرسي للرقابة الموضوعية وتلزيمه للباحثين. وبدعوتنا هذه لا يجوز أن نتهم بالتفتيش عن حزب أفلاطوني، بل المقصود منها دعوة إلى ترشيد وعقلنة الحركة السياسية والإيديولوجية في بنية الأحزاب التي تنطلق من ثوابت فكرية تلتزم بها تجاه الجماهير.
وأخيراً، وإذ نتوجه بالشكر إلى الرفيق الأستاذ رياض صوما، ندعوه إلى إعادة الكرَّة مرة أخرى لتزويد مكتبة اليسار العربي بإنتاجات جديدة وأبحاث جديدة.

14-افتتاحية شهر آب 2009
التأخير في تأليف الحكومة،
والفجوة بين هموم الشعب وهموم ممثليه المنتخَبين
ليس في قاموس المسؤولين اللبنانيين، القائم على قاعدة المحاصصة الطائفية، فرق بين مفهوم الدولة ومفهوم السلطة في لبنان. فالدولة هي السلطة، والسلطة هي الدولة، بحيث اختزل كل تيار طائفي سياسي مفهوم الدولة بنفسه، أي بمعنى أنه ما لم يكن له حصة في السلطة فلن تقوم للدولة قيامة.
وإذا كانت السلطة موضوعة بيد الحاكم، كتفويض من الدولة، فعلى الحاكم أن لا يتجاوز دوره المعطى له، أي العمل ضمن سقف «مصلحة المواطنين أولاً».
وإذا كانت المبادئ الديموقراطية، التي يحافظ اللبنانيون على شكلها على الأقل، تقوم على مبدأ وضع السلطة بأيدي الأكثرية النيابية.
وحيث إن تشكيل حكومة، كسلطة تنفيذية، يتراوح مكانه بسبب إشكالية سائدة كأمر واقع، تقوم على التوفيق بين تمثيل الأكثرية والأقلية في حكومة واحدة بذريعة «بدعة التوافق».
ولأن هذه الشروط غائبة عن هموم التيارات السياسية الحاكمة في لبنان، بحيث ساد الواقع الشاذ وحلَّ بديلاً عن المبدأ الواجب، ضاع هدف تأليف الحكومة بين دهاليز شروط التيارات السياسية وزواريب مصالحهم، وضاعت معه مصالح اللبنانيين.
لقد مرَّ أكثر من شهرين، والحبل على الجرار، ولم يرأف ممثلو الشعب اللبناني المنتخبون بحال من انتخبهم، وهم يتناسون أن حال البلاد والعباد أصبح من ورائهم، وخارج اهتماماتهم، وهم الذين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها بما أغدقوه من عهود ووعود في موسم انتخابات السنوات الأربع.
وكي لا نراهن على «موت الحمار أو موت الملك» بعد انقضاء السنوات الأربع القادمة، كما تفعل التيارات والقوى السياسية ممن امتهنوا حرفة خوض الانتخابات النيابية الحاليون، والسابقون واللاحقون، سنكرر النداءات المتتالية والمتواصلة إلى الشعب اللبناني وقواه الوطنية من أجل أن يستعيدوا دورهم المسلوب، أو دورهم الذي تخلوا عنه بفعل العديد من العوامل، وندعوهم لعدم التنازل، مهما كانت الذرائع والمسببات، التي يطلقها عاشقو السلطة، عن المبادئ التالية:
-لا نفهم السلطة غير أنها أكثرية تحكم على خلفية مساءلتها ومحاسبتها من قبل الأقلية.
-وأقلية تعي دورها بإخضاع السلطة التنفيذية للمساءلة والمحاسبة عن كل تقصير أو تأخير ترتكبه بحق الشعب في شتى مجالات شؤونه السيادية والمعيشية.
ولكي تأخذ القوى والأحزاب الوطنية دورها بالفعل، كرائدة وقائدة للحركة الشعبية، عليها أن تبادر من دون أي تسويف أو تأخير، لمعالجة أزماتها ومشاكلها الداخلية، التي أُغرقت فيها أو أغرقت نفسها فيها، لأنه لا حركة شعبية ناشطة وسليمة من دون أحزاب معافاة من أمراضها وأدرانها.
ولأن مهمتها الأولى والأساسية أن تكون الطبيب الذي يداوي الناس من دون أن يكون عليلاً، تأتي المهمة الثانية اللاحقة والمكملة هو استعادة مؤسساتها النقابية التي سُلبت منها، أو التي أهملت تأهيلها، لكي تكون الوسيط الأساسي بين الأحزاب الوطنية وجماهيرها، والمعبر عن مصالحها.
فهل تبدأ أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية الخطوة الأولى على طريق الألف ميل قبل أن يزداد استفحال مرض الاسترخاء والاستقالة من مهماتها؟
وهل تستأنف هذه الأحزاب مهماتها الأساسية في تعبئة الشعب اللبناني وتحفيزه لرفع الصوت من أجل مصالحه التي تتآكل على مواد أمراء الطوائف، واستنهاضه من حالات التنويم المغناطيسي التي مورست عليه بالحقن الطائفي طوال السنوات الماضية؟
أما البديل الذي ننتظره فلن يكون أقل من استمرار المشهد السائد حول إشكالية تأليف الحكومة، وفيه يعيش اللبنانيون من دون «راعٍ تنفيذي» يسهر على مصالح الشعب، بينما «الذئب الطائفي» يسرح على هواه من دون رادع ينقذ أغنامه من الافتراس على موائد أغنياء الطوائف وموسريهم وآكلي كل «قطع الجبن» من الصحون الشعبية بذريعة «حماية الطوائف».
وإذا ما استمرت الجماهير الشعبية صامتة عن المطالبة بحقوقها، وإذا ما استمرت في تجاهلها تحديد هوية الذئب الذي يلتهم تلك الحقوق، سوف يصح القول:
لا تُلام «ذئاب الطائفية» في عدوانها إن يبقى «الغنمُ» عدو «الغنمِ».
15-سايكس بيكو ووعد بلفور بحلة أميركية
يتم تنفيذهما بقفازات أوباما الحريرية
فهل يُلدغ العرب من جُحر مرتين؟
25 آب 2009
أصبح من الواضح لدينا، أن الغموض الذي لفَّ خطة أوباما للانسحاب من العراق، تقف وراءه خطة البقاء فيه، وإن بوسائل مختلفة. بحيث ابتدأت خطته بالستة عشر شهراً في خطاباته الموجَّهة في حملة الانتخابات الرئاسية، والتي ارتفعت إلى الثمانية عشر شهراً، وانتهت بتحديد موعد في آواخر العام 2011، مقرونة بالإبقاء على خمسين ألف جندي من دون مهمات قتالية.
من أجل تحديد أقرب للوضوح حول ما تريده إدارة أوباما، بعد وصوله إلى كرسي رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، سنفتح صفحات الأرشيف التي من خلالها نستطيع قراءة ما تريد أن تصل إليه إدارته بعد إعلانه خطة الانسحاب من العراق.
ومن فتح تلك الصفحات سيبدو التذبذب والغموض واضحين من خلال متابعة ما يخبئه أرشيف المعلومات في الكونغرس الأميركي، والذي ترك أشخاص إدارة أوباما الحالية تواقيعهم عليها.
إن مراجعة نشاطات جوزيف بايدن، نائب الرئيس الأميركي الحالي، تكشف الغموض عما يتم إعداده لعراق ما بعد الانسحاب الأميركي.
ففي أثناء زيارته إلى العراق المحتل، صرَّح بايدن، في 3 تموز 2009، محدداً استراتيجية الانسحاب الأميركي من العراق، قائلاً: «إن الرئيس أوباما يرغب في أن يركز البيت الأبيض على تطبيق خطة الإدارة الرامية لتقليل عدد القوات في العراق التي بدأت المرحلة الأولى منها. والمرحلة الثانية من هذه الخطة ستشمل تسويات سياسية بين الفصائل العراقية. وهناك العديد من القضايا بما فيها مشكلات الحدود وقانون النفط ومهمتي هي مساعدة هذه المنطقة ودفع تلك الاتفاقات».
وللتأكيد من جانبه، وفي وقت لاحق، حثَّ أوباما نوري المالكي، رئيس حكومة الاحتلال، على السير قدماً في المصالحة الوطنية. هذين التصريحين يمكن فهم أبعادهما بوضوح إذا عُطفا على المعلن من الخطة الاستراتيجية الأميركية لإدارة الرئيس أوباما، محاطاً بنائبه جوزيف بايدن. والمعلن منها خطان أساسيان، وهما:
الأول: وتمثله استراتيجية الإدارة الجديدة القاضية بفتح صفحات الحوار مع الإقليم الجغرافي المجاور للعراق، العربي منه وغير العربي، كبديل لاستراتيجية الحروب: «الصدمة والترويع»، و«حرب الأفكار»، التي طبعت استراتيجية سلفه جورج بوش.
والثاني: يمثله قرار الكونغرس الأميركي بتقسيم العراق، الذي صدر في تشرين الأول من العام 2007، المبني على اقتراحات السيناتور جوزيف بايدن، قبل أن يصبح نائباً للرئيس أوباما.
ولما كانت استراتيجية الولايات المتحدة الأميركية، جمهورية وديموقراطية، تقضي بالهيمنة على ثروات الشعوب، بالقوة العسكرية أم بالاحتواء السياسي، لوصلنا إلى الاستنتاج بأن ما عجزت عنه إدارة بوش الجمهورية بالقوة العسكرية، ستعمل إدارة أوباما الديموقراطية للحصول عليه بديبلوماسية الحوار.
ولما كان تقسيم العراق وسيلة من وسائل الهيمنة على احتواء أي مظهر من مظاهر المقاومة، فإنه سينقل الصراع بين الاحتلال والعراقيين إلى صراع بين العراقيين أنفسهم، فيكون هذا الهدف قد شكَّل نقطة التقاء بين إدارة بوش الجمهورية وإدارة أوباما الديموقراطية. وهذا ما برهنت عليه وقائع ما جرى في العراق من جهة، وفي أروقة الكونغرس الأميركي من جهة أخرى.
لقد كرَّس الجمهوريون مبدأ تقسيم العراق في الدستور العراقي الذي أملوه على البرلمان العراقي فاقد الشرعية الوطنية، وكرَّسه الديموقراطيون بقرار صدر عن الكونغرس الأميركي تقدَّم به جوزيف بايدن الذي أصبح فيما بعد العام 2007، تاريخ صدور القرار، نائباً لرئيس الإدارة الأميركية الحالية.
ولأن إدارة أوباما، أعلنت تغيير وسيلة احتلال العراق، فنقلتها من وسيلة القوة إلى وسيلة الحوار. ولأنها لم تعلن إلغاء قرار الكونغرس، المتَّخذ في تشرين الأول من العام 2007، القاضي بتقسيم العراق. فيمكننا الاستنتاج أن إدارة أوباما لا تزال ضالعة بمخطط تقسيم العراق، كأحد أهم عوامل السيطرة على العراقيين بقوة الاحتواء السياسي.
ومن أجل هذه الغاية، سنقرأ خطة إدارة أوباما التي سيحاول تطبيقها في الوقت الضائع قبل حلول استحقاق الانسحاب النهائي المعلن. ولكي يكسب المزيد من الوقت لتطبيق خطته فقد رفع سقف المدى الزمني للانسحاب، وهذا ما فسَّر حالة الضبابية في قراراته المتتالية.
لم يأتِ قرار الانسحاب العسكري من العراق، الذي أعلنه أوباما، إلاَّ بناءً على تلافي إلحاق الخسائر البشرية في قوات الاحتلال الأميركي، وإلحاق الخسائر المادية التي أوصلت اقتصاد أميركا إلى الهاوية. وإن استطاع أوباما أن يضمن منع الخسارتين معاً، أو منع إحداهما، فلن يأمر قواته بمغادرة العراق على الإطلاق. وهذا ما يعمل في الوقت الضائع الآن من أجل توفير شروطه، حسب تسلسل الخطة التالية:
1-تضليل العالم، والعراقيين، ودول الجوار الجغرافي، بأنه جاد بالانسحاب من العراق.
2-توفير ضمانات استمرار حكومة موالية للولايات المتحدة الأميركية، من خلال تحصينها بعوامل ثلاث:
الأول: ما تسميه «المصالحة السياسية» بين القوى الحاكمة العميلة بتوزيع الحصص والمكاسب بينها على قاعدة تقسيم العراق جغرافياً وإثنياً، وتوزيع ثروات العراق بينها. والعمل على جرِّ فصائل تزعم أنها من فصائل المقاومة. واستدراج من تستطيع إغواءه وإغراءه من الجيش الوطني تحت خديعة إلغاء «قانون اجتثاث البعث».
الثاني: إغراء دول الجوار العراقي وإغراقها بالوعود بإعطائها مكاسب بحفظ مصالحها في عراق مقسَّم لقاء الاعتراف بـ«العملية السياسية» المشبوهة. ولهذا يعمل على جرِّها إلى طاولة حوار تحت صيغ مؤتمرات إقليمية.
الثالث: إغراء المجتمع الدولي بالمحافظة على مصالحه في العراق.
3-ضمان تطبيق الاتفاقيات المعقودة بين الطرف الأميركي المحتل، والطرف العراقي العميل.
وإذا ما وفرت إدارة أوباما كل عوامل نجاح هذه الخطوات أو بعضها، يصبح واقع بقاء أميركي آمن في العراق ميسوراً باستخدام الحد الأدنى من القوات العسكرية.
وإذا كانت هذه هي الخطة التي تعمل إدارة أوباما على إنجازها الآن، لكنها ليست بالضرورة هي الخطة التي يمكن أن تنجح. فكما أنها تحوز على بعض شروط النجاح، فإن هناك شروطاً أخرى تمنعها وتحول دون نجاحها.
وإذا كانت المقاومة العراقية تملك شروط منع نجاح خطة أوباما، بإصرارها على متابعة المقاومة بشتى أشكالها، فإنها تستطيع أيضاً أن تمنع بعض شروط النجاح التي تملكها إدارة أوباما من أن تتحقق.
حيال هذه الخطة نرى أنفسنا أمام تنفيذ جزء أساسي من اتفاقية سايكس – بيكو يأتي بعد تنفيذ الجزء الخاص بفلسطين. إن هذا الخطر الداهم، كما أنه يحتاج إلى جهد المقاومة العراقية كمحرك رئيسي في الصراع الدائر بين قوى تقسيم العراق والأمة العربية من جهة، وقوى المقاومة الشعبية العربية من جهة أخرى، فإنه يحتاج أيضاً إلى جهد تبذله دول الجوار العراقي، عرباً وغير عرب، من أجل منع قرار تقسيم جديد شبيه بقرار تقسيم فلسطين.
من أجل ذلك يمكننا أن نتصور توزيع المسؤوليات، عراقياً وعربياً وإقليمياً، على الشكل التالي:
1-عراقياً: لقد حدَّد قرار تقسيم العراق الخطوط العامة للمرحلة الراهنة (أنظر نص القرار في آخر المقال) على الشكل التالي:
-تقسيم العراق إلى ثلاث فيدراليات، وهذا ما هو حاصل حالياً.
-العمل الجاد من أجل إنجاح ما تسميه الإدارة العملية السياسية.
-حماية التقسيم سياسياً بالتعاون مع دول الجوار الجغرافي.
-حماية التقسيم عسكرياً بالاحتفاظ بقوة من الجيش الأميركي، تبقى على أراضيه أو على أرض قريبة منه.
من خلال قراءة التصريحين النظريين، لجوزيف بايدن وأوباما، الداعيين لتسويات سياسية بين الداعمين للاحتلال والرافضين له، نتلمس مدى التضليل فيهما، خاصة أن إدارة أكبر دولة في العالم، تلحُّ على عملائها أن ينجزوا ما عجزت بقضِّها وقضيضها عن الإتيان بمثله، أو ما هو قريب منه. لذا نرى أنها تراهن على جرِّ من تحسب أنهم يمثلون المقاومة العراقية، كـ«المجلس السياسي للمقاومة العراقية» للتفاوض معها بمسرحية لم تخف على أحد. وهي قد لجأت إلى وسيلة الخداع تلك بعد أن أعلنت المقاومة العراقية رفضها أي تفاوض مع الاحتلال الأميركي تنزل شروطه دون حدود سقف الإعلان بالانسحاب الأميركي الكامل من العراق. وهنا تتحمل بعض الأنظمة العربية، التي تساعد أطراف هذا «المجلس»، مسؤولية في التضليل. وهي تستحق الإدانة لأنها تلعب بنار تندلع لتحرق أصابع كل من يتواطأ مع إدارة أوباما بذريعة أنها تختلف نوعياً، لا شكلياً، عن إدارة بوش.
أما على صعيد الهدف المركزي، أي تحقيق المصالحة، فبدلاً من اتجاه الحكومة العميلة إلى العمل لتحقيقها مع الرافضين للاحتلال، راحت تعمل على رأب الصدوع مع حلفائها ممن تآمروا مع الاحتلال وساعدوه على احتلال بلدهم. فالمشكلة الآن ليست في المصالحة بين عملاء الاحتلال ورافضيه، لأن من رفض المفاوضة مع الاحتلال إلاَّ بشرط الانسحاب الكامل، فهو يرفض المصالحة مع عملائه إلاَّ بسقوطهم الكامل. وإنما المصالحة الآن، من وجهة نظر إدارة أوباما، ملحة بين العملاء أنفسهم، بينما واقع الأمر أنهم لن يتصالحوا لأنهم يتسابقون على السرقة والفساد، وتهريب السرقات إلى الخارج للاستفادة منها بعد هروبهم من العراق مع الاحتلال الذي جاء بهم، وأتوا به إلى العراق.
إن دوامة المصالحة، التي لم تصل إلى نتيجة، دفعت رؤوس إدارة أوباما للتهديد العلني بأن صبر الإدارة قد نفد، وإن أميركا لن تبقى إلى الأبد في العراق، تعني أن «واشنطن فقدت التأثير على الأحداث بالعراق»، وهذا ما أشارت إليه الصحافة الأميركية، مؤكدة أن هناك قضايا تعيق وجود دور فعلي لواشنطن في العراق خلال الفترة المقبلة، أهمها الفساد وسوء الإدارة والعجز عن مقاومة الضغوط السياسية من الأحزاب الطائفية.
وإذا كانت المصالحة، التي قد تضمن استمرار الوجود الأميركي في العراق، وإذا لم تكن أصبحت في حكم المستحيلة فهي قد بلغت حداً متقدماً من الصعوبة، يمكننا قراءة الصفحة الثانية من الوسائل البديلة التي وضعتها إدارة أوباما لفتحها عربياً وإقليمياً من أجل حماية تلك العملية سياسياً.
2-عربياً وإقليمياً: تضمَّن قرار الكونغرس، القاضي بتقسيم العراق، دعوة لعقد «مؤتمر للأمن الإقليمي تحت رعاية الأمم المتحدة حيث تتعهد الدول المجاورة للعراق، بما فيها إيران، بدعم اتفاقية تقاسم السلطة واحترام حدود العراق الدولية». ودعم الاستقرار في العراق، وإنشاء جماعة اتصال ثابتة تشارك فيها الدول المجاورة وتنفيذ التزاماتها.
إن قرار الكونغرس يحمل تناقضاته في نفسه، التناقضات الكفيلة بمنع نفاذه ونجاحه. فهو اعتبر أن دول الإقليم المجاورة كتلة متجانسة الأهداف والمصالح. بينما الواقع هو غير ذلك تماماً، فلكل دولة من دول الجوار الجغرافي مصالح تتناقض مع مصالح الدول الأخرى.
إن هدف تقسيم العراق، في الوقت الذي يصب في مصلحة دولة مجاورة فهو يتناقض مع مصالح دولة أخرى. وإذا كان يتناسب مثلاً مع المشروع الإيديولوجي الاستراتيجي الإيراني، القائم على التفتيت المذهبي، فهو يتناقض مع المشاريع الإيديولوجية الدينية الأخرى، من جهة، ومع المشاريع القومية التوحيدية من جهة أخرى. وإذا كان النظام الإيراني الحالي، يجيز لنفسه الموافقة على إنشاء «كيان كردي إنفصالي» في شمال العراق على الرغم من حساسيته لأكراد إيران فلأنه سيحصل على جائزة ترضية له يتمثل في الحصول على «كيان شيعي» في جنوب العراق يحسب أنه سيكون موالياً له، فهل هذا يحوز على رضى تركيا وموافقتها؟
وإذا كانت مصلحة النظام الإيراني حائزة الشروط في تقسيم العراق، فأين هي مصلحة السعودية، وأين هي مصلحة سورية؟
فالسعودية، في الحالة التي يتقسَّم فيه العراق، سوف تدخل نفقاً مظلماً في صراع مستقبلي مع إيران لن تنتهي فصوله. وبه سيعود تاريخ صراع الدوليات إلى الواجهة من جديد، وستعود المنطقة قروناً عديدة إلى الوراء لتشهد صراعات طائفية حامية لن يخمد لها أوار.
أما سورية فهل تسمح بأن تُلدَغ من حُجرين؟
الحُجر الأول سيأتي من شمال العراق بعد أن تغلغل الوجود الصهيوني فيما يُسمى «دولة كردستان» الحالية، التي تكتمل شيئاً فشيئاً، ولعلَّ التلويح بعودة القوات الأميركية إلى محافظة نينوى (الموصل وكركوك)، كما تشير الصحف البريطانية، سيكون شبيهاً بدور قوات الانتداب البريطاني في فلسطين أثناء الثلاثينيات من القرن الماضي.
إن عودة هذه القوات مرسوم لها مسبقاً في نصوص قرار تقسيم العراق الذي صدر عن الكونغرس الأميركي في تشرين الأول من العام 2007، والذي كان عرابه جوزيف بايدن. وهو قد نصَّ في فقرته الرابعة على: «الاحتفاظ بقوة صغيرة مقيمة داخل أو بقرب العراق ربما تتكون من عشرين ألف جندي لضرب أية تجمعات إرهابية وللمساعدة في إيفاء الدول المجاورة بالتزاماتها تجاه العراق وتدريب قوات الأمن».
الجُحر الثاني سيأتي من بوابة تقسيم العراق الذي يتناقض كلياً مع شعارات الوحدة العربية، وبمثل هذا ستكون سورية مشرعة الأبواب أمام رياح الصراعات الطائفية.
إن مراهنة إدارة أوباما على حوار مع دول الإقليم الجغرافي للعراق يحمل من الألغام القابلة للتفجير في أية لحظة أكثر مما يحمل إمكانية الوصول إلى نتائج. وإن تفجير هذه الألغام منوط بالمقاومة العراقية من جهة، وبمدى وعي الأنظمة العربية، خاصة المحيطة بالعراق، خطورة ما يجري من جهة أخرى.
إلاَّ أن ما يُخشى منه هو ما يجري إعداده الآن، خاصة بعد أن تسرَّبت أنباء عودة الجيش الأميركي إلى الانتشار بقوة في شمال العراق، والذي يعني كما نحسب، إعلاناً حاسماً بفصل قسري لشمال العراق عن دولة العراق، ووضعه تحت حماية أميركية مباشرة، تنفيذاً لمشروع تقسيم العراق. وبالتالي خلق واقع جديد لوضع دول الإقليم الجغرافي تحت أمر واقع.
إن هذا التطور، يضع دول الإقليم الجغرافي، خاصة الأنظمة العربية، أمام مسؤولية تاريخية تفرضها تطور الأحداث الجارية في شمال العراق. وعليها أن تدرك أن قفازات أوباما المخملية الديبلوماسية ستحصل على نتائج أكثر خطورة من قفازات بوش الحديدية العسكرية، إذا ما استسلمت إلى وقائع الأمور أو إذا حيَّدت نفسها عن مقاومته بكل الوسائل المتاحة، بما فيها ومن أهمها دعم المقاومة العراقية والتنسيق معها.
فهل يتعلم العرب اليوم من تجربة تمرير قرار تقسيم فلسطين، تنفيذاً لاتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور بصيغته البريطانية، ويقفوا اليوم لإحباط قرار تقسيم العراق، تنفيذاً لوعد الكونغرس الأميركي، بصيغته الأميركية؟
***
نص وثيقة تقسيم العراق
خطة بخمس نقاط للسيناتور جوزيف بايدن
تشرين الأول 2007، اصدر مجلس الشيوخ الأمريكي قراراً قدمه السيناتور جوزيف بايدن وعدد آخر من زملائه بشأن إقامة ثلاث فيدراليات في العراق.
وفيما يلي النص المترجم (ترجمة غير رسمية) لنص القرار.
1-إنشاء عراق واحد من ثلاثة أقاليم
* فدرلة العراق وفق الدستور العراقي ستتكون من ثلاث مقاطعات ذات حكم ذاتي واسع ، (شيعية ، سنية ، كردية ) مع حكومة مركزية قوية ولكنها ذات سلطات محدودة في بغداد.
* تتولى الحكومة المركزية مسؤولية المصالح المشتركة الحقيقية: الدفاع عن الحدود ، السياسة الخارجية ، انتاج النفط والواردات .
* تشكيل حكومات الأقاليم (للكرد ، السنة ، الشيعة ) وتكون مسؤولة عن إدارة شؤون أقاليمهم .

2-المشاركة في واردات النفط.
* الوصول إلى اتفاقية كحل فدرالي لضمان 20% من الواردات للعرب السنة من كل الواردات النفطية، الحالية والمستقبلية. وهي نسبة تكاد تتلاءم مع حجمهم السكاني والذي سيساعد على ازدهار إقليمهم اقتصاديا.
* منح الحكومة المركزية سلطة وضع سياسة نفطية وطنية وتوزيع الواردات، والتي ستجتذب الاستثمارات الأجنبية التي يحتاجها العراق والأخذ بنظر الاعتبار قانونياً مصلحة كل مجموعة من خلال المحافظة على العراق موحدا وحماية البنية التحتية للصناعات النفطية .

3-عقد مؤتمر دولي وفرض معاهدة عدم اعتداء إقليمي.
* عقد مؤتمر للأمن الاقليمي تحت رعاية الأمم المتحدة حيث تتعهد الدول المجاورة للعراق بما فيها ايران بدعم اتفاقية تقاسم السلطة واحترام حدوده الدولية.
* اشراك الدول المجاورة مباشرة في الجهد للتغلب على الشكوك وتركيز جهودها على دعم الاستقرار في العراق وليس تقويضه.
* إنشاء جماعة اتصال ثابتة (تشارك فيها القوى الرئيسية والتي ستشارك فيها الدول المجاورة وتنفيذ التزامتها).
4-الانسحاب المعقول للقوات الأمريكية.
* توجيه القادة العسكريين لتطوير خطة خاصة بالانسحاب وإعادة نشر معظم القوات الأمريكية من العراق في أيلول 2008.
* الاحتفاظ بقوة صغيرة مقيمة داخل أو بقرب العراق ربما تتكون من عشرين ألف جندي لضرب أية تجمعات إرهابية وللمساعدة في إيفاء الدول المجاورة بالتزاماتها تجاه العراق وتدريب قوات الأمن.
5-زيادة مساعدات الإعمار وبناء برنامج للوظائف.
* تقديم المزيد من مساعدات الإعمار تحت شروط حماية الأقليات وحقوق النساء وإنشاء برنامج للوظائف لمنح الشباب العراقي بديلا عن الانضمام للميليشيات والعصابات المسلحة.
* الإصرار على أن تأخذ الدول الأخرى دوراً رئيسياً في تمويل عملية الإعمار من خلال تحسين الالتزامات القديمة وتقديم التزامات جديدة وخصوصا الدول العربية الخليجية الغنية بالنفط .

افتتاحية الطليعة أيلول 2009
16-يا أحرار العروبة اتحدوا
الدم العربي لن يتحول إلى ماء يروي عطش الخارج ووكلائه
من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي انتشرت ظاهرة الجزر البشرية المشبعة بالطائفية، تحت ستار حماية الدين الإسلامي ونشره وتأسيس دولته، ووجدت بسهولة فائقة عوامل إسنادها من الداخل الطائفي والخارج المتستر بالدين. وإن عوامل الإسناد ليست بريئة على الإطلاق من الهوى والنفعية والغرضية والابتزاز، بل هي بالفعل ملوَّثة بكل ألوان استغلال عواطف ووجدان الشعب العربي البريئة، فأوقعتها بفخاخ الدجل والشعوذة والضرب على أوتارها الحساسة، خاصة وأنها قرنت دعمها ومساعدتها وإسنادها بالكثير من الشعارات الفضفاضة التي تلامس عواطف الشريحة الأوسع من أبناء الشعب العربي لأنها تعزف على وقع حاجاتهم ومصالحهم.
كان من أهم تلك الأوتار:
-وتر تحرير الأرض العربية من الاحتلال الصهيوني تارة، والاحتلال الأميركي تارة أخرى.
-ووتر مواجهة الأنظمة العربية لاستعادة حقوق مدنية مسلوبة، تبتدئ من لقمة العيش ولا تنتهي بالحقوق الاجتماعية والسياسية.
ليس هناك من حلم أهم من حلم التحرير من الاحتلال، إذ لا يمكن للشعب المحتل أن يرفض ما ومن يساعده على تحرير نفسه من الاحتلال. كما أنه ليس هناك من حلم أهم من حلم عطشان تساعده على إرواء ظمئه بقطرة من الماء، وللجوعان من مساعدة تحد من شدة جوعه، ومن مستعبد تساعده على تحرير قراره وإرادته من الطغيان والقمع.
لقد أجادت إذن بعض قوى الداخل والخارج العزف على أهم وترين: تحرير الأرض من الاحتلال، وتحرير النفس من الجوع والعبودية، فتسللت بالعزف عليهما إلى قلوب وأفئدة من كانت نفوسهم جاهزة للتضحية بالنفس والدم للحصول على كليهما أو على واحد منهما، فقدموا الدم فعلاً عندما توفرت سبل الإسناد والدعم.
لقد ارتبط العرفان بالجميل لمن قدم عوامل الإسناد من دون تمحيص أو تفكير، ولأن للداعمين أشكال وألوان متنافرة ومتناقضة، نال من قدَّمهما تأييد شريحة كبرى من شعبنا العربي ومحبتها، وانقسمت تلك الشريحة إلى مؤيد لهذا الداعم أو ذاك. وبها تقاسمت قوى الدعم والإسناد أبناء الشعب العربي، وحصل التقسيم العامودي بين أبناء الوطن الواحد، وازدادت حالة التفتيت، فنزل بلاء الطائفية والمذهبية إلى الساحة على أمتنا العربية بقوة لافتة خاصة وهي الأمة الغارقة بالبلايا، فتراكم البلاء على البلاء.
هذه الصورة المأساوية تلف اليوم أمتنا العربية من أقصاها إلى أقصاها، تبتدئ بالعراق وتمر بلبنان، وتعبِّر عن حالة فلسطين واليمن، ولا تستقر بالبحرين أو الكويت، بل تتواصل مع السودان والجزائر، وهي ليست بعيدة عن المغرب وموريتانيا، بل هي قريبة أيضاً من محميات الخليج العربي ودولياته. . .
في هذه المعركة أو تلك، التي يخوضها أبناء العروبة على طول الساحة العربية وعرضها، يُراق الدم العربي بسخاء وغزارة، إما في سبيل التحرير من احتلال الخارج، أو التحرر من طغيان الداخل. وكل قطرة من الدم تسقط هنا أو هناك فإنها تحتل مكانها الصحيح، فهي إما أن تكون ثمناً لتحرير شبر من الأرض، وإما ثمناً لتحرير شبر من الكرامة والحقوق المدنية، وتلك مسألة لا جدال حولها أو فيها أو معها.
ولكن ما نخشاه هو أنه من الممكن أن تتحول دماء العرب إلى ماء يروي عطش الخارج الأجنبي إلى تحقيق المصالح على حساب دمنا المراق، ليسترد ثمن ما يقدمه من إسناد مادي وتأييد معنوي، أو أن يصب هذا الماء ليدير طاحونة الداخل الموالي للخارج فيعمل على تجييره لمصلحته فيدعم وجوده كممثل دائم للخارج ويضمن استمرار وكالته الحصرية.
إن استغلال الدماء العربية الآن من أجل مصالح طائفية ومذهبية عابرة للأوطان والقوميات، لهو اتجاه في عكس السير ضد حقائق العصر والتاريخ. إن تاريخ بناء الإمبراطوريات العابرة للحدود الجغرافية المعترف بها قد ولَّى إلى غير رجعة، وهو لن يعود. فالولاء للأوطان لن يعود القهقرى. ومن يحلم بغير ذلك فهو يضيَّع الوقت على العرب وعلى الأمة العربية. ومن كان يحلم ببناء إمبراطورية أياً تكن العناوين والمفردات، دينية أكانت أم مذهبية، فعليه أن يقلع عن حلمه. فهذا الحلم الإمبراطوري الأميركي قد تكسَّرت قرونه ولن تلتئم. ومن يحلم طائفياً أو مذهبياً أنه سيشكل البديل الإمبراطوري، فعبثاً سيكون حلمه، لأنه سيستفيق في صباح الغد وهو يحمل قبضة من الريح والأوهام. فالعصر الإمبراطوري لن يعود، لأن العصر القومي يشرق من جديد، وهو عصر الأمة العربية الواحدة بامتياز، ولن تذروه قبضة من أحلام المتطيفين والمتمذهبين.
نتيجة هذه الحقيقة التي نراها بوضوح، ولكي لا يتحول الدم العربي إلى ماء يضفي القوة على الخارج ووكلائه في الداخل، يمكن أن نرفع الصوت لكي نضمن أن الدم العربي لن يروي إلاَّ أرضنا العربية، فنصرخ في وجه أنظمتنا العربية وندعوها إلى أن تفيء إلى أمرها وتنحاز إلى مصلحة شعوبها، وذلك بأن تنزع الذريعة من أيدي الأجنبي الذي يستغل توق الجماهير الجائعة إلى التحرر من الاحتلال فتقوم تلك الأنظمة بواجب الدفاع عن أرضها الوطنية، كما إلى لقمة الحقوق المدنية المستحقة لشعوبها، فتعطيها طائعة مختارة من أن تعطيها مرغمة صاغرة.
وفوق كل ذلك، ومن أهمه، على الأمة العربية، شعباً وأحزاباً وقوى متحررة، أن تتحد لتمنع تحويل الدم العربي إلى ماء يروي عطش المتدخلين من الخارج ووكلائه للهيمنة على قرار الشعوب التائقة إلى الحرية والتحرر، والعيش الكريم.

افتتاحية الطليعة تشرين الأول 2009
17-شمعة واحدة تضيء الجبهة الوطنية
أفضل ألف مرة من لعن ليل النظام

لقد سئم المواطن اللبناني من تكرار مطولات النقد التي تنمقها أقلام القوى السياسية والحزبية المعارضة والتقدمية لأداء النظام الرسمي اللبناني، وأداء القوى الحاكمة بكل تلاوينها وأشكالها الفئوية والطائفية والمذهبية والليبرالية المستفيدة من استمرار مناهج الحكومات أو المتقاسمة غنائمها.
قال المثل العامي الذي لا يزال صالحاً للآن: أن تضيء شمعة صغيرة خير من أن تنفق عمرك كله تلعن الظلام.
بين إضاءة شمعة أو لعن الظلام تستهلك حركات التغيير الجذري عمرها كله في مناقشة من يسبق من؟
أإضاءة الشمعة تسبق لعن الظلام أم لعن الظلام يسبق إضاءة الشمعة؟ وتكر سبحة الأيام وتمر الليالي، ولا يرى المواطن الذي يكتوي بنار الظلام ظلاماً ينكفئ ولا شمعة تضيء سواد أيامه الحالكة.
فمن أين يبدأ الحل؟ وما هو العمل؟
إذا كانت الأحزاب تمثل هبة الحداثة لكل من ينشد التغيير، لأنها تجمع يدين اثنتين لتجعلهما قادرتين على التصفيق. وإذا كانت الأحزاب، وما أكثرها، تضم آلاف الأيادي ولكنها لا تزال عاجزة عن التصفيق. فسوف تتحول إذا الاستفهامية إلى سلسلة كبيرة من الأسئلة قادرة بعد الإجابة عنها لإنقاذنا من الحيرة والارتباك، وإخراجنا من أمام حيطان المبكى، ووضعنا أمام مذابح الفعل، وتجعل من مبدئية السؤال (ما العمل)، السؤال الأكثر صدماً، مادة أولى من الحركة تجاه إشعال الشمعة الأولى بالنزول إلى الشارع والحقل والمدرسة والنادي، بعد أن شبعنا من قفف كلمات اللعن ومقالاته، وأشبعنا من يستأهلون اللعن الكثير من الكلام.
وإذا كان توصيف كل حزب لنفسه، وكل شخص لشخصه، بأنَّا (قليل عديدنا)، وكأنه مدعاة لليأس، فإن قلة زيد مع ندرة عمرو تصبح كثرة لا يستهان بها، تجمع كل من تآكله الملل والرتابة واليأس.
أما التساؤل من أين نبدأ العمل؟
فهو تساؤل كاد من كثرة تكراره يثير أعصاب من بقي لديه أعصاب لم يخدرها الروتين. وليس من الصعب الإجابة عليه: وهل عناوين ما يشكو منه الجائع والعطشان والمريض والأمي والقابع في الظلام واليائس من توفير فرصة عمل، و. . و. . . هي قليلة؟
سترى العناوين منتشرة أينما يممت شطر وجهك، ستراها واضحة وصافعة وفاقعة لكل من يملك بصراً وسمعاً ولمساً وذوقاً، وقد لا يراها من قد أعشى الظلام عقله وبصره. على الجميع أن يبدأ فليس للجوع حزب وليس للعطش حزب، وليس للبطالة حزب، فلهم جميعهم حزب واحد وصوت واحد ومطالب واحد.
للمواطن صوت واحد، فيا أحزاب لبنان اتحدوا، وأشعلوا شمعة جبهوية واحدة فلن يفيد الجائع بينكم كل كتب العالم التي تلعن ظلام الفقر والمرض والبطالة والأمية، بل ما يفيدهم شمعة واحدة تضيئونها في الشوارع التي أعلنت فيها أكثرية الحاكمين وأقليتهم قرارهم بإطفاء أبصار أنصارهم ومؤيديهم والهاتفين لهم وإعلان ظلام الشللية والمذهبية والطائفية قانوناً أبدياً، في نظام لن يستفيد منه إلاَّ النخبة منهم، من الراكبين على صهوات جياد التحريض والتعبئة الطائفية.
أيها الرافضين لكل فيروسات نظام الطائفية السياسية، يا أحزاب لبنان اتحدوا، سواءٌ أشكل هؤلاء وأولئك حكومة، أم لم يشكلوا. وسواءٌ انتخبوا مجلساً نيابياً أم لم ينتخبوا، فالأمر سيان.
فإذا شكلوا حكومة فلن تكون إلاَّ على شاكلة مصالحهم. وإذا انتخبوا فلن ينتخبوا إلاَّ على اتجاهات رياحهم وأهوائهم.
لا تنتظروا المعجزة منهم، بل اعتبروا أن مصالح التقدميين هي مصالح الشعب المسكين، ورياح التقدميين لن تدير إلاَّ طواحين المساكين والمعذبين. وإذا كان لكم حكومة فشكلوا حكومة الجبهة الوطنية، وإذا كان لكم مجلس نيابي فانتخبوا كل من هو مستعد لخوض معركة العمال والفلاحين والكادحين والجياع والعطاشى والمرميين من العاطلين عن العمل على أرصفة الضياع والغربة، ومن بعدها شكلوا حكومة تتخذ من أرصفة الشوارع مكاناً لاجتماعاتها تحرسها هتافات المتروكين لقمة سائغة للجهل والمرض والعتمة والبطالة.

18-كي لا تتحول القضية العراقية إلى قضية مطلبية وإصلاحية
19/ 10/ 2009
للقضايا ثوابت أساسية تشكل المحور الذي تدور في فلكه المتغيرات، أي الوسائل والخطط، التي تخدم حركتها والمحافظة على جوهرها، فتصبح القضية جرم يضبط إيقاع الوسائل والخطط التي تعمل في خدمتها، وبغير ذلك يختل التوازن في حركة الثوابت والمتغيرات معاً.
قياساً على ذلك، ومن أجل العمل السليم الذي يخدم القضية العراقية، نربط الحركة الإعلامية التي يتم توظيفها في خدمة هذه القضية، بمفهومنا لهذه القضية الآن. فكيف نرى هذا المفهوم وننظر إليه؟
القضية العراقية الآن هي قضية احتلال قبل أي شيء آخر. والوسائل التي يجب توظيفها هي كيف نقاوم الاحتلال؟ الأمر الذي يجعل ثنائية (الاحتلال – المقاومة) ثابتاً تدور في فلكه كل الوسائل والخطط. وما يخرج عنها قد يحوِّل الأنظار عن المفهوم الثابت إلى قضايا ثانوية مما يفسح الطريق لخلل قد يدفع بالثابت إلى دائرة النسيان، وتحل مكانه في ذاكرة الرأي العام تلك الثانويات.
حول ذلك، وللتبسيط أكثر، نعتبر الغرق في تسليط الضوء على كل الجرائم التي يتم ارتكابها على أرض العراق كما لو أنها أخطاء ترتكبها أدوات الاحتلال وعملائه فقط، والغرق في نصحها أو تهديدها بالإقلاع عنها، نكون كمن يدعو إلى تغيير في البنى الحكومية المحلية، أي تتم معالجتها بمجرد استبدال أشخاص الذين يرتكبونها بأشخاص آخرين. ونكون بذلك كمن يتم تجهيل الثابت الأساس، والثابت هنا هو أن ما يحصل كان نتيجة للاحتلال، ولا يمكن العمل على إصلاحه إلاَّ بالقضاء على السبب الرئيسي أولاً ويأتي القضاء على ذيوله نتيجة حتمية، مترافقة أولاحقة.
ذهب محمد بحر العلوم، وأتى ابراهيم الجعفري، وذهب الجعفري وأتى أياد علاوي، وذهب علاوي وجاء نوري المالكي، وقد يذهب المالكي ويأتي آخر لا يختلف عنه إلاَّ بالاسم. ذهبوا جميعاً، وأتوا جميعاً، فكانوا متغيرات يحكمون باسم ثابت واحد لم يأت كما لم يذهب، وهو الاحتلال الأميركي.
ذهب محمد باقر الحكيم وجاء عبد العزيز الحكيم، وذهب عبد العزيز وأتى عمار الحكيم، وظل الثابت الوحيد الذي لم يذهب، لم يتبدل ولم يتغير، وهو الاحتلال الإيراني.
ذهب محسن سليم، وجاء طارق الهاشمي، والذي لم يذهب ولم يأت هو منهج الحزب الإسلامي العراقي.
الاحتلال هو الثابت الوحيد، أما المتغير فهم عملاؤه. وجرائم العملاء لا تقاس بجريمة الاحتلال، فهذه كانت السبب، وتلك كانت النتائج، وللقضاء على النتائج لا يمكن أن يحصل إلاَّ بالقضاء على السبب.
من كل ذلك، نرى أن القضية العراقية ليست قضية مطلبية، بل هي قبل أي شيء آخر قضية تحرر وطني.
ليست قضية مطلبية يمكن معالجتها بتغييرات داخلية، سواءٌ أكان بإصلاح الحكومات، أم كان بإصلاح المؤسسات المدنية والأمنية والعسكرية. وسواءٌ أتمَّ ذلك عبر تغييرات في بنى الأجهزة، أم تمَّ بعملية انتخابية.
بل هي قضية تحرر وطني، لن يتم علاجها إلاَّ بالقضاء على أسبابها، وسببها الوحيد هو الاحتلال.
ولاحتلال العراق وجهان:
-الاحتلال المباشر، ووجهه البارز والحقيقي يظهر في الحلة الأميركية، عبر مئات الآلاف من الجنود النظاميين والمرتزقة، يساعده عملاؤه المباشرين الذين يديرون العملية السياسية والأمنية والعسكرية.
-الاحتلال المقنَّع، ووجهه إيراني، عبر أدوات عراقية محلية تشكل الغطاء العراقي لمئات الآلاف من الإيرانيين المتداخلين تحت ذلك الغطاء.
كل من الاحتلالين الآن، وفي هذه المرحلة بالذات، يعمل على تجهيل دوره بالإيحاء أن القضية العراقية بكل تداعياتها ليست أكثر من شأن داخلي يمكن تصحيحه بعلاجين: أولهما تثبيت التقسيم ثلاثي المظهر (الجنوب – الوسط – الشمال) لمنع الاحتكاك بين الطوائف والأعراق كما يزعمان. وثانيهما الانتخابات التي يوحيان بأن نتائجها ستؤثر على تصحيح كل الأخطاء التي ارتكبت وترتكب في العراق. أي باختصار تحميل الأوزار للعراقيين وتجهيل الأدوار الخارجية. ولهذا يعملان عن طريق الحوار، الذي ليس هو أكثر من شد وجذب شكليين بينهما، للاتفاق على تثبيت سلة من المصالح قبل أن يداهم الاحتلال الأميركي استحقاق الانتخاب، وقبل أن يداهم الاحتلال الإيراني استحقاق صحوة نظامية عربية تربك مخططه وأهدافه.
استناداً إلى ما نحسبه أساسياً في المرحلة الراهنة، ندعو إلى تكثيف الحركة الإعلامية المساندة للمقاومة العراقية تجاه التركيز على الاحتلال بنوعيه لكي لا ينسى المواطن العراقي أن محنته التي يعيشها ليست أكثر من نتيجة لسبب وحيد هو الاحتلال ولن يستفيد من عملية التجميل التي يجري الإعداد لها باعتبار أن المسؤولية تقع على العملاء وحدهم، بينما الاحتلال بنوعيه يلعب دور الحكم بين المتصارعين من العملاء على كسب ثقة العراقيين في صناديق الاقتراع. هذا مع العلم أن كل من ينخرط في هذه العملية لن يحمل هم العراق والعراقيين بل يتسابقون على احتلال المواقع التي توفر لهم الفرصة للإمعان في الجريمة والفساد والسرقة والنهب.
كما أنه على وفق حساباتنا، ندعو العرب الذين إن صحَّ احتمال صحوتهم على وعي مخاطر ما يجري أن يريحوا أنفسهم من التسابق على كسب من هنا أو هناك، ممن يراهنون على أنهم قد يوفرون لهم مرقد عنزة لمصالحهم في العراق، أن مراهناتهم ستكون أكثر من خاسرة، لأنه إذا استتب الأمر لكل من الاحتلالين، كما نستنج مما يجري وراء الكواليس، فإن مصالح بعض العرب المراهنين على نتائج الانتخاب ستكون على حساب تقسيم العراق وتقاسم المصالح فيه للخارج الأميركي والإيراني، ولن يُسمح لهم بالدخول إلى العراق إلاَّ وفق تأشيرة من واشنطن أو تأشيرة من طهران.
ومن هنا نتوجه إلى العراقيين الذين يعيشون في أتون لم تعرف البشرية أكثر منه ظلماً وظلاماً وقسوة، لنقول إن خلاصهم لن يتم من بوابة الإصلاح التي يراهن عليها البعض، بل إن خلاصهم لن يتم إلاَّ من بوابة التحرير، تحرير بلدهم من كل آثار الاحتلال مهما كان شكله ولونه وطعمه، بينما المتسابقون على ما يسمونه إصلاحاً داخلياً، بالانتخابات أم بغيرها، سيبقون الذراع الإجرامية بيد الاحتلال للإمعان بالجريمة والفساد والسرقة ومصادرة السيادة الوطنية.
كما نوجه الأنظار إلى أنه خير للعرب، أنظمة ومجتمعات وطنية، أن يدخلوا إلى العراق من بوابته العربية، فيكونوا إخوة أعزاء مُرحَّباً بهم، من أن يدخلوا إلى العراق من بوابة الأجنبي وتحت مراقبته وإرادته.
فقضية العراق الآن إذن ليست قضية مطلبية إصلاحية، بل هي قضية تحرر وطني، فلتتحد كل البنادق والأقلام من أجل إزالة السبب واجتثاثه، لأنه بغير ذلك سيضيِّع العراقيون والعرب الوقت والفرصة وهما ثمينان في حياة الشعوب والأمم.

18-كي لا تتحول القضية العراقية إلى قضية مطلبية وإصلاحية
19/ 10/ 2009
للقضايا ثوابت أساسية تشكل المحور الذي تدور في فلكه المتغيرات، أي الوسائل والخطط، التي تخدم حركتها والمحافظة على جوهرها، فتصبح القضية جرم يضبط إيقاع الوسائل والخطط التي تعمل في خدمتها، وبغير ذلك يختل التوازن في حركة الثوابت والمتغيرات معاً.
قياساً على ذلك، ومن أجل العمل السليم الذي يخدم القضية العراقية، نربط الحركة الإعلامية التي يتم توظيفها في خدمة هذه القضية، بمفهومنا لهذه القضية الآن. فكيف نرى هذا المفهوم وننظر إليه؟
القضية العراقية الآن هي قضية احتلال قبل أي شيء آخر. والوسائل التي يجب توظيفها هي كيف نقاوم الاحتلال؟ الأمر الذي يجعل ثنائية (الاحتلال – المقاومة) ثابتاً تدور في فلكه كل الوسائل والخطط. وما يخرج عنها قد يحوِّل الأنظار عن المفهوم الثابت إلى قضايا ثانوية مما يفسح الطريق لخلل قد يدفع بالثابت إلى دائرة النسيان، وتحل مكانه في ذاكرة الرأي العام تلك الثانويات.
حول ذلك، وللتبسيط أكثر، نعتبر الغرق في تسليط الضوء على كل الجرائم التي يتم ارتكابها على أرض العراق كما لو أنها أخطاء ترتكبها أدوات الاحتلال وعملائه فقط، والغرق في نصحها أو تهديدها بالإقلاع عنها، نكون كمن يدعو إلى تغيير في البنى الحكومية المحلية، أي تتم معالجتها بمجرد استبدال أشخاص الذين يرتكبونها بأشخاص آخرين. ونكون بذلك كمن يتم تجهيل الثابت الأساس، والثابت هنا هو أن ما يحصل كان نتيجة للاحتلال، ولا يمكن العمل على إصلاحه إلاَّ بالقضاء على السبب الرئيسي أولاً ويأتي القضاء على ذيوله نتيجة حتمية، مترافقة أولاحقة.
ذهب محمد بحر العلوم، وأتى ابراهيم الجعفري، وذهب الجعفري وأتى أياد علاوي، وذهب علاوي وجاء نوري المالكي، وقد يذهب المالكي ويأتي آخر لا يختلف عنه إلاَّ بالاسم. ذهبوا جميعاً، وأتوا جميعاً، فكانوا متغيرات يحكمون باسم ثابت واحد لم يأت كما لم يذهب، وهو الاحتلال الأميركي.
ذهب محمد باقر الحكيم وجاء عبد العزيز الحكيم، وذهب عبد العزيز وأتى عمار الحكيم، وظل الثابت الوحيد الذي لم يذهب، لم يتبدل ولم يتغير، وهو الاحتلال الإيراني.
ذهب محسن سليم، وجاء طارق الهاشمي، والذي لم يذهب ولم يأت هو منهج الحزب الإسلامي العراقي.
الاحتلال هو الثابت الوحيد، أما المتغير فهم عملاؤه. وجرائم العملاء لا تقاس بجريمة الاحتلال، فهذه كانت السبب، وتلك كانت النتائج، وللقضاء على النتائج لا يمكن أن يحصل إلاَّ بالقضاء على السبب.
من كل ذلك، نرى أن القضية العراقية ليست قضية مطلبية، بل هي قبل أي شيء آخر قضية تحرر وطني.
ليست قضية مطلبية يمكن معالجتها بتغييرات داخلية، سواءٌ أكان بإصلاح الحكومات، أم كان بإصلاح المؤسسات المدنية والأمنية والعسكرية. وسواءٌ أتمَّ ذلك عبر تغييرات في بنى الأجهزة، أم تمَّ بعملية انتخابية.
بل هي قضية تحرر وطني، لن يتم علاجها إلاَّ بالقضاء على أسبابها، وسببها الوحيد هو الاحتلال.
ولاحتلال العراق وجهان:
-الاحتلال المباشر، ووجهه البارز والحقيقي يظهر في الحلة الأميركية، عبر مئات الآلاف من الجنود النظاميين والمرتزقة، يساعده عملاؤه المباشرين الذين يديرون العملية السياسية والأمنية والعسكرية.
-الاحتلال المقنَّع، ووجهه إيراني، عبر أدوات عراقية محلية تشكل الغطاء العراقي لمئات الآلاف من الإيرانيين المتداخلين تحت ذلك الغطاء.
كل من الاحتلالين الآن، وفي هذه المرحلة بالذات، يعمل على تجهيل دوره بالإيحاء أن القضية العراقية بكل تداعياتها ليست أكثر من شأن داخلي يمكن تصحيحه بعلاجين: أولهما تثبيت التقسيم ثلاثي المظهر (الجنوب – الوسط – الشمال) لمنع الاحتكاك بين الطوائف والأعراق كما يزعمان. وثانيهما الانتخابات التي يوحيان بأن نتائجها ستؤثر على تصحيح كل الأخطاء التي ارتكبت وترتكب في العراق. أي باختصار تحميل الأوزار للعراقيين وتجهيل الأدوار الخارجية. ولهذا يعملان عن طريق الحوار، الذي ليس هو أكثر من شد وجذب شكليين بينهما، للاتفاق على تثبيت سلة من المصالح قبل أن يداهم الاحتلال الأميركي استحقاق الانتخاب، وقبل أن يداهم الاحتلال الإيراني استحقاق صحوة نظامية عربية تربك مخططه وأهدافه.
استناداً إلى ما نحسبه أساسياً في المرحلة الراهنة، ندعو إلى تكثيف الحركة الإعلامية المساندة للمقاومة العراقية تجاه التركيز على الاحتلال بنوعيه لكي لا ينسى المواطن العراقي أن محنته التي يعيشها ليست أكثر من نتيجة لسبب وحيد هو الاحتلال ولن يستفيد من عملية التجميل التي يجري الإعداد لها باعتبار أن المسؤولية تقع على العملاء وحدهم، بينما الاحتلال بنوعيه يلعب دور الحكم بين المتصارعين من العملاء على كسب ثقة العراقيين في صناديق الاقتراع. هذا مع العلم أن كل من ينخرط في هذه العملية لن يحمل هم العراق والعراقيين بل يتسابقون على احتلال المواقع التي توفر لهم الفرصة للإمعان في الجريمة والفساد والسرقة والنهب.
كما أنه على وفق حساباتنا، ندعو العرب الذين إن صحَّ احتمال صحوتهم على وعي مخاطر ما يجري أن يريحوا أنفسهم من التسابق على كسب من هنا أو هناك، ممن يراهنون على أنهم قد يوفرون لهم مرقد عنزة لمصالحهم في العراق، أن مراهناتهم ستكون أكثر من خاسرة، لأنه إذا استتب الأمر لكل من الاحتلالين، كما نستنج مما يجري وراء الكواليس، فإن مصالح بعض العرب المراهنين على نتائج الانتخاب ستكون على حساب تقسيم العراق وتقاسم المصالح فيه للخارج الأميركي والإيراني، ولن يُسمح لهم بالدخول إلى العراق إلاَّ وفق تأشيرة من واشنطن أو تأشيرة من طهران.
ومن هنا نتوجه إلى العراقيين الذين يعيشون في أتون لم تعرف البشرية أكثر منه ظلماً وظلاماً وقسوة، لنقول إن خلاصهم لن يتم من بوابة الإصلاح التي يراهن عليها البعض، بل إن خلاصهم لن يتم إلاَّ من بوابة التحرير، تحرير بلدهم من كل آثار الاحتلال مهما كان شكله ولونه وطعمه، بينما المتسابقون على ما يسمونه إصلاحاً داخلياً، بالانتخابات أم بغيرها، سيبقون الذراع الإجرامية بيد الاحتلال للإمعان بالجريمة والفساد والسرقة ومصادرة السيادة الوطنية.
كما نوجه الأنظار إلى أنه خير للعرب، أنظمة ومجتمعات وطنية، أن يدخلوا إلى العراق من بوابته العربية، فيكونوا إخوة أعزاء مُرحَّباً بهم، من أن يدخلوا إلى العراق من بوابة الأجنبي وتحت مراقبته وإرادته.
فقضية العراق الآن إذن ليست قضية مطلبية إصلاحية، بل هي قضية تحرر وطني، فلتتحد كل البنادق والأقلام من أجل إزالة السبب واجتثاثه، لأنه بغير ذلك سيضيِّع العراقيون والعرب الوقت والفرصة وهما ثمينان في حياة الشعوب والأمم.

19- ياسين الحافظ وإشكالية علاقة المفكر الملتزم مع الأحزاب العقيدية.
الجمعية الفلسفية الأردنية
عنوان المؤتمر (العقلانية في الفكر العربي)
تاريخ انعقاد المؤتمر: من 27 – 28/ 10/ 2009
المشارك: حسن خليل غريب
موضوع البحث: ياسين الحافظ وإشكالية علاقة المفكر الملتزم مع الأحزاب العقيدية.
مدخل للبحث وموجز عنه
بين عقلانية المفكر الملتزم بحزب عقيدي وحاجة الحزب للعقلانية علاقة وثيقة، تلك هي الخصوصية التي وجدت أنها ضرورية لاستقصاء ملابساتها من خلال البحث عن دور ياسين الحافظ كمفكر في مؤتمر يبحث عن العقلانية في الفكر العربي.
أما السبب الذي دفعني إلى اختيار هذا الجانب، فهو أنه، كما أحسب، إذا بقي الفكر جزيرة معزولة في عقول المفكرين، من دون أن يمتلك إمكانية ترجمته إلى مصلحة المجتمع الذي يعيش فيه هؤلاء، فسوف ينحدر إلى مستوى السفسطة، ويكون مآله الانقراض والتلاشي. إذ ليس هناك من يؤمن بإنتاج الفكر للفكر، بل هناك ترابط بين إنتاج الفكر ومصلحة المجتمعات البشرية، مما يجعل من هذا الترابط ثنائية يتكامل طرفاها في علاقة تبادلية وتكاملية يترجمها مفهوم الحزب في العصر الحديث، وتتشكل هذه الثنائية من الفكر كطرف أول ونضال الحزب السياسي العقيدي كطرف ثانٍ، أي الحزب الذي يعمل على الاستفادة من الفكر لصالح المجتمع الذي يعمل في وسطه.
وخصوصية المجتمع في التراث والحضارة، هي التي تضفي صفة العقيدة الثقافية الخاصة لهذا الوسط الاجتماعي أو ذاك، وتشكل إحدى ركائز بنائه الإيديولوجية، والتي إذا انغلقت أبوابها في وجه النتاج الفكري للآخر، تتحول إلى عصبية وشوفينية لا ترى في الآخر عوناً لها ونصيراً بالاستفادة من تجاربه. فتتحول الإيديولوجيا المنغلقة إلى سبب للاحتراب مع الآخر بدلاً من تكاملها معه. وهي تشكل خطورة أكثر إذا انقسم المجتمع الواحد إلى مجاميع من الإيديولوجيات المنغلقة بعضها على البعض الآخر.
لقد توصلنا إلى هذه النتيجة من خلال استقراء التجربة الإسلامية التي بلغ فيها الاختلاط الحضاري المتعدد الوجوه مدى واسعاً، ووصل إلى مداه الأقصى في العصر العباسي. وفيها توسع الجدل بين الأنا والآخر إلى المستوى الذي باتت فيه الإيديولوجيا الإسلامية عاجزة عن الإتيان بالأجوبة المناسبة لكل الأسئلة التي ارتفعت في المجتمع الجديد. فاضطر المسلمون من عرب وغيرهم، إلى فتح خزائن الفكر الفلسفي الإنساني، وكان النتاج اليوناني من أهم تلك الخزائن الفلسفية. فكانت تلك التجربة دلالة مهمة خاصة وأن من أهم حراس تلك الخزائن قد قضوا موتاً على أيدي الدعاة الدينيين في أثينا.
وعلى الرغم من ذلك فقد غامر المفكرون المسلمون بتكثيف حركتهم إلى نقل تراث من ماتوا وتمثله ومن ثم تمييز أنفسهم في إنتاج فلسفي جديد دفع الكثير منهم ضريبة التكفير والتعذيب والإقصاء والملاحقة والمحاكمة.
من تلك المرحلة يمكننا أن نقول بأن الإيديولوجيا الدينية التي كانت سائدة كادت تنغلق على نفسها، أو هي انغلقت فعلاً، فلم تعد تروي عطش السؤال الفلسفي عند المفكرين الإسلاميين، فانفتحوا على الرأي الآخر من دون خوف أو رهبة. ومن تلك التجربة بدأت العقلانية تشق طريقها في وسط حقل من الفزع والخوف، فكانت رحلة الموت والاضطهاد، التي ما إن انتصرت، حتى بعد مئات السنين حتى انكفأت العقلانية وأصيب العقل العربي والإسلامي بالجفاف فالتخلف والأمية.
وكما أحسب، وحتى لا تُصاب حركة التغيير في عصرنا القومي الراهن بانتكاسة تتقوقع فيها العقيدة القومية في دوائر التعصب والعصبية، كان لا بدَّ من دراسة أنموذج ياسين الحافظ، بمنهجية ما يشبه التقريب والمصالحة بين الإيمان الإيديولوجي القومي والعقل الفلسفي العام.
في هذه المقاربة، أو لنقل المغامرة التي لن تريح غلاة الإيديولوجيين القوميين، أو تريح من ينظر بعين الريبة والاتهام للفكر القومي، كفكر إيديولوجي، شدتني تجربة ياسين الحافظ، كمفكر قومي عمل على التوفيق بين إيديولوجيته القومية، معتبراً إياها ثابتاً، وبين الانفتاح على كل فكر آخر كان يحسب أنه به يرتفع من القومية المنغلقة إلى رحاب القومية المنفتحة، فوجد في الماركسية ما يؤدي الغرض. فانكب على دراستها من زاوية قومية عربية، ولمصلحة الفكرة القومية العربية أولاً وأخيراً.
لقد وجد الخلاص، كما حسب، بتخليص الفكر القومي من تقليدية وجدها فيه. كما فتح بتجربته طريق الخلاص لكثير من الماركسيين الذين كانوا متعنتين لأمميتهم بمفاهيمها الستالينية، فاقتربوا كثيراً من الجدار القومي وبذلوا كل جهودهم ووضعوها في خدمة الفكرة القومية العربية.
من أجل الخوض في هذه المغامرة، كان اختياري ياسين الحافظ لأنه شغل الموقعين معاً: المفكر العقلاني الذي انفتح على الفكر الماركسي، وهو يمثل الفكر الآخر، والحزبي الملتزم بعقيدة قومية عربية. والمثير في التجربة هو أن الفكرين وصلا إلى حافة الحرب المفتوحة طوال عقود من زمن التجربة الحزبية العربية.
ومما يسَّر لي تحطيم بعض أسوار المغامرة وبعض عوائقها، هو أن ياسين الحافظ لم يكن الشمعة الوحيدة التي مهَّدت طريق الحوار بين إيديولوجيتين تحاربتا ردحاً من الزمن، بل كانت توجيهات ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث، الذي التزم ياسين الحافظ بصفوفه، تحذِّر من توسيع أبواب الخصومة مع الماركسية وتحض على الحوار معها. كما هناك أنموذج آخر يمثله الدكتور الياس فرح، الذي شغل موقع مسؤول المكتب الثقافي القومي لحزب البعث لفترة طويلة، والذي نال شهادة الدكتوراه بتخصصه في الفكر الماركسي.
إضافة إلى ذلك، وإذا كانت تجربة ياسين الحافظ قد قطفت بعض النتائج الإيجابية من خلال انعكاسها على مقررات المؤتمر القومي السادس لحزب البعث، من خلال المنطلقات النظرية التي قام بصياغتها، وأقرها المؤتمر، إلاَّ أن تلك التجربة لم تكتمل، فبُترت بخروج الحافظ عن حزبه الأم ليؤسس حزباً آخر. وهذا ما طرح، كما أحسب، إشكالية العلاقة بين المفكر العقلاني في حزب عقيدي وبين حزبه. والتي حسبت من خلال نتائج بحثي أن ياسين الحافظ قد خسر حزبه الذي راهن على أنه سيكون أهم وسيلة من وسائل التغيير في بنى الأمة العربية، كما أن حزب البعث قد خسر بدوره مفكراً كان من الممكن، لو استمر ملتزماً به، أن يسير بعملية التجديد والإغناء أشواطاً كبيرة.
لكل ذلك،
وكوني مقتنعاً بأن لا تغيير في المجتمع العربي من دون حركة حزبية، ولا حركة حزبية سليمة من دون مفكرين ملتزمين.
وكوني مقتنعاً بأنه ليس بالإيديولوجيا المنغلقة تحيا الأحزاب، ولا إيديولوجيا منفتحة من دون وجود مفكرين يتصفون بالعقلانية.
وحرصاً مني على أن لا تحصل الخسائر المتبادلة بين المفكر الموصوف أعلاه والحزب الموصوف أيضاً، ومن أجل العمل لردم إشكالية العلاقة بين المفكر والحزب العقيدي، قمت باستنتاجات وصفية أحسب أنها توفر العلاج الذي قد يجسر الهوة بين طرفيً العلاقة. ومن أهم تلك الاستنتاجات التي توصلت إليها من خلال بحثي، هو القيام بثلاث خطوات:
-عقلنة المؤسسة الحزبية بانفتاحها على الآخر، وتعميق مفاهيم الديموقراطية في علاقاتها الداخلية، سواءٌ أكان بالنظرية أم كان بالتطبيق. وهي الحالة الأساسية التي تضمن للمفكر المجدد علاقة سليمة مع حزبه الذي التزم بعقيدته فكرياً، وبصفوفه تنظيمياً.
-وعقلنة المؤسسة السياسية وإبعاد المفكر الملتزم عن دوائر التنافس في التراتبيات السلطوية.
-والخطوة التي أراهن على أنها ستكون الضابط في علاقة سليمة، تكمن في تأسيس المؤسسات الفكرية بمواصفات حوارية وديموقراطية أيضاً.
لبنان في 24/ 10/ 2009
***
نص البحث
إشكالية العلاقة بين المفكر الملتزم والأحزاب العقيدية
لا يجوز أن نتناول موضوع ياسين الحافظ من زاوية كونه مفكراً تميَّز بجانب، أو أكثر من جانب، في تجديد الفكر القومي العربي فحسب، بل لا بدَّ أيضاً من الإضاءة على عدد من الزوايا التي ميَّزته عن غيره من المفكرين الآخرين، فهو مفكر ملتزم بحزب عقيدي، ولعب دوراً في ترسيخ أول تجربة حوار بين تيارين حزبيين طالما تغلبت فيه الخصومات بينهما على عوامل الحوار.
بين هذين الموقعين نجد بداية اقتراب نحو العقلانية التي يبدو أنها كانت عاملاً مقصياً عن النهج الإيديولوجي التقليدي، الذي لا يرى غالباً في الآخر صديقاً، ولا يرى عنده ما يمكن الحوار فيه. ومن خلال تجربة الحافظ، وهو الملتزم بخط حزبي إيديولوجي قومي، في الحوار مع الآخر الماركسي، ما يشد للدراسة والتأمل واستخلاص النتائج.
-أولاً: كونه مفكراً منتسباً إلى حزب عقائدي: إن انتساب مفكر إلى حزب عقيدي يقتضي التوفيق أو التكامل بين حاجتين: حاجة المفكر إلى مساحة من الحرية الفردية، وحاجة الحزب العقيدي إلى عقل جمعي يوحد الرؤية الفكرية للمنتسبين إليه. فالحرية الفردية للمفكر، قد تصطدم مع رؤية الأكثرية، التي هي في الغالب الأعم تتشكل من التقليديين الذين يصطدمون مع أي اتجاه للتجديد. وأما الحاجة إلى عقل جمعي داخل الأحزاب المنظمة، فهي أساس ضروري لتوحيد واقعها التنظيمي أولاً، وبما تحتاجه إلى أسس تنظيمية قائمة على مبدأ الديموقراطية المركزية التي تحكمه غالباً قاعدة «نفِّذ ثم ناقش» ثانياً.
-ثانياً: كونه لعب دوراً في تعزيز عوامل الحوار بين عقيدتين كانتا على خط احتراب دائم، وكانت كل منهما تمثل تياراً فكرياً له تأثير مركزي في الحركة الحزبية العربية، وهما: التيار القومي العربي والتيار الماركسي، فأضاف بذلك كسباً جديداً إلى التيار القومي العربي.
-ثالثاً: انفصاله عن حزب البعث العربي الاشتراكي، حزبه الأم، لاحقاً، على الرغم من إسهامه الأساسي في صياغة وثيقة فكرية «المنطلقات النظرية» التي أقرها المؤتمر القومي السادس، وبعد انفصاله قام بتأسيس حزب جديد هو حزب العمال الثوري العربي، جامعاً فيه مجموعة من اليساريين التي اقتنعت بالمنهج العقلاني لمؤسس الحزب.
-رابعاً: استمر حزب البعث العربي الاشتراكي على المستوى القومي حاكماً قطرين متجاورين، في سورية والعراق، ومنتشراً تنظيمياً على مساحة الوطن العربي، بينما عرف الحزب الذي أسسه الحافظ نشاطاً في بداياته ولم يستمر طويلاً حتى بدأ مرحلة من التراجع والانكفاء إلى أن وصل، كما وصفه أحد المنتسبين إليه، إلى حالة «الانغلاق الذي أدى إلى غربة الحزب عن الواقع واضمحلاله وتلاشيه في أوساط الناس»( ).
وكونه شغل كل تلك الأدوار في حزب البعث العربي الاشتراكي، مقتنعاً بمركزية القضية القومية العربية، كعقيدة ثابتة في فكر الحزب.
وكونه اهتم بالماركسية واستفاد منها لتدعيم القضية القومية المركزية.
ولأن هذا الاهتمام لم يشكل افتراقاً عن حزبه، ولم ينظر حزبه إلى هذا الدور نظرة سلبية، بل أقرها مؤتمره القومي أيضاً.
من هذا المنطلق، واستناداً إلى ضرورة تشخيص عوامل التقائه مع الحزب الأم، وعوامل افتراقه عنه، ومن غرض الحرص على الأفراد المتميزين في أحزابهم، بخاصة المفكرين منهم، سنقوم بمغامرة البحث والدراسة والاستقصاء عن فرضية إمكانية المحافظة على علاقة سليمة بين المفكر الذي يحتاج دائماً إلى مساحة من الحرية الفردية داخل حزب عقيدي، وبين الحزب الذي ينتمي إليه، والذي يحتاج إلى رؤية فكرية جمعية موحدة.
تلك الفرضية، إذا استطعنا إثباتها، فقد تصل بنا إلى اكتشاف علاج لخصوصية العلاقة بين المفكر الملتزم بحزب (كشخص فرد متميز) وبين الحزب (كجمع موحد) الذي ينتسب إليه.وتتلخص بالإجابة عن المقدمات والأسئلة التالية:
-كمدخل للمحاولة سنعمد إلى صياغة مفهوم نعرِّف فيه المفكر النظري العام، وبالتالي نعمل على مقاربته مع تعريف مفهوم المفكر المنتسب إلى حزب إيديولوجي، وأهمية تكامل دوريهما. وسيكون المفهومان مدخلاً لتحديد موقع ياسين الحافظ كمفكر في هذا التمييز، ومن ثمَّ الانطلاق منها لتشخيص الإشكالية موضوع بحثنا، للاستناد إلى نتائجها من أجل استشراف آفاق جديدة تضع أسس علاقة سليمة بين الأحزاب العقيدية والمفكرين الملتزمين بصفوفها.
-أين تبدأ مهمة المفكر المنتسب إلى حزب عقيدي وأين تنتهي؟
-أين تبدأ العلاقة السليمة بين المفكر الذي لا يمكن أن يقيم أسواراً إيديولوجية جامدة لعقله وبين الحزب العقائدي الذي من أهم عوامل وحدته التنظيمية هو المحافظة على وحدته الفكرية وضمان استمرار هذه الوحدة؟
-أين تبدأ مهمة الإغناء والتجديد في الفكر الحزبي العقائدي وأين تنتهي؟
-كيف يمكن التوفيق بين مشاريع المفكرين المجددين وتوقهم للتجديد وحاجة الحزب إليها؟
تلك الفرضية يمكن دراستها من خلال تجربة ياسين الحافظ الذي جمع بين مهمتين، ولن نقول وظيفتين، وهما:
-الأول: دوره كعضو في حزب البعث العربي الاشتراكي.
-الثاني: دوره كمفكر داخل هذا الحزب.
على الرغم من أنه أسهم بجدية في صياغات نظرية في المؤتمر القومي السادس، بخروجه من الحزب، انتهت تجربته بخروجه من حزبه الأم وتأسيسه لحزب جديد.
تلك الحالة الانفصالية أدَّت إلى إهماله داخل حزبه الأم على الأقل، إذا لم نقل بأنه أصبح في موقع العداء، وهذا لا ينفي أن الحزب قد خسره مع مجموعة من الذين استقطبهم. كما أنه، أي ياسين الحافظ، خسر أيضاً بانفصاله عن حزب كان قد أسهم بإغناء فكره، وهو الحزب الذي كان يراهن على أنه سيقوم بمهمات التغيير على مستوى الأمة العربية. فيكون بذلك قد خسر حزب البعث العربي الاشتراكي ولم يكسب حزب العمال الثوري العربي الذي أسسه كبديل.
وبالخسائر المتبادلة تكون التجربة الحزبية العربية قد تضررت من تلك الخسارة المتبادلة. ونأمل في أن تأتي نتائج دراستنا هذه للحد من خسائر مماثلة قد تتعرض لها الحركة الحزبية العربية، ومنها حزب البعث العربي الاشتراكي.
إنه من أجل الوصول إلى تقييم موضوعي، يفيدنا في تشخيص الحالة المرضية، وبالتالي يُسهم في تقويم تلك الحالة، نرى أننا بحاجة إلى بحث عن تفاصيل ما جرى من سجالات بين ياسين الحافظ وغيره من البعثيين، سجالات تكون قد لعبت دوراً في حالة افتراقه وانفصاله عن الحزب الأم. كما أننا بحاجة إلى بحث شبيه به، لكن عما جرى لأقرانه من الماركسيين الذين لعبوا دوراً في ولادة فكرة تأسيس حزب آخر، ليس بعثياً وليس شيوعياً.
ولما كانت بعض عناصر البحث غير متوفرة، وقد لا تتوفر، لسبب أن الموت قد غيَّب الأكثرية العظمى منها، سنلجأ إلى عناصر الاستنتاج والتحليل، وإلى أن تتوفر فرص الحصول على ما يتيسر منها يمكن للآخرين أن يلعبوا دوراً في الإضافة والتصحيح. وليعتبر كل من يطلع على هذه الدراسة نفسه معنياً بدعوتنا هذه لخدمة أغراض البحث والدراسة التي تخدم الحركتين الفكرية القومية العربية والحركة الحزبية العربية.
***
أولاً: سيرة ذاتية
ياسين الحافظ مفكر سوري ، يعتبر من أهم المنظرين الماركسيين العرب الذين حاولوا العمل على تعريب الماركسية واستخدامها لفهم ونقد المجتمع العربي وتغييره فيما بعد.
ولد ياسين الحافظ في مدينة دير الزور لأم سورية من أصول أرمنية وأب سوري، عام 1930. و كان من الذين شاركوا في حرب 1948 في فلسطين. كما انتسب مبكراً إلى حزب البعث العربي الاشتراكي. وخلال خدمة العلم تعرف إلى شريك عمره وصديقه، الياس مرقص، الذي كان عضواً في الحزب الشيوعي السوري. وسيبدأ في هذا الوقت مشروعه النقدي للماركسية المسفيتة والاهتمام بالبعد القومي. تحت تأثير مرقص سيبدأ تعرف الحافظ إلى الفكر الماركسي.
بعد تسلم حزب البعث السلطة في الثامن من آذار عام 1963 في الجمهورية السورية لعب الحافظ دوراً مهماً في المؤتمر القومي السادس حيث كُلِّف بكتابة «بعض المنطلقات النظرية لحزب البعث»، التي ستقوم مقام الوثيقة الثانية من حيث أهميتها في المرجعية النظرية لحزب البعث.
ونشبت صراعات واضحة بين أجنحة الحزب (تيار القيادة القومية التيار القطري) التي وصفت باليمين واليسار ثم كان المؤتمر القومي السادس للحزب في خريف عام 1963 مرحلة جديدة في ضوء المنطلقات النظرية التي أقرها المؤتمر القومي السادس، وتم تثبيت مفاهيم وشعارات جديدة (الاشتراكية العلمية ، الجيش العقائدي ، نظرية الحزب القائد).
وقد أفرز الصراع بين اليمين واليسار عبر المؤتمرات القومية العادية والاستثنائية ظهور تيار يسار البعث الذي غادر الحزب، وشكل بعض أعضائه حزب العمال الثوري العربي لاحقاً بقيادة المفكر القومي اليساري ياسين الحافظ( ).ومن المناهج الفكرية التي تأثَّر بها الحافظ، كان الطرح التاريخاني لعبد الله العروي، الذي لعب دوراً مهماً في منحاه الفكري.
بعد انتصار التيار اليساري توسع الخلاف مع المجموعة المتأثرة بالماركسية التي انشقت وأعدّت لمؤتمرها عام 1967 تحت اسم المؤتمر القومي السابع لحزب البعث اليساري، الذي تحول إلى المؤتمر الأول لحزب العمال الثوري العربي، تحت قيادة ياسين الحافظ. وتم اعتماد البعد القومي في تنظيم الحزب. وهذا الحزب لا يزال مستمراً ولكنه ينحسر يوماً بعد يوم( ).
وعلى المستوى العربي مثَّلت أعمال الحافظ في وقتها، إضافة إلى أعمال الياس مرقص وعبد الله العروي، وكذلك سمير أمين وجورج طرابيشي، المرجعية النظرية العربية لحزب العمال.
كما تتلمذ على يدي الحافظ أسماء عدة من المثقفين السوريين كجورج طرابيشي وميشيل كيلو، واللبنانيين، كجوزيف سماحة.
***
ثانياً: مفاهيم المفكر الشمولي العام والمفكر الخاص
كمثل الفرق بين الفلسفة والإيديولوجيا، يكون الفرق بين الفيلسوف الذي يوظِّف جهده من أجل القضايا الإنسانية العامة غير المحدودة بزمان ومكان، والإيديولوجي الذي يوظِّف مفاهيم الفلسفة من أجل مصلحة قضية خاصة، يحدها زمان معين ومكان معين.
فالمفكر العام هو الفيلسوف، والمفكر الخاص هو الأيديولوجي. وإذا كان على الفكر الفلسفي أن يخدم الفكر الإيديولوجي، فإن تطبيقات الفكر الإيديولوجي ونتائجها العملية تصب في خدمة إغناء مفاهيم الفلسفة. فمن خلال هذا الفهم نستطيع أن نضع ياسين الحافظ في دائرتها الطبيعية، ونحسب أن هذا التحديد سيساعدنا على فهم دوره:
العلاقة بين الفلسفة والإيديولوجيا علاقة تكاملية:
الفلسفة بمعنى النظرية التجريدية تُعنى باستنباط أهم القواعد والقوانين والأفاهيم العامة للمعرفة الإنسانية، وتضعها في خدمة المعرفة أياً تكن ظروفها الزمانية والمكانية. وهي بالتالي تشكل عامل توحيد معرفية بين المجتمعات.
لكن لا معنى للفلسفة ونتائجها إذا كانت عصية على إفادة المجتمع البشري وتمهيد السبل أمام المجتمعات لتغيير أوضاعها المادية والاجتماعية تصاعدياً. فالتغيير المعرفي إذا لم يترافق مع تغيير معاشي يمس حياة الإنسان، ويساعده على تطوير سبلها وتجديدها نحو الأفضل، فإنه كمن يعمل على تحويل المعرفة إلى موضوع كمالي يتحول بدوره إلى ملهاة تخدم مالكيها من النخبة فقط.
من هذا الربط بين المعرفة التجريدية والتحسين المعاشي يأتي دور الإيديولوجيات التي تكون عبارة عن مصنع يستفيد من المادة الرئيسية للمعرفة التجريدية فتنزل بها من تجريديتها إلى تشكيليتها، وتستفيد من موادها العامة وتحولها إلى منتجات تستفيد منها المجتمعات البشرية بعد تمثُّل خصوصيات تلك المجتمعات التي تتفرد بها. أي أن دور الإيديولوجيا هو إنزال المعرفة التجريدية من برجها النظري النخبوي إلى واقعيتها التشكيلية المجتمعية.
وإذا كانت الأحزاب السياسية تمثل الجانب العامل في مصانع الإيديولوجيات، وإذا كانت هذه المصانع عاجزة عن الإنتاج من دون المادة الأولية التي تنتجها الفلسفة، فعليها أن تكون حريصة كل الحرص على إحداث التكامل بينها وبين الفلسفة، وإلاَّ فإن الأحزاب ستتحول إلى أحزاب عابرة في حياة المجتمعات لا تترك أكثر من بصمات شكلية على سطوحها لأنها سوف تسقط أمام أي عائق إشكالي تكون عاجزة فيه عن استنباط حلول له، وطبعاً ستكون عاجزة عن ذلك ما لم تكون مسلحة بإطار فكري نظري يصوِّب لها اتجاهاتها، ويساعدها على إيجاد حلول للإشكاليات التي سوف تواجهها.
ولما كان ياسين الحافظ يجمع بين ثقافة نظرية مجردة، وهي ثقافة الفلسفة الماركسية، وبين ثقافة نظرية قومية عامة تمثَّلت عنده في إيديولوجيا العروبة، اكتسب ميزة الجمع بين الفلسفة والإيديولوجيا، وراح يعمل على الاستفادة من التكامل بينهما.
ولأنه كان عضواً منظماً وقيادياً في حزب البعث العربي الاشتراكي، كحزب يمتلك الإيديولوجيا القومية العربية، وكان يجاهر بتأثره بثقافته الماركسية، وانعكس هذا التأثر في صياغة وثيقة نظرية أقرها المؤتمر القومي السادس للحزب، يعني ذلك أن الحزب الإيديولوجي القومي العربي، في تلك المرحلة، كان يسير على طريق عقلاني لا يحول دون الاستفادة من نتائج الفلسفة الماركسية التي حوَّلتها الأحزاب الشيوعية العربية إلى ملكية خاصة، بعد أن حاولت إسقاطها من صفتها المعرفية العامة.
ونتيجة لكل ما تقدَّم يمكننا أن نقوم بتحديدات تساعدنا على فهم الفرضية التالية: هل يجوز أن تتعارض الفلسفة مع الإيديولوجيا عند الأحزاب العقيدية؟
1-دور ياسين الحافظ كمفكر إيديولوجي، وكمفكر عام:
انتسب ياسين الحافظ إلى حزب البعث العربي الاشتراكي في أول تجربة حزبية له، وفي حزب حددَّ عقيدة له المسألة القومية بعد أن كان المفكرون القوميون الأوائل يتناولون جوانبها كعقيدة نظرية مجردة. كما حدَّد الحزب للمسألة القومية مفاهيم سياسية واجتماعية واقتصادية، ذات ثلاثة أبعاد وهي: وحدة النظام السياسي الذي يقودها، والحرية منهجاً يضبط حركة هذا النظام وينظم علاقته مع الشعب، والاشتراكية منهجاً يعمم العدالة الاقتصادية بين أبنائه.
ومن خلال تجربته الثقافية الخاصة، كما من ضمن الحركية التجديدية لشريحة واسعة داخل الحزب، احتل الحافظ موقعاً فكرياً أهَّله لكتابة المنطلقات النظرية للمؤتمر القومي السادس الذي انعقد في خريف العام 1963.
كان تميزه نتيجة حيويته الفكرية التي شقَّت طريقها من خلال تجربة الحوار مع بعض الماركسيين العرب الذين اكتشفوا، بدورهم، حالة العداء للمسألة القومية في الحركة الشيوعية العربية.
مترافقاً مع رغبة بعض الشيوعيين العرب، ممثلين بالياس مرقص، في إخراج التجربة الشيوعية العربية من قفص المركزية السوفياتية، أدَّى انفتاح الحافظ على الفكر الفلسفي أياً كان مصدره، ومن أهمه الفكر الماركسي، إلى إنتاج بُعدٍ ثالث في نضال الحركة الثورية العربية.
وتركت مساهمات المفكر ياسين الحافظ بصماتها على تطوير الفكر القومي وربطه بالديمقراطية، كما لعبت إنتاجات إلياس مرقص في نقد اليسار والنيل من (مقدساته) دوراً في فصم العلاقة بين المثقف المنفتح والسياسي ذي الأيديولوجية الضيقة، فاتسمت علاقة المثقفين بالأحزاب (عموماً) بالبرود والجفاء( ).
2-دور ياسين الحافظ في إعادة الحوار بين الماركسيين والقوميين:
إذا كان من المعترف به تاريخياً أن الحركتين القومية والماركسية وظفتا نضالهما من أجل المسألة القومية العربية، وكان ميشيل عفلق، مؤسس البعث، أحد أقطاب تلك الحركة في أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين، فإن السبل افترقت بأقطاب تلك الحركة عندما انحاز الشيوعيون العرب وارتبطوا بالمركزية السوفياتية على الصعيدين الحزبي والعقيدي، الأمر الذي قلَّل من أهمية المرجعية القومية العربية عندهم، واعتبروا بعد هذا الانفصال أن الفكر القومي هو فكر شوفيني. ويظهر أن هذا التحول قد انعكس سلباً في علاقات الماركسيين والقوميين العرب( ).
واستكمالاً لحالة التنافر، وصلت العلاقات إلى حد القطيعة بينهما، تلك الحالة كانت تزداد عمقاً كلما تعمَّقت أسباب ابتعاد الحركة الشيوعية العربية عن هموم القضايا العربية، وخاصة في مسألتيْن: النظرة العدائية إلى الفكر القومي العربي، بأبعاده السياسية والاجتماعية، ووصمه بالشوفينية. والاعتراف بحق الصهيونية في احتلال الأرض الفلسطينية.
في هذه البيئة السياسية الخاصة، من المحتمل أن يكون لقاء ياسين الحافظ (المنتسب إلى حزب البعث) مع الياس مرقص (المنتسب إلى الحزب الشيوعي السوري) قد أعاد إلى الذاكرة حالة التقارب التاريخية، التي أشرنا إليها. ولعلَّ ذلك اللقاء عمل على تصحيح العلاقة التي انقطعت ومدَّ كل منهما حبال التلاقي والحوار من أجل إعادة المسألة القومية إلى دائرة الاهتمام، واعتبرا أنها تشكل نقطة التلاقي الرئيسية بين الماركسيين العرب والقوميين العرب، ويظهر أنهما اتفقا على أن تشكل المسألة القومية العربية المرجعية الفكرية والسياسية الأولى في النضال العربي.
ولهذا كله يدين كثيرون لياسين الحافظ، كما يقول ياسين الحاج صالح، بأنه حررهم من «سباتهم الدوغمائي» وفتح أعينهم على «الواقع». لقد أتاح لجيل من المنشقين الماركسيين أن يشقوا عصا الطاعة للمركز السوفييتي ووكالاته المحلية، وأن يبقوا ماركسيين في الوقت نفسه. وبذلك أسهم في إنقاذ قدر من الكرامة العقلية لليسار الشيوعي والماركسي، وكان بمثابة جسر نحو خيارات سياسية وفكرية أكثر ديمقراطية ونقدية( ).
3-مفهوم ياسين الحافظ للحزب:
كان يُنظر لحزب العمال الثوري العربي، حين تأسيسه، بمعيار المعادلة التالية: الحزب = (الفكر + حَمَلَة الفكر)، أي الحزب الذي «يشكل رافعة لنهضة الأمة حين يكون حزباً حديثاً متجدداً بكل مقومات وجوده»، ويعتبر أن «قضية الجدل بين العقل والواقع إحدى المرتكزات الأساسية لمواكبة المتغيرات فكرياً وسياسياً وتنظيمياً». الحزب الذي يستطيع «الاندماج بواقع متغير»( ).
من يقود الحزب؟
من خلال المعادلة أعلاه، خصوصيات الفكر وعقلانيته، زائداً حملة هذا الفكر، هما عامودان رئيسان في البنية الحزبية عند ياسين الحافظ. وإذا اتفقنا معه على أن الفكر يجب أن يحمل إمكانية التجديد والإغناء، وأن يكون متميزاً بعلاقته مع مصلحة المجتمع الذي صِيْغ لأجله، فإن حملة الفكر، الموكول إليهم مهمة خدمة هذا المجتمع، هم من سنعتني بتحديد مفهوم ياسين الحافظ لهم.
يرى ياسين الحافظ أن «الأحداث السياسية هي سطح»، و«الجوهري والأساسي هو الأيديولوجي والثقافي، الذي يفرز السياسي ويحكمه»، وخلافاً للمقولة الماركسية فلا يجد الحافظ علاقة لتخلفهما بالتخلف الاقتصادي لوحده، فالإيديولوجي والثقافي والسياسي يتمتعون باستقلال نسبي عن الاقتصاد أيضاً( ). لذا يفهم الحافظ أن حملة الفكر هم طبقة الأنتليجنسيا من جهة، والوعي الشعبي من جهة أخرى. والأنتليجنسيا هي «كتلة المثقفين التي، باستقلالها النسبي، تلعب دوراً حاسماً في نقل الوعي الكوني إلى شعبها، وتُنضج بالتالي، المقدمات الثقافية للثورة السياسية. وفي حالات قد تلعب دوراً محافظاً»( ).
وهنا يعطي الحافظ أهمية للنخبة، لكن على شرط التمييز بين النخبة الحديثة والتقدمية، والنخبة التقليدية التي تتأثر بالإيديولوجيا التقليدية( ).
أما الوعي الشعبي فهو عامل ضروري ولازم، وفيه يرى الحافظ أن التجربة التاريخية لشعب، لا تتجلى على مستوى القادة السياسيين وحدهم، بل في الواقع على مستوى الناس البسطاء أيضاً، «تحدد قدرتهم على التدخل في شؤون البلد، وفي النهاية، تحدد نجاح أو إخفاق الاستراتيجيات السياسية المعدة من قبل الزعامة السياسية»( ).
وهنا نتساءل، هل هناك تمييز بين المثقف والمفكر في الأحزاب العقيدية؟
وعلى ذلك نحاول أن نجيب:

1-لا تغيير من دون أحزاب عقائدية:
إذا لم تترابط أهداف الفكر الإنساني مع مصالح البشر فسوف يكون فكراً فوقياً لن يُكتب له الاستمرار، فأهمية الفكر إذن أن يحمل إمكانية التطبيق. ومن هنا تنتهي مهمة المُفكِّر لتبدأ مهمة المُفكَّر بهم، أي أصحاب المصلحة في تطبيق الفكر، وأصحاب المصلحة لا يمكنهم أن يصلوا إلى نتائج ملموسة وفعلية إذا لم يتعاونوا وينظموا صفوفهم في حركات جماعية، والحركات الجماعية هي ما تم الاصطلاح عليه بالأحزاب السياسية المنظمة.
فمن أولى بديهيات الحركة الحزبية المنظمة أن تمتلك عقيدة نظرية قابلة للتطبيق، التي هي بلا شك تمثل أهداف الجماعات، وهي تشكل البوصلة التي تساعد تلك الحركات على تصحيح اتجاهاتها كلما ازدادت ضبابية الرؤية أمامها لسبب أو لآخر.
فالعقيدة هي تلك البوصلة في الحزب العقيدي، والمنتسبون إلى الحزب هم الربان الذي يجيد استخدام البوصلة لتصحيح اتجاهات السفينة.

2-لا حزب منظم من دون جناحين، ربان وبحارة، تجمعهما مصلحة واحدة:
إذا كان الحزب سفينة، والعقيدة بوصلة، فوجود الربان والبحارة أمر لازم لا يكتمل وجود السفينة والبوصلة من دونه، فهما جناحان متكاملان، تغرق السفينة إذا فقدت أياً منهما. أما الأمر اللازم الآخر فأن يتوزَّع الجناحان المهمات على قاعدة أنه لا يمكن، واقعياً، أن يكون الجميع ربابنة وبحارة في الوقت عينه، لأن هذا إذا حصل من قبيل التمني النظري والمثالي، إلاَّ أنه لن يكون من قبيل الواقعي.
3-لا حزب عقيدي من دون مثقفين:
إن القاعدة الأساسية لبنية الحزب العقيدي أن يكون المنتسبون إليه من المثقفين، لأنه لا معنى لحزب عقيدي مستند إلى فكر يميزه من دون مثقفين يفقهون أهدافه المعلَّلة أولاً، ويكونوا قادرين على نقل تلك الأهداف بوضوح إلى الآخرين ثانياً.
4-لا حزب عقيدي من دون فكر قابل للتجديد:
كل عقيدة لا تكون قابلة للتجديد ستتحول إلى عقيدة مقدسة، وليست الأحزاب، التي جاءت رداً حديثاً على العقائد الدينية المقدسة، أو العقائد الشوفينية المنغلقة، إلاَّ مشروطة بتجديد عقائدها في عالم يتغير باستمرار.
فباستثناء الأهداف الثابتة للأحزاب، أي الأهداف التي تتوجه إلى مستوى المجتمع العام أو طبقاته، لا يجوز أن تتجمد وسائل الوصول إليها.
5-لا فكر من دون مفكرين، ولا فكراً تجديدياً من دون مفكرين مجددين:
أما الجهة الصالحة للعمل الفكري فهي نخبة من المنتسبين إلى الحزب التي تتميز بالمقدرة على الإنتاج الفكري. والإنتاج المجدد لا يمكن أن يتم:
أ-من دون مقدرة نقدية تتناول القديم وتثبت مدى صلاحيته، في ظرف معين ومكان معين، للاستمرار، فتعمل على إغنائه. أو تثبت تخلفه، كلياً أو جزئياً، عن المتغيرات فتعمل على التجديد في جوانب القصور والتخلف فيه.
ب-من دون مقدرة على وصف البديل الجديد الذي يتناسب مع المتغيرات التي فرضت عملية التجديد.
6-كيف يمكن المحافظة على معادلة التكامل بين مركزية الحزب الفكرية وحرية المفكر الفردية؟
من أجل معالجة هذه الإشكالية نرى أنه لا بدَّ من تحديد المفهوم الرئيسي لطرفيْ الإشكالية:
أ-مركزية الحزب الفكرية، أي المحافظة على الوحدة الفكرية: الوحدة الفكرية، تعني وحدة الأهداف التي يتعاقد عليها المنتمون لحزب واحد من أجل النضال لتحقيقها، وهي من الشروط الأساسية التي يجب أن تتوفر للأحزاب من أجل المحافظة على وحدتها التنظيمية.
بينما الوحدة الفكرية لا تعني عملية تجميد لها، بل تكون مرنة تستوعب التجديد، حتى لا تتحول إلى نصوص مقدسة في عالم متغير يتطلب نسقاً معرفياً يتجدد ليواكب متغيرات الزمان والمكان. بحيث يطرح هذا الجانب إشكالية كيفية المحافظة على الوحدة الفكرية وفي الوقت ذاته إخضاع فكر الحزب لعملية التجديد. وهل عملية التجديد تتناقض مع المحافظة على الوحدة الفكرية في داخل الحزب؟
ب-حرية التفكير نقيض لقدسية النص، أي تجميده. وهذا ينطلق من نسبية الحقيقة. ولأن مبدأ التفكير هو الركيزة الأساسية في التغيير، يصبح حاجة للأحزاب الحديثة. ومن آمن به عليه احترام حرية الفرد في التفكير. ولأن الحرية في التفكير والاعتقاد مبدأ إنساني عام، يصبح من البديهيات أن يكون مبدأً خاصاً تعتمده الأحزاب الحديثة.
ج-بين المركزية الفكرية للحزب، كمؤسسة جمعية، وحرية المفكر كفرد، مساحة من التناقض بين شخصية الجماعة وشخصية الفرد. وإذا سلَّمنا بأن شخصية الجماعة تكون في الغالب من إنتاج الأفراد المتميزين، يتم تكوينها عبر سلسلة من التمثلات والتحولات المتتالية، زمنياً ومكانياً، يمكن للحزب استيعاب ما تنتجه حرية الأفراد فيه من أفكار جديدة، والاستفادة منها. أما الوسيط بين الاثنين فتكون المؤسسة الفكرية، التي يجب أن تكون جاهزة في الوقت المناسب والمخطط له للدراسة والتدقيق، وإعطاء الحكم بالاستفادة من كل إنتاج جديد.
ليست المهمة باليسيرة، وقد لا تكون عسيرة أيضاً. إذ دلَّت التجربة العيانية التي خاضها ياسين الحافظ على ذلك. فكانت يسيرة عندما أقرَّ المؤتمر القومي السادس الاستفادة مما أتى به، ولكنها تحوَّلت إلى مهمة عسيرة عندما وجد حزب البعث العربي الاشتراكي نفسه منقسماً على ذاته بعد أن خرج الحافظ مؤسساً حزباً جديداً على مقاييس ما أنتج. وظلَّت نتائج المؤتمر القومي السادس، في ثوب المنطلقات النظرية، مبهمة المصير والمآل.
وإلى أن تُتاح الفرصة للباحثين الذين قد يهتمون بهذا الجانب، للتعمق فيه ودراسة أسبابه الحقيقية أو ما هو الأقرب إليها، نضع بعض الاحتمالات التي حددت تطور العلاقة بين المفكر والحزب، وسنحسبها عوامل لعبت دوراً في تحديد علاقة ياسين الحافظ بحزب البعث، وهما: المؤسسة التنظيمية، والمؤسسة السياسية.
إننا نحسب بداية أن العوامل التي ترسم مصير العلاقة الإيجابية بين المفكر الملتزم وحزبه تكاد تنحصر بمؤسستين تحددان طبيعة العلاقة بين أعضاء الحزب الواحد بشكل عام، وبين الحزب والمفكرين الملتزمين بشكل خاص، وهما: المؤسسة التنظيمية وهي الأساس الأول، والمؤسسة السياسية إن وُجدت.
أما المؤسسة التنظيمية فهي عامل دائم لأنه لا وجود لحزب من دون مؤسسة تنظيمية تقوده. وأما المؤسسة السياسية فهي ليست شرطاً متحققاً دائماً في حياة الأحزاب، لكن وبحيث إن ياسين الحافظ عايش مرحلة استلام حزب البعث العربي الاشتراكي السلطة في سورية بعد ثورة الثامن من آذار من العام 1963، نحسب أن العامل السلطوي يكون قد شكل عاملاً في رسم علاقة المفكر الملتزم بالحزب.
أ-دور المؤسسة التنظيمية:
كما في مؤسسات المجتمع المدني توجد تراتبية هرمية تصنِّف البشر درجات درجات، فالمؤسسة الحزبية تعرف أيضاً تراتبية مماثلة بالشكل. وتلك التراتبية، هنا أو هناك، تُعتبر العامل الذي يشكل مركزاً للتجاذب والتنافس بين أعضاء المؤسسة الواحدة. ويلعب عامل المنافسة، في أحيان كثيرة، دوراً حاداً في مراحل الانتخابات. ومن النادر أن تكون معايير الكفاءة والأهلية القيادية حكماً موضوعياً بين المتنافسين، إنما العلاقات والمواقف الشخصية هي التي تتحكم بمعايير الانتخاب.
في زحمة عامل المنافسة على احتلال المواقع القيادية، غالباً ما يذهب المتميزون بثقافتهم وإنتاجهم الفكري ضحية هذا العامل. وبه تبدأ الخطوة الأولى في رحلة تراكم إشكاليات العلاقة السلبية بين المثقف والمفكر من جهة والمؤسسة الحزبية التي ينتمون إليها من جهة أخرى.
فإذا كانت شريحة المثقفين أوسع بكثير من شريحة المفكرين، وقد يعوِّض بعضهم عن البعض الآخر، فإنه من الصعوبة بمكان أن يتم تعويض الشريحة المفكرة، التي قد تكون محدودة جداً هذا إذا لم تقتصر على أفراد معدودين.
هذا الأمر يطرح جملة من الفرضيات العلاجية، ومن أهمها: طريقة وعينا للديموقراطية وفهمنا لجوانبها النظرية والتطبيقية. من حيث جانبها النظري نفهم أنها وسيلة تتساوى فيها حقوق كل أعضاء المؤسسة الحزبية. لكن على أساس التكافؤ في المميزات، وهذا الأمر يدفع إلى التساؤل: هل هناك تكافؤ بالمؤهلات بين أعضاء الحزب الواحد؟ وهذا ما يستدعي الجواب: واقعياً ليس التكافؤ موجوداً، إذن فالمبدأ الديموقراطي يتم تطبيقه شكلاً. ولكي تتم المقاربة بين النظرية والتطبيق لا بدَّ من تحقيق المساواة الجوهرية في الحق الديموقراطي. فهل من الممكن اقتحام هذه المغامرة؟
نقول مغامرة، وهي فعلاً كذلك، لأنه من الصعوبة بمكان، في الأحزاب العقيدية التي تستند إلى قاعدة واسعة من العمال والفلاحين وصغار الكسبة، أن يتم الاعتراف بطبقية تصنِّف ما بين مفكر ومثقف يمتلك ثقافة معمَّقة، ومثقف آخر أقل عمقاً، وحزبي لا يمتلك من الثقافة إلاَّ شدة إيمانه بشعارات حزبه ومبادئه. فهذا الاعتراف يثير حساسية بين أعضاء المؤسسة الحزبية الواحدة، وقد يذهب ضحيتها المتميزون بثقافتهم بما قد تُلحَق بهم من مواصفات الفوقية والنرجسية، وبها من سهولة التحريض وتأثيراته التي تنتشر بسرعة في وسط حزبي أكثريته من متوسطي الثقافة.
وبذلك لا يمكن القاعدة الواسعة من الشريحة التي لا تمتلك من الثقافة إلاَّ عامل الإيمان، أن تختار بوعي ونضج، فهي ستكون مزاجية بخياراتها حتى في الانتخابات الحزبية.
ولعلنا نبدأ بتحديد العوامل الأولية التي تؤسس لإشكالية العلاقة بين المثقَّف المتعمق، والمفكر المنتج، وبين المؤسسة الحزبية التي ينتميان إليها.
-من خلال النظرة السائدة إلى المثقفين في الأحزاب بعين الريبة، وإلى المفكرين أيضاً، ويتم ذلك بحجة أن ما يأتون به من نظريات التجديد، تكون مشبوهة إلى أن يثبت العكس، بينما الواجب أن يتم التعامل معها بإيجابية إلى أن يثبت العكس.
ولهذا علاقة بمدى عمق الوعي الديموقراطي أو سطحيته من جهة، أو عمق الوعي الثقافي أو سطحيته من جهة أخرى. وهذا الجانب يجد رواجاً في حالات غياب تداول المواقع القيادية بحيث يلعب المتمسكون بمواقعهم واحتكارها دوراً في التحريض والتعبئة ضد كل من يحاول التجديد سواءٌ أكان في مناهج التنظيم ووسائله، أم في مناهج الفكر ووسائله.
يلعب عمق الوعي الديموقراطي من جهة، والقناعة بتداول المواقع القيادية من جهة أخرى دوراً أساسياً في استيعاب رغبة المثقفين والمفكرين بدور لهم في حياة أحزابهم التنظيمية والفكرية. وما يحد من تلك الرغبات هو عمليات الإقصاء التي يمارسها المتسلطون على القيادة التنظيمية.
ب-دور المؤسسة السياسية:
نعني بالمؤسسة السياسية هنا، تلك المؤسسة التي يقودها حزب عقيدي يستطيع الوصول إلى الحكم. ومن هذا التحديد للمصطلح، نرى أنه قد تلعب المؤسسة السياسية دوراً سلبياً آخر على واقع علاقة الحزب مع المفكرين. وفي تغييب الديموقراطية قد تستدرج السلطة شريحة منهم، وتحولهم إلى موظفين للتفكير لحسابها، ينتجون ما يخدم مصالح الشريحة الحاكمة، ويتحولون إلى «مفكري السلطة»، ومن الذين لا يتميزون بحصانة مبدئية، سينحدرون إلى مستوى التملق؛ أو تستثير نقمة البعض الآخر بإبعادهم عن السلطة السياسية لسبب أو لآخر ومن أهمها أنهم يلتزمون الأمانة الفكرية. ومن هذا الواقع أو ذلك تتحول السلطة إلى ميدان آخر للتنافس بين النخب الأكثر ثقافة، الذي يكون في الأغلب الأعم تنافساً غير مشروع، يدفع فيه المثقفون، والمفكرون منهم بشكل خاص، ثمن أمانتهم لنتائج رؤاهم وأبحاثهم الفكرية الموضوعية. أما نتيجة النتائج فتكون خسارة للمفكرين الموضوعيين، سواءٌ أكانت بانحيازهم للسلطة انتهازاً وممالأة على حساب نتائج شروط البحث أو التفكير السليم، أم كان بإقصاء غيرهم، أم بخروج هذا الغير طائعاً، ولكنه حانقاً، فيتحولون إلى منشقين يناهضون أحزابهم الأم.

ج-هل يكون الحل في المؤسسة الفكرية، وكيف؟
المؤسسة الفكرية المعترف باستقلاليتها، هي المؤسسة التي تقوم على قاعدة مبدأ الاعتراف بالحق الديموقرطي واحترامه في حرية التفكير والقول والكتابة.
والمؤسسة الفكرية هي التي تجمع من يتم الاعتراف لهم بالكفاءة والموضوعية بالتفكير. ومن أجل ضمان حياديتهم، يُعطون امتياز البعد عن حالتين اثنتين: التنافس على مواقع القيادة التنظيمية، ومواقع قيادة السلطة.
تضم المؤسسة الفكرية في الحزب الذي لم يصل إلى السلطة، كل المتميزين بالمقدرة على الإنتاج الفكري، ومن النخب المثقفة تثقيفاً عالياً، أي من الذين تعالوا على سلبيات التنافس السلبي، وتوفير مراكز للأبحاث في العلوم الإنسانية لتكون في عهدتهم ورعايتهم.
أما في الحالة التي يصل فيها الحزب للسلطة، ويشكل مركز الثقل فيها، فتضم المؤسسة الفكرية كل من يتميز بالكفاءة الفكرية، والأهلية الموضوعية ليلعبوا الدور ذاته الذي يلعبه المثقفون والمفكرون الملتزمون، وتُخصص لهم الامتيازات والمميزات ذاتها.
ومن أهم مهمات المؤسسة الفكرية رصد الظواهر السلبية في الأداء الفكري والتنظيمي للحزب الذي يلتزمون بخطه، أو لسلطة الحزب، بالخصائص ذاتها المشار إليها أعلاه. فتتشكل منهم هيئات الرقابة والمساءلة والمحاسبة، تحال إليهم تلك الظواهر، سواءٌ أكانت على مستوى التنظيم الحزبي، أم على مستوى الأداء السياسي للسلطة، وتيسِّر أمامهم وسائل الوصول إلى تشخيص سليم لكل الجوانب السلبية التي يحتاج الحزب لعلاج لها، أم تلك التي تحتاجها السلطة السياسية. كما يشكلون هيئات للتحكيم تؤخذ نتائج أحكامهم بعين الاحترام والالتزام.
خاتمة
إن إظهار معالم اليأس وعلاماته أصبحت من سمات ثقافتنا السابقة، والراهنة، وهي التي دفعتنا، أو لا تزال تدفعنا، إلى توجيه الاتهام بالأفلاطونية لكل فكر تسوِّل له نفسه بالاتجاه نحو الأمل، وتعمل على إحباطه وتيئيس صاحبه. فهي سمات لا شك في أنها ترتبط بحالات الإحباط السابقة الناجمة عن سلسلة من الإخفاقات التي ميَّزت تاريخ النظام الرسمي، أو تاريخ الأحزاب العقيدية. وهي بحد ذاتها تحتاج إلى علاج قبل البدء بتقديم حلول لمشاكل الأنظمة الرسمية، والأحزاب العقيدية. والعلاج يبدأ بإعادة جذوة الأمل إلى نفوس المثقفين أولاً لأنهم يشكلون الحلقة الوسيطة بين الفكر والوسط الاجتماعي الذين يعيشون فيه، كما أنه يجب أن يعيشوا لأجله.
يبدأ العلاج في التمييز بين العبثية والإفلاطونية، فالعبثية صفة تلتصق بكل فكر مستحيل، أي كل فكر ناجم عن أحلام أو أضغاث أحلام، أي هي بعيدة عن التحقق جزئياً وكلياً. أما الإفلاطونية فترتبط بقيم إنسانية قد تكون صعبة التحقق،ولكنها ليست مستحيلة. إلاَّ أن تحققها جزئياً هو دليل على أنها ليست مستحيلة، أي ليست عبثية. وكل ما سقناه أعلاه، متحقق جزئياً على الأقل في سلوكات عدد من النماذج البشرية الواقعية المتمثلة في شريحة من المفكرين، وعند عدد من الأحزاب العقيدية. أما فشلها فكان نتيجة عدم الإصرار على إنجاحها وعدم الاستمرار في رعاية تلك التجارب التي حققت نجاحاً جزئياً، وإعطائها فرصاً أكثر لتتسع مساحة نجاحها.
وما تجربة ياسين الحافظ إلاَّ أنموذج يمكن البناء عليها لزيادة مساحة الأمل في إمكان حل إشكالية العلاقة بين المفكر الملتزم بحزب عقيدي، وبين حزبه، والسير بها إلى دائرة الضوء شيئاً فشيئاً، وإنقاذها من دائرة الظلام والتعتيم خطوة خطوة.
وهنا نرى أن معادلة تكوين الأحزاب قائمة على تكامل العلاقة بين الهدف الذي هو الفكر، وموضوع الهدف الذي هو المفكر، فإذا اختل توازن العلاقة بينهما، أي إذا ضعف أحد طرفيه فيؤدي إلى إضعاف الآخر. والمعادلة، كما نتصورها هي الشكل التالي:
إن الحزب هو (هدف وموضوع الهدف) أي (فكر + العامل لتطبيق الفكر)، أما العامل لتطبيق الفكر والسهر على هذا التطبيق فينقسم في تراتبية حزبية تتواصل وتتكامل بين منتج للفكر، ومثقف عميق الثقافة، ومثقف أقل ثقافة، ومؤمن بالفكر.
فالهدف مسألة فكرية نظرية، وموضوع الهدف مسألة نضالية مادية. فلا يمكن لموضوع الهدف أن يستمر من دون وضوح نظري، كما لا يمكن للهدف أن يتحول من موجود بالقوة إلى موجود بالفعل من دون موضوعه النضالي المادي. فثنائية النظر والعمل مسألة واجبة الحضور في خطة الحزب العقيدي. وهنا تلعب الوسيلة التنظيمية في الحزب دوراً أساسياً في مقاربة العلاقة السليمة بين الحزب الذي يعمل على تطبيق الفكر الذي آمن به وبين المفكر الذي التزم بصفوف هذا الحزب قناعة منه بفكره.
فالمسألة النظرية، بالنسبة لحزب البعث العربي الاشتراكي، ثابتة في التلاقي والتكامل بين الهدف القومي العربي بمضمونه الاشتراكي، والمسألة العملية هو العامل والفلاح وغيرهم من الطبقات المسحوقة من العرب الاشتراكيين.
إن للطرف النظري حاضن والحاضن هو المثقف الواعي القومي العربي الاشتراكي الذي يستند إلى نتائج مهمة المفكر. أما الطرف العملي النضالي، فهو موضوع الهدف، من عمال وفلاحين عرب اشتراكيين. ولكي تضمن الأهداف نجاحها، فعليها أن تحقق وسيلة التكامل المستمر والمتواصل بين طرفيها. وعملية التكامل تقتضي وجوباً وجود من يكون أميناً نظرياً على الأهداف، ووجود من يعمل على ترجمتها على أرض الواقع.
فالتمييز بين طرفيْ المعادلة ليس هدفاً طبقياً داخل الحزب الواحد، وإنما هو تمييز واجب لمصلحة العقيدة التي ترفض أن تبقى في برج عاجي، كما ترفض أن تصل في أحد مراحلها العملية إلى نفق مظلم نتيجة بعدها عن الوضوح النظري.
ومن هنا، إذا كان الطرف العملي في التركيب الحزبي الداخلي، أي الطرف الأقل ثقافة، في طرفيْ معادلة التراتبية الحزبية يمكن توفيره بأسرع من توفير الطرف النظري، أي الطرف الأكثر ثقافة أو أعمقها، وبأعداد أكثر بكثير، فإنه يشكل سبباً يدفعنا إلى الحرص على المحافظة على الأكثر ثقافة أو أعمقها، حيثما يوجد، وتشكيل رؤية واضحة للمحافظة على حالة التوازن في التركيب التنظيمي الداخلي للحزب، بما يجعله متوازناً ومتكاملاً.
وهنا تلعب المؤسسات الحزبية الداخلية، أي المؤسسة التنظيمية، أو المؤسسات المرتبطة بتطبيق فكر الحزب، أي المؤسسات السياسية، دوراً مهماً في المحافظة على التراتبية الحزبية بواقعية، بما يحفظ التوازن الدقيق بين شتى المستويات لتترك كل مستوى تراتبي يقوم بدوره من دون خلق طبقية جديدة تشكل فجوة في العلاقة بينها، تجمعها أخلاقية ثورية تأنف تحويلها إلى درجات من الفوقية والاستعلاء أو ترك مجال للشعور بالدونية. وفي تقديرنا تشكل المؤسسة الفكرية الضامن الواعي الذي يجسر الهوة بين المستويات التراتبية من جهة، ويحفظ استمرار حرية القول والكتابة والبحث والتفكير والإغناء والتجديد للمتميزين من جهة أخرى.

20-مخطئ من يراهن على العبور من غير بوابة المقاومة الوطنية العراقية
تشرين الثاني 2009
لمن لم يفقهوا حتى الآن أنه ما لم يتحرر العراق ويتوحد، نردد على أسماعهم أن المؤامرة ستبقى تنخر في كل قضايا الأمة العربية بحرية ومن دون عوائق.
ولمن لم يفقهوا حتى الآن، من الأنظمة العربية الرسمية وغيرها من الأنظمة الإقليمية، تؤكد المقاومة العراقية أنها لن تستكين إلاَّ بعد أن تحرر آخر شبر من أرض العراق.
وإلى من لا يريدون أن يصدقوا أن المقاومة العراقية نحرت جنود الاحتلال الأميركي على أسوار بغداد، تؤكد المقاومة يومياً أنها سوف تستمر في نحرهم داخل بروجهم المشيَّدة.
وإلى كل من لا يزالون يبحثون عن جنس ملائكة المقاومة العراقية أنهم عبثاً يبحثون لأنهم لا يريدون أن يصدقوا أن ملائكتها من البعثيين أولاً، وممن اختاروا طريق المقاومة لتحرير وطنهم من العراقيين الأباة الآخرين.
لكل هؤلاء نقول أدخلوا بيوت القضايا من أبوابها، وحاذروا الدخول من الشبابيك، والكوى، ولا تخطئوا الحسابات، فالعراق اليوم يمر بمرحلة انتقالية عالية الحساسية، يعمل كل من له مصلحة فيه على الدخول إلى ساحته على مقاييس مصالحه، وعلى معايير وسائله الخاصة.
فالاحتلال الأميركي يمارس أسلوب المراوغة للمحافظة على (وتد جحا) في أرضه، وقراره السياسي والأمني والعسكري، كممر ووسيلة للاستيلاء على ثرواته كاملة.
والاحتلال الإيراني المقنَّع بعملائه وأدواته وأجهزته الأمنية والعسكرية التي أتقن تمويهها، يعد نفسه ليكون بديلاً للاحتلال الأميركي.
والأنظمة العربية الأخرى، تعمل على اقتطاع حصة هنا أو هناك من العراقيين، بدلاً من أن يكون العراق لها بكامله كبلد عربي الانتماء والعمق والاتجاهات والمصالح.
وبعض القوى العراقية، خاصة تلك التي لا تميِّز بين العراق إذا ما ظلَّ محتلاً، أم العراق المحرر، تفتش عن دور لها، وكل همها أن يكون لها مرقد عنزة في نظام عراقي لا تهتم بهويته، بقدر اهتمامها بمصالحها الضيقة.
وبعض القوى العراقية التي تمد شباكها مع الخارج والداخل معاً لاقتطاع حصة لها في النظام السياسي سواءٌ أكان تحت الاحتلال أم محرراً من الاحتلال.
كلٌ من تلك القوى يضيق ذرعاً بعراق محرر متحرر لأنه عاجزون عن فهم أن يكون العراق مستقلاً بأهله ولأهله من العراقيين مرتبطاً بأهله العرب بكل معاني الارتباط المصيري. وهم باستثناء الاحتلال الأميركي الذي يخطط بفهم استراتيجي لما يريد، تائهون ضائعون حائرون بما يفعلون وكيف سيفعلون.
إن ضياع هؤلاء هو أنهم لم يصدقوا بعد أن الاحتلال زائل من دون رجعة لذلك يتخبطون بما يخططون، لكنهم متى أيقنوا أن العراق لن يكون إلاَّ عراقاً موحداً عربياً متحرراً مستقلاً بقراره لا بدَّ من أنهم سيفيئون لأمرهم، ويعملون على تدبُّره بشكل صحيح.
إن من وضع العراق على سكة التحرير، أي على طريق التوحيد والانتماء العربي، وطريق القرار الوطني المستقل ليس غير أبنائه الوطنيين، وإذا ما أراد الآخرون أن يبنوا مستقبلاً لهم في العراق أم مع العراق فعليهم أن يصوبوا بوصلة أهدافهم وغاياتهم ووسائل دخولهم إليه تجاه الشمال المغناطيسي في قطب المقاومة الوطنية العراقية، وليس إلى أي قطب آخر.
كما نجحت المقاومة العراقية في إنجاز المرحلة الأولى من التحرير، أي إرغام الاحتلال الأميركي على الاعتراف بخطأ إقدامها على العدوان على العراق، والتخطيط للانسحاب منه، فهي تعمل على إنجاز مرحلة الإعداد الجبهوي السياسي، من أجل سد الطريق أمام احتمال تراجع الإدارة الأميركية عما وعدت به شعبها، فكان إعلان تشكيل جبهة الجهاد والتحرير يشكل الخطوة الأولى، واستكملتها بالخطوة الثانية بإعلانها عن تشكيل (جبهة الجهاد والتحرير والخلاص الوطني)، والحبل على جرار إنجاز خطوات سياسية أخرى.
وكما نجحت المقاومة العراقية في إثخان الاحتلال بالجراح الدامية والمميتة بما تيسَّر لها من أسلحة أعدتها قيادة صدام حسين، وكانت تتناسب مع حالة الانتشار الكثيف لقوات الاحتلال، فهي قد نجحت أيضاَ بتصنيع أسلحة جديدة بقيادة عزت الدوري لمواجهة المتغيرات العسكرية في إعادة انتشار قواته لحماية أنفسها داخل القواعد العسكرية.
إنجازان مهمان: توسيع مساحة العمل الجبهوي، وتوفير أسلحة نوعية جديدة، وبما قد تبتكره من وسائل أخرى تخدم طبيعة المرحلة الانتقالية الراهنة، كفيلة كلها بتوسيع قواعد تأثير المقاومة، والتي ستكون كفيلة أيضاً بحسم قرار الاحتلال بالخروج من حالات التردد والاحتيال والمراوغة.
وكما كانت نتائج الصراع بين المقاومة والاحتلال واضحة منذ البداية في أنها ستكون لمصلحة المقاومة وضد مصلحة الاحتلال، فإن نتائج المرحلة الانتقالية في استمرار الصراع بينهما هي واضحة أيضاً لمصلحة المقاومة. ولهذا كله فعلى المترددين والضائعين والمشككين، أن يخرجوا إما من حساباتهم الخاطئة، أو ضياعهم، أو تشككيكهم، ويعملوا على كسب الوقت بانحيازهم بعلانية ووضوح إلى جانب المقاومة التي بدأت المشوار، وأقسمت أنها لن تنهيه إلاَّ بالتحرير الكامل من الاحتلال الراهن، وكل احتلال محتمل، والتوحيد الوطني الكامل وتخليص العراق من كل أوهام الفدرلة والتقسيم، وإعادة العراق إلى أمته العربية بعد أن حسب أعداء الأمة أنهم قد أبعدوه عنها.
وإلى كل من لا تزال نفسه توهمه أنه بالغ مآربه في عراق غير العراق الذي بناه النظام الوطني السابق، بقيادة صدام حسين، فليخرج من أوهامه ويثوب إلى رشده، وعليه أن يستفيد من معركة ربع الساعة الأخير. ومن لا يزال يحلم بغير ذلك، فليسأل جورج بوش، وزمرته. وطوني بلير وزمرته. وجون هيوارد وزمرته. أو فليسأل كل الزمر الأخرى التي خرجت من مشروع احتلال العراق قبل أن تحترق أصابعها بالكامل.

21-عبد الأمير حلاوي فارس البعث
في ذكرى استشهاده الرابعة والثلاثين
تشرين الثاني 2009
لم تكن ظاهرة عبد الأمير حلاوي ظاهرة عادية في تاريخ حزب البعث، بل كانت ظاهرة أسَّست لمرحلة جديدة في تاريخ المقاومة على الساحة اللبنانية.
لقد جاءت تلك الظاهرة لتواكب جملة من المتغيرات على الصعيدين العربي واللبناني، من أهمها نمو العمل الوطني اللبناني الذي كان مترافقاً مع مرحلة قومية واعدة، مثَّل الطليعة فيها حركتان قوميتان: البعث والناصرية، بحيث كانت القومية العربية الحركة الجديدة التي جاءت لتعالج القصور الماثل بالاتجاهات القطرية، يمينية ويسارية، ولتحفر لنفسها خندقاً دفاعياً ضد الدعوات القطرية المتجهة بقطار تثبيت واقع التفتيت، أو بقطار الأمميات التي تجاوزت الحدود القومية لتحط رحالها في مشاريع أممية لا تعترف بوحدة الأمة العربية.
وكل ما لم يكن قومياً لم يكن الفعل المقاوم يعني له شيئاً بل كان يعتبره من عوامل الإعاقة التي لا يرتاح إليها.
وعندما انطلقت المقاومة الفلسطينية في أواسط الستينيات من القرن الماضي، إنما انطلقت مستندة إلى قوة التيار القومي العربي بشكل أساسي، ولكي تُعتبر رافداً مهماً من روافده، فكانا يتبادلان عوامل الاستقواء والإسناد.
لكن جاءت نكسة حزيران التي انتصر فيها التحالف الاستعماري – الصهيوني في إحباط الحركة القومية النامية، لتشكل عاملاً أساسياً استفاقت على هوله قوى وحركات وأحزاب محسوبة على اليسار الأممي الأمر الذي دفعها إلى تغيير موقفها السلبي من الشق الشعبي المقاوم الذي كانت تمثله المقاومة الفلسطينية، ولهذا استقبلت الساحة اللبنانية زخماً وقوة نتيجة هذا المتغير.
في ظل تلك الظروف، وقبل أن يتلقف القوميون متغيرات تلك القوى اليسارية لتشكل سنداً مهماً، كان عبد الأمير حلاوي قد قطع شوطاً رائداً في تلك المرحلة عندما تلقَّف قرار حزبه، حزب البعث العربي الاشتراكي، في بناء أنموذج مقاوم في قرى جنوب لبنان المحاذية للحدود الفلسطينية المحتلة، وراح يسهر على إنشائه بصبر ودأب كانت تتطلبهما ظروف التضييق والملاحقة للنظام اللبناني الذي كان حاكماً في تلك المرحلة. وكان يقع على عاتقه واجبات توفير وسائل التدريب والتسليح وإعداد المقاتلين المؤهلين في تلك القرى بكل الصمت والسرية المطلوبان لمهمة كمهمته.
كانت قريتا كفركلا والطيبة بداية مشجعة أثمرت وأنتجت النويات الأولى لتلك التجربة، الأمر الذي شجَّع حزب البعث في لبنان لتوسيع رقعتها في قرى أخرى. وكان لأبي علي حلاوي بتجربته التي أشرف ميدانياً على إعدادها الباع والتجربة، فتوسعت إلى قرية تولين، ومن بعدها انفتحت الآفاق إلى غيرها من قرى المواجهة.
لقد استشهد أبو علي في أرض المعركة التي مهَّدها ليقدم أنموذجاً في البطولة،
لقد استشهد في مواجهة العدو الصهيوني الذي أقلقته خطورة التجربة التي كانت تنمو واعدة،
وخوفاً من أن تتجذَّر كثف العدو هجماته على الطيبة فسقط ثلاثة شهداء من آل شرف الدين في 1/ 1/ 1975، وتلا العدوان هجومان على كفركلا سقط في الثاني منهما أبو علي في 26/ 11/ 1975.
ومن حزبه وعد تلقاه بمتابعة المسيرة التي استكملها رفاقه قبل عدوان الصهاينة في العام 1982 وبعده ارتفعت فيها رايات شهداء البعث على كل تلة من تلال الجنوب اللبناني.

22-صدام حسين أمام قطار الشهادة
جدَّد إيمانه بالعروبة والبعث والمقاومة
في 8 كانون الأول 2009
باستثناء الإيمان بالله خالق الإيمان في نفوسنا بالقيم الإنسانية.
وإذا كان للإيمان هوية واضحة بقضايا المجتمعات البشرية ومصالحها العامة.
وإذا كان للإيمان بتلك القيم، والقضايا والمصالح، دور واضح في دفع الإنسان لاقتحام الموت بشجاعة من أجل أولئك البشر.
فقد كان للبعد الإيماني القومي العربي أكبر الأثر الذي انطبع في عقل صدام حسين وقلبه، وبه تميزت آراؤه الفكرية، ووجَّه سيرته النضالية، وجعله من أجل أمته العربية يقدم إلى الموت غير هيَّاب ولا خائف.
منذ ثلاث سنوات مضت، عندما واجه حبل المشنقة، اعترتني حيرة وذهول وأنا أشاهد بطل البعث العظيم يقف أمام الموت من دون أن يرتعش له جفن، ومن دون أن تهتز له شفة.
ذهول اعتراني إذ ظل يخاطب المجرمين الأقزام، الواقفين أمامه، شاخصاً فيهم بجرأة غير معهودة من إنسان، يخاطبهم وينهال عليهم تقريعاً غير هيَّاب من بطشهم وتعذيبهم، وخسَّة طباعهم.
حيرة لا زلت أعيش أسئلتها، وفي المقدمة منها كيف يقف إنسان بصلابة أمام مصير موت محتوم، ولماذا يقدم على الموت بشجاعة، وفي أي سبيل، ولقاء أي ثمن؟
حيرة دفعتني لأفتش عن أجوبة تفسر هذا الموقف، لعلني أصل إلى يقين، إلى أن اهتديت وأنا أقرأ من فكر هذا الراحل العظيم وأنهل من خطاباته. كما قرأت طويلاً مضمون هتافاته ومفرداته الأخيرة التي لفظها قبل لحظة انتقاله الأخير إلى عالم الخلود.
ففي قراءته استوقفتني مبادئ كان يؤمن بها في عقله. ولعلَّها سدَّدت خطى سلوكه النضالي في حياته، وقد سدَّدتها بالفعل. ولعلَّ حبها أيضاً ملأ قلبه بالشجاعة والإقدام، وآمن أنه بها سينتقل إلى الخلود في قلب الشعب طالما ناضل ودفع حياته لأجل نصرة قضاياه. وبالفعل سيبقى خالداً في تلك القلوب. وقد حدَّد عوامل خلوده وحصرها بثلاث:
أوَ ليس هو القائل في أمته العربية؟ «أي طريق غير الطريق القومي، الإنساني، الشامل… سيبقى قاصراً عن زخم خطوة البداية… القومية، الإنسانية العميقة، والشاملة«.
أوَ ليس هو القائل في حزبه؟ طريق البعث «ارتقى بنضال الأمة إلى مستوى جديد… لفكر جديد كلياً».
أوَ ليس هو الهاتف أمام مقصلة الموت؟: «عاشت أمتنا العظيمة»، «عاش العراق»، و«عاشت فلسطين».
أوَ ليس هو الذي شخَّص طريق خلاص الأمة قائلاً؟: «النصر للمقاومة».
لقد شكَّل حب الأمة العربية مركزية في إيمان صدام حسين. بدأت في العراق ولن تنتهي عند فلسطين.
كما شكَّل حزبه، حزب البعث، بفكره القومي العربي الجديد كلياً، مركزية لطريقه الفكري.
وشكَّلت المقاومة، بقيادة حزبه وشعبه، مركزية نضالية لا بدَّ من أنها ستحمل خلاص أمته وشعبه وتحريرهما.
من كل ذلك حدَّد صدام حسين مرجعيات ثلاث في خياراته الإيمانية والفكرية والنضالية، تترابط مع بعضها ترابطاً جدلياً، وليس تسلسلاً شكلياً، وهي: العروبة، والبعث، والمقاومة.
بمثل تلك القناعة التي امتلكت عقل صدام حسين، وملأت قلبه: حبه لأمته العربية وإيمانه بطريق الفكر القومي مخلصاً لها، قد كشفت لديَّ جواباً لتلك الأسئلة، ووضعتني على طريق الخروج من حيرتي.
منذ ثلاث سنوات مضت، عندما واجه حبل المشنقة، كان مصير الأمة العربية المشرق ماثلاً على محياه، فبدا وكأنه يقول: إذا كان موتي يشكل حياة لأمتي فيا حبال الموت خذيني.
لذا وقف صدام حسين أمام حبل الشهادة، وهو يعيش أكثر لحظات الاعتزاز بإيمانه. ووقف مطمئناً خاشعاً مؤمناً بأن بداية حياة جديدة له في جوار ربه، ستكون بداية حياة جديدة لأمته. ووقف خاشعاً وهو في أعلى درجات إيمانه واثقاً بأن شعبه لن يستكين، وأن أمته تسير على طريق النصر.
وقف قلب صدام حسين عن الخفقان، فانتقلت حركة قلبه إلى قلب أمته وحزبه، وبقلبهما معاً سوف يبقى خالداً، طالما المقاومة مستمرة.
رحل صدام حسين بطلاً، وليس في الأبطال له مثيل.
رحل لكي يبقى خالداً في قلب تاريخ أمته العربية، ولكي يبقى خالداً في عقول رفاقه المقاومين، مسدداً خطواتهم وقرارتهم، طالما هم مستمرون على طريق المقاومة، التي هي طريق النصر، لتخلد أمتهم إلى جوار تاريخ مجيد، وتسكن في أرض رفضت كل معتد أثيم.

23-في الفاتح من كانون الثاني 1975:
كفاح الطلبة تفتتح عصر الشهادة في جنوب لبنان
في 14/ 12/ 2009
منذ أن اتَّخذ حزب البعث قراراً ببناء القرية المقاومة في جنوب لبنان، رهنت منظمة كفاح الطلبة نفسها لتأدية هذا الواجب، وهي كانت تعتبره واجباً وطنياً وقومياً.
فهو واجب وطني أولاً: لأن لبنان كان يتعرَّض باستمرار لوحشية الاعتداءات الصهيونية من دون رادع يردعها، أو حسيب يحاسبها. ولأن لبنان مستهدف في المراحل القادمة لضمه إلى الحلم التوراتي، كما جاء في معتقدات الصهيونية: «أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل». كما أن احتلال فلسطين كان بوابة متقدمة تنطلق منه الصهيونية لاحتلال المزيد من الأرض العربية.
وهو واجب قومي ثانياً، لأن احتلال فلسطين، كبقعة جغرافية في وسط الوطن العربي، يحول دون بناء الدولة العربية الواحدة، خاصة أن أرض فلسطين تربط بين شطري الوطن العربي الآسيوي والإفريقي. ولا يمكن النضال من أجل الوحدة من دون تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني.
من أجل ذلك، ومنذ العام 1968، لبَّى علي شرف الدين الكادح في أرضه، في بلدة (الطيبة) الجنوبية، نداء الواجبين الوطني والقومي، ونزل إلى ساحة التدريب على استخدام السلاح من أجل الاسهام في حماية قريته الجنوبية التي طالما تعرَّضت للعدوان الصهيوني الذي يبعد عن حدود الطيبة مئات الأمتار.
في ذلك التاريخ، كان أبو علي حلاوي، من بلدة كفركلا الحدودية، وكان من الكادحين في قطاع البناء، يُشرف على تنفيذ قرار البعث في بناء القرية الحدودية المقاومة ويقودها، كان من أعز الناس على قلب علي شرف الدين، فتعاونا بكل اندفاع على الاعداد لتلك التجربة.
في الوقت الذي كان فيه علي شرف الدين يعمل في النهار لالتقاط خبز العائلة، كان أيضاً يجهد لتعليم أطفاله، فكان من بينهم ولديه عبد الله وفلاح الطالبين في المدارس المتوسطة، يحملان الكتاب في النهار ليتفرغا للتدريب على السلاح في الليل مع والدهما.
انتسب عبد الله وفلاح إلى منظمة كفاح الطلبة، فاتَّحد جهد الأب الكادح مع جهد الابن الطالب، جنباً إلى جنب، من أجل مهمة واحدة، فكانت مهمة تأدية الواجب نحو حماية لبنان وحماية الأمة العربية. ومن اتحادهما، شكَّلا الأسرة المقاومة إضافة إلى كونهم أعضاء في أسرة قرابية واحدة.
وهنا لن نتكلم عن دور الأم ودور الأبناء الآخرين، فلهم وقفة أخرى، بل لا بدَّ من الإشارة إلى أنموذج مثالي في الأسرة العربية الجنوبية التي تكاثفت أيادي أفرادها من أجل إتمام واجبين: واجب الأسرة القرابية، وواجب الأسرة الوطنية، فنجحوا في بنائهما رزمة واحدة، وأثبتوا أنه من الممكن للأسرة أن تلعب دوراً عائلياً ودوراً وطنياً في تكاملية قلَّ نظيرها في مجتمعاتنا.
إلى جانب كل ذلك فقد اتَّحد كتاب الطالب مع معول الكادح ليشكلا أنموذجاً في الكفاح من أجل العيش الكريم والوطنية الكريمة.
عائلة علي شرف الدين، كانت الأنموذج الذي قدَّم نفسه في أبهى حلة من الصدق الاجتماعي والوطني، وكانت اللحظة التاريخية قد ابتدأت ليل 31 كانون الأول/ الفاتح من كانون الثاني، الفاصل بين العامين 1974، و1975.
في تلك الليلة اقتحمت قوة كوماندوس صهيونية راجلة إلى قرية الطيبة، خاصة أنها لا تبعد عن الأرض العربية الفلسطينية المحتلة أكثر من مئات الأمتار. في تلك الليلة تسللت إلى بيت علي شرف الدين، ومن أهدافها القبض على الأب وأسرته أو قتلهم. أجل أسرته لأنها كلها كانت تشكل خلية عائلية مقاتلة لكل فرد من أفرادها دور يكمل دور الآخر. ولكن ما لم يكن بحسابه هو أن ترتفع بنادق العائلة في وجه القوة العدوة، وتشتبك معها ساعات متواصلة، لم تنته إلاَّ بعد وقوع الأب وابنيه شهداء.
في تلك الليلة كانت ملحمة الطيبة كلها، بل كانت ملحمة لبنان كله، بل ملحمة الأمة العربية من دون مبالغة، لأن البندقية التي تصدت كانت بحق بندقية الجماهير العربية التي ارتفعت عندما سكتت مدافع النظام العربي الرسمي، وانغرزت جنازير دباباته في الرمال والوحول وتعطَّلت عن الحركة.
في 1/ 1/ 1975، خرج العدو الصهيوني مدمى من معركة خاضها علي شرف الدين وأولاده، فسقط من بينهم الأب الكادح في (منظمة الكادحين)، وولداه عبد الله وفلاح الطالبان في (منظمة كفاح الطلبة)، شهداء يعلنون بشهادتهم أن عصر المذلَّة العربية في لبنان قد انتهى.
وبمثل هذه الملحمة تعانق الأول من كانون الثاني من العام 1975 مع الأول من كانون الثاني 1965، فكانت في تلاقيهما قد تحققت الأهداف القومية بين مقاومة فلسطين التي انطلقت من بوابة كفركلا في 1/ 1/ 1965 مع مقاومة لبنان، مقاومة البعث، التي انطلقت من بوابة الطيبة في 1/ 1/ 1975.
في 1/ 1/ 1975، كانت ولادة البعث المقاوم بالفعل، بعد أن كان مقاوماً بالقوة.
في 1/ 1/ 1975، كانت ولادة البعث في لبنان، فكانت الولادة الأولى للمقاومة الوطنية اللبنانية، ومن بعدها انتشرت الولادة وتعاظمت، واتَّسعت إلى أن بلغت ذروتها في 25 أيار من العام 2000، بحيث تحقق النصر الأكبر باندحار العدو الصهيوني صاغراً إلى خارج حدود لبنان.
في 1/ 1/ 1975، كانت (منظمة كفاح الطلبة) في لبنان، قد افتتحت عهد البطولة، عهد المقاومة، عهد الشهادة. ولكل هذا، وبحلول الذكرى الرابعة والثلاثين لاستشهاد عبد الله وفلاح شرف الدين، نزف إلى الأمة العربية عريسين من الطلاب. ونعلن أن للطالب دوراً ريادياً في كل ساح، في المدرسة والمعهد والجامعة، وإلى جانبها له دور ريادي في المقاومة، ومن أقدسها المقاومة المسلحة. وبذلك لن تموت أمة يرتقي فيها طالب العلم إلى طالب للشهادة في سبيل الوطن والأمة.

24-عروبة المقاومة ووطنيتها تحصين لأهدافها ونتائجها
في 19/ 12/ 2009
من بديهيات المفاهيم الوطنية والقومية العربية تعلمنا أن الاستعمار والصهيونية وضعا في أولويات أهدافهما السيطرة على الوطن العربي لأكثر من سبب. وقد أعَّدا استراتيجياتهما معاً منذ أكثر من قرن من الزمن، وكان احتلال فلسطين في العام 1948، يمثل الخطوة الأولى التي تم تنفيذها، على أن يتم استكمال المخطط خطوة خطوة، وقطراً قطراً، على أن تنتشر إشعاعات الاحتلال بعد هضم الفريسة الأولى في أرض فلسطين إلى أراضٍ عربية أخرى، ولكنها لا تزال تتعثَّر لأكثر من عامل من أهمها انطلاقة المقاومة الفلسطينية من بوابة كفركلا في جنوب لبنان، في أواسط الستينيات من القرن الماضي. وجرَّب التحالف المذكور احتواء لبنان أو احتلاله وفشل في ذلك في مراحل عديدة ولعوامل عديدة وكان من أهم العوامل انطلاقة المقاومة اللبنانية في الطيبة في جنوب لبنان في الفاتح من كانون الثاني من العام 1975. ولأن المقاومة الشعبية المسلحة واجهته وأعاقت انتشاره في فلسطين. وأدمته في لبنان وأرغمته على الانسحاب، التفَّ عليها أخيراً من البوابة العراقية لعلَّه يفلح في العراق بما فشل فيه في فلسطين ولبنان، إلاَّ أن المقاومة الشعبية اندلعت في العاشر من نيسان من العام 2003، وهي لم تعق احتلاله فحسب بل أرغمته على إعلان الانسحاب أيضاً.
استراتيجية التحالف الاستعماري – الصهيوني في الوطن العربي واحدة، سواءٌ لبست ثوب احتلال فلسطين أم ثوب احتلال لبنان أم ثوب احتلال العراق، وهي احتلال الوطن العربي كله، على الرغم من تجزئته إلى مراحل.
واستراتيجية المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق هي مواجهة التحالف إياه، فأينما حققت المقاومة نجاحاً ونصراً، تنعكس تأثيراته الإيجابية على المقاومة في القطر الآخر. وفي أي مكان انتصرت فهي تعمل على إضعاف طرفيْ التحالف الاستعماري – الصهيوني.
وإذا كانت المقاومة في الأقطار الثلاثة تحصد عدداً من النتائج التاريخية العالية الأهمية، وتتبادل عوامل القوة والتأثير الإيجابي، إلاَّ أن عدداً من المهمات المطلوبة تدفعنا إلى الإشارة إليها، لكي تكون نتائج المقاومة أكثر تأثيراً وسرعة.
هذا الواقع التاريخي الوصفي للصراع بين التحالف الاستعماري – الصهيوني من جهة والمقاومة العربية من جهة أخرى، يطرح على المقاومة عدداً من المهمات الرئيسية، ولعلَّ اعتبار مكاييل وطنية المقاومة وعروبتها هي الأكثر إلحاحاً وحاجة في هذا الوقت بالذات الذي يعمل فيه التحالف الشرير على التقاط أنفاسه بعد أن أدمته المقاومة، أو كسرت قرونه.
أما عن وطنية المقاومة، فنرى أنه إذا كانت المقاومة من أهم وسائل التحرر من الاحتلال الأجنبي. وإذا كانت نتائج التحرير تصب في مصلحة كل أبناء الوطن. فأهداف المقاومة إذن تكون وطنية من دون أدنى شك، ونتائجها وطنية. فلماذا لا تكون وسائلها وطنية أيضاً؟
وأما عن عروبتها، فنرى أنه إذا كان العدو المحتل لأرض قطر من الأقطار العربية، يُراد منه التمهيد لاحتلال القطر الآخر، فأهداف احتلال هذا القطر إذن هو بداية لاحتلال الوطن العربي قطراً إثر قطر، وهذا يعني أن مشاركة العرب جميعهم في تحرير القطر المحتل وكأنه دفاع عن أنفسهم. فلماذا لا تكون وسائل المقاومة قومية أيضاً؟
من كل ذلك نخلص إلى أنه لا بُدَّ من العمل لتثبيت أسس وطنية للمقاومة العربية، ليس في الشعارات فحسب، وإنما في الممارسة والأداء أيضاً. ويتم ذلك عبر أُطُر جبهوية تنضم إليها كل القوى والأحزاب في القطر المحتل من دون النظر إلى ماهيتها الحزبية أو الدينية. وإنه لما كان المفهوم الوطني للمقاومة حاجة أساسية، هدفاً ونتيجة، فالوسيلة إذن في هذه المقاومة لا يجوز إلاَّ أن تقوم على جهود أبناء الوطن جميعهم. ولما كان تعريف الوطنية يشمل مجموع الشعب الذي يعيش على أرض واحدة، بمعزل عن انتماءاته الدينية والمذهبية والعرقية، يوجب ذلك أن تكتسب المقاومة صفة الوطنية، شكلاً ومضموناً.
كما نخلص إلى أنه لما كانت أهداف التحالف الاستعماري –الصهيوني السيطرة على الوطن العربي كله، ولن يكتفي بقطر دون آخر، فعلى المقاومة أينما كانت أن ترفد جهود المقاومة على كل الأرض العربية. ولن نألو جهداً في تفسير ذلك، بل علينا أن نتَّعظ من استراتيجية التحالف المذكور الذي يعمل على اجتثاث كل المقاومات في الوطن العربي رزمة واحدة، وإن كان يعمل على تنفيذها خطوة تليها خطوة. كما علينا أن نتصور عوامل القوة التي تحصدها المقاومة العربية وهي تفتح ثلاث جبهات دفعة واحدة في فلسطين ولبنان والعراق. كما علينا أن نتصور كم من الضعف ستحصد كل مقاومة منها إذا ما استكانت إحدى المقاومات لسبب أو لآخر.
استناداً إلى تعريفنا بوجوب وطنية المقاومة وعروبتها، نرى أن كل المسميات، من إسلامية أو حزبية فئوية أو غيرها، التي تطلق اليوم على المقاومة في كل أرض عربية، على الرغم من أنها تؤدي مهمة تاريخية لا يجوز التشكيك بها وبنتائجها، تصبح بعيدة عن مألوف المفاهيم الوطنية، خاصة أن تلك المفاهيم أصبحت واقعاً يستحيل التشكيك فيه أيضاً. ولكن لو وُصفت المقاومة استناداً إلى مواقعها الجغرافية لتمييزها فقط، كأن تكون فلسطينية أو لبنانية أو عراقية أو غيرها، فإن هذا لا ينفي عنها صفتها القومية العربية.
وتفصيلاً، ماذا تستفيد الحركة الإسلامية في فلسطين أو لبنان أو العراق من تسمية نفسها بـ(المقاومة الإسلامية) إذا ميَّزت نفسها بصفة إسلامية طالما أن نتائج مقاومتها ستصب في مصلحة المسيحيين والمسلمين معاً؟ أي أبناء الوطن الواحد والقومية الواحدة.
وبماذا تستفيد الحركة المسيحية مما إذا تكررت التجربة عبرها؟
إن الأزمة في الواقع الراهن، حول هذه الإشكالية، تعود إلى الخلاف حول تحديد هويتنا، والتي ترقى إلى الجدل الدائر الواصل إلى حدود النزاع والتناقض، هل نكتسب هويتنا على أساس وطني - قومي أم على أساس ديني. أي هل نحن عرب؟ أم هل نحن مسلمون؟ أم هل نحن مسيحيون؟ وهل نحن كاثوليك أم أرثوذكس؟ أم نحن سُنَّة أم شيعة؟
بانكفاء سلطة الكنيسة في الغرب عن ممارسة أي دور سياسي في أنظمة الحكم، وبانكفاء الإمبراطورية الإسلامية، إلى كنف سلطة الدولة القومية، تغيَّرت معايير تصنيف الإنسان، وانتقلت من مرحلة نسبته إلى دينه ومذهبه إلى مرحلة نسبته إلى قوميته. فاحتلت الصفة القومية مكانة الثابت الأول، والصفة الدينية والمذهبية إلى مكانة المتغير.
استناداً إلى مفهومنا هذا أصبحت العروبة هي الثابت وغيرها من المتغيرات. فالمسلم والمسيحي ينتسبان إلى العروبة أولاً، ووضع نفس كل منهما في خدمة القضية العربية هي المعيار الأول الذي يُقاس على أساسه كل جهد يبذله أي منهما، وفي مقدمة تلك الجهود تأتي المقاومة التي يخوضها العرب الآن في مرحلة التحرر الوطني. إلاَّ أن هذا لا يعني أن لا يستفيد العرب من كل التراكمات الحضارية التي أنتجوها طوال تاريخهم، بل العكس هو الصحيح والواجب. فالتراث، الذي أثبت قيمته وصلاحيته لتوحيد العرب وتعزيز حضارتهم التي تواكب متغيرات العصر، يعتبر من أهم أركان التراكم الحضاري الذي لا يخدم مصلحة الأمة فحسب، بل هو يخدم مصلحة الإنسانية أيضاً.
فالعروبة، بهذا المعنى، هي التي تشكل الحصانة الأولى والأخيرة التي تمنع انحراف بوصلة المقاومة إلى أي اتجاه لا يخدم قضايا العروبة ومصالحها.
من كل ذلك نرى أنه لا بُدَّ، في مرحلة التحرر الوطني من الاحتلال، من تحييد الدين والتصنيفات الدينية عن المقاومة العربية، بالشكل والمضمون. إلاَّ أن هذا لا يعني حرمان التعدديات، الدينية والإثنية، من حقوقها في ممارسة خصوصيات معتقداتها التي لا تتناقض مع مفاهيم بناء نظام سياسي في مرحلة البناء الوطني والقومي الداخلي، أي بعد إنجاز مرحلة التحرير من الاحتلال الأجنبي. ولهذا موقع آخر يُترك تحديد أصوله النظرية والعملية إلى ما بعد مرحلة خلاص رأس الوطن من القطع.

25-الحوار فن جناحاه: سؤال عميق وجواب واضح

في أواخر كانون الأول 2009
الحقيقة المطلقة ماثلة فقط في المُثُل العليا، وهي ما نسميها أيضاً بالقيم العليا، كمثل العدل والمساواة، والحرية، والفضيلة، و... هذه القيم وحدها هي التي لا يمكن أن نراها إلاَّ من زاوية واحدة. وهي التي نرى وجودها ضرورياً لاستمرار الحياة البشرية بشكل سوي، وهي التي إذا افتقدناها تتحول الحياة إلى صراعات دائمة لا تنتهي. وما الصراعات التي تعرفها البشرية، منذ بدء الخليقة والتكوين، إلاَّ أحد مظاهر غياب تلك القيم عن التطبيق، أو الاختلاف حول تطبيقها.
فالطفل الذي يُولَد، بحاجة إلى أم تلتزم بقيم الأمومة، وأب يلتزم بقيم الأبوة. وإذا ما صرخ من جوع أو ألم، فصراخه تنبيه لأمه أو أبيه أنهما قصَّرا بتطبيق قيم أمومة الأم وأبوة الأب. وإذا ضحك وابتسم فضحكه وابتسامته هما تعبير عن أن قيم الأمومة والأبوة قد تمَّ تطبيقهما بطريقة أرضته فعبَّر عن ذلك بالابتسامة.
وهكذا الحال بالنسبة لطبيعة العلاقة بين التجمعات البشرية والأفراد. تكون سوية يسودها الود والمحبة والرضى إذا كانت قيم التعاون والعدالة والمساواة سائدة بين هذه الجماعة أو تلك، أو بين هذا الفرد وذاك. أما إذا اختلَّ تطبيق تلك القيم فسيقود إلى الاختلاف والاحتراب والصراع. وهذا ما نسميه الحروب بين الشعوب والعداوات بين الأفراد.
وما إصرار كل شعب، أو كل جماعة، أو كل فرد، على قناعته بتطبيق أسس العلاقة مع الآخرين من زاوية نظره، إلاَّ إصرار على استمرار النزاعات والحروب والصراعات.
وما لجوء كل تلك المستويات البشرية إلى الحوار، كل على مستواه وصعيده، إلاَّ إشارة إلى الدخول الصحيح في بوابة تصحيح العلاقات بين مستويات البنية التحتية للإنسانية، وللمجتمع البشري.
وهنا نبدأ في السطر الأول للإسهام في تحديد مفهوم لفن الحوار المستند إلى فن السؤال والجواب.
ولأن الحقيقة المطلقة ظاهرة، ومحدودة في دائرة القيم العليا. فإن وسائل تطبيقها ليست كذلك، بل تحديد معرفة تلك الوسائل هي نسبية، تختلف من فرد إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى، ومن شعب إلى آخر.
ولأن المواقف من وقائع الحياة والسياسة وقضايا الفكر تتباين بين جماعة وأخرى، أو حتى بين فرد وآخر، يأتي دور الحوار ليكون جسراً يلتقي عليه المتباينون بالمواقف والآراء يدلي فيه كل طرف ببراهينه وأدلته، ويستمع إلى براهين الآخرين وأدلتهم.
لذلك كان الحوار، ولا يزال، جسراً يردم الهوة بين البشر، لتقريب المواقف بينهم. والحوار ليس أكثر من وسيلة يستند إلى عامليْن أساسيين، وهما: فن السؤال وفن الجواب.
وفي هذا المجال لا بُدَّ من أن نشير إلى واقع مؤلم وشاذ يبتعد بالمحاور عن جادة الوصول إلى الحقيقة، عندما يتصرَّف وكأن الحقيقة مطلقة. ولا يمكن الخروج منه إلاَّ بإدراكه بأن الحقيقة ليست مطلقة، بل هي نسبية يراها كل فرد من زاويته الخاصة، وإذا ما عمل على رؤيتها من أكثر من زاوية فإنه يقترب إليها بطريق أكثر أمناً وبأقل ما يمكن من الأخطاء.
فلذلك، ولأنه لا يجوز أن ننكر على الفرد أن يرى الحقيقة من زاويته، فإننا أيضاً ندعوه إلى الامتناع عن إنكار حق الآخر برؤيتها من زاويته الخاصة. وإذا ما اعترف كل منهما بحق الآخر، تتقارب مسافات التلاقي على حساب مسافات التباعد، الأمر الذي يفسح الطريق لحوار الطرفين بحيث يعرض كل منهما موقفه ورؤيته كما يراهما من زاويته، ويكون على أتم الاستعداد للرؤية من زاويتين، مما يغني معرفته أكثر، ويكون وضع المعرفة أغنى إذا ازدادت زوايا الرؤية إليها وتعددت.
فالمعرفة الغنية إذن هي المعرفة التي تتجاوز دائرة الزاوية الخاصة إلى النظر للحقيقة من الزوايا الأخرى. وهذا التجاوز لا يمكن الوصول إليه إلاَّ بما يُعرف بالتوق إلى المزيد من المعرفة، والمعرفة لها علاقة بفن السؤال، أي أن يكون الفرد قادراً بسؤاله على استخراج ما عند محاوره من أسباب وبراهين جعلته يرى الحقيقة كما رآها، وأن يتخذ الموقف الذي اتخذه.
وإذا كانت المعرفة تقتصر على زاوية واحدة فلن تحتاج إلى سؤال، بل تحتاج إلى فن الجواب فقط، وهنا أيضاً، ومهما بلغت مقدرة الفرد على إخراج جوابه بأفضل حلة فإنه واقع لا محالة بخطأ اعتبار الحقيقة مطلقة، خاصة إذا تبيَّن للفرد أن هناك زوايا أخرى قد فاتته أو كان قاصراً عن رؤيتها.
أنت لا تعرف زاوية رؤية الآخر أكثر منه، فلذلك عليك أن تفهمها من خلاله. ولن تصل إلى معرفة جيدة بزاويته إلاَّ إذا وضعت نصب عينيك مجموعة من الأسئلة توجهها إليه، وتستمع إلى جوابه بروية وصبر.
وإذا كان دورك أن تقنع الآخر بصحة موقفك ورأيك من الزاوية التي ترى منها، فلن تقدر على ذلك إلاَّ إذا كانت الرؤية عندك واضحة، أي أن تكون معرفتك بموقفك واضحة، عند ذاك يمكن أن يكون جوابك واضحاً وبالتالي مقنعاً، وهنا يستند فن الجواب إلى معرفتك الواضحة بالزاوية التي تنظر منها.
ففن الحوار يستند إذن إلى استعدادك النفسي بأن تسمع جيداً بناء لسؤال جيد قمت بطرحه على محاورك، هذا بالإضافة إلى استعدادك النفسي للاقتناع برؤيته إذا ما كانت أجوبته واضحة على أسئلتك وتلبي شروطها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق