بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 22 يناير 2010

المقاومة الوطنية اللبنانية (الفصلان الثاني والثالث)

الفصـل الثـاني
الواقع الراهن للمقاومة الوطنية اللبنانية

تمهيــد حول طبيعة الصراع العربي-الصهيوني
حيث إن المقاومة الوطنية اللبنانية هي أعلى أشكال التعبير عن الصراع العربي-الصهيوني، كان لا بد من وضعها في مكانها الصحيح.
ولهذا السبب علينا أن نوضح مستوى الصراع في الوقت الراهن كي نستطيع أن نحدِّد الموقع الذي يجب أن نُصنِّف فيه المقاومة اللبنانية في داخل إطار هذا الصراع؛ و لعلَّ ذلك يساعدنا على فهم اتجاهات وآفاق هذه الظاهرة، ومما يسمح لنا بإنارة الطريق الذي تسلكه كي تتحاشى أكثر ما يمكن من الأخطاء، و لكي تحقِّق أكثر ما يمكن من الإيجابيات ، خاصة وأن تجربة المقاومة الفلسطينية-كجزءٍ من الصراع-ماثلة بأخطائها للعيان.
طوال مراحل الصراع العربي-الصهيوني كان العدو يعتمد على الإعداد لحروب نظامية، لم يستطع الطرف العربي أن يجاريه في هذا المضمار، أي في تأمين متطلَّبات تلك الحروب، وغنما كان التفوق حليفاً دائماً للعدو. أما الهزائم فكانت من نصيب الجيوش العربية.
لم تأخذ الأنظمة العربية نقاط الضعف عند العدو بعين الحسبان، وتجاوزت نقاط القوة التي يمتلكها الشعب العربي، ويأتي في مقدِّمتها التفوُّق البشري لوضعه في استراتيجية حرب شعبية.
وعندما انطلقت المقاومة الفلسطينية في عملياتها ضد العدو، لم تحقق النصر عليه، ولكنها ساعدت على تفجير طاقات الشعب العربي من جهة، واستطاعت أن تزرع القلق عند العدو وتساعد على استنزاف إمكانياته من جهة أخرى. وكانت ولادة المقاومة الوطنية اللبنانية من أهم نتائجها، والتي أصبحت امتداداً للتجارب السابقة.
لا يزال السياق السياسي للصراع العربي-الصهيوني، في هذا الظرف، تقليدياً على الرغم من بروز تجارب مهمة ومُشَرِّفة على صعيد دخول عناصر جديدة في الصراع.
فمصر لا تزال مُقَيَّدةً باتفاقيات كمب ديفيد، وحدود الأردن تنعم بالسلام، والجولان لا يزال هادئاً، وبإيجاز فإن الأراضي العربية المُحْتَلَّة تحوَّلت إلى حزام آمن يدرأ الخطر عن العدو الصهيوني. وتمَّ اختصار كل الصراع فتجمَّع على الجبهة الجنوبية للأراضي اللبنانية، التي تحوَّلت إلى جرح نازف في خاصرة العدو.
بعد أن تكاثرت المشاريع والمؤامرات لوأد حركة المقاومة الفلسطينية، بالتناوب بين العدو الصهيوني وبعض الأنظمة العربية، وبعد أن استطاعت تلك المؤامرات أن تنجح في اقتلاع المقاومة من أكثر من مكان، تابعت طريقها لاستكمال مشاريع الاقتلاع عن الساحة اللبنانية على أيدي النظام السوري، الذي يمارس سياسته وخطته منذ دخول قواته إلى لبنان في6/6/1976م. هذا بالإضافة إلى أنه كان تعمل لاحتواء قرار الحركة الوطنية اللبنانية، أو تحجيمها، لتيُطْبِقَ الحصار على المقاومة الفلسطينية، وقد نجح في ذلك-نسبياً-بعد العام 1982م.
يُضاف إلى كل ذلك واقع التشرذم العربي، والاستغلال الصهيوني لهذا التشرذم، إشغال القطر العراقي بحرب طويلة مع إيران، وقد بدا واضحاً-بعد سنوات من اندلاعها-مدى التنسيق الصهيوني-الإيراني من خلال صفقات الأسلحة الإسرائيلية التي كانت تصل إلى إيران، ولم يستطع النظام أن ينكرها بل أكَّدها-و قد ترافق، أيضاً، مع تأييد النظام السوري للنظام السوري ضد العراق.
في وقائع الصراع العربي-الصهيوني، حصل اجتياح الأراضي اللبنانية في حزيران/يونيو من العام 1982م. فكيف كان الوضع ميدانياً منذ بدايته على الساحة اللبنانية عامة، وفي داخل الأرض اللبنانية المحتَلَّة بشكل خاص؟
هناك مرحلتان:
مرحلة الاجتياح حتى تاريخ الانسحاب الجزئي، الذي استُكْمِل في 29/4/1985م،
ومرحلة ما بعد الانسحاب الجزئي.

I - مرحلـة ما قبل الانسحاب الجزئي (6/6/1982-29/4/1985).
1) المنـاخ السياسي والشعبي قبل الاجتياح.
أعدَّ النظام السوري حصاراً أمنياً وسياسياً حول المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية قبل العام 1982م، مُستخدِماً في ذلك (حركة أمل)، التي كانت تُنَفِّذ الخطة بإحداث إرباكات أمنية في وجه القوات المشتركة، من خلال افتعال معارك عسكرية شملت معظم مناطق الجنوب وبيروت الغربية والضاحية الجنوبية من جهة، و إرباكات سياسية كانت تستخدم فيها التعبئة والتحريض في أوساط الجماهير الشيعية ضد أخطاء وتجاوزات المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية، كما أنها كانت تستفيد من حالة اللاأمن على حياة المواطن وممتلكاته، التي كانت سائدةً نتيجة المعارك الجانبية الآنفة الذكر.
حصل الاجتياح الصهيوني بعد أن بلغت المعاناة الجماهيرية ضد التجاوزات والأخطاء حداً أقصى، تهيَّأ من خلالها المناخ المناسب، الذي يجعل أية عملية عسكرية صهيونية سهلة المنال، بحيث أن حالة الامتعاض الشعبي ستجعل الناس أكثر قبولاً لأية قوة تحلُّ مكان القوى الموجودة على الأرض حتى لو كانت تلك القوة هي إسرائيل نفسها. ويعود هذا السبب لعاملين اثنين: الأول هو حالة العداء التي تولَّدت عند الجماهير الجنوبية ضد الواقع الذي كان سائداً في الجنوب، الذي يُشكِّل-جغرافياً-بوَّابة العبور لأي عمل عسكري صهيوني؛ اما الثاني فهي حالة الإرباك و الإنهاك التي أصابت القوى المقاتلة المُفْتَرَض أن تواجه القوات الغازية، لكنها قاتلت من دون ثقة بأي احتضان جماهيري لها نتيجة مناخ العداء الذي نما ضدها في المرحلة التي سبقت الاجتياح.
إن تقييماً مختلفاً قد حصل عند كل فريق حول ما كان الوضع عليه في اللحظة التي دخل فيها العدو. وإن خضع بعض التقييمات لردود فعلٍ سلبية، ولغايات سياسية مرسومة الأهداف سابقاً، فإن بعضها كان يلامس الواقع. وعلى أية حال تجدر الإشارة إلى ضرورة عرض بعض ما قِيلَ حتى يكون التحليل أقرب إلى الموضوعية فيما بعد.
2) مراحل الاجتيـاح الأولـى:
إتَّسمت بعض التقييمات بالسلبية المُبالَغِ فيها، مثل ردود فعل حركة أمل، التي وصفت بداية الاجتياح بأنها كانت رهيبة، والسبب عائد-كما تدَّعي- إلى انعدام المقاومة. وتُحَمِّل (حركة فتح) المسؤولية التي كان من الواجب أن تمتلك الخطة الشاملة، لذا فُوجِئت قيادة (أمل) وعناصرها بأن لا خطَّة ولا سلاح؛ ونتيجة لذلك، تحسب رباب الصدر، حصلت حالة تفريغ للمنطقة، ولم يبق فيها إلا قياديو حركة أمل وعناصرها ( ).
أما الحزب السوري القومي الاجتماعي فقد حسب، في بداية الاحتلال، بأن حالة الإحباط كانت عامَّةً "لأنها ضربة مُوْجِعَة لكل النضالات القومية والاجتماعية". وقد حمَّل الحزب المقاومة الفلسطينية وِزْرَ تلك الحالة، و بالتحديد حركة فتح (الاستسلامية)-حسب تعبير الحزب-لأنها كانت القوة الأساسية. وعلى الرغم من اتهامه فإنه يعترف بأن مواجهة قد حصلت، لكنها لم تكن بالمستوى المطلوب، و لم تكن المواجهة لتحصل لو لم يكن للحزب دوراً فيها. و قد كانت قوات الحزب القومي-كما يدَّعي أحد مسؤوليه-هي آخر من ترك المنطقة بعد أن انسحب الآخرون. وعلى الرغم من أن الحزب يُحَمِّل الآخرين مسؤولية غياب المواجهة، إلا أنه يعترف أن الاستمرار فيها من قِبَلِ الأحزاب الوطنية لم يكن عملاً واقعياً بالمنطق العسكري أمام عشرات الألوف من جنود العدو( ).
أما المقاومة الإسلامية فتحسب أن عقم الصراع بين المقاومة الفلسطينية والعدو الصهيوني، يأتي من الحالة الفكرية التي زرعها الاستعمار، وعملت على أساسها المقاومة الفلسطينية.
أما الحزب الشيوعي اللبناني، فقد أكَّد على أهمية المواجهة التي حصلت في وجه الاحتلال، والتي نالت الإعجاب والتقدير على المستويين العربي والعالمي؛ لكنه يؤكِّد على أنه في المرحلة الأولى للاجتياح قد حصل نوع من التقهقر والتراجع، عاشت في خلالها العناصر الوطنية
حالة نفسية كانت غاية في الصعوبة على صعيد الجنوب( ). و على أنه لم يحصل قتال في الجبل، مُبَرِّراً ذلك بانهيار معنويات المُفتَرَض فيهم أن يُقاتلوا، من جرَّاء تراجع الجيش السوري بدون قتال وبشكل عشوائي. وهو في هذا القول يتناقض مع ما ورد على لسان شيوعي آخر، عندما يدَّعي بأن ظلام الجبل كان نهاراً عند الحزب الشيوعي الذي قاتل ببطولة في سائر المناطق( ). ولم تقتصر بطولات الشيوعيين-والكلام لأحد مسؤولي الحزب-على الجانب العسكري، بل إنه الوحيد الذي كان يلعب الدور التاريخي[!!!] في المبادرة إلى طرح شعار المقاومة الوطنية، وقد كلَّفه ذلك جهداً ودماً وقمعاً واعتقالاً، وهو الوحيد المُنْتَظَر منه قولاً جريئاً وصريحاً( ).
أما عن مظاهر الحالة الشعبية في بداية الاجتياح فقد صوَّرها أكثر من طرف. وسنقتطع منها بعض التصاوير-كما جاءت على لسان أحد الذين عاشوا معها في تلك المرحلة، وقد وصفها بالمعاناة الكبرى، وقد قال: «عانينا معاناة كبرى خلال الاجتياح لوجود أرضية خصبة لتَقَبُّل الوجود الإسرائيلي الهادف إلى طرد الفلسطينيين من الجنوب، حيث اعتبر الجنوبيون أن إسرائيل هي المُخَلِّص من الممارسات الخاطئة» ( ).
إستخدم هذا الوصف أكثر من مسؤول في حركة أمل وكانوا يخشون وقوع بعض قيادات الحركة وعناصرها في شرك وهم الخلاص الإسرائيلي، وقد وردت في مواضع سابقة من هذا البحث. وقد وُصِفَت بداية الاحتلال «بالمرحلة الأولى وهي مرحلة الصدمة»، حيث قُوبِل الاحتلال باللامبالاة بسبب سلبيات المرحلة السابقة « وهذه قد سبقت مرحلة بداية الوعي لمخاطر الاحتلال وأبعاده» ( ). وقد عبَّر عنها مواطن جنوبي آخر، «عند بداية التحول تلك، إذ رأى الناس في الإسرائيليين عدواً ظالماً، وإن إسرائيل لن تريحهم كما اعتقدوا» ( ).
هل كان الاجتياح، فعلاً، بمستوى الكارثة، كما صوَّرته بعض الأطراف من حيث انعدام المقاومة؟ أم أنه كان بمستوى الواقع الموضوعي الذي يجب أن ننظر إليه من زاوية حرب الشعب في مواجهة قوة عسكرية نظامية ضخمة؟

3) نظرة نقدية لتقييمات مختلف التيارات والأحزاب.
إننا نحسب أنه في ظل اختلال موازين القوى العسكرية بين دولتين، يأتي النصر للدولة الأقوى، وهذه من بديهيات منطق العمل العسكري النظامي. و لكن هل يصحُّ هذا الحساب في حالة المواجهة بين قوات نظامية وقوات أخرى تعتمد أسلوب المقاومة الشعبية؟
قبل الاجتياح الصهيوني للأراضي اللبنانية في العام 1982م، كانت قوات المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية تواجه العدو بأسلوب حرب المواقع، في الوقت الذي كانت تفتقد فيه أقل من الحد الأدنى من إمكانيات الجيوش النظامية. وفي ظل ذلك الواقع لا تستطيع تلك القوات الميليشياوية أن تصمد في وجه جحافل تُعَدُّ بعشرات الآلاف من الجنود المدرَّبين والمدعومين بالطائرات والبوارج والدبابات والمدفعية... وهذا ما حصل بالفعل إذ استطاع جيش العدو الصهيوني أن يصل إلى مشارف بيروت في ستة أيام حيث. فأُصيب الجميع بخيبة أمل، وقد تساوت في ذلك جماهير الشعب وبعض قيادات الفصائل المقاتلة؛ أما البعض الآخر، المحسوب على القوى المناهضة للمقاومة الفلسطينية فقد أخذ يُبْرِزُ سلبيات المواجهة، ويبالغ فيها، لأغراض توضَّحت، فيما بعد، أنها أغراض سياسية مرسومة، تخدم مصالحه السياسية.
إستغلَّ النظام السوري التقديرات المتباينة، واستخدم بعض القوى الفلسطينية التي لم تنظر إلى الوضع الذي حصل بعين الواقعية والموضوعية؛ فراحت تُكيل التهم ضد حركة فتح. كما ضخَّم تلك الاتهامات لكي يستفيد منها في تنفيذ خطته وتحقيق أغراضه في إضعاف المقاومة الفلسطينية، وتشويه سمعتها على طريق احتوائها، وهو الغرض الذي لم يستطع أن يفرضه قبل اجتياح العام 1982م.
إن بعض القوى الفلسطينية-غريمة سياسية لحركة فتح-بالاشتراك مع بعض القوى اللبنانية التي كانت تستقوي بالعامل السوري ونفوذه في لبنان فرضخت لإرادته، أصبحتا مخلب القط الذي استخدمه النظام في ضرب شرعية منظمة التحرير الفلسطينية. وابتدأت العملية في البقاع ولمَّا تهدأ جبهة القتال مع العدو الصهيوني بعد، واستُكْمِلَت الخطة في أواخر العام 1983م في مدينة طرابلس والمخيمات الفلسطينية المحيطة بها. ومن هناك أُخْرِجَ المقاتلون الفلسطينيون عنوة للمرة الثانية من لبنان، لكن... في هذه المرة تحت الضغط السوري بأداة فلسطينية. فتمخَّضت تلك المعارك عن انشقاقات في داخل فصائل المقاومة الفلسطينية من جهة، وعن شقٍّ عمودي في داخل منظمة التحرير الفلسطينية من جهة أخرى.ولا تزال تلك الشقوق تُسْتَخْدَم-حتى الآن-كستار لتصفية المنظمة أو إلغاء دورها كليَّاً أو-على الأقل-العمل على احتوائه بشكل محدود.
واستخدم النظام السوري، أيضاً، غطاءً آخر، لاستكمال مخطَّطه في اقتلاع شرعية منظمة التحرير الفلسطينية، وكان جزءٌ من ذلك الغطاء جاهزاً منذ ما قبل الاجتياح، وتُشكِّل حركة أمل العمود الفقري في تنفيذ المخطط المذكور؛ أما الجزء الآخر فكان يتشكَّل من بعض أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية ممن كان لديهم القبول في أن يلعب دوراً في الخطة المرسومة.
ولذلك فقد كانت بعض الأحزاب غاطسة، منذ البداية وعن سابق تصور وتصميم؛ وبعضها لم يستطع الصمود في وجه عوامل الترهيب التي اتَّبعها النظام السوري في جرِّها إلى مواقع القتال ضد شرعية المنظمة تحت شعار اتهامها بالاستسلام والخضوع للإرادة الرجعية العربية تارة، والخضوع للإرادة الأميركية تارة أخرى( ).
في ظل ذلك المناخ، ومن خلال النظر إلى مواقف أكثر الأطراف اللبنانية، التي قَيَّمت مستوى مواجهة القوات المُشْتَرَكَة لجيش العدو الصهيوني في اجتياح العام 1982م، نستطيع أن نفهم الأغراض السياسية التي وجَّهت تلك المواقف.
من خلال تقدير حجم الخسائر، التي لحقت بالعدو في الأشهر الثلاثة الأولى للاجتياح، نرى أن وصف الحدث بالهزيمة لهو أمر أكثر من مُبالَغٍ فيه، ووصفه بالحدث التاريخي مُبالَغُ فيه أيضاً.
ينطلق تقييمنا للمواجهة التي حصلت ضد الغزو الصهيوني في العام 1982م من الزوايا التالية:
أ-مستوى المواجهة العسكرية: ضمن موازين القوى، وحسب المناهج القتالية بين جيش نظامي ومجموعات مُعَدَّة لحرب العصابات، و من خلال مراجعة مُخْتَلَف حروب العصابات، لم يذكر التاريخ أية تجربة استطاع فيها (العصابيون) الصمود في مواقعهم في أثناء القتال ضد جيش نظامي.
تناسى أصحاب الأغراض السياسية هذه الحقيقة وهم ينتقدون بعض فصائل منظمة التحرير الفلسطينية عندما وجَّهوا اتهاماتهم ضدها، خاصة وأنهم حمَّلوها مسؤولية وصول جيش العدو إلى بيروت بسرعة فائقة، لكنهم تناسوا أنه وصل إلى بيروت بينما كان لا يزال يقاتل في صور وصيدا.
نتيجة الخطأ الفني الذي وقعت فيه المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، ونتيجة عدم فهم أو المكابرة في فهم طبيعة المواجهة مع جيش نظامي، عندما لجأوا إلى حرب المواقع، ولم تُكَلَّف قيادات الأحزاب نفسها عناء التفكير في إبقاء جزءٍ من تنظيماتهم سرِّيَة وغير مكشوفة، كي تلعب دورها الأساسي خلف خطوط العدو في أثناء الاجتياح وفي أثناء الاحتلال. وإن لهذه المسألة قسط من التقييم ليس هنا دوره، وإنما تجدر الإشارة إلى أنه كان خللاً تنظيمياً يتنافى مع قواعد العمل السري التي تنص عليها الأنظمة واللوائح الداخلية للتنظيمات، وهي خلاصة تجارب كل الثورات الشعبية المسلَّحة، وقد لعب التنافس الفئوي الضيِّق-في مرحلة الكشف، مرحلة ما قبل 1982م-دوره البارز في ذلك الخلل.
ب-مستوى المواجهـة التعبويـة: وهذا يحتاج، إلى حيِّزٍ آخر لدراسته بشكل علمي توثيقى وتفسيري؛ كما يحتاج إلى دراسة الأساليب التعبوية التي كانت سائدة آنذاك، والتي كانت تتوافق مع ذهنية الممارس للسلطة.
لقد كانت الأساليب التعبوية تعتمد على الخطاب الإنشائي التحريض للجماهير في مرحلة كانت الجماهير تحسب نفسها في موقع المنتصر، وكانت تتقبَّل ذلك بسهولة. ولم تكن الأساليب تعتمد على التثقيف التعبوي لمواجهة مرحلة الاحتلال كاحتمال وارد، لأن القوى الفلسطينية-اللبنانية كانت تُصَوِّر للجماهير أنها تعيش في مواقع الهجوم الدائم من دون الأخذ بالحساب احتمالات وضعها في مواقع الدفاع من جرَّاء احتلال مُحْتَمَل، وحتى إذا كانت تتوقعه فإنها لم تُعْطِه أهمية تُذكَر...
وإن التعبئة في هذا الاتجاه حصلت في الأطر التنظيمية الضَيِّقَة إلا أنها لم تأخذ مداها الجماهيري وهو الأهم.
في ظل وجود تلك الثغرة، حصلت، في بداية الاحتلال، الصدمة في وجدان الجماهير الوطنية التي كانت فريسة سهلة أمام الأصوات المُوَجَّهَة والمُعَدَّة كي تلعب دور التحريض على الوجود الفلسطيني المقاوم والوجود الوطني اللبناني أيضاً؛ ومن المؤسف أن أبناء الصف الوطني الواحد والخندق الواحد أخذوا يتبرَّأون من أي تقصير قد حصل بطريقة الهروب من تحمُّل المسؤولية وإلقاء تبعاتها على الآخرين، واستندت القوى المُغْرِضَة في كثير من انتقاداتها المُوَجَّهة على ما كان أبناء الصف الواحد يطلقونه من اتهامات على الآخرين وهم يعملون على النفاذ بجلدهم الفئوي، وذلك في الوقت الذي كان فيه أصحاب الأغراض يعملون على إسقاط التجربة السابقة بشتى أطرافها؛ ولهذا لم يسلم أي طرف من السقوط المعنوي.
ج-مستوى المواجهـة الجبهويـة (وطنياً وقومياً): إن أية ثورة، أو انتفاضة، أو أية مرحلة منها، لا تستقيم لها الأمور إذا لم تستطع تعبئة الجماهير حولها، لتُشكِّل لها المناخ الأفضل لنجاحها واستمرارها وإمدادها واحتضانها.
وعندما حسبت المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية أن مقادير السلطة أصبحت بيدها، أخذت تمارسها بالفعل من دون أن تستطيع أن تبني مؤسسات تهتمُّ بشؤون الجماهير لأنها لا تمتلك الإمكانيات المادية. وإن المؤسسات المُشْتَرَكَة، التي أسستها قيادتهما لم تستطع أن تقف على رجليها وتحقق من الكثير المطلوب سوى القليل الذي لا يفي بالغرض والحاجة. فكيف يكون الأمر-والحال على هذا المنوال-إذا كانت مؤسسات الأحزاب مُشَتَّتَةً إذ أن كلاً من الأحزاب كان يمارس سلطته الفئوية، وكان دور هذه المؤسسات، كثيراً، ما يتعارض مع دور المؤسسات المشتركة؛ ومن هنا كانت تقع الأخطاء بحيث أن من يقع في خطأ لا يتحمل وزر مسؤوليته بشجاعة ثورية، بل يتهرَّب منه، فيُحمِّل كل طرف منها الطرف الآخر، وتتكاثر الاتهامات وتنعدم الثقة الجبهوية.
كان الحليف اللبناني يُحمِّل حليفه الفلسطيني المسؤولية والعكس بالعكس. وكانت الاجتماعات تطول في سبيل المعالجة، لكن…لم تكن المعالجة لتأخذ طريقها للتنفيذ في الوقت المناسب لأن الظرف يكون قد تجاوزها إذ تتولَّد نتوءات أخرى ومشاكل أخرى.
في ظل مثل ذلك المناخ لم يستطع التحالف الفلسطيني-الوطني اللبناني أن يحافظ على تأييد الجماهير وحماسها-كما كانا في السابق- بل أصبحنا نرى أن من جاء ليحمي الجماهير أصبح بعيداً عنها و عن همومها، لأنه كان عاجزاً -بفعل ضعف إمكانياته وحداثة تجربته في السلطة التي لم يكن مؤهَّلاً لها بالأصل-أخذت الجماهير تبتعد عن حماية الثورة الفلسطينية والالتفاف من حول الحركة الوطنية اللبنانية.
هذه المرة دخل التحريض والتعبئة المضادَّة وحمل السلاح في وجه التحالف الفلسطيني من داخل المناطق التي كانت تُحسَب عليه وهي تحت مسؤوليته المباشرة وقد عزَّزها دخول إقليمي كان يَعِدُّ نفسه مستفيداً من تلك الأجواء السلبية التي أخذت تحيط بذلك التحالف. و في اللحظة التي ابتدأ فيها العدوان، في 6/6/1982م، كانت الجماهير في وضع نفسي سلبي معادٍ للثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية.
إن الفهم الخاطئ لدور رجل حرب العصابات (الكفاح الشعبي المسلَّح) من قبل التحالف الفلسطيني-اللبناني، وانعكاساته عند الجماهير، التي فهمت، أيضاً، دوره وإمكانياته بشكل خاطئ. إن غياب الرؤية الصحيحة عند كل أطراف المعادلة، والتي تتمثَّل في أنها لم تكن تتوقَّع أن تعيش تحت سلطة الاحتلال الصهيوني، بالإضافة إلى الجفاء النفسي عند المؤيدين وحالة العداء عند المناهضين، أدَّت إلى انعدام الثقة بين المقاتل والمناخ الجماهيري.
تضافرت كل تلك العوامل لتُسَبِّب صدمة وشعوراً بالإحباط عند الجماهير الشعبية المؤيدة، وشماتة عند الجماهير المعادية.

4) المقاومـة في أثناء الاحتـلال.
أ-طبيـعة عمل المقاومــة:
لم يستقم الوضع الهادئ طويلاً للاحتلال الصهيوني، لأن كبوة الحالة الثورية لم تدم طويلاً؛ فاستُنْهِضَت بفعل العوامل التي نردُّ أسباب نهوضها إلى نضج عاملين: نضج الحالة الثورية في الأراضي اللبنانية المُحْتَلَّة، التي أفرزتها المقدِّمات التاريخية لنشأة المقاومة الوطنية اللبنانية أولاً؛ وإلى وجود السلاح-بشكلٍ أو بآخر- وتوفُّر العناصر المقاتلة لممارسة حرب العصابات ضد قوات الاحتلال ثانياً.
ولما كان العاملان متوفرين ابتدأت ساعة الصفر لانطلاق العمليات المسلَّحة ضد العدو، وأخذت خطاً تصعيدياً متواصلاً على الصعيدين الكمِّي والنوعي، وغطَّت معظم الأراضي المُحْتَلَّة في الجبل والجنوب والبقاع الغربي وراشيا.
إن ما كانت تتميَّز به جماهير تلك المناطق من حس وطني عفوي، قد اعادها إلى عفويتها الوطنية بمجرَّد أن لاح في الأفق مقاوم يطارد صهيونياً؛ وأدَّى بها تصاعد العمليات العسكرية الفدائية إلى اجتياز مرحلة الصدمة للانتقال إلى مرحلة المواجهة، التي أخذت تتصاعد، كما وعلى ازدياد حِدَّة الرفض الشعبي الذي ترجمته الجماهير بالانتفاضات الشعبية المتلاحقة.
إن عامِلَي الكفاح المسلَّح والانتفاضات الجماهيرية شكَّلا الوجه الإيجابي للمقاومة التي تفجَّرَت في وجه العدو الصهيوني. و تمَّ ذلك على الرغم من أنه لجأ-منذ اللحظة الأولى لاحتلاله الأرض اللبنانية- إلى اعتقال الألوف من الفلسطينيين و الوطنيين اللبنانيين الذي قام بتجميعهم في مُعْتَقَل أنصار في الجنوب اللبناني المُحْتَل.
في الوقت الذي كان العدو يحسب أن تجميع الشبَّان في مُعْتَقَل أنصار يساعده على إحباط عمل المقاومة، لعب المُعْتَقَل دوراً مهماً في التحريض ضد الاحتلال في أكثر من جانب؛ وكان من أهمها أنه أكسب الشباب مناعة ثورية، فكان ما أن يترك أحدهم المعتقل حتى ينخرط في شتى أشكال المقاومة ضد القوات الصهيونية.
وإننا نقتصر-في بحثنا هذا-عن طبيعة المقاومة الوطنية اللبنانية في أثناء الاحتلال، على هذا الإيجاز الشديد، ليس إلا لأنه قد صدر عنها العديد من الأعمال التوثيقية التي يمكن القارئ من العودة إليها في مصادرها. لكن…أين تقع مرحلة المقاومة الوطنية اللبنانية في سياق تاريخ الصراع مع الصهيونية؟
جاءت تلك الظاهرة في أسلوب المواجهة لكي تُصَحِّح خطأً فنيَّاً وقعت فيه كل الأطراف الفلسطينية واللبنانية، وليس لتصحيح خطأٍ سياسي، كما حاولت و تحاول بعض الأطراف المحليَّة والإقليمية أن تُصَوِّرَه.
جاءت تلك الظاهرة، التي كانت نتيجة لتجارب نضالية طويلة في تاريخ الشعبين اللبناني والفلسطيني، لكي تُعيد المواجهة مع العدو الصهيوني إلى قاعدتها الصحيحة، أى أن تنقلها من ذهنية حرب المواقع إلى أسلوب الكفاح الشعبي المسَلَّح؛ و هو الأسلوب الذي اعتمدته الشعوب الثائرة في ظل اختلال موازين القوى العسكرية بينها وبين القوة التي تحتل أرضها.
إن المقاومة الوطنية اللبنانية، وإن استطاعت أن تصحِّح الخطأ الفني في أصول المواجهة في مثل الحالات التي تحكم صراع الشعب العربي مع الصهيونية في جنوب لبنان إلا أنها لم تستطع أن تتجاوز سلبيات العمل المحوري والفئوي، وفي حالات أخرى، العمل الاستعراضي.
أخذت السلبيات تنمو وتأخذ خطاً تصاعدياً بعد السادس من شباط، من العام 1984م، ويعود السبب إلى أن المناخ الأمني والسياسي، الذي كان سائداً في ظل السلطة الشرعية الناشئة بعد الاحتلال الصهيوني، و الذي كان يتَّسِم بتنكُّرِه و رفضه للمقاومة المسلَّحة- فرض على الفصائل والأحزاب العاملة في المقاومة أن تعمل في إطار السرية، وهو ما يتوافق مع طبيعتها كأحزاب سِرِيَّة؛ ولكن مع عودتها إلى استلام سلطة الأمر الواقع، بعد انتفاضة 6 شباط/ فبراير، أخذت شهوة الفئوية والمحورية والكسب السياسي السريع…تُشكِّل قوتاً يومياً للقوى المُسْيطِرة-مباشرة- على الشارع في بيروت الغربية، وهي عديدة، ومواقفها السياسية والإيديولوجية متناقضة ومتعارضة، ومصالحها متناقضة ومتصادمة. لكنه على الرغم من ذلك فقد فرضت المقاومة انسحابين صهيونيين: أحدهما من بيروت الغربية في أواخر أيلول/سبتمبر من العام 1982م؛ أما الثاني فمن الجبل إلى نهر الأوَّلي-شمالي مدينة صيدا-في أواخر شهر آب من العام 1983م.
لكنه لا بد من الإشارة إلى أن هناك أسباباً أخرى أدَّت إلى انسحاب العدو من بيروت، ومن أهمها: الضغط الدولي والعربي الذي لم يحتمل احتلال أول عاصمة عربية.
كانت النتائج الأوليَّة لعمل المقاومة مُغْرِيَةً، فدفعت بالفصائل والأحزاب إلى المزيد من التسابق على قطف ثمارها، ومن هنا كَثُرَت سوق المزايدات والاستعراضات، فأخذت البيانات والندوات والمؤتمرات والوفود إلى الداخل والخارج تتكاثر؛ وهكذا حال النصر دائماً إذ هو يصبح كثير الآباء و الأمهات والأخوات…وهو على العكس من حال الهزيمة اليتيمة التي لن تجد من يتعرَّف عليها حتى آبائها، فتظل لقيطة لا يتجرأ أبواها من التعرُّف عليها. وإن التنكر الذي حصل في بداية الاحتلال لهو أوضح من دليل.
إن الواقع الذي عاشته المقاومة الوطنية اللبنانية يستدعي منا الوقوف، لتفسيره، وقفة نقدية؛ وهو الذي بدأ يتجاوز إيجابيات بدايته في 6/6/1982م حتى السادس من شباط/فبراير من العام 1984م.

ب-سـلبيــات المرحلــة:
إن روحية المشارَكَة في تلك التجربة، والحرص على استمرارها بشكل سليم، هما دافعان لنا، ومقياس للمنهج الذي سنسلكه في التقييم. فكيف، إذاً، ننظر إلى واقعها الراهن؟ وما هي الثغرات التي حصلت في أثناء ممارسة العمل المقاوم؟
لن نخوض الآن في الشكوك وعلامات الاستفهام، التي رافقت مواقف وتصرُّفات بعض قيادات الأطراف الطائفية في داخل الأراضي المحتلَّة، لأننا يجب أن نتركها إلى الوقت الذي تنضج فيه معطيات عناصر الاتهام، ولأن الخوض فيها، وفي هذا الظرف بالذات، يَمَسُّ-بطريق الخطأ-تضحيات أفراد ومجموعات محسوبة على هذا التيار أو ذاك.
كان عمل المقاومة، قبل السادس من شباط/فبراير، يُمَثِّل مرحلة الطهارة والتعفُّف الثوري، الذي كانت تفرضه طبيعة المناخ الأمني في المناطق اللبنانية غير المحتلة؛ وهذا ينطبق، أيضاً، على الوضع في الأراضي اللبنانية التي تسيطر عليها الدولة اللبنانية.
فبعد السادس من شباط/فبراير، وبعد أن عاد الانفلاش وغاب الحذر الأمني الداخلي، أخذت الثغرات تطفو على السطح. إنقادت شتى الأطراف المشاركة في العمل المقاوم، أو المباركة له، إلى التسابق في سبيل الاستئثار بالنتائج المهمة التي حققتها المقاومة. وهنا بدأ يظهر التأثير السلبي لغياب العمل الجبهوي من خلال بروز الثغرات في عمل المقاومة، وهي الثغرات التي لم تكن واضحة في أثناء مراحل الاحتلال الأولى. ومن هنا سنركِّز على مسألتي الاستئثار الفئوي، وغياب العمل الجبهوي.
الأولـى: الاستئثـار الفئـوي: كانت المقاومة تستند إلى جهد كل العناصر، الذين تعمَّق فيهم الحس الوطني السليم في داخل أحزابهم أو فصائلهم، ومن الذين تمرَّسوا في حمل السلاح، واستطاعوا المحافظة عليه تحت سلطة الاحتلال. كان هؤلاء من كل الأحزاب ومن كل الفصائل، وبعضهم من الجيل الذي لم يرتبط بهذا الفصيل أو بذاك، أو مع هذا الحزب أو مع ذاك، فكان الدافع لهم أنهم بدأوا يعانون من الإذلال وامتهان الكرامة على أيدي سلطات الاحتلال ومن عجرفة وفوقية وعنصرية الجنود الصهاينة ومخابراتهم وعملائهم من اللبنانيين.
كانت المقاومة جهداً لبنانياً-فلسطينياً، وإن لم تعلن المقاومة الفلسطينية عن جهدها في المقاومة فلأسباب تعود إليها. لكن هذا لا يُجيز لأحد أن يتجاهل جهود وتضحيات أبناء الشعب الفلسطيني في مقاومته العدو؛ بل يجب التأكيد عليها-في هذا الظرف بالذات- لأن أصحاب النوايا الخبيثة، الذين يعملون على تصفية القضية الفلسطينية-محلياً وإقليمياً-يهمهم تشويه الدور الفلسطيني قبل العام 1982م، كما يهمهم تجاهل دور الشعب الفلسطيني في مقاومة العدو بعد العام 1982م أيضاً.
إن مشاركة جميع الأطراف في مقاومة العدو، والتزامهم، من دون اتفاق مُسْبَق باسم مُوَحَّد، بالإعلان عن عملياتهم باسم(جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية)، لم يمنع تلك الأطراف من الانزلاق في ممارسة الكسب الفئوي، الذي وصل إلى حدٍ مُبْتَذَل-كما فعل الحزب الشيوعي بادِّعائه أن 90 % من العمليات التي تحصل هي من جهود الشيوعيين اللبنانيين، كي يدفع إلى ادِّعاءٍ آخر لناطقٍ باسم ما يُسمَّى (بالمقاومة الإسلامية) بأن كل العمليات هي من جهودها؛ ولكي يُصرِّح مسؤول فلسطيني -فيما بعد- أن 90 % من تلك العمليات هي للثورة الفلسطينية.
لقد وصلت أسوأ المراحل إلى الحد الذي أعلن فيه ناطقون باسم ثلاثة من التنظيمات اللبنانية عن مسؤولية حزبه عن عملية (الويمبي Wimpy في بيروت الغربية)، وهي العملية التي حصلت في بيروت الغربية في خلال الفترة القصيرة التي دخلت فيه قوات العدو إلى العاصمة. وإنه للإشارة لم تكن تلك هي حادثة السطو الوحيدة التي مارستها الأحزاب اللبنانية، إذ أنه حصل مثلها العشرات، التي كانت فيها بعض التنظيمات تعلن عن عمليات وتنسبها إلى نفسها مُسْتَغِلَّة عدم إعلان الأطراف التي قامت بها ولم تعلن عنها في حينه.
وقد تُوِّج هذا التسابق في عمليات السطو الفئوي بمحاولات تزوير واضحة من قِبَلِ الجماعات المذهبية المٌرْتَبِطة بإيران، وحصل ذلك عندما ادَّعت بإعلان مسؤوليتها الكاملة عن كل عمل مقاوم ضد العدو؛ وادَّعت أن هوية المقاومة هي هوية إسلامية وليست هوية وطنية.
ولم تقف الأمور عند ذلك الحد، بل منذ السادس من شباط/فبراير من العام 1984م، وبعد السيطرة الفئوية على بيروت الغربية، وعلى كل وسائل الإعلام الرسمي: من تلفزيون وإذاعة، وصحف من قِبَلِ حركة أمل لجأت إلى تتويج نفسها "قائدة ورائدة للمقاومة الوطنية اللبنانية"؛ لكن ذلك التتويج كان بدون مضمون فعلي على الرغم من أن أكثر من طرف إقليمي ودولي ساعدها على ادِّعاء لمراهنات خاصة، كانت تريد تلك الأطراف منها أن تستثمرها في مُخَططات مستقبلية.
إنه في الوقت الذي كان يتِمُّ فيه تصفية المقاومة الفلسطينية، ابتدأت فصول مؤامرة مماثلة لإطفاء جذوة المقاومة الوطنية اللبنانية-بقرار من النظام السوري- إذ أن على الرغم من الخطابات التعبوية التي كان يطلقها أركان النظام، والمقالات اليومية التي تُدَبِّجها صحفه اليومية، والتعليقات النارية التي تذيعها وسائل إعلامه، كان يعمل في الجانب الآخر على تدجين المقاومة واحتوائها في الإطار الذي يخدم استراتيجيته، وذلك للإمساك بمعظم الأوراق الضاغطة على العدو لكي يوظِّفها في خدمة أهدافه، فيحرِّكها متى يشاء وفق ما تقتضيه ظروف حواره مع العدو. وهو-في سبيل تلك الغاية-وفي الوقت الذي أصبح فيه يمتلك أكثر الأوراق، عمل-وبواسطة حركة أمل-على سرقة الانتصارات الوطنية للمقاومة الوطنية اللبنانية، وإبرازها قائداً للمقاومة.
إن ذلك، وبما فيه من تزوير، فيه-أيضاً- الكثير من تقزيم تضحيات المقاومة التي تدفع الدم والشهداء، كما كان يحصل كل ذلك في الوقت الذي تحتاج فيه المقاومة إلى جهود كل الوطنيين على الساحة اللبنانية والقومية.
الثانيـة: غياب صيغـة العمل الجبهوي: لم يكن يقود المقاومة أية صيغة جبهوية، ولو في حدودها الدنيا، وهو الشرط الضروري لضمان استمرارها والدفع بها بوتيرة تصاعدية، ليس على صعيد إيقاع الخسائر في صفوف العدو وفرض الانكفاء عليه سياسياً وعسكرياً فحسب، وإنما لكي يصبح العمل الجبهوي إطاراً وطنياً توحيدياً أيضاً.
وإن كانت المقاومة قد تجاوزت الخطأ الفني للمرحلة السابقة، فإنها قد وقعت أسيرة الشرذمة والفئوية، وهي نتيجة منطقية لتشرذم المواقف السياسية و الجبهوية لأطراف الحركة الوطنية اللبنانية بشكل خاص؛ وكان ثمن تلك الشرذمة طغيان الحدود الطائفية للميليشيات كي تصبح بديلاً للعمل الجبهوي الوطني.
إستناداً إلى ذلك، فإن حركة المقاومة اللبنانية عندما عجزت عن بلوغ الحدود الدنيا من العمل الجبهوي، عرفت كيف بدأت و لكنها لن تعرف إلى أين سوف تنتهي؛ وقد يصبح النصر الذي حققته على العدو الصهيوني في غير صالح القضية الوطنية؛ وهذا ما أخذت بوادره تظهر في أن أعلام النصر قد سُرِقت، حتى الآن، من الأيدي التي صنعته، وسُلِّمت إلى الأيدي التي قد تستغلُّها لمصالح فئوية ومذهبية، وتستخدمها ستاراً تغطِّي به جريمة قد ترتكبها، وهي قد باشرت فيها بالفعل، وبدت ظواهرها بارزة في حرب المخيمات الفلسطينية، وفي قمع وملاحقة ومنع عودة الوطنيين، الذين شاركوا في صنع النصر، إلى قراهم وأهلهم.
إن النتائج المُرتَقَبَة-فيما لو استمرَّ غياب العمل الجبهوي، ولو استمرَّ غياب الهدف المنشود للتضحيات التي تُبْذَلُ ضد العدو، قد تؤدِّي إلى تفتيت الساحة اللبنانية بشكل عام بدل توحيدها، وإلى هيمنة اللون المذهبي الفئوي بدلاً من المشروع الوطني كقاعدة أساسية للتحرير.
وحتى لا يكون ما نسجِّلُه شهادة للتاريخ فقط، فإن الحركة الوطنية اللبنانية-التي قدَّمت منذ عشرات السنين التضحيات والشهادة في سبيل القضية الوطنية، أو في سبيل القضايا القومية- هي المسؤولة بالدرجة الأولى عن ضياع تلك التضحيات عندما ارتضت أن ترهن قرارها إلى قوى إقليمية أو محلية، وارتضت أن تُقدِّم تضحياتها ودماء شهدائها لخدمة مصالح إقليمية، أو إلى فئوية محلية؛ لأن التنازل عن قرارها كان يستند فقط إلى الروح الانهزامية والانتهازية لقيادات تلك الأحزاب.
ولا بد من الإشارة إلى أنه في مرحلة ما قبل الانسحاب أصبحت المقاومة مقاومات؛ ونذكر على سبيل المثال لا الحصر: المقاومة الوطنية اللبنانية -المقاومة الإسلامية-المقاومة المؤمنة. وليس لكل منها أب واحد، و اتجاه فكري وسياسي واحد، بل إن التفتيت الذي لحق بها ككل، لحق به أيضاً مزيد من التفتيت حتى في داخل التيارات التي ذكرنا. وإننا اقتصرنا في بحثنا على الثغرات في هذا الجوانب، على أن نتناول العمل الجبهوي للمقاومة في موضوع متكامل في حينه من هذه الدراسة.


II- مرحلـة ما بعـد الانسحـاب (منذ 16/2/1985 حتى العام 1987).
إنسحب العدو، في هذه الرحلة، من بعض الأراضي المحتلَّة في الجنوب والبقاع الغربي، وقد أسَّس في ما تبقَّى من أراضٍ ما أصبح يُسمَّى بالحزام الأمني، والذي يمتدُّ:
-شـمالاً: على الخط الذي يبدأ من كفرفالوس، شرقي مدينة صيدا، حتى جزين مروراً بالدلافة، من البقاع الغربي، وينتهي في شمال حاصبيا وشبعا من منطقة العرقوب.
-غربـاً: من جزين مروراً بتلَّة سجد (في إقليم التفاح)، و تلال العيشية، وتلة علي الطاهر (شرقي مدينة النبطية)، قلعة شقيف أرنون، القنطرة، برعشيت، بيت ياحون (في قضاء بنت جبيل) حتى البياضة (جنوب مدينة صور ومخيم الرشيدية) على شاطئ البحر.

1) الوضـع في داخل الشريط الأمنـي:
إحتفظ العدو بهذا الشريط تحت ذريعة الدفاع عن أمن مستعمراته في الجليل الأعلى المحتل؛ وهو يستخدم فيه عدة قوى للإشراف على وضعه الداخلي:
أ-جيشه النظامي وحرس حدوده، وهي تتمركز في أماكن استراتيجية، وتُسْتَخْدَمُ لتدخُّل عند الحاجة. وليس لها اختلاط بين القوى الأخرى أو مع السكان المدنيين.
ب-أجهزة مخابراتـه: وهي بالإضافة إلى مهماتها التقليدية مُكَلَّفَة بالعلاقة مع السكان المدنيين.
ج-جيش لبنان الجنوبي: وهو بقيادة أنطوان لحد، اللواء المتقاعد في الجيش اللبناني. وتعداده يتراوح بين 1500 و2000 جندياً نظامياً؛ بعضهم من تجمُّعات الجيش اللبناني ون أبناء قرى الشريط الحدودي (القليعة، و جديدة مرجعيون، رميش، دبل، عين إبل…)، وبعض جنود الجيش اللبناني من أبناء القرى الجنوبية الأخرى.
د-بعض القوات غير النظامية من المدنيين الذين يتولُّون الحراسات الليلية في داخل قراهم.
هـ-عملاء العدو المحليين من بعض اللبنانيين من أصول "قبضايات القرى"، ومن المستفيدين من بناء مراكز قوى لهم في ظل وجود جيش العدو.
و-بعض الوحدات من "القوات اللبنانية" من أبناء المناطق المُحْتَلَّة، أو من بعض المُهَجَّرين من قرى شرقي مدينة صيدا.
يُعَدُّ ما يُسمَّى بالحزام الأمني أفضل وضع جغرافي استطاعت قيادة جيش العدو أن تبنيه للخروج من المستنقع اللبناني، إذ أنها استطاعت أن تُنفِّذ ترتيبات عسكرية تضمن لها تخيف نسبة المخاطر ضد جنودها، ومن أهم ميِّزاتها:
-تقليص رقعة الاحتلال: شمل المساحة الجغرافية، كذلك خرج من بين تجمعات بشرية كبيرة، كانت تساعد على تنامي قوة المقاومة بإنزال خسائر بشرية ومادية في أفراده. وكان من نتائج التقليص أن استطاع أن يقلِّص من عدد جنوده، مما يعني توفيراً بالنفقات المادية، ووفراً بالخسائر البشرية.
-إعادة الهدوء السياسي للمجتمع الصهيوني في فلسطين المحتلة، الذي كان قد انقسم حول من يرى ضرورة بقاء الاحتلال ورافض له.
-مشاغلة المقاومة الوطنية اللبنانية بعمليات القشرة، التي لاتستنفد من إمكانياته أكثر من صرف الذخائر، وبالتالي السيطرة بيد من حديد على الوضع الشعبي في داخل القرى في المناطق المحتلة لمنع قيام عمليات عسكرية ضد قواته وعملائه في داخل تلك المناطق. لهذا قام بتعزيز إمكانيات أجهزة مخابراته، وتعزيز وضع عملائه في الداخل من جهة، وعبر عمليات التمشيط التي تقوم بها قواته للقرى التي تنطلق منها العمليات العسكرية ضده من جهة أخرى، وذلك لاستنزاف الطاقات الشعبية في تلك القرى، وجعلها تعيش هواجس الخوف والرعب بشكل دائم.

2) الوضع في المنطقة الجنوبية التي انسحب العدو منها:
نستطيع من الناحيتين الأمنية والسياسية أن نقسِّمها إلى منطقتين:
الأولـى: مدينة صيدا،وفيها أحزاب وقوى لبنانية وفلسطينية متعدِّدة الاتجاهات السياسية؛ ولكنها ذات مواقف تتناقض نسبياً مع التيارات المذهبية. و هناك اعتراف من شتى القوى، نسبياً، بقيادة مصطفى سعد-أمين عام التنظيم الشعبي الناصري- وكانت تلك التنظيمات والأحزاب تقف موقفاً إيجابياً ومُتَّزِناً من الفلسطينيين.
الثانيـة: منطقة جنوبي صيدا: وتضم أقضية الزهراني والنبطية وصور، وتسيطر فيها حركة أمل على الوضعين الأمني والسياسي مع الإشارة إلى وجود تيارات في داخلها.
بعد الانسحاب الصهيوني مباشرة، وقبل أن يستقِرَّ الوضع السياسي، تميَّزت الحركة السياسية والأمنية و العسكرية، في منطقة الجنوب بشكل عام، بعوامل الشدِّ و الجذب بين مختلف القوى الموجودة على الأرض في تسابق محموم وملحوظ للإمساك بالقرار السياسي والأمني والعسكري؛ وكان ذلك التسابق يحصل في سبيل استغلال نجاحات المقاومة الوطنية اللبنانية، ومن أهمها فرض الانكفاء على العدو من مساحات من الأرض المحتلة. و لهذا فقد شهدت ساحة الجنوب، بشكل خاص، و الساحة اللبنانية، بشكل عام، حملات إعلامية محمومة وتسابقاً لا نظير له وصل إلى درجة الغرق في متاهات الفئوية، وإلى الحد الذي كان فيه كل طرف يحاول أن ينفي كليَّاً أدوار الأطراف الأخرى في مقاومة العدو الصهيوني.
بالإضافة إلى ذلك، وفي الوقت الذي كانت فيه بشائر الأمل تسير نحو بناء تجربة وطنية على أرض الجنوب، كانت حقوق الطوائف، التي كان النظام السوري يشجِّع بروزها، تشكِّل المساعد الأكبر لأمراء التنظيمات في رسم حدود مناطق هيمنتهم، مُسْتَظِلِّين بالنجاحات التي حققتها المقاومة اللبنانية.
فكيف كان الوضع السياسي والعسكري في الجنوب في تلك المرحلة؟

أ-على الصعيـد السـياسي:
حدَّد المُخطَّط الذي وضعه النظام السوري، أدوار حلفائه في لبنان بشكل عام، ولحظ فيه أمر إدارة شؤون الجميع لحركة أمل. ولهذا أعطاها تفويضاً مُطلَقاً بإدارة شؤون منطقة الجنوب.
كان التوكيل السوري لا بد من أن يصطدم بمصالح وطموحات الأطراف الحزبية و القوى الوطنية الأخرى. ولم تُسْتَثْنَ من ذلك مصالح حلفاء النظام السوري اللبنانيين والفلسطينيين على حد سواء.
كان تعارض المصالح أو تضادها بين حركة أمل وحلفاء النظام السوري تُحسم دائماً لصالح الحركة، وهناك العديد من الوقائع التي تدل بوضوح على صحة الاستنتاج:
-استطاعت( حركة أمل) أن تفرض هيمنتها على أقضية الزهراني والنبطية و صور، بحيث كانت تمارس دوراً ضاغطاً لمنع حرية العمل السياسي والعسكري و التنظيمي والشعبي عن حلفاء النظام السوري، مثل: الحزب الشيوعي، الحزب السوري القومي الاجتماعي، وطال المنع، أيضاً، منظمة حزب البعث التابعة للنظام السوري. و قد وصلت الأمور إلى حدود الاعتقالات الجماعية للشيوعيين وإلى ممارسة التعذيب الجسدي عليهم، وقد حدث بعض من تلك الممارسات في العام 1986م في منطقتي النبطية وصور، واستُكْمِلَت بحملة اغتيالات وطرد بالجملة.
-وصل التنافس بين التنظيمات التي تدَّعي تمثيل الطائفة الشيعية إلى ذروته في الفصل الأخير من العام 1985 بين حركة أمل وحزب الله. ولم تخف حدة التنافس، الذي وصل إلى حدود تبادل الاتهامات القاسية بينهما في شتى وسائل الإعلام، إلى أن لعبت السفارة الإيرانية في بيروت والنظام السوري دوراً في تخفيف حدَّته؛ وبالضغط عليهما للتنسيق بينهما في بعض المناطق وفي بعض المجالات، مما أدَّى إلى خفضٍ مؤقتٍ لحالة الاحتقان التي كانت تصل إلى حدود الصدامات العسكرية بينهما فيسقط من جرَّائها عشرات القتلى.
-إستطاعت حركة أمل أن تُمارِسَ دوراً قمعياً على المخيمات الفلسطينية في منطقة صور، وقد وصل إلى حدود التصفيات الجسدية لبعض الفلسطينيين. أما الاعتقالات والملاحقات فلم تنقطع، بل كانت الحملات تتصاعد إلى درجة أن مخيم الرشيدية في منطقة صور قد أُخْضِعَ إلى حصار دام أربعة أشهر، وشملت إجراءات الحصار منع دخول الأغذية والأدوية إليه في أواخر العام 1986م، و امتدَّ إلى أوائل العام 1987م. و مُورِسَت محاولات الضغط على مخيمات صيدا في الفترة نفسها.
-إن ما استطاعت أن تحققه حركة أمل في مناطق تواجد ثقلها المذهبي، لم تستطع أن تحققه في مدينة صيدا وجوارها مع أنها حاولت أن تفعله. أما من أهم الأسباب التي ساعدت على إفشال نوايا حركة أمل في السيطرة على منطقة صيدا، و على الرغم من مساعدة النظام السوري بواسطة أجهزة مخابراته، وعلى الرغم من وجود حلفائه الفلسطينيين واللبنانيين، فإن حدود المصالح بين حلفائه قد تعارضت وتضاربت إلى حدود التناقض، فوصل الصراع إلى الحدود التي عمل فيها كل طرف على إلغاء الطرف الآخر. وهذا ما استطاعت حركة أمل أن تحققه في المناطق التي تقع جنوب منطقة صيدا، وكذلك في بيروت على الصعيدين اللبناني (الهيمنة المطلقة سياسياً وعسكرياً)، وعلى الصعيد الفلسطيني (حصار مخيمات صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة)، بينما لم تستطع على فعل ذلك في صيدا لأن اتجاهات الحركة المذهبية قد وضعت بينها وبين حلفائها من الحركة الوطنية اللبنانية ثقة مهتَزَّة. لكن الذي كان يحول دون أن تقوم الأطراف الوطنية بردة فعل ضد الحركة كان وجود الضغط السوري عليهم. و كان أبرز ما فعله النظام في سبيل ترسيخ هذا الواقع هو ما حصل في المعارك الطاحنة، في 16/2/1987م، التي جرت في بيروت الغربية بين الحزب التقدمي الاشتراكي بمساعدة الحزب الشيوعي و حركة أمل، فكانت نتيجتها التدخل السوري الكبير الذي رجَّح كفة الحركة وأعاد لها هيبتها التي كادت أن تفقدها.
وبفعل الضرر الذي لحق بحلفاء دمشق وخصومها أيضاً من قِبَلِ حركة أمل، انعكس ردة فعلٍ نتج عنها تجمُّع سياسي في منطقة صيدا عمل على أن يحتفظ بالمدينة كمُتَنَفَّسٍ أمني وسياسي لهم؛ ولهذا سلَّموا للتنظيم الشعبي الناصري إدارة الشؤون الأمنية والعسكرية للمدينة.
وبالنظر لوضع الذي استقرت عليه المناطق، التي انكفأ عنها العدو الصهيوني؛ وبفعل تراجع الآمال الكبيرة، التي كان الوطنيون المخلصون يريدون منها صياغة تجربة وطنية جديدة على أرض الجنوب لتكون نواة حل وطني وحدوي ديموقراطي للبنان، فإذا بالاتجاهات التفتيتية/المذهبية والفئوية، هي التي انتقلت إلى أرض الجنوب، لتُدْخِلَه في دوامة الصراعات الفئوية والمذهبية والسياسية، ولتنشر أمراضها على ساحة جنوب لبنان. وكان يتم كل ذلك على الرغم من أن انكفاء العدو عن جزء من الجنوب قد حصل نتيجة نضالات رائعة قدَّمتها المقاومة الوطنية اللبنانية بجميع فصائلها وقدَّمت فيها التضحيات والشهداء.

ب-على الصعـيد العـسكري:
إن لون الهيمنة السياسية، وما أفرزت من وضع أمني وعسكري في جنوب لبنان، بالإضافة إلى الانتشار العسكري لجيش العدو في الحزام الأمني الجديد، خلقت ظروفاً جديدة في وجه عمل المقاومة الوطنية، وأثَّرت بشكل سلبي على نشاطها وفعاليتها.
ولذلك نرى شمالاً، على خطوط التماس الجديدة، أن طبيعة الأرض تتميَّز بحواجز جغرافية تؤثِّر سلباً على عمليات المقاومة، وتقلِّل من فعاليتها كماً ونوعاً. أما الخط الممتد من برعشيت حتى البياضة فيسهل اختراقه؛ وهذا ما يُفَسِّر تركيز العمليات الفدائية عبره، على الرغم من الترتيبات الأمنية المُشَدَّدة التي فرضتها حركة أمل حول تلك المنطقة.
إصطدمت توجُّهات حركة أمل بطموحات حلفائها، الذين هم حلفاء النظام السوري (بعض أحزاب الحركة الوطنية وحزب الله) بالأهداف الاستراتيجية للفصائل الوطنية و القومية في داخل صفوف المقاومة الوطنية اللبنانية. فترجمت حركة أمل إجراءاتها على أرض الواقع ملاحقات و اعتقالات ومصادرة أسلحة المجموعات على حواجزها أو بواسطة دورياتها الجوَّالة على خطوط التماس.
وفي تلك الحالة لم تستطع حركة أمل أن تمنع العمليات العسكرية، ولا استطاعت القوى الأخرى أن تحقق قفزات نوعية على صعيد ضمان استمرار أعمال المقاومة وتطويرها. وعلى الرغم من كثافة العمليات إلا أن جدِّيَة تأثيرها قد تراجعت، لأنها أصبحت لا تتعدَّى الإزعاج، باستثناء بعض العمليات القليلة التي استطاعت أن تنفِّذها بعض الفصائل في داخل الحزام الأمني؛ وقد كانت ردَّات فعل العدو عليها-في معظم الأحيان-بمنتهى القسوة بحيث أنها كانت تنصبُّ على القرى الآهلة بالسكان.
تميَّزت المرحلة التي نتكلَّم عنها بتراجع تأثير أعمال المقاومة وكأنها العدُّ العكسي على طريق احتوائها وتحجيمها، فهي أخذت تعاني من عراقيل جدِّيَة و أمراض جديدة، بالإضافة إلى الثغرات السابقة التي لم تتغَيَّر. فالمقاومة لم تستطع، إذاً، أن تحقق قفزة نوعية على طريق عمل جبهوي جدِّي. وما أصابها، فعلاً، هو المزيد من التفتيت، الذي أخذ يتعمَّق أكثر فأكثر من خلال التسابق الإعلامي والاستئثار الفئوي.
وأما الاستئثار الفئوي، والهيمنة الفئوية، فقد مارستهما حركة أمل؛ وعملت على تمييز نفسها عندما غيَّرت الإسم وأطلقت على نفسها اسماً جديداً هو (المقاومة الوطنية اللبنانية المؤمنة)؛ فكانت تسطو على أية عملية ينفِّذها أي طرف، فكيف لا وهي صاحبة القرار السياسي والأمني، وهي، أيضاً، صاحبة القرار الإعلامي؛ وهي التي تستطيع أن تُبَلِّغ وسائل الإعلام بأية عملية تُنَفَّذ، وتفعل ذلك بسرعة أكبر من الطرف المُنَفِّذ بحكم امتلاكها لوسائط الاتصال اللاسلكية، وبحكم مراقبتها الأمنية لخطوط التماس.
يضاف إلى كل ذلك أن حزب الله، كفصيل دخل دائرة المقاومة من البوابة المذهبية، أخذ يعمل على إبراز دوره على قاعدة إلغاء دور الآخرين؛ وأصبحت (المقاومة الإسلامية)، وهو الإسم الذي أطلقه على نفسه، وكأنها البديل الوحيد في العمل المقاوم. وأخذ يعمل على توظيف دوره في المقاومة لصالح شعاره ودعوته لبناء الدولة الإسلامية في لبنان.

3) الوضـع السياسي العام على الساحة اللبنانيـة:
أفرز الاحتلال الصهيوني عدة نتائج سياسية وأمنية وعسكرية في الوضع اللبناني، وأعاد رسم خريطة سياسية جديدة بعد عدوان 6/6/1982م. وحقق النتائج التالية:
أ-إبعاد الجيش السوري عن بيروت والجبل إلى حدود مدينة صوفر. وحصره في البقاع والمناطق الجبلية المحيطة به. فأضعف بذلك التأثير السياسي السوري في لبنان.
ب-إبعاد المقاومة الفلسطينية عن بيروت، واستكمل النظام السوري إبعادها عن البقاع وطرابلس. وأحدث انشقاقاً في داخل حركة فتح كبرى المنظمات الفلسطينية.
ج-إيصال بشير الجميِّل، قائد القوات اللبنانية اليمينية، إلى رئاسة الجمهورية اللبنانية. وبعد اغتياله انتُخِب شقيقه أمين الجميِّل.
د-عقد اتفاق 17 أيار/مايو، من العام 1983م، مع الدولة اللبنانية؛ لكنه أُفْشِل لأكثر من سبب، ومن أهمها: عامل المقاومة الوطنية اللبنانية.
هـ-هيمنة «القوات اللبنانية» على منطقة الشوف الدرزية، أحدث استفزازاً لمشاعر سكان المنطقة.
أما النتائج التي حصلت في مرحلة ما قبل الانسحاب، وفيما له علاقة بالمتغيرات التي أحدثها الاحتلال، فكانت كما يلي:
عمل النظام السوري على استعادة الأوراق التي فقدها على الساحة اللبنانية، مُسْتَغِلاً حالة الرفض الشعبية للاحتلال الصهيوني من جانب، والأخطاء الفادحة التي وقعت فيها "القوات اللبنانية" من جرَّاء تعاونها مع العدو؛ ومن تصرُّف رئيس الجمهورية مع خصومه السياسيين على أساس الغالب والمغلوب، وعدم تحقيق الإصلاح السياسي المتوازن.
مُتَسلِّلاً من تلك الثغرات، استطاع النظام السوري أن يجمع المتضرِّرين في ما سُمِّيَ «جبهة الخلاص»؛ واستطاع، بواسطتها، أن يفرض متغيِّرين في السياسة والجغرافيا.
المتغيِّر الأول: وهو ما حصل بعد الانسحاب الصهيوني الأول من منطقة جبل لبنان/الشوف في 31/8/1983م، فاشتعلت فيه حرب أهلية بين "القوات اللبنانية" وجبهة الخلاص، فكان من نتائجها أن سيطر الحزب التقدمي الاشتراكي على معظم مناطق الجبل، باستثناء قسم كبير من إقليم الخرُّوب، لكنه سيطر عليه-فيما بعد- في أعقاب الانسحاب الصهيوني الثاني الذي حصل في النصف الأول من العام 1985م، من الجنوب.
أما المتغيِّر الثانـي: فحدث بعد السادس من شباط/فبراير من العام 1984م، إذ سقطت السلطة في بيروت الغربية والضاحية الجنوبية، وكان من نتائجها فرض هيمنة حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي عليهما. أما فصائل الحركة الوطنية اللبنانية فلم يُعْتَرَف لها بأي دور أساسي فيهما.
إستعاد النظام السوري، مستفيداً من تلك النتائج، بعض الأوراق التي فقدها، وعاد بشكل غير مباشر إلى منطقة الجبل وبيروت الغربية وضاحيتها الجنوبية، وقد شكَّل بذلك ضغطاً ذا تأثير ملموس على السلطة اللبنانية الشرعية، وفرض عليها أن تعقد مؤتَمَرَين في جنيف ولوزان في أواخر العام 1983م، والنصف الأول من العام 184م، وقد كان الطرف الآخر في المفاوضات كل من حركة أمل و الحزب التقدمي الاشتراكي. وكان من نتائج المؤْتَمَرَين تشكيل ما سُمِّيَ بحكومة الوحدة الوطنية، و التي تمثَّل فيها رؤوساء الميليشيات من أنصار السلطة الشرعية ومن حلفاء النظام السوري.
لكنه نتيجة للتناقضات الحادَّة بين مصالح الفريقين، تعثَّر عمل حكومة الوحدة الوطنية وتشرذمت إلى حكومات ومتصرفيات بعد انسحاب العدو الأول والثاني. وكان من أهم الأسباب التي أدَّت إلى تعثُّر عمل الحكومة المذكورة هو ما كانت تمثِّله من اتجاهات طائفية-سياسية.
وضع النظام السوري التيار الوطني في الزاوية ليبني تياراً طائفياً ميليشوياً إسلامياً في وجه تيار ميليشيوي مسيحي؛ وكان هذا الواقع يحمل في ذاته عوال التفتيت الرئيسة، لأن مصالح الطوائف تحمل عوامل الصدام والتناحر أكثر مما تحمل عوامل التوحيد. ولهذا السبب، وبعد أن وصل أفرقاء التيار الإسلامي إلى بناء كيان وسلطة-سُمِّيَت بسلطة الأمر الواقع-أخذت عوامل التناحر بالظهور فيما بينها على شكل صدامات مُسَلَّحة ذات نتائج دموية في بيروت الغربية، وكثيرة هي تلك الصدامات إذ يمكن حصرها بالعودة إلى أي ملفٍّ لأحداث تلك المرحلة.
استتبَّ الأمر للنظام السوري، بعد أن استعاد أوراقاً سياسية وجغرافية كان قد خسرها من جرَّاء الاجتياح الصهيوني؛ و في الوقت الذي استطاع فيه أن يُمْسِك بها، راح يلاحق أهدافه الأساسية الأخرى؛ و كان من أهمها الإمساك بالورقة الفلسطينية في بيروت وجنوب لبنان وكان-في وقت سابق قد احتوى الوجود الفلسطيني في البقاع وطرابلس.
كانت منظمة التحرير الفلسطينية قد باشرت بإعادة بناء أطرها العسكرية والتنظيمية، والتي لم يستطع المخطط المرسوم-حتى تلك اللحظة-أن يحقق الإمساك بها.
وما أن انتهى الانسحاب الصهيوني الثاني من بعض مناطق الجنوب، حتى انفجرت حرب المخيمات في بيروت في 19/5/1985م، على أيدي حركة أمل، فلم تستطع إنجاز مخطط تصفية منظمة التحرير الفلسطينية على الرغم من انتقال تلك الحرب إلى مخيمات الجنوب، منذ الأول من أيلول من العام 1986م، إلى مخيم الرشيدية في صور، وفي تشرين الأول إلى مخيمات صيدا.
وما زالت تلك الحرب مُسْتَمِرَّةً، تنفجر حيناً وتخمد حيناً آخر، آخذةً في الحساب الظروف العربية والدولية المحيطة بالقضية الفلسطينية.
أما مواقف الأحزاب الأخرى، التي كانت منضويةً في إطار المجلس السياسي المركزي للحركة الوطنية اللبنانية، فأسهم بعضها سياسياً في تغطية ما تقوم به حركة أمل ممالأة للنظام السوري أو خوفاً منه، وذلك على حساب مواقفها السابقة، بحجة أنها تعترض على ما تدَّعي بأنه انحرافات سياسية تمارسها منظمة التحرير الفلسطينية. و إذا حاولنا أن نوجِزَ الوضع السياسي العام في تلك المرحلة، لتوصَّلنا إلى النتائج التالية:
أ- جزءٌ من الأرض مُحْتَلٌ؛ والكل يدَّعي القتال ضد العدو، ولكن لا يربط الكل حدٌّ أدنى من العمل الجبهوي.
ب- غياب الإجماع الوطني عن مسألة تحرير الأرض المحتَلَّة، و يحسب فريق من اللبنانيين أن تحرير الأرض من العدو مرتبط بتحرير كل الأراضي اللبنانية من أي وجود غير لبناني (إسرائيلي، وسوري، وفلسطيني، وإيراني). ويحسب فريق آخر أن معركة التحرير مرتبطة بإسقاط النظام القائم وإحداث تغيير ديموقراطي يؤدِّي لحكم وطني يحشد الطاقات من أجل التحرير، فيربط مهمة تحرير الأرض المحتلة مع ضرورة التغيير في الداخل( )؛ ويتفرَّع عنه تيار يطالب برأس الحكم القائم، وتيار يدعو إلى ضرورة قيام وحدة وطنية على قاعدة مؤتمر وطني يكون ظهيراً لمهمة التحرير، لأن جزءاً أساسياً من الصراع في الداخل هو صراع على الإصلاح السياسي. وهيهات أن تتحقق شروط كل فريق، فالكل غارق في شروط وشروط مضادَّة.
ج- في مرحلة التحرير: إن بعض من يدَّعون أنهم حرَّروا الأرض من مغتصبيها يمارس القتل والاضطهاد ضد شعب فلسطين تحت ذريعة أن قيادته مُسْتَسْلِمَة، ومن شروطه تجريد الفلسطينيين من السلاح. فبأي منطق نفهم ما يقولون؟ إنهم يريدون للشعب الفلسطيني أن يقاتل، وفي الوقت ذاته يمارسون التضييق عليه، وليس لأي سبب إلا لأن قيادته مستسلمة؛ ثم يطلبون تجريده من السلاح.
د-قتال ومعارك دموية بين من يحسبون أنفسهم من صفٍ واحد، كما حصل، ولا يزال، خاصة بين حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي.
هـ-بروز تيارات مذهبية جديدة تنادي بقيام دولة إسلامية. فعدا عن استحالة ما يذهبون إليه فإنه يُبَرِّر عمل وشعارات التيارات التي تدعو إلى قيام كيان مسيحي مستقل. فبعد أن كان تيار حركة الأحزاب الوطنية يقاوم مشروعاً دينياً طائفياً واحداً أصبح لزاماً عليهم أن يقاوموا مشروعين.
ففي الواقع كان السائد في تلك المرحلة: أرض مُغْتَصَبَة، وحرب أهلية، حرب ضد شعب طُرِدَ من أرضه، وقتال بين ما يُسمَّى حلفاء الصف الواحد، وبروز اتجاهات مذهبية وتفتيتية جديدة، وتحوُّل التيار الوطني التقدمي إلى تيار تبريري. فكيف، إذاً، كان واقع المقاومة الوطنية اللبنانية؟

4) الصعوبـات التي تواجـه عمل المقاومـة:
الصعوبـة الأولـى: تشرذمها إلى تيارات وفصائل متناحرة:
بدأت المقاومة عملها في ظل الاحتلال بسرية وصمت وفاعلية، أما بعد التحولات التي حصلت في بيروت الغربية و جبل الشوف، تخلَّت التنظيمات -باستثناء البعض ومنه حزب البعث العربي الاشتراكي-عن الإطار السرِّي لتمارس وسائل الكسب الفئوي والاستعراضي. فلهذا السبب فرَّخت المقاومة الوطنية اللبنانية التيارات المتعدِّدة، والتي نحصرها بتيارين اثنين، آخذين المنطلقات الإيديولوجية قاعدة للتصنيف. والتياران هما: المقاومة الوطنية اللبنانية والمقاومة الإسلامية.
التـيار الأول: المقاومة الوطنية اللبنانية: لا بد من الإشارة إلى أن هذه التسمية لا تستند إلى عمل جبهوي فعلي، لكننا نؤكِّد أن معظم تنظيمات وفصائل لحركة الوطنية اللبنانية سابقاً شاركت في تنشيط عملها. وعملت منطلقة من أهداف أيديولوجية وسياسية، مع العلم أن لكل تنظيم أيديولوجية خاصة به، و إذا كانت بعض التنظيمات تعتنق إيديولوجية واحدة فإنها لم ترتبط بسياسة واحدة.
إن هذين المُمَيِّزين-وبالتجربة السابقة بين أحزاب الحركة الوطنية-شكَّلا منطلقاً للتنافس التنظيمي بين أحزابها، إلا أن هذا لا يلغي أن التجربة السابقة قد أكَّدت على وجود إيجابيات في العمل المشترك، الذي تجلَّى في المشاركة في مواقع عسكرية مُشْتَرَكَة كانت في خندق المواجهة مع العدو الصهيوني، وتتواجد في محاور عسكرية خاضعة لقيادة مُشْتَرَكَة.
أما بعد الاجتياح فقد شُلَّت تلك التجربة، لأن المجلس السياسي المركزي للحركة الوطنية اللبنانية قد انفرط عِقْدُه، وخضع بعض من بقيت حركته حرَّة لهيمنة التيارات المذهبية التي ملكت القرار السياسي والعسكري.
منع واقع التشرذم التنظيمي والإيديولوجي والسياسي قيام حدٍّ أدنى من التنسيق بين الأحزاب والفصائل الوطنية العاملة تحت يافطة المقاومة الوطنية اللبنانية، وأدَّى انتشار الفجوات والهفوات والأخطاء، من جرَّاء الفئوية والاستعراضية والهيمنة. وانقسم التيار الواحد إلى عدد من الفصائل التي تتسابق إلى سرعة الكسب الفئوي، وهي:

التــيار الأول: تيار الفصائـل الوطنيـة
أ-الماركسـيون: إن الماركسيين، وعلى رأسهم الحزب الشيوعي اللبناني، يدَّعون أبُّوَة المقاومة. كنا قد ناقشنا هذه المسألة في الفصل الأول من هذه الدراسة؛ وسنناقشها الآن من زاوية أخرى، وهو ما له علاقة بالإطار الإيديولوجي الذي يستند إليه الماركسيون في تحديد أهداف المقاومة ونهجها وسلوكاتها.
ينطلق الماركسيون، في نظرتهم للمقاومة، من منظار طبقي إذ «يأخذون بعين الاعتبار التركيب الطبقي للمنظمات الفدائية، والاتجاه الفكري-الإيديولوجي السائد في كل منها» ( ). ولذلك لا يوافقوا على طليعية أية حركة تحررية، ومنها تلك التي تستخدم أشكال النضال المسلح
إذا لم تكن من «الطبقة العاملة العربية، و الأحزاب الماركسية- اللينينية ». فأي تنظيم فدائي لا يحتلُّ مكاناً طليعياً إذا لم يكن تركيبه بروليتارياً يتبنَّى الماركسية-اللينينية( ).
فإذا كان الأمر كذلك، ولأن المقاومة الوطنية اللبنانية تضم غير الماركسيين- اللينينيين، فهل يَعِدُّ الحزب الشيوعي اللبناني الشهداء الذين سقطوا على غير العقيدة الماركسية-اللينينية غير طليعيين؟ وكيف نفسِّر نرجسيته عندما يحسب أنه وحده طليعي بإيديولوجيته، وبعملياته، وبشهدائه؟
يبدو أن الحزب الشيوعي اللبناني مُرْبَكٌ في تحديد مفهومه للمقاومة بين نظريته وبين تطبيقه لها؛ بين ممارسته الفكرية وممارسته العملية؛ فهو طوراً يحسب أن الوحدة الوطنية-على المستويين الرسمي والشعبي-ضرورية و أساسية في عملية التحرير، وتارة أخرى يشطب دور فريق كبير من اللبنانيين. و طبعاً فإنه يجد دوماً مبرراته في ديموغوجية سياسية لا تعرف الاستقرار. فكيف يوفِّق بين طبيعة المقاومة وماركسيتها، وبين اختياره حلفاء سياسيين ومقاومين يؤمنون بأيديولوجية مذهبية وطائفية-سياسية؟
أَلَم يعطِ الحزب الشيوعي أكثر من تبرير عندما جيَّر تضحيات شهدائه، الذين سقطوا في مواجهة العدو الصهيوني، لصالح حركة أمل عندما سكت عن وضعها على رأس أكبر مسؤولية وطنية، وسكت عن إعطائها دوراً أكبر من حجمها بكثير بالنسبة لمقاومة العدو؟ أَلم يُبرِّر لها خرقها الإجماع الوطني عندما أخذت تقمع وتلاحق الوطنيين وتفتعل معهم أكثر من معركة جانبية ودامية معهم؟!!!
إننا نحسب أن الارتباك الذي حصل، عند الحزب الشيوعي، بين النظرية والممارسة، كان ناتجاً عن انتهازية سياسية؛ وكان انحداره إلى موقع الانتهازية نابعاً من حرصه على الاحتفاظ بدور سياسي بأي ثمن من جهة، وإلى خوفه على كوادره من الملاحقات من جهة أخرى. وسيان كانت الأسباب فإنها لا تبرِّر خرقه للمبادئ الوطنية والتقدمية.
وعلى الرغم من انتهازيته، ذات الدوافع المذكورة أعلاه، فقد دفع شهداء كثيرين على أيدي حلفائه؛ ووضع دوره السياسي تحت سلطة الوصاية والهيمنة الداخلية والخارجية. وبهذا خسر الإثنين معاً، ولم يكسب إلا انتهازية أثارت ما أثارته من بلبلة داخلية في جهازه التنظيمي، واستطاع أن يلملمها في مؤتمره الخامس، الذي انعقد في الربع الأخير من العام 1986م، والذي لم يستطع أن يعقده في بيروت نظراً لسيطرة حركة أمل الحليف اللدود( ).
أما منظمة العمل الشيوعي، الطرف الثاني الذي اشترك مع الحزب الشيوعي في إصدار بيان 16/9/1982م، فقد نصَّبت نفسها مع الحزب الشيوعي اللبناني، بالنيابة-من دون توكيل-عن الحركة الوطنية اللبنانية، قيادةً لتلك الحركة. لكنه ما لبث ذلك العقد طويلاً فانفرط، وأصبح كل منهما طرفاً مستقلاً، ولم يبق من الجبهة بينهما إلا البيان يتنازعان على أبوَّته.
أما في السلوكية العامة فلم تنحدر المنظمة إلى ما انحدر إليه الحزب الشيوعي في السلوك الانتهازي، وبشكل خاص من حيث التحالف المُصْطَنَع مع حركة أمل من جهة، والمجاملة المُمِجَّة للتيارات الأصولية المذهبية الإيرانية من جهة أخرى؛ وإلى الوقوف في الصف الذي يقاتل الفلسطينيين في مخيماتهم تحت ذريعة انحراف حركة فتح عن الطريق المقاوم.
فعدا ما انتهجته منظمة العمل من نرجسية في ادَّعائها أبوَّة المقاومة الوطنية اللبنانية، فإنها عملت بصمت أقل كان يفرضه عليها الوضع الأمني والسياسي في تلك المرحلة.
ب-الحزب السوري القومي الاجتماعي: ينطلق الحزب، في فهمه للقتال ضد العدو الصهيوني، من منطلقاته التاريخية والفكرية-منذ تأسيسه في أوائل الثلاثينات، فهو يحسب أن المقاومة وليدة نضالات الشعب «وعصارة التزامه العميق لقضية الصراع القومي مع العدو» ( ). ووصلت المقاومة الوطنية اللبنانية إلى هذا المستوى من الأداء نتيجة «الخبرات النضالية والكفاحية التي اكْتُسِبَت من تجربة المقاومة الفلسطينية» ( ).
وعلى الرغم من أن الحزب القومي-وبدون أن نناقش فكره القومي-انطلق من مفهوم تاريخي ومبدئي صحيح في مسألة المقاومة، سواء كانت فلسطينية أو لبنانية؛ إلا أنه-في مسلكه السياسي-قد انحرف عن منطلقاته المبدئية نحو سياسة التزلُّف الإقليمية والمحلية، وهذا السبب أوقعه في مطبَّات ومتاهات أصبح أسيراً لها. وقد يكون ذلك سبباً رئيساً في سلسلة الانشقاقات الدموية التي اتَّسمت بها مسيرته في تلك المرحلة.
تمثَّلت متاهاته بمحاباته للنظام السوري عندما أغرق نفسه في موقف العداء نحو قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والتيارات القومية الأخرى إلى المستوى الذي نسي فيد أن شعباً فلسطينياً يُذْبَح في داخل المخيمات المُحاصَرَة؛ ولذلك قلَّما نقرأ تصريحاً لأي مسؤول، في التيارين المُنْشَقَّين، إلا ونعثر فيه على سباب وشتائم لقيادة المنظمة، وكأنه بتلك المواقف أصبح لا يُمَيِّز بين خطأ سياسي ارتكبته القيادة وبين واجبات القومي تجاه شعب شقيق لا يجوز أن تحاسبه على قاعدة أخطاء قيادته.
إن وقوع الحزب في مثل تلك المطبَّات كان يعطي لحركة أمل، أمام جماهيرها من المذهبيين، مبرِّراً لارتكاب الجرائم الإنسانية الفظيعة بحق المخيمات الفلسطينية. و لهذا لم يُمَيِّز-بوعي منه أو من دون وعي-بين الموقف السياسي وبين القضية الأساسية؛ فبرِّر لنفسه ولغيره-تحت ستار التناقض مع سياسة منظمة التحرير الفلسطينية-السكوت عن الحرب التي كانت مُوَجَّهَةً ضد المخيمات الفلسطينية، منذ أواخر العام 1983م، في البدَّاوي؛ إلى أيار/مايو من العام 1985م في مخيمات بيروت؛ إلى أيلول/سبتمبر من العام 1986م في مخيمات الجنوب.
وصل الحزب القومي-في تلك المرحلة-إلى قمة الانفصام بين مبادئه حول القضية الفلسطينية ومواقفه السياسية؛ فهو في الوقت الذي يحسب فيه أن الخوف على المقاومة "يتأتَّى من محاولات أسلمتها وتطييفها وحصرها في أُطُرٍ مناطقية جغرافية محدودة"( )، يمارس الموقف ونقيضه عندما يضع نفسه في موقع الحليف الأساسي لرموز التطييف و«الأسلمة» وفصائل المناطق المحدودة وقيادات الزواريب، التي تتمثَّل بحركة أمل أو بجماعة إيران.
فلا بد من الإشارة، أيضاً، إلى أن الحزب القومي قد باع دماء بعض شهدائه إلى النظام السوري.
إن موقفه من النظام السوري هو أكثر ما يثير الدهشة، فهو يَعِدُّه نظاماً خارقاً في فكره وسياسته وصفائه القومي في الوقت الذي يُصِرُّ فيه على التمسك بمبادئه وعقائده التي تتناقض في عدد من جوانبها مع مبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي التي يدَّعي النظام السوري أنه يُمثِّلها.
ج-حركــة أمـل: تأسَّست الحركة في العام 1975م، وكل هدفها أن تؤطِّر الجماهير الشيعية في مؤسسات دينية-سياسية لكي تؤمَّن للطائفة الشيعية موقعاً في صف الطوائف الدينية في لبنان. فهي ليست ذات توجُّهات وطنية لأنها لم تتأسَّس على المطالبة بإلغاء الطائفية، بل أقامت حاجزاً إلى جانب الحواجز الطائفية الموجودة. وهي ليست ذات توجُّهات قومية بدليل معاركها الدموية ضد المقاومة الفلسطينية قبل العام 1982م، والتي جاءت إرباكاً لها في الوقت الذي كانت تخوض فيه معركة بقائها ضد الصهيونية من جهة، وضد اليمين اللبناني من جهة أخرى.
خاضت حركة أمل، قبل العام 1982م، تلك المعارك تحت ذرائع أخطاء المقاومة الفلسطينية المسلكية، التي أساءت فيها للجنوبيين. لم تكن تلك الذرائع، التي خاضت لأجلها المعارك، مُبَرَّرَة لحليف في تلك المرحلة؛ فكيف يكون الموقف منها في مرحلة الاحتلال الصهيوني، إذاً؟ وفي أي موقع نضع ما يُرتَكَبُ من جرائم ضد المخيمات الفلسطينية، حالياً، بعد أن أُقصِيَت المقاومة عن الساحة اللبنانية؟
كانت حركة أمل غير جادَّةٍ في قتال العدو، بدليل ميوعة مواقفها في أثناء الاحتلال وبعد الانسحاب الجزئي، و إلا فما هو المعنى الذي يقف خلف إصرار العدو-قبل الاجتياح وفي أثنائه وبعده-على مغازلة الحركة: بالتلويح إلى اطمئنانه ورضاه عن تسليمها أمن منطقة الجنوب؟

د-الفصائـل القومــية:
يُمَثِّل حزب البعث العربي الاشتراكي هذا التيار، لأن الفصائل القومية-ومنها التنظيمات الناصرية- ما تزال مُتَباعِدَة في الانتماءات والمواقف؛ وإن تشرذمها يؤدِّي إلى ضعفها؛ وتلك ثغرة تجعل من قوى التغيير الأساسية على الصعيد الوطني مُلْحَقاً بالقوى المُهيمِنَة على المستوى الداخلي والإقليمي. لكن تجدر الإشارة، هنا، إلى الدور الذي لعبه التنظيم الشعبي الناصري في صيدا في مقاومة الاحتلال الصهيوني.
كان التيار القومي في لبنان مُسْتَهْدَفاً من أجهزة النظام السوري جنباً إلى جنب مع المقاومة الفلسطينية. وساعدت تلك الأجهزة حلفاء جدد في سبيل تصفيته، ومنها: حركة أمل، وجماعة حزب الله من الإيرانيين وحلفائهم اللبنانيين. ولا ننسى ما كان من مواقف ممالئة، من بعض أطراف الحركة الوطنية اللبنانية، للنظام السوري، والتي تميَّزت بمواقفهم السلبية نحو حزب البعث العربي الاشتراكي.
وعلى الرغم من كل تلك الظروف، فقد استطاع الحزب أن يلعب دوراً أساسياً في عمل المقاومة الوطنية اللبنانية متجاوزاً كل الصعوبات الأمنية والسياسية التي وُضِعَت في وجه مناضليه. وسوف نُرْفِق مع هذا الكتاب، وفي ملاحقه عدداً من الوثائق التي تدل على الدور الذي لعبه الحزب بعيداً عن الاستعراض والفئوية، مُنْطَلِقاً من عقيدته القومية وموقفه الاستراتيجي من الصراع مع العدو الصهيوني، ومن تجربته الطويلة في الكفاح الشعبي المُسَلَّح.
إن التجربة السرية التي يمارسها مناضلو الحزب في عملهم المقاوم، التي أبعدته عن أمراض وثغرات قد يفرضها، أحياناً كثيرة، العمل العلني، قد أكسبته تجربة جديرة بالبحث عندما يحين الظرف الملائم.
ولهذا فقد صُنِّف عمل الحزب في دائرة التيار الوطني المقاوم، لأن مبادئه تستند إلى المنطلقات الوطنية في الفكر والممارسة، وتنطلق من الإيمان بعمل جبهوي صحيح يضم كل الفصائل المقاتِلَة، وهو هدف يجب النضال من أجله كشرط أساسي لاستمرار هذه الظاهرة المُضيئة في ليل أمتنا العربية، وذلك لملاقاة أي انفراج قومي يكون ظهيراً ومُشارِكاً إلى جانبها.
أما عن المنطلقات الوطنية، التي يحددها الحزب، ويحسبها شروطاً ضرورية في عمل المقاومة ضد العدو-الآن وفي المستقبل-فقد حددنا بعضها في فصول سابقة من هذا البحث، وسوف نستكمل بعضها في فصول لاحقة.

التـيار الـثانـي: تيار المقاومـة الإسلاميـة.
أعاد استلام رجال الدين للسلطة السياسية في إيران الثقة للأصولية الإسلامية في لبنان. وبدون أن ندخل في مناقشة المدى الذي كانت فيه تلك الثقة عميقة أم سطحية، وما ولَّدته عملية التغيير في داخل إيران- ما زالت تولِّده من تفاعلات بين الأوساط الإسلامية- سلبية كانت التفاعلات أوإيجابية، فإننا نستطيع أن نؤكِّد أن تلك العملية قد أحدثت أثراً كبيراً لم يمر من دون نتائج ملموسة على ساحة الصراع مع العدو الصهيوني.
من تلك النتائج، ومن خلال محاولة القيادة الإيرانية تصدير ثورتها إلى الساحة اللبنانية، وظَّفت إمكانياتها المادية والمعنوية في سبيل تأسيس ركائز لها على تلك الساحة بواسطة مؤسسات اجتماعية وإعلامية وسياسية ودينية. فكانت تلك المؤسسات تتوسَّع في نشاطها باستمرار منذ الاجتياح الصهيوني، وما تزال؛ ومن أبرز نشاطاتها أنها قامت بعمليات عسكرية نوعية ضد العدو الصهيوني. وقامت بتأسيس ما يُسمَّى بحزب الله في لبنان بعد العام 1982م، وهو امتداد للتنظيم الإيراني المعروف بالإسم ذاته، وقدَّمت إليه الإمكانيات المادية. ثم راحت تعلن عن عملياتها العسكرية تحت إسم المقاومة الإسلامية، وتُمَيِّز نفسها باتجاهات سياسية وفكرية ودينية.
ومن خلال مؤسساتها برز الدور الإيراني، وبواسطتها قام بتصدير ثقافته وأفكاره بطريقة فئوية مذهبية واستعراضية، وكل هدفها أن تثبت وجودها السياسي بشكل فاعل.
إن المقاومة الإسلامية، كمؤسسة لها مضمونها الفكري والعقائدي الديني، الذي اكتسبته من إيديولوجية النظام المذهبي في إيران القائم على نظرية ولاية الفقيه، والذي يريد أن يصدِّر فكره و عقيدته المذهبية عبرها إلى لبنان. لذا أصبح الكسب الإعلامي مقصوداً وهادفاً، وذلك في إطار التعبئة حول الشعارات التي يُراد تصديرها. فالتوجيه الدعائي والإعلاني مطلوب في مثل هذه الحالة. فماذا تريد "المقاومة الإسلامية" أن تُصَدِّر خارج إيران؟
تريد تصدير خصوصيات النهج الفكري للنظام الإيراني، وهو النهج الذي يؤمن أن "المقاومة الإسلامية" هي تكليف شرعي يوجب على المسلم أن لا يجعل للكافرين ولاية على المسلمين( ). ولهذا التكليف أهداف سياسية أخرى، غير ما تتضمَّنه شرعية مقاومة العدو الصهيوني، وهي العمل في سبيل تأسيس دولة إسلامية في لبنان، لأنه لا يجوز-حسب نص التكليف الشرعي، الذي يعملون على أساسه-أن يتولَّى شؤون المسلمين حاكم غير مسلم.
استناداً إلى هذا التكليف الشرعي يضع المسؤولون عن "المقاومة الإسلامية" خصوصيات لها. وأولها أنها تكليف ديني شرعي، وهذا التكليف هو عبادة شريفة، وأمنية عظيمة، لا أهمية للنتائج بعدها في نظر المجاهد، وحَسْبُهُ أن يتحمَّل المسؤولية أمام الله( ).
وكثورة تريد أن تُصدِّر نفسها، لأنها لا تعترف بغير شرعية نفسها، فتأخذ توجيهاتها من الثورة الدينية في إيران، وتنسخ كل ما قبلها من "مقاومات"، ولم تنج المقاومة الفلسطينية نفسها من عملية النسخ؛ فهي-حسبما يعتقد الأصوليون-أثبتت فشلها وبدأت تنحرف بعد إغراقها بأموال الدول الخليجية( )، التي هي أموال النفط لا الفقراء( )، ولأنها دخلت في مفاوضات ومهادنات مع العدو( )، وحصرت نفسها في ثكنات وقصور. أما المقاومة "الإسلامية" فتدَّعي أن "قلوب الناس وعقولهم وأفكارهم هي ثكنات لها وكل بيت في الجنوب هو مغارة لها"( ).
عمدت "المقاومة الإسلامية" إلى إلغاء غيرها من "المقاومات" الأخرى لأكثر من سبب، ومن أهمها السبب الجهادي-كفريضة دينية- لكي تصل في النتيجة إلى إثبات ذاتها ودورها وفعاليتها، ولتغرق استناداً إلى كل ذلك في الفئوية حتى التعصُّب. فكيف، إذاً، تبرز الفئوية والتعصُّب عند «المقاومة الإسلامية»؟
يحسب عباس الموسوي، أحد قادة حزب الله في لبنان، أن «المقاومة الإسلامية» أحدثت الصحوة الأولى، لأن: «الأمة الإسلامية بدأت صحوتها من خلال (المقاومة الإسلامية) التي بدأت فعلاً تضع الأمة الإسلامية على طريق التحرير الحقيقي» ( ). وانتقلت من إحداث الصحوة الأولى إلى إلحاق الهزيمة بإسرائيل في الجنوب حيث «إن إسرائيل اضطرَّت، لأول مرة في تاريخها، أن تنسحب بدون مفاوضات، وأن تنهزم تحت ضربات المقاومة الإسلامية» ( ). يتابع: ولم تقتصر النتائج على ذلك فحسب، وإنما انتقلت إلى داخل فلسطين المحتلة، بحيث «أصبح العدو الإسرائيلي نفسه يعرف أنها نتاج حركة المسلمين في جبل عامل» ( ).
ولكن «المقاومة الإسلامية» تقع في التناقض مع نفسها إذ تدَّعي أنها نقلت بذور الثورة إلى داخل أرض فلسطين المحتلَّة في الوقت الذي يتابع فيه الموسوي قائلاً: «نحن في جبل عامل لم نصل إلى مجتمع الحرب بعد»، والسبب، كما يحسب، أن العمل الجهادي يتطلَّب التفكير بالبندقية قبل التفكير بالتلفزيون( )، الذي هو من الكماليات، وعلى الرغم من ذلك، ما زال العامليون يطمحون إلى شراء الكماليات لبيوتهم. وتقع "المقاومة الإسلامية" في التناقض من جديد لأنها نسيت أنها أسَّست محطة للتلفزيون على الأراضي اللبنانية( ). وفي مثل هذا الاعتقاد لن يشاهد أبناء جبل عامل برامج تلك المحطة إذا اقتنعوا أن اقتناء التلفزيون هو شيء من الكماليات، واستنكفوا عن شرائه استجابة لفتوى الموسوي.
واستدراكاً لما قد يُؤخَذ من غياب الموضوعية، على ما ورد في الفقرة السابقة، نقول إن السبب الذي دفعنا إلى ذكر هذا المأخذ هو للاستدلال على ل اواقعية ما يقوله المسؤولون عن المقاومة الإسلامية، وللإشارة إلى التباعد الحاصل بين الأحلام التي يختزنونها والواقع المفترض بهم أن يقوموا بوصف الدواء له. وليست اللاواقعية هي الوجه الوحيد، بل إن التناقضات تظهر-على الأقل-في مسألة ورد ذكرها عندما ادَّعى الموسوي أن انتفاضة الأرض الفلسطينية المُحتَلَّة هي نتاج حركة المسلمين في جبل عامل، و هذا يتناقض مع قوله بأن المسلمين في جبل عامل لم يصلوا بعد إلى مستوى مجتمع الحرب. وفي الوقت الذي يقول فيه إن إيران تدعم المقاومة الإسلامية معنوياً ومادياً( )، يقول إن على المجتمع الإسلامي في جبل عامل «أن يعتمد على نفسه فقط دون أية قوى أخرى حتى ولو كان يؤمن بها ويعتبرها قيادته» ( ).
وبالإجمال، نرى أن المقاومة الإسلامية: متأثِّرَة بإيديولوجيتها الدينية والمذهبية، أغرقت نفسها في التعصُّب والفئوية تارة، وفي الطوباوية و اللاواقعية والتناقض تارة أخرى. فجاءت الفئوية لكي تقودها إلى رفض أي عمل جبهوي تحت ذريعة رفضها لكل الأفكار والاتجاهات الوضعية التي تؤمن بها الفصائل الأخرى.
التيـار الثالـث: التيـار الديني الوطني
كي نكون أقرب إلى الموضوعية، لا بدَّ من الإشارة إلى أن هذا التيار يمثِّل حالة تعبوية وليس تياراً له مؤسسته العسكرية. ويمثِّله قطاع من رجال الدين السُـنَّة والشيعة، ومن رجال الدين المسيحيين، وما للجميع من أنصار ومؤيِّدين. وهو، أيضاً، لا ينتمي إلى المنتفعين من الحالة الإيرانية القائمة على التعصب والانغلاق.
ينظر هذا التيار إلى المقاومة من منظار الواجب الديني والوطني. وكان للأفراد المحسوبين عليه دور بارز، في أثناء الاحتلال، في استنهاض الحالة الجماهيرية والتحرك الشعبي العام. وقد نشط تحت العديد من العناوين و الشعارات الدينية والسياسية الوطنية. وحدَّد موقفه من المقاومة بعيداً عن الفئوية، و قد عبَّر أحدهم عن موقفه منها بأنها مقاومة «عامة لا يدَّعي أي فريق أنها له أو أنها ملكه»( ). وهي نتيجة للتلاحم الشعبي مع المقاتلين. ولا يمكن أن يُقال بأن الإنجاز الذي تحقَّق قد «تمَّ بفضل المقاومة أو بفضل الشهداء الذين سقطوا على الساحة فقط، وإنما تمَّ أيضاً بفضل صمود الشعب، فلولا صمود الشعب لم تستطع القيام بعملها» ( ).
ولا يرضى أحد رجال الدين المسلمين بأن تكون المقاومة الإسلامية فئوية، ويؤكِّد أن كل الفئات والقوى و الأطراف شاركت في هذه المقاومة، و إن كانت في أساسها هي مقاومة الحالة الإسلامية في الجنوب، فإنها «ليست حزبية أو فئوية، إنها أوسع من الفئات والأحزاب» ( ).
متَّخِذَةً من تعامل بعض المسيحيين مع العدو ذريعة، ناسيَة أن التعامل معه لم يكن حِكْراً عليهم وحدهم، أكَّدت "المقاومة الإسلامية" أن فكر المقاومة ذو عمق إسلامي دون غيره. ففي ظل موجة التعصُّب يقول المطران بولس الخوري- أحد رجال الدين المسيحيين - الذي يُعَبِّر عن واقع تيار مسيحي له عمقه في المقاومة: أن للمقاومة عدد من الأهداف والوسائل، ومنها:
-إن المقاومة ذات عمق وطني قومي، لذا يقع على عاتق اللبنانيين العمل «تحت راية التوحيد الشامل والتحرير الكامل وعروبة لبنان»( ). وعلى الدول العربية «أن يمِدُّوا يد العون إلى المناضلين في جنوب لبنان» ( ).
-وهي ترفض التعصُّب الطائفي، لأن «الهدف الأول، اليوم، هو تحرير الأرض؛ وكل عرقلة لبلوغ هذا الهدف هي جريمة بحق جميع أبناء الوطن» ( ).
-ولذلك فهو يحسب أن ما يعيق أولوية التحرير و وحدويته، يخدم العدو، لأنه من غير المفهوم-يقول متسائلاً: كيف «أن اللبنانيين الذين قدَّموا دماءَهم لتحرير الجنوب ولبنان من الاحتلال، يُحلِّلون قتل بعضهم البعض ويُقَدِّمون أعظم خدمة للعدو المُحْتَل؟» ( ).
من هنا، نرى أنه كلَّما عملت المقاومة تحت شعارات التيار الديني الوطني فإنها تتجِّه نحو الانفتاح الوطني، وهي-في مثل هذه الحالة-لن تقع في فخِّ الدفاع عن مؤسَّسة مُرْتَهَنَة لإرادة الغير، وغير مطلوب منها أن تُسَدِّد فواتير إعلانية لنهج الجهة التي تُمسِك بقرارها.
ب-الصعوبـة الثانية: غياب صيغـة العمل الجبهوي:
إن الشرذمة التي يشهدها العمل المقاوم كانت نتيجة عدة عوامل:
-العامل الأول: إنقسامه إلى تيارين: وطني وإسلامي. ولكل منهما أهدافه العقائدية. فالتيار الوطني ينطلق من العقيدة الوطنية/ القومية، كمُوَجِّه للعمل المقاوم، التي تُعَبِّر عن اتجاهات جامعة مُوَحِّدَة. أما التيار الإسلامي فينطلق من العقيدة الإسلامية، كموجِّه للتيار الإسلامي المقاوم، و هي تقفز فوق المسألتين الوطنية والقومية وتَعِدُّهما رابطتين نقيضتين للرابطة الإسلامية. وهما وإن اتَّفقا على المقاومة-كمسألة مرحلية- فإنهما تفترقان حول هُوِّية التغيير الداخلي في المستقبل، أي حول هَوِّية النظام السياسي. فالتيار الإسلامي ينطلق من أن التغيير الداخلي هو تكليف شرعي/ديني يقوم على قاعدة قدسية تمنع من أن يكون للكافرين ولاية على المسلمين. أما التيار الوطني فيرى أن جميع اللبنانيين متساوين في الواجبات والحقوق أيضاً.
-العامل الثاني: الخلاف السياسي الحاصل في داخل فرقاء التيار الوطني/القومي، وفي داخل فرقاء التيار الإسلامي ؛ فلكل فريق في داخل التيار الواحد أهداف سياسية تكتيكية خاصة به.
إنعكست حالة التباين الفكري والسياسي بين التيارات سلباً على مسألة التحرير. وكان من الواجب أن تنطلق المقاومة من ضرورة التلازم بين التوحيد الفكري والسياسي، لأنه، في مرحلة الاحتلال، يصبح «المعيار الوطني مُحَدَّداً بالموقف من وحدة الأرض والشعب والتحرير. فوحدة الأرض شرط لوحدة الشعب، ووحدة الشعب ضرورة للتحرير، والتحرير هو البوتقة التي تنصهر فيها الطاقات الوطنية لتحقيق السيادة والاستقلال الناجِزَين» ( ).
إن الخلاف العقائدي والسياسي بين تياري المقاومة من جهة، والخلاف السياسي بين أطراف الصف الوطني الواحد من جهة أخرى، يطبعان هذه المرحلة بطابع العمل اللاجبهوي. وفي ظل تلك الخلافات وقعت الكثير من التناقضات بين النظر والعمل في صفوف كل الفصائل.
تسابقت مختلف الفصائل لخطب ودِّ العمل الجبهوي والتغنِّي بمحاسنه، وللأسف، لم يخطُ أحد منهم خطوة واحدة باتجاه توحيد فصائل المقاومة. وإنه في الوقت الذي يعترفون فيه بالموقع المتقدِّم الذي أحرزته المقاومة الفلسطينية في تاريخ الصراع العربي-الصهيوني، وبمساهماتها الجدِّيَة في تطوير الأداء العسكري و التسليحي لفصائل الحركة الوطنية اللبنانية، فإنهم اتَّفقوا على تجريحها بشكل أو بآخر. وكان لكل منهم دوافعه الخاصة، لكن يجمعها التسابق على وراثتها أمجاداً وانتصارات.
تتغنَّى تلك الفصائل بأهمية الكفاح المسلَّح، وتتسابق في ابتكار نجاحات وانتصارات لنفسها؛ ومنها لا يمتُّ إلى طبيعة مقاومة العدو الصهيوني بِصِلَة؛ وإننا نحسب أن الجملة الأدبية هي التي سيطرت على الخطاب التعبوي من دون النظرة الموضوعية العلمية. ومثالاًً على ذلك يرى البعض مُعَبِّراً عن تحليل فصيل وطني يُسهِم في عمل المقاومة ضد العدو الصهيوني قائلاً إن (قوى التغيير) كانت نتاجاً للمقاومة، وكأن المقاومة ليست نتاجاً نضالياً لقوى التغيير!!! و مثالاً آخر على الاستنتاج الفاسد، وقفت المقاومة-كما يدَّعي- في مواجهة القوى الفاشيَّة والحكم الفئوي، وهي التي فرضت تشكيل حكومة جديدة برموز وطنية!!! و هي التي استنهضت الجبل في العام 1983م في وجه الهيمنة الكتائبية!!! وهي التي حقَّقت انتفاضة الضاحية الجنوبية وبيروت الغربية في 6 شباط/فبراير من العام 1986م …ألخ( ).
إن «البحبوحة» في توسيع مهمات المقاومة وافتعال مهمات لها، كيفما اتَّفق، تتعارض في كثير من جوانبها مع المقاييس الموضوعية لكل ثورات العالم التي تواجه مُحْتَلاً غريباً؛ وعلى الرغم من كل ذلك، فإن الفصيل نفسه، الذي ابتكر مهمات للمقاومة ليست لها وزاد خياله في توسيعها، يحسبها- وبموضوعية يدَّعيها- أنها تُشكِّل جزءاً من الحرب الأهلية في لبنان، وإنها تخدم شعارات القوى الوطنية اللبنانية!!! كما أنها تتبنَّى في داخل الحرب الأهلية برنامجها في التغيير باسم الثورة الوطنية الديموقراطية ( ). ونحن لا ندري كيف يحسبون أن الحرب الأهلية هي ثورة وطنية؛ إن الحد الأدنى في تعريفها لا يتعدَّى كونها قتالاً دامياً بين طرفين لهما وطن واحد. فالمنطق يقول: إن كِلَي الطرفين لا يُمَثِّل الوطن كله بل يُمَثِّل جزءاً من الوطن، وليس قتالهما دفاعاً عن أرض بقدر ما هو دفاع عن أهداف ومكاسب سياسية. وهل القتال بين فريقين لهما وطن واحد هو ثورة ديموقراطية؟؟؟ فالاقتتال الأهلي شيء والثورة الديموقراطية شيء آخر.
إن العدو لن يحقق أهدافه من الاحتلال إلا نتيجة وهنٍ وضعفٍ وتفكَّكٍ يصيب أصحاب الأرض، أو أن احتلاله يأتي نتيجة اختلال في موازين القوى بينه وبين أصحاب الأرض التي أقدم على احتلالها؛ وهنا تأتي حرب التحرير الشعبية أسلوباً تمارسه الشعوب لمقاومة الاحتلال، وإن وحدة الشعب-في أحوال مماثلة- تُعَدُّ شرطاً لازماً في الكفاح الشعبي المسلح.
إستناداً إلى ذلك، نتساءل: أية حلول وضعها الفرقاء اللبنانيون لمعالجة مشكلة الاحتلال؟ وكيف يرون العمل الجبهوي الراهن؟ وكيف يتطلَّعون إلى تطويره في المستقبل؟

العمـل الجبهوي من وجهة نظر القوى المشاركة في المقاومـة:
انتهت مرحلة الطهارة الثورية في عمل المقاومة الوطنية اللبنانية مع عودة الأحزاب العلنية إلى المسرح السياسي، و المسرح يحتاج إلى أضواء، و الأضواء تتعارض مع عمل المقاومة السرِّي. لم تكن هذه المواقف المبدئية غائبة عن إدراك بعض الشخصيات الوطنية وبعض المثقَّفين الوطنيين، ممن ليس عندهم مؤسسات إعلامية تساعدهم في عرض قناعاتهم الوطنية والدفاع عنها. وهنا سنبتدئ في استعراض مفاهيم هذه الفئة عن العمل الجبهوي، والتي سنطلق عليها تسمية التيار الوطني المثقف.
عَدَّ هذا التيار المقاومة في مراحلها الأولى نموذجاً؛ لهذا السبب يجب أن تُمَثِّل وحدة اللبنانيين على اختلاف اتجاهاتهم السياسية والطائفية؛ وقالوا إنه «من مهمات القوى الوطنية والتقدمية على الساحة اللبنانية، وعلى اختلاف مصادرها العقائدية الدينية والفلسفية أو العلمية، أن تُضيِّق الفوارق، وتزيل حساسياتها فيما بينها كأبناء صف واحد وقضية واحدة» ( ).
إن إشارة هذه الفئة إلى ثغرات لهو دليل على وجودها. وتبرز الثغرات في نهج معالجة الأمور عند القوى الوطنية، إذ أنها حينما تعالج أخطاءً ما فإنما تقاتل ضدها بأخطاء أخرى، وهذا هو الخطأ بحدِّ ذاته. وقد عبَّر، أحد الذين ناقشوا موضوع المقاومة، عن ذلك قائلاً: «إن محاصرة (الكانتون) الطائفي بإقطاعات الطوائف، ومحاصرو حكم ( الطائفة) ببعض طوائف الشعب لا تُنْهي الأزمة اللبنانية التي تحاصر المقاومة في المناطق المُحْتَلَّة» ( ). فالعمل السياسي في خارج الأرض المحتلة يجب أن يكون من طينة المقاومة الوطنية، ومُكَمِّلاً لها على أساس أولوية التحرير ومطالبها التغييرية في خدمة التحرير، ولها ميثاق يؤكِّد أهدافها بشكل واضح ومُحَدَّد، وأن تمثِّل المعارضة السياسية «في ذاتها، وفي مناطق سيطرتها، نموذجَ ما تريده لوطنها» ( ).
أما كيف تعالج الأحزاب والفصائل، عملياً، مسألة العمل الجبهوي؟

-العمل الجبهوي من وجهة نظر الحزب الشيوعي اللبناني:
خلافاً لواقع العلاقات الجبهوية، تظهر وجهة نظر الحزب مختلفة إلى واقع العمل الجبهوي، فالبعض يُصَوِّر الواقع إعلامياً وكأنه بألف خير، وكأن المقاومة لا تشكو من أي خلل. وفي وصفه للمقاومة يقول كريم مروة: «ليس من المبالغة في شيء القول بأن المقاومة الوطنية اللبنانية تختصر ميدانياً، في اللحظة الراهنة، الدور العربي بكامله على ساحة الصراع»( ).
ومع اعتزازنا بأهداف المقاومة وأهمية دورها، إلا أننا نتعارض مع أصحاب الاتجاهات الذين يصوِّرون واقعها بصورة وردية، ولا يرون أي خلل في أدائها، أو أي خلل في مضمونها الجبهوي؛ فحينما نقرأ لكريم مروَّة، عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي، تحليله حول هاتين المسألتين: غياب الخلل في الأداء والتنظيم«على مستوى المضمون و الممارسة الجبهوية، لأصابنا العجب من المبالغة في وصفه الإنشائي لهما؛ فإن التنظيم-كما يرى-متينٌ وراسِخ، و للمقاومة "قدرة على الاستمرار والتواصل بدون خلل» ( ).
أما عن البنيان الجبهوي-كما يراه الحزب الشيوعي- فهو المثال والنموذج، أما عن الأخطاء فلا وجود لها، ولهذا فمن جبهة المقاومة «لم تغرق في الفئوية، وفي الضجة الإعلامية، وفي الأعمال الاستعراضية، وإنها أقامت-فيما بين أطرافها غير المُعْلَنَة أسماؤهم- تحالفاً ضمنياً في قلب الكفاح، لا حدود له، وإنها أنشأت علاقة حميمة مع الجماهير، تقوم على التضحية والتفاني… فشكَّلت بذلك مثالاً ونموذجاً» ( ).
لكن، بعد شهرين بالتمام والكمال، يعطي الحزب الشيوعي صورة مختلفة عن تلك التي أعطاها كريم مروَّة في ندوة البوريفاج. فبعد أن صوَّر مروَّة واقع المقاومة مُشْرِقاً «من خلال التحالف الذي لا حدود له بين أطرافها»، إذ به يطالب بعد شهرين «بقيام تنسيق، ولو بحدوده الدنيا، على أساس التحالف الواسع بين القوى السياسية التي تشترك في مهمة التصدِّي لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي» ( ). ويدل قوله، هذا، على أن الجبهة بأطرافها، سواءٌ أكانت أسماؤهم مُعْلَنَةً أم سريَّة، لم تكن موجودة على أرض الواقع.
أما الفئوية والاستعراضية، التي صوَّرها كريم مروَّة أنها لم تكن موجودة، فإنها كانت موجودة بالفعل، ويدل على غيابها ما جاء على لسان مسؤول شيوعي آخر في مقابلة صحفية أجرتها معه وكالة رويتر و لم يكن حبر كريم مروَّة قد جفَّ بعد فهو يدَّعي أن العمليات التي تحصل ضد العدو في جنوب لبنان هي من جهد الشيوعيين وبعض الفلاحين من حركة أمل!!!
عندما يطوِّر الحزب الشيوعي أفكاره، ويرفع من سقف أهدافه، بالنسبة للعمل الجبهوي، فإنه لا يخرج عن إطار إيجاد حالة وطنية تعتمد على دور «المنظمات الديموقراطية: النقابات والاتحادات العمالية وتنظيمات العاملين والكادحين في الريف، منظمات الشباب والطلاب والنساء والمثقفين وكل أطر الأندية أو وحدة القوى الوطنية وأساسها جبهة التوحيد والتحرير».
وفي كل الحالات، لا يقترب الحزب الشيوعي، مطلقاً، من المؤسسة الجبهوية للمقاومة الوطنية اللبنانية، لأنه-ومن منطلَقٍ تضليلي-يحسب أنها، فعلاً، مؤسسة قائمة، وهي ليست بحاجة إلا لإطار حالة وطنية تعبوية.
ولكن الحزب، وعلى الرغم من كل تحليلاته الوردية لوضع المقاومة، لا يستطيع إلا أن يؤشِّر على خلل استراتيجي أدَّى إلى انتكاسة في مسيرة العمل الوطني الشامل؛ وإن آثاره سوف تكون مُدَمِّرَة -كما نحسب نحن-لمسيرة المقاومة الوطنية اللبنانية. يحدِّد الحزب الشيوعي، في هذا الإطار «أن المسؤول عن انتكاسة العمل الوطني في لبنان، وعن عدم استمرار النهوض الوطني والقومي التقدمي في لبنان، أولئك الحلفاء الذين سيطروا على قيادة العمل الوطني فحرفوه باتجاه طائفي ومذهبي» ( ).
-العمل الجبهوي، وواقعه، من وجهة نظر حركة أمل:
منذ السادس من شباط من العام 1984م، إذا لم يكن قبل ذلك، كان واضحاً أن هدف حركة أمل، أو أن بعض القوى كانت تَعِدُّها له، هو السيطرة على قيادة العمل السياسي في لبنان. وكان التحالف الوطني اللبناني-الفلسطيني يقف في وجه ذلك الهدف/المشروع قبل العام 1982م. وعندما زالت الحالة المعروفة-كما يرى عاكف حيدر نائب رئيس الحركة-التي كانت سبب الصراعات الجانبية في تلك المرحلة، وبعد «اكتمال الوعي الوجداني العام، أصبح [الصف الوطني] المسؤول عن قيادة وإدارة معركتي التحرير ووحدة لبنان» ( ).
ومنذ تلك اللحظة، يتابع حيدر، اكتملت الاستعدادات «ولذا كان لا بُدَّ من معاهدة هدنة»( )، فتوحَّدَت البندقية، وتوحَّد الصف الوطني ( ) !!!
وبناء عليه حسبت حركة أمل أن العمل الجبهوي قد اكتمل، وحدَّدت قاعدة العمل المُشْتَرَك بالتزام أولوية تحرير الجنوب( )؛ وبالالتزام بخلفية الجهاد والبذل والعطاء دون حساب، والعمل على عدم ضياع الأرض؛ ولا فرق بين من يلتزم بهذه القواعد وبين من يؤمن بالصراع الطبقي، أو العاملين أساساً لعدالة اجتماعية، أو لتأمين حقوق أية فئة. وإذا حصل أي سوء تفاهم لهذه التوجُّهات والمفاهيم والحوافز، يُعرِّض الصف الوطني إلى انتكاسات( ).
إن حركة أمل، من خلال إعلان تصورها لصيغة العمل الجبهوي، أو العمل المُشْتَرَك، بأسلوب مشروط وتهديد مُبَطَّن، كانت واضحة تماماً بأنها توَّجت نفسها - و منذ السادس من شباط 1984- وفي مؤتمر حضره قياديون شيوعيون، قائدة للعمل الوطني.
إن ما يُسمَّى بالمؤتمر الوطني الأول لتجمُّع الهيئات الثقافية والإعلامية لدعم تحرير الجنوب، والذي عُقِدَ في بيروت من 30/3 إلى 1/4/1984م، وحضره ممثِّلون عن حركة أمل والحزب الشيوعي اللبناني و الحزب التقدمي الاشتراكي وعدد آخر من الشخصيات السياسية والإعلامية، انطلق من مُسَلَّمَة أن العمل الجبهوي بألف خير، وجاء في البيان الختامي ما يلي: «تَتَّسِم بُنْيَة المقاومة، على نحو ساطع، بالسمة الجبهوية المتماسكة، فهي النموذج في تغليب الوجه الجبهوي على الوجوه الفئوية، جاءت مُبَرَّأةً من اللوثة الإعلامية ومن الوباء الاستعراضي مُؤْثِرَةً العمل بصمت وتواضع ونكران ذات» ( ).
تصرَّفت حركة أمل على قاعدة أنها في موقع القيادة للعمل الوطني، فهيمنت على القرار العسكري والأمني والسياسي في بيروت الغربية والضاحية الجنوبية ومنطقة الجنوب. وهي لا تريد بالأساس أن يشاركها أحد في القرار. وقد عملت، وبتوجيه من النظام السوري، على أساس عرقلة قيام أي تجمُّعٍ وطني فاعل. فهي، بالتالي، كانت تعرقل أي إطار جبهوي مقاوم ضد العدو الصهيوني ما لم يكن يمر عبر مصفاتها الأمنية ومعرفتها. وازدادت تمسكاً بمواقفها خاصة وأن كلاً من القوتين الإقليميتين: سوريا وإسرائيل، كانت تباركان استفرادها، بل كان مطلوباً منها أن تكون في موقع الاستفراد.
فبالإجمال، وما دامت حركة أمل قد حقَّقت أكثر ما تصبو إليه من أهدافها السياسية، وأكثر مما تتمنَّى، بحيث أصبحت القيادة التي تهيمن على قرارات الجميع، فلماذا ترضى أن يشاركها الآخرون في تلك المكتسبات؟

-العمل الجبهوي من وجهة نظر «المقاومـة الإسلاميـة»:
ينطلق دعاة هذا التيار من مفاهيم عامة ومطلقة، فهم يحسبون-كما يقولون: إن «قناعتنا هي قناعة الآخرين؛ بأن إزالة لإسرائيل [هي] مسؤولية الأمة بأسرها» ( ). ولكن الأمة، التي يقصدونها، محصورة ضمن دائرة طائفية، هي الأمة الإسلامية فقط. وهم يدعون المسلمين إلى العمل لأنه يجب أن «لا ينفرد بحملها جزء من الشعب المسلم في جبل عامل» ( ). وهم يحدَّدون استراتيجيتهم على مراحل: فالمرحلة الأولى تقتضي إقناع الأمة بإزالة إسرائيل، ومن ثَمَّ «يجب أن نفكِّر-فيما بعد-كيف نخوض الصراع، ونخطو بالأمة إلى أرض المعركة» ( ). أما كيف يعملون على الإقناع؟ فيتم ذلك بما «يجري الآن من عمليات محدودة [التي] هي معركة إقناع الأمة » ( ).
هذا هو المفهوم العام للعمل الجبهوي عند دعاة هذا التيار. ولكن هل لهذا المفهوم آلية محدَّدة، أو على الأقل هل يمتلك مشروعاً محدَّداً يتم على أساسه سد الثغرات أو التقليل منها؟
يقول أحد الإسلاميين أن «هناك استحالة لصياغة مشروع سياسي متكامل للمقاومة الإسلامية، إذ أن الظروف لم تأذن بعد لتكامله». إلا أنه يحدَّد أولويات ثلاث لانطلاقة العمل، وهي: «الإسلام- مواصلة الجهاد ضد إسرائيل-جمع الناس حول المقاومة الإسلامية» ( ).
إن عملاً بهذا المستوى الكبير والشريف، ألا وهو مقاومة العدو الصهيوني، الذي يمتلك إمكانيات عسكرية كبيرة، لا يمكن لأية حركة تدَّعي القيام بأعباء المواجهة لوحدها أن تقوم به إذا لم تمتلك مشروعاً سياسياً وعسكرياً له شروط الحد الأدنى للمواجهة، إلا إذا كانت في منتهى الضياع، أو أنها حالة طارئة وجديدة على ساحة الصراع مع العدو الصهيوني تريد أن تعود بنا القهقرى إلى عشرات السنين من دون أن تستفيد من تجارب الماضي.
فمن بديهيات الأمور أن تكون القضية، التي تدافع عنها أية حركة من الحركات الثورية، قضية واضحة الجوانب؛ وتمتلك مشروعاً سياسياً يشكل لها الدليل الذي يجعل رؤيتها واضحة لكي تقنع الأمة بها. فإذا كانت القضية غامضة عند الطلائع، الذين يمتلكون مقدرة عقلية وفكرية لا تتوفر عند الأغلبية العظمى من الأمة، فهل يستطيعون أن يوضحوا للأمة ما ليس واضحاً عندهم؟!!!
إبتعدت المقاومة الإسلامية عن العمل الجبهوي مع كل الحركات المقاتلة. وأصبح هذا الموقف السلبي من التحالف مع الآخرين واضحاً وضوح النهج التعصبي ضد كل من هو غير مسلم، أو ضد من تحسبهم المقاومة الإسلامية ملتزمين بأحزاب عقائدية ولو كانوا من المسلمين؛ أما غير المفهوم وغير الواضح في موقفها، فهي السلبية التي تقاتل فيها أطرافاً إسلامية أخرى، ممن لا يلتقون معها حول الموقف السياسي، على الرغم من كل ما تدَّعيه من أنها تعمل لإقناع الأمة وتُوَجِّهُها نحو الجهاد!!!
إن بعض الأطراف الإسلامية، مثل حركة التوحيد وهم جماعة إسلامية مُنَظَّمَة ومًسَلَّحَة في مدينة طرابلس، تتهم حزب الله بالتفرُّد بالعمل ضد العدو على الرغم من أنها اتَّصلت بقيادته للتنسيق معهم ولأكثر من مرَّة( ). بينما يدَّعي حزب الله بأنه «من واجب المقاومة أن تتَّصل بالجميع، لكن المسألة مسألة وقت فقط» ( ).
أصبح من الواضح أن حزب الله في لبنان، والذي هو فرع لحزب الله الإيراني، ينتهج خطاً واضحاً نحو العمل الجبهوي يستند إلى دعامتين:
الأولـى: التعصب الطائفي، الذي ينطلق من قاعدة فكرية ترفض أن يتولَّى أمر المسلمين من هو غير مسلم. والتعصب لعالمية المذهب رافضاً كل ما قومي عربي أو وطني.
الثانيـة:التعصب المذهبي على قاعدة الولاء للنظام الإيراني ورفض كل الأنظمة والحركات الإسلامية الأخرى، التي لا يمكن الالتقاء معها إلا بالقدر الذي تقترب فيه من الولاء لإيران.
إن ميزتيْ التعصب الطائفي والمذهبي، ورفض ما هو وطني وقومي، هما اللتان حالتا بين المقاومة الإسلامية وبين العمل الجبهوي مع التيارات الأخرى للقتال في خندق واحد ضد العدو الصهيوني.

-العمل الجبهوي من وجهة نظر حزب البعث العربي الاشتراكي:
إستناداً إلى موقفه الاستراتيجي القومي، في إزالة العراقيل والعوائق من طريق تحقيق الوحدة العربية، عدَّ حزب البعث العربي الاشتراكي قضية تحرير فلسطين مهمةً رئيسة لتحقيق هدف الوحدة. واستناداً إلى فهمه واقع العديد من الأنظمة العربية، من حيث اتجاهاتها القطرية أو ارتباطها مع الإمبريالية، أو من حيث أنها أنظمة رجعية، أدرك الحزب أن مثل هكذا أنظمة ليست إلا عاجزة وليست جادَّة بالاهتمام بالقضية الفلسطينية.
إنطلاقاً من هذا الواقع أطلق الحزب شعاره بالدعوة إلى الكفاح الشعبي المسلح؛ ومارس هذا الشعار على كل المستويات، وخاصة الشعبية منها، إلى أن تتوفَّر الإمكانات العسكرية النظامية لقطر عربي أو أكثر كي تلعب دورها في الصراع ضد العدو الصهيوني.
وحيث أن الكفاح الشعبي المسلَّح يعتمد على أوسع القطاعات الشعبية للجماهير العربية، استند مفهوم الحزب الجبهوي إلى ضرورة حشد كل الطاقات المتوفِّرة لزجِّها في المعركة، وللعمل على توسيع دائرة الطاقات الكامنة عند الجماهير.
وبعد أن توسَّعت دائرة الاحتلال الصهيوني لأراض عربية أخرى، ومنها الأراضي اللبنانية، أصبح العبء أكبر، وأصبحت الحاجة إلى الأيدي المقاتلة أكثر، وأصبح التأكيد على ضرورة العمل الجبهوي أشد إلحاحاً وعلى أكثر من مستوى: وعلى الصعيدين الوطني والقومي.
أما على الصعيد الوطني اللبناني، فيتطلَّب انصهاراً لكل القوى اللبنانية بدون النظر إلى هويِّتها الطائفية أو انتماءاتها العقائدية أو السياسية، ومن هنا أكَّد الحزب على تلازم شعاري التوحيد والتحرير.
أما على الصعيد القومي العربي فيتطلَّب انصهاراً بين الشعبين الفلسطيني واللبناني، انطلاقاً من وحدة المصلحة بتحرير أرض شعبين احْتُلَّت من قِبَلِ عدوٍ واحد. وأن يكون الانصهار مستنداً إلى الوعي الاستراتيجي القومي العربي لأهداف الصهيونية التوسعية والعمل من أجل مواجهته قبل أن يمتدَّ خطره إلى أراضٍ عربية أخرى. فالحزب يَعِدُّ أن أرض لبنان سقطت في أيدي العدو لما أصبحت أرض فلسطين تحت الاحتلال ولم يتيسر أي جهد عربي لاستعادتها.
ولهذا فإن حزب البعث، وفي ظل غياب القوة النظامية العربية، وبإيمانه بالكفاح الشعبي المسلَّح، الذي يحتاج إلى زَجِّ كل الطاقات الشعبية العربية على المستويين القطري والقومي، أخذ يمارس دوره الجبهوي على الساحة اللبنانية، وبما يوفِّره له وضعه الأمني الخاص من إمكانيات الحركة والنضال. ومن أهم نشاطات الحزب في لبنان هي التالية:
-أطـر التنسيق الثنـائي: تطبيقاً لإيمانه بضرورة العمل الجبهوي، وفي الوقت الذي لم تكن فيه نجاح أية مبادرة لتشكيل قيادة جبهوية للفصائل المقاتلة، عمل الحزب-ومنذ أواخر العام 1983م- جاهداً لتأمين الحدود الدنيا من العمل المُشْتَرَك، فلم تفلح مبادرته إلا بتأمين بعض أُطُرِ التنسيق الثنائي المحدود بينه وبين عدد من التنظيمات على صعيد العمل العسكري في مناطق الجنوب المحتلَّة. وكان من نتائجها بعض العمليات العسكرية المُشْتَرَكة.
لكن تلك الأُطُر لم تصل، ولم يكن مُقَدَّراً لها أن تصل، إلى مستوى التوافق السياسي، لأن طبيعة المرحلة كانت تتَّجِه بالساحة اللبنانية اتجاهات تفتيتية، وظهرت نتائجها في تلك المرحلة بالذات. و من المؤسف أن بعض أطراف الصف الوطني كان مُنْساقاً في ذلك الخط-وما يزال- على الرغم من أن كل المؤشِّرات كانت تدل على أن التحالفات والمحاور التي شُكِّلَت في ذلك الوقت من: القوى الإقليمية مع القوى المحلية المذهبية، لن تصل بهذه الساحة إلى شاطئ العمل الوطني السليم.
-ممارسة أسلوب نقد الأخطـاء: كانت مرحلة الطهارة الثورية في العمل المقاوم ضد العدو تشهد أواخر أيامها بعد السادس من شباط/فبراير من العام 1984م، عندما ابتدأت اللوثات الفئوية تتصاعد.
كان قد عُقِد ما سُمِّيَ بالمؤتمر الأول لدعم المقاومة في نيسان/أبريل من العام 1984م، وأُلْقِيَت فيه الخُطَب الغزلية بالمقاومة و أسلوبها وعملها ونهجها وفعاليتها، وكان هو المؤتمر الأول والأخير أيضاً، و كأنه انعقد في سبيل أن يُكَرِّس أباً للمقاومة وأماً ليتم تسجيلها في دوائر النفوس باسم هذا أو ذاك من أدعياء الحرص عليها.
كانت المقاومة في ذلك الوقت تمر بثغرات، أو بتعبير أصح أن أمها وأباها المزعومين أخذا ينحدران بها إلى مهاوي ومتاهات التسابق الإعلاني/الإعلامي والاستعراضي الفئوي، وهذا السبب أخذ يعرِّضها للتشويه ويجرُّها إلى مخاطر التفتيت والشرذمة.
لذلك اضْطُرَّ حزب البعث العربي الاشتراكي إلى أن يُعْلِنَ عن قيامه بالعمليات العسكرية ضد قوات العدو، وأطلق على فصيله العسكري اسم " قوات التحرير" في 27/7/1984، حتى يتسنَّى له إبداء رأيه فيما يحصل من تجاوزات وثغرات كانت تُرْتَكَبُ باسم المقاومة( ).
كان دافع الحزب من إعلانه عن نفسه باسم يتميَّز به عن الآخرين هو التحذير مما كان يحصل، وحرصاً منه على أن لا تزداد الثغرات فتشكِّل نهجاً يصعب تصحيحه فيما بعد. ولذا فقد دعا الحزب في بيانه إلى توحيد الجهود العسكرية، وتمتين علاقات الفصائل العاملة، وإلغاء نهج الكسب الفئوي، والدعوة لاحتضان ظاهرة المقاومة على المستويين الوطني والقومي، وإلى دعم صمود الجماهير في داخل الأراضي المحتلَّة.
واستمرَّ الحزب في كل بياناته وتصريحاته ونشراته على نهج النقد الموضوعي للممارسات الخاطئة، التي ما فتئت تتكاثر وتَتَّسِع دائرتها كلما ازداد عدد المتسابقين إلى تحقيق مكاسب سياسية سريعة .
ما إن انقضى العام 1984م-ومع بداية العام 1985م- ومع إعلان حكومة العدو عن نيتها بالانسحاب من بعض مناطق الجنوب و البقاع الغربي، حتى أصبح التسابق للكسب الفئوي محموماً، وأخذ الجميع يتسابق على أن يسجِّل كل منهم باسمه ما له وما ليس له من نتائج عمل المقاومة.
ومع انتهاء مرحلة الانسحاب من مدينة صيدا وجوارها، أصدرت "قوات التحرير" بياناً تؤكِّد فيه على أن التحرير لم يكتمل، و ما زال أمام المقاومة عمل طويل وشاق، لذلك تستدعي المرحلة القادمة المحافظة على المكسب الذي حققته المقاومة، وتستدعي معها السرية والعمل الجماعي، والمحافظة على الوحدة الشعبية( ).
-حزب البعث العربي الاشتراكي يُعْلِن مشروعاً للعمل الجبهوي:
واستُكْمِلَت مبادرات الحزب في إعلان مشروع ميثاق عمل جبهوي للمقاومة الوطنية اللبنانية في السابع من نيسان/أبريل من العام 1985م. وكانت من أهم بنود المشروع ما يلي:
-أهمية العمل الجبهوي الذي «يزيد من الفعالية النضالية، و يزيد من قدرة المقاومة على الاستقطاب السياسي والشعبي»، ويُبْعِدُ عنها «المتاجرة السياسية، والكسب الفئوي» ذات التأثيرات السلبية على النضال الوطني الهادف إلى شعاري التحرير والتوحيد.
-تتكوَّن الجبهة من كل القوى المناهضة للاحتلال، والمنخرطة في النضال ضده.
-للجبهة هوية وطنية، ذات أبعاد قومية بالنظر إلى طبيعة الصراع القومي الذي تخوضه أمتنا مع العدو الصهيوني.
-وللجبهة برنامج سياسي تقوم أسسه على مبدأ النضال في سبيل تحرير لبنان، والمحافظة على وحدته وديموقراطيته وعروبته وعدم انحيازه.
-ويحدد المشروع، أيضاً، وسائل النضال وهيكلية الجبهة وبرنامج عملها على شتى المستويات.

5) النتائج التي تعكسها الصعوبات الموجودة على مستقبل المقاومة:
أصبحت، تقريباً، كل وجهات نظر القوى المشاركة في أعمال المقاومة ضد العدو الصهيوني واضحة من خلال استقراء مواقفها النظرية والعملية. ولهذا نستطيع أن نصنَّفها على الشكل التالي:
 القوى المذهبية المهيمنة، أمنياً وسياسياً، على الساحة التي تتحرَّك عليها المقاومة ضد العدو. وليس من مصلحتها أن تعمل في داخل إطار جبهوي يُقلِّص من هيمنتها؛ لأن من متطلبات العمل الجبهوي أن تتنازل عن بعض سلطاتها التي صادرتها من الآخرين، وليس من مصلحة القوى الإقليمية التي رتَّبت الأوضاع بما يتناسب مع مصالحها في الأمر و النهي أن يكون للقوى المهيمنة أي شريك من الممكن أن لا ينصاع إلى الأوامر.
 القوى التي تحسب أنها تمثِّل المقاومة الإسلامية بينما هي، في توجُّهاتها، لا تخرج عن الإطار المذهبي والفئوي. و هي من داخل اتجاهاتها لا ترضى بغير أن تلغي كل التيارات الأخرى، لأنها ذات اتجاهات سلفية مُتَعَصِّبَة. فهي لن ترضى أن تلتقي في دائرة عمل جبهوي مع أحد ما لم يكن يأتمر بأوامرها، لأنها تحسب أن أوامرها ذات مصدر قدسي/إلهي.
 بعض القوى الوطنية، التي انحازت للتحالف مع القوى المذهبية، ظناً منها أنها تمارس تكتيكاً قد يساعدها على استعادة دورها السابق، وقد فقدته. أو فلنقل أنها ارتضت مُكْرَهَةً أن تُسلَّم ريادة العمل للقوى المذهبية.
 بعض القوى الوطنية والقومية، التي ما زالت تؤمن بأهمية العمل الجبهوي، على أن يكون قائماً على أسس وطنية واضحة، التي يجب أن تترابط عضوياً مع عمقها القومي العربي بشكل أساسي.
لكل تلك الأسباب، واستناداً إلى الواقع القائم، فإن المقاومة الوطنية اللبنانية تمرُّ بأزمة حادَّةٍ، ليس على صعيد العمل الجبهوي الغائب فحسب، وإنما على صعيد انحرافها عن الأهداف السياسية والمبدئية. ولهذا فإن المقاومة تشهد، ومنذ أواخر العام 1985م، مزيداً من التفتُّت في جهدها وأهدافها.
لم تكن الرؤية الجبهوية غائبةً فحسب، ولكنها كانت غير مرغوبة على الإطلاق من قِبَلِ القوى الفئوية والمذهبية أيضاً؛ بل كانت تعمل على ضرب أي توجُّهٍ وحدوي حتى في داخل الصف الواحد.
أُصيبَت الساحة اللبنانية بمرض التعددية على قاعدة التناحر وليس التحاور. وإلى أن يعود الرُشْد إلى عقول المتناحرين، فليس أمام القوى التي تمتلك الرؤية الاستراتيجية في المقاومة، هدفاً ومنهجاً، إلا أن تتابع نضالها على أساس ذلك المنهج لأن مرحلة الجنون في حياة المجتمعات لا بد لها من أن تشهد نهاية ما.
فخير للمجتمعات أن تتناحر حول مفاهيم فكرية، وأن ترفض تلك المفاهيم-إذا شاءت- من أن تفئ إلى نفسها ذات يوم فتجد نفسها خالية الوفاض من أي مفهوم فكري. و على القوى المُخْلِصَة-ذات التوجه الاستراتيجي الوطني / القومي، أن تُصِرَّ على الالتزام بتلك المفاهيم، كدليل نظري، لأن الشعب اللبناني سوف يحتاجها في يوم ما، وهو الساعة التي سوف يصحو فيها فيعود إلى رشده، ولا بُدَّ من أن ذلك اليوم آت.


الفصـل الثـالث
المقاومة الوطنية اللبنانية، تكتيك أم استراتيجية؟
تمهيـــــد
استعرضنا في الفصل الأول المغالطات التي وقعت فيها معظم التنظيمات بالنسبة للمقدِّمات التاريخية والفكرية والسياسية، التي عملت على تكوين المقاومة الوطنية اللبنانية، والتي أبرزتها كظاهرة حققت قفزة نوعيَّة في مواجهة الاحتلال الصهيوني للأراضي اللبنانية في السادس من حزيران/يونيو من العام 1982م.
أما في الفصل الثاني، فقد استعرضنا واقعها الراهن، والتحولات التي رافقتها، والثغرات التي برزت في أثناء مسيرتها الحالية، من خلال متابعة النشاطات الفكرية والسياسية لمختلف التنظيمات العاملة في صفوفها. جاءت تلك النشاطات في سياق الموقع العقائدي و الفكري لكل تنظيم؛ وذلك إضافة إلى تفاعلها مع الواقع السياسي، الذي تعيشه الساحة اللبنانية: من تعدُّدِيَة مصالح الأفرقاء الداخليين، ومن تعدُّدِيَة المصالح الإقليمية، ومن التفاعلات الحاصلة من تعاون الداخلي مع الخارجي.
ومن أهم النتائج التي توصلنا إليها من خلال بحثنا عن الحقائق في وثائق تلك التنظيمات، ما يلي: غياب الفكر الجبهوي السليم والتهرُّب منه؛ وكان لكل تنظيم أسبابه وتبريراته، على الرغم من أن أياً منها لم يتنكَّر، كلامياً، لأهمية العمل الجبهوي في تدعيم العمل المقاوم والسير به على الطريق الصحيح والمُثْمِر.
وبما أن حزب البعث يَعِدُّ العمل الجبهوي حاجة ضرورية وواجبة لكل المقاومين في سبيل إعطاء نتائج جيدة ومفيدة وضاغطة على العدو المُحْتَل؛ وبما أنه يحسب أن أي عمل جبهوي لن يستقيم إلا إذا كانت الثورة الفلسطينية جزءاً أساسياً فيه، نتيجة الترابط العضوي بين القضيتين الفلسطينية واللبنانية.
وبما أن استقراء مواقف مختلف التنظيمات السياسية المشاركة في العمل العسكري والسياسي قد أكَّد على نتائج، ومن أهمها: اصطياد ثغرات أداء الثورة الفلسطينية، وممارسة الحصار العسكري والسياسي عليها، مما يعني شطب دورها بالكامل عن طريق مواجهة العدو.
وبما أن تعددية التنظيمات، العقائدية والسياسية، أصبحت بما يُشْبِه المُسَلَّمات فقد فُرِضَت عليها حواجز-منها ذاتي ومنها إقليمي-لا تدعها تفكر بأي عمل جبهوي.
لكل تلك الأسباب، كان لا بد من أن نطرح السؤال التالي: هل تعمل التنظيمات المُنْخَرِطَة بالعمل المقاوم لأهداف تكتيكية أم لأهداف استراتيجية؟
إن تحليلنا لتلك المرحلة سيمر بمرحلتين: الأولى، تستند إلى رصد النتائج التي حقَّقتها المقاومة فعلاً؛ أما الثانية، فتستند إلى تحديد المدى التكتيكي أو الاستراتيجي الذي تعمل على هديه التنظيمات المقاومة.
وسنعتمد مقياساً، لتحليل هذه المسألة، على قاعدتين أساسيتين:
-الأولى: إعتبار المقاومة حالة وطنية، تعتمد، في مضمونها السياسي، على الوحدة الوطنية منطلقاً وهدفاً؛ وفي مضمونها العسكري توحيداً لأداة التحرير.
-الثانيـة: إن المقاومة هي ذات بُعْدٍ قومي، تعتمد في مضمونها السياسي على وحدوية قومية في الصراع ضد العدو الصهيوني؛ وفي مضمونها العسكري على وحدوية عضوية مع المقاومة الفلسطينية أولاً، وعلى أي جهد شعبي أو رسمي عربي.

I-النتائج الفعلية التي حقَّقتها المقاومة الوطنية اللبنانية.
مما لا جدال فيه أن المقاومة الوطنية اللبنانية كانت تحوُّلاً نوعياً في المجرى التاريخي للصراع العربي-الصهيوني. فهي كانت حصيلة التجارب النضالية للشعبين اللبناني والفلسطيني على الساحة العربية بشكل عام، وعلى الساحة اللبنانية بشكل خاص. فكان لا بُدَّ لهذا التحول، كما أثبت الواقع، من يحقق نتائج إيجابية. وكان لتلك النتائج عدة مظاهر:
أ-التأثير الإيجابي على الروح المعنوية لجماهير الشعب العربي، والذي انعكس إيجاباً في تعزيز ثقة الجماهير بنفسها وبإمكانياتها على العطاء والنصر من بعد أن أُحْبِطَت معنوياتها بفعل الهزائم المتلاحقة على أيدي الصهاينة.
وقد جاءت تجربة المقاومة الفلسطينية، ومن بعدها اللبنانية، لتُخَفِّف من عقدة الخوف والنقص والضعف، التي كادت أن تُثْبِت معادلة سادت لمرحلة من الزمن، وهي أن التفوُّق الصهيوني أصبح حالة لا تُقْهَر؛ وأصبح الضعف العربي وكأنه دائم لا علاج له. وبالتالي لتؤكِّد معادلة جديدة أنه لا تفوُّق دائم بالمطلق، ولا ضعف دائم بالمطلق، بل هناك صراع دائم يُحْسَمُ لصالح أي طرف بقدر ما يوفِّر من المُسْتَلْزَمات الضرورية لخوض الصراع بكفاءةٍ أعلى.
ب-أثبتت التجربة أن حرب الشعب طويلة الأمد؛ لها أصولها وتكتيكاتها. وإن الشعب لن يستطيع أن يواجه حرباً نظامية بمتاريس وبقواعد ثابتة، لأنها لن تستطيع الصمود في وجه الآلة الحديثة. كما أثبتت التجارب-وآخرها اجتياح العدو الصهيوني للأراضي اللبنانية في حزيران/ يونيو من العام 1982م.
وفي تجربتها في مرحلة ما بعد عدوان حزيران، حاولت المقاومة الوطنية اللبنانية أن تتجاوز الأخطاء الفنية، التي وقعت فيها مع المقاومة الفلسطينية، في خلال المراحل السابقة؛ فتحوَّل أسلوب عملها من متاريس دفاعية ثابتة في مواجهة العدو إلى انتشار سرِّي خلف خطوطه وبين مواقع قواته، وعملت على اصطياد جنوده أينما كانوا. وبهذا، تحوَّلت المقاومة إلى الأسلوب الأصيل في الكفاح الشعبي المسلَّح، فاستطاعت أن تُربِكه إلى درجة استنزافه مادياً ومعنوياً.
ج-إن المقاومة الشعبية ضد الاحتلال، تُصيب النجاح و النصر بالقدر الذي تُمَثِّل فيه كرامة الشعب وعنفوانه، لأنه في مثل تلك الحالة سوف تحافظ الجماهير على المقاتل كما تحافظ على كرامتها.
مارس الاحتلال الإذلال على المواطنين اللبنانيين والفلسطينيين. وجاءت المقاومة المسلحة لتُمَثِّل الوجدان الشعبي الذي يريد الثأر لكرامته؛ و بهذا التقت إرادة الجماهير ورغباتها مع صلابة المقاتلين، لترتقي بظاهرة المقاومة السرية المسلحة إلى مقاومة شعبية رائعة، فعرفت القرى المحتلَّة العشرات من الانتفاضات الشعبية الرافضة للاحتلال. و من هذا المناخ المناسب و الطبيعي، الذي يحقق فيه الكفاح الشعبي المسلح النجاح، حققت المقاومة الوطنية اللبنانية التفاعل الجدلي بين العمل الشعبي المسلح والغضب الجماهيري، فكان كل منهما يرفد الآخر بوسائل الصمود والاستمرار.
عرفت المراحل الأولى للمقاومة تطويراً في العمل الفنِّي لحرب العصابات ضد العدو الصهيوني، وتفاعلاً بين العمل العسكري والانتفاضات الشعبية، وتنسيقاً عفوياً بين المقاتلين فصائل وأفراد، وتطبيقاً لأسلوب العمل السرِّي، وغياباً للاستعراض الإعلامي والعسكري، وغياباً للفئوية السياسية والمذهبية التفتيتية. لذا فقد مثَّلت المراحل الأولى، بالفعل، الطهارة الثورية في عمل المقاومة الوطنية اللبنانية؛ وكانت مدعومة، بشكل أو بآخر، من المقاومة الفلسطينية بالعتاد والمقاتلين.

1) النتائـــــج:
ولهذه الأسباب مجتمعة تحققت نتائج مهمة وفعلية لم يعرفها تاريخ الصراع العربي-الصهيوني، ومن تلك النتائج:
أ-إرباك جيش العدو واستنزاف معنوياته، وهذا يبدو واضحاً بالعودة إلى ما كتبته الصحافة "الإسرائيلية" عن حالة الجنود المعنوية.
ب-وقوع خسائر بين صفوف جنود العدو وصلت إلى مئات القتلى وآلاف الجرحى.
ج-ضرب عملاء العدو، فتراجع عددهم خوفاً من الملاحقة والموت.
د-إرباك العدو سياسياً في داخل كيانه؛ وقد برز من خلال تظاهرات الاحتجاج التي قام بها أهالي الجنود الموجودين في لبنان، وقادتها حركات صهيونية معارضة لحكومة الليكود التي أمرت بالعدوان على لبنان. وتزايدت موجات الاحتجاج الشعبي في داخل الكيان الصهيوني، وأصبح شعار الانسحاب من لبنان، الذي رفعه (حزب العمل الإسرائيلي)، من وعوده الانتخابية الأساسية.
هـ-تفاقم أزمة العدو الاقتصادية بسبب ما تكبدته الحكومة "الإسرائيلية" من نفقات على الحرب.
و-إعلانه، وبشكل سبق كل التوقعات، عن قراره بسحب جنوده من الأراضي اللبنانية لأنه كان يريد أن يتخلَّص من المستنقع اللبناني. وقد حصل الانسحاب، فعلاً، تحت ضغط ضربات المقاومة. وبهذا تكون المقاومة قد أفشلت مخطَّط العدو الذي كان يقضي من وراء عدوانه بعقد معاهدة سلام مع الحكومة اللبنانية.
تؤكِّد تلك النتائج أن هناك تطور نوعي جديد ومهم في تاريخ الصراع العربي-الصهيوني. وإنه من حقِّنا أن نعتزَّ بها، ومن حقِّنا أن لا تُجْهَضَ تلك الانتصارات. وإننا لا نريد، أيضاً، أن يكون النصر مُجْتَزَءاً وناقصاً، لأن في ذلك خيانة لدماء الشهداء، وخيانة لنضال المناضلين. واستناداً إلى كل ذلك، فإننا نتساءل: هل كان انتصار المقاومة الوطنية اللبنانية انتصاراً كاملاً؟ وهل حققت كل أهدافها؟
إنه لمن المؤسف حقاً أن تلجأ بعض الأحزاب اللبنانية، التي تعمل في إطار المقاومة الوطنية-ولأسباب دعائية-إلى تحميل المقاومة ضد العدو الكثير من الانتصارات التي ليست من طبيعة عملها وليست من أهدافها. أَوَ ليس من المُسْتَغْرَب-كما أشرنا سابقاً في هذه الدراسة- أن يكون تشكيل الوزارة اللبنانية، بعد السادس من شباط/فبراير من العام 1984م، من النتائج التي حققتها المقاومة الوطنية اللبنانية؟
أُوَ ليس من المُسْتَغْرَب، أيضاً، أن تكون من مهمات المقاومة الدخول في الحرب الأهلية اللبنانية لإسقاط الحكم اللبناني الذي كان قائماً حينذاك؟ فهل يُمْكِن للمقاومة أن تكون عامل تفتيت بدلاً من أن تكون عامل توحيد؟
هناك الكثير والكثير من النجاحات التي ألصقها بعض الأطراف اللبنانية، ممن يُسَمّْون على الصف الوطني، بدون مُسَوِّغٍ منطقي، مما أظهر تضخُّماً في النتائج التي حققتها المقاومة وبشكل لا يُصَدَّق. ويتَّضِح ذلك بالعودة إلى ما أشرنا إليه سابقاً و من مصادرها المُشار إليها في حينه من هذه الدراسة.
وعلى العكس مما صوَّرته وسائل إعلام بعض القوى، التي انخرطت في العمل المقاوم، إننا نحسب أن النتائج التي حققتها المقاومة كانت لا تتجاوز ما أشرنا إليه سابقاً. وإن زجَّ اسم المقاومة بما كان يحصل في خارج المناطق المحتلة هو في غير مكانه، وهو ليس إلا بدافع الاستهلاك الفئوي، ومن غير الجائز أن يتساوى الاقتتال بين أبناء الوطن الواحد مع القتال ضد العدو الذي يحتل أرضنا «لأن السياق الطبيعي لرفع وتيرة المواجهة هو الإصرار على حصر المعركة الأساسية مع العدو المحتل والمتعاملين معه» ( ).
إن المنطق الوطني، كمقياس نُحلِّل على أساسه النتائج التي حققتها المقاومة، لن يتعدَّى تلك التي فرضت على العدو الصهيوني كما وردت في حينه من هذا البحث.
فاستناداً إلى هذا المنطق، نستعيد السؤال حول المدى الذي استطاعت فيه المقاومة الوطنية اللبنانية من تحقيق أهدافها.
إننا نَعِدُّ انكفاء العدو عن بعض الأراضي اللبنانية المحتلة كان مجرَّد إعادة انتشار لقواته؛ وإن هذا لا يشكل انسحاباً فعلياً من الأراضي المحتلة، فالعدو لا يزال يحتل بواسطة عملائه شريطاً أمنياً واسعاً، وإن المواقع التي لا يزال يحتلها هي بمثابة موانع عسكرية استراتيجية، وهي تُمْسِكُ فنيَّاً بكل الأراضي التي انسحب منها العدو في الجنوب والبقاع الغربي وراشيا، وحدودها أصبحت كما يلي:
 خط جزين-كفرفالوس: فيكون بذلك قد انسحب من بوابة نهر الأَوَّلي فقط، لكنه ما زال يتمسَّك بالتلال الاستراتيجية المشرفة على تلك البوابة. وفي المنطق العسكري يستطيع السيطرة عليها متى يشاء، لأنها أصبحت بوابة للعبور بين بيروت والجنوب ليس أكثر.
 خط جـزين-شبعـا: وهو يسيطر، عسكرياً، على كل منطقة البقاع الغربي وراشيا الوادي من خلال إمساكه بتلال تومات نيحا، وتلال حاصبيا وشبعا، وهي أبراجٌ للمراقبة ذات فعالية عالية ضد كل تلك المناطق.
 خط جزين-قلعة الشقيف: وهو يُمْسِكُ بسلسلة التلال ذات المواقع العسكرية الاستراتيجية، والتي تسيطر على منطقة الزهراني والنبطية وصيدا وصور، ويستطيع العدو أن يراقب تلك المناطق بالتفاصيل، وأن يراقِب أية تحركات عسكرية نظامية فيها.
 خط قلعة الشقيف-تبنين: وهو يُمْسِكُ بالتلال المشرفة على وادي الحُجير، حيث تُعَدُّ وادي الليطاني، وادي الحجير،وادي السلوقي، بمثابة حواجز طبيعية تُؤمِّن حماية طبيعية لمواقع الاحتلال وعملائه.
 خط تبنين-البيَّاضة: وهو يُمْسِكُ بالتلال المُشْرِفَة على منطقة صور. ويُعَدُّ أقل مناعة عسكرية من الخطوط الأخرى.
وبالعودة إلى الخرائط العسكرية تتأكَّد صُوَرِيَةُ الانسحاب من خلال الإطلاع على الخطوط التي لا يزال يُمْسِكُ بها. وإن الحواجز الطبيعية التي تَلِفُّ حدود الحزام الأمني تُخَفِّف على العدو حشد قوات كثيرة، مما يعني وِفْراً له في الخسائر البشرية، وفي النفقات المادية.
إن العدو لا يزال يُؤثِّر تأثيراً مباشراً في الوضع السياسي على الساحة اللبنانية، لأن الانسحابات، التي حصلت، أتت لمصلحته من ناحية أمن قواته العسكري، وتوفيراً لنفقاته المادية، لأن ما حصل كان تقليصاً لرقعة احتلاله، ولم يكن إزالة لآثار الاحتلال؛ فالاحتلال ما زال قائماً، وتأثيراته السياسية على الوضع الداخلي في لبنان ما زالت قائمة أيضاً. ولهذا بقي أمام المقاومة مهمات كثيرة ومُتَشَعِّبَة وتتطلَّب الكثير من الجهد والإمكانيات.

ب-الثــغرات:
هل قدَّمت نتائج العمل المقاوم تأثيراً إيجابياً لصالح معركة التحرير؟ وبمعنى أوضح: هل تحوَّلت تلك النتائج لصالح تطوير عمل المقاومة نحو الأفضل، سياسياً وعسكرياً؟
كانت الفرصة ثمينة لدى جماهير الشعب والمقاتلين المناضلين في طرد الغزاة من الأرض؛ ولكن…في الوقت الذي كانوا ينتظرون فيه أن يقطفوا ثمار الانتصار الأول، ومن أهمها وضع جهد المقاومة في سبيل بناء وحدة شعبية وطنية مُتَراصَّة-على الأقل في المناطق المُحَرَّرَة-فإذا بالانتصارات قد وُضِعَت في سبيل خدمة المصالح الفئوية والمذهبية والإقليمية الضيِّقَة، وفي سبيل الوصول إلى أهداف سياسية وصولية من قِبَلِ حركة أمل.
إنطلقت حركة أمل من شعار الأمن بيدها والمقاومة للجميع وتحت إشرافها، والتي ادَّعت أنها أنشأت غرفة عمليات مُشْتَرَكَة لتنسيق جهود المقاومين ( ).
ولكن هل كانت حركة أمل جدِّيَة في حرصها على العمل المشترك على صعيد المقاومة؟
إننا نحسب أنها لم تكن جدية، وذلك بسبب إصرارها على استلام الأمن بمفردها في الجنوب. وكانت تفرض هيمنتها على كل الأطراف أولاً، ولعلامات الاستفهام التي كانت مطروحة حول تنسيقها في تسلُّم المواقع من قوات الاحتلال في أثناء انسحابها ثانياً.
إننا لا نجد لتلك العلامات سوى تفسير واحد هو ثقة العدو التي وضعها في الحركة لاستلام الأمن في مناطق انسحابه من دون أن يكون لها شريك آخر؛ وهذا الاستنتاج تؤكده وقائع الاعتقالات والتعذيب الذي كانت تتعرَّض له مجموعات مقاتلة محسوبة على أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية. و لذلك حالت "الهيمنة الفردية والهيمنة" دون قيام قيادة مشتركة للعمل المقاوم. وكان من نتائج الهيمنة والتفرد-كما عبَّر عنها مسؤول من حلفائها- وجود «من يقوم بقتل مجموعات من المقاومة الوطنية اللبنانية قبل أن تتمكَّن من الوصول إلى أهدافها» ( ).
رافقت الهيمنة المذهبية والفئوية على مناطق الجنوب مصادرة فئوية مذهبية أخرى للمقاومة تحت شعار إنكار مضامينها الوطنية والقومية عندما عَدَّها البعض أنها «مقاومة إسلامية»؛ وكان لهذه النظرة انعكاسات سلبية بالغة الخطورة على مسار المقاومة، وعزلها عن المدى الوطني اللبناني، وكذلك عن مجرى الصراع العربي-الصهيوني( ).
وبالإضافة إلى الخوف على أمن المقاومة والمقاومين، كان هناك خوف «من إفراغ هذه الظاهرة من محتواها القومي، ومحاولات تشويه جوهرها الحقيقي، وإضفاء طابع الكيانية والطائفية أو المذهبية أو المناطقية عليها»( ).
تنتاب الفصائل العاملة في المقاومة الهواجس والمخاوف من المظاهر الشاذَّة التي أخذت تتعمَّق في طريق المقاومة لتزييفها باتجاهات أخرى غير الاتجاهات المرسومة لها منذ عشرات السنين. و لا بُدَّ من التمييز بين نوعين من التمذهب والفئوية: الأول وتمثله حركة أمل، أما الثاني فتمثله ما تُسمَّى بـ«المقاومة الإسلامية».
أما حركة أمل، فإنها تمارس التزييف بالانحراف بالمقاومة باتجاه المذهبية والفئوية، وتعمل على تغليف تكتيكها تحت شعار زائف وسطحي من الوطنية والقومية؛ وكان يساعدها على ذلك عوامل إقليمية من جهة وقوى داخلية من جهة أخرى. ومن اللافت للنظر أن كل الأطراف الوطنية لا تجرؤ على الإشارة من قريب أو بعيد على تلك العوامل الإقليمية.
أما العوامل الداخلية وهي بعض القوى والأحزاب الوطنية، التي تقدِّم مساعدة للقوى الفئوية والمذهبية بشكل غير مباشر، بل أحياناً من منطلق انتهازي مُغَلَّفٍ بستار من التكتيك، فإنها لم تُقْدِم على توجيه نقد لحركة أمل من جرَّاء تصرفاتها.
أما "المقاومة الإسلامية" فمارست أسلوب تزييف المقاومة الوطنية اللبنانية بمحاولة إفراغها من أي محتوى وطني أو قومي، تاريخي ونضالي قبل 6/6/1982م؛ وهكذا تساوى موقفها مع الآخرين من الأحزاب الوطنية. ولم تكن ممارسة المقاومة الإسلامية مُغَلَّفَة بأي غلاف تكتيكي بل جاء هذا التفريغ مستنِداً إلى استراتيجية فكرية ذات محتوى ديني مُتَعَصِّب. وهي تنفي كل ما عداها من الأفكار والاستراتيجيات الأخرى.
تجاهلت بعض الأطراف الوطنية الإشارة إلى الجوانب الفكرية "للمقاومة الإسلامية" بسبب الخلفيات السياسية اللاقومية التي ميَّزت مواقفهم من الصراع العربي-الإيراني الدائر على الجبهة الشرقية للوطن العربي.
كادت النتائج، التي حققتها المقاومة، أن تُشكِّل تحولاً نوعياً في مجرى الصراع العربي-الصهيوني لو لم تحاول أكثر الأطراف إفراغ تلك النتائج من إيجابياتها، بوعي منها أو بدون وعي، إما بالانحراف بها نحو التقزيم المذهبي الفئوي، وإما باتجاه التلزيم لمصالح أخرى بعيدة عن معركة التحرير الوطنية وعن طريق جوهر الصراع العربي-الصهيوني( ).
لكل تلك الأسباب، نحسب أنه ما زال أمام المقاومة الوطنية اللبنانية الكثير مما يجب أن تناضل من أجله، فنتائج النصر لم تكتمل بعد. فالعدو لم ينسحب انسحاباً كاملاً، وما زالت رقعة احتلاله المباشر واسعة، واحتلاله غير المباشر يطال الجنوب بأكمله، بينما تحاول بعض الأطراف الجُدُد الطارئين على عمل المقاومة أن توهم الرأي العام بأن النصر قد حصل. وهي تمارس عملية تزييف الواقع لأنها بحاجة إلى كسب سياسي سريع يشكل لها الغطاء المطلوب في سبيل استكمال مشاريع سياسية قد لا تكون بالحسبان، وقد تصُبُّ في مصالح أخرى غير مصلحة تطوير عمل المقاومة، وبغير المصلحة الوطنية اللبنانية.
ولهذا نرى أنه أمام المقاومة الوطنية اللبنانية مهمتان:
-الأولـى: تصحيح الانحراف، الحاصل على المستوى المذهبي والفئوي ذي الغطاء الوطني، وعلى المستوى الفئوي-المذهبي الذي يحاول الاستئثار بالنتائج نافياً لغيره، وذلك بتصحيح مسيرة المقاومة من خلال منع التيارين معاً من احتكارها، وإعادتها إلى طريقها الوطني/القومي الصحيح.
-الثانيـة: متابعة مهمة تحرير الأرض من الاحتلال على قاعدة تصحيح مساراتها بتصحيح الاتجاهات السياسية المعرقلة لوحدة القوى المقاتلة.
لن تتحقق المهمتان إلا إذا أخذ العمل الوطني دوره مُجَدَّداً في إطار جبهوي ذي عمق وطني وقومي على المستويين الإيديولوجي والسياسي.

II - المقاومـة الوطنيـة اللبنانيـة، تكتيك أم استراتيجيـة؟
تكمن أهمية الحركات الثورية عندما تفرض تراجعاً عن الخط الاستراتيجي للقوى المعادية، وبالقدر الذي تحقق فيه تقدماً ملموساً في خطتها الاستراتيجية التي رسمتها لتصل، بواسطتها، إلى أهدافها المرسومة.
ولكي نستطيع أن نحدد موقفاً نقدياً موضوعياً من حركة المقاومة الوطنية اللبنانية، علينا أن نعرف-قبل ذلك- ما هي الأهداف التي رسمتها لنفسها؛ و ما هي وسائلها السياسية والعسكرية؟ لذلك سنتناول هذا الجانب بالتحليل عند الفصائل المشاركة فيها.
إن حركة المقاومة الوطنية اللبنانية حركة متعدِّدة التنظيمات. ويتفرَّع عن تعدديتها خصوصيتان: الأولى فكرية عقائدية، أما الثانية فهي خصوصية سياسية. ولم تعمل التنظيمات-حتى الآن-للارتقاء بنفسها إلى مستوى الجبهة، وإن كان هناك جهداً يُبْذَل فهو لم يتعدَّ سوى الأمنيات، التي لم يتسنَّ لها الظهور بشكل جدي، لأن هناك عوائق جدِيَّة تقف في وجهها، وبعض تلك العوائق ذات جنسية إقليمية وبعضها داخلي.
أما العوائق الإقليمية فليس في مصلحتها أن يقف أي مشروع تنظيمي وطني على رجليه، حتى وإن كان متوجِّهاً ضد العدو الصهيوني، وذلك لأسباب تكتيكية تخدم مصالحها القطرية.
أما العوائق الداخلية فتنطلق من عوامل وأهداف عديدة، تبعاً لخصوصيات التنظيمات العقائدية والسياسية.
1-الخصوصيات الفكريـة والعقائديـة لتنظيمات المقاومـة:
أ) التيـار المنـاطقي: إستندت بعض التنظيمات إلى عوامل الاستقواء بالخارج، وتحديداً بالعوامل الإقليمية؛ فحصلت بذلك على قيادة العمل الوطني ومصادرة قراره. وعلى الرغم من أنها لا تمثَّل عمقاً وطنياً على الصعيد الفكري والسياسي فقد استطاعت، مُسْتَنِدَةً إلى الاستقواء بالخارج، أن تحصر المقاومة الوطنية، ذات العمق الوطني والقومي، في داخل الاتجاه المناطقي والفئوي والمذهبي.
ومن كانت اتجاهاته ضيِّقة فسوف يفتقد العمق الاستراتيجي، ومن مصلحته أن ينحرف بالمقاومة إلى خطوات تكتيكية تخدم مصالحه الضيِّقة. و لا بد من أن تكون تلك التكتيكات دون المستوى الوطني بأشواط، فكيف بها لو حُوكِمَت بالمقياس القومي؟
ب) التيـار الأصـولي المذهـبي: يتميَّز بالعقائدية الدينية المُتَزَمِتة، التي لم تعرفها الساحة اللبنانية قبل العام 1982م. فقد جاءت غريبة عن المناخ الذي تأقلمت معه الأطراف الإسلامية، فوقعت في تناقض كلِّي مع الإيديولوجية الوطنية، التي اتَّسمت بها مرحلة السبعينات، التي اتَّضح فيها المشروع الجبهوي الوطني من خلال النضالات المتواصلة التي قادتها أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية.
وجاءت تلك الإيديولوجية لتتناقض، أيضاً، مع الإيديولوجية القومية التي اتَّسمت بها مراحل النضال القومي، منذ ما قبل نكبة فلسطين في العام 1948م، حتى الآن. و دفعت الحركة القومية العربية من جهدها ونضالاتها الشيء الكثير حتى استطاعت أن تشقَّ طريقها بعمق في حياة الأمة العربية، وفرضت تراجعات على كل الذين وقفوا ضدَّها وقفة معادية.
حملت الإيديولوجية الإسلامية السلفية عناصر فشلها في رحمها، فالمستوى النفسي الاجتماعي للجماهير العربية-ومنها الشعبين اللبناني والفلسطيني-ينفر من أي عامل يعالج المشاكل الراهنة بداء التفتُّت والتجزئة. وما كان يؤرق اللبنانيين هو ما كان يُشاع عن وجود مشروع كياني مسيحي، فإذا بهم يواجهون مشروعين اثنين بعد أن انتعشت الحالة السلفية في لبنان مُستظلَّة بالمظلة الأمنية الاستثنائية؛ وبهذا ازداد العبء لأن التيار الأصولي الإسلامي تبرير جديد لمشروع الكيان المسيحي.
إن المقاومة الوطنية اللبنانية، وإن شئنا أن نسميها مقاومة ضد العدو الصهيوني، أصبحت جامعاً مُشْتَرَكاً، ولكي يُكْتَب له دوام الاستمرار يقتضي أن تلتف من حوله كل الطاقات الوطنية والقومية. وإن كل دعوة تتعارض مع هذا فهي تعمل، حتماً، ضد الخط الاستراتيجي لجوهر المقاومة، و هي ليست سوى دعوة ظرفية تستخدم عامل المقاومة ضد العدو تكتيكاً لمصالح ضيِّقة ولمكاسب آنية تخدم مصالح قوى داخلية وخارجية.
ومن هنا، لا بد من التذكير أن تلك التيارات السلفية المذهبية، التي تعمل باسم الإسلام في مقاومة العدو، ليست إلا أداة للنظام الإيراني الذي يحاول أن يُبَرِّر وجوده في داخل مفاهيمه العقائدية المتعصِّبة التي تريد أن تُصَدِّر نفسها إلى خارج إيران. ولن تستقيم مهمة التصدير وتشق طريقاً لها في لبنان إلا من خلال شعارات تستهوي عقل الشعب العربي في لبنان ووجدانه. وليس أهم من الدعوة لمقاومة العدو الصهيوني، خاصة إذا كانت فريضة دينية، لاجتذاب المسلمين.
يتأكَّد الخط التكتيكي، الذي تسلكه التيارات الإسلامية، بالقدر الذي يبتعد عملها عن مصداقيته تجاه الخط الاستراتيجي، الخط الذي لا يمكن أن تكون اتجاهاته أدنى من تكتيل أوسع ما يمكن من القوى الوطنية والقومية من حوله في سبيل مقاتلة العدو الصهيوني، بدون النظر إلى الهويات الدينية لتلك القوى.

ج-التــيار الماركسي: إن هذا التيار يتعثَّر في مسلكه السياسي تجاه القضايا القومية منذ نشأته حتى الآن. وهو على الرغم من اقترابه، إيجابياً، أكثر من السابق تجاهها، فما زال قاصراً عن فهمها بشكل يرتقي إلى المستوى الاستراتيجي.
تأتي الإشارة إلى هذه الثغرة لكي نستطيع أن نقف على تحليل سليم لموقف التيار الماركسي من المقاومة الوطنية اللبنانية. و هو بالفعل كان يقف في موقع المزايد الدائم في مسألة المقاومة منذ أن أقرَّ شرعيتها، في أوائل السبعينات، بعد أن كان في صف المناوئين لها حيث كان يعدُّها عملاً مغامراً؛ وكأننا به في مزايداته الدائمة يريد أن يغطي مواقفه السابقة منها.
نشأت المقاومة-كما جاء على لسان أحد مسؤولي هذا التيار- "على أنقاض هزيمة الثورة الفلسطينية، و هزيمة الوجود العربي في لبنان، وهزيمة الحركة الوطنية سابقاً، شكَّلت انطلاقة ثورية جديدة، وطنية لبنانية ذات بُعْدٍ قومي عربي شامل". فعلى فصائل المقاومة الفلسطينية-يتابع القيادي الشيوعي- أن "يُوظِّفوا وجودهم وسلاحهم ونضالهم في خدمة تطور العملية الثورية فوق الساحة اللبنانية" لتأسيس قاعدة صلبة تساعدهم في استئناف معركة تحرير فلسطين( ).
يلخِّص هذا القول عدداً من المفاهيم الشيوعية التي على المقاومة أن تستند إليها في علاقاتها مع العروبة والقومية. فكأن موقف الحزب الشيوعي اللبناني يقول أن كل ما هو عربي في لبنان قد أُصيب بالهزيمة: سواءٌ من الوجود الفلسطيني أو من الوجود السوري، فلم يبق ثورياً على هذه الساحة سوى القطرية اللبنانية. ومن يمثل هذه الثورية القطرية غير حزب الطليعة، الحزب الشيوعي اللبناني؟؟!!
فلهزيمة الوجود العربي، كما يرى الحزب الشيوعي اللبناني، وجهان:
الأول: هو الوجود العربي النظامي الذي تمثِّله قوات الجيش السوري، التي تراجعت دون قتال وبشكل عشوائي أمام قوات العدو الصهيوني أثناء اجتياحها للبنان( ).
الثانـي: الوجود العقائدي، والذي تمثِّله «النظرة العروبية القافزة فوق العملية الثورية اللبنانية»، والتي ليست إلا جالية عربية للمركز العربي الذي يتولَّى القتال عنها( ).
وجُلَّ ما نخشى منه أن يكون المقصود في النقد الذي وجَّهه الحزب الشيوعي هو الفكر القومي العربي. وكأن مراجعات الحزب الشيوعي لمواقفه السلبية من القومية، في أواخر الستينات، لم تكن سوى تكتيكات عابرة.
أما الجانب الآخر من القضايا القومية، وهو ما له علاقة بالثورة الفلسطينية، بما تمثِّل من وجود مباشر على الأرض اللبنانية، وهي المقياس الأساسي التي تُقاس عليه النوايا تجاه الفكر القومي والقضايا القومية، فيما إذا كانت صادقة أو كاذبة.
يحسب التيار الماركسي أن القرار الوطني اللبناني كان مُصادَراً وخاضعاً لا ستراتيجية الثورة الفلسطينية قبل العام 1982م؛ ويحسب، أيضاً، أن جزءاً من قيادة الثورة الفلسطينية كان يتحمَّل مسؤولية هذا الإخضاع. وهذا الجزء -كما يسميه التيار الماركسي- هو اليمين الفلسطيني، وهذا اليمين يريد أن تُوضَعَ العملية الثورية في لبنان في خدمة الاستراتيجية الفلسطينية( ). بينما كان على الطرف الفلسطيني، من وجهة نظر التيار ذاته،"أن ينظر إلى الساحة اللبنانية بصفتها قضية وطنية لبنانية، يُصنِّفها قضية شقيقة وعلى قدم المساواة مع المقاومة الفلسطينية، رافد من روافد حركة ثورية واحدة، لها آليتها وقضيتها وخصائصها وبرنامجها". ولنه يُحَذِّر من الوقوع في شرك الاستقلالية وفق مفهوم انعزالي بعيداً عن الارتباط باستراتيجية عربية تقدمية شاملة( ).
يقع هذا التيار، فعلاً، في شرك الانفصالية في الوقت الذي يُحَذِّر منها، والسبب في ذلك-كما نحسب- فهمه الناقص لعلاقة الحركة الثورية في لبنان مع القضايا العربية بجانبيها : (الوجود العربي، والثورة الفلسطينية). أما كيف يقع في الشرك؟
إن التمييز بين وجود عربي من جهة، ووجود لبناني من جهة أخرى، لا يستقيم مع ادِّعائه بأن لبنان عربي الهوية، فلو هُزِم الوجود العربي في لبنان لكانت الهزيمة-في مثل هذه الحالة- قد لحقت بالتيار الماركسي أيضاً، هذا إن صحَّ ادِّعاؤه بهوية لبنان العربية، ولَهُزِم لبنان كله لأن لبنان بحد ذاته وجود عربي. وإذا كانت المقاومة الوطنية اللبنانية عربية العمق، فإن الهزيمة لا بد من أن تلحقها أيضاً. إذن، لماذا يميِّز الحزب الشيوعي بين انتصار المقاومة بجانبها اللبناني وانهزامها بجانبها العربي؟
إن تحذيره من الانفصالية لم يعفه من الوقوع في شَرَكِها، ومن هنا يبدو الانفصام واضحاً بين شعاراته و مضامينها.
لا شك بأن وقوع الحزب الشيوعي اللبناني في سوء فهم كلي للقضية، سيوقعه في فهم جزئياتها. ففهمه للقضية القومية العامة وعلاقات أطراف الصف القومي ناتج عن تفسيره لها على أساس تركيبي وليس على أساس عضوي؛ فالقضية القومية-عنده-تنطلق من استراتيجية عامة للنضال ضد الإمبريالية والصهيونية، حيث تلتزم فيها شتى فصائل حركة التحرر العربية «على أسسٍ برنامجية وتكتيكية»، على أن لا يعني هذا الالتزام-في مفهوم الحزب، «خرق استقلالها النسبي المُتأتِّي من تركيبها الطبقي، وانتمائها الإيديولوجي، وتميُّزها التنظيمي» ( ).
لقد كان خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، بعد اجتياح العام 1982م، وعدم مقاومة الجيش السوري له خارج إطار النقاط الجغرافية الاستراتيجية التي يَعِدُّها النظام خطوطاً حمراء، فرصة ذهبية للحزب الشيوعي اللبناني ليُظْهِر شماته بسقوط الاتجاهات القومية في الامتحان.
في معرض مداخلة له عن المقاومة الوطنية اللبنانية يُؤكِّد كريم مروَّة، أنه: «نشأ في لبنان، عبر التاريخ، تياران أسهما في تفكك الأسس التي تقوم عليها الوطنية اللبنانية. وهذان التياران ولَّدتهما النزعات الطائفية من جهة… والأخطاء التي ارتبطت بالدعوة المعاصرة إلى الوحدة العربية، والانخراط في النضال القومي العربي التحرري… [بشكل]… يتجاوز الحدود الوطنية لكل بلد، حتى التنافس المصطنَع مع القضايا الوطنية الملموسة لهذا البلد» ( ).
ينطلق الحزب الشيوعي، إذاً، من فهم تركيبي للقضية القومية، بينما القضية القومية تسعى إلى وحدة أجزائها بعد إزالة العوائق والعقبات التي كانت سبباً في تجزئتها، وصولاً إلى وحدتها السياسية القائمة على وحدة المنطلقات الإيديولوجية؛ و من هنا تأتي العلاقة العضوية بين مُختَلَف القضايا القطرية: وحدة في المنطلقات الإيديولوجية، ووحدة في المنطلقات السياسية، ووحدة في الأهداف الاستراتيجية. ومنطلقها الأساسي، فوق هذا كله «القومي الوحدوي».
فإذا كان الحزب الشيوعي، فعلاً، ينطلق من فهم استراتيجي لقضايا الأمة العربية، لأن منطلقاته القطرية التي يستند إليها، في معالجة تلك القضايا، يجب أن تصُبَّ في وحدة النضال، التي هي الخطوة الأولى على طريق وحدة الأهداف التي تناضل الأمة العربية من أجلها.
لكنه بمجرد القفز من المصالح القطرية إلى المصالح الأممية، متجاوزاً المصلحة القومية الواحدة، يُعَدًّ‎ُ قفزاً تكتيكياً مُغلَّفاً بقشرة استراتيجية قومية خالية من المضمون الوحدوي السليم.
فحينما ينطلق التيار الماركسي، وعلى رأسه الحزب الشيوعي اللبناني، من تجميعٍ لبرامج الحركات العربية الثورية على تلك الأسس التكتيكية مع الاحتفاظ باستقلالية كل حركة -طبقياً وإيديولوجياً و تنظيمياً- فإنه يُعَدُّ تجميعاً لجهود حركات متفرِّقة، كما لو أنه جمعٌ لنضال المقاومة الوطنية اللبنانية مع نضال حركة تحرير غرينادا-مثلاً-لأن كليهما يناضلان ضد الإمبريالية؛ فلو جمعتهما وحدة النضال ضد الإمبريالية فإنه لن تجمعهما وحدة المصير القومي.
ولذلك يمكن وضع برامج مشتركة لحركتين لا يجمعهما مصير قومي واحد. وقد تستفيد إحداهما من دعم الأخرى لها. فإذا كانت الحال كذلك-على الرغم من لإيجابياتها-فإنه يبقى لكل منهما خصوصياتها واستقلالها وانتمائها الإيديولوجي؛ ولكنه في النهاية لا يمكن عدُّهما "ذات عمق قومي واحد"، فهذه الحالة تصحُّ على مستوى استراتيجية النضال الأممي، ولا تصح على مستوى النضال القومي الوحدوي.
إستناداً إلى ذلك، فإن مطلب توظيف وجود المقاومة الفلسطينية، وسلاحها ونضالها، في خدمة تطور العملية الثورية في لبنان، لن يحل إلا إذا كانت المقاومة الفلسطينية في وضع أمني وسياسي ملائمين لكي يسمح لهما بالتكامل بين أهدافهما، وإلا إذا كانت قد وصلت إلى مرحلة متقدِّمة من أشواط التحرير. وفي هذه الحالة، على الثورة الفلسطينية أن توظِّف كل نضالاتها في سبيل خدمة القضية اللبنانية، و هكذا نكون كمن يداوي طغيان القطري الفلسطيني على القطري اللبناني بطغيان معاكس بالرضوخ الفلسطيني للطغيان اللبناني. وإلا يكون الحزب الشيوعي اللبناني بعد أن ارتاح من الوجود الفلسطيني / العربي في لبنان كمن يطالب بوراثة الإمكانيات المادية التي تركها الفلسطينيون في لبنان.
إن الانطلاق من هذا الموقف لا يستقيم مع مقياس وحدة النضال القومي الذي يفترض وجود حالة تفاعلية بين حركتين ثوريتين قطريتين على الساحة العربية، ضمن أدوار تكمِّل إحداهما الأخرى، بحيث لا تطغى قضية على قضية أخرى إلا بمقدار ما تشكِّل أولوية النضال في سبيل إحداهما إيجابيات على أساليب النضال في سبيل الأخرى. فهل، إذا ما وُضِعَت المقاومة الفلسطينية في خدمة المقاومة الوطنية اللبنانية تحصل، فعلاً، تلك الإيجابيات؟
إن القضية الفلسطينية هي القضية الأم، وما لحق بها من قضايا أخرى، كمثل احتلال جزءٍ من الأراضي اللبنانية، هي قضايا فرعية. وليس من المطلوب تأجيل النضال في سبيل فلسطين -القضية الأم- لوضعه في سبيل تحرير الأرض اللبنانية-القضية الفرع؛ وإلا فإنه، في هذه الحالة، يتحقق ما يصبو إليه العدو الصهيوني، لأن احتلاله للأرض اللبنانية-وفي هذا الظرف بالذات-نابع من حاجته إلى المحافظة على أمن مستعمراته الشمالية المُهَدَّدة من وجود المقاومة الفلسطينية في لبنان. فكان إبعادها أو وقف نشاطها كليَّاً، كحالة استراتيجية، هو الهدف الذي من أجله قام العدو باحتلال أجزاء واسعة منه. فلو عملت المقاومة الفلسطينية-كما يطلب الحزب الشيوعي اللبناني-بأن تضع سلاحها ونضالها في خدمة الحالة الثورية اللبنانية، وتنازلت عن حقها في تحرير فلسطين، لبلَغ العدو أهدافه الاستراتيجية، وفي ظل هكذا احتمال فإنه على استعداد لأن ينسحب من لبنان من دون أي عناء تبذله الحالة الثورية اللبنانية.
فما يقوله الحزب الشيوعي أن نعالج أزمة طغيان الثورة الفلسطينية على الحركة الوطنية اللبنانية، قبل العام 1982م، بأن تكون تلك الثورة في خدمة تلك الحركة، يعني الوقوع في الخطأ ذاته الذي أصبح مرفوضاً، ونكون كمن أستبدل طغياناً قطرياً بطغيان قطري آخر. إن ذلك الادعاء ليس إلا أسلوباً مفتعلاً لخدمة توجهات قطرية فئوية. ولهذا يُعَدُّ إيقاف جهد المقاومة الفلسطينية في سبيل خدمة الحركة الثورية في لبنان كأولوية نضالية ليس لها من مردود إيجابي إلا في جانب المصلحة التكتيكية للعدو الصهيوني.
ومن هنا يأتي الادعاء الشيوعي على أن تبقى المقاومة وطنية لبنانية مُغَلَّفَة ببعد قومي عربي أشمل، ليس إلا حلاً فئوياً خالياً من أي مضمون قومي عربي وحدوي.
أما أن المقاومة الوطنية اللبنانية قد جاءت-كما يقول الشيوعيون-على أنقاض هزيمة الحركة الوطنية سابقاً، فليست إلا محاولة منهم لفصل المقاومة عن مقدمات تكوينها التاريخية التي لم يكن لهم منها-سابقاً- سوى اتهامها بالعمل المغامر، وبالتالي رفض استخدامها كأسلوب ثوري في سبيل تحرير فلسطين لأنها-حسب الاستراتيجية الشيوعية السابقة- تعرقل العملية السلمية. وحيث إن هذه الدراسة أعطت حيِّزاً وافياً لبحث المقدمات والجذور التاريخية لظاهرة المقاومة الوطنية اللبنانية، فإننا-هنا-سنناقش فقط الخلفيات السياسية التكتيكية التي يستند إليها الشيوعيون اللبنانيون في قطعهم ظاهرة المقاومة القائمة الآن عن جذورها الوطنية.
فإذا كانت (الحركة الوطنية سابقاً) قد هُزِمَت فعلاً، وبما أن الحزب الشيوعي كان أحد الأطراف المشاركة فيها، فهو بلا شك قد هُزِم أيضاً.
إن هذه النتيجة ليست سوى إدانة لكل فصائل الحركة الوطنية اللبنانية، ومنها الحزب الشيوعي الذي أدان الجميع بالهزيمة، لأنه-كما يزعم ويتوهَّم-يمثِّل الطليعة في تلك الحركة السابقة. و هذا ما يُبرِّر ويؤكِّد ما تتهم به الحركات المذهبية الفئوية كل أحزاب الحركة الوطنية. وهو بحد ذاته تنازل عن المشروع الوطني، فكراً وسياسة، لصالح المشاريع المذهبية الفئوية؛ أم هل يحلم الحزب الشيوعي بأنه يقف في خارج دائرة الإدانة والتشهير والسقوط؟؟!!
فإذا صحَّت الاستنتاجات التي توصًّل إليها الحزب الشيوعي: هزيمة الوجود العربي في لبنان، بوجهيه النظامي الرسمي والعقائدي، وهزيمة الحركة الوطنية السابقة. وإذا كانت المقاومة الوطنية اللبنانية-كما يحسب-أنها وطنية لبنانية ذات عمق قومي عربي أشمل. فكيف يستقيم القياس المنطقي بالتوفيق بين هذين النقيضين؟ وكيف تكون المقاومة الوطنية وطنية بينما الحركة التي أعطتها اسمها مهزومة؟ وكيف تكون ذات عمق قومي عربي أشمل إذا كانت الهزيمة، أيضاً، قد لحقت بالحركة القومية العربية في لبنان؟!!!!
إن التناقض الواضح، الذي يقع فيه الحزب الشيوعي اللبناني، في تحليله لانطلاقة المقاومة، وإذا ما أضفنا إليه الصورة المشرقة التي أسبغها عليها في الوقت الراهن وكأنها خالية كلياً من الشوائب، ليس له غير دلالة واحدة تُخْتَصَر بهدف سياسي تكتيكي فئوي ضيِّق، يريد الحزب الشيوعي أن يصل إليه من خلال استخدامه شعارات المقاومة.
إن هدفه التكتيكي ينطلق من تشويه الفكر القومي العربي بشكل عام، وتشويه العمق الوطني اللبناني بشكل خاص، لتبرير طليعيته من خلال مشاركته الجزئية في أعمال المقاومة. ولن تكون تلك الطليعية حقيقية إلا إذا أسقط الحزب الشيوعي كل الأطراف الأخرى في الامتحان.
أُوَ ليس ذلك جنوح واضح نحو القطرية اللبنانية ما دامت هذه القطرية لا تنتج ظواهر مُشرِّفة إلا إذا كانت وطنية لبنانية تنتمي إلى الطبقات الكادحة، وعلى شرط أن لا يكون عليها أية وصاية قومية حتى ولا وصاية وطنية، إلا إذا كانت تسير تحت لواء حزب الطبقة العاملة، حزب العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين، ذو البعد الاستراتيجي الأمم؟!!!
إن الحزب الشيوعي اللبناني يعمل في سبيل أن تنحرف المقاومة الوطنية اللبنانية باتجاهات تكتيكية عبر شعارات قومية استراتيجية فارغة المضمون.
وتأتي منظمة العمل الشيوعي في لبنان، الفرع الآخر من التيار الماركسي، وهي ذات أصول تنتمي إلى حركة القوميين العرب. وعملت على الانخراط في «الكفاح الشعبي المسلَّح» ضد العدو الصهيوني. لكنها بعد أن ادَّعت أنها كانت رائدة للمقاومة الوطنية اللبنانية مع الحزب الشيوعي اللبناني من خلال بيان صدر عنهما في 16/9/1982م، فإذا بها بعد فترة وجيزة ترى في حليفها الماركسي السابق قاصراً، سياسياً وفكرياً، فهو لم يُنْصِت إلى دعوات توحيد صفوف التيار الديموقراطي ضمن المقاومة الوطنية اللبنانية وأدار ظهره «لكل دعوات الوحدة والتعاون أو حتى التنسيق» ( ).
غرقت المنظمة في فئوية مُتَعَمَّدَة إذ عملت على الفصل بشكل تعسُّفي بين مرحلتين من النضال ضد العدو الصهيوني لتبرير ريادتها في إطلاق النداء الأول في 16/9/1982م. لقد بترت المنظمة مرحلة ما قبل 16/9/1982م، التي مثَّلت النضال المشترك بين الشعبين اللبناني والفلسطيني، عن مرحلة ما بعدها، إذ حسبتها أنها «إشارة انطلاق فوري لكفاح مسلح لبناني البنادق والسواعد والهوية» ( ). وكأن تاريخ المقاومة تحدده جملة أدبية بليغة، هذا مع العلم أن الكفاح اللبناني الهوية والبنادق والسواعد لم يكن كما وصفته المنظمة، بل كان للمقاومة الفلسطينية دوراً مؤثِّراً وإن لم يكن مُعْلَناً لأسباب تقدِّرها قيادة المقاومة.
لم تقف المنظمة عند هذه الحدود، فهي تحسب أن المقاومة هي امتداد لنضال الجسم الذي بقي حياً في الحركة الوطنية( )؛ وهذا ما يدفعنا إلى الاستنتاج كم هي الفئوية عمياء عند المنظمة، وكأننا بها تريد أن تئد [ تدفن الإنسان وهو حي ] الجزء الآخر من الجسم وتنعيه، وذلك بأن تُميت من تشاء وهو حيٌ، للاستفراد بريادة المقاومة الوطنية اللبنانية التي وًلِدَت في وقت كانت المنظمة فيه لم تلد بعد!!! وقد وقعت المنظمة بالحفرة التكتيكية التي حفرتها للحركة الوطنية عندما أماتها حليفها الحزب الشيوعي-فيما بعد-عندما رفض متابعة التنسيق معها.
إن الفصل التعسفي بين هويتين قطريتين لحركتين عربيتين ثوريتين: المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية تربَّتا في خندق واحد، وإزاحة جزء من الحركة الوطنية اللبنانية-في لحظة شُبِّـه فيها للمنظمة أنه قد مات-لهو عمل غير منطقي وغير موضوعي، وهو ليس إلا دلالة واضحة على المدى الرخيص الذي وصلت فيه الفئوية والتسابق الأعمى في سبيل كسب تكتيكي سريع على حساب الأهداف الاستراتيجية للحركات الثورية؛ وبهذا لم يشفع دم الشهداء الذين سقطوا، منذ أواخر الستينات، لدى الفئوية الظالمة لتستفيق إلى نفسها وترحم فيه العمل النضالي.
فحبذا لو يستوعب الفئويون أن ما ينساقون إليه من تسابق وصراعات إعلانية يشوَّه-إذا ما استمرت-نضالات الشهداء والمناضلين، لأن طغيان الكسب التكتيكي على حساب الأهداف الاستراتيجية هو مقتل لهذه الاستراتيجية، و إنه من يميت الناس بمنطق فئوي سوف يجد من يميته بالأسلوب ذاته.
د-التـيار القومــي: إن الأطراف القومية التي خاضت الصراع ضد العدو الصهيوني تنحصر في التنظيم الشعبي الناصري وحزب البعث العربي الاشتراكي.
أما بالنسبة للتنظيم الشعبي الناصري فقد مارس الكفاح الشعبي المسلح في أثناء وجود الاحتلال في صيدا، واستكمل هذه المهمة على المحاور الشرقية، التي تفصل مدينة صيدا وضواحيها عن خطوط القتال مع العدو. ولكنه لم ينطلق في عمل دعائي فئوي كما كانت تفعل الفصائل الأخرى-على الرغم من محاولة الاغتيال التي تعرَّض لها أمينه العام-وإنما كانت وسائل إعلامه تستند إلى منطلقات عامة تؤكِّد على أهمية استمرار القتال ضد العدو بشتى الوسائل، كما كانت تؤكِّد على ضرورة الأطر الجبهوية. ولقد مارس ذلك من خلال تجربة الجيش الشعبي، والذي كان الإطار الجبهوي الوحيد-بعد غياب القوات المشتركة- الذي مُورِس بمشاركة تنظيمات لبنانية وفلسطينية في القتال على تلك الجبهة.
وأما بالنسبة لحزب البعث العربي الاشتراكي فكانت منطلقاته الفكرية والعقائدية تُوجِّه أسلوب اشتراكه في قتال العدو. فهي تستند إلى ضرورة الوحدة النضالية العضوية بين شتى فصائل المقاومة، فلسطينياً ولبنانياً، على أساس قومي يتطلَّع إلى زجِّ كل الإمكانيات القومية العربية-شعبياً ورسمياً- إلى جانب المشاركة في الكفاح الشعبي المسلح.
إن تكامل الأدوار بين الشعبي والنضالي، أو بين حركة ثورية قطرية و أخرى، هي من المسائل الأساسية لفهم الصراع القومي مع العدو الصهيوني، فهماً صحيحاً، على قاعدة أن هذا الصراع يحتاج لكل الطاقات والإمكانيات العربية المتاحة على طريق تأمين طاقات وإمكانيات أخرى لا تزال كامنة في شعبنا العربي. وإن تأمينها سوف يأتي نتيجة الحالة التفاعلية بين النتائج التي نحصدها من مرحلة الكفاح الشعبي المسلح وبين ما تغرسه من قناعات جديدة ووعي جديد لدى الأوساط الشعبية العربية؛ فيلعب الكفاح الشعبي- ساعتئذٍ -دوره. وكلما أعطى نتائج إيجابية في رفع مستوى معنويات الجماهير كلما أصبحت معطاءًةً أكثر في توفير إمكانيات جديدة ترفد ما هو موجود.
إن تكامل الأدوار بين القوى القومية المشاركة في الكفاح الشعبي والحالة التفاعلية التي تزرعها تلك القوى-كطليعة ثورية- يفترضان بناء أُطُرٍ جبهوية تنظِّم العلاقات بين الحركات والقوى المختلفة على الصعيدين الوطني والقومي.
وحيث أن الساحة الكفاحية تضم فصائل متعددة ذات عقائديات مختلفة على المستويين الفكري والسياسي، فإن الإطار الجبهوي-في مثل هذه الحالة-يتدرَّج من حده الأدنى إلى مستوياته الأعلى.
أما الحد الأدنى فيتمثَّل بأطر التنسيق المُبَرْمَج بين شتى الفصائل والحركات، وغالباً ما تكون أهدافه إحداث تغيير مرحلي يتناسب مع الجامع الأدنى المشتَرَك للأطراف المشارِكة على المستويات العقائدية والسياسية. يضمُّ هذا النموذج من العمل الجبهوي القوى ذات التوجه الوطني على مستوى المناطق كما على مستوى القطر/الوطن. ولهذا النموذج مهمات وطنية مُحَدَّدة بظرف وزمان معيَّنين، وهذا ما نطلق عليه تسمية الجبهة الوطنية.
تلتقي الجبهة الوطنية حول هدف لتحقيق تغيير ما-كمثل تحرير الأرض اللبنانية المحتلة- ولها مستلزَمات يتمثَّل حدها الأدنى بوحدة البرنامج السياسي، وترجمته من خلال ميثاق سياسي تنظيمي، فتعمل شتى الفصائل المُشارِكَة من خلاله على ممارسة المقاومة الوطنية ضد العدو المُحتَل.
وتمارس جميع التنظيمات عملها في ظل قيادة عليا تضمها، وتكون مهماتها إدارة المعركة السياسية، وحشد الإمكانيات الشعبية، والاتفاق على صيغ تنسيق للعمل العسكري كمرحلة أولى، وصولاً إلى الوحدة بين مجموعات المقاتلين( ).
إننا نَعِدُّ الانطلاق من صيغة العمل الجبهوي على المستوى القطري ضرورةً ومدخلاً أساسياً للوصول إلى مستويات أعلى من العمل الجبهوي على المستوى القومي. لكنه ما لم يمكن استيعابه على المستوى الوطني، وممارسته فعلاً، ليس بالإمكان ممارسته بشكل صحيح على المستوى القومي.
إن الخلل في فهم العلاقة بين العمل الجبهوي القطري/الوطني والعمل الجبهوي القومي ينبع-كما نحسب-عن الخلل الفكري العقائدي في فهم النظرية القومية الوحدوية.
لقد كانت الساحة اللبنانية، وما زالت، تشكِّل مختَبراً مهماً لتركيز نموذج جبهوي قومي سليم، و فرصةً تاريخية لتوضيح العلاقة، ميدانياً، بين النضال القطري والنضال القومي. وإن توفُّر تلك الفرصة آتٍ من وجود ثورة الشعب الفلسطيني على الساحة اللبنانية ممثِّلة لقضية فلسطين المحتلة من قِبَلِ العدو الصهيوني من جهة، ومن وجود قضية وطنية لبنانية ممثَّلَة باحتلال جزء من الأرض اللبنانية من قِبَلِ العدو ذاته من جهة أخرى.
إن مستوى العلاقة بين القضيتين والحركتين في سبيل مواجهة العدو المشترك، يمكن فهمها عند كل فصيل من الفصائل اللبنانية على ضوء الزوايا الفكرية والعقائدية لكل منها:
-إن الفصائل ذات المنطلق الطائفي-المذهبي، أو ذات الأفق القطري الانفصالي المتقوقع حول مصالح مذهبية فئوية تتعامل مع الفصائل ذات الاتجاهات الوطنية بسلبية تعود بأسبابها إلى التناقض الحاصل بين الفئوي-المذهبي والوطني. ولهذا فلن تكون مواقف الفصائل المذهبية إلا سلبية تجاه أي عمل جبهوي وطني، لأن الدعوات القائمة على منطق وفكر ومصلحة فئوية لن تكون إلا دعوات تفتيتية، بينما الدعوات ذات الأفق الوطني لن تكون إلا دعوات توحيدية.
وإن من يكون سلبياً، بفعل فئويته، تجاه المصلحة الوطنية لن يكون إلا فئوياً تجاه المصلحة القومية. ومَن تتعارض دعوته التفتيتية مع الدعوة الوطنية التوحيدية، لن يكون إلا على تناقض مع أية دعوة توحيدية قومية، وهذه هي حال تلك الفصائل في علاقتها مع الثورة الفلسطينية.
-أما الفصائل التي تنطلق من الزاوية القطرية، ومنها الفصائل الماركسية، فتؤسَّس علاقتها مع الثورة الفلسطينية من خلال تبادل الخدمات وتبادل المصالح. وعندما تصطدم مصالحهما القطرية تتسلَّل التناقضات إلى تحالفهما فيتحوَّل إلى صدام بين الطرفين.
-أما الفصائل القوميـة فتتحالف انطلاقاً من وحدة المصير في لبنان وفلسطين، لأن احتلال الأرض الفلسطينية بالفعل، حتى لو لم تكن أرض لبنان مُحْتَلَّة،هو احتلال لأرض لبنان بالقوة؛ فالمشروع التوسعي الصهيوني الاستراتيجي يشمل فلسطين ولبنان وغيرهما من الدول العربية. فالدفاع عن أي أرض عربية محتلة هو دفاع عن كل أرض عربية لم تُحتل بعد.
من هنا نرى إن الدعوات المذهبية، والدعوات القطرية حتى التقدمية منها، قاصرة عن فهم مبدأ العمل الجبهوي بين القطري والقومي، لأن المسألة لا تنطلق من حساب كمي للمصالح بين هذه أو تلك من الحركات، فالمصلحة القومية واحدة على المستوى الاستراتيجي حتى وإن تعارضت، مرحلياً، بعض المصالح القطرية في بعض مراحل النضال.
إن التعارض مسألة واقعية على المستوى الاجتماعي والسياسي، كما على المستوى البيولوجي، لأن بعض الدواء الذي يتناوله المريض لمعالجة داءٍ ما قد يكون علاجه الشافي، لكنه قد يحمل ضرراً لعضو آخر في جسم الإنسان، وعلى الرغم من أن الطبيب يدرك هذه الحقيقة فإنه يصف الدواء المحدد، لأن العلة التي يريد أن يعالجها قد استفحلت، فعلاجها واجب لدرء خطر أكبر مما قد يسبِّبه الدواء من آثار جانبية في أعضاء أخرى من الجسم.
إنَّ فَهْمَنا لهذه المسألة على الشكل الذي ذكرناه لا يعني، على الإطلاق، أن يُسْمَح لقضية قطرية أن تمارس طغيانها على قضية قطرية أخرى، وليس أن نضحِّي بقضية قطرية في سبيل أخرى، لأن المسألة ليست مفروضة علينا أن نختار أحد المصلحتين، بل إننا-من خلال فهمنا-لتكامل الأدوار في معركة المصير الواحد لا بُدَّ للمنطلقات القومية الوحدوية من أن تمنع حدود طغيان المصالح القطرية بعضها على البعض الآخر. ولا يمكن استيعاب المسألة إلا إذا تحصَّنت الحركات الثورية بالفكر القومي الوحدوي على صعيد العقيدة والممارسة.
إن الوضوح الفكري في هذه المسألة يؤهِّل الأطراف الوطنية، على مستوى كل قطر، أن تعمل في إطار جبهة وطنية على أن يكون عمقها الاستراتيجي جبهة قومية شعبية ورسمية، وذلك لإدارة معركة الصراع العربي-الصهيوني بكفاءةٍ وأداءٍ عاليين.
واستطراداً، فإننا نرى أن استفحال الحالة المذهبية والطائفية، كذلك الفكر القطري على الساحة اللبنانية، وبعض الوسط الفلسطيني، كان حائلاً دون بناء عمل جبهوي سليم قائم على فهم حقيقي لعلاقة النضال القطري مع النضال القومي.
تفسِّر لنا هذه المسألة العوائق التي وقفت في وجه الوصول إلى علاقة سليمة بين فصائل الحركة الوطنية وفصائل الحركة المذهبية في لبنان من جهة، وبينها منفردة أو مجتمعة مع حركة المقاومة الفلسطينية من جهة أخرى. وليس هذا فحسب، بل إن الأمور وصلت ببعض أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية-استكمالاً لذبح الشعب الفلسطيني من قِبَلِ الفصائل المذهبية-إلى الإسهام في ذبح القضية الفلسطينية سياسياً.
لن يعفي هؤلاء من المسؤولية أنهم وقفوا في خندق الدفاع عن تلك القضية طوال مرحلة ما قبل السادس من حزيران من العام 1982م؛ والتي فيها قدَّموا التضحيات بالدم والشهداء.
وإننا لا بد من أن نضيء على أن الحركات والأحزاب ذوات النهج القطري لم تكن تمتلك الوضوح الفكري للعمل القومي السليم لكي تستطيع، من خلاله، أن تفهم العلاقة مع المقاومة الفلسطينية بشكل موضوعي قائم على قاعدة معركة المصير القومي الواحد، مما كان سبباً أوقعها في كثير من الأخطاء والثغرات من دون أن تعني هذه المسألة شيئاً كثيراً لتلك التنظيمات. وما إن انتكس الوضع الفلسطيني، بعد حزيران/يونيو من العام 1982م، حتى كَثُرَ الجلادون والسلاَّخون لجلد البقرة التي وقعت. بينما كان التزلُّف والمجاملة سيدا الموقف عند تلك الأطراف الوطنية. ومن تلك الأخطاء والثغرات نفذت القوى المذهبية والقطرية والإقليمية المعادية لكي تُضْعِف مواقع منظمة التحرير الفلسطينية. ولكن هذا لن يعفي قيادات الفصائل الفلسطينية، مجتمعين تحت سقف منظمة التحرير أو كانوا منفردين، من أن يتحملوا مسؤولية الأخطاء، التي ارتُكِبَت، بفعل عدم وضوح الارتباط بين ما هو قومي وما هو قطري.
إن الاستفاضة في هذه المناقشة الفكرية من جهة والنقد الهادف إلى التصحيح من جهة أخرى، تُشكِّل أساساً مهماً لفهم واقع المقاومة الوطنية اللبنانية الراهن ومستقبلها القادم. فنحن نحسب أن سيادة المنطق والقرار المذهبيَين والقطرييَن، وغياب التأثير الفاعل للفكر القومي الوحدوي، سيكون لهما الأثر السلبي البالغ في سلبيته على مستقبل المقاومة اللبنانية.
إن المقاومة الوطنية اللبنانية-في هذا الظرف-أخذت تنحدر أكثر فأكثر إلى القوقعة في داخل أسوارها القطرية، وقد تصل-كما تدل المؤشرات الراهنة-إلى القوقعة في داخل أسوارها المناطقية انحداراً إلى السجن المذهبي الفئوي، وفيه يكمن مأزقها و مقتلها الحاد والمخيف معاً.
ولا بد من التأكيد-كما سبق وأشارت هذه الدراسة-على أن المشاكل والثغرات الاستراتيجية، التي تقف في وجه المقاومة، و أهمها غياب الأفق الوطني والقومي، قد أفقدها الحظ في حتمية الوصول إلى أي وجود أو عمل جبهوي يؤسِّس لمسيرة صحيحة وأداء سليم.
كان الأفق الوطني، حتى عند التيارات الماركسية، غائباً: لقد هزم البعض غيره من الأحزاب ليُبَرِّر أنه البطل الوحيد الباقي في الساحة، وأماتها البعض الأخر ليبقى وحده الحي الدائم. وجاءت القوى المعادية لتستولي على جميع المكتسبات الوطنية التي تحققت على مدى عشرات السنين من التضحية والجهد والدم والشهداء. وما يُثير العجب، أيضاً، أنه لم يسلم من المصادرة والاستيلاء تلك القوى التي ادَّعت التقدمية والحياة لوحدها !!!
أما غياب الأفق القومي، فقد جاء البعض ليهزمه على الرغم من أنه كان شريكاً كاملاً له، والبعض الآخر جاء ليبني على قبره شعاراً قطرياً نرجسياً باسم عمل مسلح لبناني البنادق والهوية، ويُعرِّي الأفق القومي من دوره في القوات المشتركة الفلسطينية-اللبنانية طمعاً في كسب سياسي فئوي أغرقه في التأكيد على لبنانية المقاومة كهوية قطرية.
وتأتي، أخيراً، القوى المعادية لتستلب كل الجهود الوطنية والقومية وتشوِّهها، لتُنَصِّب نفسها من قزم تطاول كثيراً على الأمة العربية إلى مُدافِعٍ عن شرفها كما يحلو له الادِّعاء!!!

III - خاتمـــة: حتى لا تصبح التجربـة حلمـاً.
إن تعدد المواقف التي تتفاعل في داخل فصائل حركة المقاومة الوطنية اللبنانية لم تقف عائقاً في وجه تنامي العمليات العسكرية ضد العدو الصهيوني، لأنها تحمل جامعاً مُشتَرَكاً يًمثِّل الحد الأدنى الذي يتَّفق عليه الجميع وهو طرد العدو من الأراضي اللبنانية دون قيد أو شرط.
وحتى لو اتَّفقنا بأن الحركات الثورية تعمل لتحقيق أهدافها على مراحل، فإننا نَعِدُّ أن المرحلة الأولى، في استراتيجية التحرير القومي، تُخْتَصَر الآن في التركيز على طرد العدو من الأرض اللبنانية المحتلة، فإننا نتساءل ماذا أعددنا لهذه المرحلة؟ وما هي الأهداف التي حققتها حركة المقاومة؟ وما هي الأهداف التي عليها أن تحقَّقها؟
لا شك بأن المقاومة قد حققت إنجازاً مرحلياً مهماً، وذلك بعد أن استطاعت أن تفرض الانكفاء على العدو، ولكن أين يصُبُّ هذا الإنجاز في هذه المرحلة؟
على الحركات الثورية أن تعمل للمحافظة على إنجازاتها، للانتقال إلى مراحل أكثر تقدماً، و لكي تحافظ على التعبئة النفسية لمناضليها لتمدَّهم بآمال النصر، وهي الوقود الضروري للمناضلين. فهل استطاعت المقاومة، ممثلة بالفصائل الحزبية التي تقودها، أن تحافظ على ما تحقق من إنجازات؟
لم يستطع التيار الوطني والقومي المقاوم أن يحافظ على إنجازاته، لأنه لم يخطط استراتيجياً لمعركته، فهو أصبح-في هذا المضمار-في مستوى الحركات الظرفية، ولكن كيف؟
هناك، على الأقل، ثغرتان بارزتان:
الثغرة الأولى: خضع التيار الوطني والقومي، بالترهيب والترغيب، لقيادة الحركات الظرفية عندما تنازل عما حققه من إنجازات مرحلية لصالح قيادة حركة "أمل"، وإن هذا التنازل سوف يجر إلى تنازلات أخرى. وتتمثل خطورة هذا التنازل بإعطاء قيادة العمل الوطني المشترك إلى طرف غير متهيئ فكرياً وسياسياً وتنظيمياً، فلا بد أنه لن يصل بالسفينة إلى شاطئ الأمان.
الثغرة الثانيـة: لم ينعم الوطنيون، الذين كان لهم دور مهم في المقاومة، بحلاوة النصر، لأنهم أُبقوا في خارج مناطقهم و منازلهم، وليس إلا لسبب أنهم محظور عليهم الرجوع إليها بقرار من القوى المذهبية/الفئوية، التي فُرِضَت قسراً رائدة وقائدة للمسيرة تحت سمع وبصر، وأحياناً بلامبالاة أطراف الصف الوطني اللبناني.
من هنا، وفي ظل غياب الرؤية الاستراتيجية لقيادات الحركة الوطنية اللبنانية، ما زالت تلك القيادات تعمل على أسس تكتيكية قصيرة النَفَس، وهي تتراوح بين محاولات الكسب الفئوي السريع من عملها في المقاومة، وبين لهاث بعض قيادييها للحصول على مواقع صُوَرِيَّة في تركيبات سياسية صُوَرِيَّةٍ أيضاً.
إن ظاهرة المقاومة، التي انحنى لها شعبنا اللبناني والعربي تكريماً وإجلالاً، مُهَدَّدة لأن تصبح حلماً جميلاً، مرَّ من أمام أعيننا كالسراب، إذا لم يبادر كل المخلصين إلى الارتقاء بها من مستوى التكتيك إلى مستوى الاستراتيجية، لتنطلق من تحرير الجنوب إلى مستوى المشروع السياسي الوطني الذي، لوحده، يضمن وحدة لبنان كله.
وحتى لا يبقى عنوان «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» بلا محتوى تنظيمي، وتبقى مطيَّةً لرغبات المتسلقين والانتهازيين، الذين ركبوا موجتها بعدما أبتت فعاليتها؛ وحتى لا يبقى المناضلون في صفوفها غرباء عن الأرض أو على الأرض التي أسهموا بجدية في تحريرها.
وحتى لا يتحوَّل المناضلون إلى حاملي أوامر مهمة تحت وصايةِ قيادةٍ لم يختاروها، بل ممن يستخدمون ويستغلُّون دماء الشهداء وجهد المناضلين في سبيل تحقيق مصالح فئوية ضيِّقة.
وحتى لا تتقوقع هذه الظاهرة الاستراتيجية في إطار تكتيكي ضيِّق يعجز عن تحقيق الطموحات الوطنية.
لكل ذلك ندعو كل المقاومين، الذين انخرطوا في صفوف المقاومة-منذ أواخر الستينات حتى الآن-إلى الاتفاق على صيغة جبهوية متكاملة، ذات محتوى تنظيمي وسياسي-كضمان أساسي لاستمرار مسيرة المقاومة الوطنية اللبنانية-وتحويلها بالفعل إلى جبهةٍ للمقاومة الوطنية.
***

المصـادر والمراجـع
-أنصار جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية: الاحتلال والمقاومة(دراسات ووقائع): بيروت: 1985.
-حزب البعث العربي الاشتراكي: المنهاج الثقافي المركزي(خاص بالأعضاء)[ج1]:بغداد: 1987: ط1.
-……………....……: الجنـوب المقـاوم : بيروت: د.ت: دون ترقيم الصفحات.
-الحزب السوري القومي الاجتماعي: الفكر المقاوم (ندوة البوريفاج التي أقامها في بيروت بتاريخ 2-3 حزيران/يونيو 1984م): مؤسسة فكر للأبحاث والنشر: بيروت: د.ت.
-حطيـط، د. كاظم: المقاومة الوطنية: منطلقات وأبعاد: دار الكاتب: بيروت: 1986: ط1.
-الرافعي، د. عبد المجيد: آراء ومواقف في القضية اللبنانية: منشورات حزب البعث العربي الاشتراكي: بيروت: 1983.
-شـيفر، شـيمون: كـرة الثــلج: بيروت: 1983: ط1.
- شـيف، زئـيف: الحرب المُضلِّلَـة: دار المروج: بيروت: 1985.
-عيتاني، محمد زكريا: إسرائيل والمقاومة الوطنية اللبنانية: دار المسيرة: بيروت: 1984.
-مروَّة، كريم: المقاومــة : دار الفارابي: بيروت: 1985.
- إجتيـاح لبـنان: وكالة مختارات الأخبار العربية والعالمية: بيروت.
-قضيـة فلسطين (1944-1964) [ج1]: دار الطليعة: بيروت: 1981: ط1.
-المجلس الثقافي للبنان الجنوبي: عامان من الاحتلال عامان من المقاومة: بيروت: 1984.
-………………….:المقاومة الوطنية اللبنانية، طريق التحرير والتوحيد: بيروت: 1984.
-يوميات الغزو الإسرائيلي : المركز العربي للمعلومات: بيروت: 1983.
-يسـاري لبناني: اليسار الحقيـقي واليسار المغامر : دار الفارابي: بيروت: 1970.

المجـلات والجرائـد
- مجلة بيروت المساء: بيروت: العدد 214: تاريخ 15/9/1986.
-…………….: تاريخ 21/9/1987.
-مجلة جماهـير لبـنان: بيروت: العدد 59: تاريخ 25/3/1978.
-……………: العدد 96: تاريخ 2/12/1978.
-مجلة جماهـير لبـنان: العدد 108: تاريخ 24/2/1979.
-……………...............:تاريخ 29/3/1980.
-جريدة الســفير: بيروت: تاريخ 23/6/1986.
..............…………: بيروت: تاريخ 26/6/1986.
-............…………: بيروت: تاريخ 30/6/1986.
-............…………: بيروت: تاريخ 3/7/1986.
-…...........……………: تاريخ 14/8/1986.
-...........………………: تاريخ 1/9/1986.
-...........………………: تاريخ 4/9/1986.
-...........………………: تاريخ 25/9/1986.
-............………………: بيروت: تاريخ 29/9/1986.
-...........………………: تاريخ 16/10/1986.
-…...........……………: بيروت: تاريخ 20/10/1986.
-………………...........: تاريخ 6/10/1987.
-جريدة النـداء: عدد خاص: رقم 8773: تاريخ 27/9/1987.
-مجلة النهار العربي والدولي: بيروت: العدد 547: تاريخ 26/10/1987: ص 12.
-مجلـة الـطريـق : بيروت: العدد 8: تاريخ آب/أغسطس 1975.
-.............…………: العدد 2: تاريخ نيسان/أبريل 1978.
-..............…………: العدد الثالث: تاريخ كانون الأول/ديسمبر 1982.
-…..............………: بيروت: العدد 5: تشرين الأول/أكتوبر 1986م.
-مجلة فكــر: بيروت: العدد 65.
-مجلـة المنطـلق: بيروت: العدد 34: تاريخ تموز/يوليو 1987.
-.............………: بيروت: العدد 36: تاريخ ت1/أوكتوبر 1987م.
-وكالة أنباء الجنوب ( مجا): العدد 616: تاريخ 21/10/1987.
-(الأرشيف الخاص بالمطران بولس الخوري) : تاريخ 30/3/1985. و3/8/1985. و22/2/1986. و14/6/1986.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق