بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 19 يناير 2010

حوارات ومناقشات (3)

(7): طاولة حوار في 1 / 8 / 2001 - صور
حول كتاب (نحو طاولة حوار بين المشروعين القومي والإسلامي)

مداخلة مكتوبة من قبل مروان:
للحوار حول كتاب (نحو طاولة حوار بين المشروعين القومي والإسلامي)، أقول لقد اكتشف البعث خيوط العلاقة بين العروبة والإسلام منذ تأسيسه، فنسج بينهما عقيدة البعث. فما هي مكانة الأمة من الإسلام، وما مكان الإسلام من الأمة؟ وما معنى الرسالة الخالدة؟ يقول المؤسس رحمه الله: لا يفهمنا إلاَّ المؤمنون، المؤمنون بالله، لأننا قد لا نُرى نصلّي مع المصلين، أو نصوم مع الصائمين، لكننا نؤمن بالله، لأننا في حاجة مُلحّة وفقر إليه عصيب. فعبئنا ثقيل وطريقنا وعر، وغايتنا بعيدة، ونحن وصلنا إلى هذا الإيمان ولم نبدأ به. كسبناه بالمشقة والألم ولم نَرِثْه إرثاُ ولا استلمناه تقليداً، فهو لذلك ثمين عندنا لأنه مُلكنا وثمرة أتعابنا.
هل نحن حقاً مؤمنون؟ وما تعني القومية المؤمنة؟ وكيف نترجم هذا الإيمان؟
كيف امتزجت العروبة بالإسلام؟ وكيف تكاملا؟ هل نحن قوميون أم نحن إسلاميون، أم نحن النسيج الكامل بين القومية والإسلام؟ أي إسلام نؤمن ونريد؟ أإسلام الحضارة والتراث والتاريخ، أم إسلام الشريعة والقانون والطقوس؟ هل البعث يؤمن بالمادة قبل الروح أم بالروح قبل المادة؟ هل نحن حزب علماني أم ديني؟ وماذا تعني العلمانية؟ هل تعني فصل الدين عن الدولة، أم تعني المساواة أمام القانون والدستور، وتعني العدل بين الأديان بالحقوق والواجبات؟ كيف يصون دستور البعث حقوق الأديان والحريات؟
لقد ولد الإسلام على أرض العرب، وعالج قضاياهم ومشاكلهم وهمومهم، فكان دستور العرب، وكان الرسالة الإنسانية، وكان كل القِيَم والأخلاق، فأصبح أباً للعروبة. وأصبحت أمة العرب عظيمة حيث أعطاها معنى الحياة والخلود التي هي جهاد وفكر ومبدأ وعقيدة. فلا خوف على العروبة مقترنة بالإسلام، ولا خوف على الإسلام مع خير أمة أُخرِجت للناس، أمة العرب. فالبعث مزج الإيمان بالعقلانية.
لقد صدر حكم بالإعدام على المؤسس المرحوم ميشيل عفلق في حياته، وعلينا أن نناقش بموضوعية حتى لا نحكم عليه بالإعدام مرةً ثانية في مماته، ونتنكّر لعطاءاته وفكره ونضاله من أجل البعث والأمة العربية.
هذه المقدمة جزء لا يتجزّأ عن مداخلتي حول موضوع البحث.
أبدأ بالاستفسار عن عنوان كتاب الباحث (نحو طاولة حوار بين المشروعين القومي والإسلامي). فأقول: إن العروبة هوية وحدود طبيعية وتاريخية ولغة ومصير وشعب ومجتمع، والقومية مبعث النظريات، وهي التعبير المتطور للزمان والمكان. والإسلام مقوّم من مقومات القومية. فالإسلام، كتجربة ثورية وعقيدة وقضية، أمة بتصور إنساني ونضالي بأعلى مراحله، لما فيه من تنظيم دقيق وتثقيف. فهو تجربة ثورية: السماء متداخلة مع الأرض. هو الذي يكوّن روحها وقيمها وأفقها الحضاري، إنه جوهر العروبة، وملهم ثورتها، وهو الثقافة القومية للعرب على اختلاف أديانهم.
إن طاولة الحوار بين مشروعين لا يعني البعثيين لِما اكتشفوه من ترابط وتكامل وتلازم بين العروبة والإسلام، بل يعني تحديداً المتعصبين قومياً دون اكتشاف مضمون ونظرية القومية، بل يعني الإسلاميين الذين لم يكتشفوا جوهر الإسلام ومضمونه. أما البعثيون فيعتبرون أن القومية والعروبة هي حالة حضارية إنسانية عربية فاعلة، والإسلام فعلٌ تغييري وثوري ونهضوي وحضاري وعلمي. إننا دائماً حيث العروبة الصحيحة وحيث الإسلام الصحيح. فالبعثي قومي إسلامي بالانتماء والجوهر.
أما حول ما يقول به الباحث من أن أفكار ميشيل عفلق ملهمة وليست ملزمة، فنقول: وما هي وصية عفلق؟ إن المرحوم ميشيل عفلق هو من اكتشف النظرية القومية والعقيدة العربية، وهو الذي قال: إنني وضعت العناوين وعلى البعثيين البحث والتوسع. إن الفكر البعثي أصيل، لكنه بحاجة إلى توسيع وتفصيل وإلى صياغة علمية لنقله من الشكل العفوي الذي ظهر فيه. وفلسفته وفكره حدّدا الترابط القومي بالطبقي، و العروبة بالإسلام، وهو الذي تنبّأ بمعجزة الوحدة العربية إذا تحققت، ولم يتعارض أو يتناقض فكره وفلسفته ونظريات البعث منذ التأسيس وحتى وفاته. كانت أفكاره مترابطة، وتحليلاته وفلسفته بالنظرية والممارسة منسجمة، وقد تبنّاها البعثيون بكل تفاصيلها، ولم يلغ البعث أياً من أفكاره ونظرياته وفلسفته. والشيء الوحيد، أقول الوحيد، الذي مارسه دون إعلان عنه، وحتى لا يكون ملزماً للبعثيين هو اعتناقه الدين الإسلامي، ولم يكشف هذا السر إلاَّ بوصيته وبعد مماته. هذا ما أراده هو حتى لا يكون ملزماً للبعثيين، ولصون حرية المعتقد الديني في دستور البعث.
عن الخط البياني، الذي عبَّر عنه الدكتور عمارة، ملزم له، وهو استنتاج شخصي يعود تقديره الخاص إليه وحده. أما اعتناق ميشيل عفلق الدين الإسلامي فهذا ما يخص معتقده الديني وحرية المعتقد الديني. ولو عاش عفلق مئة عام لن يعلنه قبل مماته حتى لا يصبح هذا ملزماً للبعثيين.
يقول الباحث: حينما فضَّل عفلق أن يعتزل العمل السياسي والحزبي ليتفرّغ لعمله الفكري. ولقد تفاجأت بما قاله الباحث بأن عفلق اعتزل العمل الحزبي وتفرَّغ للعمل الفكري. إن المرحوم بقي يناضل في صفوف البعثيين وفي المواقع المتقدمة حيث كانت المعارك على الجبهة الشرقية وفي فلسطين وبمواجهة أعداء الأمة، وكان يطل علينا بالمناسبات والمنعطفات ليوجّه كلمة للبعثيين يحثهم فيها على التماسك والنضال ومقارعة الأعداء، وبقي أميناً عاماً للحزب يمارس دوره الحزبي والسياسي في القيادة القومية، وبقي أميناً عاماً حتى مماته. وهذا يعني، أيضاً، أنه أنتج فكرياً خلال فترة ممارسته المهمات الحزبية.
يقول الباحث: إنني من المؤيدين لوجهة النظر التي تقول بأن رؤية عفلق الفكرية كانت متأثرة بالرؤية الصوفية.
هنا أقول: لقد أراد الشيوعيون أن يضعوا عفلق في صفوف الرومانسيين والمتصوفين لإفراغ المضمون من فكره وفلسفته، المضمون الجدلي، وحيث كان الصراع على أوجه بين فكره وفلسفة الإلحاد، بأن المادة قبل الروح، وان المادة هي الأساس، حيث قال عفلق: إننا نرفض أن تحل المادة محل الروح والإلحاد محل الإيمان لإنقاذ الشباب من أفكار العقلية المادية التي تهددنا في حرية أفكارنا. القول الوحيد الذي ذكر فيه عفلق الصوفية، بمعرض ردّه على الشيوعيين، حيث قال: إنني أصف مراحل البعث الأولى بكل الإيمان وكل التواضع وكل الزهد (أكاد) أصفها في بعض الأحيان بالروح الصوفية، ولا أحد يستطيع أن ينكر علينا واقعيتنا وعلميتنا، فنعود إلى الروح لنحييها ونجددها. وقال، أيضاً، أذكركم بأن الروح أقوى من المادة، هي قوة الإيمان، قوة التصميم، هذا الذي يخلق المادة، وهي نابعة من الروح؛ فالروح لا يعني بها الغيبي الماورائي، بل هو تعبير عن نزوع الإنسان إلى الأخلاق والحياة، والإيمان يعطيها الصبر والنفس الطويل، ويقيها من التخاذل والنفعية؛ فالبعث وُلد من الإيمان والعقلانية. إن تصنيفه متصوفاً بعيد عن الحقيقة، وإن الدراسة النفسية لميشيل عفلق، هي أولاً الصورة التي ورثها عن آبائه، وما تأثر به في التربية والبيئة، فأحب البعثيين على صورة محمد (ص) في سلوكه وخُلقه وشجاعته وثقافته ليسمو بالإنسان البعثي نحو المجد، وإنقاذه من حالة التخلف والسكون إلى حالة التضحية والتجرد والنضال. والقول إنه انطوائي وخجول، فهذه طبائع موروثة نتيجة الموروثات الجينية والتربية والبيئة. إن المرحوم عفلق، بأبحاثه وأفكاره، علمي عقلاني جدلي، وقد أثبت العلم موروثات الحب والصدق والوفاء، وهذا ما يعنيه بأن القومية هي حب قبل كل شيء، وهي قدر محبب، وإن الروح في الفكر والإحساس تنمي الإيمان والخلق والانتماء، وتحرك العقل والفكر ليكتمل بالتطور العلمي. وإن الإنسان بدون الروح لا يرقى إلى المستوى الإنساني، بل يصبح آلة للإنتاج.
وقد نظر عفلق إلى الدين بأنه رؤية فلسفية وتاريخية (بصورة جدلية). فالأولى لها علاقة بتفسير الكون، والثانية تتعلق بتطور الإنسان والمجتمع وعلاقة البشر ببعضهم البعض، فهو حاجة فلسفية روحية، وهو حالة ثقافية اجتماعية وتاريخية. فالروح لا تعني الغيبي، إنما الإرادة التي أثمرها الدين في الحضارة الإسلامية، فهي تتجاوز بسماتها السياسة والاقتصاد والاجتماع والقانون. إن التصوف هو حالة انفرادية إنطوائية، حالة مرضية ونفسية، ينعزل فيها الإنسان عن المجتمع، ولا يشارك، ولا يتفاعل مع محيطه، هي إلحاد أكثر منها إيمان. عفلق أسس بعثاً علمانياً مؤمناً مقتحماً على أسس أخلاقية وإنسانية.
يقول عمارة إن عفلق لا يؤمن بضرورة الإسلام شريعة وقانوناً إطاراً حاكماً للدولة القومية، وإنما يتبنى علمانية الدولة بتحررها من قانون الإسلام، وهو يرفض علمانية القومية التي تحررها من الإسلام.
فالبعث يعتبر أن العلمانية لا تعني ترك المعتقد الديني وفصل الدين عن الدولة، وهذا يعني عزل للتاريخ والتراث واللغة والحضارة، فالعلمانية هي عدم تمييز مذهب على مذهب، أو طائفة عن طائفة بالوظائف، وهي تعني تقديس حرية الاعتقاد والأديان بنظرة، وهي مساواة واحترام، فلا يفهم الإسلام إلاَّ الثوريون الحقيقيون.
لن أدخل بتفاصيل العرض التاريخي للردة في الإسلام، ولا بالتفسيرات والتأويلات والخلافات الدموية بين الفرق والمذاهب. بل إنني أتساءل: ما هي مصلحة الأمة في الإضاءة على الجوانب السلبية في هذه المرحلة. وهل الغوص بتفاصيل التكفير والتفكك بين المذاهب الإسلامية يوقف تدهور الأمة وحالة الاجتهاد والتفسير والتأويلات. وهل ستنتهي الصراعات المذهبية الحديثة؟ هل تتحمل هذه الفرق تأخر الأمة وتفكك الإسلام وتداعيات الدولة العربية منذ فجر الإسلام وحتى يومنا هذا؟
لماذا لا نضيء على إيجابيات الدولة العربية: عن العلم والعمران والدولة المترامية الأطراف من علم المأمون وعدل هارون الرشيد والرسالة الإنسانية الحضارية وعلم الفلك والرياضيات والفيزياء والطب، حيث كانت هذه الفرق المذهبية أعلى مراحل الصراع والتقاتل.
وأشير هنا إلى أن باب الاجتهاد والتفسير والتأويل والخلافات بين المراجع الدينية هي صحة طبيعية للتعددية وللتطور، وإن إقفال هذا الباب هو تجميد للتطور، وتجميد لنصوص القرآن الكريم، مع أن الآيات التي نزلت على الرسول (ص) هي لتغيير عادات وتقاليد العرب بحيث كانت على مراحل وبشكل متطور؛ والخلافات بين الفرق والمذاهب موجودة في كل عصر وفي كل زمان، وهي بين الأحزاب العلمانية والأحزاب القومية والوطنية وغيرها… وإذا حاولنا اكتشاف مسببات تدهور الأمة وانحدارها علينا أن نبحث عن منشأ هذه الفرق والمذاهب، وكيف كانت تنخر جسم الأمة لإضعافه، ولمصلحة من؟ وكيف كانت هذه الطوائف والمذاهب والفرق تأخذ الدين غطاء لسياساتها وطموحاتها السياسية للوصول إلى السلطة. ولم تضعف الدولة العربية إلاَّ بعد دخول الفرس والأتراك على مفاصل الدولة والحكم بأجهزة الأمن والجيش والإدارة، مستغلين ضعف الحكام العرب.
فتسيس الدين ودخول الشعوبية إلى الدولة العربية كانت المحطات المظلمة من تاريخ أمتنا العربية وانهيارها. وأخيراً إن الدين الإسلامي دخله الفرس والأتراك والأفغان وغيرهم، ولم يغيروا قوميتهم أو يضعفوها، بل كان تعصبهم لقوميتهم أقوى من الإسلام.
وشكراً لكم مروان
***
مدخل إلى الردود على بعض المداخلات
من تقاليدنا الثقافية الشعبية الموروثة، القومية والإسلامية، الخضوع لأوامر رئيس القبيلة أو الخضوع لتعاليم أولي الأمر منا تحت طائلة العقوبة بالنبذ من القبيلة أو مخالفة الأوامر الإلهية بعقوبات إلهية لأن أولي الأمر استمدوا سلطتهم من أنهم ينفذون تعاليم الله.
وإنني أخشى من أن نكون كطليعة ثورية نذرت نفسها للتغيير أن نكون قد اكتسبنا الكثير أو القليل من هذا الموروث. ولكي نؤهّل أنفسنا من أجل الخروج من معرفة التقليد إلى معرفة التجديد لا بُدَّ من أن نكتسب صفات العقل الناقد. ولمثل هذا الاكتساب شروط ومراحل علينا أن نستوعبها من جهة وأن نؤهل أنفسنا للمرور عبرها من جهة أخرى.
أول شروط اكتساب العقل الناقد هي تأسيس الأرضية الثقافية الواسعة. ولكن على أي أسس تقوم تلك الأرضية؟
لتكتسب عقلاً ناقداً عليك أن تلم بشتى ثقافات واتجاهات الوسط الاجتماعي الذي تعيش فيه. واكتساب تلك الثقافات يجعلك في موقع المقارن بينها بحيث تساعدك معرفتك بها على اكتشاف مواطن الثغرات والإيجابيات فيها. ولا يمكن أن ننمي عقلنا النقدي بدون ثقافة واسعة.
في كل مجتمع تعدديات ثقافية على شتى الصعد، وتحمل كل شريحة اجتماعية ثقافتها الخاصة. وإذا تعددت الثقافات في داخل مجتمع واحد من دون أن تكتسب مرجعية فكرية وسياسية واحدة تتشرذم الولاءات وتتصادم، وفي مثل هذه الحالة تؤدي إلى تهديد وحدة المجتمع الفكرية والسياسية، وهذا كثيراً ما يؤدي إلى تهديد المجتمع بالانهيار والاندثار. لكن إذا كانت التعدديات تمتلك إرادة الحوار لتوحيد نسيج المجتمع من خلال قواعد عامة تؤمن للجميع حرية الانتماء والتفكير تصبح مصدر غنىً وطريقاً صالحاً للتجديد باستمرار، والتجديد هو من أكثر سمات التعدديات الفكرية والثقافة صحة.
هذا الواقع يفرض على الذين نذروا أنفسهم للتغيير الدائم أن يعملوا بكل دأب وجهد لمتابعة واستيعاب شتى التعدديات الفكرية والاتجاهات السياسية، لأنهم بدون القيام بمثل هذه المهمة لن يستطيعوا أن يؤدوا دور الداعي إلى الحوار وإدارته بينها وسوف ينحازون إلى الفكر الفئوي الذي حصروا أنفسهم باستيعابه وتعصبوا له.
فالذي نذر نفسه للتغيير لا يمكن أن يؤدي دوره إذا تقوقع داخل اتجاه واحد ووحيد من دون تطويره وإلغائه، لأنه يصبح ساعتئذٍ بحاجة إلى من يدير الحوار معه ويمسك بيده ليجمعه إلى طاولة حوار مع الاتجاهات الأخرى، فهو بمثل هذا الوضع يكون قد تخلّى عن دوره في التغيير، ولن يكون من الطلائع.
كيف نكتب التاريخ وكيف نقرأه أيضاً؟
من المجمع عليه أن من يكتب التاريخ هم الحكام وأصحاب النفوذ السياسي. وهذه قاعدة بدأها الأقدمون وتابعها كل الذين أتوا من بعدهم، ولا نزال -في عصرنا الراهن- نتَّبع هذه الخطى. أما بالنسبة لتاريخنا فلا يوجد بين أيدينا إلاَّ ما كتبه أولئك على طريقتهم الخاصة والتي تخدمهم بشكل مباشر؛ ولم يبقَ إلاَّ بعض التراث الذي كتبته أقلام بعض المعارضة للأنظمة السياسية من الذي عاصروهم. وإلى أن نستطيع أن نفرض قاعدة أخرى، نكتب فيها تاريخ الشعوب والحكام، ليس أمامنا إلاَّ أن نحكم على التاريخ من خلال ما تركته لنا المكتبة التراثية.
ولكن من المهم أننا كيف نقرأ التاريخ: هل بعقلية الماضي، أم بعقلية الحاضر؟
التاريخ هو تراث الأمة الماضي، أي التراث الذي أسهم في تكوين شخصيتها وخصوصياتها. لكن التراث فيه السلبي والإيجابي، وعلى أساس هذه الحقيقة علينا أن نقرأ التاريخ.
ولا يمكن قراءة التاريخ على قاعدة أنَّ الظروف السابقة التي نحاكمها اليوم كانت مختلفة جداً عن ظروف الحاضر، فعلينا أن نقرأها بعيون الماضي. لكن إذا أردنا أن نمارس هذا الأسلوب في القراءة فإننا لن نخرج إلاَّ بالنتائج التي توصَّل إليها السابقون، أي بتبرير النتائج والتوفيق بينها حتى لو كانت متناقضة. فإذا قمنا بمثل هذه الممارسة، فأين تكمن الفائدة، إذاً؟
إذا لم تكن قراءة التاريخ تستهدف الوصول إلى نتائج تساعدنا على الدخول لحل إشكاليات الحاضر فلا فائدة تُرجى من هذه القراءة. وتزداد قراءة التاريخ أهمية، وتصبح أكثر إلحاحاً إذا كان التاريخ لا يزال يعيش في الحاضر. فهل قراءة التاريخ العربي - الإسلامي ذات أهمية في الحاضر؟ وهل تنفصل مشكلاتنا الفكرية والسياسية الراهنة عن مشكلاتنا في الماضي؟
إذا كانت الإشكاليات الفكرية السياسية الاجتماعية الدينية التي نعاني منها اليوم كثيرة ومتشعبة، وإذا كان الواقع العربي - الإسلامي يعاني من الكثير من تلك الإشكاليات، ويعاني من كثير من التخلف، فما هي طبيعة الاتجاهات الفكرية والسياسية السائدة والتي يعمل أنصارها من أجل إيجاد حلول لإشكاليات الحاضر؟
لا يمكن العمل من أجل إيجاد حلول للإشكاليات السياسية والاجتماعية إلاَّ من خلال رؤية فكرية. ومن المعلوم أن الثقافة الفكرية السائدة في المجتمع العربي - الإسلامي هي الثقافة الإسلامية. وتسود اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، اتجاهات فكرية تعمل على أساس القواعد الفكرية السياسية الاقتصادية التي كانت سائدة في الماضي، والتي تعمل على استنباط أسسها من الاتجاهات الإسلامية الماضوية. وهل يمكن أن نُنكر أن الاتجاهات الإسلامية السياسية وغيرها تدعو إلى تقليد السلف؟ وأي سلف يريدون؟ وهل يمكن أن نُنكر أن تلك الاتجاهات تدعو إلى العودة إلى الكتاب والسُنَّة، أي إلى الإسلام الصحيح، في إيجاد تلك الحلول؟ وأي إسلام صحيح يريدون؟
نحن نعيش في القرن الواحد والعشرين، وبعض الاتجاهات الفكرية تدعونا لاعتماد الحلول التي وضعها الإسلام لإشكاليات القرن السادس. وبما أننا نعاني من مشاكل شبيهة بمشاكل الماضي، وتطرح فيه بعض الاتجاهات الإسلامية حلولاً من الماضي لمعالجة مشاكل الحاضر، فهل علينا، هنا، أن نقرأ التاريخ بعين الظروف التي كانت سائدة في القرن السادس أم بعين ظروف الحاضر السائدة؟
عندما يدعونا أولو الأمر إلى استنباط حلول تعود إلى أكثر من أربعة عشر قرناً فهل علينا أن نقرأ تاريخ ما قبل الأربعة عشر قرناً بعين الماضي أم بعين الحاضر؟ وهل علينا أن نقرأه بعين الذي كان يعيش الظروف السابقة أم بعين الذي يعيش في الظروف الراهنة؟ عندما يحسب أولو الأمر أن الحاضر لم يتغيّر عن الماضي أي أن حلول الماضي صالحة للحاضر، يعني هذا أن الماضي والحاضر أصبحا ا شيئاً واحداً، وهذا ما يحصل بالفعل، أننسى مقولة فقهاء الإصلاح المسلمين التي تقول «لا يصلح الخلف إلاَّ بما صلح به السلف«؟ وبناء على مقولتهم لا يمكن حل إشكالياتنا -كما يرون- إلاَّ بتقليد أنموذج العهد الراشدي كأنموذج مثالي، أي العهد الذي تلا وفاة الرسول مباشرة.
فإذا كان أنموذج العصر الراشدي مطروحاً كحل لإشكالياتنا الراهنة، فعلينا أن نناقشه مرغمين بعيون الظروف الراهنة وليس بعيون الظروف الماضية. لأن ذلك الأنموذج لم يكن بالفعل الأنموذج الذي أمَّن العدالة والمساواة والرخاء والاطمئنان للمسلمين، لأنهم دفعوا من خلال الفتن التي وقعت فيه، مئات الألوف من الضحايا بينهم ثلاثة من الخلفاء الراشدين من أصل أربعة.
قد يقول البعض إن وزر الفتن التي حصلت لا تتحمّلها العقيدة الإسلامية، بل إن من يتحملها هو الطمع في السلطة، وهذا -كما نحسب- عذر أقبح من ذنب، فلماذا؟
لقد حصلت الفتن في عهد أكبر صحابة الرسول، وهم أفضل من آمن بالعقيدة الإسلامية، وهم أفضل من فقه تشريعاتها، وعلى الرغم من ذلك لم يستطيعوا أن يطبقوها، فهم إما أن يكونوا قد أخطأوا في التطبيق أو يكونوا قد طبَّقوها بالفعل فظهرت صورتها على ما ظهرت عليه. وإن كلا الاحتمالين لا يسمح لنا بأن نقول إن العصر الراشدي كان أفضل العصور الإسلامية، وهو الأنموذج الذي يدعونا إليه المسلمون الإصلاحيون لكي نعود إليه فنجد فيه حلول العصر الحاضر.
لكل تلك الأسباب، ويأتي على رأسها اعتقاد البعض بصلاحية حلول الماضي لإيجاد حلول للحاضر، دفعنا إلى القول بأن قراءة التاريخ المرتبط بالحاضر، يجب أن تتم بمنهجية نقدية تأخذ ظروف الحاضر أساساً لتقييمها لا لتبريرها تحت حجة أن ما يحصل اليوم من ظلم ولا عدالة ولا مساواة ليس بأقل مما كان يحصل في الماضي. إن اللا عدالة الراهنة تدفعنا إلى نقدها، وهو الذي دفعنا إلى نقد النماذج التي يحسب فيها فقهاء الإصلاح الإسلامي أنها صالحة للتطبيق في عصرنا الراهن، وقد بيَّنا فيها أنها كانت غير عادلة أيضاً. فكانت لا عدالتها محط اهتمامنا، بل يجب أن تكون محط اهتمام أبحاثنا النقدية، لأنها مطروحة كحلول في الحاضر ضد لا عدالة الحاضر. ولو لم تكن مطروحة كحلول لكان اهتمامنا بها من قبيل الترف الفكري الذي يُكتب لكي يوضع في خزائن التاريخ ليُقفَل عليها لأنها أصبحت بغير فائدة لوقتنا الراهن.
مناقشة بعض التفاصيل التي وردت في المداخلات
جاء في مداخلة مروان ما يلي: «لقد صدر حكماً بالإعدام على المؤسس المرحوم ميشيل عفلق في حياته، وعلينا أن نناقش بموضوعية حتى لا نحكم عليه بالإعدام مرةً ثانية في مماته، ونتنكّر لعطاءاته وفكره ونضاله من أجل البعث والأمة العربية«.
من المستغرب جداً أن تأتي مثل هذه العبارة على لسان من يدعو إلى النقاش بموضوعية، لأنه وجَّه التهمة فوراً بحق مجهول قبل أن يقوم بالتحقيق اللازم. بصراحة لم أعرف لمن يوجه مروان تهمة الحكم بالإعدام من جديد على مؤسس حزب البعث. هل يوجهها للدكتور عمارة أم للباحث الذي ردَّ على الدكتور عمارة؟
من الموضوعية أن تعيَّن المتهم بوضوح لأن الالتباس ليس من الموضوعية بشيء. وكان من المفروض، موضوعياً، أن تكون أسباب هذا الاتهام واضحة. ولأنها لم تكن واضحة فهي ليست موضوعية. والكرة الآن في ملعبك لكي تجيب بوضوح على تلك المعميات التي وردت في عبارته. فعلى نتائج إيضاحاته يترتب حقوقاً لكل من الدكتور عمارة إذا كان هو المقصود، أو لناقد الدكتور عمارة إذا كان هو المقصود بذلك. وهنا أعرض بالتفصيل لما جاء في نقد مروان للنقد الموجَّه إلى كتاب الدكتور عمارة:
في الدائرة العامة: لم أتبيَّن من خلال نقد مروان للناقد أي موقف واضح. إن أمامنا كتاب وضعه مفكر إسلامي يتعرَّض فيه لأحد أهم جوانب فكر حزب البعث ممثلاً بمؤسسه المرحوم ميشيل عفلق. وما كان من حسن غريب أحد البعثيين إلاَّ أن تناول ذلك الكتاب بالنقد لأنه توصًّل إلى استنتاجات تجافي حقيقة فكر حزب البعث بالنسبة لعلاقة العروبة والإسلام، وقد توصّل الباحث غريب، من خلال نقده، إلى نقض استنتاجات عمارة، ودلَّل على أن البعث ليس حزباً إسلامياً ولن يكون. وكان من واجب بعثي آخر، وهو مروان، أن يراجع نقد رفيق له لكتاب من لا علاقة له بحزب البعث، بل حاول أن يدعو البعثيين إلى التنكر لحزبهم وفكره ليتحولوا إلى حزب إسلامي يدين بالإسلام الحضارة والشريعة والقانون. ومروان لم يوضح هل هو مع استنتاجات عمارة أم ضدها. وبدلاً من مساعدة رفيقه أصبح عمارة محيَّداً وكأنه لم يرتكب هفوات في استنتاجاته وأصبح الجدير بالنقد هو الذي توجَّه، من منطلقات بعثية قومية، لمواجهة منطلقات إسلامية جامدة.
وهنا أتمنى على مروان أن لا يمر على استنتاجات عمارة بلامبالاة تحت حجة أنها تخص عمارة لوحده، وإنما تخص البعثيين قاطبة، فهي شأن البعثيين وحدهم وليس شأن عمارة. وهنا كان من واجب مروان -كناقد للنقد، وليس للمنقود- أن يوضح بعيداً عن الغموض موقفه من استنتاجات عمارة: هل هو ضدها أم هو معها. فإذا كان معها فعليه كبعثي أن يبرهن صحة استنتاجاته، وإذا كان ضدها فمن واجبه أن ينقد نقد غريب لجهة قصورها -إذا كان فيها من قصور- عن الرد على عمارة، وعلى مروان أن يساعد غريب في التفتيش عن البراهين الأكثر إقناعاُ. لكن ما فعله مروان هو أنه حيَّد عمارة، لأن ردوده لا علاقة لها باستنتاجات عمارة، بل كانت موجَّهَة إلى نقد الباحث غريب بشكل خاص وواضح. ولهذا وقع مروان، في ردّه على ناقد كتاب عمارة، بهفوات موضوعية كثيرة، ومن أهمها:
1- يقول مروان: وكان الإسلام «كل القِيَم والأخلاق، فأصبح أباً للعروبة. وأصبحت أمة العرب عظيمة حيث أعطاها معنى الحياة والخلود التي هي جهاد وفكر ومبدأ وعقيدة. فلا خوف على العروبة مقترنة بالإسلام، ولا خوف على الإسلام مع خير أمة أُخرِجت للناس، أمة العرب«. ويقول أيضاً: «القومية مبعث النظريات، وهي التعبير المتطور للزمان والمكان. والإسلام مقوّم من مقومات القومية. فالإسلام، كتجربة ثورية وعقيدة وقضية أمة بتصور إنساني ونضالي بأعلى مراحله، لما فيه من تنظيم دقيق وتثقيف. فهو تجربة ثورية: السماء متداخلة مع الأرض. هو الذي يكوّن روحها وقيمها وأفقها الحضاري، إنه جوهر العروبة، وملهم ثورتها، وهو الثقافة القومية للعرب على اختلاف أديانهم«.
آن الأوان بنا لكي ننزل من برج العبارات الفخمة والضخمة، التي لا تصلح إلاَّ آيات للتعبئة وليس للتوعية. فعبارات التوعية تكون قريبة لقاموس الواقع والمنطق، والتي يمكننا أن نشرح مضمونها بسهولة وواقعية للآخرين.
من العلمية أن تستطيع أن تبرهن على ما تقول. فكيف تستطيع أن تبرهن، بشكل علمي واضح وواقعي ومنطقي، عن العبارات الفخمة - الضخمة التالية؟:
«الإسلام هو كل القيم والأخلاق«، «أصبح الإسلام أباً للعروبة«، «أعطى الإسلام العروبة معنى الحياة والخلود«، «لا خوف على العروبة مقترنة بالإسلام«، «لا خوف على الإسلام مقترناً بالعروبة«، العرب - الإسلام هم «خير أمة أُخرِجت للناس«، «القومية مبعث النظريات«، «الإسلام تجربة ثورية إنسانية ونضالية بأعلى مراحلها«، في الإسلام «تنظيم دقيق وتثقيف«، «الإسلام تجربة ثورية: السماء متداخلة مع الأرض«، «يُكوِّن الإسلام روح العروبة وأفقها الحضاري«، «الإسلام مقوِّم من مقومات القومية«، وتأتي هذه العبارة مترافقة مع نقيض لها، وهي «الإسلام جوهر العروبة وملهم ثورتها« فقد جمعت بين الإسلام كمقوم والإسلام كجوهر، «الإسلام هو الثقافة القومية للعرب على اختلاف أديانهم«.
توضيح في الشكل: لاحظ يا عزيزي، هنا فقرة خطابية واحدة تتألف من تسعة أسطر تقريباُ، وقعت فيها في إشكالية لتعريف أربعة عشرة عبارة عامة فخمة وضخمة.
فإذا كان الإسلام يتَّصف بكل تلك المواصفات، وإذا كانت الثقافة الإسلامية هي السائدة في مجتمعاتنا بدون منازع، علينا أن نتساءل:
أ- لماذا يلحق كل هذا التخلف بالأمة الإسلامية، ومعها الأمة العربية التي تثقفت قومياً من الإسلام؟
ب- لماذا اخترت طريقاً غير طريق الإسلام في العمل السياسي. ولماذا تؤمن بدستور حزب غير مستند إلى الثقافة الإسلامية، بل فيه الكثير مما يتعارض معها؟
توضيح في مضمون العبارات: لأن مناقشة كل عبارة بمفردها ستستهلك عدة صفحات، سأكتفي، من أجل الاختصار، بالردود الإجمالية، وعلى بعض العبارات الأكثر إلحاحاً في التوضيح:
أ-إذا كان المقصود بـ«القومية هي مبعث النظريات«، الشعور القومي، بوصفه تعبير عن الإحساس بالانتماء إلى جماعة معينة كان من الممكن الإفصاح عن ذلك مباشرة، فيكون الإحساس ساعتئذٍ سابق للنظرية، ودافع لصياغتها. لهذا كان من الواجب أن نكون واضحين في تحديد المصطلح. فالشعور بالانتماء إلى الأمة العربية يسبق النظرية التي تحدد عناصر تكوين النظرية القومية العربية. فهنا، وحتى نكون واضحين علينا أن نميز بين الشعور القومي وبين النظرية القومية، أي أيهما يسبق الآخر؟ وإن الشعور القومي مكمل للنظرية القومية، ولكنه لن يكتمل لمصلحة بناء الأمة إلاَّ إذا كان مرتبطاً بمحتوى نظري محدد تحديداً علمياً يرسم عوامل تكوين القومية، كخطوة لا بُدَّ منها لتقوية تلك العوامل وتعزيزها وتعميقها لحماية الكيان القومي وتطويره ليواكب الظروف الجديدة ويتفاعل معها.
وإذا لم يحصل هذا التحديد يقع الالتباس بين الكلام الملهم والكلام الملزم. فالقومية نظرية وضعها الإنسان، ولأنها ظاهرة اجتماعية وضع الفكر الإنساني أسساً وقواعد لها. وقد تختلف تلك الأسس من أمة إلى أخرى. وليست هي التعبير المتطور للزمان والمكان، بل هي متغيَّر بتغيرهما، فالتغيير الذي يلحق بهما يلحق بالمحتوى النظري للمفهوم القومي. وهنا لا بُدَّ من أن نوضح ما نقول عن مراحل تكوين القومية العربية. كانت القومية العربية، في مراحلها البدائية، محصورة بين سكان شبه الجزيرة العربية، وكانت قوميات متعددة بتعدد القبائل، ولم يكن محتواها ومضمونها وتعريفها الماضي هو التعريف ذاته الذي نفهمه اليوم. وبتوسع الفتوحات العربية - الإسلامية إلى شتى أصقاع الأرض التي وصلت إليها، لعب الإسلام، بشكل عام واللغة العربية بشكل خاص، دوراً في تعريب الشعوب غير العربية. وأصبحت شعوب كثيرة تنتمي إلى القومية العربية بعد أن كانت غير عربية. فمن هنا نتساءل كيف كانت القومية مبعث النظريات بينما نحن نرى أن القومية العربية كانت نتيجة لتكاثف وتعاضد عدة عوامل لعبت دوراً في تكوينها؟
دعنا يا صديقي من استخدام العبارات التعبوية التي لا تصمد أمام منطق تعريف المصطلحات بواقعية وعلمية بعيداً عن الإنشائية من خلال استخدام التعابير الفضفاضة.
وعلى هذا الأساس سنتابع مناقشة الفقرة الإنشائية ذاتها، ونتابع المناقشة من خلال استكمال ما ورد عندك في الفقرة ذاتها وهي مليئة بالتعابير الإنشائية مثل: «نضالي بأعلى مراحله - تنظيم دقيق وتثقيف - جوهر العروبة - ملهم ثورتها - هو الثقافة القومية للعرب على اختلاف أديانهم«.
فإذا كان الإسلام جوهراً للعروبة، فالتعريفات العلمية تقول: «إن الجوهر يدل على الواقع العميق للكائن. فهو ما يكوِّن طبيعته الثابتة ويأذن بتحديده«. فاستناداً إلى عبارتك (الإسلام هو جوهر العروبة) يعني أن الإسلام هو ثابت أما العروبة فهي متغير، ولن تكتسب معناها إلاَّ من خلال جوهرها، أي الإسلام. وفي مثل تلك الحالة على العروبة أن لا تتعارض مع الإسلام على الإطلاق بكل تفاصيل تعاليمه وشرائعه وقوانينه. وهي إن تعارضت معه فهو لن يكون جوهراً لها. وعلى البعثيين الذين يؤمنون بهذا أن يعودوا إلى الإسلام الكامل وأن يكونوا مع الدكتور عمارة بالنتائج التي توصَّل إليها، ومن الخطأ أن يستندوا إلى دستور لا يلتزم بالقرآن والسنة.
أما أن يكون الإسلام هو «الثقافة القومية للعرب على اختلاف أديانهم«، فهو حكم فيه الكثير والكثير من التعسف والخطابية. أنت تقول إن «الإسلام مقوِّم من مقومات القومية«، فالإسلام، إذاً، جزءٌ من الثقافة القومية. فلماذا تجعله -تارة- جزءًا، وتارة أخرى كلاً؟ إن هذا لتناقض واضح وصريح. فنحن، إذاً، بحاجة إلى أن نكون علميين في استخدام مصطلحاتنا وأحكامنا وليس خطابيين.
لقد أسهم الإسلام في بناء الحضارة العربية، وهذه حقيقة لا ينكرها إلاَّ مكابر. ولكنه لم يكن العامل الوحيد، بل رفدته عوامل أخرى كثيرة، فهو عامل رئيس ولكنه ليس الوحيد. بل كانت العقيدة الإسلامية، في أحيان كثيرة، من المعوقات في سبيل تطوير الفكر العربي والإسلامي، وهنا لن نعطي أمثلة كثيرة بل ما يفيد في تدعيم حكمنا: هل كان الفقه الإسلامي على وفاق مع الفكر الفلسفي؟ هل كان الأصوليون الإسلاميون من الذين شجعوا حرية التفكير الفلسفي أم كانوا من الذين حاكموا الفلاسفة، ومن الذين حاكموا حرية العقل، ومن الذين حكموا على كل المسلمين والعرب من الذين انفتحوا على الفكر القادم من اليونان بالتكفير، ولا ننسى أنهم قد حاكموهم على أساس مبادئ الشريعة الإسلامية وأصدروا بحقهم أحكاماً تعسفية وجائرة؟ قد تقول إن أهواء الحكام ومصالحهم السياسية هي التي كانت السبب في ذلك. نقول هذا كلام صحيح، ولكن الأحكام التي أصدرها السياسيون كانت تستند إلى النص الإسلامي وليس إلى غيره من النصوص، والذين اجتهدوا فيها هم من فقهاء الإسلام وليسوا من فقهاء دين آخر غير الدين الإسلامي.
لم تكن الثقافة الإسلامية هي الثقافة القومية للعرب على اختلاف أديانهم لأن المسلمين، بشتى فرقهم، قد اختلفوا حول تعريف الثقافة الإسلامية ومصادرها واختلفوا بنتائج اجتهاداتهم حول ما سيأخذون منها وممن يأخذونه… فكيف سيأخذ غير المسلمين من الثقافة الإسلامية ما اختلف المسلمون حول مصادره، وحول تفسيره وتأويله؟
فإذا كانت الثقافة الإسلامية تحتمل الوحدة، فهل لك أن تدلنا على العوامل التي فرَّخت مئات الفرق الدينية الإسلامية، وكان لكل فرقة ثقافتها المختلفة عن ثقافة المذاهب الأخرى؟ وإنني -انتظاراً لتوضيحك- سوف يكون لنا جولة أخرى من الحوار.
2- يقول مروان «إن طاولة الحوار بين مشروعين لا يعني البعثيين لِما اكتشفوه من ترابط وتكامل وتلازم بين العروبة والإسلام، بل يعني تحديداً المتعصبين قومياً دون اكتشاف مضمون ونظرية القومية، بل يعني الإسلاميين الذين لم يكتشفوا جوهر الإسلام ومضمونه. أما البعثيون فيعتبرون أن القومية والعروبة هي حالة حضارية إنسانية عربية فاعلة، والإسلام فعلٌ تغييري وثوري ونهضوي وحضاري وعلمي. إننا دائماً حيث العروبة الصحيحة وحيث الإسلام الصحيح. فالبعثي قومي إسلامي بالانتماء والجوهر».
من حيث الشكل: لا حوار من دون وجود طرفين يختلفان حول رؤية إشكالية ما. وأنت تقول إن طاولة الحوار لا تعني البعثيين، بل تعني غيرهم من المتعصبين قومياً ومن الإسلاميين الذين لم يكتشفوا جوهر الإسلام. وهل هناك خطأ إذا ما وجَّهت الدعوة إلى المتعصبين قومياً والى الإسلاميين الجاهلين جوهر الإسلام؟ وهنا أريد أن أسمع جواباً واضحاً منك: هل أنت مع الدعوة إلى الحوار أم لا؟ لأنني فهمت منك أنت لست مع هذه الدعوة لأن البعثيين قد فهموا تماماً المشكلة منذ الآن و إلى أبد الآبدين. ولهذا علينا أن نقفل دائرة الحقيقة وننزلق كما انزلق الآخرون من التيارات السياسية والدينية إلى متاهات النرجسية والغرور؟ وهذا المنزلق لم ينحدر إليه مؤسس الحزب لأنه دعا كل التيارات إلى وضع تصور مستقبلي لعمل عربي، ولكن ليس على قاعدة أن البعثيين قد أمسكوا بالحقيقة كاملة. و إلاَّ إذا كان الأمر مقصوداً عنده، كما هو مقصود عندك يا مروان، فلا معنى لدعوته لأنها ستكون مقرونة ومترافقة مع «كلبشتين وقفص من ذهب«، ليقود بهما كل تلك التيارات إليهما. وسوف يكون مؤسس البعث، كما تحسب أنت من خلال نفي أي نقص عن فكره، كمن يدعو الآخرين لكي يلقي عليهم محاضرة، بصفته أستاذاً أمسك بالحقيقة كاملة، لكي يبشِّر بدعوة ذات نصوص مقدَّسة لأنها كاملة مكتملة.
إننا مع العروبة فعلاً، ولكن أحكامك، كمثل ما جاء في مداخلتك «إننا دائماً حيث العروبة الصحيحة وحيث الإسلام الصحيح«، نرجسية خطابية لم يسمح بها كل القادة الذين تعاقبوا على قيادة الحزب سياسياً وحزبياً وفكرياً، لأن القوميين هم فرق أيضاً كل منها يحسب أنه يمتلك رقاب العروبة الصحيحة، وكل التيارات الإسلامية والمذاهب يحسبون أنهم يمثلون الإسلام الصحيح. فالعروبة الصحيحة والإسلام الصحيح هما مسألتان نسبيتان وليستا مطلقتان.
أما قولك «البعثي قومي إسلامي بالانتماء والجوهر«. فهذا ما يثير الاستهجان ويدفعنا إلى التساؤل: لماذا تستخدم هذه الأحكام التي لا علاقة لها بالواقع على الإطلاق؟
هل نحن ننتمي إلى حزبين متناقضين؟
إنني لا أجيز لنفسي أن أستخدم هذه الخطابية ، لأنها لن تلقى تأييداً يُذكَر. ولكن أين هو مكان مثل هذه الأحكام الإنشائية في جلسة حوار داخلي يحضرها كل من قلَّع أضراسه في نضال حزبي ونضال فكري وثقافي؟
هل تدري أن هناك حديثاً للرسول يحسب فيه أن الإسلام هو دين الفطرة، بمعنى أن الله تعالى يخلق المسلم مسلماً؟ وهل تريد أن تقول أن البعث هو دين الفطرة بحيث يُولد البعثي قومياً إسلامياً بالانتماء والجوهر. أتدري أن هناك العدد الوفير من المسلمين الذين انتسبوا إلى حزب البعث ليست لديهم القناعة بأن يأخذوا من الإسلام إلاَّ ما يصب فعلاً في خدمة الوحدة القومية العربية؟ وهل تدري أن المسيحيين العرب الذين انتسبوا إلى حزب البعث هم غير ملزمين أن ينتسبوا إلى الإسلام كما فعل القائد المؤسس؟ وهل على البعثي أن يكون إسلامياً رغماً عنه، وليس هناك من سبب إلاَّ لأن في جوهره فطرة إسلامية شاء أم أبى؟
3- يقول مروان: «أما حول ما يقول به الباحث من أن أفكار ميشيل عفلق ملهمة وليست ملزمة، فنقول: وما هي وصية عفلق؟ إن المرحوم ميشيل عفلق هو من اكتشف النظرية القومية والعقيدة العربية… وهو الذي تنبّأ بمعجزة الوحدة العربية إذا تحققت، ولم يتعارض أو يتناقض فكره وفلسفته ونظريات البعث منذ التأسيس وحتى وفاته. كانت أفكاره مترابطة، وقد تبنّاها البعثيون بكل تفاصيلها… والشيء الوحيد… الذي مارسه دون إعلان عنه، وحتى لا يكون ملزماً للبعثيين هو اعتناقه الدين الإسلامي«.
كنت بغنىً يا صديقي عن تلاوة كل تلك الأسباب التي سقتها للدلالة على أن البعث والبعثيين أخذوا عن مؤسس حزبهم كل شيء. لأنني لم أقصد بأن فكر عفلق هو ملهم وليس ملزم أن هناك تناقضاً بين فكر المؤسس وفكر الحزب. وإنما من حقي، كبعثي، أن لا اعتقد أن فكر المؤسس هو كتاب منزل آخر. وهل من الجائز أن ندخل في حوار مع إسلامي يعتقد أنه مُلزَمٌ بالنص الإسلامي، أن أدخل معه في حوار أكون فيه مُلزَمُ بنص مؤسس الحزب؟
إذا كان الإسلامي مُلزَم بنصّه، والبعثي مُلزَمٌ، أيضاً، بنصِّه، فحول ماذا سوف يدور الحوار؟ ففي مثل هذه الحالة التي تدافع بها أنت لا تخرج عن كونك متعصباً لنص، فما هو الذي يميزك عن الإسلامي، إذاً؟
أي حوار تريد أيها الصديق مروان أن يدور بين بعثي أصولي قد جمَّد نصه، وبين إسلامي أصولي قد جمَّد نصه منذ ألف وأربعماية سنة؟ وهل يجوز الحوار بين نصوص مقدَّسة مُلزِمة؟ أم سيكون الحوار بين نصوص ملهمة؟
ما هي قيمة دعوة عفلق للحوار مع كل التيارات الفكرية والسياسية العربية؟ هل كان يعتقد أن فكره مُلزِم؟ فإذا صحَّ ما تقول يدفعنا إلى التساؤل حول الجدوى من دعوته التي وجهها إلى الجميع؟ وهل قال عفلق إن أفكاره أصبحت مطلقَة، وهي ليست بحاجة إلى تطوير وتعميق وتجديد؟
لقد دعا، هو بالذات، إلى التطوير لأنه لا يُجيز لنفسه، وبالتالي لا يجيز للبعثيين، أن تتَّصِف أفكاره بصفة الإلزام… بل أن تكون تلك الأفكار مُلهِمَةً ملهمة ملهمة…
فإذا كنت من المتعصبين لنصوص، تحت ذريعة أنها لم تتعارض مع قناعات البعثيين، وأنها كانت منسجمة ومنطقية وخلاّقة وتحمل الكثير من الإبداع، ولأن البعثيين قد أخذوا بكل تفاصيلها، تعمل على رفض ما قلته أنا من «أن أفكار عفلق ملهمة للبعثيين وليست ملزمة«، فهذا شيء والحوار مع غير البعثيين شيء آخر. وهل تنوي أن تحجر على أفكار حزب البعث وتحتفظ بها، كأثمن وأغلى ما لدى البعثيين، وتطلب من البعثيين، إذا واجهوا تيارات سياسية وفكرية عربية أخرى، أن ينأوا بعقيدتهم عنهم لأنهم سوف يمارسون النقد بحقها، ويدلون بحججهم الخاصة؟ فحفاظاً على إلزامية نصوص البعث، سواء أتت من المؤسس أم من مؤتمرات الحزب، هل تطلب من البعثيين أن يرفضوا الحوار مع الآخرين؟ وهل تطلب منهم أن لا يحيدوا عن أفكارهم قيد أنملة تحت ذريعة الإلزام لا الإلهام؟
إن بوابة الحوار لن تنفتح أمام التيارات إلاَّ إذا كانت لديهم قناعة بأن يستمع الواحد منهم للآخر، ويدلي ببراهينه وأدلته، ولكن ليس على قاعدة أن كل حزب بما لديهم فرحون. بل على قاعدة أن أفكار كل حزب تكون ملهمة له في الحوار وليست ملزمة للطرف المحاور إذا ما تبيَّن عدم صلاحيتها في مكان ما أو زمان ما.
وهنا سوف أعطي أنموذجاً حول إشكالية أن يكون فكر عفلق ملهم أو ملزم، وقد جاء في متن البحث المذكور ما يلي:
لكن إذا حسبنا، نحن، أن المعرفة تسبق الحب لا يضير نظرة عفلق شيئاً، فهناك قطاع من الناس يفهم القومية كما يفهمها عفلق، وآخرون يتعارضون معه. فإذا كانت النتائج واحدة، وهي حب القومية، سواء أتى حب القومية أولاً أو أتى ثانياً، فماذا يضير القومية والقوميين؟!
إن الفرق بين من يرى أن يسبق حب القومية تعريفها، أو أن يسبق تعريف القومية حبها، هو الفارق في زاوية الرؤية. وهنا تظهر دائماً زاوية الرؤية عند عفلق متعلِّقة بالمنهج الصوفي، فالمتصوفون يؤمنون بأن المعرفة الحقيقية هي ما يقذفه الله في القلب، ويُبصِر المؤمنون الصوفيون –حينئذٍ- ما لا يبصره غيرهم من الذين يلجأون إلى المعرفة من زوايا أخرى. وهنا ننقل نصاً لعفلق يؤكد ما نقول عن أنه يرى من زاويته الخاصة بشكل جلي وواضح. فهو، بمناسبة تكريم وفد سوداني شقيق، يعلن أنه لا يتصوَّر قوميته العربية تصوراً واضحاً وقوياً إلا عندما يتصل بأبناء الأقطار العربية أو يشارك في العمل من أجل قضية قطر عربي. وفي مثل هذه الحالات، تتجسَّم في نفسه «هذه الصلة القومية العميقة التي تفوق الوصف«، ويمتلئ طريق العمل أمامه بالنور، وتبدو أهدافه واضحة جليَّة( ). [راجع الصفحة 59 من الكتاب].
4- جاء في مداخلة مروان: «ولقد تفاجأت بما قاله الباحث بأن عفلق اعتزل العمل الحزبي وتفرَّغ للعمل الفكري. إن المرحوم بقي يناضل في صفوف البعثيين وفي المواقع المتقدمة…«.
لو كنت قد قرأت يا صديقي كتاب عمارة، وإنني متأكد أنك قد قرأته أكثر من مرة، لكنت عرفت أن من قال عن اعتزال عفلق العمل السياسي والحزبي للتفرغ للعمل الفكري، هو الدكتور عمارة وليس أنا. وعمارة لم يؤكد أن عفلق قد اعتزل، ولكنه -استناداً إلى مقابلة جرت مع عفلق- كان يفكر بالاعتزال. ولقد نقلت أنا هذه النية المفاجئة وليس الاعتزال المفاجئ لكي أؤكد أهمية الجانب الفكري في حياة عفلق، وليس أكثر من ذلك. لذلك أتمنى من الصديق العزيز مروان أن يتحلّى أثناء قراءاته بقليل من الصبر الجميل حتى لا يقع في استنتاجات متسرِّعة تأخذ منه الوقت الثمين الذي عليه أن يوفره في سبيل قراءات أخرى.
وهنا أرجو أن تعيد قراءة ما كتبت حول أن عفلق كان في القلب من نضال الحزب، «والذي يستوقفنا هو أنه ليس مفكراً منعزلاً عن الحركة النضالية لحزبه، وعن حركة الصراع الدائم التي تواجهها أمته العربية مع شتى القوى الداخلية والخارجية«. [راجع الصفحة 61 من الكتاب] ألا ترى، هنا، أنني أؤكد أن عفلق لم يعتزل النضال؟

5- يقول مروان: «يقول الباحث: إنني من المؤيدين لوجهة النظر التي تقول بأن رؤية عفلق الفكرية كانت متأثرة بالرؤية الصوفية». وهنا أقول (أي مروان): «لقد أراد الشيوعيون أن يضعوا عفلق في صفوف الرومانسيين والمتصوفين لإفراغ المضمون من فكره وفلسفته«. «إن تصنيفه متصوفاً بعيد عن الحقيقة«. «إن التصوف هو حالة انفرادية إنطوائية، حالة مرضية ونفسية، ينعزل فيها الإنسان عن المجتمع، ولا يشارك، ولا يتفاعل مع محيطه، هي إلحاد أكثر منها إيمان«.
في الشكل: ولماذا الربط بين تحليل يقوم به بعثي وبين اتهام الشيوعيين بأنهم أرادوا إفراغ مضمون فكر عفلق؟ وهل يريد البعثي، الذي هو أنا، أن يفرغ فكر عفلق من مضمونه الجدلي من خلال تشخيص منهجه المعرفي؟
ولكن هل الرومانسية والمنهج الصوفي هما تهمة دفعت بمروان لأن ينفيها عن مؤسس حزب البعث؟ وهل مروان أشد حرصاً منه حول نفي تلك التهمة؟
إن عفلق لم ينفِ أن فكر الحزب قد أغرق، في حقبة طويلة من تاريخه، في العاطفة. وهل يكفينا أن ننقل ما قاله هو بالذات؟ فإليك ما قاله عفلق: «هل ستبقى قوميتنا العربية بهذا الشكل العام المجرد، الذي يحوي من العاطفة أكثر مما يحوي من الفكر.. أم أن خطورة المعركة التي نخوضها تتطلَّب أن ننظِّم عملنا، ونفتح وعي شعبنا على مفهوم لقوميتنا عميق إيجابي مكتمل الجوانب«( ).
وقال، أيضاً، «إنني أصف مراحل البعث الأولى بكل الإيمان وكل التواضع وكل الزهد (أكاد) أصفها، في بعض الأحيان، بالروح الصوفية«.
يوجز د. جوزيف الياس تطور الفكر القومي عند عفلق، قائلاً: «بدأ الأستاذ عفلق كتابة النص القومي منذ 1940م، وقوميته هي، في مراحلها الأولى، قومية وجدانية عاطفية، ضعيفة الأركان إلى حد ما، فهي: حب قبل كل شيء، وهي قَدَرٌ محبَّب، وتذكُّر حي، والإيمان بها يسبق أي تعريف... وتُعدُّ المرحلة الثانية الأغنى والأخصب في كتابة النص القومي، والأنضج في تعريف القومية وتطور مفاهيمها«( ).
إن الصوفية ليست مسبَّة أو تهمة لكي تدفع مروان إلى الدفاع ضدها بكل تلك الحرارة. وللمعلومات والتذكير أعيد ما كتبته، أنا البعثي وليس الشيوعي، عن العلامات الصوفية في فكر عفلق. لقد جاء في الصفحة 52 من الكتاب ما يلي:
إن المنهج الصوفي ليس تهمة، بل هو منهج راقٍ من مناهج المعرفة. وهذا المنهج كان قد احتلَّ حيزاً واسعاً من تاريخ الفكر العربي والإسلامي.
إلى أن يقوم أحد المهتمين بدراسة فكر ميشيل عفلق، بما له علاقة بتحديد رؤيته الفكرية بدقة وعلمية، فإنني من المؤيدين لوجهة النظر التي تقول بأن رؤية عفلق الفكرية كانت متأثِّرة بالرؤية الصوفية. أَوَ لم يقل إن «المشكلة هي في الفرق بين حقيقة الدين وظاهر الدين، لأن له حقيقة وله ظاهرا«؟( ).
فما جاء من تعريفات حول التصوف يؤكد وجهة النظر تلك. وننقل بعض ما جاء حولها: «لا شك في أن التصوف –كعلم- حاول أن يحل محل الفلسفة وعلم الكلام وأصول الفقه، بل حاول أن يحل محل الفقه نفسه؛ وذلك باعتبار أن الفقه يختص بالعلم الظاهر، أما التصوف فهو يختص بالعلم الباطن دون إغفال للجانب الظاهر في الشريعة. وحاول الصوفية المسلمون أن يقوم علم التصوف على أسس علمية أخلاقية. فهو يقوم على دراسة النفس.. كما يمتاز التصوف أيضاً بنوع خاص من المعرفة لا نجدها في الأنواع الأخرى من الفكر الإنساني والإسلامي«( ).
ولقد «ظهر التصوف كعلم أخروي يعطي المفهومات الفقهية الجامدة من تحليل وتحريم، روحاً جديدة، ويمزجها بالعاطفة الدينية المؤسَّسَة على أعمال القلب من مقامات وأحوال. وتنحصر هذه الأعمال في التصديق والإيمان واليقين والصدق والإخلاص والمعرفة والتوكل والمحبة والشوق والوجد..«( ). [راجع الصفحة 52]
وجاء في الصفحة 62 ما يلي: لقد اجتمعت لدى عفلق السمات النفسية الخاصة إلى حقل ثقافته: فتعاون الاستعداد النفسي مع محتوى ثقافته لكي يُثبِّتا عنده قاعدة خوض تجربة فريدة من نوعها، قلَّما تتيسر لآخرين، فلم تكن سوى التجربة الصوفية التي لاقت أعلى مستوى من النضج في الفلسفة الإسلامية. وإذا عرفنا أن التجربة الصوفية عند المتصوفين العرب كانت ذات علاقة وثيقة مع الدين الإسلامي، فهو كان ملهمها؛ وأن الإسلام وُلِد في الأرض العربية وأُنزل باللغة العربية وبلِّغ للعرب بواسطة رسول عربي، وكلها عناصر لها علاقة بالقومية العربية، التي كانت ملهمة لعفلق، لاستطعنا أن نعرف لماذا تميّز ما سماه عمارة بـ«إسلام ميشيل عفلق«.
كانت تجربة عفلق في معرفة الإسلام من خلال معاناته الصوفية هي التي شكَّلت الولادة الأولى لمنهجه المعرفي. فهو عرف تجربته الصوفية في الإسلام أولاً، وانعكس هذا المنهج على تجربته في الفكر القومي، ولهذا وجدنا أنه في تلك التجربة الأولى، وفي مرحلة صفائه الصوفي، قد جرَّد عفلق القومية من كل ما هو مادي حتى من أكثر حقوقها العلمية ليضعها في مصاف الروح والمعرفة الروحية. [راجع الصفحة 63 من الكتاب ].
وإنني اتمنى على الصديق مروان أن يرشدني إلى المرجع الذي نقل عنه ما يقول فيه أن الصوفية هي حالة انفرادية، حالة مرضية ونفسية، ينعزل فيها الإنسان عن المجتمع، ولا يشارك، ولا يتفاعل مع محيطه. وأنا أكون له من الشاكرين.
6- يقول مروان: «فالبعث يعتبر أن العلمانية لا تعني ترك المعتقد الديني وفصل الدين عن الدولة، وهذا يعني عزل للتاريخ والتراث واللغة والحضارة، فالعلمانية هي عدم تمييز مذهب على مذهب، أو طائفة عن طائفة بالوظائف، وهي تعني تقديس حرية الاعتقاد والأديان بنظرة، وهي مساواة واحترام، فلا يفهم الإسلام إلاَّ الثوريون الحقيقيون«.
لم يحدد البعث تعريفاً نهائياً وكاملاً للعلمانية، وهنا يقع على عاتق البعثيين أن يقوموا بمثل هذا العبء. وهم يستطيعون أن يستندوا إلى بعض المحطات الفكرية لعفلق والى بعض ما جاء من نصوص في دستور الحزب و إلى بعض ما جاء في مقررات مؤتمرات الحزب القومية. وبالإضافة إلى تلك المصادر الثلاثة، وحيث يكتشف البعثيون إشكاليات قد تواجه الدولة القومية، عليهم أن يلجأوا إلى صياغة ما يسد الثغرات فيها. و إلى أن تتم هذه المهمة، نرى أنه لا بُدَّ من أن نعقِّب على ما جاء في التحديدات التي أوردها مروان.
ما هو المقصود بمنع فصل الدين عن الدولة، كما يحسب مروان؟ أو بالأحرى ما هو المقصود من فصل الدين عن الدولة؟
لقد أسس الفكر الأوروبي لبعض القواعد العلمانية، وقد تأثَّر ذلك الفكر بما جرَّته الكنيسة من مظالم محاكم التفتيش على الفكر الفلسفي والعلمي تحت ذريعة تعارضه أو تناقضه مع التعاليم المسيحية. ولأن الكنيسة كانت تتمسَّك بحقها الإلهي بالسلطتين الزمنية والأخروية، ولأنها ألحقت كل تلك المظالم باسم سلطة الله على الأرض التي حصرها البابا بين يديه، أثارت ردود فعل غاضبة عليها من قبل المفكرين والفلاسفة والعلماء في أوروبا، فكانت العلمانية رداً ضد سلطة رجال الدين، وكان من أهم أسسها مبدأ فصل الدين عن الدولة، أي منع رجال الدين من التدخل في السياسة تحت حجة حقهم الإلهي بها. وبذلك فصلوا الجانب الروحي، بما هو أخلاق مصدرها ديني، وبما هو طريق للوصول إلى الجنة.
وهنا نتساءل عن المقصود من وراء ما يريده مروان من القول بأن حزب البعث «يعتبر أن العلمانية لا تعني ترك المعتقد الديني وفصل الدين عن الدولة، وهذا يعني عزل للتاريخ والتراث واللغة والحضارة«؟
عندما فصل الفكر الأوروبي بين الدين والدولة، أي حصر السلطة السياسية بين أيدي رجال السياسة، وحصر السلطات الروحية بين أيدي رجال الدين، لم يلغٍ ولم يعزل التاريخ الأوروبي ولا التراث الأوروبي ولا اللغة الأوروبية ولا الحضارة الأوروبية!!!
فإذا طبَّق الأوروبيون هذا الفصل، وإذا استراح الساسة الأوروبيون ورجال الدين المسيحيون الأوروبيون بمثل هذا الفصل الذي نزع عن رجال الدين ما حسبوه سلطة إلهية من بين أيديهم في الوقت الذي بقيت فيه الكنائس تقرع أجراسها، وبقي المواطن الأوروبي مرتبطاً بتعاليم دينه، ويمارس طقوسه الدينية بكل حرية، ولم يتأثر تاريخه ولا تراثه ولا لغته ولا حضارته بمثل هذا الفصل، فما هو السبب الذي يدفعنا إلى القول بأن فصل الدين عن الدولة هو إلغاء لكل تلك المظاهر، التي عدَّدها مروان، ووضعها في لائحة الإلغاء؟
يقول البعض بأن الدين لم يكن أصيلاً في المجتمعات الأوروبية لأنها استوردته من الشرق، لذلك لم تكن حريصة عليه. ويقول البعض الآخر إن الدين المسيحي هو دين له علاقة بالآخرة فقط لأنه لم يحدد شرائع دنيوية، وهذا على العكس من الدين الإسلامي الذي هو دين ودنيا. فما يجوز تطبيقه هناك لا يجوز تطبيقه هنا، و إلاَّ فنحن ننقل بذاراً من بيئة تستنبته بسهولة إلى بيئة لا يمكن له أن ينبت فيها لاختلاف الظروف والأزمنة. وبعض آخر يقول بأن الفكر الأوروبي هو فكر مادي نزع عن الروح أهميتها فغرق في كثير من المشاكل النفسية والروحية من جراء هذا النزع التعسفي.
وهنا نجيب، لا يحدد مكان نزول الأديان السماوية شرطاً لتمييز شعب عن آخر بما له علاقة بالروح، لأن الشعوب التي لم تطل -حتى الآن- على حضارة الأديان السماوية لديها تساؤلات واهتمامات بدور الروح، فمن الجائز أن تكون اهتمامات بدائية وساذجة، لكنها تهتم بهذا الجانب على مقدار وعيها. وصحيح أن الأوروبيين والغربيين قد أغرقوا بالمظاهر المادية حتى الأذنين وأخذوا يعانون من إشكالية الفراغ الروحي، ولكن هل يوجد في الشرق ذي التراث الديني السماوي من لا يهتم بمظاهر الحضارة المادية، ولا نستثني من ذلك رجال الدين؟ وهل لا يعاني الشرقي المتدين، الذي نبتت الأديان السماوية على أرضه بالفراغ الروحي؟ وهل الأزمات الروحية في الغرب هي أكثر منها في الشرق؟
وقد نلجأ إلى تبرير حججنا بترديد بعض الشعارات الجاهزة والخالية من الوصفة العملية الشافية، وهي تأتي كأنموذج كما يلي: لأننا لم نفهم الدين الصحيح، أو لقد تهنا عن مفهوم الإسلام الصحيح. ..
لكن إذا ما جلسنا إلى طاولة لنحدد فيه تعريف الدين الصحيح أو الإسلام الصحيح لخرجنا بخفيْ حُنين وتمزقنا فرقاً ومذاهب، يدّعي فيها كل مذهب أنه يمثل الدين الصحيح أو الإسلام الصحيح أو المسيحية الصحيحة.
وهنا نتساءل، أيضاً، كيف على حزب البعث أن يتمكن من بناء دولة قومية من دون أن يفصل الدين عن الدولة؟ هذا شعار عام، نحن بحاجة إلى ترجمته إلى نصوص وقوانين. وهنا علينا أن نُذكِّر مروان بها:
ماذا يريد أن يقول عفلق عندما يؤمن بالدين من دون أن يعني هذا أنه يريد أن يبني دولة دينية؟
إلى ماذا يريد أن يصل حزب البعث عندما يحدد القومية بأنها الرابطة الوحيدة بين أبناء الشعب العربي؟
إلى أين يريد حزب البعث أن يصل عندما ينادي بدستور يحفظ حرية المعتقد الديني لكل العرب؟
إلى أين يريد أن يصل حزب البعث عندما يساوي كل المواطنين العرب من دون تمييز بينهم على أساس المعتقد الديني، وخاصة عندما يعطي للمسيحي العربي الحق بأن يتولى رئاسة الدولة؟
لن نستطرد أكثر، لأن هناك الكثير الذي علينا أن ننبشه من دستور الحزب ومقررات مؤتمراته القومية، والكثير مما ورد على لسان قادته وعلى رأسهم مؤسس الحزب. نقف عند هذه الأمثلة لنتساءل: وهل في هذه الدلائل القليلة ما لا يتضمن فصلاً للدين عن الدولة؟
قد نجد من يرد علينا بأن المقصود بالدين هو الجانب الروحي، وهنا نجيب بأنه ليس من المفترض أن يمثل الدين لوحده الجانب الروحي ويحتكره. أوَ لم يوجد من الفلاسفة من الذين أكدوا على أهمية الجانب الروحي في الإنسان من دون أن يستندوا إلى تعاليم دينية؟ ونضيف إلى كل هذا أن حزب البعث لم يحصر تمثيل الجانب الروحي في الإنسان بالدين. ولم يحصره بالإسلام وحده، لأنه بمجرد اعترافه بحرية الاعتقاد الديني فهو قد منع هذا الحصر منعاً مطلقاً. وهنا لا يُلزم حزب البعث أي من المنتسبين إليه بأن يكون مسلماً أو أن يكون مسيحياً أو أن يعتنق الفلسفة الروحية التي يريد. لقد برهن عفلق والحزب على سلبية الإلحاد وأكَّدا على إيجابية الإيمان الديني، ولكنهما لم يضعاه شرطاً للعضوية في حزب البعث.
ومن هنا نؤكد على ما قلناه سابقاً أن فكر عفلق، خاصة في هذا الجانب، هو ملهم وليس ملزماً. ولا يضير عفلق كما لا يضير حزب البعث أن يكون البعثي مسلماً أو مسيحياً أو أن يكون منتمياً إلى أي معتقد ديني آخر يطمئن ويرتاح نفسياً إليه.
أما أنه لا يفهم الإسلام إلاَّ الثوريون الحقيقيون، كما قال عفلق، فهذا ليس حكماً نهائياً على الإطلاق، ولا يعبِّر عن حقيقة مطلقة. فهل ليس هناك ثوريون مسيحيون وبعثيون، أيضاً، لا يرون الإسلام كما يراه عفلق؟
نحن هنا نؤكد على مسألة مهمة، هي أن الإسلام عامل أساسي من عوامل تكوين القومية العربية، لكنه ليس جوهرها، كما أثبتنا ذلك في مواقع سابقة من هذا الرد. وإن كون الإسلام عامل من تلك العوامل، على الرغم من أنه أساسي، وهو يشكل جزءًا مهماً من التراث، إلاَّ أنه من غير الممنوع على البعثيين وغيرهم أن ينقدوا الجوانب السلبية فيه. وهنا تُطرح علينا إشكالية الطريقة في النظر إلى التراث.
فمفهوم البعث للدين، عامة، وللإسلام خاصة، هو غير المفهوم السلفي له؛ ففي الإسلام كتراث، في مفهوم البعث، محطات مضيئة يجب أن تُقرأ من جديد.

ولكن ماذا نعني بالتراث وكيف ننظر إليه؟
على كل مشكك في نوايا التيارات القومية تجاه الإسلام أن يخرج من شكوكه ويلغيها، لأن كل التيارات القومية لن تقف أي موقف عدائي من الإسلام لأنه يمثِّل تراثاً كبيراً ومؤثِّراً في بنيان القومية العربية. وكان هذا التأثير واضحاً، بشكل خاص، بعد أن تجاوزت الفتوحات الإسلامية حدود شبه الجزيرة العربية –مسقط رأس الإسلام- إلى حدود جغرافية وفكرية واجتماعية جديدة كانت تنتسب إلى قوميات غير عربية، فتعرَّبت بفضل الإسلام الذي كان أحد الدوافع الرئيسة للشعوب العربية أن تعمل على اكتساب اللغة العربية.
لكن هل أصبح التراث، الذي أكسبنا إياه الإسلام، مُسلَّمات لا يمكن نقدها أو القفز من فوقها؟ وهل أصبحت كل جوانب التراث –الإيجابي منها والسلبي- قانوناً مقدَّساً لا يمكن نقده وتطويره؟ وهل هناك من قاعدة تقول: إما أن نأخذ التراث كله أو أن نرفضه كله؟ فكيف نفهم التراث؟ وما هي جوانبه، ومظاهره؟
- هل نعدُّ مئات المذاهب الإسلامية، وما أفرزته من إنتاج فكري وفقهي غزير، بعضها مقبول وبعضها مرفوض، خارج التراث وخارج النقد؟
- هل نعدُّ محاربة الفقهاء المسلمين للفلاسفة والمتصوفين خارج التراث وخارج النقد أيضاً؟
- هل نعدُّ الظلم الاجتماعي، الذي مُورِس بحق الطبقات المسلمة الفقيرة والمسحوقة، بواسطة الخلفاء والسلاطين المسلمين، خارج التراث، ومن غير الجائز أن ننقدها؟
-.. .. .. .. .. [راجع الصفحة 76 من الكتاب ]

7- يقول مروان: «إنني أتساءل: ما هي مصلحة الأمة في الإضاءة على الجوانب السلبية في هذه المرحلة. وهل الغوص بتفاصيل التكفير والتفكك بين المذاهب الإسلامية يوقف تدهور الأمة وحالة الاجتهاد والتفسير والتأويلات. وهل ستنتهي الصراعات المذهبية الحديثة؟ هل تتحمل هذه الفرق تأخر الأمة وتفكك الإسلام وتداعيات الدولة العربية منذ فجر الإسلام وحتى يومنا هذا؟«. ويستطرد مروان: «وأشير هنا إلى أن باب الاجتهاد والتفسير والتأويل والخلافات بين المراجع الدينية هي صحة طبيعية للتعددية وللتطور، وإن إقفال هذا الباب هو تجميد للتطور، وتجميد لنصوص القرآن الكريم«.
ونحن نتساءل: ما هي مصلحة الأمة، أيضاً، في الإضاءة على الجوانب السلبية، في هذه المرحلة، في البناء الرجعي والعشائري والبورجوازي. وما هي المصلحة من الإضاءة على الصراع الطبقي بين العمال والفلاحين والبورجوازية والإقطاعية؟ وما هي المصلحة في الإضاءة على السلبيات القطرية والقطريين؟ وما هي المصلحة في الإضاءة على المستغلين والمحتكرين؟ وما هي المصلحة في الإضاءة على الظلم والظالمين؟
فإذا كان دورنا أن نخبّئ رأسنا في الرمال خوفاً من أن تتفكك الصفوف في مرحلة التحرر الوطني والقومي إذا ما قمنا بممارسة النقد حول فكر المذاهب، يدفعنا إلى التساؤل: وهل المذاهب هي مُوحَّدة الصفوف وغير مصابة بالتفكك؟ وإذا لم نمارس النقد، فهل هناك من غاية تبرر عملنا السياسي والفكري والنضالي؟ وما هي الغاية من أننا رسمنا دورنا في قلب معركة التغيير، وخضنا النضالات ودفعنا الأثمان الباهظة؟ وإذا دعونا إلى التغيير، فهل هناك لائحة جاهزة وثابتة علينا أن نلتزم بمحتوياتها وعلينا أن لا نتجاوز حدودها؟
قد نسمع جواباً: إن المسائل التي أثرتها لها علاقة بوضعنا الراهن، كمثل الرجعية، وعملاء الاستعمار، والقطريين التجزيئيين، والبورجوازيين المستغلين، والإقطاعية التي تستعبد الناس… فنحن نراهم اليوم ونعاني منهم، ونرى أعمالهم وتأثيراتهم السلبية على مجتمعاتنا.
ومن قال إننا لا نتفتت ونتفسخ وتحترق أصابعنا ويزداد تخلفنا من الصراعات المذهبية؟ فهل انتهت الصراعات بين المذاهب في هذا العصر؟ وهل انتهت الاتهامات بالتكفير بين المذاهب الإسلامية؟ وعلى أي أساس تقوم تلك الصراعات والاتهامات بالتكفير، وهل هي بعيدة عن الاختلاف بالتفسيرات والتأويلات؟
إننا، من خلال استمرار تأثيرات المذهبية الدينية، لم نزل نعيش أتون التكفير والتكفير المضاد بين تلك المذاهب. إننا نعيش اليوم من خلال وجود تلك المذاهب وكأننا نعيش في اللحظة ذاتها التي رافقت وفاة الرسول. إننا نعيش الآن حرب الجمل وحرب صفين والصراع الأموي - العباسي، ونعيش، أيضاً، في صراع بين الشعوبية الحديثة التي يقودها إسلاميون من شتى المذاهب… [فهل هذا يكفي أم نتابع؟ فإننا على استعداد إلى أن نستكمل كل السلسلة وسترى كم هي طويلة].
ليس من الواقعية أن ندرس ونثير ما أصبح في ذمة التاريخ وأصبح دوره منتهياً في هذه المرحلة. لكن الخلافات الدموية والفقهية والتفسيرات والتأويلات ما زالت تلعب دوراً مؤثراً في حياتنا المعاصرة، فنحن نعيشها اليوم كما عاشها المسلمون منذ مئات السنين. ولهذا السبب، فنحن حينما نعالجها اليوم، فكأننا نعالج مشكلة لها تأثير كبير في حياتنا المعاصرة. وإذا كان لا بُدَّ من أن نأتي بحجج حية، نقول: أليس من الإشكاليات المطروحة اليوم هو أننا أمام تيارات إسلامية من كل المذاهب تدعو إلى تأسيس دولة إسلامية؟
من هم الداعون إلى تأسيس دولة إسلامية؟ وما هو فكرهم؟ وما هي مصادر القوانين التي عليهم أن يضعوها لتسيير أمورها؟
بما أن شعار الدولة الإسلامية قائم على قدم وساق، ويخوض الداعون إليها صراعات دموية حيناً، وصراعات فقهية تقوم على التكفير حيناً آخر. يتنازع فيها إسلاميون من كل المذاهب ضد بعضهم البعض. ويقودها جميع هؤلاء ضد الداعين إلى بناء أنظمة علمانية وضعية. فإذا كانوا هم بالذات ناشطين في دعوتهم، ونحن من الذين يرون استحالة أن تحقق الدولة الإسلامية حقوق كل مواطنيها بعدل ومساواة، هل علينا أن لا نثير ما يؤكد استحالة قيام حلمهم؟ وهل هناك طريق آخر غير طريق نقد فكرهم كإحدى الوسائل للبرهان على استحالة تطبيقه ؟
إنني أتمنى على مروان أو على غيره ممن يرون خطأً في إثارتنا لأسباب تلك الصراعات أن يقنعوا أصحاب تلك التيارات من الترويج لأفكارهم، التي ليست قائمة إلاَّ على التحريض والتعبئة والتكفير، فإننا ساعتئذٍ نرى أن صوتنا هو الصوت الشاذ في هذه المرحلة لأننا نكون كمن ينبش الفتنة من أوكارها. وما دامت الفتنة مشتعلة، بشكل أو بآخر، فمن الخطأ أن لا نقول إن هذه فتنة تحدث التمزيق والتفتت في جسد أمتنا، ومن الخطأ، أيضاً، أن لا نحدد أسبابها القائمة على الخلاف في تفسيرات النص الإسلامي وتأويلاتهم.
وهل يخرج عن هذا الإطار في الصراع المذهبي كل من الوهابيين والدعاة الباكستانيين والإخوان المسلمون وحزب التحرير الإسلامي والأحباش وتيار ابن لاذن … وهل يمكن أن ننسى التيارات الإيرانية التي تقول بولاية الفقيه، والتي يعمل حزب الله في لبنان على هديها … وهل هم لا يكفِّرون بعضهم بعضاً. وهل كانت دعواتهم نائمة ولم يكن ينقصهم إلاَّ أن يقوم البعض من أمثالي ليتوجهوا بالنقد إليهم حتى تستفيق بهم غرائز المذهبية؟
ومن المستغرَب أن يقول مروان: (وهل ستنتهي الصراعات المذهبية الحديثة؟ هل تتحمل هذه الفرق تأخر الأمة وتفكك الإسلام وتداعيات الدولة العربية منذ فجر الإسلام وحتى يومنا هذا؟).
وإننا نتساءل بدورنا: وهل يشك مروان بأن الفرق والمذاهب هي التي تتحمل وحدها وزر تفكك الإسلام وتداعيات الدولة العربية؟ قد يرد البعض هذا التفكك إلى عوامل سياسية. ولكن تلك العوامل كانت تجد من يحميها من الفرق الإسلامية ومن يسوِّغ شرعيتها استناداً إلى نصوص إسلامية مأخوذة من الكتاب والسنة.
إننا لن نستطيع إلغاء المذاهب الإسلامية، وعبثاً حاول البعض أن يدعو إلى إسلام بلا مذاهب وكان الفشل نصيبه. لكن إذا عجزنا عن إلغاء المذاهب، وسوف نعجز حتماً، أرى من جانبي أن استحالة إلغائها لا يبرِّر لنا أن نمتنع عن نقد أسسها الفكرية السلبية، خاصة منها تلك القائمة على تكفير المذاهب الأخرى، التكفير القائم على أنها تخالف أوامر الله. وإنني أحسب أنها إذا ألغت مبدأ التكفير فإنها ستتحول، ساعتئذٍ، إلى دائرة التعددية الصحية.
كانت استنتاجاتنا في كتاب الردة متواضعة جداً في طموحاتها، وهي ما أشرنا إليه في نتائج البحث، وتنص على ما يلي: إن «التعددية المزعومة في المذاهب هي مجرد سراب ما دام سيف الردة مسلط على كل كبيرة أو صغيرة. ولكي تصبح تعددية موضوعية، فلا بد أمامها إلاَّ أن تسلك طريق الحوار، أي الاعتراف بالآخر، والاعتراف بحريته في الاختيار بعيداً عن تكفيره بحجة البعد عن النص. وإذا كنا نرفض المذهبية، كواقع للتفتيت، فإننا نرحّب بالتعددية كطريق للإغناء وليس للإلغاء«. [راجع الصفحة الرقم 476 من كتاب الردة في الإسلام ].

8- يتابع مروان قائلاً: «لماذا لا نضيء على إيجابيات الدولة العربية: عن العلم والعمران والدولة المترامية الأطراف من علم المأمون وعدل هارون الرشيد والرسالة الإنسانية الحضارية وعلم الفلك والرياضيات والفيزياء والطب، حيث كانت هذه الفرق المذهبية أعلى مراحل الصراع والتقاتل».
وهل لا تكفينا يا عزيزي كل خطابات السياسة والمقالات الإيديولوجية، وكتب التاريخ التي تربينا عليها ونحن على مقاعد الدراسة الابتدائية، والتي لم نعرف، من خلالها، أن في تاريخنا محطة سوداء واحدة؟
وهل لا تكفينا مئات ألوف الكتب التي أشارت بأكثر مما هو لازم إلى الدور العربي والإسلامي الباهر في رفد الحضارة الإنسانية في شتى حقول المعرفة التي كانت سائدة في تلك العصور؟
أنا فخور بما حققته أمتي في بعض مراحلها التاريخية من الإنجازات الحضارية والفكرية. ومن التكرار الممل أن أرددها لأننا حفظناها عن ظهر قلب. ولكن في عصرنا الراهن وجدنا أن امتنا التي رفدت الحضارة الإنسانية بسيل واسع من المعارف، أصبحت أمة تعاني من التخلف والجهل والأمية. ولأنها مصابة اليوم بالتخلف فهناك أسباب كامنة وراءه، فهل من الخطأ أن نعمل في سبيل تحديد الأسباب؟ ولأن الأمة مصابة بالتخلف، فهي إذاً مصابة بعدد من الأمراض، فهل من الخطأ أن نقوم بتشيخصها لمعرفتها؟ وهل يتم هذا التشخيص إلاَّ من خلال النقد الموضوعي والهادف؟
إذا ذهبت إلى الطبيب عندما أشعر بعلة ما قد أصابتني، فإنني سأطلب منه أن يشخِّص مصدر علتي. أما إذا طلبت منه أن يدلني على الأجزاء غير المصابة في جسدي، فإنني كمن يذهب إلى الطبيب لا لكي يعالجه، بل لكي يهنئه على أنه ما زال فيه أعضاء غير عليلة.
إن مهمة الثوري هي كمهمة الطبيب الذي عليه أن يعرف أسباب المرض لكي يستطيع أن يصف له الدواء الذي يساعده على العلاج. وإذا أخفى الثوري عيوب أمته وعللها فهو ليس ثورياً بل مساعداً على استفحال المرض في جسد أمته. وأنا، بدوري، وشعوراً مني بأنني يجب أن أكون الثوري الذي عليه أن يعرف أمراض أمته كخطوة على طريق الإسهام في علاجها اخترت طريق النقد الموضوعي، وهو أن أعمل على تأسيس مختبر علمي كفيل بأن يحدد كل الجراثيم التي تنخر في جسد أمته من دون أن يخاف من أن تكون الجراثيم معششة هنا أو هناك. ولهذا السبب، ولأن المطلوب مني أن أسهم في العلاج، وأن أدفع ثمناً له، عليَّ، لكي أقصر فترة العلاج، أن أحدد مصدر العلة التي أصابت جسد الأمة العربية. ومن الخطأ في مثل موقعنا أن نحاول التخفيف من وطأة المرض تحت حجة أننا يجب أن نتغنى بالأعضاء السليمة فيها تحت ذريعة أن نقد المذهبية لا يحمل فائدة، بل يعزز الشرخ بين المذاهب.
لقد تغنينا كثيراً بماضي أمتنا المجيد، وحفظنا أشعاراً ونصوص مقالات وكل عبارات الاستنهاض والبطولة والإباء والدفاع عن الكرامة، وحرقنا الكثير الكثير من أعلام الأعداء ودسناها بأقدامنا، وتوجهنا بالكثير من اللعنات على الاستعمار وغيره ممن يساعدونه، ولكننا كنا نخشى أن نتعرَّف على أمراضنا الذاتية التي كانت أشد وطأة من الاستعمار وأذنابه في إحداث التخلف الذي نعاني منه.
وعلى العموم، إسمح لي بأن أوضح مسألة تفصيلية جاءت في ردّك، وهي تدور حول التغني بعلم المأمون وعدل هارون الرشيد… وتتابع لتقول بأن السبب الأساسي الذي أسهم في إضعاف الدولة العربية كانت المرحلة التي دخل فيها الفرس والأتراك على مفاصل الدولة… لكن يا عزيزي أتدري أن هارون الرشيد العادل هو أحد الذين أسهموا في تمكين الفرس من دخول حرم الدولة العربية واستولوا عليها فيما بعد؟ أوَ تدري يا عزيزي أن الأتراك الذين تحملهم مسؤولية التخلف الذي أصاب الأمة العربية والإسلامية، وأنا معك في حكمك، أن الذي فتح لهم أبواب الدولة هو الصراع الذي كان يتحكم بالخلفاء العرب المسلمين؟
لقد ألقيت التهمة على الفرس وأصدرت صك البراءة بحق هارون الرشيد، الذي لم يكن عادلاً بالفعل، وأعفيت أترابه من المسؤولية بدون أي مسوغ قانوني.
إن دخول الفرس والأتراك إلى مفاصل الدولة العربية ليس هو السبب الوحيد الذي أضعف الدولة العربية، بل لأن الدولة العربية أصبحت ضعيفة كانت سبباً لتسلل الفرس والأتراك إلى داخلها والسيطرة عليها. وهنا أليس من حقنا أن نتساءل عن السبب الذي جعل الدولة العربية ضعيفة؟
ثم ألا يقول المسلمون بأن الإسلام عالمي، وهو رسالة الله للناس جميعاً؟ وهل في هذا الاعتقاد ما يؤكد حق الفرس، وغيرهم من الشعوب التي انتمت إلى الإسلام، بالحكم؟ فهم حكموا الدولة الإسلامية لمراحل متفاوتة، وكان حكمهم مبني على الشرائع الإسلامية أيضاً، فهل في حكمهم ما يتناقض مع تعاليم الإسلام؟ وتالياً، فهل لا يتساوى العربي بالفارسي والتركي من وجهة النظر الإسلامية؟
لقد كان الغطاء الشرعي لاستقرار غير العرب في الحكم غطاءً إسلامياً، فهل من غير حقنا أن نتساءل من أين جاء هذا الغطاء، وعن مصدر النصوص التي استند إليها الفقهاء لإضفاء الصفة الشرعية على أن يحكم الدولة الإسلامية غير عربي؟ ولهذه الوقائع نقول: كما كان الإسلام يشكل أهم الدوافع لبناء الدولة العربية الإسلامية المترامية الأطراف، كان، أيضاً، يشكل أهم الأغطية الشرعية لأن يحكمها غير العرب.
وهل تعلم أن سبب التخلف الذي أصاب الأمة العربية والإسلامية بعد أن عرفت عصرها الحضاري الذهبي، كان مرده إلى عاملين إثنين، وليس إلى عامل واحد -كما تحسب أنت- وهما: سقوط الدولة العربية في أيدي غير العرب أولاً، وانتصار تيار النقل الإسلامي على تيار العقل ثانياً، والذي شهد آخر فصوله بعد محاكمة الفيلسوف العربي ابن رشد. وهو الذي استندت إلى أعماله وإنتاجاته الفكرية حركة الفلسفة الأوروبية؟ وهنا علينا أن لا ننسى أن أكثر مصادر الفكر إغناء للحضارة الأوروبية كانت تلك الاتجاهات الفكرية التي وقف ضدها فقهاء النص الإسلامي، وهي التي أصدر الفقهاء أحكام التكفير بحق أصحابها.
فهل يحق لي أن أتغنى بعدالة هذا أو علم ذاك، ولا يحق لي أن أمارس النقد بحقهم إذا أخطأوا؟
لكن، حتى في ظلال الدولة العربية في عصرها الذهبي، نتساءل: هل كانت العدالة والمساواة سائدتين؟ هل زال الفقر والتخلف والاستغلال والأمية؟ هل كانت نسبة الأمية متدنية بين صفوف المسلمين العرب؟ وهل ذابت القبلية والعشائرية والمذهبية في تلك العصور الذهبية؟
إن قراءة سريعة لكتابي «في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام«، تُظهر كم كانت الثورات: القبلية والطبقية والمذهبية… مستفحلة في أرجاء الدولة العربية. أوَ هل من المشروع والواقعية أن أتغنى بالأمجاد وأغض الطرف عن الآفات التي كانت مستفحلة في تلك العهود؟ وإذا كانت الآفات لا تلغي الانتصارات والحضارة، فإن على الوجه المشرق أن لا يطمس أبداً الوجه المظلم تحت أية ذريعة كانت.
أما بالنسبة إلى المذهبية، فحدِّث عن آفاتها بلا حرج، وهنا أرجو قراءة كتاب «الردة في الإسلام«، لترى كم كانت المذهبية تلعب دوراً مؤلماً في أثناء العصر الذهبي للدولة العربية. أنسيت من هو الذي كان يكتب التاريخ؟
إنه انطلاقاً من هذه النقطة والتي علينا أن نتفق فيها حول من كان يكتب التاريخ، أن نتفق، أيضاً، حول كيف نقرأ التاريخ [وهنا أرجو قراءة رأيي الموجود في مكان آخر من هذا الرد].

9- وتقول في نهاية مداخلتك: «فتسييس الدين ودخول الشعوبية إلى الدولة العربية كانت المحطات المظلمة من تاريخ أمتنا العربية وانهيارها«.
ولماذا نهرب دائماً إلى التعميم الغامض ياصديقي؟ أنت تبرّئ الدين والمذاهب، وتضع كل الجرائم برقبة «تسييس الدين«. ومتى لم يتم تسييس الدين؟ وهل الذي سيَّسه هو من أعدائه؟ وهل الدين هو غير السياسة؟ وهل الدين هو غير الاقتصاد والاجتماع…؟
فإذا استثنينا الجانب الروحي - الغيبي، والروحي - الأخلاقي، في الدين بشكل عام، لوجدنا أن السياسة كانت، دائماً، تلعب الدور الأول والأخير في شتى العصور الإسلامية، بدءًا من مرحلة النبوَّة.
أوَ لم يختلف مضمون الآيات المكية عن الآيات المدنية؟ ففي لهجة الآيات المكية ما يدعو إلى الحوار وعدم الإكراه والجدال بالتي هي أحسن… أما في الآيات المدنية ففيها ما يدعو إلى القتال والجهاد والغزو وإجبار المشركين على اعتناق الإسلام بحد السيف، وكانت أسس الدعوة تقوم على ما يلي: إما الإسلام وإما السيف، (والخير كل الخير بالسيف)، بعد أن كانت تقوم على ما يلي: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت:34).
في بداية الدعوة الإسلامية، وبعد هجرة الرسول إلى المدينة، وقبلها بقليل، عقد الرسول مع المشركين العديد من المعاهدات السياسية السلمية، [ويمكنك العودة إلى التاريخ الإسلامي لكي تتابعها وتفقه مضمونها] وبعد أن اشتدَّ عود الدعوة وأصبحت مرهوبة الجانب، تغيَّرت استراتيجية الرسول السياسية مع مشركي مكة، ومع أصحاب الكتاب…
قد يقول قائل بأن هذا التحول، الذي أصابته استراتيجية الرسول، كان بأوامر إلهية، وبوحي من الله تعالى، لكن… هل يعني ذلك أنها لم تكن سياسة ذكية وحكيمة وواقعية؟ وهل تنفي عنها صفتها الإلهية أن تكون ذات أبعاد وأهداف سياسية مرحلية؟
وإذا عدنا إلى المرحلة التي أعقبت وفاة الرسول مباشرة: اختيار أبي بكر الصديق -بعد خلاف بين المهاجرين والأنصار- كأول خليفة للمسلمين، ثم عمر بن الخطاب، ومن بعده عثمان بن عفان، انتهاء بعلي بن أبي طالب، كآخر خليفة راشدي، وانتقال الخلافة إلى الأمويين فالعباسيين، هل كانت كل تلك التطورات ذات مضامين دينية أم أنها كانت ذات أهداف سياسية؟
هل كانت أسباب مقتل عثمان بن عفان سياسية أم دينية؟ وأسباب بيعة علي بن أبي طالب، هل كانت ذات أغراض سياسية أم دينية؟ ثم الحوادث الدامية - الفتن، في خلال مواجهته لخصومه في حرب الجمل، ومواجهة معاوية بن أبي سفيان في حرب صفين، واقتتاله مع الخوارج، هل كانت بعيدة عن السياسة أم كانت تصب في قلب الأغراض السياسية؟
لقد كان الإسلام ذا أهداف سياسية منذ بداية الدعوة حتى نهايتها.
إن استطرادي، من خلال الشواهد التاريخية، لا تخرج عن إطار النصيحة لكي تبتعد ثقافتنا عن استخدام الأحكام العامة الغائمة التي لا تقوم على إسنادات واقعية ومنطقية…
لا يعني هذا أنني أرفض أن يكون للدين دور في السياسة، لأن الدين، في أكثر جوانبه، يستند إلى السياسة؛ كما يستند، في جوانبه القليلة الأخرى، إلى الأخلاق وأحكام العلاقات الاجتماعية بين الناس، وأحكام العلاقات الغيبية بين الله والبشر. وتأتي، هنا، أحكام الأخلاق الاجتماعية وأحكام العلاقات الغيبية لكي تكون عنصر إقناع للناس باختيار هذا الدين أو ذاك، الذي يعمل من أجل هدف أساسي في هذه الحياة الدنيا، وهو بناء دولة دينية - سياسية. لأنها -بنظر المتدينين- هي الدولة التي تسوس أمور الناس في الدنيا على قواعد العدالة والمساواة السياسية والاجتماعية والمعيشية… وهل هدف بناء دولة دينية هو زهد في السياسة، أو لا علاقة له بالسياسة، وإنما هو لوجه الله تعالى فقط؟
ما هي مشكلتنا مع الدين؟
نؤكد أن للدين جوانب سياسية وأخلاقية، فنحن نعمل -سواء كنا منتسبين لهذا الدين أو ذاك- في سبيل بناء أخلاق اجتماعية تبني علاقات البشر على أسس متينة من التعاون والتعاضد. أما موقفنا من الجانب السياسي في أية دعوة دينية فقائم على أن التعاليم الدينية تعطي للنخبة من البشر، المنتسبين لهذا الدين أو ذاك، الحق في استلام مقاليد السلطات السياسية تحت حجة أنها أوامر إلهية، فتعطي النخبة لنفسها -بصيغة تعاليم الله- حق حكم الناس باسم الله، فتصبح النخبة حاكمة للبشر تحت ظل مبادئ كمثل (وأطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم)، وبهذا تتساوى -على الرغم من أن المبادئ هي إلهية- سلطات الله مع سلطات الرسول مع سلطات أولي الأمر، وتصبح المعادلة المنطقية أن من يعصى أوامر أولي الأمر كأنه يعصى أوامر الله.
هنا، واستطراداً، أرجو أن تعود إلى كتاب (الردة في الإسلام) لترى أن الدعوة الإسلامية لم تكن لتنفصل عن السياسة على الإطلاق، وتتأكد من هذه الحقيقة بالواقعة التاريخية والنص الإسلامي العام والنص المذهبي الخاص. لقد أخذت على كتاب الردة أنه ينبش مثالب المسلمين ومذاهبهم عبر التاريخ، وأنه ينبش ويسجل تاريخ الفتن والصراعات، ولم تقف عند الهدف الأساسي من وضع هذا الكتاب. فهدفه الأساسي كان أن يبرهن على أن الدعوة الإسلامية كانت ذات أغراض سياسية، وكانت الفرق والمذاهب تستند إلى أغراض سياسية أيضاً. وهذا ليس محل استنكار من جانبي بل هي أغراض واقعية، لأن تصارع التيارات حول استلام السلطة السياسية، ومنها التيارات الدينية، هو أمر طبيعي لأن كل تيار يريد أن يحكم ليبرهن أن اتجاهاته الفكرية وأهدافه، الدينية أو السياسية، هي الأفضل والأصلح لمصالح البشر. لكن ما أثار انتقادي، طوال فصول البحث، هو أن كل فرقة أو كل مذهب كان يضفي على أسسه الفكرية الصفات والأوامر الإلهية، وإنني أردت أن أنفي صفة الألوهية عن تلك الادعاءات وأبرهن على أنها صفات سياسية بشرية. ولم أخرج في بحثي عن أهداف البرهنة على أن المذاهب والأديان أيضاً لم تُعط حق الحكم باسم الله.
وهنا أنهي هذا التوضيح بإعادة التأكيد على أن مصطلحك «تسييس الدين« الذي حمَّلته وزر المحطات المظلمة في التاريخ العربي - الإسلامي، ليس مصطلحاً دقيقاً لأن السياسة هي من أهم أهداف الدين وغاياته، ولكي يثبت العكس فعلى التيارات الدينية أن تمتنع عن الدعوة إلى قيام دولة دينية تحكم فيه النخبة رقاب البشر باسم الشرائع الإلهية. وإذا استطعت أن تثبت أن تلك التيارات، مستندة إلى النص الديني، لا تعمل في سبيل هذه الغاية فإنني، منذ تلك اللحظة- سوف أحمَّل وزر ما حصل في التاريخ الإسلامي للسياسة وليس للتعاليم الدينية.

مداخلات شفهيـة، جاء في مضمونها:
م. ي: نحن بحاجة إلى تشريح تاريخنا، لقد أبدعت الأمة العربية بالحضارة. لكن المشروع البعثي لم يكن متكاملاً، ونحن بالفعل رومانسيون. لقد شكَّل الإسلام القاعدة الثقافية للعرب، ولكن هل من غير الجائز أن تتغيّر هذه القاعدة؟ وإذا قمنا بالاستمرار في المنهج النقدي نستطيع أن نطوِّر فكرنا. وهناك بعض الملاحظات ذات العلاقة بتعميق وتطوير فكرنا حول فهمنا للإسلام فالمطلوب هو توحيد مواقفنا المختلفة حوله. ويغيب عندنا الوضوح في العلاقة بين العروبة والإسلام. فأين هو موقع الفكر البعثي من الإسلام؟ هل هو فهم سياسي، أم ديني؟ هل نحن مع الإسلام كاملاً لكن بدون الالتزام بالنص الإسلامي؟
م. ق: اكتسبنا عادة التقليد للأفراد، ومن الواجب أن يكون لدينا مؤسسة تُعنى بالفكر والثقافة.
-من غير الواضح موقفنا من المقدَّس، فهل يجوز لنا أن ننقده؟ أم هناك حواجز تمنعنا من الاقتراب منه؟ لأننا نرى أن هناك إغراقاً في الإلحاد وإغراقاً في الإيمان.
-لم يُكتَب عن مرحلة ما قبل الإسلام، وهي ما يُطلق عليها تعسفاً المرحلة الجاهلية.
-لم يأخذ الحزب خطاً ثابتاً بالنسبة للإسلام، مثلاً: أي إسلام نريد؟ هل هو استحضار للروح، للعقائد؟ للتاريخ…؟ وأي تاريخ نريد؟ فنحن لم نجد في كتاب الردة أية محطة مضيئة.

م. ب: هل استندت إلى القرآن الكريم، خاصة وأن فيه آيات تقارب ما بين العروبة والإسلام؟ وفيه، أيضاً، آيات تفيد كل عصر؟
-ما هو الحد الفاصل بين العروبة والإسلام؟ وعلينا، كبعثيين، أن لا نفرِّق بين مشروع قومي ومشروع إسلامي. لأنه لو لم يكن الإسلام لم يكن ليُوجَد البعث.
-هل المادة التي تكتبها، كباحث، للبعثيين بشكل خاص؟ أم هي موجَّهة، عموماً، للأمة العربية؟ وهل تصلح الكتابات النقدية لتثقيف الجهاز الحزبي؟
- هل تغلَّب عندنا الجانب الروحي على الجانب المادي؟
- نرى من المناسب أن يُكتَب تاريخ الحزب في لبنان.
م. ح: علينا أن نأخذ بعين الاعتبار دعوة ميشيل عفلق لمواجهة الإخوان المسلمين. وهل هناك شك بإسلامه؟ يعني هل هناك وصية له بالفعل؟
- نظرية البعث ليست نهائية لأن النظرية تتطور مع الزمن.
-قوميتنا واضحة: إنسانية، تأخذ من معاني الإسلام اللاسياسي.

أ.ط: العناوين كثيرة، أما الأساسي منها، فهو:
-فكر البعث ليس جامداً، ونحن غير مضطرين للتوقف عند المعاني الرومانسية.
-نحن نسعى إلى الكمال، نحو أفضل تجربة إنسانية، والبعث جزء من هذه التجارب. وتجربتنا الآن شبيهة ببداية تجربة الدعوة الإسلامية. لقد جاء الإسلام ليعزِّز القيم الصحيحة، ودورنا الآن أن نعزِّز قيم الإسلام ونرفض الشوائب. كمثل إلغاء الرق في الإسلام…
-على مستوى الفكر علينا أن نبتعد ضد الإغراق في التقليد أو الإغراق في استيراد الفكر. أن نناضل ضد المادية ومع تعزيز دور الروح، أي أن المطلوب هو إعادة التوازن. فكيف نتعاطى مع دور الروح؟ وكيف نوازن بين الروح البعيد عن الجمود الديني والمادية؟
-ليس المطلوب منا أن نغوص في خلافات المذاهب، وإن مهمة الوحي، عبر الديانات، جاءت لتنقل العقل البشري بين مرحلة ومرحلة، ونحن لسنا ملزمين أن نأخذ بها في هذا الزمن.
-الرومانسية والسياسة ليستا حالة واحدة فلكل منهما حقله.
-الإنسان بحاجة إلى قوة أكبر من المادة لتحقق له التوازن في حياته.

؟. ش: كان اختيار الموضوعات الإسلامية والقومية ذا أهمية في هذه المرحلة. لذا يجب البحث عن عوامل التوحد بين العروبة والإسلام لنصل إلى مقاربة صحيحة بينهما على قاعدة (العروبة روحها الإسلام).
-هل البحث يهدف إلى الربط الموضوعي بين العروبة والإسلام، أم هدفه اكتشاف عوامل التنافر بينهما؟

إ. أ: الحالة الثقافية من أهم الأسس التي علينا أن نُعنى بها، لأنها تعطي للوحدة الحزبية حقيقتها. لقد ترك الأستاذ شعارات عامة في القومية والإسلام. والحضارة الإسلامية توَّجت الحضارات التي سبقتها. ولذلك نجد أن الجانب الروحي متأصل في مجتمعاتنا، فالإيمان عندنا يعطي حرارة أكثر للنضال.
-إن اعتبار الإسلام أباً للعروبة هو خطأ لأن الإسلام جاء بعد العروبة. ووجود الرسالات على أرضنا يحمل الجذور الأساسية للحضارات.
***
ردود حول أسئلـة / مواضيع متفرقـة
• من غير الواضح موقفنا من المقدَّس، فهل يجوز لنا أن ننقده؟ أم هناك حواجز تمنعنا من الاقتراب منه؟ لأننا نرى أن هناك إغراقاً في الإلحاد وإغراقاً في الإيمان.
إن المقدس مسألة نسبية، وليس له مفهوم فكري ديني متَّفقاً عليه. فالمقدس عند المسلم هو غيره عند المسيحي، والمقدس عند أهل الأديان السماوية هو غيره عند الأديان الوثنية. والمقدس عند مذهب إسلامي هو غيره عند مذهب إسلامي آخر… فالمقدس الذي يزرع الرهبة أو الخوف عند فرد أو جماعة أو مجتمع لا يزرعها عند فرد آخر أو جماعة أخرى أو مجتمع آخر. لذلك، ما لم يكن المقدس يمثل حقيقة واحدة عند شتى الأفراد أو الجماعات أو المجتمعات فهو نسبي ولا يكتسب صفة القيمة العليا الإنسانية المطلقة، كمثل قيم العدالة والحرية والمساواة…
وإذا كنا نقصد، هنا، بالمقدس تلك القضايا والمسائل التي لها علاقة بالدين -سواء كان الإسلام أو المسيحية أو اليهودية- علينا أن نعي بأن ما هو مقدَّس عند المسلم ليس بالضرورة أن يكون مقدساً عند المسيحي أو اليهودي، والعكس بالعكس. من جراء هذا التعريف لا بُدَّ من أن نجد المسلم ينقد المقدَّس عند المسيحي بدون خوف، وهكذا يفعل المسيحي… لكن ما لا يجرؤ كل منهما على نقده من المقدس هو ما يعتقد بأنه مقدساً في التعاليم الدينية التي يؤمن بها.
فنقد المقدس، إذاً، ميسور للآخر وليس ميسوراً للذات. وإذا كنا نريد أن نحصر المقدس في دائرة الدين الواحد فسنجد أن تعريف المقدَّسات تختلف من مذهب إلى آخر، فنقد مذهب ما لمقدسات المذهب الآخر ميسورة، ويمارسها المتمذهبون بكل حرية، ومن دون خوف.
لكننا على الرغم من كل هذا، يتابع المحافظون على مقدساتهم النسبية خطى تخويف أتباعهم من نقد مقدَّساتهم الخاصة خوفاً من أن يتعرضوا إلى عقوبات إلهية في الوقت الذي يمارس فيه الآخرون انتقاداتهم لتلك المقدسات من دون أن تلحق بهم تلك العقوبات.
ولأن المقدس نسبي، ولأنه يتعرَّض إلى النقد من الآخر، على أولي الأمر من أصحاب الأديان والمذاهب أن يُخرجوا رؤوسهم من الرمال لكي يعترفوا بالحقيقة الواقعية، فالنقد الذي يخوِّفون أتباعهم من ممارسته، نرى الآخر يمارسه بالنيابة عنهم. وهذا ما يدفع بنا إلى دعوة الخائفين من النقد أن يفتحوا أبواب الحرية أمام أتباعهم لينقدوا ما يشاءون، وعليهم -أي أولي الأمر- أن يردوا ويوضحوا ويبرهنوا دفاعاً عن مقدَّساتهم لكي يكون الاعتقاد بالمقدس قائماً على قناعة تامة من قبل أتباعهم لا أن يمارسوا عليهم أساليب الترهيب والترغيب، لأن القناعة بالمقدس إذا لم تكن قناعة عقلية وذاتية، ستكون حصونها هشَّة وفاقدة للمناعة.
أما حول الرهبة من نقد المقدس فتعود إلى عوامل نفسية وتربوية متأصِّلة، وهنا سنتخذ شهادة حول دور تلك العوامل من تجربة خاضها أحد الباحثين. ولنرى نتائج ومضمون تجربته.
لقد بذل الباحث المذكور جهداً لكي يكتسب الجرأة الكافية التي تؤهله للخروج عن التقليد في تفسير الأفكار والوقائع التي لها علاقة بالحضارة العربية الإسلامية. وهنا يقول إن ثقته قد تبدَّدت في وجود تفسير مجرد لها، وتبيَّن له أن كل معالم الثقافة العربية الإسلامية (السُنَّة والفقه وعلم الكلام…) لم تكن معطى «إلهياً«، بل تضافر العديد من العوامل المعرفية… «وإن الضمير الديني الجمعي هو الذي أضفى عليها، فيما بعد، هالة من القداسة والإطلاق«. وكان مما ساعده على الخروج من معاناته هو اطلاعه المتواصل على ما تمور به الساحة الثقافية العربية من مراجعات نقدية للتاريخ الإسلامي والمشاكل المتعلقة به( ).
• لم نجد في كتاب «الردة في الإسلام» أية محطة مضيئة.
لقد أوضحت في مقدمات بعض أبحاثي أنني اخترت طريق نقد مساوئنا، وليس تبيان محاسن حضارتنا، لأن المحاسن قد عملت على تبيانها عشرات الآلاف من الأبحات، بينما القلائل هم الذين تجرَّأوا على نقد المساوئ. أما أنا فاخترت طريق النقد، على أن هذا لا يعني إلغاءً لإيماني الشديد واعتزازي بفضل حضارتنا على الإنسانية. وإن من قرأ أبحاثي سيجد ما أشرت إليه من إيجابيات قدَّمتها تلك الحضارة. واختياري طريق النقد هو لقناعتي التامة أنه لا يمكن أن نسهم في تطوير حضارتنا والتغيير في بُنى مجتمعاتنا الفكرية إلاَّ بممارسة النقد الجمعي الذاتي.
• هل المادة التي تكتبها، كباحث، للبعثيين بشكل خاص؟ أم هي موجَّهة، عموماً، للأمة العربية؟ وهل تصلح الكتابات النقدية لتثقيف الجهاز الحزبي؟
ولماذا نخشى أن نثقِّف البعثيين بكتابات نقدية؟ إن القاعدة أن نؤهِّل كل ملتزم بقضايا أمته بثقافة نقدية تستند إلى عقل ناقد، أليست الحركة الحزبية هي الدعوة إلى الانقلاب على الواقع؟ وكيف تنقلب على الواقع، ولماذا؟ وهل تنقلب إلاَّ على الواقع الفاسد؟ وكيف تعرف أن الواقع فاسد إذا لم تنقده؟
إن الواقع الفاسد هو عبارة عن نهج فكري واجتماعي وسياسي واقتصاد لا يلبِّي حاجة المجتمع في التقدم. فعليك، إذاً، أن تبيَّن طبيعة الفساد. وهل تستطيع أن تبيِّن طبيعة الفساد من دون نقدها؟
من هنا، لن يكون المستغرَب أن تثقِّف الحزبيين بالدراسات النقدية، لكن المستغرَب أن لا تثقفهم بتلك الدراسات. فدراساتي وأبحاثي النقدية هي مُوجَّهة لكل العرب بشكل عام، وإلى الملتزمين من البعثيين وغيرهم بشكل خاص. وإذا كان من أصول نشر الثقافة أن لا تُلزِم العربي بقراءة ثقافة نقدية، فمن باب الإلزام أن يكون الملتزم ذا حسٍّ نقدي وعقل ناقد وثقافة مبنيّة على النقد.
• هل استندت إلى القرآن الكريم، خاصة وأن فيه آيات تقارب ما بين العروبة والإسلام؟ وفيه، أيضاً، آيات تفيد كل عصر؟
أرجو السائل أن يعود إلى قراءة بحثي المنشور تحت عنوان: في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام. ففي الفصل الأول أعطيت الجانب الذي يشير إليه السائل كل اهتمام.
• علينا، كبعثيين، أن لا نفرِّق بين مشروع قومي ومشروع إسلامي. لأنه لو لم يكن الإسلام لم يكن ليُوجَد البعث.
أما أنه علينا أن لا نفرِّق بين مشروع قومي ومشروع إسلامي -كما يعتقد السائل- فهو يبعدنا أشواطاً كبيرة عن الحقيقة، لأن المشروعين -القومي والإسلامي- يتنافران بعدد من الجوانب. وإنني، منعاً للتكرار، أرجو العودة إلى ما حاولت أن أقوم بتوضيحه حول جوانب التنافر في مضامين هذا الرد.
وإنني أستغرب القول: «لو لم يكن الإسلام لم يكن ليُوجَد البعث». فإذا كانت هذه هي الحقيقة، فإنني أجيب بتساؤل آخر: إذا كان ذلك كذلك، فما هو المبرر لتأسيس حزب البعث؟
فإذا كان المشروع الإسلامي يمثِّل الحقيقة التي نفتِّش عنها فلا نرى مبرراً لتأسيس حزب له مشروع سياسي قد جاءت بمثله التجارب السياسية والفكرية السابقة عليه. ويكون الانتساب إليه هو عبث فكري وسياسي. ويكون ممن ينسب الحقيقة إلى نفسه في الوقت الذي يكون على المؤسس وعلى المنتسب عبء الادعاء بأنه أتى بمشروع فكري وسياسي جديد، بينما يكون آخرون قد سبقوه إليه.
• ليس المطلوب منا أن نغوص في خلافات المذاهب.
هناك فرق بين أن نكون مذهبيين وبين أن لا نغوص في خلافات المذاهب. لأننا نرفض المذهبية فنحن لسنا مذهبيين. لكن وبما أن الثقافات الدينية السائدة مغرقة في تثقيف منتسبيها بالفكر الديني المذهبي، نحسب أنه من أولويات مهماتنا أن نغوص في أبحاث نقدية للفكر المذهبي، وإلا كيف نستطيع أن نبرِّر رفضنا للمذهبية؟
ففي نقدنا للمذاهب تبيان لمساوئ المذهبية، وفي تبيان مساوئها نكون قد برَّرنا أسباب رفضنا لها. ولن يقف الأمر عند هذه الحدود، ففي نقدنا الواعي والموضوعي للمذهبية هدف آخر يتناول توعية المذهبيين بأخطار المذهبية. لأنه من أهم واجباتنا أن نبرهن للمشبعين بثقافة تعمل على التفتيت على مخاطر التفتيت المذهبي، خاصة إذا استطعنا أن ننفي صفة القداسة عن الفكر المذهبي، لأنه تحت الادعاء بإعطاء صفة القداسة للتعاليم المذهبية يمارس الحاقنون بنارها وسائل الترهيب والترغيب عند البسطاء من الناس.
***
(8): تساؤلات جديدة
بعد طاولة الحوار الأولى، التي عقدت في صور، واستكمالاً للمناقشات، وبعد الاطلاع على كتابات الرفيق حسن غريب، مقدرين جهده الكبير في أبحاثه المتواصلة، وما تناولت من جوانب جديدة من فكر المرحوم ميشيل عفلق. ومن أجل أن يستمر الحوار نطرح بعض التساؤلات والتوضيحات، راغبين الإضاءة على بعض الإشكاليات التي طرحها المؤلف.
ولو أن المؤلف توجَّه، بكتاباته وانتقاداته، لبعض رجال الدين الأوصياء على الإسلام، أو نقد أحكام الدين والشريعة والفقه، أو لسياسة الأحزاب الدينية السياسية المغطاة بالدين في سبيل أهدافهم الخاصة، لما اضطررنا إلى هذه التساؤلات والاستفسارات عن هذه الإشكاليات التي طرحها. أما أن يكون النقد لشعارات ومنطلقات فكر البعث التي آمنا وعملنا من أجلها سنوات ولا زلنا، فنطرح التساؤلات التالية:
إن الكاتب يعتبر الإسلام كلُّ متكامل، بين مفهومه وأحكامه، بين روحيته وتشريعاته. وإذا نسخت آية ما قبلها نُسخ الإسلام نصاً وروحاً. فإما النسخ وإما الأخذ به كاملة كما يدَّعي الأصوليون والسلفيون.
إننا نرى أن الإسلام هو وحدانية الله، والإيمان بالرُسُل، واليوم الآخر، وإن حدود الله هي المحرمات، وفيها نزلت الشرائع والأحكام، واختلفت أو نسخت باختلاف الظروف والمراحل. ومن هنا كثرت الاجتهادات بين رجال الدين أنفسهم، وبين المذاهب والطوائف. وأما العبادات، فهي على طريقة الأنبياء والرسل، فهناك الطريقة العيسوية والمحمدية…
إن الكاتب انطلق من أن أسبقية المادة على الفكر، وهذا يخالف منطلقات البعث، بل الجنوح نحو الإلحاد. بينما البعث يؤمن بأن الروح قبل المادة، والعلاقة بينهما جدلية متكاملة »فالروح هي أقوى محرك لطاقات الإنسان، ومفجِّر لينابيعه الداخلية«. وإن الروح والمادة تستمدان معانيهما من صميم الواقعية الثورية، وبتفاعل جدلي. لذا يرفض البعث المفهوم المشوه للروح، الذي لا يأخذ تأثير العوامل المادية في تكوين قيمها. كما يرفض المادية الغاشمة، التي تتوقف عند تأثير العوامل المادية الصرفة. والروح ليست شيئاً غينياً يتناقض مع المنهج العلمي، وإنما هي الوعي والإرادة والأخلاق والتضحية والبطولة والإيمان بالحقيقة والحرية.
3-إن الموقف الذي ينطلق منه المؤلف موقف قومي يستبعد الدين كلياً، أو موقف ديني يستبعد القومية كلياً، وهذا يطرح التساؤلات التالية:
-ماذا يعني البعث؟ هو »حزب قومي ثوري اشتراكي«، وما هو مفهوم الرسالة الخالدة، الذي ما زال البعثيون يرددونه في كل اجتماع حزبي؟ إذاً فالقومية تحمل مضموناً ومفهوماً تاريخياً هو الرسالة الخالدة. وهذه المفاهيم ليست ظرفية أو تكتيكية، بل إن دستور الحزب، يؤمن البعث بدولة قومية لا مركزية دولة مدنية روحها الإسلام. فعلينا أن نميز بين الإسلام الديني السياسي الفقهي والشرعي، وبين الإسلام الإيماني: إسلام التراث والحضارة. بل ماذا يعني أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة؟
نحن قومية مؤمنة »فالإيمان قد يعتبرها البعض غيبية، ولكن الحياة برمتها تقوم عليها منذ أن وجدت«. إننا لسنا حياديين بين الإيمان والإلحاد. إننا مع الإيمان ضد الإلحاد. فالإسلام هو التراث الروحي، وهو الحافز للأمة وملهمها ومرجعها الروحي.
4-يتساءل المؤلف: لماذا يغيب عندنا الوضوح في العلاقة بين العروبة والإسلام؟ وإنه لا تطابق بالمطلق بين حدَّيْ المعادلة (العروبة والإسلام)، بل إن هناك ما يحول دون التطابق الكلي بينهما. ويستشهد المؤلف بقول السيد محمد حسين فضل الله بتثبيت شعار المؤسس إن العروبة جسد روحها الإسلام. وهذا فخر واعتزاز باكتشاف المؤسس لهذا الشعار. أما التفسير والتأويل: وهل هو تفسير بعثي أو فقهي، فلكل اجتهاده. وفي الصفحة (22) يقول المؤلف »إن العلاقة بين العروبة والإسلام ليست كعلاقة الجسد بالروح، فإذا فنيت الروح فني الجسد، وهذا يعني أن القومية قد سبقت الإسلام، ويكون الجسد سابقاً للروح، وهذا ما يتنافى مع العلم«.
إننا نقول: لماذا اختار الله العرب لحمل الرسالة »كنتم خير أمة أخرجت للناس«. العرب، منذ أن وجدوا خلقهم ليبعث فيهم روح الإسلام، ويحملون الرسالة الخالدة بكل أمانة إلى البشرية والإنسانية:»والطفل قبل أن ينطق هو جسد دون مضمون، فإذا تعلَّم القيم والأخلاق يصبح إنساناً خيَِّراً، وإذا حمل عكس هذه القيم أصبح شريراً«.. ولذلك نقول إن القومية العربية تحمل في أحشائها ومضمونها مقوِّم الرسالة الإنسانية »الأخلاق، الكرم، والحضارة، والإيمان، والإنسانية، والبطولة، وغيرها. فالإسلام هو التراث الروحي للأمة وملهمها ومرجعها الروحي«.
فالعلاقة الروحية هي شرط لازم وضروري في بناء الدولة. والإسلام مقوِّم من مقوِّمات القومية. فالعروبة والإسلام علاقة جدلية تكاملية. أما إذا فقدت القومية المضمون فهي تحافظ على الهوية دون مضمونها. والإيمان هو التحرر الثوري، فالرسول قاد الثورة بحرارة الإيمان، والبعث يرتكز على الإيمان بالثورة الأخلاقية والفكرية والاجتماعية، وهي صلب القومية العربية. فالعروبة تعني الإسلام، والإسلام مفصح عن شعور العرب ونظريتهم ووحدة شخصيتهم، ولهذا السبب هناك مفهومين للدولة الدينية السلفية والدولة القومية بمضمون الإسلام. والحزب تصدّى للتيارات الدينية والمذهبية والطائفية ودفع ثمناً كبيراً.
5-يقول المؤلف في الصفحة (7) إن القومية هي من الثوابت، والمقومات هي من المتغيرات من الثقافة واللغة والتراث.
فالقومية هي هوية ذات مضمون، فإذا ما قيست بالحضارة تقاس بتراثها وثقافتها ومفاهيمها ونظرتها للحياة والإنسانية، فهي قادرة على الحفاظ على هويتها، وقادرة على أن تواكب التطور بكل جوانب الحياة: بالحضارة والتراث والثقافة والعلوم. وأقول إن الاستعمار جثم فوق أرضنا مئات السنين، ولم نفقد لا هويتنا ولا تراثنا ولا حضارتنا لأن قوميتنا ذات مضمون ومفهوم إسلامي حضاري وإيماني حافظنا على لغتنا وتراثنا ورسالتنا. ويعود المؤلف ليقول إن القومية هي مرحلة من الأممية. »يقول المؤلف لم يقف ضد حلم الماركسية الجميل، بل كان خائفاً من صعوبة تحقيق الحلم وليس ضد الحلم بذاته. ووجد إمكانية الوصول إليه قد تتم في مراحل بعيدة وعبر محطات لا يمكن القفز فوقها وتأتي الحالة القومية إحدى تلك المحطات. ومن هنا لا يفرط بالحسن قبل أن ترى الأحسن أصبح ممكناً، ونحن نرى أنه من الخطأ أنه مستحيل«.
فهل القومية هي مرحلة من الماركسية أو الأممية الماركسية؟ أم أن القومية ثابت؟ وهل للقومية مضمون أو أنها هوية دون مضمون؟
9/ 7/ 2002 مروان

رد الكاتب على رسالة مروان
لنا حول الرسالة، أعلاه، التي وجهها مروان، عدة من الملاحظات، نقسمها إلى المحاور التالية:
أولاً:حول منهجية النقد.
ثانياً: في تحديد الجهة ذات الصلاحية في الحكم على من يخالف شعارات الحزب ومنطلقاته.
ثالثاً: في ما نسبه مروان من افتراءات فكرية حول كتاباتي:
1-أسباب تلك الافتراءات، واتهامي بمخالفة شعارات الحزب ومنطلقاته، تعود إلى تخمينات شخصية، ونقص شديد في قراءة تلك الكتابات.
2-نسبة عقائد الإسلاميين إلى الكاتب.
3-تشويه رؤيته لعلاقة الفكر مع المادة.
4-تشويه رؤيته لعلاقة الروح مع المادة.
5-ادِّعاؤه بأنه يدافع عن مبادئ الحزب حول حقيقة علاقة العروبة مع الإسلام، واتهامه للكاتب بأنه يخرج عن تلك المبادئ.
رابعاً: حول صلاحية كتاباتي النقدية في هذه المرحلة
أولاً:حول منهجية النقد.
من شروط النقد أن تحدد، تماماً، ما تريد أن تنقده. فإذا كان المنقود قد نشر آثاراً مكتوبة، فمن الضروري على الناقد أن يحدد، تماماً، العبارة أو الفكرة وينقلها بين مزدوجين، ثم يقوم بتحديد اسم الكتاب أو البحث، ومصدر نشره، ثم يذكر رقم الصفحة. وهذا من أولى شروط الأمانة العلمية.
أما إذا لم تتوفر هذه الشروط، فإن تأويل ما كان يريد أن يقوله المنقود، ثم الاستناد إليه في أي نقد، أو أن يُقوَّل المنقود ما لا يريد أن يقوله أو يؤمن به، فيتحول إلى باب الافتراء. ومعاني الافتراء، كما جاء في تعريفها، كانت كما يلي: افتريت على فلان، أي حمَّلته ما ليس به. أو قوَّلته ما لا يريد أن يقوله.
ثانياً: في تحديد الجهة ذات الصلاحية في الحكم على من يخالف شعارات الحزب ومنطلقاته.
لقد نصَّت بعض مواد الدستور على حرية الاعتقاد أولاً وعلى حرية الفكر ثانياً. وقد جاء في النصوص ما يلي:
المبدأ الثاني: (1): »حرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفن مقدَّسة، لا يمكن لأية سلطة أن تنتقصها«.
المادة 41: (البند الثالث): »العمل الفكري من أقدس أنواع العمل، وعلى الدولة أن تحمي المفكرين والعلماء وتشجعهم«.
أنا أدري أن حرية الفكر، على صعيد حزب البعث العربي الاشتراكي، ترتبط مع فكر الحزب، وأن لا تتعارض معه. كما أنه إذا كان البعثي ملتزماً، من خلال إنتاجه الفكري، بفكر الحزب، عليه أن لا يتعارض فكره مع المعاني الكلية للفكر البعثي العام وأن لا يسيء إليه. وهذا لا يعني أن نُبقي الفكر جامداً في نصوص لا يمكن تغييرها فحسب، بل من واجب الحزبيين أن يعملوا على إغنائه وتطويره والتجديد فيه أيضاً. وهذا حق للبعثيين وواجب عليهم.
لكن من هي الجهة التي عليها أن تنظر في إنتاج البعثيين الفكري، وتصدر الحكم إذا ما كان الانتاج الفردي يسيء إلى فكر الحزب أو يتعارض معه؟ ومن هي الجهة الحزبية الصالحة المخولة بالنظر في مثل تلك الأمور؟
أنا أعتقد بأن من حق كل بعثي أن يبدي رأيه في الانتاج الفكري لأي مفكر بعثي. وعليه أن يتوجَّه إليه بالنقد في سبيل التطوير والإغناء. أما إذا اكتشف أحد البعثيين أن هناك من الكتاب البعثيين من يسيء أو يختلف مع فكر الحزب، فعليه أن يرفع رأيه معلَّلاً إلى الجهات المختصة قبل أن يصدر حكمه. ونتيجة الحكم تكون من صلاحياتها وحدها.
لكن مروان بدلاً من أن يسلك الطريق الصحيح أخذ يجتهد من عنده، وينفِّذ اجتهاداته، ويتصرَّف ويرشد البعثيين إلى أن كتابات حسن غريب تخالف شعارات الحزب ومنطلقاته الفكرية من جهة، وإلى أنه يجنح نحو الإلحاد من جهة أخرى.
لم يحترم مروان حرية حسن غريب الفكرية التي ضمنها له الدستور أولاً، وتجاوز حقوقه بالنقد عندما اجتهد بمفرده ولم يرفع إلى الجهات المختصة ملاحظاته ثانياً، وأخذ يروِّج بما يشبه التعبئة ضد أحد كتَّاب الحزب وباحثيه ثالثاً.
لقد أخطأ مروان، تنظيمياً، ثلاث مرات بحق حرية الفكر في الحزب. ووقع بأخطاء منهجية في تقييمه للمحتوى الفكري الذي يقوم حسن غريب بالانتاج فيه.
سأتجاوز التعليق على الأخطاء التنظيمية. وأما الأخطاء النقدية المنهجية، فكانت نوعاً من الافتراءات التي أضعها أمام مروان. وأقوم بتفصيلها فيما يلي:

ثالثاً: في ما نسبه مروان من افتراءات فكرية لكتاباتي:
1-أسباب تلك الافتراءات تعود إلى تخمينات شخصية، ونقص شديد في قراءة تلك الكتابات. واتهامي بمخالفة شعارات الحزب ومنطلقاته.
أ-ما هي الدلائل التي تبرهن فيها على أنني أقوم بنقد لشعارات الحزب ومنطلقاته؟
تعيد السبب الذي دعاك إلى توجيه نقدك إلى كتاباتي، هو أنني انتقد شعارات الحزب ومنطلقاته، قائلاً:»أما أن يكون النقد لشعارات ومنطلقات فكر البعث التي آمنا وعملنا من أجلها سنوات ولا زلنا«.
تكاد تدمي قلبي بأسفك على السنوات التي قضيتها مؤمناً بفكر الحزب، بينما أنا الذي كنت أعيش في برج عاجي أقوم بنقدها، وكأنني أريد أن أحرمك الحلم الذي تعيش فيه.
- أنا لم أنتقد، على الإطلاق، لا شعارات الحزب، ولا منطلقاته، بل إن إيماني بهما ثابت. وأنا لا أؤمن بها فحسب، بل أدافع عنها، أيضاً، لأنني مقتنع بها تماماً. ولأجل هذه القناعة قمت بالدفاع عنها في معظم أبحاثي وكتبي، ولكنك أنت لم تكلف نفسك عناء قراءة تلك الأبحاث، وكان هذا واجب ضروري عليك، كناقد، وحق حتمي لي لأنني أكتب، أما أنت فتقوم بانتحال أسباب تنقدني عليها، فهذا بعيد عن صفات الناقد الموضوعي، وهنا لا بُدَّ أمامي من أن أساعدك في التفتيش عن كتاباتي ونصوصي التي أدافع بها عن شعارات الحزب ومنطلقاته، وإليك بعض الأمثلة:
-جاء في كتابي »في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام« دفاعات كثيرة سأقوم بتحديد بعضها، لكي أساعد من يريد أن يتابع القراءة أو يريد العودة إلى التحقق من صدق النقد أو من صدق الدفاع:
في الفصل الخامس: -»ولأنها لم تكن ذات أهداف وحدوية عربية واضحة، فقد تلاشى معظمها بعد الحرب العالمية الثانية؛ حتى إن الكتلة الوطنية أخذت تضعف بعد ظهور الفكر القومي من خلال حزب البعث العربي الاشتراكي«.
-»أما تيار القومية العربية، فيدين إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي نشأ في أوائل الأربعينات، لأن الحزب يمثل نقطة تحول في تاريخ الحركة القومية العربية، ويعود ذلك إلى أنه اعتمد الانتقال من النظرية القومية "الخالصة" أو قومية اللغة والتاريخ، إلى النظرية الشاملة ذات المحتوى الاقتصادي والاجتماعي«. ]أنظر، أيضاً، كتاب الشيعة (ج2) الفصل الثاني[.
وجاء أيضاً: »لم تستطع الأحزاب السياسية القومية والوطنية، باستثناء الأحزاب الشيوعية، أن تتجاوز دائرة النخبة، في الفكر والتنظيم، إلى أن تأسس حزب البعث العربي الاشتراكي الذي استطاع أن يحقق قفزة في هذا المجال؛ فصعد بالفكر القومي من مرحلة النظرية- النخبوية إلى المستوى السياسي الشعبي من جهة، وكسر حلقة التسوير التنظيمي حول النخبة، ليفسح في المجال أمام الطبقات المسحوقة في المجتمع لتشكل القاعدة التنظيمية الأساسية للحزب من جهة أخرى«.
»لم يؤثِّر التناقض الحاصل بين المرجعيتين: الدينية-الإسلامية والقومية العربية، على الموقف الإيجابي الذي اتخذه حزب البعث من الدين بشكل عام، والإسلام بشكل خاص«.
»رأى البعث الإسلام من جوانب عدة: إضافة إلى أن الدين منهج من مناهج نظرة الإنسان إلى الكون، فإنه يشكل جزءا أساسياً من التراث التاريخي العربي، روحياً و سياسياً واجتماعياً، وفيه إضاءات نضالية مهمة يمكن للعرب أن ينيروا بها درب الكفاح في وجه الاطماع الخارجية. لكن الجوهر الذي يكتسبه الدين من خلال دوره في تنمية الجوانب الروحية والخلقية عند الإنسان، شيء، واستخدامه كعامل للتجزئة والتفتيت شيء آخر.«
»بالإجمال، كان موقف البعث من الإسلام، متميزاً عن تيارين: أحدهما يقف على اليمين (تيار الجامعة الإسلامية)، الذي يفسِّر الكون بكل جوانبه على أساس منهج ديني- ماورائي، أما الآخر فيقف على اليسار (الأممية الشيوعية)، الذي يفسِّر الكون، بكل جوانبه، على أساس منهج مادي (المادية- الجدلية).«.
»إن موقف البعث من الإسلام (الإيمان) لا علاقة له بالتكتيك السياسي المرحلي، ولا بالاستراتيجي (الماورائي الغيبي) السلفي الجامد. ولم يكن موقفه محدَّداً نتيجة لدراسات أكاديمية، إلاَّ أنه موقف موضوعي ونتائجه علمية، إذا ما وُضع على طاولة منهج الدراسات الاجتماعية.فمنهج الدراسات الاجتماعية، يدرس الحالة بجانبيها الستاتيكي والديناميكي«.
»فالدين حسب المفهوم الستاتيكي للحالة الاجتماعية، هو حاجة فلسفية لها علاقة بتفسير الكون. أما في حالته الديناميكية، فهو جزء من التاريخ الذي تنتمي إليه الأمة العربية، ولا يمكن دراسة التاريخ العربي من دون أن نرى للإسلام بصمة في كل تفاصيله. ولما كان من غير الموضوعية العلمية أن تقوم الدراسات بإلغاء جزء من التاريخ، حتى لو كان مظلماً، تحت حجة أنه مظلم، فما هو الموقف، من الأجزاء الأساسية فيه، خاصة وأن فيها كثيراً من المحطات المضيئة ؟«.
»فاستناداً إلى ذلك تمَّيز موقف البعث من الدين بما يلي:
-إن الدين هو حاجة روحية إنسانية، وهو حاجة فلسفية لتفسير الكون.
-وهو حالة ثقافية اجتماعية تاريخية، ضرورية لروح المرحلة وروح العصر معاً.«
»كانت الاتجاهات النخبوية السابقة للبعث قد ركَّزت على ضرورة استخدام الشعور القومي في التعبئة السياسية والفكرية؛ وعملت في مرحلة لاحقة على التنظير الفكري. لكن في مرحلة البعث، اتخذت النظرية عمقها السياسي والاجتماعي عندما حدد أهداف القومية العربية بشعارات ثلاث: الوحدة والحرية والاشتراكية، مقتنعاً أن مضامينها العامة تستجيب للحاجات الأساسية للمجتمع العربي«.
»ولأن أية نظرية لا تكتسب معنى حقيقياً إلاَّ عندما تُفصَّل في خطة عملية قابلة للتحقيق، فقد أنزل البعث النظرية القومية من برج نخبويتها إلى متناول الطبقات الشعبية، بما تضمنته من قوانين اجتماعية تصب في مصلحة تلك الطبقات من جهة، والعمل على تنظيمها في أطر حزبية لتنخرط مباشرة في ساحة النضال من أجلها من جهة أخرى«.
واليك بعض ما جاء في الفصل السادس: »في الربع الثاني من القرن 20م، شهد الفكر القومي العربي تطورات مهمة على صعيد الوضوح النظري. ومنذ أوائل الاربعينات، أُنزِل من برج النخب إلى الأوساط الشعبية من بعد أن نشأت الأحزاب المنظمة. وعرف نضجه النظري، بمضامينه الاجتماعية والسياسية وبناه الحزبية الحديثة، مع تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي في العام 1947م«.
-جاء في بحث لي قدمته في ندوة في بغداد، حول »عفلق والقضية الفلسطينية«، ما يلي:» وإذا كان يمكننا أن نستدل على تطورها في المشروع الفكري، فإننا نخلص إلى نتيجة أن موقف عفلق من القضية الفلسطينية، على المستويين النظري والعملي، كان ثابتاً. والثبات في النظرية، هنا، له علاقة بنتائج تقييمها. ولم يكن ثبات مواقف عفلق النظرية والعملية آتٍ من إصرار على جمود في الرؤية والمكابرة على صحة المنطلقات، ولكن ثباتها جاء من أنها خضعت للتجربة لأكثر من نصف قرن من الزمن وأثبتت صحتها. فهل من يقول الآن بغير ما قاله عفلق منذ الأربعينات من القرن العشرين عن أن قضية فلسطين هي«.
إنني أسألك: هل ما جاء في عدد من الفقرات التي نقلتها ما يدلك على أنني أنقد شعارات الحزب ومنطلقاته، أم أنني في كتابتي حولها ما يدل على اعتزازي الشديد بها؟

2-نسبة عقائد الإسلاميين إلى الكاتب.
لقد قوَّلتني يا مروان قولاً يقوله الإسلاميون
1-تقول أنت :»إن الكاتب يعتبر الإسلام كلُّ متكامل، بين مفهومه وأحكامه، بين روحيته وتشريعاته. وإذا نسخت آية ما قبلها نسخ الإسلام نصاً وروحاً. فإما النسخ وإما الأخذ به كاملة كما يدَّعي الأصوليون والسلفيون«.
حرام عليك يا مروان لماذا تلصق بي أحكاماً لست أنا الذي يؤمن بها، بل إن الذي يعتبر ما أوردته أنت أعلاه هم الإسلاميون وليس أنا؟ واليك الدليل هو ما جاء في بحثي »وجهة نظر ودعوة إلى الحوار«.
»استناداً إلى منهج المعرفة الديني-الإسلامي، يحدِّد الإسلاميون، بشكل عام والسلفيون بشكل خاص، أن الإسلام هو عقيدة وشريعة( )؛ "فإذا فُصِلَت السلطتان يبقى الدين بغير سلطان يؤيِّده ولا قوَّة تسنده"( )؛ ففي الإسلام يُوجَد "نظام حياتي كامل لا يترك مجالاً لأي نظام آخر، ولا يَدَعُ منفذاً للشعور بالحاجة إلى تنظيم جانب من جوانب الحياة، لأن الشريعة الإسلامية-بقواعدها الكُلِّيَة العامة بالفقه الذي بُنِيَ على أصليها الكبيرين (الكتاب و السُنَّة)، شاملة لكل ما تقضي به سُنَّة الحياة إلى نُظُمٍ وأحكام«( ).
وفي بحثي »محمد عارة: مفكر إسلامي… «: يرى الدكتور محمد عمارة متسائلاً ومجيباً بما يلي: »ومَنْ هُم الإسلاميون؟ يقول: هم كل "من يرى أن نهضة الإسلام لا تتحقق إلا بارتكاز النهضة على كل شُعَب الإسلام وأقسامه [العقيدة والشريعة والحضارة] دون استثناء.. فهم يستدعون للمشروع النهضوي كامل الإسلام: العقيدة.. والشريعة.. والحضارة.. يصوغون الإنسان وفاقاً لمعاييرها، ويحكمون المجتمعات بقِيَمها وقوانينها.. وهؤلاء هم "الإسلاميون" الملتزمون بكامل الإسلام منهاجاً شاملاً لكامل النهضة والحضارة الإسلامية.."( )، أي منهاجاً كاملاً لكامل الحياة الدنيوية منها والأخروية.. وإطاراً جامعاً وحاكماً لكل شؤون العمران، عمران النفس والمجتمع على حد سواء.." (ص42)«.

3-تشويه رؤيتي لعلاقة الفكر مع المادة.
وهناك تعسف آخر يا عزيزي مروان، وأسباب التعسف الذي واجهتني به هو أنك لم تقرأ ما كتبت، وإليك بعض الأدلة التي تثبت أنني لا أؤمن بأسبقية المادة على الفكر، حتى ولا بأسبقية الفكر على المادة، بل حسبت أن لكل عقل دوره، فللعقل الذي يتَّخذ من الإيمان منهجاً للمعرفة دور في حقول محددة للمعارف، كما أن للعقل العلمي الذي يتَّخذ من البرهان العلمي والمنطقي منهجاً للمعرفة دور في حقول أخرى للمعارف.
جاء في بحثي الذي قدمته إلى ندوة بغداد في حزيران من العام 2002، ما يلي:
»وكأن وصف عفلق للبرهان المنطقي بالجمود جاء لكي يعزِّز من دور الروح في اكتساب المعرفة أولاً. لكن هذا لا يعني أن تكون أهداف البرهان المنطقي والعقلي المحبة في التجريد فقط، فيصبح وصفهما بالسفسطة ليس حكماً دقيقاً. لأن من أهداف الوصول إلى اكتشاف المعادلات العقلية أن تصب نتائجها في خدمة اكتشاف المعارف الإنسانية الجديدة. وإذا كنا ننقد عفلق حول إعطائه وجهاً واحداً لمناهج المعرفة، فإن ذلك لا يجعلنا ننكر دور العمق الفلسفي الإيماني في تنمية المعارف الإنسانية، لأن منهج المعرفة الإيمانية وجه من وجوه عديدة تعمل على تنمية المعرفة الإنسانية. فهناك قضايا ذات علاقة بالنفس الإنسانية لا يمكن الوصول إليها من خلال معادلات برهانية ورياضية، كما أن هناك قضايا ذات علاقة بالمعادلات العقلية والرياضية لا يمكن الوصول إليها من خلال مناهج المعرفة الإيمانية. ولكي لا نقع في التعسف علينا أن لا نسجن المعرفة في منهج واحد كما فعلت الماركسية عندما أسرت المعرفة بين أسوار المادية فقط. وعلينا أن لا نأسر المعرفة بين أسوار منهج المعرفة الإيماني لوحده«.
جاء في بحثي »وجهة نظر، ودعوة للحوار «، المنشور في كتاب »نحو طاولة حوار بين المشروعين القومي والإسلامي«، حول منهج المعرفة الماركسي ما يلي:
»فإن تكن المادية الجدلية، كمنهج في المعرفة، قد اعترفت بدينامية الأفكار والثقافة وإنتاج المعرفة، أي اعترفت بأهمية هذا التطور، لكنها ربطت هذا التطور والتفاعل مع الظروف المادية / الاقتصادية؛ فهي عندما حصرت مصدر المعرفة بعامل واحد، فإنها أعادت هذه الدينامية إلى استاتيكية أخرى عندما جرَّدَت تطور المعرفة من ظروفه الخاصة / الذاتية التي لها علاقة بالتراث الروحي الفكري والديني«.
وجاء في البحث المذكور، أيضاً، ما يلي:
»فإذا كانت أسس المعرفة الماركسية تسجن نفسها في تفسير الظواهر الاجتماعية، داخل سور أحادي الجانب(الجدلية المادية)؛ والمعرفة الدينية-بشكل عام، تُجَمِّد المعرفة على أسس ستاتيكية-ميتافيزيقية؛ فإن المنهج التاريخي-الاجتماعي يخترق الدائرة: الأحادية الجانب والستاتيكية، ليقوم بدراسة كل ما له علاقة في تكوين المعرفة في حياة الإنسان والمجتمع على الصعيدين الذاتي والموضوعي (جدلية تاريخية ذات عوامل متعدِّدَة) «.
»و مع أنه لا يُوجَد -حتى الآن- منهج واحد يستطيع أن يصل إلى تحديدات موضوعية خالصة في دراسة المجتمعات، فإننا نحسب أن المنهج التاريخي-الاجتماعي، ما زال، هو المنهج الذي يُشكِّل القاعدة الأفضل لفهمٍ أقرب إلى الصحة من غيره في تفسير حركة المجتمع وبنائه المعرفي«.
لقد ألصقت بي تهمة باطلة يا مروان عندما ألبستني تهمة تقديمي المادة على الروح، وبما أن التهمة، أصبحت باطلة، بوضوح، نرى أن نناقشك بالحكم الذي أصدرته بحقي، وهو أنني أخالف منطلقات البعث، بل أجنح نحو الإلحاد!!!
تقول في رسالتك »إن الكاتب انطلق من أن أسبقية المادة على الفكر، وهذا يخالف منطلقات البعث، بل الجنوح نحو الإلحاد«.
ما بُنيَ على فاسد، يا مروان، فهو فاسد. والنتيجة المستندة إلى مقدمات خاطئة، فهي خاطئة. والحكم المستند إلى تحقيق جائر فهو حكم جائر.
أربأ بحزب البعث أن يكون محكمة للتفتيش، وأشدِّد على أنك لست مخوَّلاً بأن تكون المفتش المكلَّف بتوزيع شهادات الإيمان وشهادات الإلحاد.
نظرتي إلى الكون، يا عزيزي، ليست نظرة سطحية، ولا نظرة متسرِّعة. بل نظرتي إلى الكون تستند إلى إيمان فلسفي عميق. وأنا مسؤول وحر باختيار فلسفتي في الحياة. فأنا لست ملحداً وأنت لست بمؤمن لديك الصلاحية بمحاكمة البشر حول معتقداتهم. نحن لا نعيش يا عزيزي في عصر الردة ، على قاعدة »استتابة المرتد قبل قتله«. كما أننا لا نعيش في عصر محاكم التفتيش المسيحية التي تلاحق الهراطقة لتلقيهم في المحارق. ونحن لا نعيش في عصر الاستتابة التي يمارسها الإسلاميون.
قد تستغرب يا مروان هذا الأسلوب الذي أعالج فيه الأمور. وعلى الغرابة أن تزول إذا ما عرفت خطورة التهمة التي توجهها إليَّ، بدون وجه حق، وإذا ما عرفت خطورة الحكم الذي أصدرته بحقي. لقد اتهمتني بردَّتين: الأولى أنني أخالف منطلقات البعث. أما الثانية فهي أنني أجنح نحو الإلحاد.
بالنسبة للتهمة الأولى تقتضي معاقبتي بالفصل من الحزب. أما الثانية فتقتضي فصلي عن معتقداتي الفلسفية، التي أعتز بها.
لو كانت اتهاماتك مدعومة بالبيِّنة لما اعترضت عليك، بل ألصقتها بي من خلال تخمينات غير موضوعية، لأنك من جهة لم تبرهن على صحة أحكامك عليَّ بنصوص من أبحاثي، ومن جهة أخرى حاكمتني على الظن، وهذا حكم غير عادل، إذا لم يكن ظالماً.
أنا مؤمن بعقيدة فلسفية عميقة، ترى في الإنسان، ثنائية الجسد والروح. وترى أن علاقة الروح مع الجسد كلٌّ متكامل، يفنى أحدهما بفناء الآخر. وأؤمن، أيضاً، أن للجسد حاجاته، وللروح حاجاتها ودورها. وعلى تلك العلاقة أن تكون متوازنة ومتوازية. فإذا طغت حاجات أحد طرفيها على حاجات الطرف الآخر يفقد الإنسان توازنه، وساعتئذٍ ينحدر من كونه إنساناً إلى مستويات أدنى من مستوى الإنسان. وأنا أؤمن بعمق شديد، كجزء متمم وضروري لتكامل معنى وجود الإنسان على الأرض، بوجود خالق للكون يتعالى على كل الصفات التي يحاول البشر، وحتى الأديان السماوية، وصفه بها. أنا أؤمن يا مروان بأن الخير هو خير لمواصفات حسنة موجودة بذاته، وليس طمعاً بثواب. وأؤمن بأن الشر هو شر لمواصفات قبيحة فيه وليس خوفاً من عقاب. فأجمل الواجبات هي تلك التي يشعر الإنسان من خلال ممارستها بالسعادة من دون أن يقوم بها رغبة بثواب، أو خوفاً من عقاب.
فإذا كنت أؤمن بإله يتعالى عن كل الأوصاف المادية التي يصفها به الآخرون، وأؤمن بالخير وأحارب الشر، فهل تستطيع أن تصفني بالجنوح نحو الإلحاد استناداً إلى قواعد اخترتها أنت لنفسك؟ هنا يقع الظلم الجائر. فإذا كانت قواعدك الخاصة بالإيمان هي المكيال الوحيد الذي تقيس إيمان البشر على أساسه فأنت تبتعد كثيراً عن مبادئ الحزب الذي تدافع عن منطلقاته. فماذا يقول دستور الحزب؟
جاء في المبدأ الثاني من دستور الحزب (الفقرة 1)، ما يلي: »حرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفن مقدَّسة، لا يمكن لأية سلطة أن تنتقصها«( ).
فإذا كانت قواعد إيمانك الشخصية تقوم على أسس إيمانية إسلامية، فما هي أحكامك على من تكون أسس إيمانه تقوم على أسس إيمانية مسيحية؟ وإذا كانت أسس إيمانك تقوم على أسس معتقدات سنية أو شيعية أو أي مذهب إسلامي آخر، فكيف ستكون أحكامك ضد الذي تقوم أسس إيمانهم على معتقدات دينية أو مذهبية أخرى؟
إذا كانت فلسفة الحزب تقوم على قواعد الإيمان بالدين، وتمنع الترويج للإلحاد، لكن مهمته لم تكن، ولن تكون، مهمة دينية على الإطلاق. وليس دوره أن يحاسب الناس على معتقداتهم.
لم أستطع أن أفهم تفسيرك لمعنى الرسالة الخالدة، لقد جاء في رسالتك ما يلي: »وما هو مفهوم الرسالة الخالدة، الذي ما زال البعثيون يرددونه في كل اجتماع حزبي؟ إذاً فالقومية تحمل مضموناً ومفهوماً تاريخياً هو الرسالة الخالدة«.
هل هذا هو مفهومك للروح؟ لم أفهم يا عزيزي منك شيئاً واضحاً حول تفسير خلود الرسالة التي يؤمن بها البعث. لقد جاء حول مفهومك للرسالة الخالدة ما يلي: »لماذا اختار الله العرب لحمل الرسالة »كنتم خير أمة أخرجت للناس«. ]ثم تجيب بنفسك على نفسك[ العرب، منذ أن وجدوا خلقهم ليبعث فيهم روح الإسلام، ويحملون الرسالة الخالدة بكل أمانة إلى البشرية والإنسانية«.
أوَ ليس ما جئت به يا مروان إلاَّ غيبية جديدة، من خلالها تحسب أن الله قد خلق العرب من أجل أن يحملوا رسالته إلى العالم؟
نحن نعتزُّ بعروبتنا يا مروان، وعندما نؤمن نحن، كبعثيين، أن أمام العرب وحدهم مهمة إلهية لإيصال رسالة الله إلى العالم نكون كمن يغرق في نظرية قومية أخرى تقوم على أساس تكليف إلهي. وما هي الرسالة الخالدة، التي ترى أن على العرب إيصالها إلى العالم؟ هل هي رسالة الإسلام؟ أم هي رسالة إنسانية؟
إذا كانت الرسالة هي الإسلام، فلماذا تأسس حزب البعث العربي الاشتراكي؟ أما إذا كانت الرسالة إنسانية، فتلك مهمة مطلوبة، وليست الرسالة هي من مهمة العرب لوحدهم بل مطلوب من كل القوميات في العالم أن تلعب دورها في تقدم البشرية من خلال إسهامها بتعميم القيم الإنسانية العليا.
إذا كان البعث يفهم من عبارة (كنتم خير أمة أخرجت للناس)، أنها تعبير يفضِّل أمة على أمة، أي أن الله يفضِّل العرب على كل الأمم، فما هو موقفه من تعبير شعب الله المختار التي وردت في التوراة؟ وموقفه من أن العرق الألماني هو أصفى الأعراق؟
وإذا كان البعث يؤمن بأن الله قد كلَّف العرب بإيصال رسالة الإسلام إلى العالم، فهل نريد أن نحمِّل الحزب مسئوليتين أمميتين؟ الأولى مسؤولية أممية دينية إسلامية، ومسؤولية سياسية اقتصادية ماركسية.
على الرغم من أن البعث قد حدد القومية ثابتاً يعمل من أجله، على أن تتعاون القومية العربية مع العالم لا أن تكون رسولة إليه، وهذا ما نفهمه من الدستور الذي ينص على أن »الإنسانية مجموع متضامن في مصلحته، مشترك في قيمه وحضارته، فالعرب يتغذون من الحضارة العالمية ويغذونها، ويمدون يد الأخاء إلى الأمم الأخرى، ويتعاونون معها على إيجاد نظم عادلة تضمن لجميع الشعوب الرفاهية والسلام، والسمو في الخلق والروح«.
فلو كانت مهمة القومية العربية إلى العالم هو نشر رسالة، لما جاءت العبارات التالية في النص السابق: (العرب يتغذون من الحضارة العالمية)، فالذي يمتلك رسالة مطلقة ليس بحاجة إلى أن يتغذى من الحضارات الأخرى. و(التعاون مع الأمم الأخرى من أجل إيجاد نظم عادلة)، فلو كانت الرسالة التي على العرب أن يؤدوها إلى العالم مطلقة، فعلى ماذا يكون التعاون بينهم وبين الآخرين لإيجاد نظم عادلة؟ فالرسالة المطلقة ليست بحاجة إلى خبرات أحد.
جاء في الدستور حول تعريف الرسالة الخالدة ما يلي: »الأمة العربية ذات رسالة خالدة، تظهر بأشكال متجددة متكاملة في مراحل التاريخ، وترمي إلى تجديد القيم الإنسانية، وحفز التقدم البشري وتنمية الانسجام والتعاون بين الأمم«.
لقد أفصحت المادة 22 من الدستور عن مفهوم الرسالة الخالدة كما يلي: »رسالة العرب الخالدة ]هي[ التي ترمي إلى المساهمة مع الأمم الأخرى في إيجاد عالم منسجم حر آمن يسير في سبيل التقدم الدائم«.
لم يأت في أي نص أن العرب مكلفون بتصدير الرسالة الإسلامية إلى الأمم الأخرى. فرسالة العرب الخالدة لا مضامين دينية لها بل لها مضامين روحية ذات آفاق إنسانية. وليس خلودها لأنها تعبر عن حقيقة مطلقة تنوب عن كل رسالات الأمم الأخرى. إن حزب البعث العربي الاشتراكي الذي يرفض أن تكون مهمته القومية مهمة دينية، والذي يرفض أن يؤسس دولة قومية دينية، فهل من المعقول أن تكون رسالته الخالدة إلى العالم تعني أممية دينية عقيدية وسياسية؟ وهل من المعقول أن تكون مهمته أن ينشر رسالة الإسلام في العالم؟
علينا يا عزيزي مروان أن نتفق، بوضوح، حول ما تعنيه رسالة الأمة الخالدة في مبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي. لأن ما تضيفه أنت من وظائف جديدة إلى رسالة البعث ليس إلاَّ تناقض واضح وصريح.
تقول، يا عزيزي، »يؤمن البعث بدولة قومية لا مركزية دولة مدنية روحها الإسلام. فعلينا أن نميز بين الإسلام الديني السياسي الفقهي والشرعي، وبين الإسلام الإيماني: إسلام التراث والحضارة«.
لا شك بأنك تقوم بتعديل النصوص كما يحلو لك يا عزيزي مروان، ومن أعطاك صلاحية تعديل نصوص الدستور؟
ماذا جاء حول ثقافة المجتمع القومي في دستور الحزب؟
نصَّت المادة (41) (البند الأول):من دستور الحزب على ما يلي: »يعمل الحزب في سبيل إيجاد ثقافة عامة للوطن العربي، قومية، عربية، حرة، تقدمية، شاملة، عميقة، وإنسانية في مراميها، وتعميمها في جميع أوساط الشعب«.
فهل ترى معي أن النص حول ثقافة المجتمع العربي التي يعمل الحزب على إيجادها؟ هل تشير من قريب أو بعيد للبعد الديني أو الإيماني أو للثقافة الإسلامية، أو هل تشير إلى مصطلح يدل على أن الإسلام هو روح العروبة؟
ماذا جاء في الدستور حول الدولة القومية التي يعمل البعث من أجل بنائها؟
حزب البعث حزب عربي شامل، يؤمن بأن القومية حقيقة خالدة، رسالتها متجددة ومتعاونة مع الأمم الأخرى، والشعور القومي شعور مقدس، حزب البعث حزب شعبي يؤمن بأن السيادة هي ملك الشعب، حزب البعث انقلابي (ضد الاستعمار، توحيد العرب، رفض الواقع الفاسد)، (لغة الدولة هي العربية، ورايتها راية الثورة العربية، وشرط العربي هو الانتساب إلى الأمة العربية)، (نظام الحكم دستوري، الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة، نظامها لا مركزي، تضمن الحرية للجميع، تعد بوضع دستور موحَّد)، (سياسة الحزب خلق جيل عربي جديد مؤمن بوحدة أمته وخلود رسالتها، طبع مظاهر التغييرات بطابع قومي عربي).
لم نجد في كل زوايا الدستور أو فقراته ما يؤكد على ما يقوله مروان بأنه من شروط بناء الدولة القومية اللامركزية والمدنية أن يكون »روحها الإسلام«.

4-تشويه رؤيتي لعلاقة الروح مع المادة، والتشكيك بأنني أتفق مع الماركسية باعتبار القومية متغيراً مرحلياً.
جاء في رسالتك حول الروح ما يلي: »إن الكاتب انطلق من أن أسبقية المادة على الفكر، وهذا يخالف منطلقات البعث، بل الجنوح نحو الإلحاد. بينما البعث يؤمن بأن الروح قبل المادة، والعلاقة بينهما جدلية متكاملة »فالروح هي أقوى محرك لطاقات الإنسان، ومفجِّر لينابيعه الداخلية«. وإن الروح والمادة تستمدان معانيهما من صميم الواقعية الثورية، وبتفاعل جدلي. لذا يرفض البعث المفهوم المشوه للروح، الذي لا يأخذ تأثير العوامل المادية في تكوين قيمها. كما يرفض المادية الغاشمة، التي تتوقف عند تأثير العوامل المادية الصرفة. والروح ليست شيئاً غيبياً يتناقض مع المنهج العلمي، وإنما هي الوعي والإرادة والأخلاق والتضحية والبطولة والإيمان بالحقيقة والحرية«.
إن دور الروح والمادة، ليست إلاَّ منطلقات فلسفية لها علاقة بالنظرة إلى الكون، بينما الحزب لم يحدد نظرته إلى الكون في مؤتمر نستطيع أن نقول إن هذه الفلسفة، التي أقرها المؤتمر كذا هي النظرة الفلسفية المتكاملة لحزب البعث العربي الاشتراكي. لقد لحظ المؤتمر القومي الثالث (1959م) هذا النقص حيث جاء فيه: وقد وجد المؤتمر القومي الثالث، أنه، على الرغم من أن رؤية الحزب للحياة والكون واضحة في خطوطها العامة، إلاَّ أنها بحاجة إلى المزيد من التركيز والوضوح من خلال دراسات فلسفية خاصة لتعميق عقيدة الحزب وتنميتها من جهة، ولتحديد موقفها من الاتجاهات الفلسفية الأساسية من جهة أخرى.
إن في رأيك حول الروح الكثير من التشتت والارتباك: تارة يكون للروح أسبقية على المادة، وتارة أخرى يكون بينها وبين المادة علاقة جدلية، وتارة ثالثة ترى أن الحزب يرفض المعنى المشوَّه للروح »الذي لا يأخذ تأثير العوامل المادية في تكوين قيمها«، وترى أن الحزب يرفض »المادية الغاشمة«. من أين تأتي بكل هذه المصطلحات يا مروان، فهل يحق لك أن تضع مصطلحات على ذوقك وتنسبها للحزب؟
لقد أخذت راحتك كثيراً يا مروان في أن تنسب للحزب مفاهيم ملتبسة بالغموض والبلبلة، وكأنك أنت تعبِّر عن فكر الحزب، وتريد أن تفهمني كيف أفهم فكر الحزب. كيف تعطي لنفسك حقاً تمنعه عني؟ تعال بنا يا عزيزي إلى طريقة أخرى في الحوار، والحوار بين أهل البيت له أصوله وأسسه وقواعده. فكيف أرى، أنا، تلك الأصول والقواعد والأسس؟ (وآمل أن أسهم في تحديد تلك القواعد والأسس).
لقد احترت يا مروان وحيَّرتنا معك. فبدلاً من أن تدلنا إلى الطريق الصحيح جعلتنا نكون في حيرة من أمرنا. أن تخلط بين الفكر والروح، فللفكر منهج معرفي، تقول الماركسية، وليس أنا كما نسبت ظلماً إليَّ، بأن الفكر هو انعكاس لنتاجات مادية، أي أن المادة سايقة على الفكر. وقد جاء هذا المنهج المعرفي الماركسي لكي يستطيع أن يبرهن من خلاله على أسبقية العامل الاقتصادي في الفلسفة الماركسية، بحيث كان ماركس يريد أن يبرهن على صحة منظومته الفلسفية التي تستند إلى مقولته المشهورة »الاقتصاد هو محرك التاريخ«.
أنا يا مروان لا أؤمن بأن الاقتصاد هو محرك التاريخ، بل أؤمن بأن الحلم البشري هو من أهم محركات التاريخ، والاقتصاد هو من تلك العوامل التي يعمل الحلم البشري من أجل أن يضعه في مصلحة البشرية ليمنعها من الصراع حوله. والحلم البشري، أيضاً، هو من نتاجات النفس البشرية، والنفس البشرية ذات علاقة بالعقل والفكر، وبالتالي الروح.
لقد جعلت مني ماركسياً من دون أن أدري، أو حتى من دون أن تدري أنت، أيضاً. سامحك الله. وهذا لا ينفي أن تكون الماركسية فلسفة دخلت عرين التاريخ، سواء كنت معها بالكامل أو بجزء منها. سواء قبلتها أو رفضتها.
وإذا كنت تشك، كما سمعت منك شفاهة، أن ما جاء في إحدى تعبيراتي في كتاب »الماركسية بين الأمة والأممية« عن موافقتي على أن الحلم الأممي هو حلم جميل، بأنني أفكِّر ماركسياً، فإليك ما يلي:
جاء في كتابي »الماركسية بين الأمة والأممية« الصفحة 21 (الفصل الأول)
في معرض تحديدي لموقع القومية في الفكر الماركسي، قلت ما يلي: »فالقومية، هنا ]أي في الفكر الماركسي[، هي وسيلة للنضال، أو إطار قومي للنضال، يُستخدَم وسيلة مرحلية في سبيل الصعود إلى المرحلة الأممية، وهذه مسألة منطقية إذا ما كانت المرجعية النظرية - الفكرية هي مركزية مصلحة البروليتاريا على مستوى العالم كله. فإذا كان الهدف الاستراتيجي هو أممية البروليتاريا، وبالتالي أممية نظامها السياسي، تصبح كل القضايا الأخرى، ومنها المسألة القومية، بمثابة القضايا الفرعية التي لا بُدَّ من المرور عبرها للوصول إلى الهدف الثابت الاستراتيجي الأول«.
أما عن المرحلة الأممية فقلت إنها حلم جميل ] وهذا ما أنا مقتنع به[، لذا –في معرض مناقشة الفكر الماركسي- وصلت إلى النتيجة التالية: »إن من وقف ضد الماركسية لم يقف ضد حلمها الجميل ]أي الحلم الأممي[، بل كان خائفاً من صعوبة تحقيق هذا الحلم، وليس ضد الحلم بذاته. ووجد أن إمكانية الوصول إليه قد تتم في مراحل بعيدة جداً، وبالتقسيط، وعبر محطات لا يمكن القفز من فوقها، وتأتي المسألة القومية إحدى تلك المحطات«.
»يستند خوفنا إلى أنه من غير الواقعي والمنطقي أن تفرِّط بالحسن ]أي المسألة القومية[ قبل أن ترى أن الأحسن ]أي الأممية[ أصبح ممكناً، أوَ ليس من المنطقي والواقعي أن نعمل من أجل بناء أنموذج قومي يتَّصف بأكثر ما يمكن من سمات الإنسانية، وهو حسن وأقرب إلى المنال، من أن نلغي العمل لأجله تحت ذريعة أن الأممية في العلاقات الإنسانية هي الأحسن وهي الأكثر عدالة وبعداً عن الشوفينية والأحقاد القومية؟«.
وجاء في الصفحة 172 (الفصل الرابع)، ما يلي: »ليس هدف الماركسية أن تعير اهتماماً للظروف الخاصة بكل قومية لتؤسس عليها مفهوماً ثابتاً للقومية، بل الغاية منها أن تؤسس لتكتيكات سياسية - تنظيمية في سبيل الوصول إلى ثابت آخر، وهي ثابت الدولة الاشتراكية الأممية، مستفيدة من الاهتمام بتلك الخصوصيات. وهذه هي حقيقة المنهج الماركسي من دراسة الظروف القومية الخاصة«.
»فهل المطلوب أن تكون المسألة القومية العربية متغيراً مرحلياً، أم ثابتاً استراتيجياً؟ هذه هي طبيعة الخلاف الحقيقي بين التيارات الفكرية الماركسية والتيارات الفكرية القومية«.
وجاء في الصفحة (173)، ما يلي: »الخلاف الحقيقي في أن تكون الأمة وسيلة للوصول إلى ظاهرة أخرى، أم هي المحطة الثابتة -على الأقل- لآلاف السنين. تعترف الماركسية بأن الأمة ظاهرة، ولكنها الظاهرة - الوسيلة للوصول إلى المرحلة الأممية«
»أما أصحاب الاتجاهات القومية، على شتى مشاربهم، فيرون في المسألة القومية هدفاً ثابتاً ونهائياً -على الأقل- لآلاف من السنين. ولكن ما يبحثون عنه هو طبيعة النظام السياسي - الاجتماعي - الاقتصادي الكفيل بتسيير شؤون الدولة القومية«.
»فنحن نرى، أولاً، وتطويراً لمواقف الشيوعيين والماركسيين العرب، هو أن يعيدوا قراءة الماركسية من جديد لأنهم قد يكتشفون أفكاراً جديدة. وبالتالي أن يتجاوز الماركسيون العرب مبدأ اعتبار المسألة القومية عاملاً متغيراً، وأن ينتقلوا بها إلى كونها هدفاً ثابتاً«.
وجاء في الصفحة 186، ما يلي: »إن القومية في فكر الحزب ثابت استراتيجي، وهي ليست مرحلة لشيء فوقها، وإنما الصحيح أن بين القومية والإنسانية انسجاماً«؛ وهي »حالة سوية وحالة ثابتة غير مؤقتة… إذا خلصت من التعصب وشوائب الطمع والتوسع« ( ).
جاء في كتابات مؤسس البعث، حول المسألة الأممية، ما يؤكد صحة استنتاجاتي، استناداً إلى نصه التالي: »أكدنا حقيقة القومية التي كانت الماركسية والشيوعية تنكرها، لم ننفِ الأممية، بل أكدنا القومية، وفهمنا القومية على ضوء التراث الإنساني، ومن خلال تجربتنا النضالية الراهنة، قوميتنا هي أيضاً أممية، هي إنسانية، ولا يمكن إلاَّ أن تكون أممية… بمعنى الانفتاح والمشاركة في المُثُل وفي المصالح «( ).
في الفقرة (5) من رسالتك تعترف بأنني أؤمن بأن القومية هي (ثابت)، كما جاء في جملتك التالية: »يقول المؤلف في الصفحة (7) إن القومية هي من الثوابت، والمقومات هي من المتغيرات من الثقافة واللغة والتراث«. والمستغرب أنك تعود لتسألني، متشككاً بموقفي من ثبات القومية عندما تسألني في جملتك الواردة في المقطع الرقم (5)، ذاته، وإليك ما جاء في سؤالك: »فهل القومية هي مرحلة من الماركسية أو الأممية الماركسية؟ أم أن القومية ثابت؟ «.
تنتقدني حول قولي بأن المقومات هي من المتغيرات. وما هي الغرابة في ذلك يا عزيزي؟ هل تؤمن بأن »الثقافة واللغة والتراث«، هي من الثوابت؟
لقد سبق لقوميات عديدة أن تغيِّرت لغاتها عبر التاريخ. وهناك من القوميات المتعددة اللغات، كمثل (سويسرا). وهناك أقليات قومية في الأمة العربية (كالأكراد والبربر …)، فهل تعدد لغات تلك الأقليات يحرمهم من انتمائهم إلى الأمة العربية؟
هل الثقافة شيء جامد؟ أم أنها تتطوَّر، وتنقل كل مرحلة ثقافية جديدة عن التي سبقتها، ولكنها لا تبقى جامدة، وما هو عرضة للتغير فهو ليس ثابتاً. وإلا إذا كان الأمر غير ذلك، فسوف تبقى ثقافات الأمم وبالتالي الثقافة الإنسانية تنهل كل شيء من الثقافات الأولى. أوَ ليس هناك من الثقافات ما اندثر عبر عصور التاريخ المختلفة؟
أما التراث، وهو عبارة عن مجمل المظاهر الحضارية للأمم، فهل يبقى ثابتاً لا يصيبه التغيير من أمامه ولا من خلفه؟ وبالتالي فإن في التراث ما هو غثٌّ وفيه ما هو سمين، ومقياس غثاثة التراث أو سمنته هي ما تكتسبه الأمم من ثقافات جديدة. فالتراث ليس جامداً، بل إن الأمم تحافظ على السمين منه وتلفظ الغث. والتراث السمين هو مسألة نسبية، تتغير استناداً إلى تغير الثقافات. ولا شك بأن الأمم تتغنى بجزء التراث السمين، ولا تلقى بالاً بالجزء من التراث الغث.

5-ادِّعاؤه بالدفاع عن مبادئ الحزب حول حقيقة علاقة العروبة مع الإسلام، واتهامه للكاتب بأنه يخرج عن تلك المبادئ.
تقول أنت »إننا نرى أن الإسلام هو وحدانية الله، والإيمان بالرُسُل… «.
أما نحن فنقول: لكن ما هو الجديد في رؤيتك؟ وهل يرى الإسلاميون غير ما ترى؟ وهل أنا أنكر على الإسلام أن يرى الأمور كما يريد؟ بل هل تتفق رؤيتك الإسلامية مع رؤيتك القومية؟ أي هل كل جوانب الرؤية الإسلامية صالحة لرفد الرؤية القومية؟
نصَّت المادة (41) (البند الأول):من دستور الحزب على ما يلي: »يعمل الحزب في سبيل إيجاد ثقافة عامة للوطن العربي، قومية، عربية، حرة، تقدمية، شاملة، عميقة، وإنسانية في مراميها، وتعميمها في جميع أوساط الشعب«.
هل أنت يا مروان مؤمن تماماً بكل تلك المنطلقات الإسلامية؟ لم توضح لنا إذا كنت معها كلها أم أن هناك منها ما يستدعي الرفض من قبلك، (وهنا أريد أن أسمع رأيك أنت، على أساس أن لا تحسب أنك تعبِّر عن رأي الحزب، لأننا لنا نحن، أيضاً، حصة في هذا الحزب).
هنا يقع مربط خيولنا حوارنا يا مروان. هل نستطيع أن نوفِّق بين رؤية الإسلاميين للإسلام مع رؤيتنا للقومية؟ بل هل لدينا رؤية إسلامية متميِّزة؟ إنني أشك في ذلك، وهذا هو محور نقدي الذي تدور من حوله أبحاثي. وليست أبحاثي كما تتجنى أنت عليَّ فتقول إن نقدي لشعارات الحزب هو ما دفعك للرد عليَّ. ولهذا السبب لم تصب الهدف. لأن دعوتي إلى قيام علاقات واضحة بين الإسلام والعروبة هو ما دفعني إلى تكثيف كتاباتي النقدية.
ليس من حقك أن تقول إنك، بهذا الجانب، تنقل رأي الحزب نقلاً صحيحاً. فلست أنت الذي تحتكر مثل هذا الحق. فلنا حصة في هذا الحزب، ولنا آراؤنا وفهمنا لفكره، فليس من حقك أن تدَّعي أنك تفهم هذا الفكر لوحدك، بينما الآخرون، كمثلي أنا، هم الذين لم يفهموا فكر الحزب بل يختلفون مع شعاراته ومنطلقاته.
أما حول طبيعة فهمنا للعلاقة بين العروبة والإسلام، فهناك -بالفعل- اختلاف في رؤيتينا. وهذا هو أساس الحوار الذي يجب أن يستمر للوصول إلى جلاء ووضوح في تحديد العلاقة بينهما.
لأنني هنا أرى أنه من المؤسف أن تفترض نفسك أنك تعبِّر تماماً عن موقف الحزب الحقيقي أما أنا فأخالف الحزب حول هذه المسألة: أشكرك لأنك نقلت عبارة بالكامل عن رأيي بالعلاقة بين العروبة والإسلام، وهي »: لماذا يغيب عندنا الوضوح في العلاقة بين العروبة والإسلام؟ وإنه لا تطابق بالمطلق بين حدَّيْ المعادلة (العروبة والإسلام)، بل إن هناك ما يحول دون التطابق الكلي بينهما«. فحسبتني بمثل هذا الحكم قد اختلفت مع شعارات الحزب ومنطلقاته. لكنك يا عزيزي لم تقل ما هو رأيك برأيي. هل تعتقد بأن هناك وضوحاً قد أمسكت أنت برقبته، أما أنا فلم يسعفني فهمي في التقاط هذا الوضوح؟
أرجو أن تجيب بوضوح: هل هناك وضوح بتلك العلاقة أم أن هناك غموض؟ فإذا كانت واضحة لديك عليك أن تبرهن عليها وتقوم بإقناعي أنا وأمثالي ممن تغيب الرؤية عنهم في مثل تلك المسألة.
أما إذا كان ما جاء في الفقرة التالية من رسالتك حول معالجتي لإشكالية تأويل وتفسير العبارة التي أطلقها مؤسس البعث وحازت على إعجاب محمد حسين فضل الله »العروبة جسد روحها الإسلام«، هي ما أردت أنت، من خلال استحسانك لها، أن توضِّح لي أن العلاقة بين العروبة والإسلام هي واضحة، فكان ردَّك عليَّ لإقناعي، أنا الذي اعتبرت أن العبارة غير واضحة لأن التأويلات والتفسيرات حولها متناقضة. لم يكن ردك أكثر من أنك اعتبرت أن مربط المنافسة بيننا هو من يغدق أوصافاً أكثر بمدح مؤسس البعث، وهذا واضح من خلال ما تقول: »وهذا فخر واعتزاز باكتشاف المؤسس لهذا الشعار «. وكأن المنافسة بيننا من هو الذي يحب مؤسس البعث أكثر من الآخر، ولهذا كان ردَّك لا يتناول المشكلة من أساسها، بل كان يستند إلى من هو الذي يستحسن هذه العبارة أو تلك. فكان ردك هو كالتالي: »ويستشهد المؤلف بقول السيد محمد حسين فضل الله بتثبيت شعار المؤسس إن العروبة جسد روحها الإسلام. وهذا فخر واعتزاز باكتشاف المؤسس لهذا الشعار. أما التفسير والتأويل: وهل هو تفسير بعثي أو فقهي، فلكل اجتهاده«.
من ينكر على من حريته في التأويل والتفسير؟ لكن من حقي كبعثي أن ألفت النظر إلى كل قضية فكرية بعثية لا تكون واضحة، لأن خوفي على البعثيين، وليس غيرهم، من أن يختلفوا بالتأويل والتفسير حول هذه الفكرة أو تلك، لأن حرية البعثي ليست حرية فردية فحسب، بل تكتسب معناها من ارتباطها بحرية الجماعة البعثية أيضاً. فالفكر البعثي ليس ملكاً خاصاً لفرد بل يصبح ملكاً عاماً عندما يتم إقراره من هيئات الحزب المخوَّلة بذلك. كان من واجبي البعثي أن ألفت النظر، من خلال كتاباتي النقدية، إلى أن هناك غموضاً عند الحزب في تحديد تلك العلاقة، والدليل على ذلك أننا نحن -مروان وحسن- غير متفقين حول تأويل وتفسير عبارة »العروبة جسد روحه الإسلام«.
هل يعفي حكمك، بأن كل فرد حر بتفسيره، عبارة »العروبة جسد روحه الإسلام« من أن تكون غامضة؟ بلى يا عزيزي هي غامضة، ودليل غموضها هو اختلافنا -أنا وأنت- حول تفسيرها. ودليل غموضها، أيضاً، هو أن يتفق حول القول بها مفكران يقع كل منهما على الطرف النقيض من الآخر؟ والدليل على ذلك فهما لا يتفقان حول تفسيرها. لقد بعت يا مروان الموقف الواضح واشتريت مقابله عبارة غامضة. فهل نحن نسعى من أجل موقف واضح أم الغاية هو مدى إعجابنا بعبارة ؟
3-جاء في ردّك ما يلي: »إن الموقف الذي ينطلق منه المؤلف موقف قومي يستبعد الدين كلياً، أو موقف ديني يستبعد القومية كلياً«.
ما هذه الفرية الفكرية يا عزيزي؟ أين ورد ذلك؟ بالله عليك لا تتخيَّل ما تريد. لن أعطيك شواهد أخرى تدل على أنك تنتحل مواقف وتنسبها لي. كان عليك يا عزيزي أن تفتِّش لتقرأ موقفي الحقيقي من علاقة الدين مع الفكر القومي. وكان عليك أن تقرأ جيداً: منهجي المعرفي أولاً، وأن تقرأ جيداً موقفي من القومية بشكل عام، وموقفي من الدين بشكل عام، وهي الشروط الضرورية لتقرأ موقفي من العلاقة بين العروبة والإسلام على حقيقته لا كما تتصوره أنت وتعتقد أنك تعبِّر فيه عن فكر الحزب. أنا أرى أن قراءتك لهذه المسألة هي قراءة مغلوطة. وكل الحوار الذي يدور حولها، هو تباعدنا حول أيهما تكون أفضل القراءات. ومن الخطأ الكبير أن تحسب نفسك أنك تفهم موقف الحزب فهماً صحيحاً، في الوقت الذي تتهمني فيه أنني أنتقد شعارات الحزب ومنطلقاته، وإنني أقرأ قراءة مغلوطة.
أنت تحسبني أقرأ قراءة مغلوطة وأنا اعتبرك أنك أنت الذي تقرأ قراءة خاطئة. فالموضوعية تستدعي أن يتم الحوار حول أفضل القراءات، وهذا الأمر يتطلب أن نتوسَّع بالدراسة والحوار.
لا شك بصدق انتماء كلينا إلى حزب البعث، ولا شك بصدق سعينا، لإغناء فكره وتطويره، فلماذا نلجأ إلى عملية تخمين في النوايا؟ نحن إذا لم نقرأ بعضنا جيداً، وبموضوعية وأمانة علمية، نكون كمن يدخل في دائرة المنافسة التي لا علاقة لها بمصلحة فكر الحزب. فتعال يا مروان إلى البدء في قراءة متأنية بعيدة عن التخمين، لأن التخمين هو من مناهج المعرفة التي تضلِّل ولا ترشد إلى طريق الصواب.
سأنقل إليك بعض ما كتبته، وهو مثبت بالحرف: إن رفض قيام دولة دينية، ليس له خلفيات وأسباب روحية لأن حزب البعث العربي الاشتراكي يعطي للروح دورها في حياة الإنسان، بما لها من تأثيرات تتعلق بالتكامل النفسي للبشر. لكن الرفض الذي يعلنه الحزب هو ضد قيام دولة دينية، وهو الجانب السياسي، ولا علاقة له بالجانب الروحي. وللجانب الروحي وحرية اختيار الطريق المؤدي إلى الاستقرار النفسي عند الإنسان بما له علاقة بما وراء الطبيعة، أي في الحياة الآخرة، يشكل موضوعاً آخر، وله مجال آخر.
أنا أؤمن تماماً بما جاء في نص الدستور حول حرية الاعتقاد: جاء في المبدأ الثاني من دستور الحزب (الفقرة 1)، ما يلي: »حرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفن مقدَّسة، لا يمكن لأية سلطة أن تنتقصها« ( ).
جاء في بحث لي عنوانه »الظاهرة الدينية والظاهرة الدينية السياسية«، ما يلي: »إذا وقفت الظاهرة الدينية عند حدود الحاجة الروحية للإنسان، فإنها سوف تحقق الحاجة الفعلية منها. وهي ضمان تأمين حاجات الإنسان الروحية، سواء في حياته الدنيا أو في مصيره في مرحلة ما بعد الموت. وهي الظاهرة المطلوبة فعلاً، ولا يمكن للإنسان أن يعيش، بدونها، حياة داخلية: روحية - نفسية، تميِّزه عن الجماد والحيوان، بشكل متوازن«.
»أما إذا تحوَّلت الظاهرة الدينية من مهمتها في إشباع الحياة الداخلية الروحية الفردية إلى الادِّعاء بأنها مسؤولة عن حياة البشر الدنيوية، ولا يمكن تأمين العدالة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، إلاَّ بواسطة ما تُسبغ عليه صفة التشريع الإلهي الدنيوي، ساعتئذٍ تتشابك الادِّعاءات وتعدَّد بتعدد الظواهر الدينية، وما أكثرها، فتتصارع المشاريع الدينية السياسية، حينئذٍ، وتتقاتل، وكل منها يحسب أنه ذو مصدر إلهي. ويعدُّ الدفاع عنه أمراً إلهياً تجب الشهادة في سبيل تطبيقه «.
»رأى البعث الإسلام من جوانب عدة: إضافة إلى أن الدين منهج من مناهج نظرة الإنسان إلى الكون، فإنه يشكل جزءا أساسياً من التراث التاريخي العربي، روحياً و سياسياً واجتماعياً، وفيه إضاءات نضالية مهمة يمكن للعرب أن ينيروا بها درب الكفاح في وجه الاطماع الخارجية. لكن الجوهر الذي يكتسبه الدين من خلال دوره في تنمية الجوانب الروحية والخلقية عند الإنسان، شيء، واستخدامه كعامل للتجزئة والتفتيت شيء آخر «.
»فالقيم الأخلاقية، كجانب روحي نفسي عند الإنسان، اكتسبت عبر تاريخ البشرية، إلى حد كبير، صفة الحقيقة المطلقة، إلاَّ أنها تتمايز بين مجتمع وآخر، أو بين دين وآخر بتفصيلات لا تذكر.
أما إذا كان الروحي يعني الديني المقدس، أي أن تنسب كل سلطة دينية لنفسها الحق الإلهي بالسيطرة على السياسي- الدنيوي، فإننا نرى أن الكثير من طرق الاستغلال والتعسف الاجتماعيين حصل في ظل السلطات الدينية، سواء في أوروبا المسيحية أو في الامبراطوريات الإسلامية على حد سواء «.
وجاء في بحثنا »وجهة نظر ودعوة للحوار « : ما يلي: »إن المتغيِّرات التي تطال المستوى الحضاري لأي مجتمع، عبر مراحل التاريخ، يصبح لها تأثيرات على البناء الثقافي الديني.
ضمن هذا السياق نفهم علاقة الدين بشكل عام، والدين الإسلامي بشكل خاص، بحياة المجتمع العربي، أو المجتمعات التي تعرَّبت.
فإذا كنا لا ننفي، لأن هذا غير موضوعي أصلاً، إيجابيات التركيب الاجتماعي-النفسي والتحرري الذي تركه الإسلام في حياة المجتمعات التي خضعت لسلطان ثقافته، فإن الإسلام -بلا شك- كانت له تلك الإيجابيات التي تحتاج إلى دراسات موضوعية متخصِّصة«.
»ولهذا فإن ما كان مُقدَّساً عند الإنسان البدائي لم يبقَ كذلك عندما يبلغ هذا الإنسان نفسه مرحلة متقدِّمَة أكثر؛ ولهذا السبب فإن ما هو مقدَّس عند مجتمع/شعب ما ليس مقدَّساً عند مجتمع آخر.
لأن الظاهرة الدينية لها علاقة بمسألة القداسة، ولأن القداسة هي شيء نسبي في داخل المجتمع الواحد أحياناً، وبين مجتمع وآخر، فهل تمرُّ تلك الظاهرة، إذاً، من دون أن تترك أثراً ما على النُظُم الثقافية لتلك المجتمعات «.
»إن التمييز بين ما هو عقائدي أخروي وما هو سياسي دنيوي يضعنا أمام المعادلة التالية: ليس كل ما هو عقائدي مُقَدَّس يجب أن يكون سياسياً مقَدَّساً أيضاً. إن هذه المعادلة تقودنا إلى وجوب الفصل بين الإلهي المقدس والبشري الدنيوي من جهة، وإلى الاعتقاد بأن المقدس ليس حقيقة مطلقة من جهة أخرى. فماذا يعني ذلك على أرض الواقع؟
إن ما هو مُقَدَّس عند مجتمع ديني قد لا يكون مُقَدَّساً عند مجتمع ديني آخر. فالمقدس (التابو) ليس، إذاً، حقيقة مُطْلَقَة؛ ولذا فإن الفصل -في مجتمع تعددي-بين المقدس الأخروي والمقدس الدنيوي يسمح أكثر في بناء واقع اجتماعي/سياسي تتعايش فيه الإثنيات الدينية، بحيث يصبح المقدس الأخروي قضية خاصة بعيدة عن الشرائع والممارسات السياسية. أما إلغاء صيغة المقدس الدنيوي فهو إلغاء لنقاط التماس والاحتكاك والتناقض بين الإثنيات الدينية «.
»إننا من خلال هذه الرؤية، التي تنظر إلى التاريخ العقائدي والسياسي للإسلام نظرة شاملة، تنظر إلى الإيجابي منه لا لتُضَخِّمه، بل لوضعه في موقعه الصحيح، وتنظر إلى السلبي لا لكي تستخدمه مادة للتشهير، وإنما لكي تُصوِّب المسار باتجاه الهدف السليم؛ ومن خلال هذه المنهجية سننظر إلى طبيعة العلاقة بين المجتمع القومي العربي-كواقع سياسي فكري اجتماعي- و بين الإسلام كظاهرة دينية اجتماعية ثقافية رافقت التاريخ العربي أكثر من عشرة قرون«.
»وفي الوقت الذي تبقى فيه إشكالية الصراع بين الديني والسياسي دون أن يحرز أحد طرفيه النصر على الآخر، سوف تبقى إشكالية تنظيم العلاقة بين العروبة والإسلام مستمرَّة في عملها التفتيتي؛ وهي وإن استكانت في بعض المراحل، لظروف الصراع مع الخارج مثلاً، فإنها تبقى جاهزة لتَنْبُت من جديد وبقوَّةٍ أيضاً«.
وجاء في ردِّنا على الدكتور عمارة، في كتابنا المنشور تحت عنوان »نحو طاولة حوار«، ما يلي: »وكيف يمكن لهم أن يرشدوا المسلمين إلى مذهب إسلامي يستند إلى القرآن والسُّنَّة، فيوحِّد كل الفرق / المذاهب الإسلامية في فرقة واحدة من دون تناحر دنيوي وأخروي؟!!!
هل هناك من حل غير أن تعترف كل فرقة بخيارات الفرق الأخرى من دون تكفيرها والحكم عليها بالنار في الدنيا والآخرة؟
وهل هناك من حل غير أن يعترف كل دين بخيارات الدين الآخر من دون تكفيره والحكم عليه بالنار في الدنيا والآخرة؟
وحتى لا تعود الأديان، والمذاهب المتوالدة عنها، إلى النزاع من جديد حول أي نظام ديني – سياسي، أو طائفي – سياسي يُمكننا أن نرتضي قوانينه وشرائعه، بادِّعاء قدسيتها من دون غيرها، ليس أمامنا إلا أن نرتضي تلك الشرائع: الوضعية أو الدينية، التي يتَّفق عليها، والتي تحقق العدالة والمساواة بين جميع المواطنين فتوحِّدهم، وتقيم دولة يرتضيها الجميع سقفاً لهم: مُوَحَّدَاً ومُوَحِّدَاً«.
وجاء، أيضاً، في الرد ذاته ما يلي: »بعد أن حدَّد البعث علاقة القومية بالدين/ العروبة بالإسلام، رافضاً أن تكون الجامعة الإسلامية، مرجعية وحدوية سياسية للأمة العربية، لأنه أحلَّ مكانها المرجعية الوحدوية القومية، وهدفها بناء نظام سياسي عربي وحدوي، قام بخطوة أخرى، عندما أعطى للمسألة القومية محتواها الاجتماعي، وربط النضال القومي/ الوحدوي، بالاشتراكية، كمبدأ اقتصادي - اجتماعي، يحقق المساواة بين جميع المواطنين ويمنع استغلال جهد الآخرين( ).
بالإجمال، كان موقف البعث من الإسلام، متميزاً عن تيارين: أحدهما يقف على اليمين (تيار الجامعة الإسلامية)، الذي يفسِّر الكون بكل جوانبه على أساس منهج ديني- ماورائي، أما الآخر فيقف على اليسار (الأممية الشيوعية)، الذي يفسِّر الكون، بكل جوانبه، على أساس منهج مادي (المادية - الجدلية).
إن السلفيين الإسلاميين يريدون أن يقطعوا الإسلام عن إمكانية تواصله مع الحاضر والمستقبل، وهم يقفون رافضين لكل حالة تجديدية في الفكر.
أما الدعوة الشيوعية فقد جنحت باتجاه الإلحاد، برؤيتها المادية في تفسير الكون، ورفضت ليس الإسلام فحسب، وإنما الدين، أيضاً.
أما البعث، فقد دعا إلى تكامل زوايا التاريخ في داخل علاقة جدلية بين التراث والمعاصرة ، والى التمييز بين الماورائي في الدين، كرؤية فلسفية، وبين تطور التاريخ بصورة جدلية. فهو لما اعترف بدور للدين في المجتمع، فإنما ميَّزه عن النزعات الطائفية والمذهبية. وبدلاً من أن يكون الماضي والحاضر فيه متساويين، كما يحسب السلفيون، أراد البعث أن يتفاعل الماضي (التراث) والحاضر (المعاصرة) في الأمة، لكي "يكون تذكرها لماضيها ووعيها لحاضرها حافزاً مزدوجاً لها للنهوض" ( ) .
وجاء، أيضاً، ما يلي: على هذا الأساس يمكن التمييز، دائماً، بين منهجين في دراسة الدين:
- النظرة السلفية - الدينية، التي تفسِّر الكون على أساس من الجمود المنهجي، وعلى قاعدة أن ما هو مرسوم في الماضي والحاضر هو من صنع إلهي لا يجوز مسه.
- النظرة العلمية التي تفسِّر التاريخ على قاعدة تطوره بشكل متصاعد.
فاستناداً إلى ذلك تمَّيز موقف البعث من الدين بما يلي:
- إن الدين هو حاجة روحية إنسانية، وهو حاجة فلسفية لتفسير الكون.
- وهو حالة ثقافية اجتماعية تاريخية، ضرورية للاستفادة منها في الحاضر والمستقبل.
أما بالنسبة للمساجلة بين الأحزاب الشيوعية العربية والفكر القومي، فقد استعارت هذه الأحزاب من الفكر الأوروبي، الماركسية تحديداً، نظريات جاهزة كانت وليدة الواقع الأوروبي، خاصة في مسألتي الدين والقومية؛ وتقيدت بتلك النظريات لكي تطبقها على الواقع العربي، ولهذا وقعت في منزلقات عديدة.
إن مسألتي الدين والقومية هما أشد ما يتميز به المجتمع العربي: فالأول هو جزء أساسي من التراث الحضاري للأمة، أما الثانية ففيها تكمن الحوافز الوحدوية كشرط ضروري ولازم لمقاومة الموجات الاستعمارية الخارجية.
رابعاً: في مدى صلاحية تثقيف البعثيين بالمادة النقدية في الفكر الإسلامي في هذه المرحلة.
1-على صعيد صلاحية تثقيف الحزبيين بالمادة الثقافية النقدية:
جاء في أحد الردود على سؤال توجَّه به أحد المشاركين في طاولة حوار داخلية، ما يلي: ولماذا نخشى أن نثقِّف البعثيين بكتابات نقدية؟ إن القاعدة أن نؤهِّل كل ملتزم بقضايا أمته بثقافة نقدية تستند إلى عقل ناقد، أليست الحركة الحزبية هي الدعوة إلى الانقلاب على الواقع؟ وكيف تنقلب على الواقع، ولماذا؟ وهل تنقلب إلاَّ على الواقع الفاسد؟ وكيف تعرف أن الواقع فاسد إذا لم تنقده؟
إن الواقع الفاسد هو عبارة عن نهج فكري واجتماعي وسياسي واقتصاد لا يلبِّي حاجة المجتمع في التقدم. فعليك، إذاً، أن تبيَّن طبيعة الفساد. وهل تستطيع أن تبيِّن طبيعة الفساد من دون نقدها؟
من هنا، لن يكون من المستغرَب أن تثقِّف الحزبيين بالدراسات النقدية، لكن المستغرَب أن لا تثقفهم بتلك الدراسات. فدراساتي وأبحاثي النقدية هي مُوجَّهة لكل العرب بشكل عام، وإلى الملتزمين من البعثيين وغيرهم بشكل خاص. وإذا كان من أصول نشر الثقافة أن لا تُلزِم العربي بقراءة ثقافة نقدية، فمن باب الإلزام أن يكون الملتزم ذا حسٍّ نقدي وعقل ناقد وثقافة مبنيّة على النقد.
2-على صعيد نشر دراسات نقدية حول الفكر الإسلامي، ومدى تأثيراته على العلاقة مع الحركات الإسلامية في مراحل التحرر الوطني.
نحن أولاً لسنا حزباً يستجدي أصوات الناخبين لكي نتلوَّن مع كل شريحة من المجتمع بلونها. بل نحن حزب انقلابي لا يتسوَّل رضا هذه الجماعة أو تلك. نحن حزب اقتنع بفكر جذري انقلابي، وعلى أساسه رهن نفسه للتبشير به مهما كانت التضحيات. أوَ لم يعطٍ مؤسس البعث للبطل، الذي يتَّصف بالتضحية، دوراً أول في ساحة النضال؟
ماذا يعني أن يكون البعثي انقلابياً؟
جاء في المادة السادسة من الدستور ما يلي: »حزب البعث العربي الاشتراكي انقلابي، يؤمن بأن أهدافه الرئيسة في بعث القومية العربية… لا يمكن أن يتم إلاَّ عن طريق الانقلاب والنضال، وإن الاعتماد على التطور البطيء والاكتفاء بالإصلاح الجزئي السطحي يهددان هذه الأهداف بالفشل والضياع. لذلك فهو يقرر:الانقلاب على الواقع الفاسد انقلاباً يشمل جميع مناحي الحياة الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية«.
ماذا نفهم كبعثيين من معاني الانقلاب؟ إنه أولاً يعمل من أجل مبادئه بروح جذرية وثورية، وليس بروح الإصلاح الجزئي السطحي. والانقلاب يشمل، من ضمن ما يشمل، خطورة المذهبية والطائفية والتمييز بين الأديان. وهل تلك الخطورة إلاَّ آتية من ينابيع الفكر الديني؟
هل المذهبية هي دين آخر أنزله الله تعالى بمعزل عن الأديان، أوَ ليس خبز المذاهب إلاَّ من عجين الأديان؟
الكاثوليك والموارنة والأرثوذكس والبروتستانت… هي مذاهب تنتسب إلى المسيحية، وكل منها تحسب أنها تمثل المسيحية، بينما المذاهب الأخرى، كما تعتقد كل فرقة مسيحية، تقف في الخندق الذي يفهم المسيحية فهماً مشوَّهاً.
السنة والشيعة، بشتى فرقهما، هي مذاهب تنتسب إلى الإسلام، وكل منها تحسب نفسها أنها تمثل الإسلام الصحيح، بينما المذاهب الأخرى، كما تعتقد كل فرقة إسلامية، تقف في الخندق الذي يفهم الإسلام فهماً مشوَّهاً.
بالإضافة إلى كل ذلك، يعتقد كل من المسلمين والمسيحيين أن دينهم هو الذي يعبِّر بشكل سليم عن الدعوة الإلهية، بينما الدين الآخر هو الذي يفهم الدعوة الإلهية فهماً مشوَّهاً.
ما هو السبب الذي جعل من المسيحية والإسلام يتشرذمان إلى مئات المذاهب والفرق؟ نحن نحسب، أنه لولا وجود الغموض في كثير من الزوايا الإيمانية عند كل دين لوحده لما اختلف المسيحيون أو المسلمون حول تفسير الغامض من نصوصهما وتأويله، ولما تفرقوا إلى مئات المذاهب، التي تتقاتل حول تعريف للدين أو المذهب الصحيح.
نحن كحزب نرى بوضوح تلك الإشكالية، ونعرف مخاطرها، فهل من المسموح أن لا ننقدها لتبيان أصولها؟ وهل من المنطقي أن نحذِّر من خطورة ظاهرة من دون نقدها؟ وهل تجوز المحاباة لظواهر اجتماعية أو دينية أو مذهبية تحت حجة أن الوقت غير مناسب خوفاً من خسارة هذه الجماعة أو تلك من أن لا تشاركنا في معارك الاستقلال والتحرر؟
إن صراعنا مع قوى الخارج طويلة ومستمرة، وهي غير محددة بفترة زمنية، أما علاقات الجماعات السياسية والدينية ففي صراع متواصل، تارة يكون مكشوفاً وتارة أخرى يكون مستوراً. وهذه هي طبيعة الصراع مع القوى الطائفية والدينية والمذهبية في هذه المرحلة.

3-اقتراحات على طريق معالجة الإشكالية:
على حزب يتصدى إلى التغيير بعمق انقلابي بعيداً عن الإصلاحية البطيئة، أن يمتلك مشروعاً فكرياً وسياسياً واضحاً، يستطيع من خلاله أن يحدد، أولاً وقبل كل شيء، مبادئه الثابتة (الاستراتيجية). أما تحديد ما هو صالح في مرحلة معيَّنة فيدخل في باب المؤقتي( التكتيكي). فعندما يفرز البعثيون بين ما هو تكتيكي وما هو استراتيجي، يصبحون كمن يمتلكون بوصلة دقيقة تحدد الاتجاهات الصحيحة. أما أن يخلطوا بين ما هو مؤقت وما هو ثابت، فهو ما لا يجوز أن يتميَّز به فكر حزب ثوري.
فالوضوح بين الاستراتيجية والتكتيك مسألة مطلوبة. فعلى الفكر الاستراتيجي أن يكون واضحاً أمام من يلتزمون به، وهذه حاجة ضرورية تقي خطواتهم من التذبذب والتردد، وبدونها يفتقد الحزبي البوصلة التي تصوِّب اتجاهاته الفكرية. أما عوارض وتقلبات البحر، فتدفع الربان إلى التعامل معها، بتغيير وجهة السفينة بشكل مؤقت، أو لملمة أشرعتها لفترة تطول أو تقصر تبعاً لعوارض البحر الطارئة، ولكنه عندما تزول العوارض لن يرتبك الربان على الإطلاق لأنه يمتلك بوصلته التي تساعده على إعادة توجيه السفينة. لن يجد الربان، في سبيل تصحيح مسار السفينة، غير البوصلة هادياً إلى الخط الأساسي الذي كان يوجه للوصول بها إلى الميناء المقصود. أما إذا كان الربان يفتقد تلك البوصلة فإنه سيتعرَّض حكماً إلى الضياع، فتضيع السفينة والربان.
من هنا تأتي أهمية امتلاك الفكر الاستراتيجي الواضح عند حزب البعث العربي الاشتراكي. ولأن المسألة الدينية والمذهبية والطائفية هي من الإشكاليات الأساسية التي تعرقل عمل الفكر القومي، كان من الواجب على الحزب أن يوليها اهتماماً استثنائياً، خاصة وأن أهداف بوصلة الفكر القومي، حتى في داخل حزب البعث العربي الاشتراكي، أخذت تختلط مع أهداف بوصلة الفكر الديني الإسلامي.
أما دلائل هذه الظاهرة فأخذت تبدو واضحة بتأثيراتها على مستوى عدد من البعثيين الذين أخذوا يميلون باتجاه الإسلامي على حساب القومي.
أما هل يتضرر حزب البعث العربي الاشتراكي، إذا انخرط بورشة نقدية للفكر الطائفي المذهبي الإسلامي؟
لا أرى أن مشكلة الحزب مع القوى الطائفية هي في إعلاء شأن الخطاب الإسلامي، لأن المتدينين والمتمذهبين والمتطيفين لا يشبعهم خطاب، من هنا، يدغدغ عواطفهم وخطاب من هناك يحاول استمالتهم، فهم لا يرتوون على الإطلاق إلاَّ إذا كان هناك اعتقاد وتطبيق لمعتقداتهم الدينية بدون تحريف أو تجديد.
على العكس مما يحسبه بعضنا أن علينا بالتخفيف من الكتابة النقدية لكي لا ننفر التيارات الإسلامية المنخرطة في معارك التحرر؛ فأنا أرى أن البحث النقدي لا يقود إلى مثل تلك المخاوف. لأننا إذا كنا واثقين، بحق، من صلاحية الفكر القومي، وإذا كان خطابنا في نقد الفكر الديني موضوعياً، لن نقنع البعثيين لوحدهم بصلاحية الفكر القومي وبتوضيح الثغرات في الفكرين الديني والمذهبي فحسب، وإنما سوف نؤثِّر على قناعات المتدينين أيضاً.
إن تأجيل نقد الفكر الديني إلى مراحل أخرى، ولسنا ندري التي متى يستمر الحظر على تأجيله، سيُضيِّع على الحزب فرصاً كثيرة وأوقاتاً كثيرة. فنحن إذا كسبنا إلى جانبنا في الصراع بعض المجموعات الدينية، فلن يكون الكسب إلاَّ كسباً مؤقتاً، لأنه في الوقت الذي تنتهي فيه صراعات التحرر من عبء الاستعمار سوف تظهر إلى الواجهة مشاريع دينية إسلامية تعمل من أجل إلغاء كل المشاريع، بما فيها المشاريع القومية، في سبيل إعادة بناء نظام الخلافة من جديد. وعلينا أن نكون متأكدين أن المجموعات الإسلامية لا تقف في الخندق المعادي للاستعمار والصهيونية، لأن الخطاب القومي مرن، بل لأنها ترى أن من واجبها الديني أن تقاتل القوى المعادية، كخطوة تأسيسية وتمهيدية على طربق الجهاد من أجل إعادة نظام الخلافة الإسلامية، فسوف تكون الخطوة التالية الانتقال إلى الصراع مع كل المشاريع العلمانية، ومنها مشروع حزب البعث العربي الاشتراكي . لذلك، نحن، لا نرى أن الخطاب القومي الإسلامي هو ما يُكسب الحزب ولا التيارات القومية. فإذا كانت التيارات القومية ترفع خطاباً إسلامياً، فهذا يعني صلاحية التيارات الإسلامية، وهي الأقدر على نشر تعاليم الدين من غيرها، فلماذا يلجأ العربي القليل الثقافة إلى المراهنة على حصان إسلامي آخر غير تلك التيارات؟
أما نحن، كقوميين، فمعرَّضون للخسارة أكثر مما نحن مرشحون للكسب، لأنه ما لم يتعمَّق الفكر القومي، ويكون متميزاً بأسباب مقنعة وموضوعية، ستجرف التيارات الإسلامية، سواء السياسية منها أو غيرها، كل العرب المسلمين الذين يقفون في الصف الثقافي السطحي، والقائم على التسليم والتقليد والإيمان الساذج.
أما على أرض الواقع فنرى أن الخطاب الإسلامي، وعدم الوضوح السائد حول العلاقة بين الفكرين الديني والقومي بشكل عام، وبين المشروعين القومي والإسلامي، أي العلاقة بين العروبة والإسلام بشكل خاص، يدفع بالكثير من البعثيين –تحت حجة الكسب السريع من البيئة الإسلامية- إلى الجنوح باتجاه الثقافة الإسلامية على حساب الثقافة القومية. وبمرور الزمن ستتحول تلك الفئة إلى تشكيل تيار يسلك طريق تكفير الآخرين. ونحن نرى، حتى في المرحلة الراهنة بداية تدل على أن البعض أخذ يسلك هذا المسار. وهذا ما يدعونا إلى وضع الإشكالية بين أيدي الجهات المختصة في الحزب لحسمها بشكل واضح وحاسم، أي تحديد الخط الفكري الاستراتيجي أولاً وقبل أي شيء آخر لتكون المادة التثقيفية الأساسية في مناهجه. أما تحديد الخط التكتيكي في الخطاب الديني بشكل عام، والإسلامي بشكل خاص، فيمكن تحديده في التعاميم الحزبية تبعاً لخصوصيات كل مرحلة.
***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق