بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 22 يناير 2010

مقالات العام 2007 (2)

(21): لاريجاني والدجل الإيراني المستمر
أميركا تعمل على إعادة حزب البعث إلى السلطة في العراق؟!
19/ 5/ 2007
صرَّح علي أكبر لاريجاني في عمان أن الأميركيين يعملون على إعادة حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة في العراق، ولأن الدجل هو الديدن الاستراتيجي للفئة الحاكمة في طهران، كان لا بدَّ من الرد عليه خاصة أن هناك من الأوساط السياسية العربية من لا تزال مُضلَّلة حول أهداف النظام الإيراني الحالي، ولا ترى حقيقة تلك الأهداف.
من أبوابه من زجاج أميركي لا يحق له الوعظ في الوطنية
نقولها أولاً، وقبل أي شيء آخر: لا يحق لمن يساوم الأميركيين ويعقد الصفقات معهم ويتآمر معهم على أمن الشعوب وسيادتها أن يرشق أميركا بحجر، كما لا يحق له أن يتهم الآخرين بالأمركة. وباختصار نخاطب الفئة الحاكمة في إيران لنقول: نظِّفوا سجلكم الأميركي أولاً ومن بعدها تعالوا لنتحاور، ونحدد من هو الأميركي الهوى، ومن هو على عداء حقيقي مع أميركا.
لقد أعلنت أعلى المراتب الحكومية الحاكمة في إيران، من دون خجل ولا تقية، أن لإيران فضل أساسي في احتلال أميركا لكابول وبغداد. وفي المقابل كان سبب الاحتلال هو إسقاط النظام الوطني لحزب البعث، ليس لسبب إلاَّ أنه وقف في خندق مقاومة المشروعين الأميركي أولاً والفارسي ثانياً. لقاء هذه الحقيقة هل يصبح الجواب صعباً أمام السؤال القائل: من هو الذي يقف في الخندق الأميركي؟ ومن هو الذي يحفر خندقاً في مواجهته؟
ونقولها ثانياً، إن من يعقد معاهدة واتفاقاً مع الأميركي ضد مصالح الشعوب، وخاصة الجيران منهم، هل يجوز لنا إعطاءه صك البراءة بالنظافة من الأمركة؟ وهل يعقد تلك الاتفاقات من دون وجود تقاطعات بين المشروعين؟
هناك احتمالات: إما أن يكون العاقد غبياً، أو عميلاً مأجوراً لأميركا، أو مستفيداً من غياب الأخلاق في المشروع الأميركي في استعباد الشعوب، لكي يقلِّده ويجاريه في أعماله. ويتقاطع المشروع الإيراني مع المشروع الأميركي في نقطتين استراتيجيتين: العداء الاستراتيجي للقومية العربية ممثَّلَة بحزب البعث، واستغلال القوة الأميركية في «اجتثاثه». ولهذا الغرض قام بعقد اتفاقية، لا يخجل من الإعلان عنها، مع «شيطانه الأكبر».
من خفايا تلك الاتفاقية أن كلاً من الأميركي والإيراني استغبى أحدهما الآخر، وقد ظهرت نتائج الاستغباء بعد مرحلة الاحتلال عندما وجد كل منهما نفسه واقعاً في مأزق نصبته لهما المقاومة الوطنية العراقية، وقد فعلت ذلك قبل أن يستكمل كل منهما مشروعه في العراق، ولما وجدا نفسيهما في ذلك المأزق راح كل منهما يلقي تبعة الفشل على الآخر. وهما اتفقا من جديد على اللقاء في الثامن والعشرين من أيار الجاري من أجل إعادة تقسيم الحصص بينهما، وكل منهما يتوهَّم أنه بالغاً مآربه.
هما تعاونا على إسقاط النظام الوطني في العراق، والسبب أنهما يتوافقان على أن النظام المذكور يمتلك من قوة الفكر والسياسة والمقاومة العسكرية ما يحول دون بسط أطماعهما في العراق، ومن بديهيات الأمور أن أحدهما، أو كليهما معاً، سيعمل كل ما بوسعه للحيلولة دون عودة السبب الذي من أجله اجتمعا على احتلال العراق. أما هذا السبب فهو منع عودة البعث إلى السلطة مهما كلَّفهما الأمر من وسائل وأساليب.
البعث حاجز صلب يحول دون نفاذ المشاريع المعادية للقومية العربية
إن حزب البعث، بإعداده للمقاومة وتفجيرها، وقيادتها، منعهما معاً ليس من تحقيق أحلامهما فحسب، بل جرهما إلى مآزق ومتاهات لا يعرفان كيفية الخروج منها أيضاً. لقد فعلها حزب البعث، بينما كانا على وفاق واتفاق، مما يعني أنه انتصر عليهما وهما متفقان، فهل يعجز عن ذلك وهما متنافران؟
لقد فعلها حزب البعث، بينما كانا مع عملائهما، في أوج نشاطهما وقوتهما، فهل سيعجز عن ذلك وهما الآن مع عملائهما في أدنى درجات الضعف والتفكك؟
إن المقاومة العراقية، بقيادة البعث الآن وقبل الآن، يرد عليهما قائلاً: إجتمعا أينما أردتما، واعقدا اتفاقيات كيفما شئتما، وتقاسما على الورق أرض العراق وشعبه وثرواته بالنسب التي تريدانها، لكن أينما عقدتما مؤتمركما، وأياً تكن مضامين الاتفاقات والمؤتمرات والسمسرات والمساومات التي ستتوصلان إليها، فإن قرار تنفيذها ليس بأيديكما، ولن يستطيع أحدكما أو كلاكما أن يتجاهل قرار المقاومة فحسب، بل إن القرار جاهز في أدراج المقاومة أيضاً، وقرار المقاومة هو مقاومة كل ما يصدر عنكما.
لن يفيد الدجل الإيراني، الذي عبَّر عنه علي لاريجاني أخيراً، بطمس الحقيقة، فضوء خفافيش الظلام لن يغطي على أنوار الحقيقة الساطعة. إن أميركا جورج بوش، لم تتفاوض ولن تتفاوض مع من احتلت العراق لأجل اجتثاث فكره وسياسته واستراتيجيته، وإنما تتفاوض مع من اتفقت معه على إسقاط نظام البعث، وهي لن تتفاوض مع من يرفض التفاوض معها إلاَّ على قاعدة تحرير العراق، ليس من الاحتلال الأميركي فحسب، وإنما تحريره من كل من تسلل إلى العراق تحت حماية هذا الاحتلال أيضاً.
البعث سيبقى القوة التي تحمي سيادة العراق وأمته العربية
لمن فاتته معرفة حقيقة الأهداف الإيرانية في العراق والأمة العربية، يمكنه الكشف عن وثائق ما كان يروِّج له المؤيدون لنظام ولاية الفقيه الإيراني في لبنان، تلك الوثائق التي تؤكد أنه تحت ستار «نظرية الانتظار» الدينية، كان أنصار إيران ينتظرون «الثورة الإسلامية القادمة من إيران تحديداً». ونظرية ولاية الفقيه، ونظام الثورة الإسلامية بالمفهوم الإيراني ليست إلاَّ ذات مضامين معادية للقومية العربية بشكل عام وللوحدة العربية بشكل خاص.
فهل الثورة الإسلامية القادمة من إيران تحمل السلام للقومية العربية؟ بل هل تعترف تلك «الثورة» بالقومية العربية؟
إن خوف علي لاريجاني من عودة حزب البعث إلى السلطة في العراق، وإعلانه عن مخاوف نظامه من أن الاحتلال الأميركي يعمل على إعادته إلى السلطة ليست أكثر من ذر للرماد في العيون، فهو واثق بأن الأميركيين لن يقوموا بهذه الخطوة، خاصة وأنه كان من أهم أسباب الإدارة الأميركية في احتلال العراق، وهم لم ينسقوا مع النظام الإيراني لاحتلال العراق إلاَّ لأنه يكن كل أنواع العداء وأشكاله ضد حزب البعث.
صحيح أن الاحتلال الأميركي يتسول الحلول من أجل تثبيت أرجله في العراق، وهو يعلم تماماً أن قوة المقاومة العراقية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقوة حزب البعث. ولهذا وكمثل عادته في الاحتيال يعمل على استغلال اسم الحزب، بدءاً بإشاعة ضعف تأثيره في المقاومة، مروراً بتعويم يافطات إسلامية في المقاومة تُظهر العداء له، خاصة وإنها تكاثرت في المرحلة الأخيرة، وإعلان إعادة النظر بقانون «اجتثاث حزب البعث»، وهماً منه أنه يستطيع استقطاب من يراهن على إعادتهم إلى وظائفهم ليضيفهم إلى من تساقطوا على درب النضال من البعثيين، كأمثال من استقطبهم أياد علاوي.
وكمثل ما عملت أجهزة المخابرات الأميركية، سابقاً، وكما تعمل الآن، وستعمل لاحقاً، باستغلال عدد من تنظيمات «الإسلام السياسي»، فإنها تحاول تكرار تجربتها مع حزب البعث، أي أنها تجهد من أجل بناء تنظيم بعثي من المتساقطين، على أن يكون خالياً من فكر البعث واستراتيجيته، ويدين بالولاء للاستعمار والصهيونية، أي تجعل من هذا التنظيم واجهة شكلية تصطاد من خلاله عدداً من العملاء والمتساقطين والمغفَّلين والخائفين.
لقد كشف البعث هذه المؤامرة، وحدد موقفه من كل من ًُسوِّل له نفسه بالوقوع في أحضان هذا المشروع الخطير، كما أنه حذَّر أصحاب النوايا الطيبة من الوقوع في هذا الفخ على قاعدة إن البعث لن يحمي «المغفَّلين».
الاحتلال الأميركي يخطط لإعادة «البعثيين» إلى السلطة، ولكن هل يعرف لاريجاني من هم هؤلاء «البعثيين»؟
إنهم ممن استغفلهم، أو جنَّدهم الاحتلال الأميركي، بمساعدة من بعض الأنظمة العربية المتواطئة معه، من أجل إنقاذه من مآزقه في العراق.
ليس علي لاريجاني هو المعترض الوحيد
بل إن البعث، قائد المقاومة، والبعث الذي دفع الثمن الغالي والنفيس من أرواح قادته وقواعده من أجل المحافظة على استراتيجيته القاضية بـ«اجتثاث الاستعمار والصهيونية» عن الأرض العربية، يقف ليس رافضاً ومحذراً من خطورة ما ترمي إليه الإدارة الأميركية فحسب، بل مقاوماً لتلك المشاريع المشبوهة التي يضع من يقع فيها في دائرة الخيانة أيضاً.
فلتطمئن نفس علي لاريجاني، وقادة نظامه، إن البعث لن يعود إلى السلطة في العراق، إلاَّ بقوة عقيدته، التي من أهم أسسها وثوابتها، مقاومة كل اعداء الأمة العربية وفي مقدمتهم الاستعمار والصهيونية، وكل أعداء الفكر القومي مهما تلوَّنت جلودهم وتغيَّرت.
البعث هو الثابت الأهم في تاريخ الأمة العربية المعاصر
البعث ليس حزباً تقليدياً يمكن استئصاله بعملية قيصرية، حربية كانت أم سياسية، بوجوده في السلطة أم في خارجها. لقد أصبح الحزب متغلغلاً في نسيج الثقافة الشعبية في العراق.
فكر البعث وسلوكاته أصبح تُراثاً لا يمكن تفسير ما يحصل في العراق من دون قراءة ذلك التُراث.
البعث أصبح أنموذجاً للفعل النهضوي الحقيقي، وقد رسم سقوفاً متينة وأرسى أرضية صلبة لأنموذج نهضوي حضاري فكري وسياسي، لا يمكن، وليس من السهولة لأحد أن ينزل إلى ما دون هذا السقف أو يبني على غير تلك الأرضية.
أما من لا تعجبه هذه النتيجة، أو قل من تخدش آذانه، أو تزرع الخوف في نفسه، ندعوهم إلى قراءة تجربة البعث في السلطة ومشروعه النهضوي العظيم، وإلى قراءة ما يجري في غياب حكم البعث وتجربة البدائل المفروضة من «ديموقراطية جورج بوش»، إلى تجربة الجرائم التي تُرتكب باسم الدفاع عن الطائفية التي يعمل نظام إيران على تعميمها في العراق.

(22): في ذكرى هزيمة حزيران
مقال نشرته جريدة القدس العربي
يمكننا بعد مرور أربعين عاماً على العدوان الصهيوني على بعض أقطار الأمة العربية، في حزيران من العام 1967، أن نقيِّم التجربة بآليات جديدة أسهمت في صياغتها مراجعتنا النقدية للآليات التي كانت حركة التحرر العربية تخضعها للنقد والتقييم.
على الرغم من أن أحزاب حركة التحرر العربي وقواها أسهمت في نقد الهزيمة التي أصابت الأمة، والنقد مطلوب في كل الحالات، إلاَّ أن آليات الستينيات النقدية كانت تخضع لمواصفات مُفصَّلة على مقاييس المواقف السياسية لأحزاب حركة التحرر العربي وإيديولوجياتها، وكانت في معظمها لا تقف الموقف النقدي النزيه، لأنها كانت تُخضع نقدها لعصبيات حزبية وإيديولوجية فئوية.
أولاً: كانت محاكمة تجربة الخامس من حزيران من العام 1967، محاكمة للفكر القومي العربي وأنظمة المرحلة القومية، المتمثلة بالحركة الناصرية، و حزب البعث العربي الاشتراكي. وكونهما يمثلان الحركة القومية أولاً، وأسسا نظامين سياسيين في مصر وسورية ثانياً، وانهزما عسكرياً في حرب حزيران أمام العدو الصهيوني في خلال أسبوع ثالثاً، فقد ُحِّملا وزر الهزيمة بطريقة أقرب منها للشماتة وليس للنقد.
ثانياً: كان النظامان السياسيان وليدان حديثان، لفكر قومي لم تتبلور كل حيثياته الفكرية والسياسية بعد، لذا كانت وسائل التجربة والخطأ تشكل البوصلة التي توجِّه تجربتهما في الحكم.
ثالثاً: على الرغم من أن أحزاب وقوى حركة التحرر العربية كانت واسعة الانتشار، إلاَّ أنها لم تكن متجانسة في الأهداف والوسائل:
1-فمن حيث الأهداف كانت تلك الحركة منقسمة إلى تيارين: أممي وقومي. فالأممي كان أمميتين:
-ماركسية، تضم الأحزاب الشيوعية على اختلاف مللها واتجاهاتها.
-وإسلامية كانت تقتصر بداية على حركة الأخوان المسلمين بشكل أساسي.
أما التيار القومي فكان متشابهاً بالأهداف التي كانت معلنة بثلاث: الوحدة والحرية والاشتراكية.
2-أما من حيث الوسائل، فيصح أن نصف الأهداف الأممية بأنها تقف في صف العداء للفكر القومي وأهدافه السياسية: فالتيار الماركسي يرى في الفكر القومي عائقاً يحول دون القفز نحو الأممية التي كانت مركزيتها في الاتحاد السوفياتي سابقاً وفي حكم الحزب الشيوعي في الصين، لذا كانت من أهداف الأممية الماركسية التنافس مع الفكر القومي وكل إفرازاته ومحاربتهما تحت هدف محاربة الشوفينية القومية. أما الأممية الدينية فكانت تنظر إلى الفكر القومي نظرة العداء من زاويتين: لأنه يشكل عائقاً أمام استعادة مراحل أممية الخلافة كما كانت في العصر العثماني، أولاً، وثانياً لأن تيارات الأممية الدينية يؤمنون بأنه لا حاكمية إلاَّ لله، إي للتشريع الإسلامي بكل تفاصيله، بينما الفكر القومي يعمل من أجل تشريع مدني حتى ولو كان التشريع الإسلامي مصدراً أساسياً من مصادره.
تساوى التياران الأمميان بعدائيتهما للفكر القومي، وهذا يعني بشكل غير مباشر تلاقيهما، وإن لنتائج متناقضة، مع أهداف اتفاقية سايكس بيكو، بركنيها الأساسيين: محاربة الفكر القومي العربي من جهة، ومنع قيام وحدة عربية من جهة أخرى.
هذه المقدمات جزء لا يتجزَّأ عن إعادة تقييمنا لتجربة الخامس من حزيران في العام 1967. وتلك آليات لا يمكن القفز فوقها في إعادة تصويب أهداف نقد تجربة مرَّ عليها أربعون عاماً من عمر الأمة شهدت فيه تطورات ومتغيرات، كان لبعضها شأن كبير في القفز فوق خطاب الهزيمة والدخول إلى خطاب النصر.
من أولى أسبابنا لإعادة النظر في الآليات التقليدية هي أنها كانت تعتمد مقاييس أنموذجية، أي وصفات جاهزة لمواصفات حكم سياسي أنموذجي أولاً، ولإمكانيات عسكرية أنموذجية ثانياً.
لما كان الفكر القومي، في مرحلته الوليدة، أي أن حزب البعث العربي الاشتراكي قد تأسس في العام 1947، أي قبل نكبة فلسطيني بعام واحد. وكانت الناصرية ردة فعل، من منطلق قومي، ضد النظام الملكي في مصر الذي قصَّر في واجباته القومية تجاه فلسطين، وتأسست بعد ثورة 23 تموز/ يوليو من العام 1952.
وإذا كانت الناصرية سابقة البعث بعدة سنوات في تجربة الحكم، فقد ابتدأت تجربة البعث في الثامن من آذار من العام 1963. ولما أتاح وجودهما في الحكم للحركة القومية أن تنمو وأخذت تفرض عدداً من المتغيرات على الصعيدين الرسمي والشعبي، شكلت مركزاً جاذباً استقطب كل الشرائح العربية المعادية للاستعمار والصهيونية معاً، وهذا ما أثار عدائية الاستعمار والصهيونية اللذين خططا من أجل وأد هذه التجربة القومية في مهدها قبل أن تستفحل وتستشري، والغريب في الأمر أن تلك التجربة أيضاً تواجهت مع عدائية الأمميتين الماركسية والإسلامية معاً.
فإذا كانت عدائية الصهيونية والاستعمار ترجمت نفسها بعملين عسكريين: عدوان العام 1956 على مصر، بعد تأميم قنال السويس، والعام 1967 من أجل إحباط سرعة انتشار الحركة القومية واحتوائها، فإن الأمميتين الماركسية والدينية لم تكونا منزعجتين من تلك النتائج. فقد شكلت هزيمة العام 1967 ذريعة أتاحت لهما فرصة للتشهير بفشل الفكر القومي، وصلا بها إلى حدود إعلان موته.
وإذا كان نقد الحركة الماركسية لهزيمة حزيران من العام 1967، كما تزعم الأحزاب الشيوعية العربية، من منطلق الحرص على الانتصار العربي، فنحن نرى العكس لأن الأحزاب الشيوعية العربية كانت حريصة على انتصار «إسرائيل» كرافعة للديموقراطية في الوطن العربي. إلاَّ أن هذه الحقيقة تؤكدها المراجعة النقدية لمواقفها من الصراع العربي – الصهيوني، التي أجرتها الأحزاب الشيوعية العربية منذ العام 1968، وفي المقدمة منهم الحزب الشيوعي اللبناني.
وهذا ينطبق على حركة الإخوان المسلمين، حيث إن بعض تياراتهم، كما تؤكد مصادرهم الموثَّقة لدينا، لا ترى في مواجهة العدو الصهيوني أكثر من دفاع عن أنظمة كافرة، وهي غير معنية بالانخراط في الدفاع عنها حتى ولو احتلت «إسرائيل» أرض مصر مثلاً. إلاَّ أن تلك التيارات لم تقم بمراجعة نقدية لمواقفها وإنما فرَّخت، كردة فعل، تيارات دينية سياسية شيعية تنهج الطريق ذاته في مستوى العداء للقومية العربية والعمل على اجتثاث كل تياراتها وأحزابها وقواها.
ولكي نستطرد في البرهان نرى أن موقف الأمميتين معاً، في هذه المرحلة، باستثناءات طفيفة، لا تخرج عن السياق العام لمرحلة الستينيات والسبعينيات، حيث الموقف من الاحتلال الأميركي للعراق المتعاطف أحياناً والغائم الملتبس أحياناً أخرى، والموقف الصامت من المقاومة الوطنية العراقية والمتجاهل أحياناً والمهاجم أحياناً أخرى ، واستطراداً الموقف الإيجابي مما يُسمى «العملية السياسية» برهان ساطع لم تمحه الأحداث حتى الآن.
كانت هزيمة العام 1967 تجربة سلبية في مرحلة صعود الحركة القومية العربية بلا شك، وكان يجب تقييمها والحكم عليها بمقاييس قومية سليمة وليس من موقع الشماتة والندب.
فهل كانت هزيمة؟
نقولها نعم.
ولكن هل يمكن أن تشكل بداية وسبباً لوأد التجربة القومية؟
نقول كلا.
وهل إذا كانت الحركة الشيوعية هي التي تحكم في تلك المرحلة، بكل واقع المرحلة الموضوعي، كانت ستفلح في درء الهزيمة؟
وهل إذا كانت الأممية الإسلامية هي التي تحكم كانت ستحقق أسباب النصر؟
نقول: كلا.
لقد جلدنا أنفسنا بكثير من التعسف وصل إلى حد التشفي.
ماذا كان علينا أن نفعل؟ طبعاً كقوميين، وليس كأمميين، ونحن نحصر مسؤولية التقييم والحكم الموضوعي بالتيار القومي فلأن الإيديولوجيا الأممية، الماركسية والدينية، كانت ستواجه العدوان تبعاً لمواقفهما الإيديولوجيا التي أشرنا إليها أعلاه.
في تلك المرحلة، ولعلاقة الاستراتيجيا التي سلكها الرمز العربي جمال عبد الناصر هي حرب الاستنزاف كأحد أوجه حرب التحرير الشعبية.
أما حزب البعث العربي الاشتراكي فلم يكن يثق بأن الحرب النظامية، بقيادة النظام العربي الرسمي الذي أسس قواعده الاستعمار، هي وسيلة التحرير، وإنما أعلن، منذ العام 1948، أن حرب التحرير الشعبية هي الوسيلة الوحيدة، وكان يستند إلى جملة من الأسباب يأتي على رأسها أن الجماهير الشعبية هي صاحبة المصلحة في التحرر من الصهيونية والاستعمار، وأما السبب الآخر فيعتبر الحزب أن مصدر سلاح الجيوش النظامية هي مصانع الاستعمار، والاستعمار لن يزود أياً كان بسلاح، نوعياً وكمياً، لمحاربة الصهيونية.
فكان على حركة التحرر العربية، وأعني بذلك التيارات القومية ومن حصلت عنده تحولات من الأمميين على الصعيد الإيديولوجي، ممن اقتنعوا بأهمية الكفاح الشعبي المسلح، بدلاً من ممارسة الردح والندب، أن يحفروا لتعميق مبادئ حرب التحرير الشعبية، تلك تجربة استفاد منها حزب البعث العربي الاشتراكي عندما أعد للكفاح المسلح مستلزماته في العراق، وهي الاستراتيجية التي انتشرت بداية في فلسطين، وأسس الفلسطينيون لتلك الاستراتيجية منذ العام 1965، واستفادت منها الحركة الوطنية اللبنانية، وتطورت على يد المقاومة الإسلامية في لبنان، وبلغت ذروتها في العراق.
إننا في هذه المناسبة، كما علينا أن نستذكر الدرس السلبي في حزيران من العام 1967، علينا أن نخرج من نفق الهزيمة والندب، ونفخر أن عندنا من التجربة الجديدة ما نفخر به، ونعتمده استراتيجيتنا في المستقبل، تلك الاستراتيجية التي دفعت الشعب الأميركي لإعلان طلاق تصدير الديموقراطية بالقوة العسكرية بالثلاث، بعد أن تكسِّرت عنجهية المغامرين منهم على رمال صحراء العراق وعلى أمواج دجلة والفرات.

(23): في ذكرى رحيل ميشيل عفلق القائد المؤسس لحزب البعث العربي الاشتراكي:
حالة التراكم الثوري العربي في تصاعد مستمر
والبعث في العراق أعطى الأمثولة الأكثر نهضوية وثورية في تاريخ الأمة العربية
افتتاحية طليعة لبنان الواحد (حزيران 2007)
لم يكن من قبيل المبالغة أن يُوصف حزب البعث العربي الاشتراكي بحزب الثورة العربية، لأنه تمثَّل ماضي وحاضر ومستقبل الأمة العربية في قاعدة نظرية واضحة الأبعاد والأهداف، خاصة وأنه واجه كل الأحزاب الأممية التي ابتعدت عن واقع الأمة واعتبرتها في حالتها الممزقة ملحقاً بمشاريع أممية أثبتت وقائع التاريخ أنها بعيدة جداً عن واقع التطبيق.
لم يقف حزب البعث العربي الاشتراكي عند حدود النظرية بل وضع لتطبيقها آليات تتناسب مع واقع المشاكل التي تعاني منها، وأرفقها بتأسيس حزب منظَّم امتدت تفاصيله في حياة معظم أقطار الأمة العربية، ولعب دوراً كبيراً على صعيد التبشير القومي، كما على صعيد البناء النهضوي في مشاريع ملموسة الآفاق والأسس، ولهذا أصبحت تفاصيل الحياة النضالية البعثية تُراثاً زاخراً بالمعاني والأسس والدلالات، وكان أكثره وضوحاً وتأثيراً تلك التجربة الكفاحية في مواجهة الاستعمار والصهيونية، وهل هناك أكثر دلالة ووضوحاً من أسلوب الكفاح الشعبي المسلَّح؟
يكفينا فخراً، ويكفي القائد المؤسس تكريماً، أن نستعيد في ذكرى رحيله ما فعله الحزب الذي أسَّس على صعيد مواجهة الاستعمار والصهيونية، وأكثرها إنتاجاً وتأثيراً، المقاومة الوطنية العراقية، هذه المقاومة التي ستغير وجه التاريخ العالمي بعد أن أدمت وجوه طغاة الرأسمالية بالدماء، وقوَّضت أسس أهدافهم في لجم حركة التاريخ، وهم الذين غزوا العالم من بوابة العراق العربي ليعلنوا من على ترابه (نهاية التاريخ) الذي توهموا أنه سيقف راكعاً أمام ديكتاتورية اليمين الرأسمالي المتطرف.
أيها القائد المؤسس،
لقد أصبحت الأمة العربية، التي أحببتها من كل قلبك، طليعة من أهم طلائع الحركات العالمية، وهي تؤسس لعالم خالً من أطماع الاستعمار والصهيونية، وإن هما استمرا فسيكونان عاقلين في حساباتهما مكبوحي الجناح عاجزين عن الطيران على أجنحة الصواريخ عابرة القارات، وسيعرفان أن أية مغامرة عسكرية، أي استعباد الشعوب بالسوط والأغلال، ستتكلل بالفشل، ولن ينقذها إعلان نصر موهوم من على متن البوارج العسكرية.
في ذكرى رحيلك، وبعد أن نعى العالم الرأسمالي كل ما عداه، وفي المقدمة منه الاتحاد السوفياتي، وكأن عالماً جديداً، كما توهمت الصهيونية وصقور اليمين الرأسمالي المتطرف، قد وُلد من جديد، هذه هي روسيا قائدة الاتحاد سابقاً تشعر بمرارة الذل الذي يمارسه تحالف الصهيونية والاستعمار، فراحت تدافع عن كرامتها واستقلاليتها والعمل على استعادة حقها في أن تكون قطباً لا يقل شأناً عن أي قطب آخر.
في ذكرى رحيلك، أيها القائد المؤسس، توَّج حزبك، وحزبنا، مسيرة شهدائه بكوكبة من البعثيين في مقدمتهم صدام حسين، رفيق دربك الذي وصفته بأنه أعطية الحزب لأمته العربية، فكان الأعطية الأهم في مسيرة الحزب النضالية، وكان الأمثولة الأهم في البذل والنضال والعطاء. وكان القائد الأهم في ترجمة فكر الحزب إلى واقع عملي ملموس، يتمثل بما يلي:
-بناؤه الأنموذج النهضوي الكبير في العراق، بنية علمية متماسكة كانت تنقل الأمة من (فم يستهلك) إلى (يد تعمل)، فدبَّ الذعر في ركاب أصحاب المصانع والشركات الكبرى، وهو خط أحمر دون تجاوزه الموت.
-بناؤه الأنموذج العسكري، المستقل عن استجداء السلاح من هنا أو هناك. هذا الأنموذج الذي كان ترجمة أمينة لهدف استئصال (الغدة الصهيونية السرطانية) من الأرض العربية، وهو خط أحمر أمام الصهيونية.
-بناؤه المقاومة الشعبية قبل الاحتلال الأميركي، وقيادتها بعد الاحتلال، وهو الأنموذج الذي أعاد ثقة الأمة بنفسها، وكشف عن مقدرتها ومخزونات القوة فيها، وهو الذي أثبت فعاليته الذي تصف تأثيراته وتعلن نجاحه أصوات الأميركيين في الشارع والمؤسسات الأميركية.
أيها القائد المؤسس
وإن كانت الجماهير العربية قد التقطت ما فعله البعث، وراحت أوساط غير قليلة تعمل على التقاط صورته الحقيقية بعد أن منعها التضليل المتواصل من التقاطها في السابق. وهي تعيد، بعد تجربة مقاومة البعث في العراق، صياغة مواقفها من جديد. فإن خوف الأنظمة العربية المستسلمة لإرادة الاستعمار والصهيونية يزداد، ويتنامى، وتحسب ألف حساب وحساب لما ستؤول إليه حركة التحرر العربية من متغيرات ومن دوافع وحوافز في إعادة صياغة آليات جديدة للنضال، ومن أهمها الانتقال من مرحلة التنافس على قيادة تلك الحركة إلى مستوى التكامل والتنسيق والتسابق على تسجيل نقاط نضالية للفوز بموقع داخلها.
إن حزب البعث العربي الاشتراكي أيها القائد المؤسس، على المستوى القومي بشكل عام، والقطر العراقي بشكل خاص، يُعد العدة للانتقال إلى مرحلة التعددية والتنوع سواءٌ أكان على مستوى الجبهوية النضالية في كل مكان في الوطن العربي، أم كان على مستوى قيادة النظام السياسي الرسمي، أينما تسنى لحركة التحرر العربية الوصول إليه.
في ذكرى وفاتك
-نستودع الله كل شهداء البعث، وفي المقدمة منهم صدام حسين، وطه ياسين رمضان، وبرزان التكريتي، وعواد البندر.
-وكل من يعمل الديكتاتور الأميركي على اغتياله بعد إصدار أحكام اغتيال جديدة بحق كل من الأبطال: علي حسن المجيد، وسلطان هاشم أحمد، وحسين رشيد التكريتي.
-أو الذين حكم عليهم بالمؤبد كأمثال صابر الدوري وحسين فرحان.
-أو الذين لا يزالون ينتظرون مصيرهم بصبر وشجاعة في معتقلات الاحتلال، وفي المقدمة منهم طارق عزيز، وكل البعثيين والعراقيين الذين يتعرضون لأبشع أنواع التعذيب والإذلال.
نستودعك الله، مباركين للرفيق عزة الدوري انتخاب القيادة القومية له أميناً عاماً للحزب، وبه أصابت القيادة قراراً سليماً، أرادت به الاعراب عن تقديرها للموقع النضالي الكبير الذي يحتله البعثيون في العراق بقيادة أمين سر قيادتهم القطرية.
نستودعك الله، راجين أن تكون الذكرى القادمة مناسبة يحتفل بها العراقيون بالنصر، العراقيون الصابرون الصامدون المقاومون الذين يدفعون الثمن الباهظ من أرواحهم ودمائهم وأمنهم ولقمة عيشهم وراحتهم ما لم يدفعه شعب في التاريخ، اللهم باستثناء ما دفعوه في مراحل الغزو التتري، غزو جنكيزخان وهولاكو، منذ قرون مضت.


(24): مشهد العراقيين في الشتات
يا لعار الساكتين والمتواطئين لقد أكل الخوف ألسنتهم فصمتوا عن جريمة العصر
طليعة لبنان الواحد (حزيران 2007)
في كل مرة كنت أكتب فيها تحليلاً عن «المشهد العراقي في شهر» خاص بـ(طليعة لبنان الواحد)، كنت استعرض فيه صورة ما يجري في العراق وما حول العراق، من وقائع واحتمالات، إلاَّ أنني حينما كنت أحضِّر صورة عن شهر حزيران، صُفعت بشدة في صميم ضميري، وكأنَّ شيئاً لسعني في وجداني عندما شاهدت طفلة عراقية معاقة تستجدي والدتها العلاج على أبواب المهجر العربي، وعندما شاهدت ماجدة عراقية تركت بلدها من أجل أن تفتش عن حبة دواء في أزقة الأقطار العربية لابنتها، ورأيت ماجداً عراقياً ترك بلده إلى شوارع المجهول يحمل ثمانية أطفال على كتفيه وراح يسعى في بلاد العرب الواسعة عن لقمة يقتات بها أطفاله، بعد أن حرمته وقائع ما يجري في العراق من كل شيء حتى لقمة العيش لفلذات كبده.
في تلك الحالة كان لا بدَّ من أن أحطِّم قلمي، وحطَّمت فيها كل الرؤى السياسية، والتحليل السياسي، بوقائعه ومشارفته للمستقبل، أو هي قد انهارت كلها أمام مآسي أن يهيم العراقي على وجهه طالباً لفلذات كبده ما حرمته منها انتصارات جورج بوش، وديموقراطيته، وما حرمته منها عصابات اللصوص من العراقيين الذين يحكمون العراق المحتل. وما حرمهم منها طوني بلير الذي جاء بأمر من رئيسه بوش ليرأس الرباعية التي ستجد حلاً لقضية فلسطين. وهل جاء ليوزِّع الفلسطينيين في شتات آخر، بخاصة وأنه ابتكر مع رئيسه الأميركي شتاتاً للعراقيين الذين لم يعرفوا الشتات في كل ماضيهم؟
صورة العراق واضحة في واقعها البطولي والمأساوي معاً:
-المقاومة العراقية لا تزال في كل يوم تنتصر على الاحتلال، وتدميه وهي قد وضعته على أبواب الهزيمة.
-العراقيون يتعرضون كل يوم لشتى أنواع القهر والديكتاتورية والإجرام والقتل والتدمير والتجويع والتحقير والإذلال والتعذيب والاغتصاب، وقد تحولوا إلى مختبر للآلة العسكرية الأميركية التي أعطت قلبها لعصابة العدوان من الرأسماليين الأميركيين لتستخدم كل أنواع مسميات العمليات العسكرية الضخمة، ابتدأت بالعقارب والأفاعي، ولم تنته عند فرض النظام والقانون أو السهم الأصفر أو الأخضر. ابتدأت بأم قصر ومرت بالفلوجة، ووصلت إلى القائم وتل أعفر، وهي الآن تجدد نفسها في سامراء وديالى، وعين جورج ساهرة لا تغمض، فهو يريد أن ينقذ أنفه من لعنة التاريخ، أو قل يريد أن ينقذ براميل النفط التي تحترق وهو عاجز عن الغرف منها كيفما يشاء.
وصورة مستقبل الاحتلال في العراق أصبحت واضحة وضوح الشمس ولا تخضع للتخمين، فهو على درب الهزيمة يسير. فقد اقتنع البنتاجون ومجلس الشيوخ ومجلس النواب. وهي ليست بعيدة عن أنظار البيت الأبيض إلاَّ أنه يغطيها بالمكابرة والعنجهية والغرور. تلك الصفات هي من مميزات رئيس غرست فيه إيديولوجيا الرأسماليين، المحاطين بمجموعة من الغيبيين المنتظرين انتصار الخير على الشر. وعلى الأرجح أن تكون تلك المجموعة من صنع مفكري الآلة الرأسمالية، لكي تصب نتائج غيبيتها في مصلحة كل طامع بموقع سياسي، أو متدين غطى الظلام على تفكيره، أو اقتصادي يطمح لامتلاك ثروات العالم.
كل الصورة واضحة، بوقائعها ومستقبلها، وعلى المحلل أن يجتر نفسه في كل مرة، ولا يستطيع أن يخرج إلاَّ بعدة من النتائج التي أصبحت معروفة وواضحة؟
لملمت أقلامي وأوراقي، وألقيت بالتحليل في سلة العقل، وأجلت الخوض فيه، وشحذت صوتي للصراخ، ودفعت ضميري لكي يعطي صوتي شحنات أكثر، وقرَّرت أن أصرخ: يا عيب الشوم، ويا للعار، في وجه من ماتت ضمائرهم، وغارت أصواتهم، ووضعوا عصبة على أعينهم لكي لا يشاهدوا، وأصموا آذانهم لكي لا يسمعوا.
نقولها: برافو جورج بوش، وطوني بلير، وعصابات السرقة والنهب من الرأسماليين القذرين الذين يغمسون لقمتهم بدم الشعوب.
برافو للصهيونية التي تريد أن تحقق حلمها التلمودي على أرض العراق، وتريد أن تطمس حقائق التاريخ التي سرقتها من مسماريات الآثار العراقية، والنصوص الجلدية التي أرخت لسبي بابل، وتدمير كل المنصات التي انطلقت صواريخ صدام حسين من على متونها، وتقتل العلماء الذين أنتجوها، وتبتر اليد التي صنَّعتها.
لهما معاً، الرأسمالية الأميركية والصهيونية العالمية، مصلحة في كل ذلك، حتى ولو تطلَّب ضمان هذه المصلحة إراقة أنهار من دماء العراقيين وأرواحهم، نساء وأطفالاً ومسنين، أما الذين هم محسوبون على الجيرة والأخوة فهل نقول لهم: برافو؟ وأين مصلحتهم في كل ذلك؟
نقول لهؤلاء، لكل من تلوثَّت عقولهم وضمائرهم بجراثيم حب الدولار، وجراثيم الخوف من السيد، من مالئي كراسي الحكم، وورثتهم، والعاملين في ركابهم في الثقافة والإعلام، والداعمين لهم من أنتليجنسيا المال والاقتصاد الذين إذا أردت أن تجعلهم يصرخون فاضربهم على جيوبهم، وكل العبيد ممن يعملون في خدمتهم... خوفاً من ضياع لقمة مغمَّسة بماء العبودية...
نقول لهؤلاء جميعاً: يا للعار.
أين كانت مواقفكم عندما سكتم عن احتلال العراق؟
أين كانت أقلامكم وحناجركم عندما ظلَّلتكم جماعات المعارضة العراقية، وناشدتكم التأييد في سبيل استعادة «الحرية للعراق»؟
أين كنتم عندما استباح أجنبي أرض شقيق لكم ودمروها واستعبدوا شعوبها؟
لقد هلَّلتم لـ(سقوط الديكتاتورية)!!، ورفعتم أصوات الباطل والخذلان لتحتلوا موقعاً في نادي الأحرار الذي تموله إدارة الرأسماليين والصهاينة؟
وهلَّلتم لانتصار «الحرية للعراق» التي أعلنها جورج بوش، ليس من على منصة منظمات حقوق الإنسان، بل من على منصات الآلة الحربية الأميركية، منصات أسياد الشعوب ومروضيها.
سقطت «الديكتاتورية» في نيسان من العام 2003، وخلدتم إلى فراشكم ناعمي البال، وقريري العين، فأسماؤكم ستُعلَّق على تمثال الحرية في واشنطن!!!
حسناً فعلتم، فقد أعلنتم وقوفكم ضد ما زعمتم أنه ديكتاتورية، على الرغم من أن الذي ضلَّلكم أكاذيب وافتراءات، فنحن نعترف بحقكم الديموقراطي في أن تعتقدوا بما تشاؤون. ولكن بعد أن «ذاب ثلج الحرية للعراق»، و«بان مرج» أعتى ديكتاتوريات العالم التي يرأسها جورج بوش، أليس من حق الديموقراطية عليكم أن تشحذوا أقلامكم، وأصوات ضمائركم، لتقولوا لأكثر ديكتاتوريات الرأسمالية: «ما أقبح ما تفعلين»؟
في ظل «الديكتاتورية» التي زعمتم أنه لا ديكتاتورية غيرها في العالم، والتي زعمتم أن لا خلاص منها إلاَّ بحمل مشعل تمثال الحرية في واشنطن:
-لم يمت عراقي برصاص جيشها أو شرطتها، ولم تسمح لميليشيات منفلتة من عقالها أن تقول لعراقي «ما أحلى الكحل بعينك».
-لم يقل عراقي كلمة «آخ»، إلاَّ وكانت المستشفيات مفتوحة أمامه، ولا يخرج منها إلى بيته إلاَّ وهو سليم معافى، من دون أن يدفع فلساً واحداً.
-لم يتضور عراقي جوعاً، ولم يمد يده لأحد كي يطعمه، حتى في أكثر المراحل ضيقاً وهي أيام الحصار الجائر الذي فرضته مشاعل الحرية في واشنطن.
-لم يقف أب على أبواب أحد لكي يتسوَّل ثمن الكتب لأولاده، وإنما العكس كان السائد، إذ كانت «دولة الديكتاتورية» تلزم من لا يريد تعليم أولاده أن يقوم بذلك، لأنها لن تحمله أية أعباء.
-كانت كل الخدمات متوفرة للعراقي، من ماء مكرَّرة، وكهرباء لا تنقطع، ومحروقات شبه مجانية...
على الرغم من كل ذلك كانت وسائل «الديكتاتورية»!! متفشية في العراق، وتلك من أهم مظاهرها:
-كانت عين الدولة ساهرة على أمن المواطن الاجتماعي، تحكم على من يحاول العبث به بأقصى العقوبات وأشدها، وهذا ما جعل المجرمين من الذين كانوا يريدون العبث يتهمون الدولة بـ«الديكتاتورية».
-كان محكوماً بالإعدام كل من كان يعتبر أن «الخيانة الوطنية» حقاً من حقوقه الديموقراطية، أي كل من يعتبر أن له الحق في التآمر على وطنه، بالتعامل مع الأجنبي، سواءٌ أكان الأجنبي إيرانياً أم أميركياً أم صهيونياً، أم من هويات أخرى. وهؤلاء، بعد عودتهم على دبابات «الحرية للعراق»، يستبيحون اليوم كل القيم والأعراف والتقاليد والقوانين في عراق أسهموا باحتلاله، ليس لسبب إلاَّ لأن الاحتلال نصَّبهم في مواقع، ليس المسؤولية، بل في مواقع الإذعان والتنفيذ.
-كل من كانت لا تعجبه وظيفته، أو رتبته السياسية، يفر إلى الخارج ليحمل بطاقة «معارض عراقي». وبعد أن عاد الكثيرون منهم إلى العراق لم يجد من كانوا يطمعون بموقع أو منصب ما كانوا يحلمون به، لأن مواقع الخيانة وكراسيها ملأها من هم أكثر أهمية منهم. وإذا نسيتم فاسألوا الجلبي وعلاوي والجعفري...
كل ذلك كان محسوباً، ولكن ما لم نكن لنحسبه هو أن يتحول العراقيون إلى أرض الشتات بالملايين، أما السبب فلأنهم لم يستطيعوا أن يروا فلذات أكبادهم معروضين للموت في مدارسهم، هذا إن وجدوا لهم مكاناً فيها. أو للموت في الشارع وهم يفتشون عن لقمة من الخبز. أو للخطف مقابل فدية. أو للخطف والقتل للتجارة بأعضائهم. أو للتوظيف عند تجار المخدرات، وشركات استئجار الأطفال والنساء لاستخدامهم في مهنة التسول من المارة أو على الأبواب.
لقد رغب أكثر العراقيين بالنزوح والهجرة، بالإضافة إلى حماية حياة أطفالهم، وصيانة أعراض نسائهم، فلأنهم كانوا يحلمون بأن منظمات الإغاثة الإنسانية تنتظرهم عند الحدود الفاصلة بين العراق والدول التي يقصدونها. أو أن أنظمة الدول التي يلجأون إليها ستستقبلهم بأكثر مواد الإغاثة كرماً وأريحية. كما أن أقلام المثقفين، ومنظمات حقوق الإنسان، سيسهرون الليالي، ولن يغمض لهم جفن قبل أن تقوم قيامة العالم، ولن تسترخي، قبل أن يكون العراقي الهارب من جحيم بوش وجنوده وفرق الموت والميليشيات وتواطؤ السلطات العملية، بمأمن بحياته ولقمة عيشه وكرامته...
ماذا وجدوا؟ وما هو الذي سيجدونه؟
يا للعار
لم يجد العراقي في الشتات إلاَّ ذل الشتات، ولكنه سيفتقد حلم الدفن بكرامة على أرض وطنه.
فهو عندما غادر كان يحلم بكل شيء إلاَّ أن تُنتهك كرامته، ويُرمى على الرصيف كل من لا يملك فلساً ليستأجر سقفاً يأويه، ولا يجد صدراً يضمِّد أثلام معاناته الجسدية والنفسية.
يا للعار، لقد أكل الخوف، والغباء والتآمر، ألسنة هؤلاء الذين طبَّلوا وزمَّروا لانتصارات جورج بوش، إلاَّ أنهم تحولوا إلى صامتين مذعورين وخائفين ومذهولين أمام ما يرون، وما يشاهدون من جثث تُلقى كل يوم في شوارع العراق، جثث من دون رؤوس. وأمام ملايين العراقيين يجوبون أرجاء المعمورة تائهين ممزقين من الغضب، ولا أحد يرشقهم بحبة من الكلام الذي رشُّوه تأييداً على من كانوا يسمونه معارضة زعمت أنها هربت من ويلات الديكتاتورية.
فهل هناك أقذع وأكثر وحشية وأكثر ديكتاتورية من عدوان الذين ضللوا العالم بضرورة القيام بحملة «الحرية للعراق»، فجعلوه عراقاً من دون عراقيين؟؟!!

(25): لقد قصَّرت حركة التحرر العربية في دعم تجربة المقاومة الوطنية العراقية، فهل هي مستعدة لاستثمار النصر القادم؟
(طليعة لبنان الواحد: افتتاحية عدد تموز 2007)
بعد أن تأكدت نوايا العدوان الكبير على العراق، قال الرئيس صدام حسين لوفود عربية جاءت لتطمئن على استعداد العراق في مواجهة أكبر حشد عسكري يتم تجميعه لغزوه، فأجابهم قائلاً: إننا سنخوض معركة المواجهة، وعلى العرب أن يستفيدوا منها.
كانت التجربة ماثلة في فكر الرئيس، وكانت واضحة المعالم في وعيه وعقله الاستراتيجي، معبِّراً بتلك الرؤية الاستراتيجية عن خيار الحزب في مواجهة الاستعمار والصهيونية، وعن قرارات قيادتيْ الحزب والثورة. لقد كان هذا الخط الاستراتيجي، شبيهاً بأضغاث الأحلام عند من لم ينظروا إلى الأمور بالمنظار الاستراتيجي فلم يعدُّوا أنفسهم للاستفادة منه، أما بعد أن تأكَّدت صوابيته في العراق، فقد أصبح الجميع أمام استحقاق داهم يجب أن يدفع بهم للاستفادة من التجربة. أما الاستفادة فلها وجهان أساسيان:
-الأول أن يدعموا استراتيجية البعث في مواجهة العدوان، وفي منع الاحتلال من الاستقرار على أرض العراق.
-أما الثاني، فهو أن يستفيدوا من نتائج النصر الأكيد الذي ستحرزه استراتيجية الكفاح الشعبي المسلح في العراق، تلك الاستراتيجية التي لم تُخيّب أمل الشعوب التي سلكت طريقها.
لقد حصل العدوان، وتحرَّك الشارع العربي، وبشكل أكثر منه لفتاً للنظر الشارع العالمي المناهض للاستعمار بشكل عام، ولمشروع أمركة العالم بشكل خاص.
كان مشروع أمركة العالم من أكثر المخاطر التي جمَّعت من حولها القوى الدولية، أنظمة وشعوباً، ولم يكن من المستغرب أن تقف دول من منظومة الرأسمالية العالمية ضد مشروع الأمركة لأنه كان يمثِّل خطراً حتى على أطراف المذهب الرأسمالي الواحد.
لأن أهدافه كانت تتجاوز حدود العراق، وأطماعه تصل إلى حدود الهيمنة على حلفاء الجنس الرأسمالي، فقد جمع مشروع احتلال العراق، عداوات متعددة الجنسيات، من أنظمة وشعوب، ومن بينها أنظمة تنتسب إلى النادي الرأسمالي العالمي. وعلى الرغم من أن أصوات الدول الرأسمالية التي مانعت الحرب على العراق، قد خفتت لسبب أو لآخر، فإن أصوات شعوبها استمرت في التصاعد المستمر، وبشكل أخص أصوات الأكثرية لشعبيْ أميركا وبريطانيا. أما الحركات العالمية المناهضة للاستعمار فإنها ابتدأت من زخم ملحوظ، وهي لا تزال تتصاعد، مستفيدة من تصاعد تأثيرات المقاومة الوطنية العراقية.
أما الحركات العربية المناهضة للاستعمار، فقد ابتدأت بزخم ملحوظ كانت تفرضه عواطف الشعب العربي وتأثيراته، إلاَّ أنها بدلاً من أن تتصاعد فإنها أخذت تنحدر إلى مستويات من الضعف الملحوظ أيضاً.
لا شك بأن تلك المظاهر، مظاهر الاستفادة من لا شرعية العدوان، وبالتالي لا شرعية الاحتلال، في صعودها وهبوطها، تثير التساؤل وتستأهل التوقف عند أسبابها. وتقضي منا التساؤل الأهم:
في الوقت الذي أخذت مظاهر فشل الاحتلال تؤرق مضاجع الشعبين الأميركي والبريطاني، وبحيث ترتفع أصوات أكثرية الشعبين من أجل إرغام الإدارة السياسية في كل منهما على الانسحاب من العراق، وأقله إعلان جدولة زمنية لمثل ذلك الانسحاب، أي بمعنى أوضح: لما أخذت تباشير النصر ترتفع في أفق المستقبل المنظور، وإن المقاومة الوطنية العراقية بدأت تحرز النصر الفعلي، هل أخذ العرب، وبالأخص منهم الحركات والقوى الحزبية المناهضة للاستعمار، أو المؤسسات الأهلية غير المرتبطة بالأنظمة، هل أخذت تُعدُّ الخطط من أجل الاستفادة من تداعيات النصر القادم؟
استباقاً للمقدمات التي من خلالها سيمكننا أن نستخلص الأجوبة، نرى أنه من البديهي أن نتساءل: هل من الطبيعي أن يستفيد من نصر كل من تخلَّف أو تقاعس عن معركة صنعه؟
نحن لسنا من المتشائمين، بل نحن من الواقعيين، لذلك نستند إلى المقولة التي تنص على أنه على قدر أهل العزم تأتي العزائم، فهل من لم تبدر منه عزيمة في مواجهة الاستعمار يمكن لساحر ما أن يأتيهم بها؟
وهل من لم تبدر منه عزيمة لمقاومة الاحتلال في العراق، سيستلهمها بقدرة ذلك الساحر ليستفيد من وهج النصر وتداعياته؟
وهل من كان عاجزاً عن تحريك الشارع العربي في أحرج الأوقات وأصعبها يمكنه أن يمتلك مخططاً لتحريكه في أسهل الأوقات؟
تلك مسألة تطرح الإشكالية الكبرى التي تواجه أحزاب حركة التحرر العربي وقواه وشخصياته.
قد يبرر البعض تخلف الحركات والأحزاب العربية عن الوصول إلى نسبة الحد الأدنى من قامة المقاومة العربية، ويعيدها إلى قلة إمكانياتها وضعفها. ونحن لا نستطيع إلاَّ أن نعترف بأهمية الإمكانيات إذا ما قمنا بموازنتها مع الإمكانيات الهائلة التي توفِّرها مصانع القوى المعادية ومطابعها وعدد كتابها وكثرة وسائلها المقروءة والمسموعة والمرئية، بالإضافة إلى ترسانتها العسكرية الكبرى. ولكن هذا الجانب ليس الوحيد الذي تشكو حركة التحرر العربي من غيابه. أي أن حركة التحرر العربي ليست سليمة معافاة، بهياكلها التنظيمية، ومواقفها الفكرية والسياسية، ولا تنقصها الإمكانيات المادية فقط. فالأسباب هي أعمق من ذلك بكثير، إنها أزمة تلك الأحزاب التي تشكو من غياب تلك العوامل مجتمعة. أي أن سبل المعالجة لا يمكن أن تكون إلاَّ عبر سلة واحدة تستعيد فيها تلك الأحزاب حيوية نقد تجاربها الفكرية والسياسية، التي لولا العور الذي يعتريها لكانت الحاجة إلى الإمكانيات المادية سبباً كافياً ومقنعاً.
إن ما نراه مُلِحاً في القادم من الأيام، القادم من النصر الذي سيُحدِث تأثيرات ملحوظة في النظام الدولي، ولن يستثني النظام العربي، ونرى أنه على أحزاب حركة التحرر العربي أن تلتقط الفرصة المؤاتية لتفتخر بأنها أسهمت في تحرير قطر عربي من الاستعمار والصهيونية، ومن مشاريع التفتيت والتجزئة الطائفية التي يعمل النظام الإيراني على تطبيقه مستعيناً بوحدة الأهداف التي تجمعه مع الاستعمار والصهيونية.
على تلك الأحزاب أن تلتقط هذه الفرصة لتدخل إلى بوابة حركة التحرر العالمي، خاصة وأنها أصبحت صاحبة الحق في أن تقود موجة التغيير في مستقبل حركة التحرر تلك، بل أصبح من حقها أن تكون من رواد قيادتها في العصر الذي حققت فيه المقاومة الوطنية العراقية نصراً عالمياً، لا يقل شأناً عن نصر فييتنام إذا لم يفقه درجات بحسابات ظروف الزمان والمكان.
من أهم عناوين التغيير المطلوب، هو كبح جماح العصبيات الأممية، خاصة تلك التي لا تزال تعشش فيها أفكار الشيوعية التقليدية التي هزمتها عاديات المتغيرات في العالم عامة، والمتغيرات التي عصفت بالأمة العربية على الأخص. تلك المتغيرات لامست استراتيجية بعض أطراف حركة التحرر العالمية، ومنها بعض الحركات الشيوعية العالمية، إلاَّ أنها لم تلامس مُسلَّمات الحركة الشيوعية العربية وكأن لا متغيرات حصلت ولا من يحزنون.. وتأتي حركة الأممية الدينية السياسية داخل دائرة المتغيرات المطلوب أن تحصل لتستقبل متغيرات النصر الذي تصنعه حركة قومية يسير في طليعتها حزب البث العربي الاشتراكي.
إننا بدعوتنا هذه، نؤكد للحركة الأممية بشقيها الشيوعي والديني، أنه لا خوف من انتصار حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق أو في غيره، لأنه يستأنف اليوم مشروع التغيير في النظر إلى إشكالية التعددية في العمل النضالي وإدارة النظام السياسي، ذلك المشروع الذي كانت قد بدأت مناقشته في أوائل العام 1992.
كما لن تفوتنا دعوة الأحزاب والحركات القومية، وفي المقدمة منها فصائل الحركة الناصرية، من أجل التحضير، وفي أقرب وقت ممكن إلى عقد طاولات من الحوار لتخرج بقرارات جبهوية تسبق نقطة البداية في احتفالات النصر القادم. ومن تلك القرارات الانخراط في ورشة جبهوية مع منظمات حزب البعث العربي الاشتراكي، تكون مقدمة لنواة يلتف حولها وبها كل أحزاب حركة التحرر العربي.
أما كل الأخوة من العراقيين، من فصائل مقاتلة، أو تنظيمات مساندة، في الداخل والخارج، أن لا يولوا مسألة تشكيل السلطة الوطنية التي ستدير العراق بعد الانسحاب الأميركي والبريطاني من العراق، أكثر مما تستحق، وعليهم الخروج من متاهات الخلاف حول السلطة قبل الاطمئنان تماماً من أن خروج الاحتلال أصبح مؤكداً، لأنه من غير الجائز على الإطلاق أن نفسح أملاً للاحتلال يتسلل منه من زاوية استثنائية يمكن تأجيلها الى وقتها المناسب.


(26): جورج بوش والقشة التي ستنقذه من الغرق
7/ 8/ 2007 حسن خليل غريب
قيل من قبل، للإنسان اليائس، الذي لا أمل له بالنجاة من محنة يمر بها، (إنه كالغريق الذي يفتش عن قشة تنقذه من الغرق المحتوم).
يُرمَز بـ(القشة) لأخف الأشياء ثقلاً، والحال كذلك، هل يمكن لأخف الأشياء وزناً أن ينقذ أكثرها وزناً؟
الجواب غني عن الإيضاح، لأن من يراهن على تلك المعادلة هو يائس، أي أنها مستحيلة الحصول.
وحال جورج بوش ينطبق على تلك المعادلة، ولأنه (راكب رأسه) فهو يتابع المقامرة بمصير شعب العراق، كما يتابع المغامرة بمصير جنود الولايات المتحدة الأميركية، كما أنه يقامر على طاولة خاسرة بأموال الشعب الأميركي، ودم أبنائه.
ولأن الحال على هذا المنوال، نعتبر أن المراهنة على تلك القشة ليست جديدة، بل هي قديمة جديدة، ابتدأت منذ أن ثبَّتت المقاومة الوطنية العراقية أقدامها، وأثبتت جدارتها، أي بعد أشهر قليلة من انطلاقتها في العاشر من نيسان/ أبريل، من العام 2003، بعد انتهاء صفحة المواجهة العسكرية النظامية.
والقشة، هي مجموعة من القشيشات، التي كانت بدورها تراهن على أن جورج بوش يشكل لها، ليست قشة النجاة فحسب، بل يشكل لها جسر العبور المستعصي على تهديم النظام العربي الوحيد الذي استمر في مقارعة الصهيونية والأمبريالية، كاشفاً عوراتها وتخاذلها. وهي كانت تنظر إليه من منظار الضعف والتخاذل والتآمر، كأكبر قوة لا يمكن أن تُقهَر، فإذا بالمقاومة الوطنية العراقية تقلب المعادلة، فيتغيَّر المشهد، فإذا بالجسر يغرق في العراق، ويصرخ قادة اليمين الأميركي المتطرف طالبين النجاة، ويستنجدون بـ«قشيشات» لا تحسن الدفاع عن نفسها، فكيف بها إذا طُلب منها أن تحمل جسراً من الحديد لتمنع عنه الغرق؟
وحزمة القشيشات، كانت تستند بشكل أساسي على ثلاثة وثلاثين دولة، اشتركت بنسبة أو أخرى في تجميل وجه الاحتلال، ووضعها ديكورات يخدع بها الرأي العام ليوحي إليه بأن هناك شبه إجماع عالمي على اقتلاع ما زعمه إرهاباً كان يمثله النظام الوطني في العراق، بقيادة الرئيس صدام حسين.
ومن جانب آخر، شكَّلت (القشيشات) من عدد من أنظمة الاستسلام العربي، الوجه العربي لكي يوحي بأن ما فعله الاحتلال الأميركي في العراق مرضيٌّ عنه عربياً. هذا من دون أن ننسى التسهيلات اللوجستية التي قدمتها تلك الأنظمة، ولا تزال تقدمها، للعدوان والاحتلال.
ومن أجل أن يُجمَّل وجه الاحتلال بمساحيق إسلامية، كان النظام الإيراني مسحوقاً مناسباً، فتآمر وتواطأ، وأسهم في تمهيد الطريق أمام الاحتلال، وواكبه في تمزيق العراق واحتلاله خطوة خطوة.
لقد شكَّل الاحتلال الأميركي قوة قاهرة في الأشهر الأولى للعدوان، مدعوماً بثقل بريطاني، سياسياً وعسكرياً، وبثقل رمزي من دول ارتضت لنفسها أن تلعب دور المأمور، فكانت تقديماتها رمزية لا تغني الاحتلال ولا تسمنه بحماية لجنوده، ولا ترفد تكاليف الحرب الهائلة بـ(سنت واحد)، هذا إذا لم تكن خدماتها مدفوعة الثمن. وكم يصبح حجم المساعدة كبيراً إذا أضفنا إليها المساهمات الجدية التي قدَّمتها أنظمة الاستسلام العربي ونظام إيران الطامع بموقع قوي في أمتنا العربية.
في أكثر محطاته قوة، وفي ذروة المساعدات التي قُدِّمت له من مجموعة التحالف المذكور أعلاه، راح الاحتلال الأميركي يغرق. وراحت أوراقه تغرق معه. وعلى الرغم من كل هذا، أثبتت السنوات الأربع الماضية أنه لا أمل في نجاته. فتحوَّل الرهان منذ تلك اللحظة على أن تلعب (القشيشات) دور المنقذ.
وإليكم تتمة الحكاية:
منذ القرار الرقم 1483، الصادر عن مجلس الأمن الدولي، في حزيران/ يونيو من العام 2004، كانت قوات الاحتلال الأميركي قد بدأت تشعر بالإنهاك، فكان صدور هذا القرار بمثابة الصرخة الأولى في طلب النجدة لإنقاذ إدارة جورج بوش من مأزقها.
لقد مضى على القرار المذكور أكثر من ثلاث سنوات، والمأزق يتحول من سيء إلى أسوأ، فلم تستطع أن تشكل الهيئة الأممية، الممسوكة أميركياً، أن تمد حبل إنقاذ إلاَّ وانقطع.
مثَّلت إدارة جورج بوش مسرحية للانتخابات، زعمت أنها أنموذج للديموقراطية، و(فبركت) سلطة سياسية بوجه عراقي، فلم تستطع تلك السلطة أن تمد حبل إنقاذ لنفسها إلاَّ وانقطع. والسلطة التي لا تستطيع إنقاذ نفسها، فهي لن تستطيع إنقاذ غيرها.
ولما جاء دور لجنة (بيكر – هاملتون) التي تمَّ تشكيلها كتسوية بين ضغط الديموقراطيين وحاجة الجمهوريين لحبل إنقاذ، أو قل (قشة إنقاذ)، وعلى الرغم من نتائجها الهزيلة، وبعض نتائجها الخبيثة، وبعضها الآخر الساذج الذي لم يستوعب أخطاء إدارة جورج بوش، ولم يتَّعظ من دروس المقاومة الوطنية العراقية ورسائل الموت التي تبعثها يومياً إلى أميركا، فتبخَّرت تلك النتائج تحت عناد إدارة جورج بوش.
إن بوش، الذي بدلاً من أن يأخذ من التوصية الداعية إلى أن العملية العسكرية من دون عمل سياسي لن تجدي نفعاً، صدَّر خطة راح يطبقها باستقدام عشرات ألوف الجنود إلى العراق. ففي بغداد راح، منذ أوائل العام 2007، يطبق خطة (فرض النظام)، وراح يستكملها في الأنبار، بينما كل منهما تتعثر حتى هذا التاريخ.
وإن توصية اللجنة المتعلقة بالشق السياسي، لوَّحت إلى أهمية إشراك كل من إيران وسورية فيها، لعلهما تساعدان على إعادة الأمن المفقود، وقد تناست لجنة بيكر، أن النظام الإيراني قد وضع كل قوته وإمكانياته من أجل هذا الغرض قبل أن تطلب إدارة بوش منه ذلك، ولكنه كان عاجزاً، فهل يمكن لهذا النظام أن ينجح في ظل كراهية الوطنيين العراقيين له ما عجز عنه في مرحلة توهَّمت فيه بعض الأوساط العراقية أن يشكل الوجود الإيراني خشبة خلاص لها ووصول؟
أما سورية، وإن كانت تمتلك بعض الأوراق، فهي لن تقدمها مجاناً، وإن قدَّمتها فهي قد تعيق بعض تفصيلات المقاومة، لكنها لن تستطيع إضعافها.
لقد بدأت إدارة بوش، طلباً للمساعدة والإنقاذ، سلسلة من التحركات المكوكية، قامت بها كوندوليزا رايس، منذ بداية العام 2007، من أجل توفير المناخات السياسية في دول الجوار الجغرافي للعراق، عرباً وغير عرب، لتقديم المساعدة في مروحة من الإجراءات، وماذا حصل؟

أولاً: انعقاد اجتماعات ومؤتمرات/ مؤامرات، تحت زعم القيام بمصالحة وطنية، انطلاقاً من القاهرة، مروراً بمكة، ولكن كانت الحصيلة فأراً ولَّده جبل، أما السبب؟
-فهو إشكالية: من يتصالح من العراقيين مع من؟
-أيتصالح العميل مع العميل؟
أما العراقيون، الذين يقفون في الوسط، فكانوا في مواجهة مع حل واحد، هو أن يدخلوا بازار المشاركة فيما تُسمَّى العملية السياسية، وهم يعرفون أنهم سيحترقون ويحترق معهم موقفهم المحايد. فهم سيحترقون ولكنهم لن ينقذوا العراق، بل يعملون على إنقاذ إدارة بوش، أو ما يُشبَّه بأنه إنقاذاً.

ثانياً: القيام بعملية شق مشبوهة بين فصائل المقاومة العراقية، رعتها السعودية:
ولكن تلك المحاولات باءت بالفشل، لأنها كانت قائمة على قاعدة إحداث توازن ميليشاوي أو سياسي، بين أنظمة الخليج العربي وإيران، على قاعدة طائفية ومذهبية، وهذا يحتاج ممن يقاومون إلى من تنطلي عليه اللعبة، بينما الذين انخرطوا في مقاومة الاحتلال، كانوا من الرافضين لتطييف المقاومة، بل كانوا مثالاً للوعي الوطني، وهذا ما نصَّ عليه المنهج السياسي الاستراتيجي الذي أعلن في التاسع من أيلول/ سبتمبر من العام 2003، وتمَّ التأكيد عليه في كل البيانات السياسية لقيادة المقاومة ومقابلات قادتها الصحفية أو تصريحاتهم. ولهذا السبب راحت قيادات التطييف تُغرِّد خارج سرب المقاومة الوطنية العراقية، وظلت من دون قواعد، بحيث تعرَّت القيادات المشبوهة من ثيابها وانكشفت ألعابها.

ثالثاً: الالتفاف على أي محاولة لتوسيع الإطار الجبهوي لفصائل المقاومة:
على أبواب استقبال مرحلة جديدة بعد أن أكَّدت الوقائع أن الاحتلال سيُرغَم على إعلان هزيمته، وتنفيذ مخطط الخروج من العراق بما يحفظ ماء وجه إدارة جورج بوش، كانت من أهم حاجات المقاومة الوطنية العراقية حشد أوسع التفاف من الفصائل العراقية المقاتلة، ومن القوى العراقية الداعمة سياسياً. وبذلت قيادة البعث في المقاومة كل الجهود من أجل إتمام هذا الغرض، لكن المحاولات تواجهت بعدد من العراقيل. فقد أغرقت قوى المخابرات المتعددة الجنسيات المدعوين إلى المؤتمر بالمئات ممن هم من الملوَّثين بمواقفهم الوطنية، أو من الطامعين بالوصول إلى السلطة بعد التحرير.
لم تكن أهداف تلك المحاولات بعيدة عن أنظار قيادة المقاومة والتحرير، ولا عن مراقبتها وتقييمها، فهي بالإضافة إلى الدور الإيراني الذي تدخل من أجل منع انعقاد مؤتمر في سورية من أجل إعلان إطار جبهوي لكل الفصائل العسكرية والسياسية، فقد كشفت أن المؤتمر ما كان له أن يستمر ويعطي نتائجه المرجوة منه في حالة إغراق ذلك المؤتمر بمثل أولئك المشبوهين أو المتسلقين على أكتاف شهداء المقاومة الوطنية العراقية ومناضليها.
ومما يتأكَّد يوماً بعد يوم، هو أن قيادة المقاومة والتحرير ستبقى مصرَّة على متابعة جهودها على هذا الطريق، وتحقيق ذلك الهدف، لأنها تعلم علم اليقين أن كل من بذل نقطة من الدم، أو قطرة من عرق جبينه، أو نقطة حبر من قلمه، أو رفع صوتاً يستنكر فيه الاحتلال، هو جدير بأن يسهم في بناء العراق المحرر من كل رجس أجنبي.

رابعاً: انعقاد سلسلة من المؤتمرات/ المؤامرات المشبوهة، تحت زعم مشاركة (القشيشات) في إنقاذ الاحتلال وحكومته العميلة:
وكان آخرها مؤتمر شرم الشيخ، الذي انتهت مفاعيله منذ أن اختتمت جلساته. فهذا المؤتمر جاء لكي يركِّب أرجلاً لمن بدأت أرجله تهتز من الخوف، خاصة بعد أن تيقَّنوا من فشل الاحتلال الأميركي، وإنما جاروا إدارة بوش بلعبتها المغامرة خوفاً من غضب الوالي الأكبر في العالم، وهم يعرفون، إذا تخلفوا عن تنفيذ الأوامر والإملاءات، بأن من يحميهم سيرفع الحماية عنهم ويأتي بأفضل منهم بالاستجابة إلى أوامره. فلبوا النداء وهم غير مقتنعين بما يفعلون، وراحوا يطلبون الخلاص، ربما على وقع مطالبات الحزب الديموقراطي الذي يضغط على إدارة جورج بوش بالانسحاب من العراق. وربما يكون مؤتمر شرم الشيخ قد مهَّد لمتابعة التنسيق بين الأميركيين والإيرانيين من أجل استئناف التآمر بينهما على ذبح العراق. واستئناف التنسيق بينهما، لأنه إذا نجحت قراراته وهي لن تنجح، ستصب في مصلحتيهما معاً. فكل منهما يستقوي بوجود الآخر، لأنهما إما أن يربحا معاً، أو يخسرا معاً.
وبالفعل استأنف الحليفان حوارهما، خلال شهر تموز الفائت، وتوصلا إلى تشكيل لجنة ثلاثية، قواعدها الاحتلال الأميركي، والمتسلل الإيراني، والحكومة العميلة لهما معاً. أما مهمة هذه اللجنة، فلا أحد يصعب عليه أن يتكهن بتفاصيلها، لأنها لن تخرج عن تفاصيل ما ابتدآ به قبل الاحتلال، وفي مراحله الأولى.
يعوِّل الحليفان الأميركي والإيراني، على أن تقوم، حكومة المالكي أو من سيخلفها، عميلهما المشترك، بما عجز عنه الثلاثة مجتمعين، أو منفردين. أما أن تنجح ميليشياتٌ، سواءٌ أكانت فيما يسمونه الجيش العراقي أو الشرطة العراقية، أم كانت من الميليشيات الطائفية التابعة لهما، فهو أمر أكثر من مضحك، وأكثر من استهتار بعقول العاقلين. أما السبب فهو التالي:
لقد حصل الاتفاق في أسوأ ظروف حكومة المالكي العميلة، وهل أسوأ من أن تصبح مهددة بقرارات مجموعة مقتدى الصدر العشوائية، وغير المسئولة وطنياً؟
وهل أسوأ من انسحاب عمالة الحزب الإسلامي العراقي، جبهة التوافق، من حكومة مهتزَّة أيضاً؟
وهل أسوأ من تهديد بالانسحاب من الحكومة، يعلنه أياد علاوي، الطامع برئاسة حكومة جديدة؟
وهل جبال الضعف التي تعاني منها تلك الحكومة ستولد إلاَّ فأراً هزيلاً؟ وهل هذا الفأر سيعيد الأمن إلى عراق، عجزت عن إعادته نمور جورج بوش وأحمدي نجاد؟
يكفي المتحالفين، المتحاورين، أن القيادة العسكرية الأميركية في العراق مُلزمة أن تقدِّم تقريرها إلى الكونغرس الأميركي من أجل تقييم الحالة العسكرية والسياسية للاحتلال، بعد شهر ونيف من الآن.
يكفيهم مأزقاً أن حكومتهم العميلة لا أرجل لها تقف عليها، وإلى أن يتفقوا على حكومة بديلة، توحي بإعطاء إدارة جورج بوش مصداقية لوعده بأن تلك الحكومة ستكون مؤهلة لفرض الأمن في العراق، مما يتيح للجنود الأميركيين فرصة النجاة من الموت، يكون الكونجرس قد فقد الأمل من سراب أوهام ما تختلقه إدارة بوش من مزاعم وأحلام، وتكون الوعود بالنصر قد تبخرت، بحيث تصبح تلك الأحلام مكشوفة عارية من أية مصداقية.
لطالما أن النظام الإيراني نائم على حرير إمساكه بورقة قوة في العراق، يتوهَّم فيها أنه اقتطع لنفسه الحصة التي يزعم أنها لن تفلت من يده، لكنه لا يريد للاحتلال الأميركي أن يخرج من العراق على أمل أن أفضل شريك يهمه أن يبقى العراق منقسماً هو الاحتلال الأميركي، والنظام الإيراني لن يضمن بقاء حصته إلاَّ في ظل وجود من يحمي التقسيم، وهل هناك شريك أفضل من الاحتلال؟
خامساً: في النتيجة العامة لن تحصل إدارة بوش على أي عون سوى أنها تحاول أن تكذب مرة أخرى على المكلَّف الأميركي:
على الرغم من كل ذلك، فإن طائرة كوندوليزا رايس، ستبقى محلقة في أجواء المنطقة، متنقلة من فضاء دولة إلى فضاء دولة أخرى، لتشد من عزائم الذين اعتراهم الخوف الشديد من ثقل التداعيات التي ستشهدها المنطقة والعالم بعد هزيمة إدارتها التي أصبحت محققة وواضحة المعالم. ويحق لنا أن نصف حركة مبعوثة البيت الأبيض بأنها حركة من دون بركة، لأن التاريخ الماضي والحاضر، لم يعرف، ولن يعرف في المستقبل أن قشة في الدنيا تستطيع أن تنقذ غريقاً من الغرق.
غداً، في أيلول/ سبتمبر، وغداً لناظره قريب، سوف يطل يوم الحساب الأول، وعلى جورج بوش أن يبرهن على أن خطته التي عاكس بابتكارها، حتى أعضاء في الحزب الجمهوري، ناجحة ويطلب في موجة تضليل وكذب جديدة من الشعب الأميركي أن يعطيه فرصة جديدة بمنحه المزيد من الصبر.
فهل لمن يدفع يومياً من دماء أبنائه وأرواحهم، ومما يدفعه من ضرائب تعد بالمليارات التي تطحنها آلة الحرب، هل بقي لمثل هذا الشعب قدرة على الصبر، أو هل بقي عنده حفنة من الصبر يهديها عبثياً لمن يقامر بأرواح أبنائهم وثرواته التي يبددها من دون أدنى مسؤولية أو شعور بالذنب؟
غداً، في أيلول/ سبتمبر القادم، وسبتمبر على مرمى أقل من حجر، سيتقدم جورج بوش بالتماس أخير للشعب الأمريكي، وهذا الالتماس لن يجديه نفعاً.
وهل يمكن لاتفاقه مع إيران أن يحصل على نتائج تنقذه؟
وهل يمكن أن يحصل على نتائج من تصريحات المالكي بأن العراق يحتاج إلى بقاء قوات الاحتلال الأميركي في العراق لخمس سنوات قادمة؟
وهل ستنقذه قرارات توسيع صلاحيات الأمم المتحدة ومهماتها؟
وهل سينقذه عودة أياد علاوي إلى رئاسة الحكومة، أو ابراهيم الجعفري، أو أي عميل آخر؟
لن يجدوه نفعاً لأنهم ساعدوا الاحتلال أصلاً لكي يسمح لهم بأن يكونوا سماسرة لسرقة العراق ونهبه تحت حماية قواته ومرتزقته؟ هم مؤهلون لكل شيء إلاَّ أن يحموا أنفسهم.
وكيف ستحميه قوات أجنبية من الثلاثة والثلاثين دولة جاءوا إلى العراق ليلعبوا دور مساحيق تجميله وتبييض أمواله التي سيسرقها من العراق؟ خاصة وأن تلك القوات، وأكثرها قوة وفاعلية هي القوات البريطانية، التي وضعت نفسها على طريق الهزيمة والانسحاب لتوفر على نفسها خسارة عشرات أخرى من جنودها.
وهل ستحميه قوات جون هوارد أستراليا، وهي بضع مئات لا حول ولا طول لها. بل يعلن هوارد وينادي بالويل والثبور إذا تركت قوات الاحتلال الأميركي العراق قبل إكمال مهمتها كما يزعم؟
بل هل سيستطيع النظام السعودي أن يعدِّل كفة الموازين بعد أن يفتح سفارة له في بغداد؟
عبثاً يتوهم جورج بوش، وعبثاً يتوهم كل مشاركيه وعملاؤه، أنهم سيحصلون على نتيجة تنقذه وتنقذهم من مآزقهم، ومن مشاكلهم. لقد أصبح ثوبهم مهلهلاً، ومهترئاً، فمن العبث أن يرتقوه، فكلما رتقوه في مكان سينفتق في أكثر من مكان.
بوركت المقاومة الوطنية العراقية، على أنها تقترب من موعد النصر كل يوم أكثر من اليوم الذي سبقه. وهي كما اجتازت بحر الاحتلال الهائج، فلن تعيقها السواقي من الاستمرار. ولكن ما نريد أن نختتم به مقالنا هو أن ندعو لها أن تنجح في تجاوز حرتقات من يدَّعون محبتها وتأييدها، استناداً إلى الصلاة المشهورة: (ربي نجني من أصدقائي، أما أعدائي فأنا كفيل بهم).

(27): بين مطرقة الاستعمار وسندان القوى الإقليمية
قضايا الأمة في العراق وفلسطين ولبنان سلعة للمساومة
افتتاحية طليعة لبنان الواحد/ عدد شهر آب 2007
من العراق، مربط خيل الأطماع الأميركية الرئيسة في هذه المرحلة،
إلى فلسطين، قضية العرب المركزية، مربط خيل تحالف أنظمة الرأسمالية العالمية،
إلى لبنان، قضية العرب المرتهنة للمساومات والضغوط،
لا تزال أنظمة الدول الرأسمالية تطرق الحديد فيها وهو حامٍ، بينما النظام الإيراني يحتل موقع السندان من أجل ابتزاز تلك الأنظمة لتعترف له بموقع قوة بطريقة غير مشروعة، ضاربة عرض الحائط مصالح العرب وسيادتهم على أراضيهم.
وعلى الرغم من أن ما يُقال بأنه (لا يلام الذئب في عدوانه إن يك الراعي عدو الغنم) إلاَّ أن ذلك لا يسبغ مشروعية على عدوان الذئب على الغنم.
لقد صدر تقرير بيكر – هاملتون في الربع الأخير من العام الماضي، ومن أجل نصح إدارة جورج بوش بسلوك طرق سياسية تساعده على إنقاذ أميركا من المأزق العراقي، فقد أوصى بمرونة الحوار مع إيران وسورية في قضايا الأمة الساخنة، وهو تكتيك مرن يُراد منه كسر حدة التعقيد الذي ميَّز استراتيجية المحافظين الأميركيين الجديد، أولئك الذين ركبهم الغرور والوهم في بناء إمبراطورية أميركية تمتد حدودها من المحيط إلى المحيط. ومشروع المحافظين قائم على أساس الوهم بانتصار ديموقراطية الأمركة التي من أهم أهدافها أن تسطر نهاية التاريخ في الفكر والاقتصاد والاجتماع من أجل أن تسود العالم وتسوسه. وكان تصرفهم ذاك قد جاء على جثة صهوة الجواد السوفياتي الذي كبا، وبها سُجِّلت نهاية مرحلة ثنائية حكم العالم برأسين. وابتدأت مرحلة حكمه برأس واحد.
كان الغرور الأميركي المتطرف، في ذروة وهمه بالنصر في العراق، قد أهمل عوامل عديدة لها تأثير في تيسير نجاح مشروعه، ومنها العامل الإيراني، الذي برز أكثر حدة بعد أن كبا الجواد الأميركي في العراق تحت ضربات المقاومة الوطنية العراقية. وبفعل التداعيات التي أفرزتها المقاومة راح أكثر من سبب مستور في التحالف الأميركي – الإيراني، يطفو على السطح، وتبيَّن بوضوح أن التحالف على احتلال العراق كان تكتيكاً يضمر كلٌّ من الطرفين الشر لصاحبه، بينما كان يجمعهما هدف واحد وأساسي هو إسقاط تجربة النظام الوطني في العراق لحزب البعث العربي الاشتراكي، والقضاء نهائياً على أية أهداف وحدوية قومية عربية.
كان من أهم مخاطر النظام الوطني على طرفيْ التحالف هو أنه كان يعمل من أجل نظام وحدوي عربي يشكل سداً منيعاً في وجه كل الطامعين بالأمة، والعاملين على تمزيقها، وقد أثبتت كل الوقائع الاستراتيجية صحة اتفاق الطرفين على الوصول إلى هذا الهدف المركزي. ولما بلغا الغاية المنشودة، ابتدأ الخلاف بينهما يظهر على توزيع الحصص.
بإسقاط النظام الوطني في العراق فقدت الأمة مناعتها، بحيث أُسقِط السد الذي كان يمثِّل آخر حصونها، ومن بعده أصبح ميسوراً أمر انقسام الأمة وتقسيمها، فامتدَّت ساعتذاك الأيادي من العراق إلى لبنان وفلسطين. وتلك هي الصورة التي رست عليها مشاهد الوقت الراهن.
ولأن أمراض الهوان في الأمة أصبحت أكثر استعصاءً بعد إسقاط النظام الوطني في العراق،
ولما حالت المقاومة الوطنية في العراق دون استفراد الاحتلال الأميركي فيه، وحوَّلته من قاهر إلى مقهور، نبتت للآخرين، وبالأخص منهم النظام الإيراني، أرجلاً بعد أن كانوا عجزة ومقعدين أمام الجبروت الأميركي، وتكاثرت مساوماتهم ومراهناتهم، وتحوَّل الكثيرون منهم إلى ضفة عقد الصفقات لتبادل المصالح، على حساب مصالح الأمة العربية، وكأن زوال الحاجز العراقي، وإصابة الاحتلال الأميركي بالوهن، قد أغريا كل من ليس لديه خصيتان بادِّعاء الرجولة.
وبالضعف والوهن الأميركي، وبحاجته إلى كل ما يسعفه ويضمِّد جراحه، أُرغِم على إطلاق صفارات النجدة في كل اتِّجاه، فتكاثر المبتزون بعد أن استقووا، وراحوا يعرضون خدماتهم لقاء مصالح محددة.
وأخيراً، تجرَّع اليمين الأميركي السم، وأقدم على الحوار مع النظام الإيراني، بعد أكثر من مؤتمر تمهيدي، كان أولها في آذار الماضي، وتمَّ تتويجها في مؤتمرين عقدتهما قيادتا الحليفين اللدودين في شهريْ تموز وآب.
وعلى أثرهما شكَّلا لجاناً أمنية ليست أهدافها بأي حال من الأحوال أقل من اجتثاث المقاومة وتكريس التقسيم الفعلي للعراق. وقد وضعا ثقلهما إلى جانب دعم كل حكومة عميلة، سواءٌ أكانت حكومة المالكي أم غيرها، كواجهة ينفِّذان من خلالها خططهما.
نتيجة لكل ذلك، ستشهد الشهور القادمة، خاصة منها المرحلة التي ستسبق التقرير الذي ستعدِّه المؤسسات العسكرية والسياسية التابعة لإدارة جورج بوش، المزيد من أعمال الوحشية والإجرام، إذ سيضع النظام الإيراني كل ثقله إلى جانب الاحتلال الأميركي وحكومة المالكي العميلة، وقد تستمر إلى ما قبل الانتخابات التمهيدية للرئاسة الأميركية في تشرين الثاني القادم. أما أكثر الأعمال إجرامية فستكون من نصيب البعثيين بشكل خاص لأنهم يشكلون بما لا يدع مجالاً للشك قاعدة المقاومة الصلبة وعمودها الفقري. أما الواجهة الإعلامية التي سيرفعها التحالف المذكور، فهي عناوين هشَّة تقوم بتحميل المسؤولية لتنظيم القاعدة تارة، والحركات الدينية التكفيرية تارة أخرى. وإذا كان الاحتلال الأميركي قد موَّه كل إعلامه بملاحقة تنظيم القاعدة واجتثاثه علماً أنه الرئيس المؤسس له، فإن النظام الإيراني قد موَّهها بالحركات التكفيرية وهو من الرؤساء المؤسسين لها.
انعكاسات الاتفاق الأميركي – الإيراني في العراق على مجمل الوضع العربي
فهل الاتفاق الأم، الذي توصَّل إليه الخصمان الحميمان حول العراق، سيكون جزيرة منعزلة التأثيرات عن مجمل الوضع العربي؟
يتأكد، يوماً بعد يوم، أن النظام الأميركي الذي قاتل بشراسة من أجل ضمان حكم العالم من دون منافس، أُرغِم على أن يكون شريكاً للنظام الإيراني، أحد أطراف (ثلاثية الشر) التي ابتكرها منذ سنوات سبقت احتلاله للعراق.
ويتأكَّد، يوماً بعد يوم، أن النظام الإيراني يُمهِّد لتأسيس دولة إسلامية مذهبية الهوى والاستراتيجية، ومن أجل ذلك كان لا بد له من أن يؤسس لمرتكزات يستند إليها في احتلال المقعد الأول القوي في المنطقة. وقد فعلها في كل من لبنان وفلسطين، هذا بالإضافة طبعاً لمرتكزاته في العراق.
ولما كان العراق يشكل ممرَّه الاستراتيجي نحو الوطن العربي، فقد راح النظام الإيراني، يساوم الخصم الأميركي الحميم، مستغلاً مأزق أميركا في العراق. وهذا هو الحال في كل من لبنان وفلسطين، خاصة وأن صراعهما قد أخذ فيهما شكل تقسيم سياسي فعلي.
ومن أسوأ الأمور وأكثرها إثارة، مما يستدعي الحنق والغضب، هو الغياب العربي الكامل، وهل هناك أسوأ من أن أمين عام جامعة الدول العربية لا يمكنه دخول لبنان عبر مطاره، أو نقاط عبوره البرية والبحرية، من دون أذن مسبق تتم عليها الموافقة من نظام (رعاة البقر)، ومن نظام (رعاة المذهبية).

في لبنان محطة المساومات
لقد قُسِّم الوضع السياسي في لبنان إلى شقين عاموديين: موالاة، لكن مع من؟ ومعارضة، ولكن ضد من؟ وأما الإثنان فيمارسان لعبة الكبار، ويعملان على تقطيع الوقت الضائع.
ومن أمرِّ ما نتجرعه هو أنه علينا أن نصدِّق خطاب التخوين الذي يمارسانه ضد بعضهما في مباريات خطابية ماراتونية طويلة استهلكت من عمر اللبنانيين أكثر من سنتين من رعب انتظار فلتان فتنة طائفية، نرى أن الأهداف المعلنة للطرفين لا يتجاوز الخلاف على تقسيم الحصص السياسية بينهما. ومن هنا تبدأ الأمور العجاب:
-إذ أن من قاموا بتخوين بعضهم البعض الآخر، سيلتقون على مقاعد حكومة وطنية، فكيف يمكن لمن يخوِّنون بعضهم باللقاء تحت سقف وطني؟ وهل للوطنية، في ظل الخطاب السياسي السائب في لبنان، مفاهيم أخرى لا يستطيع عقلنا المحدود أن يفقهها؟ وهل ستذرو الرياح كل اتهامات التخوين والخيانة إذا جمعتهما حكومة واحدة؟ وهل هذا المظهر أكثر من فعل استغباء لعقولنا؟
-إنها مسرحية يتم تمثيلها، وتقطيع الوقت الضائع فيها، بانتظار صعود الدخان الأبيض من مداخن الخارج. فهل سيكون الاتفاق الأميركي – الإيراني على العراق، وحول العراق، مدخلاً لاتفاق يلتئم فيه الجناحان الموالي والمعارض في لبنان، فيتفقون على إعادة تركيب المؤسسات الدستورية، ومن أكثرها قرباً انتخاب رئيس للجمهورية؟
إنه وبالمقدار الذي لا نرى فيه أملاً في الوصول إلى اتفاق يُنهي آلام اللبنانيين، ويضع الحلول السليمة لكتلة كبيرة من المشاكل، بدءاً بإنقاذ الاقتصاد من أخطبوط الأمركة، مروراً بضمان أمن لبنان والأمة العربية، واستعادة سيادتهما على القرار المستقل، وصولاً إلى معالجة سلة كبيرة من المشاكل الاجتماعية والمعيشية للمواطن اللبناني، فإننا نرحب بأي اتفاق يخرج لبنان من النفق المظلم بمنع انهيار المؤسسات الدستورية، التي هي وإن كانت تعني بالشكل ضمان وحدة لبنان، لعلَّ تلك المؤسسات تعيد الاعتبار لهموم الشعب اللبناني الذي أثقلته السهام المسمومة فتآكلته الهموم المعيشية والاجتماعية والاقتصادية. بحيث يكون هذا الاتفاق حائلاً دون وقوع الأسوأ من الفتن والهزات الأمنية. وإذا كنا لا نرى فيما سيحصل حلاً ناجعاً، فإنما نرى فيه أملاً على قاعدة المفاضلة بين السيئ والأسوأ، لأنه قد يفتح البوابة أمام الرافضين لكل ما يجري، وبالكيفية التي يحصل بها، خاصة أن من يتلاعب بمصير لبنان هم أصحاب المال السياسي. وهي فرصة إن حصلت فإنها قد تدفع بالوطنيين، ممن هم خارج نادي التأثير بالمال السياسي، لتكثيف الجهد الوطني الصادق بعد توفير مستلزماته الجبهوية، من أجل فتح الملفات الاقتصادية الخطيرة التي يتم تمريرها بذكاء وسرعة، كما من أجل استعادة الملفات السياسية والأمنية لتصب في مصلحة لبنان واللبنانيين، ومن أجل استعادة القرار الوطني والسيادة الوطنية.
قد تكون الملفات السياسية والأمنية من أهم ما يتم العمل على ترتيبه، ولهذا نرى أن أي ترتيبات لا تأخذ بعين الاعتبار المصلحة الوطنية اللبنانية، كما مصلحة الأمن القومي العربي، فإنها ستكون بمثابة الضربة المؤلمة على طريق سلخ لبنان عن أمته العربية، وفي المقابل سيستأثر أمن العدو الصهيوني، وأمن الآخرين، بكل الاهتمام والرعاية، وبهما سيصبح أمن لبنان، كما الأمن القومي العربي، في خدمة أمن الآخرين.
وفلسطين من وحدوية منظمة التحرير إلى سلطات منقسمة ومتناحرة
أما الحديث عن التقسيم الأهلي في فلسطين، فهو يمثل الخطورة القصوى، بخاصة بعد تقسيم السلطة الفلسطينية، التي هي بالكاد تلبي حاجة مرحلية تتفرغ فيه لتوفير الغذاء والدواء للشعب الفلسطيني، إلى سلطتين: غزة، والضفة الغربية. وليس من المستحيل أن تجد توقيعاً غير عربي على كل ما يجري هناك. فهل تجد تلك المشكلة الخطيرة حلاً بعد الاتفاق الأميركي – الإيراني في العراق؟
بالأصل كانت الولايات المتحدة الأميركية هي صاحبة القرار الأوحد في تفصيل الثوب الفلسطيني بما يتناسب مع الجسم الصهيوني. أما اليوم، فالمشهد مختلف، لقد أعطى الأميركيون الضوء الأخضر للأوربيين من أجل القيام بدور في فلسطين لا يثير الخوف في نفس الإدارة الأميركية. وقد اقتطع النظام الإيراني حصة له في التأثير، ومن البارز أنه يستغلها الآن على طاولة المساومات مع الأميركيين. فأين تقف الحالة الفلسطينية الراهنة بعد الاتفاق الأخير حول العراق وعليه؟
أياً تكن الحلول المصطنعة التي سينتجها الاتفاق الأميركي – الإيراني، فإنها إذا ما استمر التأثير الخارجي على وتيرته، وإذا ما ظل التأثير الخارجي، وهو سيبقى، أنموذجاً ينقسم الفلسطينيون على أساسه، ستتفجر الأوضاع من جديد كلما أصيبت مصالح هذا الطرف الخارجي بأضرار.
ونحن نرى أن المقياس الذي لا يجوز لأي طرف فلسطيني أن ينزل تحت سقفه، يتحدد بما يلي:
-الخروج من أسطورة قيام دولتين: فلسطينية وصهيونية، وهذا ما تخدعنا به إدارة جورج بوش، لأنه شعار تكتيكي تستخدمها إدارته للتخفيف من مآزقها الكثيرة.
-تثبيت خطاب المقاومة، والمحافظة على السلاح الفلسطيني المقاوم، والحرص على استمرارية المقاومة، بكل أشكالها، وأكثرها أهمية المقاومة المسلحة.

الاتفاق الأميركي – الإيراني مقامرة خاسرة في العراق
وأخيراً، وليس آخراً، فإذا كانت فرضيتنا قائمة على أن الاتفاق الأميركي – الإيراني حول العراق وعليه، ستنجح، فإننا متأكدين من أن ما أعطته الإدارة الأميركية من مكاسب وهمية للعرب والجوار العربي، ستكون بحكم الملغاة بعد أن تتمكَّن من الاستيلاء على العراق. وعلى الجميع أن لا يكونوا في غفلة من أمرهم.
ولكن، ومن منطلق التأكيد أيضاً، نرى أن الاتفاق المذكور ليس إلاَّ محاولة أخرى ستكون محكومة بالفشل، لأن المقاومة الوطنية العراقية التي جرَّعت السم للإدارتين الأميركية والإيرانية وهما في عز قوتهما في بداية الاحتلال، فإن سمها سيكون أكثر إيذاءً لهما، وهما في مرحلة الدفاع الضعيف في هذه المرحلة.
فهل في النظام الإيراني من يدرك، قبل فوات الأوان، من يراعي شروط حسن الجوار مع العراق والأمة العربية؟
وهل في النظام العربي الرسمي من سيلتقط لحظة العجز الخارجي في الاستيلاء على سلطة القرار الوطني العراقي المقاوم ومصادرته، ليصنع لنفسه أرجلاً أو ما يشبهها، ويبادر إلى تقديم الدعم إلى أبطال العراق، أو أقله كفَّ الأذى عنهم؟
فهل تفعلها حركة التحرر العربية قبل أن تداهمها هزيمة أميركا وشركائها في العراق؟ فهل تفعلها قبل أن تدركها احتمالات حصول فراغ ثوري على الساحة العربية؟ وهل لبعض فصائلها أن يعوا حقيقة الدور الإيراني، وينصحوا أركان نظامه بالعودة إلى رشدهم والإقلاع عن أوهامهم في تقسيم العراق، ومنع الفتنة الطائفية التي يُسهمون في تأجيجها؟
إنه النداء الأكثر إلحاحاً في مرحلة فاصلة تعيد فيه المقاومة العراقية صياغة تاريخ عربي ناصع.

(28): المشهد العراقي في شهر آب 2007
جورج بوش يجمِّع كل أوراقه لمواجهة التقرير العسكري السياسي في الحادي عشر من أيلول
طليعة لبنان الواحد/ عدد شهر آب 2007
أمام معركة استنزاف إدارة جورج بوش في الداخل الأميركي، التي يقودها الحزب الديموقراطي، يقف الرئيس الأميركي بانتظار تقديم تقرير لمجلسيْ الشيوخ والنواب الأميركي لتقييم الحالة في العراق، في الحادي عشر من أيلول، بعد إصراره على تطبيق خطة جديدة قضت بإرسال عدة عشرات من آلاف الجنود، ورصد أكثر من ماية مليار دولار، لتطبيق خطة ذات ثلاثة اتجاهات: عسكرية وسياسية واجتماعية.
وبعد مرور ثمانية أشهر من بدء تطبيق الخطة، وقبل أن يصدر التقرير المشار إليه أعلاه، تؤكد كل النتائج التي حصدتها الخطة، على فشلها الذريع بشتى المقاييس والمكاييل.

أولاً: مصير الخطة العسكرية:
بعد مرور ثمانية أشهر على تطبيق خطة بغداد، و أكثر من ثلاثة أشهر على تطبيق خطة الأنبار، ازداد فيها الضغط على المنطقة الخضراء، كأهم رمز من رموز الاحتلال وعملائه، فهي تتعرَّض لصواريخ المقاومة من قلب بغداد النابض بالمقاومة. كما لم تحقق الحملتان أكثر من وحشية وفظاعة بحق المدنيين العُزَّل، والمزيد من فلتان الأمن الذي ترعاه الميليشيات الطائفية ومافيات السرقة والتهريب، وإثارة النعرات الطائفية والعرقية، وسيادة شريعة الغاب.
وعلى الرغم من كل ذلك فقد أعلن جيش الاحتلال انسحابه من الفلوجة، كما فعلها من قبل في الرمادي. وازدادت أعداد القتلى الأميركيين، ولو على مقاييس اعتراف البنتاغون، فقد شهدت أشهر العام 2007، أرقاماً قياسية بعدد القتلى الأميركيين. وأما السبب فهو أن المقاومة، في معركة التقابل مع الاحتلال وعملائه، قد كثَّفت عملياتها كماً ونوعاً، سواءٌ بابتكار أنواع جديدة من العبوات الناسفة، أو تطوير أسلحة الدفاع ضد الطائرات السمتية. أو تكثيف الهجمات ضد قوافل إمداد قوات الاحتلال، كما تكثيف القصف ضد القواعد الأميركية الثابتة. هذا بالإضافة إلى تكثيف عمليات المقاومة في جنوب العراق، بشكل لافت وأكثر من المراحل السابقة، والدليل على ذلك ما يعبر عنه الشارع الشعبي والسياسي والعسكري في بريطانيا.
وتلخيصاً لمعادلة التقابل والمواجهة بين المقاومة والاحتلال، اعترف، السيناتور جون مورثا، أحد القادة السياسيين الأميركيين، قائلاً: إن المقاتلين متهيئون في كل وقت نأتي بطريقة جديدة لهزمهم.
وإذا كانت الخطة العسكرية مدخلاً للشقين السياسي والاجتماعي، فلينتظر جورج بوش خيراً بتطبيق الشقين الآخرين، على مثال الخير الذي أصابه من تطبيق الخطة العسكرية.

ثانياً: مصير الخطة السياسية:
في الوقت الذي كان من المطلوب من حكومة العمالة التي يترأسها المالكي بذل الجهد من أجل إتمام ما تسميه إدارة الاحتلال المصالحة الوطنية، تلك التي لم تنجح حتى مع مساعدات ملحوظة قدمتها بعض الأنظمة الرسمية العربية، كمصر والسعودية، في مؤتمرات القاهرة وشرم الشيخ ومكة، إلاَّ أن الحكومة المذكورة انشغلت بالمصالحة بين ألوان العملاء المشاركين فيها وأشكالهم، ولملمة حالة التشرذم بين صفوفهم، حتى أصبح ثوب الحكومة مهلهلاً ما إن ترتقه إدارة الاحتلال في مكان حتى ينفتق في مكان آخر. أوَ ليس نفاذ صبر الإدارة الأميركية الذي أعلنته كوندوليزا رايس وغيتس، ووفود الكونغرس بهذا الصدد قائلين بما يوحي أن صبر الإدارة الأميركية لن يبقى من دون أفق منظور، فعلى العراقيين أن يتحملوا مسؤولياتهم في استلام الأمن في العراق.
فبالإضافة إلى زئبقية مقتدى الصدر ومواقفه غير المفهومة وغير الثابتة لأنها مستندة إلى انفعالية طائفية، وإلى انتقال من ضفة أميركية إلى ضفة إيرانية، وبالعكس، طمعاً بمن يوفر للنخبة من تياره مواقع ومصالح ذاتية. فتراه يعلِّق عضويته في البرلمان تارة، وفي الحكومة تارة أخرى.
وبالإضافة إلى عمالة الحزب الإسلامي العراقي، الذي همَّشته التيارات المذهبية الأخرى، وجعلته طربوشاً يستخدمه العملاء الآخرون من أجل استكمال التلوينات المذهبية كمسحوق لتجميل (العملية السياسية) بأحد أطياف العراق المذهبية. فيعلِّق عضويته في الحكومة. ويعتكف وزراؤه ويحردون طمعاً بإعطائهم فرصة للحس المبرد العراقي.
على الرغم من كل ذلك، فإن (الحكومة العراقية تواجه أشد أزماتها) كما يقول أحد المحللين الأميركيين. السبب الذي حصر اهتمام رئيسها بالعمل للحيلولة دون انهيارها. وقد ازداد انهيار مؤسساتها، وعجز بعضها الآخر عن القيام بأية مهمة. إلاَّ أن الانجاز الوحيد الذي حققه بعض النخب في تلك المؤسسات هي السرقة والنهب وفرض الخوات، والتهريب، ولم يكن أقلها اختفاء أكثر من مائة وتسعين الف قطعة سلاح. وكأنها إبرة في كومة من القش. وهل هذا غريب على صغار النفوس ما دام رائدهم بول بريمر الذي ضاع في عهده عشرات المليارات من الدولارات؟
ثالثاً: مصير الخطة الاجتماعية – الاقتصادية:
على خطى ما آلت إليه خطة جورج بوش العسكرية، سارت حالة العراقيين الاجتماعية والاقتصادية، من سيء إلى أسوأ، بحيث لم يعرف مجتمع ودولة وقعا تحت الاحتلال ما عرفه العراق تحت الاحتلال الأميركي. وإذا كان نقل تفاصيل الصورة يبرهن على ما آلت إليه من مآسٍ وفظائع، فإن ملفات الجريمة التي يرتكبها الاحتلال، بمساعدة من عملائه، والنظام الإيراني وعملائه، هي أكبر بكثير مما تستطيع مجلدات أن تستوعبها:
-أكبر حملة إبادة جماعية: فمن القتل والخطف والتهجير، والجوع والخوف، والتطهير الطائفي والعرقي، بلغ حجمها المليون قتيل، الأمر الذي وصفته بعض تقارير المؤسسات الأهلية الأجنبية بأنه يمثل أكبر (إبادة جماعية) حديثة ومعاصرة.
-أضخم (هجرة جماعية) وهي الأولى من نوعها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية: فإضافة إلى ملايين المهجرين داخل العراق هرباً من القتل على الهوية الدينية، أو على الهوية السياسية. أما من استطاعوا أن يوفروا أجرة النقل إلى خارج العراق فبلغ عددهم أربعة ملايين في دول الجوار وخاصة في الأردن وسورية. ومن أجل ذلك دعت إدارة جورج بوش إلى فتح بازار للحصول على بضع مئات من ملايين الدولارات بحجة مساعدة هؤلاء، وهي التي تُنفق بليونيْ دولار أسبوعياً نفقات ما ترتكبه قواتها من مجازر بحقهم.

رابعاً: واقع حال إدارة جورج بوش قبل موعد استحقاق تقديم تقريرها:
إذا كانت عيون النظام العربي الرسمي غافلة، أو متواطئة مع الاحتلال الأميركي، فإن العيون الأميركية من خارج نادي إدارة جورج بوش، تتابع تفاصيل ما يجري وتضع حلولاً لمشكلة الاحتلال، ليس على قاعدة التخفيف من مأزق الإدارة بل على قاعدة إنقاذ أميركا من مستنقع غرقت فيه، ولوَّثت سمعة أميركا وعززت مواقع أعدائها، وراحت تخسر من رصيد سمعتها حتى بين حلفائها أو المنبهرين بتقدمها التكنولوجي. ومن أهم الأمثلة على ذلك فهو ما يحدث من متغيرات في مواقف الشباب الأوروبي المعجب بالإبداع الأميركي، ومنهم جيل اكتسب تسميته (جيل العراق) الذي انتشرت في أوساطه الاتجاهات السلبية، إزاء أميركا، اعتراضاً واستنكاراً لما تفعله في العراق بعد احتلاله.
أما العيون الأميركية، سواءٌ أكانت النخبة المفكرة التي نظَّرت للمشروع الذي تنفذه زمرة اليمينيين الجدد، أم النخبة السياسية والعسكرية، التي أخذت تتساقط تحت (لعنة العراق) التي يصب حممها أبطال المقاومة الوطنية العراقية على رؤوس كل العدوانيين، فقد عززوا مواقع المناهضين الأميركيين لاحتلال العراق. وأمدوهم بأسباب استمرار مواقفهم لاستنزاف إدارة جورج بوش.
وإذا كان الشعب الأميركي يغفر لإدارته كل شيء فإنه لن يغفر لها استمرار سقوط أبنائه قتلى، فكيف يكون الأمر إذا كانوا يُقتلون في معركة لا مصلحة وطنية لهم فيها ولا مصلحة طبقية؟
كلها عوامل أميركية داخلية تسهم في دفع جورج بوش للرضوخ إلى واقع إعلان إفلاسها في عدوانها على العراق واحتلاله. ومن أبرز تلك المواقف التي تشير إليها التقارير والمواقف الداخلية في أميركا:
1-جورج بوش الآن يبدو وكأنه مطرود من قبل الشعب. فهو، كما وصفه أحد السياسيين الأميركيين، قد بدأ الحرب على العراق اعتماداً على تخطيط غير ملائم، ويبدو أنه سوف ينهيها بنفس الطريقة.
2-أركان إدارته ينهارون الواحد تلو الآخر، وآخرهم كارل روف عقل بوش المفكر.
3-حلفاؤه في العدوان والاحتلال ينهارون واحداً تلو الآخر، إذ أكملت القوات الدانمركية انسحابها. وبعد (إقالة طوني بلير تحت الضغط الشعبي بسبب كذبه في الحرب على العراق، تسير القوات البريطانية، أكثر المساعدين تأثيراً، نحو إعلان الهزيمة، إذ تشير مذكرة سرية إلى أن (أي تأخير في سحب القوات البريطانية من العراق، لعلَّه يُرعب قائد الجيش البريطاني).
4-بالضد من إصرار جورج بوش على التبشير بأوهام النصر، تزداد حالة الرفض السياسي والشعبي للحرب في العراق. وقد انخرط مناوئو الإدارة، ومنهم ممن كانوا من أهم أعمدتها، في ورشة رسم سيناريوهات للانسحاب من العراق. والحد الأدنى المشترك الذي يجمع بين كل هؤلاء هو الانسحاب، ويتراوح اختلافهم في البدء بانسحابات جزئية تؤدي في النهاية إلى انسحاب شامل، وصولاً إلى الاعتراف بالحقيقة بأن هزيمة محققة قد ألمَّت بالاحتلال.
لكن من المرجَّح، كما تشير بعض التقديرات، أن تستمر القلة التي لا تزال تؤيد جورج بوش بمراهناتها على تحقيق إنجاز ما يحفظ ماء وجه الإدارة، أو يعزز المراهنة عليها، ومن أهمها:
-تحقيق اختراق ما في صفوف المقاومة العراقية، ممن تراهن على أنهم من الطموحين لدخول عملية سياسية تضمن الامتناع عن تهديد المصالح الأميركية، وحفظ مصالحها في العراق. ولعلَّ تأخير موعد المؤتمر الذي كانت ستعقده فصائل المقاومة في دمشق، بتاريخ 23/ 7/ 2007، كان أحد أهم أسباب تأجيله هو محاولة إغراقه بالمئات ممن تلوَّثوا بأوساخ العمالة مع الاحتلال وعملائه.
-و لعلَّ توقيع حكومة المالكي على قانون النفط هو أحد تلك الانجازات التي تعمل الإدارة الأميركية على الإتيان بحكومة لما بعد الانسحاب توفر تلك الضمانات.
-إن صدور قرار عن مجلس الأمن الذي يدعو إلى تعزيز دور الأمم المتحدة في العراق، يعني إعطاء ضمانات لأصحاب الشركات الرأسمالية في منظومة الدول الرأسمالية، ولعلَّ أهمها الشركات الأوروبية، السبب الذي يفسِّر الحرارة التي دبَّت في أوصال فرنسا ساركوزي.
-فتح صفحة مفاوضات بين وفدين أميركي وإيراني تعني استجابة لدعوتين: دعوة الحزب الديمقراطي في أميركا بالانفتاح على كل من سورية وإيران، ودعوة النظام الإيراني إلى أن تقاسم الحصص في العراق سيكون مدخلاً لحسن نية أميركية يشمل تسوية مقبولة للمفاعل النووي الإيراني، وإعطاء مساحة في التأثير الإيراني على القرار في المنطقة العربية، مما يعكس نفسه بشكل إيجابي على الملفين الفلسطيني واللبناني.
-الدعوة إلى مؤتمر للسلام في الشرق الأوسط فيها ما يُخرج الأنظمة العربية السائرة في الركاب الأميركي من دائرة الإحراج والخوف. بحيث إن هذه الدعوة ليست إلاَّ خدعة جديدة تمارسها إدارة جورج بوش من أجل تخفيف الضغوط الداخلية والأوروبية والعربية، وستكون نتائجها في المحصلة النهائية شبيهة تماماً بنتائج الدعوة إلى مؤتمر مدريد في العام 1991، مع تشابه الظروف والأسباب التي كانت من أهم أهدافها حشد أكبر تأييد دولي وعربي لمساندة العدوان الثلاثيني على العراق في العام 1991.
كلها ملفات تراهن إدارة جورج بوش على أن الوصول إلى اتفاقات حولها تسهم في فك عزلتها دولياً وأميركياً، وتعطيها أوراقاً رابحة في الانتخابات التمهيدية القادمة. لأنها من بعد ضمان استعادة السلطة من قبل الجمهوريين، وتوفير نجاح مرشحها في الانتخابات الرئاسية الأمر الذي يعزز استئناف مشروع الأميركيين اليمينيين الجدد. ومن بعدها ستكون الوعود التي أعطتها إدارة بوش لمختلف الأطراف في ذمة موجة خداع جديدة وإنه بعد عام ونيِّف تتحول التداعيات من حال إلى حال.


(29): قرار الإعدام الجديد:
استئناف لتصفية العقيدة العسكرية الوطنية والقومية للجيش العراقي
7/ 9/ 2007
عندما أعدَّت الإدارة الأميركية خطة العدوان على العراق، وعندما قرَّرت احتلاله بشكل مباشر لم تعهده الإدارات السابقة، فإنما كان من أهم أهدافها تطبيق حرب الأفكار الخاصة بالأميركيين اليمينيين الجدد.
وعندما تواطأ النظام الإيراني مع تلك الإدارة في العدوان على العراق واحتلاله، فإنما كان من أهم أهدافه اجتثاث العقيدة القومية التي أرساها النظام الوطني في العراق على أسس عقيدة البعث في القومية والوحدة القومية.
إن الثنائي المتآمر قد غلَّفا أهدافهما بما يسهل على الآخرين هضم الكذب فيه، فكان إسقاط ما زعموا أنها الديكتاتورية هو هدفهم الأول ومن بعدها إحلال الديموقراطية من جانب، والحصول على حقوق الطوائف التي زعموا أن الشيعة كانوا ممن سُلبوا حقوقهم من جانب آخر.
وما كان قد خفي على الآخرين، هو تلك الحقيقة، والتي لا حقيقة أخرى تسبقها، هو اجتثاث أي فكر وطني أو قومي لأنه وحده يشكل الحاجز الصعب الذي يقف بصلابة في وجه أمركة العالم من جهة، كما يقف في وجه ما يزعم النظام الإيراني أنه وعد إلهي ببناء نظام نظرية الانتظار من جهة أخرى.
ولأن لكل من طرفيْ التحالف مشروعه الإيديولوجي، حتى ولو كانا يقفان في دوائر مغلقة متناقضة، إلاَّ أن أهدافهما الإيديولوجية تبيِّن بوضوح أن ما يجري على أرض العراق هو حرب للأفكار بين الفكر القومي من جهة، وفكر أمركة العالم مدعوماً من فكر نظرية الانتظار من جهة أخرى.
ولما كانت تلك الأهداف الإيديولوجية من الأمور المجهولة في ثقافة الأكثرية الساحقة من المؤيدين لمشروع حرب الأفكار أم من المناهضين له، فقد كانت حقيقة تدمير تراث العراق وتصفية علمائه، ومنهم ذوي الخبرات السياسية والعسكرية، تقع في أجندة أولويات الصديقين اللدودين، الأميركي والإيراني.
وعلى هذا الأساس تمت عملية إعدام الرئيس صدام حسين وطه ياسين رمضان وعواد البندر وبرزان التكريتي، وهذان هما يستكملان مشروع تصفية أهم الكوادر العسكرية المتمثلة بكل من سلطان هاشم أحمد وعلي حسن المجيد وعامر رشيد.
إن الدخول في دحض قرار المجرمين بالإعدام بالأسباب القانونية هي مسألة وإن كانت ضرورية، إلاَّ أنها ليست المسألة الوحيدة، لأنه عندما يفتي وزير العدل الأميركي بأن رئيس الولايات المتحدة الأميركية هو فوق القانون الدولي، وعندما يصرِّح ذلك الرئيس بأن القانون الدولي هو شيء «أركله برجلي»، أرى من العبث أن نجد قوة في العالم يمكن أن تغير من قرارات الرئيس الأميركي لأن القرار قد اتخذته فلسفة اليمينيين الأميركيين الجدد عندما أعلنت الحرب على الأفكار، أي اجتثاث كل الأفكار الأخرى المناهضة لفلسفتهم. كما أرى من العبث أن نغيِّر من قرارات النظام الإيراني لأن القرار قد اتخذته فلسفة «ولاية الفقيه»، وهي المأمورة غيبياً بأن تمهد لنظام الانتظار المزعوم.
واستناداً لكل ذلك، وإن كانت الحسابات السياسية تأخذ بعين الاعتبار مصالح الطرفين، إلاَّ أن الحسابات الإيديولوجية هي التي تحدد نوعية القرار وحجمه عند الطرفيْن المؤثرين باحتلال العراق.
إن ما تمثله القيادة السياسية في العراق من امتلاك العقيدة الوطنية والقومية ومن إصرار على متابعة النضال من أجل تعميمها على المجتمع العربي.
وما تمثله قيادة بناء المشروع النهضوي العربي، بامتلاك العقيدة القومية، في بناء مجتمع عربي منتج، وهي القاعدة الواسعة من علماء العراق، من الذين تصدر بحقهم قرارات التصفية والاستقطاب والتهجير، وتجري هذه العملية على نار هادئة وبصمت مطبق.
وما يمثله العقل العسكري عند النخبة من قيادات الجيش العراقي ويمثلهم من حكم عليهم بالإعدام في المرحلة الأخيرة، بما يمثلون من عقيدة مقاومة كل المشاريع التي تستهدف الفكر الوطني والقومي.
كلها تدخل في عملية تدمير ممنهج لأهم أسس النظام الوطني العراقي، ذلك التدمير المرسوم له أن يستمر حتى ولو كانت حسابات الهزيمة العسكرية واردة عند كل من الطرفيْن المتآمريْن، أما السبب فهو تحويل العراق إلى بلد فارغ من بنيته البشرية التي اكتسبت خبرة أكثر من ثلاثة أجيال، من عمر ثورة الـ 17 – 30 تموز 1968.
لكن فليفهم الطرفيْن، الأميركي والإيراني، أن العراق ليس عقيماً، وهذا ليس من باب الحلم، بل إن العراق يزخر بكل الطاقات والإمكانيات البشرية التي ستعيد العراق إلى عقيدته الوطنية والقومية، وسيستعيد العراق موقعه في مجال الإنتاج وليس الاستهلاك، في البنية المادية كما في البنية الفكرية.
لذا نرفع صوتنا، مع كل الأصوات الصادقة، من أجل كشف الغطاء عن المشروع الخبيث الذي ينفذه جورج بوش وإدارته، بالتعاون والتنسيق مع النظام الإيراني. هذا المشروع الذي تُنحر فيه البنية البشرية ذات الخبرة على مذبح مشروعين خبيثين ليس مقدراً لهما أن يستمرا في الحياة طويلاً.
فإذا كان المشروع الأميركي، بعد استقالة أهم أعمدته في الفكر والسياسية والعسكر، قد أشرف على النهاية، فمن المرتقب أن يعمل الشعب الإيراني على إنهاء الأطماع الإمبراطورية الفارسية لأنها تتنافى مع أبسط قواعد العلاقات الحسنة مع الجوار العربي.
وإذا استمر المشروعان في غيهما، على الرغم من ظهور علامات سقوطهما المرئية وغير المرئية، فإن المقاومة الوطنية العراقية، التي دفعتهما إلى حافة الإفلاس، كفيلة بإسقاطهما إلى الهاوية.


(30): مقابلة مع المشاهد السياسي في أيلول 2007
العدد (602) تاريخ 6/ 10/ 2007
إلتقت المشاهد السياسي، الباحث والكاتب حسن خليل غريب، وكانت لها جولة أفق فكرية وسياسية حول مدارات الفكرين القومي والديني، وكل ما لهما من تأثير في المرحلة الراهنة التي يعيشها الوطن العربي.
للباحث غريب عدة مؤلفات فكرية وسياسية، بدأ بإصدارها منذ أواخر العام 1999، ومن أهمها كتابان: الأول (في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام)، والثاني (الردة في الإسلام). ولا يزال حتى الآن يعمل من أجل إصدارات أخرى، هذا بالإضافة إلى مئات المقالات السياسية التي نشرها في عدد من الصحف والمجلات العربية، وبخاصة مواقع الأنترنت. وقد غلبت على إنتاجه، بعد احتلال العراق، الإصدارات السياسية، بحيث نشر كتابين عن المقاومة الوطنية العراقية: الأول تحت عنوان: (معركة الحسم ضد الأمركة)، والثاني جاء تحت عنوان (الإمبراطورية الأميركية: بداية النهاية)، وركَّز في كتاب ثالث على الجرائم الأميركية في العراق، وجاء تحت عنوان (الجريمة الأميركية المنظمة في العراق) بثلاث مجلدات. وهو ينجز الآن كتاباً يتناول فيه الجريمة الأميركية في (تدمير تراث العراق وتصفية علمائه). وفيما يلي نص المقابلة:
1-هل فشلت الأفكار القومية في الوطن العربي؟
-حتى لو قادنا الجواب للتكرار، فنبدأه بأن الفكر القومي فكر حديث ومعاصر، نضجت معظم جوانبه النظرية والتطبيقية في أواخر النصف الأول من القرن العشرين، إذن فهو فكر الحداثة. ولأنه فكر جديد، أثار مخاوف وقلق الأفكار الأخرى، وهي تتلخص بثلاث:
-الفكر الأممي الديني، الذي تعود جذوره لعشرات القرون، وقد عجز المؤمنون به عن بناء دولة تعدل بين كل تعدديات مواطنيها، وظلَّت آمالهم معلَّقة بإحيائه سياسياً باعتبار مصدره إلهياً، من وجهة نظرهم، ولأن كل ما هو إلهي فلا يجوز الاسترخاء وإهمال العمل من أجل تطبيقه لأن ذلك يعني، كما يعتقدون، محاسبتهم في الآخرة لقاء تقصيرهم.
-الفكر الأممي المادي، وتمثله الفلسفة الماركسية التي حلمت بأنه من الممكن الوصول إلى نظام شيوعي مثالي، يهزم كل الشرور القابعة في النفس البشرية نتيجة الصراع حول الملكية المادية. والنظام السياسي الشيوعي يعمل على إشباع الحاجات المادية لأبناء المجتمع العالمي، وبهذا ينتفي الصراع بينهم بعد القضاء على دابر السبب الحقيقي.
-الفكر الرأسمالي الذي يعتقد أصحابه بأن العالم بأكمله يجب أن يشكل سوقاً آمناً لرساميلهم، يستغل حيثما يريد، ويبيع حيثما توجد أفواه تأكل، وبشر يشترون السلع التي تنتجها شركاته ومصانعه. وقد وصل الأمر بآخر نماذج الرأسمالية، وهو الأنموذج الأميركي، إلى اعتبار أن الديموقراطية الأميركية تمثل نهاية التاريخ في تطور الفكر السياسي، ورواده يعملون على تطبيق آخر مراحله من خلال احتلالهم للعراق، كما زعموا.
وبالنتيجة، آخذين بعين الاعتبار التناقضات التي تحكم العلاقة بين الأفكار الثلاثة، أصبح الفكر القومي، على مائدة هؤلاء كمثل (الأيتام على مائدة اللئام)، وكان عليه أن يواجه قواهم الكبيرة التي لا مجال لمقاربتها مع القوة التي يمتلكها.
فالقول بأن الفكر القومي قد فشل، هو قول مغاير للحقيقة، بل الأولى بأن نقول بأن هناك محاولات يائسة لتمويته وتفشيله، كفكر حديث جاء لينقض مسلماتهم الفكرية والإيديولوجية.
2-هل انتقلت من العمل السياسي إلى العمل الفكري؟ ولماذا؟
-ليس هناك انتقال من ضفة إلى ضفة أخرى، فنهر العملين الفكري والسياسي واحد. فهدف كل فكر مجرد أن يكون صالحاً للتطبيق، والضفة السياسية تعني الجانب التطبيقي. قد يكون الفكر مجرداً، لكنه لن يكون عبثياً، أي (الفكر من أجل الفكر). فقد ينشغل بعض المفكرين بمعزل عن العمل السياسي، وهذا شأن كبار المفكرين، لكي تكون أبحاثهم أقرب للموضوعية منها للأهداف الإيديولوجية، إلاَّ أنه من الضروري أن تستفيد أي إيديولوجيا من موضوعية الفكر المجرد.
لقد مارست العمل السياسي لعشرات السنين، ومن خلال تجربتي لمست عدداً من الثغرات في الفكر السياسي الذي اعتنقته، كما لمست غياب أجوبة واضحة عن حاجات فكرية لا يستقيم العمل السياسي من دونها، وهذا السبب الذي دفعني من خلال ممارسة العمل السياسي بأن أنخرط في ورشة الإنتاج الفكري من أجل الإسهام في توفير بعض الأجوبة حول الأسئلة التي كنت أطرحها على نفسي، أو على ما كنت أجده من قصور في مراحل التجريب والمراقبة. وكان السبب الأكبر الذي دفعني للانخراط في تلك الورشة هي تلك الهجمة الكبرى على الفكر القومي، الفكر الذي لم أجد –شخصياً- ما يوازيه فائدة في توفير نظام سياسي يضمن العدالة والمساواة بين أبناء المجتمع الواحد.
3-هل انتقل الصراع العربي – الصهيوني من دائرته الوطنية والقومية إلى دوائر مذهبية وإسلامية؟
لقد عرف الصراع بين العرب والعدو الصهيوني هويته الحقيقية عبر الفكر القومي لوحده، في الوقت الذي كانت فيه الحركات السياسية الإسلامية منشغلة بالعمل من أجل إعادة نظام الخلافة الإسلامية، وهو كما تعتقد تلك الحركات أنه لن يتحقق إلاَّ بالصراع، قبل أي شيء آخر، مع الأنظمة العربية العلمانية. وغالباً ما أعطت تلك الحركات أولوية لإسقاط الأنظمة العلمانية على حساب الصراع مع الصهيونية والأمبريالية.
أما الأحزاب والحركات الشيوعية، ومنها الحزب الشيوعي الفلسطيني، فقد كانت عندها للصراع مفاهيمه المختلفة. ومن أهم أسسه، أنها نظرت للصراع على أساس طبقي، وليس على أساس وطني. ولهذا وقفت مواقف غريبة، إذ أنها اعتبرت أن الطبقة العاملة اليهودية، حتى ولو مارست اغتصاب الأرض الفلسطينية، حليفاً للطبقة العاملة الفلسطينية. وكان على الطبقة العاملة الفلسطينية، حسبما ترى الحركات الشيوعية، أن تتواطأ مع الطبقة العاملة اليهودية من أجل بناء كيان سياسي على أرض فلسطين المغتصبة لمواجهة البورجوازية كعدو طبقي. ولا تستثني من تلك العداوة البورجوازية الفلسطينية حتى لو كانت تمارس النضال من أجل تحرير الأرض الفلسطينية.
لقد جرَّدت الحركتان الشيوعية والإسلامية السياسية الصراع العربي – الصهيوني من كل أبعاده القومية. ولما كانت الحركة القومية هي التي رسَّخت تلك الأبعاد القومية، وتلك الأبعاد هي التي أعطت الزخم للمقاومة الفلسطينية، وشدَّت من أزرها، هذا بالإضافة إلى الدعم الذي قدَّمته لها، فقد تكتَّلت القوى الثلاث التي قمنا بتوصيفها في جوابنا السابق، وعملت على تعزيز قواها من دون التقاء مباشر، لمواجهة شرسة مع الأحزاب والتيارات القومية، لا تزال تدور حتى الآن في أكثر من مكان في الوطن العربي.
أوَ ليس من اللافت للنظر أن ترى الإمكانيات المادية، المالية والتسليحية والإعلامية، تنهال على كل تنظيم يدخل الصراع العربي – الصهيوني، أو العربي – الأمبريالي، على غير قواعد وأسس قومية أو وطنية؟
وإن كنا لا نشمل بأحكامنا بعض التيارات الدينية، التي لم تقم بتسييس أهدافها، بل هي منخرطة في حركة المواجهة ضد التحالف الأمبريالي – الصهيوني، إلاَّ أن الحركات الأخرى هي الأكثر إمكانيات والأكثر تأثيراً.
نتيجة لكل ذلك، ولأن كل حركة أو حزب لا يمتلك عمقاً قومياً في المواجهة الدائرة، فيعني أن نتائج مقاومته، وإن كانت تصب في مجرى الصراع الاستراتيجي، إلاَّ أنها في نتائجها العامة قد تقف في منتصف الطريق، وهي تعتبر نفسها أنها لن تكون معنية إلاَّ بدوائرها القطرية المصغَّرة، وهي لن تجد الحماس الكافي لاستئناف دورها المقاوم بعد أن تحقق أغراضها المحدودة.
4-هل استطاعت الأحزاب الإسلامية أن تملأ الفراغ الذي تركته الأحزاب الوطنية والقومية؟
-أحسب، بعد أن أضأت على حقيقة المناهج السياسية لكل من الأحزاب الإسلامية، والأحزاب القومية، فيها ما يوضح الإجابة على هذا السؤال.
ليس هناك فراغ تركه أحد وجاء أحد آخر ليملأه. هناك استراتيجيات ومناهج إيديولوجية متناقضة بين التيارين، لا يمكن الوصول إلى المصالحة بينهما بطرق سلمية أو توفيقية، اللهم إلاَّ إذا غادرت الحركات الإسلامية حساباتها الأممية في معاداة الدولة القومية، بمفهوم إقامة النظام السياسي المدني الحديث أولاً، واعترفت بأن الدفاع عن القومية العربية من أولوياتها وأن التنكر لها هو خيانة للكيانات الوطنية ثانياً، وعدم اعتبار وجود النظرية القومية وجوداً معادٍ للإسلام ثالثاً، وكان هناك حوار متكافئ بينهما، ومن بين أهم شروطه، تحييد المقدَّس الإلهي رابعاً.
فهل الأحزاب السياسية الإسلامية مستعدة للتحييد؟
باستثناء مواقف بعض التيارات الإسلامية الإصلاحية، التي اعترفت بواقعية قيام أنظمة وطنية وقومية، لا أظن أن ذلك ممكناً عند الأحزاب الدينية السياسية.
لكن ذلك لا يجوز أن يدفعنا إلى اليأس، بل لا بدَّ من أن يدفعنا إلى التذكير قبل أن تتعقد مشاكل الأمة أكثر، أن للعدو المشترك إمكانيات تفوق إمكانيات التيارين الديني والقومي، ولديه وسائل كثيرة من وسائل المكر والخداع، أليست الحقيقة أن العدو المشترك هو الذي كان السبب في توليد العديد من الحركات الإسلامية المتطرفة؟
إن الأمل الذي يجعلنا لا نعلن اليأس هو وجود قطاعات لا بأس بها من التيارات الدينية الإسلامية التي ترى استحالة استعادة عصر الخلافة، وبخاصة أنها تجد حلاً واقعياً في بناء دولة قومية مدنية.

5-ما هي العلاقة بين أبحاثك المتنوعة، تارة في نقد الفكر الديني، وتارة أخرى في نقد الفكر المذهبي، هل تعتقد أن ذلك يتناسب مع البيئة الثقافية الشعبية؟
-هناك مغامرة يخاف البعض من الخوض فيها، وهي الابتعاد عن نقد الفكر الديني بشكل عام، والفكر المذهبي بشكل خاص. هؤلاء يخشون ذلك في الوقت الذي يرون فيه أن الفكر الديني السياسي، كما الفكر المذهبي السياسي، من أهم العوامل التي تسهم في استمرار تخلف الأمة، وتمنع توحيدها.
وأنا منطلق من أن الدين حاجة إنسانية لا يمكن إهمالها، فهي تدخل في جانب من أهم جوانب المعرفة الإنسانية، كما الإيمان (الصنو المقابل للعقل) هو أحد جوانب الفلسفة الذي لم يمكنها إهماله، فدخل في اختصاص الفلسفة الماورائية.
ولأن المقدس الإلهي ليس واحداً في المعرفة الإنسانية، بل تتعدد مفاهيمه بتعدد الأديان على سطح الكرة الأرضية، من هذا المنطلق ولأنه من حقي أن لا أرى هناك حقيقة مقدسة مطلقة، اقتحمت ميدان الفكر النقدي.
أخذ انخراطي في هذا المجال بالاعتبار أن الثقافة الشعبية السائدة هي ثقافة مذهبية في معظم جوانبها، ولهذا اعتبرت أن مهمتي ليست سهلة فحسب، بل هي صعبة أيضاً. ولكن ذلك لا يعني أنها مستحيلة أو عبثية.
ولأنني أدرك أن من يلج غمار التغيير لكل ظاهرة تحول دون تطور المجتمعات، لا يجوز له الاستسلام لما هو سائد في الثقافة الشعبية خوفاً من الصدام معها، لأن الاستسلام يعني تحييد النفس عن تلك المهمة، وإذا فعلها كل من يجد في التغيير أملاً في معالجة أمراض المجتمع ومشاكله، فستبقى أمراضنا ثابتة وسيبقى التخلف رائدنا.
ولأن الطائفية هي من أكثر أمراضنا استفحالاً، وأشدها تأثيراً في تخلفنا، وانقسامنا وصراعنا، ولأنها البوابة الضعيفة التي يدخل الخارج عبرها من أجل استعبادنا والهيمنة على مفاهيمنا وثقافتنا كممر أساسي لسرقتنا، كان لا بدَّ من ولوج بوابة نقدها حتى لو كانت نتائجها مكلفة. وتلك هي الأسباب التي دفعتني إلى أن أولي هذه المسألة أهميتها.

6-لقد أصدرت كتابين عن المقاومة العراقية حتى الآن، ومئات المقالات، لماذا اهتممت بها أكثر من اهتمامك بالمقاومة في لبنان وفلسطين، خاصة وأنك ممن مارسوا العمل المقاوم في جنوب لبنان؟
-بداية، وانطلاقاً من اعتناقي وقناعتي بالفكر القومي، لا أحسب أن في العراق قضية تختلف بتأثيراتها عن القضية اللبنانية، كما لا أحسب أن في فلسطين قضية تختلف بتأثيراتها عن قضيتي الوطنية في لبنان. وكلها قضايا لا تختلف عما يجري على أرض السودان أو الجزائر، او غيرهما من قضايا الوطن العربي الساخنة.
عندما لم تكن قضية لبنان واضحة الترابط مع قضية فلسطين كنت منخرطاً في العمل السياسي معتبراً أن فلسطين هي قضية العرب المركزية. وفي هذا الإطار يمكننا التذكير بأن من أهم أهداف اغتصاب فلسطين هو اعتبارها المدخل الاستيطاني لاغتصاب الوطن العربي، والحؤول دون توحيد أقطار الأمة العربية في دولة عربية واحدة.
لهذا السبب عندما كنت أفكر فلسطينياً، وأناضل فلسطينياً، كانت من أهم الأسباب هو أن احتلال فلسطين يشكل المدخل لاحتلال لبنان، وليس من المستغرَب أن أعمل على حماية لبنان للحؤول دون استقرار العدو الصهيوني على أرض فلسطين، لأن استقراره يعني أن الدور القادم ستكون محطته لبنان. وهل الذي حصل بعد السبعينيات من القرن الماضي في لبنان يتناقض مع رؤيتي المسبقة للخطر القادم؟
لقد أتى دور لبنان، بعد أن أشاعت التسوية التي حصلت بين مصر والعدو الصهيوني الاستقرار له في فلسطين المحتلة. فكان لبنان لأكثر من عقدين الشغل الشاغل، ليس للعارفين بمخاطر الاستقرار الصهيوني في لبنان فحسب ، بل أصبح محطة لاهتمام كل تيارات حركة التحرر العربي قبل وقوعها في متاهات الشرذمة والضعف أيضاً.
في تلك المرحلة كان من الطبيعي أن أكون، شخصياً، من المقاومين لسنوات، وكان العراقيون يسهمون معنا في أكثر من سبيل لدعم المقاومة الوطنية اللبنانية، التي كنت جزءاً منها بحكم انتمائي السياسي والحزبي. ولم يكن هناك ما يشغلني عن هذا الواجب على الإطلاق، الشغل الذي كانت له الأولوية على دوري كباحث وكاتب.
ومن بعد لبنان انتشرت رقعة المواجهة واتسعت أكثر، وشملت العراق في العام 2003، وكان من الطبيعي أن تأخذ المسألة كل اهتمامي تقريباً، للأسباب التالية:
-كان الهدف الرئيس من احتلال العراق هو إسقاط آخر حصون المقاومة ضد المشروع الأميركي. ولما كان ذلك المشروع قد نشَّط أهداف حكم العالم بأوحدية أميركية، كان احتلال العراق محطة تحوز على اهتمام كل الممانعين في العالم. وباحتلاله، خاصة من قبل أميركا الداعم الأكبر للعدو الصهيوني، يعني تمكين هذا العدو من الاستقرار نهائياً في فلسطين، والعودة إلى احتلال لبنان حتى بعد تحريره في العام 2000.
-لقد أصبح احتلال العراق يشكل المركزية الأولى في نضالنا. ففي طرده إبعاد للخطر على لبنان، وفيه لجم جدي للعدو الصهيوني من إعادة التفكير باحتلاله ثانية. وفي استقرار الاحتلال الأميركي في العراق استقرار للعدو الصهيوني أينما كان، خاصة وأن النظام العربي الرسمي مؤهل للاستسلام والاسترخاء أمام أوامر الإدارتين الأميركية والصهيونية.
فمن أجل تلك الأسباب، يجد المناضل، الذي يمتلك عمق الإيديولوجيا القومية، نفسه في كل معركة تُخاض على أية ساحة وطنية عربية. فالانتقال من أولوية الاهتمام بالقضية الفلسطينية، ومنها إلى الاهتمام بالقضية اللبنانية، ومن بعدها متابعة القضية العراقية بعد الاحتلال، لا يعني التخلي عن هذه أو تلك من القضايا الأخرى. وإنما درجة الخطورة التي تمثلها هذه القضية أو تلك هو المقياس الذي يحدد درجة الاهتمام أو شكله.


(31): تمخض تقرير كروكر – باتريوس فولَّد كذبة جديدة
15/ 9/ 2007 حسن خليل غريب
ممنوع في قاموس الأميركيين اليمينيين الجدد أن ينهزم مشروعهم في العراق لأن السيطرة على بوابة العراق تفتح أمامهم بوابة العالم، لأن الهزيمة فيه تعني تقويضاً لمشروعهم العالمي.
كما هو ممنوع في قاموس المقاومة الوطنية العراقية أن تتوقَّف إلاَّ بعد التحرير الكامل للعراق.
مشروع الأميركيين اليمينيين الجدد أعدوا له منذ هزيمتهم في فييتنام، وحضروا له كل موجبات نجاحه. وكان من أهمها أنهم أسهموا في إسقاط منافسيهم الدوليين لكي تصبح ساحة العالم مفتوحة أمامهم.
ولهذا أسهموا في تفكيك الاتحاد السوفياتي سابقاً، وألغوا بتفكيكه ثنائية السيطرة على العالم والهيمنة عليه. وهو السبب الذي أزاح من دربهم منافساً قوياً على الصعيدين الإيديولوجي والعسكري. فالاتحاد السوفياتي كان يعمل على إلغاء النظام الرأسمالي وهو يمتلك العدة العسكرية التي كانت في أضعف مراحلها تلجم جموح القوة العسكرية الأميركية، السبب الذي ولَّد سياسة الحرب الباردة، والحرب بالواسطة، نتيجة توازن أسلحة الرعب بين القوتين الأعظم في العالم.
لقد توهَّم الأميركيون أن العالم قد أصبح خالٍ من أية قوة تحاول أن تردع مشروعهم، فأقدموا على تفكيك آخر معالم الأنظمة الاشتراكية في يوغوسلافيا سابقاً، واقتحموا آخر حصون القاعدة في أفغانستان، وراحوا يستكملون مشروعهم الإمبراطوري بالسيطرة على نفط الوطن العربي عندما قرروا العدوان على العراق واحتلاله من جهة وإسقاط آخر مواقع المقاومة العربية المتمثلة بنظامه الوطني.
ومن الجدير بالذكر، أن نذكِّر بما أصبح حقيقة واضحة المعالم والنتائج، وهو الدور الكبير الذي أقدمت على تسطيره المقاومة الوطنية العراقية منذ بداية العدوان، وتعمَّقت أكثر بعد التاسع من نيسان من العام 2003، بخاصة بعد أن ابتدأت صفحة المواجهة الشعبية المسلحة.
وبمثل تلك الوقائع هيمنت على الساحة العراقية ثنائية (الاحتلال والمقاومة)، وبها انتقل صراع الثوابت بينهما حسب المعادلة التالية: ممنوع على الاحتلال أن يتحول إلى فشل، وكما هو ممنوع على المقاومة أن ترضى بغير التحرير الكامل والناجز.
وفي هذا الإطار أيضاً نرى من الضروري أن نُذكِّر بأن عصر ما كان يُسمى بـ«عصر أحمد سعيد»، أي أسلوب الإعلام المضلِّل قد انتهى بالنسبة للمقاومة العراقية، وابتدأ بالنسبة للإدارة الأميركية.
واستناداً إلى الحقيقتين: ثوابت طرفيْ الصراع، وموضوعية الحقائق على الأرض وطريقة الإعلان عنها، أصبحت هي الثنائية التي على أساسها سنقوم بقراءة تقرير كروكر – بترايوس الذي ناقشه الكونغرس الأميركي منذ عدة أيام.
أولاً: على صعيد ثوابت الطرفين:
1-إن حقائق الأمور، التي تعلنها الأوساط الأميركية، ومن أهمها المؤسسات التشريعية كمجلسيْ الشيوخ والنواب، تدل بوضوح على أن مشروع الاحتلال يسير على طريق الهزيمة المؤكَّدة. وهذا الأمر تؤكده الخسائر الملحوظة التي يدفعها الاحتلال من دم جنوده وأرواحهم من جهة، ومن جيب المكلَّف الأميركي من جهة أخرى.
2-كما تدل حقائق الأمور على أن المقاومة العراقية هي التي تستنزف مشروع الاحتلال، بفعالية ومقدرة، وبثبات لا يدحضه أي برهان على أن أداء المقاومة الوطنية العراقية قد يضعف، فهي قد بدأت بسرعة وتميزت بزخم لم تعهده المقاومات الأخرى، وهذا يعني أن الخسائر سوف تستمر. كما يعني فشل محاولات الاحتلال، بالتآمر مع قوى دولية أخرى ودول إقليمية ومشاركة أنظمة عربية رسمية، في جر المقاومة للتفاوض على الشروط الأميركية، على أنه دليل قاطع على قوة المقاومة وفعاليتها.
إن المقارنة بين مستوى الدفاع بين طرفيْ ثنائية (الاحتلال والمقاومة) تدل على أن ثوابت المقاومة تتقدم بخطوات كبيرة على ثوابت الاحتلال. وبالتالي فإن ثابت الإدارة الأميركية في أنه ممنوع عليها الفشل أصبح بدرجة من الضعف الشديد، بحيث أن مزاعم جورج بوش بالنصر أخذت تثير سخرية الأميركيين أنفسهم. وهو دليل واضح وقاطع بأن ثابت المقاومة هو حقيقي عندما تقول بأنها مستمرة في نضالها حتى التحرير الكامل والناجز.

ثانياً: على صعيد الأداء الإعلامي:
1-لقد تأكدت حقيقة، وهي رائجة في الأوساط الأميركية الشعبية والرسمية، هذا ناهيك عن الأوساط الدولية المماثلة، أن الإدارة الأميركية، التي يرأسها جورج بوش، تتميز بمستوى كبير من الكذب والخداع، والصلف والغرور. تسري موجة الاتهامات هذه كالنار في الهشيم في الوقت الذي يزعم فيه جورج بوش أنه سيحقق النصر.
2-وفي المقابل تأكدت حقيقة، لا تقبل الجدل أمامها أو وراءها، هي أن المقاومة الوطنية العراقية، كانت صادقة في كل بياناتها، وتقاريرها، وهي التي ينتظرها الرأي العام العالمي والعربي، لمعرفة ما يجري في العراق.
وبالمقارنة بين الأسلوبين الإعلاميين، تظهر حقيقة لم يعهدها الإعلام العربي، الذي كان المثل يضرب بسلبيته، بأنه يحول الهزيمة إلى نصر. فقد انقلبت موازين التقويم وأصبح المثل يضرب بسلبية الأداء الإعلامي الأميركي، وبرئيس الإدارة الأميركية، وكل الزمرة الحاكمة التي تحيط به، وتفكر له وتخطط له، وتقاتل له.
نخلص من استعراض هاتين الحقيقتين أعلاه، لنفسح المجال لقراءة تقرير كروكر – باتريوس، ومناقشته على ضوء الحقيقتين أعلاه:
كانت من أهم توصيفات الوضع، والنتائج التي توصل إليها التقرير، ما يلي:
زعم التقرير أن خطة بوش قد حققت نجاحات في الأنبار، وهي تحتاج الى وقت اطول، حيث إن قوات الامن العراقية تنمو وإن بطيئاً. وقد زاد عديدها وأصبحت 440 الف عرضة للزيادة، كما وعد المالكي. كما أن العشائر رفضت القاعدة وتتعاون مع الامريكان.
ويشخص بترايوس في المقابل الصعوبات:
إن المصدر الاساسي للصراع في العراق هو الفتنة الطائفية والعرقية. وينسبها كروكر إلى أنها نتائج وخيمة لحكم (صدام). ويعترف أن (القاعدة) لم تهزم بشكل مؤكد ولكن اختل توازنها .كما أن المعركة لا تخاض في الميدان فقط وانما عبر الانترنيت. ويوصي بأنه يجب وقف هذه الوسيلة.
في النتائج:
النتيجة النهائية تطابق ما كان يصرح به جورج بوش، بدعوة الأميركيين إلى الصبر. إذ يؤكد التقرير أن الوضع مازال معقداً، ولكن الخطة تحتاج الى وقت طويل وجهود مستمرة. وعلى الرغم من ذلك يزعم التقرير أن أميركا ستصل الى النتائج الإيجابية في النهاية. وحول ذلك يقول كروكر: إنه من الممكن للولايات المتحدة ان ترى اهدافها تتحقق في العراق . ولكن تحقيق ذلك ويقول علينا الا نستغرب ان العراقيين لم يحلوا هذه المشاكل بعد ولكن هذا يدفعنا الى المزيد من العمل من اجل العراق . نحتاج الى وقت اطول .
في الاقتراحات:
2-أوصي بترايوس بعملية تخفيض اولي للقوات تشمل أربعة آلاف جندي في كانون الاول (ديسمبر) تليها عمليات تخفيض تدريجية للتوصل في صيف العام 2008 إلي المستوى الذي كانت عليه القوات مطلع 2007، أي 130 ألف جندي. وهذا يعني أن (سحب الزيادة = لا انسحاب للقوات الاصلية).
قراءة في التقرير
من الملاحظ أن قراءة التقرير تبرهن على أن ما توصَّل إليه ليس أكثر من إملاءات كان قد ردَّدها جورج بوش في خطاباته، التي لم ينقطع سيلها منذ بداية العام 2007، تاريخ البدء في تطبيق خطة حفظ النظام في بغداد، ومن بعدها خطته في الأنبار، التي استقدم من أجلها أكثر من ثلاثين ألف جندي.
لقد اعتبر الشارع الأميركي، المناهض للحرب، والمطالب بسحب القوات، أن جورج بوش «كاذب ومخادع»، وقد مضى على وعده بإحراز النصر تسعة أشهر، أما النتيجة فكانت دفع المزيد من أرواح جنوده، وصرف مئات المليارات من جيوب الأميركيين.
وكانت معارضة مجلسيْ الشيوخ والنواب، بالإضافة إلى حالة الاعتراض التي ظهرت على شاشات التلفزيون، اتهام جديد لإدارة بوش، وبشكل خاص لتقريريْ بترايوس وكروكر، بالكذب والخداع.
ولأن التقرير نسخة طبق الأصل عن مضمون الخطة المعلنة في أوائل العام 2007، فهو يسوِّق كذبة جديدة من أكاذيب الإدارة الأميركية الحاكمة.
وصحَّ القول بأن تقرير بترايوس – كروكر، قد تمخَّض عن كذبة جديدة، ملَّتها آذان الشعب الأميركي الذي يدفع من دم أبنائه وأرواحهم، كما يدفع من جيوب مكلَّفيه. ومن يكون ابنه مرشحاً للموت في أية لحظة، لأن طاحونة الموت على أيدي المقاومة العراقية مستمرة ولم تتوقف، فقد نفد صبره، وهو يرفض رجاء رئيسه ومرؤوسيه طالبين منهم الصبر والثبات والاصرار.

(32): تأسيس عمل جبهوي في لبنان
وجهة نظر في الثوابت والوسائل
تعريف بالمرحلة الراهنة:
منذ الخروج السوري من لبنان، في نيسان من العام 2005، دخلت التيارات السياسية فيه مرحلة جديدة من الاصطفافات والتحالفات، التي وصلت إلى مراحل فرز حاد بينها، وانقسمت على قاعدة مشروعين متصارعين على قاعدة الهيمنة على القرار اللبناني كجزء من القرار العربي، وبما يحقق لكل منهما مصالحه ومن أهمها تقاسم النفوذ في الوطن العربي.
لقد وصلت الأمور إلى فرز واضح، بحيث استأثرت أميركا بأحد التيارين، أما الآخر فكان القرار السوري والإيراني هو المهيمن عليه.
لقد كانت من أهم وسائل المشروع الأول، أي المشروع الأميركي، التعويض على الساحة اللبنانية بمركز للتأثير لقاء ما خسره ويخسره في العراق من جهة، وللضغط على راعيي الطرف الثاني في لبنان للحصول منهما على دعم في العراق من جهة أخرى.
أما المشروع الثاني، ومن أهمه الإيراني، فيستخدم لبنان، وغيره من الساحات العربية، من أجل الحصول على سلة من المكتسبات لعلَّ من أهمها الحصول على موقع قوة على ساحة الوطن العربي من خلال تمكين عدد من التيارات الطائفية السياسية باحتلال مواقع ذات تأثير في سياسة بلدانها.
ولما لم يكن بالإمكان أن يوجد في لبنان تيار ثالث مستقل القرار عن الطرفين المذكورين، أو لديه من الإمكانيات التي تؤهله للحصول على موقع مؤثر، ولما كان الاتكاء على الخارج هو وسيلة الأقليات الطائفية أو العرقية في حماية مواقعها ومصالحها الضيقة، ولما كانت تلك الوسيلة لا تحقق استقلالية القرار الوطني، بل ترهنه لمصالح الخارج، ولما كانت تلك الأقليات بوسائلها الشاذة لا تحقق وحدة الوطن الصغير، فهي أبعد من أن تحقق وحدة الوطن العربي الكبير، أصبح من واجب القوى الرافضة للأمر السياسي الواقع في لبنان بناء مشروعها الجبهوي على أساس ثوابت لا يجوز النزول تحت سقفها، على أن تبادر هذه القوى لوضع أسس للمواجهة مهما كانت ضعيفة، لأنها عندما تبرهن على أنها جدية ومستمرة ستكتسب مشروعيتها عند قطاعات شعبية وحزبية في لبنان، وتزداد قوة عند قطاعات سياسية في العمق القومي العربي التي ستكون على استعداد لإسنادها ومساعدتها.
ولأن ساحة الوطن العربي تتعرَّض في هذه المرحلة إلى هجوم واسع، لتطبيق مشروع الشرق الأوسط الجديد، من خلال اقتلاع كل حصون المقاومة التي تقف في مواجهته، ابتداءً من العراق، البوابة الشرقية للأمة العربية، مروراً بفلسطين قلب القضية المركزية للعرب، وانتهاء بلبنان الذي يقف في مواجهةالغزو الصهيو أميركي.
ولما كان الالتباس حاصلاً في تحديد هوية التناقض الرئيسي في هذه المرحلة، الالتباس الذي تعيشه معظم أطراف حركة التحرر العربية ومنها قوى وحركات وأحزاب لبنانية، قد تكون أسبابه عملية خداع تمارسها أطراف إقليمية لتمويه أهدافها التي تتقاطع في كثير من جوانبها مع مشروع الشرق الأوسط الجديد.
على تلك الأسس نضع أمام الأحزاب والقوى والشخصيات المعنوية التي ستنخرط في أي جهد جبهوي بعض الأفكار الممكن أن تتضمنها اللائحة الجبهوية:

أولاً: على صعيد الثوابت القومية:
في هذه المرحلة، وقبلها بأجيال عديدة، تشهد الساحة العربية صراعات تشتد أحياناً وتضعف أحياناً أخرى، بين منهجين وإيديولوجيتين: المنهج القومي الذي يمثل مرحلة الحداثة في تاريخ الأمة العربية، والمنهج العابر للقوميات بوجهيه المدني والديني السياسي.
فإذا كان التيار العابر للقومية، بشقه المدني، قد أصيب سياسياً بانتكاسة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي سابقاً من جهة، وبعد مراجعة نقدية قامت بها معظم الأحزاب الشيوعية العربية وأعادت للمسألة القومية اعتبارها وأهميتها، فإن التيارات السياسية الدينية العابرة للقوميات قد شهدت طفرة منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي، ولا تزال تحتل الموقع المؤثر في الثقافة الشعبية من جهة، وفي الحركة السياسية العربية من جهة أخرى. ولهذا السبب أخذت تلك التيارات تسلك سياسات غير مفهومة لا يجمعها رابط مشترك مع التيارات المدنية، سواءٌ أكانت على مستوى الأقطار العربية أم على المستوى القومي العربي الشامل، وهي تسوق مواجهة ضدها تكون مظاهرها مكشوفة أحياناً ومستورة أحياناً أخرى، وتنخرط في تحالفات غير مفهومة مع الخارج غالباً ما تكون على حساب المصالح الوطنية أو المصلحة القومية.
وفي فتح ملفات ذات علاقة بالقضايا القومية الساخنة ما يوضح هذا الأمر، ومنها ما هو سائد في لبنان في هذه المرحلة. وظهرت بأوضح مظاهرها في العراق بعد الاحتلال الأميركي، حيث تحالفت الأصوليات الدينية الإسلامية، من شتى المذاهب، مع الاحتلال بشكل مكشوف وسافر.
نتيجة لكل ذلك، يعتبر المتفقون على هذا البرنامج أن القضايا القومية هي كل واحد، في كل من العراق وفلسطين ولبنان وفي ساحات عربية أخرى. ومن بين أهم الأسباب هو أن مشروع أمركة العالم العربي وصهينته هو مشروع واحد، توظِّف الولايات المتحدة الأميركية بالتحالف والتنسيق مع الصهيونية العالمية كل إمكانياتهما من أجل توفير عوامل نجاحه وضمان حماية نتائجه.
ونتيجة لكل ذلك، يعتبر المتفقون على البرنامج الجبهوي في لبنان أن كل نجاح للمشروع المذكور على أي ساحة وطنية عربية فيه ما يوفر الحماية له في الساحات العربية الأخرى. ولهذا السبب ولأن قضية احتلال العراق هي قضية مركزية للمشروع المعادي، ولأنه يتعثَّر في العراق بفعل جهد المقاومة الوطنية العراقية، فإنه يسعى لتوظيف أية نجاحات له في لبنان أو في فلسطين من أجل حل مآزقه في العراق. وهذا ما يتم العمل من أجله في هذه المرحلة، بإغداق الوعود على المتعاونين معه، وإغداق التهديدات على كل الرافضين لذلك. وهذا ما يقودنا إلى ضرورة ربط نضالات المواجهة التي تجري في لبنان وفلسطين والعراق ووضعها في سلة واحدة لأنها تتبادل الخدمات والفوائد في إعاقة المشروع المعادي، وتأخير نفاذه، وخاصة في العراق لأن أية مكاسب يحققها النضال على الساحتين اللبنانية والفلسطينية ستتآكل إذا ما قُيِّض لذلك المشروع أن ينجح في العراق.
إن تلك الثوابت تعني، تنفيذاً وتنسيقاً ومساعدة، مدخلاً أساسياً لفهم طبيعة المواجهة التي تجري على الساحة اللبنانية وحقيقة تلك المواجهة.

ثانياً: على صعيد الثوابت الوطنية اللبنانية:
من الحقائق التي لا يمكن أن نتناساها أو نتنكر لها في هذه المرحلة أن الساحة اللبنانية بانقساماتها السياسية الحادة، تعبٍّر تمام التعبير عن الانقسام الحاصل بين المصالح الدولية والإقليمية، فهناك مشروعان دولي وإقليمي لهما امتدادات في لبنان. ولأن المواجهة الدولية والإقليمية حاصلة في العراق على قاعدة تقاسم الحصص فيه، فإن الواقع في لبنان مؤهل لمثل ذلك التقاسم. وهذا ما تدل عليه بوضوح كل التحليلات ذات العلاقة بالساحة اللبنانية، والتي يتم اختصارها بأن القوى السياسية المحلية ليست لديها قدرة على اتخاذ القرار بالحل، وإنما تنتظره من الخارج، والخارج لن يسمح بمروره، أو تمريره، إلاَّ في إحدى حالتين: الاتفاق على تقاسم الحصص على المستوى القومي العام، وإذا لم يحصل، وهذا من المحتمل حصوله، بسبب تناقض المشاريع الدولية مع المشاريع الإقليمية، والاختلاف ليس على الجوهر بمقدار ما يكون على توزيع الحصص، فسيكون الحل في لبنان مرحلياً يكمن في الاتفاق على إدارة الأزمة بشكل جديد كي لا تنفلت الأمور وتصل إلى مراحل تصعب السيطرة عليها.
ولهذا، يحدد المنضوون تحت خيمة هذا الإطار الجبهوي ثوابتهم القومية والوطنية على القواعد التالية:

1-على صعيد استقلالية القرار السياسي الوطني:
-إن تعميم وإجازة الاستقواء بالخارج ليست فيها أية مصلحة وطنية، بل من مصلحة الخارج أن يقوم باستغلال حاجة الأقليات للحماية لتمرير مصالحه على حساب مصالح لبنان، السبب الذي لأجله يجب أن يعلن الأطراف الجبهويون على أنهم يتفقون على رفض نظام الطائفية السياسية، الذي أثبت أنه من أهم العوامل الذي يعمم ثقافة مشروعية الاستعانة بالخارج واستسهال تطبيقها. وإلى أن يتحقق هذا الغرض يرون بأنه لا يجوز السكوت على كل تجاوز للقرار الوطني المستقل وربطه بعجلة الخارج. ويجوز اتهام كل من يرهن قراره للخارج بأنه يمارس ما يتناقض مع المصلحة الوطنية، وإنه من غير الجائز قانونياً أن يتم تشريع التعاون مع الخارج بأي شكل من الأشكال. وفي ذلك مهمة ملحة يُعتبر السكوت عنها خطير خاصة إذا تجذَّرت في ثقافة الشعب اللبناني لأنه يتنافى مع النصوص القانونية التي تحيل إلى المحاكم المختصة كل من يتعاون مع الخارج لأي سبب كان.
-ولأن نظام الطائفية السياسية يهدف إلى ضمان مصالح النخب الطائفية، يعلنون أن الانتماء إلى الطائفة لا يجوز أن يكون بديلاً للانتماء إلى الوطن، وأن لا تكون مصالح النخب السياسية في الطوائف بديلاً لمصالح الأكثرية الساحقة من قواعد تلك الطوائف.
-كان إغداق المال السياسي على الأطراف المتصارعة في لبنان من آخر ابتكارات الاستقواء بالخارج، وكان لهذا العامل، وسيكون له نتائج غاية في الخطورة على مستقبل الحياة السياسية فيه، لأنه من العوامل التي تشوِّه الثقافة الشعبية، وبخاصة ثقافة الشرائح الاجتماعية الأكثر فقراً، وهي الأكثر انشداداً لطائفيتها على حساب وطنيتها، والأكثر حاجة لتسد رمقها بإغراءات المال السياسي. وقد ظهرت تأثيراتها بشكل خاص في الانتخابات النيابية السابقة، كما ظهرت وتظهر بوضوح على رزمة التحركات الشعبية والتحركات الشعبية المضادة التي قادها التياران: ما يُسمى بالموالاة، وما يُسمى بالمعارضة، على الساحة اللبنانية طوال أكثر من سنتين، وهي تلك التي أطلق عليها منظموها مصطلح (التظاهرات المليونية). ولأن الإنفاق على مثلها يفوق قدرة الطرفين المتصارعين، لا يمكن أن تمر من دون وضع أكثر من علامة استفهام عن مصدرها وأغراضها وأهدافها.

2-على صعيد الاقتصاد الوطني:
-يعلن الأطراف الجبهويون رفضهم لكل أنواع التحول الاقتصادي الذي تعمل الولايات المتحدة الأميركية على تصديره إلى لبنان، كأنموذج لأمركة الاقتصاد العربي، لأن الاقتصاد بشكليه الوطني والقومي سيكون خاضعاً لنظام الشركات الرأسمالية ومصالحها. وقد أثبتت وقائع الأمور أن تلك السياسة تقود الاقتصاد اللبناني باتجاه خصخصة المرافق العامة، وقد نشأت بالفعل طبقة من السياسيين اللبنانيين يتم إعدادها لتكون واسطة العقد بين الدولة اللبنانية والشركات الأجنبية العملاقة. وهي الطبقة التي أصبحت بارزة وواضحة المعالم، وقد ربطت مصير مصالحها بتلك التحولات.
-يعلنون أنهم بصدد صياغة مشروع إصلاح اقتصادي وطني، على أن يأخذ بعين الاعتبار علاقته بالعمق الاقتصادي القومي العربي، وعلى أن تربطه اتفاقيات مع الدول غير العربية بما لا يتعارض مع ثابت تعميم الاقتصاد القومي.

3-ترابط بين الأمنين الوطني والقومي:
-يعلن الأطراف الجبهويون رفضهم لكل أنواع الأمن وأشكاله التي تعمل من أجل حماية وجود الكيان الصهيوني، وخاصة عندما يكون على حساب حماية الأمنين الوطني والقومي. وتلك المسألة أصبحت من معالم الخطة الأميركية والصهيونية المعلنة. وخشية من أن يرتبط الأمن الوطني اللبناني والأمن القومي العربي بعجلة أخرى وهي العجلة الإقليمية، أي أن على لبنان أن يحرص على الأمن الإقليمي ولا يجد حرصاً إقليمياً مماثلاً على أمنه، أصبح من واجب الأطراف الجبهويين أن يعوا تلك الحقيقة ويعملوا من أجل رفض أي مساومة بين الإقليم المجاور للوطن العربي وبين المشروع الأميركي والصهيوني على توظيف أمن لبنان والأمن القومي العربي لوضعهما في خدمة الأمنين الدولي والإقليمي. وفي هذا الإطار، ومع السعي لتوحيد الجهد الوطني اللبناني مع الجهد القومي العربي مع الجهد الإقليمي لمواجهة التناقض الرئيسي المتمثل بالمشروع الأميركي والصهيوني، أن يعمل الأطراف الجبهويون من أجل ضم الإقليم إلى منظومة لبنانية ذات عمق عربي، لتوحيد معركة المواجهة مع التناقض الرئيسي على كل الساحات العربية. ولا يتم استثناء أي ساحة منها.

ثالثاً: على صعيد الهيكلية التنظيمية:
تعتبر الأطراف المشاركة أن العمل الجبهوي يقوم على المبادئ التالية:
-التكافؤ في الأدوار والفرص والاحترام المتبادَل.
-الثوابت القومية والوطنية كلٌّ متكامل.
-بناء الخطط المرحلية على قاعدة عدم تناقضها مع الثوابت.
-التعاون والتنسيق المرحلي مع كل القوى والشخصيات المعنوية، بما لا يتناقض مع رؤاها الخاصة لكل مرحلة، أي بما تسمح لها إمكانياتها، ولوائحها الداخلية وخططها على الصعيد الوطني اللبناني، بممارسته. ولهذا لا تحول خططها على الصعيد الوطني اللبناني فقط دون مشاركة من لهم سقوف أعلى من المشاركة في خطط الجبهة المرحلية، ولكن على شرط أن لا تعلن رفضها لخطط السقف الأعلى للمشاركين الآخرين.
بناء على تلك الأرضية يعلن المجتمعون الهيكلية التنظيمية على الشكل التالي:
-قاعدة الطاولة المستديرة هي التي تعبر عن روحية تلك الهيكلية، لذلك يتم توزيع المسؤوليات: الرئاسة ونيابتها وأمانة السر ولجنة المتابعة المصغَّرة حسبما تقتضيه مصلحة استمرارية الجبهة وديموقراطية العمل فيها.

رابعاً: على صعيد البرنامج المرحلي القومي:
إنه مهما بلغت سقوف الاحتقان الشعبي في لبنان ضد المرحلة السابقة، بما حملت إليه من تجاوزات وأخطاء، يقع على عاتق الذين يعملون من أجل لبنان العربي، أن يجهدوا من أجل احتواء الاحتقان، لأنه تحول إلى مستوى ردود فعل خطيرة، يعمل الطرفان: الأميركي والإقليمي، على الاستفادة منها من أجل التحريض ضد كل ما هو عربي، وهذا ليس بالمستغرب، لأن أياً منهما لا يحمل الود لقضية الأمة العربية في الوحدة والتحرر.
لقاء ذلك، ولأننا لا نرى مصلحة لبنان خارج دائرة مصير الأمة العربية ومستقبلها، و على الرغم من التقصير واللامبالاة في أداء النظام العربي الرسمي، الذي وصل إلى حدود التآمر على القضايا العربية الأكثر سخونة: لبنان وفلسطين والعراق، نرى في المقابل أن أي جهد يُبذل من أجل إعادة تصحيح صورة المسألة القومية التي تم تشويهها نتيجة سلوكات كثيرة خاطئة، هو جهد ضروري، على كل من يعمل من أجل تأسيس إطار جبهوي قومياً ووطنياً أن يولوه العناية والاهتمام الكافي على صعيد الفكر والسياسة. على أن يتم ذلك بعيداً عن كل عوامل الانفعال والتشنج، ولذلك نرى ما يلي:
1-تنشيط الرؤية القومية العربية وتفعيلها بكل الوسائل المتاحة على قلتها. وعلى شتى الصعد الاستراتيجية، من تحررية واقتصادية وثقافية وإعلامية. على أن يكون التنشيط والتفعيل قائماً على رؤية استراتيجية غير محكومة بالعلاقات بين الأنظمة الرسمية، بقدر ما هي رؤية توحيدية شعبية تقوم على وحدة المصير العربي في مواجهة المخططات التي تعمل على تفتيت تلك الجهود من أجل أغراض تقسيمية سياسية وإيديولوجية.
2-الرد على خطاب الهزيمة الذي لا تزال أوساط سياسية، ومنها ممن هم من المحسوبين على حركة التحرر العربية، تروِّج له، بشكل مقصود أو غير مقصود، من أجل محاربة الفكر القومي وحركاته السياسية. والبديل عن ذلك، كما نرى، هو الانتقال إلى نقد موضوعي يساعد تلك الحركات على الاستفادة من أخطاء الماضي، وبما يساعدها على إعادة تفعيل دورها، وليس استخدام النقد أسلوباً من أجل زرع اليأس في نفوس الجماهير الشعبية.
3-إذا كانت مسؤولية الهزيمة تتحملها الأنظمة الرسمية العربية، فإن البديل الشعبي كان مستنداً إلى استراتيجية المقاومة الشعبية المسلحة، وهي الاستراتيجية التي ارتقت بها الحركات السياسية إلى مستوى النصر، وبها أزالت الجماهير العربية وصمة هزيمة لا تتحمل مسؤوليتها.
وإذا كانت مقاييس الأمور قد تبدَّّلت، بانتقال الفعل التحرري من أيدي الأنظمة إلى أيدي الجماهير، السبب الذي أدى إلى انتقال الشعب العربي إلى مستوى الانتصار على آخر مبتكرات التكنولوجيا الغربية، فمن المسائل الأكثر ضرورة أن تكون برامج المقاومة المسلحة بديلاً لخطاب الهزيمة، وعليها أن تشكل ثقافة العصر للجماهير العربية.
4-ولما كانت تلك المقاومة قد قلبت موازين القوى في الصراع وفي النضال التحرري، يصبح من الضروري أن تنتقل إلى ثقافة أساسية، تجري جنباً إلى جنب مع الجهد الذي على حركة التحرر العربية أن تبذله من أجل البدء في حالة حوارية بين المقاومات المعلنة في فلسطين ولبنان والعراق.
و على الرغم من أن هناك نقاط تلاقٍ عديدة بينها، فهناك أيضاً نقاط افتراق. ومن دون الخوض بتفاصيلها، وهو واجب القوى والحركات القومية أن تعالجه، أو تلك الحركات التي تؤمن باستراتيجية المقاومة، أن تعقد طاولات حوارية تدعو إليها الفصائل التي تمارس الفعل المقاوم، وإذا تعثَّر ذلك لسبب أو لآخر، ولم يكتمل حضور ممثلين عنها فيمكن أن تنعقد تلك الطاولات بمن حضر من المقاومين أو من الداعمين، وتعلن ما تتوصَّل إليه من نتائج.
إن الدعوة إلى التوحيد، تحول دونه صعوبات، يأتي في أولوياتها العامل الإيديولوجي، وعموده مدى القرب أو البعد عن الأرضية الوطنية والقومية. ونحن نرى أنه من دون تلك الأرضية سيكون الحوار من دون جدوى، إلاَّ أن ذلك لا يجوز أن يحول دون متابعة جادة، حتى لو اقتضى الأمر أن تكتفي نواة الحوار في مراحلها الأولى بمعالجتها على صعيد نظري، ونرى أن تلك البداية ستشكل النواة التي تكبر مع الزمن.

خامساً: على صعيد البرنامج المرحلي الوطني:
إذا كانت الثوابت القومية قاعدة استراتيجية لأي ثوابت قومية، خاصة بكل ما له علاقة بالأمن القومي في مواجهة المشاريع الدولية والإقليمية ذات الأهداف الخاصة، فإن ذلك لا يجوز أن يحول دون الاتفاق على كثير من القضايا ذات الخصوصية اللبنانية.
وعلى هذا الأساس، يحضرنا التذكير بأهم مفاصل البرنامج اللبناني الوطني، وهي بنية النظام السياسية، وبنيته الاقتصادية. وعن هذا الأمر نرى من المفيد وضع برنامج إصلاحي يراعي طبيعة البنية الثقافية الشعبية، ومن شروطه أن لا يصطدم مع تلك الثقافة، ولكن على أن لا يستسلم لها.
1-على صعيد بنية النظام السياسي:
إن إلغاء نظام الطائفية السياسية أصبح من بديهيات الأمور، التي ثبتتها أدبيات القوى والأحزاب والحركات اللبنانية وخطابها الوطني. كما لم تستطع القوى السياسية المستفيدة من واقع بنية النظام الراهن أن تتنكر لها. لكن تلك البنية لا يمكن الانقلاب عليها بسرعة، وبقدرة ساحر، بل هي مثل كل الظواهر الاجتماعية السياسية تخضع لقانون التطور التدريجي، ولا يمكن لوسائل عملية التغيير أن تكون سليمة إذا لم تبدأ في الحفر في أساسيات الثقافة الشعبية.
يتحمل مسؤولية تكوين نظام الطائفية السياسية، واستمراريته، عقد اجتماعي سياسي بين طرفين: زعماء الطوائف، سياسيين ودينيين، والقاعدة الشعبية التي ترى واهمة أنه في حماية حدود الطوائف حماية لها.
ولهذا فقد تجذَّرت تلك الثقافة في اللاوعي الشعبي، وقام بتعميقها وتجذيرها الزعماء لأنهم المستفيدين من استمراريتها، وغالباً ما تعفيهم تلك الثقافة من عامل الأهلية السياسية والأخلاقية والمهنية التي توجبها مسألة تمثيلهم للشعب في مؤسسات الدولة. وبها تتراكم أوراق ورثة الزعامات التقليدية أباً عن جد.
لكل هذا نرى ما يلي:
أ-تعميم الثقافة الوطنية كبديل للثقافة الطائفية. أي باعتبار الانتماء للطائفة خياراً روحياً له خصوصيات فردية، بينما الانتماء للوطن له خصوصيات اجتماعية وسياسية حقوقية، لا يمكن لأبناء الوطن الواحد، من كل التعدديات الطائفية، من أن يسلكوها. وهذا من الجوانب الجديرة بالعناية والمتابعة، ويستأهل أن تُوظَّف له وسائل إعلام الفصائل الجبهوية، من صحف ومجلات ونشرات داخلية، أو شعبية، وندوات ومحاضرات، وطاولات حوار، وغيرها...
ب-العمل من أجل تعميم ثقافة القوانين الانتخابية، ومدى أهميتها في فتح الأبواب أمام ممثلين للتعدديات السياسية في الوصول إلى البرلمان. لكن ذلك لا يجوز أن يكون هدفاً بحد ذاته، بل تكون أهدافه فتح نوافذ إعلامية جديدة أمام الصوت الوطني.
مع القناعة بأن وصول هذا الصوت إلى البرلمان تحول دونه صعوبات عديدة، من أهمها أن العمق الشعبي، في ظل القوانين الانتخابية الراهنة، يخضع لهيمنة كارتلات الطوائف وتجمعاتها وتبادل المصالح الانتخابية مع الكارتلات الطائفية الأخرى.
ج-من العسير أن توفر جهود مجموعة من القوى والحركات والأحزاب مستلزمات خوض معركة انتخابية، خاصة في مواجهة المال السياسي، فكيف يكون الأمر لو انفردت أية قوة أو حركة أو حزب بخوض تلك المعركة؟
لكن أرضية إرادة التغيير لم تكن مفروشة بالورود في يوم من الأيام.
2-على صعيد بنية النظام الاقتصادي:
تاريخياً، تحولت بنية النظام الاقتصادي في لبنان من بنية إقطاعية إلى بنية خدماتية استهلاكية، وتشهد اليوم بنية أشد خطورة وهي توظيف المال السياسي من أجل بناء طبقة سياسية في لبنان لخدمة اقتصاد الأمركة.
لقد ابتدأ بناء هذه الطبقة منذ أوائل الثمانينيات، ووصلت إلى السلطة في أوائل التسعينيات، وابتدأت بتنفيذ أجندة اقتصاد الأمركة منذ ذلك التاريخ ولا تزال.
إن من أهم ما يمكن أن تبتدئ به القوى المنضوية في أي تجمع وطني، هو أن تخوض تجربة النضال على خطين:
-الخط المرحلي الساخن: لأن أكثرية الشعب اللبناني التي تنحدر باتجاه دوائر الجوع والمرض والتجهيل، لا تنتظر طويلاً، لا بدَّ من أن تبتدئ هذه القوى بمتابعة كل مشاكل الشعب الاجتماعية والاقتصادية ورصدها، وإثارتها على شتى المستويات والصعد: إعلامياً، وحركات احتجاجية، وندوات شعبية...
-والخط الاستراتيجي: وهو الأهم، وحيث إن تحويل اقتصاد لبنان إلى اقتصاد مؤمرك يسير بخطى ثابتة من دون عوائق أو حواجز. ولأنه يتم بتنفيذ فعلي من قبل النخبة السياسية والاقتصادية ذات التأثير على صعيديْ الحكم والمؤسسات الاقتصادية، وبسكوت وصمت فعلي من قبل الأوساط المعارضة، يضع على عاتق القوى الجبهوية أن تعتني بهذا الجانب من عدة زوايا:
-القيام بدراسات اقتصادية تكشف خطورة هذا التحويل.
-عقد ندوات وطاولات حوار، يتم تعميم مضامينها ونشرها.
وأخيراً، نرجو أن يكون ما قمنا به، في هذا المقال، فاتحة ورشة حوارية على صفحات طليعة لبنان الواحد، وتستقبل (الطليعة) كل وجهات النظر التي تردها من أجل نشرها تباعاً.


(33): في معركة البدائل بين المقاومة والاحتلال
توحيد فصائل الجهاد والتحرير قوة حاسمة في الرد على قرار تقسيم الكونغرس الأميركي للعراق
افتتاحية طليعة لبنان الواحد/ العدد منتصف تشرين الأول 2007
اعترف أكثر من مسؤول أميركي، عسكري وسياسي من مؤيدي إدارة جورج بوش، ومن خارج تلك الإدارة، أن المقاومة الوطنية العراقية تتميز بحيوية فائقة في تغيير وسائلها التكتيكية والتجديد فيها بما يتناسب مع متغيرات تكتيكات الاحتلال الأميركي.
كما اعترف هؤلاء أن المقاومة، كما هي قادرة على الرد على كل ما هو عسكري جديد، فهي قادرة أيضاً على الرد سياسياً على كل ما هو جديد من متغيرات سياسة الإدارة.
وبالإجمال فإنه بعد تقريريْ كروكر باتريوس، فقد تولَّدت عند الإدارة قناعة غير معلنة بأن مشروع الاحتلال سائر باتجاه الهزيمة إذا لم يكن يتخبط في وحولها. ففتحت ملفاً من ملفاتها النائمة في الأدراج، وهو الملف الذي أعدت له الإدارة مستلزمات تطبيقه في شمال العراق منذ بداية الاحتلال. ومن أهم دعاماته: هدف انفصالي كردي، ومساعدات صهيونية كبيرة متعددة الجوانب، وحماية عسكرية وسياسية أميركية. ودفعت أحد أركانها من الجمهوريين الصهاينة لتقديمه للكونغرس الأميركي الذي واقف عليه بأكثرية ساحقة، كشف فيها عن الوجه القبيح للحزب الديموقراطي المؤيد بحماس لكل طلب صهيوني.
إن من أهم دلائل الهزيمة الأميركية، التي كشف عنها إعلان تقسيم العراق، هو أن إدارة بوش لم تكن لترضى بشمال العراق وحده لو أنها استطاعت ابتلاع العراق كله. ولذا فقد رمت بهذا المشروع، كاختبار لردود الفعل، ومن أهم تلك الردود هو تحفيز جديد لعملائها ببذل الجهد من أجل إجراء وهم مصالحة وطنية من جانب، وتوفير قوى عميلة تتولى أمن قوات الاحتلال وتخفيض خسائرها بالأرواح من جانب آخر.
كما كانت كل حسابات الإدارة، منذ احتلال العراق حتى الآن، خاطئة. وهي قد بلغت الآلاف كما اعترفت كوندوليزا رايس بذلك، وهي الآن أيضاً قد أخطأت الحسابات في الكشف عن نواياها الحقيقية في إعلان تقسيم العراق، ظناً منها أنها ستنجح في مشروعها الجديد.
لم تحسب الإدارة يوماً أن قرار احتلال أرض له جناحان: جناح الاحتلال وجناح المقاومة، فهي قد طارت على جناح واحد: النصر الحتمي للاحتلال، وتجاهلت الجناح الآخر. وهي وإن كانت قد حسبت للمقاومة حساباً فإنما اعتبرت أنها قد تنطلق من قبل فلول متضررة بموقعها السياسي، أو الوظيفي، أو المعيشي، ولهذا حسبت أنها ستشتري هؤلاء بما يسد حاجاتهم المادية. ولهذا فقد دخلت اللعبة في العراق المحتل من بوابة حساباتها، وتناست أن للمقاومة أهدافاً أخرى لا علاقة لها بالجوانب المادية، وإنما يأتي الشعور بالسيادة الوطنية الذي لا يسبقه شعور آخر، في أساسيات الدفاع عن الأرض، أو تحريرها إذا وقعت تحت الاحتلال.
أما وقد أعلنت الإدارة قرار تقسيم العراق، فإنها قد وقعت في حسابات خاطئة أخرى، لأنها ليست هي صاحبة الحق بذلك، ولا هي أيضاً من يستطيع تنفيذه. فلتقسيم العراق شروط لا يمكن تمريره إلاَّ عبرها، ويأتي الإجماع الشعبي العراقي في المقدمة منها.
لقد حاولت إدارة الاحتلال منذ وطأت أقدامها أرض العراق أن توحي بأنها قامت بما قامت به مساعدة للعراقيين في التخلص من الحكم الوطني لحزب البعث العربي الاشتراكي. بينما لم يكن هؤلاء الذين ساعدتهم إلاَّ حفنة من العملاء والخونة، وهم لا يمثلون شعبهم العراقي على الإطلاق لأن من يتآمر على بلده، ويخونه، فإن صفة المواطنة تسقط عنه لأسباب أولها أخلاقي وثانيها قانوني وشرعي. لكنها حاولت تزييف وجوههم بشتى المساحيق الدولية والأممية، ومسرحيات تلوينهم بشرعية شعبية ودستورية من أجل الحصول منهم على تواقيع تقسيم العراق تحت صيغة دستور مزيَّف. وعلى الرغم من كل ذلك، فقد سقط مشروع الاحتلال وهو يقف على أبواب الهزيمة النهائية، التي لن تجملها مزاعم جورج بوش بالنصر.
أما اليوم، وقد اختار الكونغرس الأميركي، قرار تقسيم العراق، لكي يحصل منه على حظ بالبقاء في شماله، فإنه هذه المرة كان قراراً غير محمي دولياً وعراقياً، بخاصة وقد انفضَّ عن حماية الاحتلال أكثر الدول التي ساندته بداية وما فتئت أن انفضت عنه، ولعلَّ الحليف البريطاني هو المثل الصارخ على ذلك. كما أن هذا القرار لم يلق، ولن يلقى، تأييداً من عدد من عملاء الاحتلال الذين انخرطوا معه وقاوموا بحمايته سياسياً وشعبياً، ومن أهمهم أولئك الذين زعموا أنهم يمثلون وسط العراق وغربه. ولعلَّ الحزب الإسلامي العراقي، وبعض رؤوساء العشائر في الأنبار هو المثل العراقي الواضح.
على الرغم من اتساع مساحة المؤيدين الدوليين في بداية الاحتلال، التي ضاقت بعد مرور أربع سنوات إلى درجة طوقت إدارة بوش بخناق قاتل. وعلى الرغم من اتساع مساحة المؤيدين العراقيين قبل الاحتلال أيضاً، التي ضاقت في هذه المرحلة، وتضيِّق الخناق على تلك الإدارة.
وعلى الرغم من مساعدة الأنظمة العربية الرسمية للاحتلال، فإن رقعتها تضيق الآن، ويشتم المراقب لحركتها روائح التململ، ويسمع دقات قلوب رؤسائها من الخوف، بعد أن تهاوت أحلام الاحتلال، وبعد أن انتشرت روائح تقسيم العراق، وعبأت أجواء تلك الأنظمة التي راحت تعمل لإبعاد حبل مشنقة التقسيم عن رقابها.
وعلى الرغم من أن بعض دول الجوار غطست في مؤامرة الاحتلال الأميركي، وفي مؤامرة تقسيمه أخذت تحس بلدغات جمر تقسيم المنطقة، ومنها تكريس الانفصالية الكردية.
على الرغم من كل ذلك، أي على الرغم من أن تلك الأطراف قد وقفت عاجزة عن توفير النصر للاحتلال الأميركي، أو توفير عوامل إنقاذه، فهل يستطيع بمساعدة الصهيونية وحدها، ومساعدة الأكراد وحدهم، أن يضمن النجاح لمشروع تقسيم هزيل بالكاد يستطيع المتفقون عليه أن يحموا أنفسهم في العراق؟
لقد أثبتت المقاومة العراقية، منذ بداية الاحتلال، وفي ذروة قوته الذاتية، وذروة التأييد الدولي والعربي، كما في ذروة التأييد العراقي، أنها قادرة على إفشاله، وقد أفشلته بالفعل. فهل تعجز المقاومة عن إفشال ذلك المشروع، خاصة وقد تكاثر رافضوه، وبهذا الرفض قلَّ نصير الاحتلال، وتكاثر نصير المقاومة؟
لم يبتهج جورج بوش طويلاً في انتصار مشروعه في الكونغرس، ولم يهنأ بتغيير تكتيكه السياسي الجديد، لأن جواب المقاومة جاء سريعاً في إعلان توحيد الفصائل المقاتلة تحت صيغة جبهوية (القيادة العليا للجهاد والتغيير)، التي ضمت عشرات الفصائل الوطنية والقومية والإسلامية، بثقلها الشعبي الذي يتوزع من جنوب العراق إلى شماله، ومن شرقه إلى غربه، متجاوزاً الفرقة الطائفية والعرقية، مؤكداً ثوابته في تحرير العراق تحريراً كاملاً وناجزاً، من الاحتلال الأميركي وغيره ممن أعلن استعداده لأن يملأ الفراغ الأمني والعسكري والسياسي الذي سيتركه الاحتلال الأميركي قريباً.
إن وضع مستقبل العراق، هو أمانة بيد المقاومة الوطنية العراقية، كونها الممثل الشرعي والوحيد للشعب العراقي، وعلى كل من لديهم حسابات أخرى، فستكون حسابات خاطئة، وعليهم أن يصححوها قبل فوات الأوان.
وإن مقاومة تتميز بالوضوح الاستراتيجي، والثبات الثوري، والحيوية في ممارسة مهماتها، ستكون جديرة بإعادة الوجه الوطني للعراق، موحداً سيداً عربياً.

(34): تداعيات الأزمة التركية – العراقية
تبدد أوهام جورج بوش بالنصر في العراق
وتُحكم حبل المشنقة على رقبته
حسن خليل غريب: شبكة البصرة 26/ 10/ 2007
يُخيَّل لرئيس الإدارة الأميركية أنه لا يزال إمبراطوراً على العالم، بينما الواقع أن العالم، ومن ضمنه أصدقاء إدارته، يعلنون سخريتهم من أضغاث أحلامه.
ليس من احتل العراق على صهوة انتصاراته في يوغوسلافيا سابقاً، وأفغانستان بعدها، هو كمن سيخرج منه. احتلت إدارة جورج بوش العراق طامعةً بثرواته، واعدة الشعب الأميركي، على لسان رامسفيلد، وزير دفاعها المرغم على الاستقالة، بأنه سيعوم على بحور آبار النفط العراقي وينعم بخيراتها. كما وعدت الشعب الأميركي بأن أبناءه من الجنود سيعودون أبطالاً إلى أميركا يروي الأبناء للأحفاد ما حققته بلادهم من انتصارات وبطولات على أرض الرافدين. إنتصارات ستُضاف إلى انتصاراتهم القديمة في الاستيلاء على أرض الهنود الحمر، وترتفع تلال تلك الانتصارات حتى تتسع لأقدام الإمبراطور الجديد الذي سيحكم العالم بحيث لا تفلت غيمة في السماء قبل أن تمطر الخيرات في خزائن أميركا.
ليس منظر جورج بوش، الذي قرَّر غزو العراق من دون تفويض من مجلس الأمن، بمساعدة طوني بلير، حاكم بريطانيا، وأزنار حاكم إسبانيا، وتأييد مطلق من جون هيوارد حاكم أوستراليا، وحاكم إيطاليا، وغيرهم كثيرون. لقد خرج من مؤتمره معهما قبل غزو العراق معلناً بشرى نهاية آخر نظام وطني في العالم يتمرد على قراراته ويرفض بركاته، أما منظره الآن، بخاصة وقد ثأر البريطانيون من حاكمهم التابع لمتبوعه بوش، وثأر الشعب الإسباني من حاكمهم التابع لمتبوعه إمبراطور أميركا، وهكذا فعل الشعب الإيطالي، فأشد ما يكون تعاسة، وهو يرى المقاومة العراقية تذرو أحلامه في مهب رياح أرض الرافدين.
منظر جورج بوش يتأزم يوماً أكثر من اليوم الذي سبقه، بخاصة وقد انتقل من موقع الآمر الناهي، إلى موقع التسول على أبواب من يستطيع إمداده ببصيص أمل حتى ولو كان خادعاً للإمساك بأحلامه وآماله وتاجه المفقود.
جردة حساب بسيطة، تبرهن على أن رئيس الإدارة الأميركية هائم على وجهه وقد فقد السيطرة حتى على حزبه الجمهوري نفسه، ولن نقول حلفاءه لأنهم قرفوا من مغامراته البهلوانية ووعوده العرقوبية.
فلنبدأ من النهاية، أي من المشهد الراهن، لعلَّ فيه ما يختصر أزمة الإدارة الأميركية:
إن تركيا، حليفة الولايات المتحدة الأميركية منذ سبعين عاماً، تقف في مواجهة جدية ضدها، وقد حشدت جنودها، مدعمة بقرار شعبي تركي عازم على تقويض آخر ما تبقى من نتائج احتلال العراق.
إنها أزمة ليست كالأزمات السابقة، ومأزق ليس كالمآزق السابقة، فهي تتميز بحزم وعزم تركي عنوانه لا يمكن أن يتغير أو يتبدل، لأنه واحد من حليَّن لا ثالث لهما: إما سيادة تركيا على أرضها الوطنية من دون تهديد انفصالي كردي، أو ترك هذه السيادة سائبة تتلاعب فيها استراتيجية الإمبراطور الأميركي الذي يستعجل تقسيم المنطقة عامة، والوطن العربي بخاصة.
عرفت تركيا مبكرة خطورة تداعيات احتلال العراق، وإسقاط سيادته، على الوضع التركي وسيادته، فأحبطت استخدام الأرض التركية، في أواخر آذار من العام 2003، ممراً لقوات الغزو الأميركي تجاه العراق، وهو السبب الذي أربك خطة قادة البنتاغون في حينه. وإن كان الأميركيون قد التفوا عليها ببدائلهم الماكرة، إلاَّ أن هواجس تركيا ومخاوفها على سيادة بلدهم لم تبددهما تداعيات ما بعد الاحتلال وإنما العكس هو الذي حصل، خاصة عندما استمرأ الانفصاليون الأكراد لذة طعم (دويلتهم في شمال العراق) مدعومة بالتحالف الاستعماري الصهيوني، مما أثار شهية حزب العمال الكردستاني التركي، فنشط بشكل ملحوظ بعد احتلال العراق. الأمر الذي وجد فيه الأتراك الحبل يضيق على رقابهم خوفاً من تداعيات إعلان أميركا خطة تقسيم العراق، تلك الخطة التي تعني عملياً تقسيماً للمنطقة كلها، وتقع في القلب منها الدولة التركية ذات العشرة ملايين كردي الجاهزين للاستقواء بمشروع الشرق الأوسط الجديد من أجل إنجاز أهدافهم الانفصالية.
نتيجة ذلك، لا نرى في القرار التركي في ملاحقة مقاتلي حزب العمال الكردستاني خبطة تكتيكية، بل هو قرار استراتيجي عنوانه الرئيس حماية السيادة التركية على أراضيها، ولا يمكنها أن تضمن ذلك بأقلّ من إعادة توحيد العراق. كما أن هذا القرار يعني مواجهة حادة وجدية مع مركزية القرار الأميركي – الصهيوني، لا تنتهي مفاعيله بتسوية أو تهدئة مؤقتة، بل له علاقة وثيقة بمواجهة أي تخطيط تقسيمي لأي دولة من دول الجوار الجغرافي لتركيا. وعلى هذا الأساس اعتبر الأتراك ان قرار الكونغرس الأميركي ليس موجهاً للعراق وحده، بل خطره يطال تركيا أيضاً.
لم تخلخل الخطوة التركية، عندما قررت ملاحقة مقاتلي حزب العمال الكردستاني، قواعد مخطط الاستيلاء على العراق، وإنما جاءت لتساعد على تهديمه بعد أن خلخلت المقاومة الوطنية العراقية ذلك المخطط، ودفعت بالإدارة الأميركية لتختار المتاح مما بقي لها من خيارات. وكان ذلك المتاح هو الكشف عن تصغير المخطط الأساس، في الاستيلاء على العراق كاملاً غير منقوص، وتقليصه إلى حجم حماية دويلة كردستان، تحت تواطؤ كردي، وإسناد صهيوني، وجعلها بقعة آمنة لما سوف تبقيه الإدارة من جنود في العراق بعد انسحابها منه عاجلاً أم آجلاً.
فإذا راهنت تركيا في السابق، بامتناعها عن تأزيم الأمور مع حكومة العراق المحتل وإيصالها إلى الدرجة التي عبَّر عنها البرلمان التركي والشعب التركي في الآونة الأخيرة، فإنما السبب يعود إلى أن العراق الذي قُسِّم بمسرحية دستورية أميركية، لن يصل إلى حدود انفصال فعلي لشماله، وإنه سيكون كله عملياً محكوماً ومُداراً من قبل الأميركيين، الأمر الذي يُبقى أي هدف كردي في جنوب تركيا غير فاعل وغير خطير. هذا إذا لم تأخذ مخطط الشرق الأوسط الجديد على محمل الجد.
أما وأن الانسحاب الأميركي من العراق قد أصبح مسألة اختيار وقت وتوقيت مناسبين، خاصة وأن من أهم سيناريوهاته وأقربها للتنفيذ الأميركي، يقتضي فصلاً أميركياً فعلياً لشمال العراق، ففيه ما فيه من الاعتراف العملي بانفصالية كردية عراقية ستتيح الفرصة لانفصالية كردية في جنوب تركيا، الأمر الذي سيعزز دور حزب العمال الكردستاني وستفتح شهيته إلى أقصى درجاتها في استمرار حرب عصابات ضد السلطات التركية من أجل الحصول على دولة كردية ثانية، تمهِّد أو تترافق مع العمل لقيام دولة كردية ثالثة في شمال شرق سورية، ودولة كردية رابعة في غرب إيران.
فإذا كان هم الإيرانيين الآن، وسكوتهم على ما يجري، من قبيل السكوت للحصول على فيدرالية في جنوب العراق، فإن الانفصالية الكردية، فيما لو استقر الوضع لمصلحة استمرار دويلة كردستان العراق، لن توفِّر في المستقبل الأمن في الداخل الإيراني، حتى لو بعد حين.
لقد استباح المشروع الأميركي بعد أن احتل العراق سيادته الوطنية، وهي المدخل الرئيسي لاستباحة وحدة الدول المجاورة للعراق، وبالتالي استباحة سيادتها.
فإذا كان قرار تقسيم العراق عنواناً عاماً في قرار الكونغرس، فإنه يُعتبر مدخلاً أساسياً لتبرير استمرار دويلة كردستان. وهي تأتي كأمل أخير في الاحتفاظ بموقع قدم أميركية في تلك الدويلة بعد الانسحاب.
وإذا كانت الانفصالية الكردية، في مشروع الكونغرس الأميركي، تبدو وكأنها قطعة مقطوعة الجذور عن غيرها من الانفصاليات الأخرى، داخل العراق وفي دول الجوار، فهذا ليس إلاَّ تعمية لمخاطر تلك الانفصاليات، وهي تمهيد عملي واعتراف غير مباشر بها، فهي تمرير لمشروع الشرق الأوسط الجديد الذي أقرته الإدارات الأميركية السابقة. ذلك المشروع الذي لم يبق مشروعاً وإنما وُضع على سكة التنفيذ، وقد أطلق الكونغرس الأميركي رصاصة البدء به، وتلك مسؤولية لا يتحمل الحزب الجمهوري أوزارها لوحده، وإنما أميركا مجتمعة تتحمل تلك الأوزار، فلولا موافقة الحزب الديموقراطي الأميركي على إقرار مشروع تقسيم العراق لما كُتبت له الحياة.
لقد كان الموقف التركي هو الأنموذج العملي لما كان على الدول العربية المهددة كياناتها السيادية بالتقسيم، أن تقفه، وعلى الأقل تلك الدول التي تحيط جغرافياً بالعراق. وإذا كان الموقف التركي محكوماً بسقف الحؤول دون قيام دولة كردية في شمال العراق، فإن المخطط التقسيمي لكل العراق يُعتبر المكمل له، والمترافق معه، بحيث يعيشان معاً، أو يجب أن يموتا معاً.
ذلك المخطط يشمل انفصاليتين:
-جنوب العراق الذي يُصر ما يُسمى بـ«المجلس الأعلى للثورة الإسلامية»، وحزب الدعوة، على قيامه، وكلاهما مدعومان من إيران.
-ومشروع انفصالية وسط العراق الذي أعلنت عنه بعض الفصائل، التي تنسب نفسها إلى المقاومة الإسلامية في العراق، وأطلقت عليه اسم «جمهورية العراق الإسلامية»، وهذا يحمل أكثر من بصمة مشبوهة لأنه يعطي مبرراً لانفصاليتيْ جنوب العراق وشماله، ويُخشى أن يكون مدعوماً من السعودية ودول الخليج العربي.
إن تكامل المشاريع الثلاثة، وترابطها، يعنيان أن الموقف التركي يعالج الجزء من المشروع الأكبر، وستبقى معالجته قاصرة وضعيفة، ومن دون فائدة، إذا لم تتم معالجة المشروع، بأجزائه الثلاثة كرزمة واحدة. وفي هذا الإطار لا يجوز أن تتعاون سورية مع تركيا من أجل إفشال خطوة شمال العراق التقسيمية فحسب، وإنما هي معنية بمفاتحة إيران من أجل معالجة داء الانفصالية في الجنوب أيضاً، وهي مدعوة للعمل والتنسيق مع دول الخليج العربي، خاصة السعودية لمعالجة الأجزاء الأخرى من مشروع التقسيم.
يجب أن تفتح موافقة الكونغرس الأميركي، وهي لم تكن لتحصل إلاَّ لأن تقسيم العراق أصبح قيد التنفيذ، البوابة واسعة أمام كل العرب من أجل اتخاذ مواقف جريئة وحاسمة، لأن الأمر تجاوز مزاعم الإدارة الأميركية بتخليص تلك الأنظمة من ديكتاتورية النظام الوطني في العراق إلى مرحلة التهديد الفعلي لسيادة تلك الدول ووحدة أرضها وشعبها.
وهنا، وحيث إن الحركة التركية كانت سبَّاقة في دق جرس الخطر، ولاقت استجابة سريعة من سورية، فإن هذا لا يعني أن الدول الأخرى، خاصة السعودية، تعيش حالة استرخاء وحيادية. وفي ظل غياب المعلومات الدقيقة عما يجري وراء كواليسها، إلاَّ أن استنتاج وجود مخاوف جدية عندها من خطورة تقسيم العراق، ليس بعيداً عن الواقع. فهل يجرأون على القيام بمبادرات وضغوطات للحؤول دون تعميق بؤر الخطر، التي كلما تعمَّقت، ستفرض على الجميع أن يدفعوا الكثير من التضحيات، بينما الإسراع في اتخاذ المواقف الواضحة فيه ما يوفِّر الكثير من الثمن الذي سيتم دفعه عاجلاً أم آجلاً.
قد ينخدع البعض بأن دخول الإدارة الأميركية على خط التهدئة بين تركيا وبين حكومة الاحتلال في العراق قد يحل المشكلة. ونحن لن نتوهَّم بأنها ستجد حلاً للمشكلة. فلحلها شروط ومن أهمها:
-تهدئة المخاوف التركية تمر عبر تراجع الكونغرس عن قراره أولاً، والتراجع عن التقسيم الدستوري الذي أقرته حكومة الاحتلال ثانياً.
-تراجع حزب العمال الكردستاني عن استراتيجيته في تكوين انفصالية كردية في جنوب تركيا.
فهل هناك حظ لتوفير تلك الشروط؟
إن الجواب حكماً استحالة ذلك. ولهذا السبب يكون النوم على حرير التهدئة نوماً أرقاً، ولن تكون التهدئة إلاَّ حقنة مخدر سرعان ما ينتهي مفعولها بعد شهر أو شهور، أو أكثر من شهور، ولكنها لن تصل إلى مستوى العلاج. وبهذا يكمن المرض ليظهر في أي لحظة يزول فيها أثر المخدر.
وهل تكون المعالجة الموضعية ناجعة؟
إن كل من يوافق على تقسيم العراق، فيديرالياً، كمن يخدع نفسه بتجميل المصطلحات، لأن القوى التي تحكم العراق الآن لا تحكمه بناء على أسس وطنية وسيادية. فالحكم الذي رسَّخ الاحتلال جذوره قائم على توزيع العراق إلى حصص طائفية وعرقية، أي أن مصلحة العرق أو الطائفة الحاكمتين في العراق المحتل، لها الأولوية على المصلحة الوطنية، حتى لو أدى الأمر إلى التقسيم، ففي التقسيم ما ينفع مصالح النخب في الطوائف والأعراق.
نتيجة احتلال العراق تقف المنطقة كلها اليوم على برميل من البارود لن تستطيع أحابيل جورج بوش وأكاذيبه لتطفئها، فقد أصبح مصير الجميع أمام خطر يدق أبوابها. فلو تشارك المتواطئون والخائفون والمحايدون ضد احتلال العراق لوفروا على العراق، وعلى أنفسهم، مؤونة المخاوف والمخاطر التي يعيشونها الآن. فلا يظنن أحد أنه سالم مما يجري، فلا أوهام إدارة بوش ستسلم ولا هم سيكونون سالمين. اما السبب فهو أن حكومة الاحتلال، التي يمثلها المالكي ومجاميع النخب المحيطة به، يأكل البعض منها بعضها الآخر، فهي مشروع لحروب داخلية لن تنتهي. كما أن الاحتلال ذاته ينحسر ويتساقط بانحدار سريع، ومشاريعه التي ينفذها متوهماً أنها ستنقذه، كمثل قرار الكونغرس، فهي تُدخله في مآزق أشد وأدهى. وإذا كانت الحالة التركية قد برزت على السطح، فإن بروز حالات أخرى قادمة لا محالة.
ونتيجة لكل ذلك، فلا يتوهمَّن أحد أنه يستطيع أن يدرأ المخاطر المحدقة بالعراق من كل الجهات والاتجاهات، من دون التعاون والتنسيق مع المقاومة الوطنية العراقية وبرامجها في تحرير العراق وتوحيده. فهي واضحة في خطتها السياسية والعسكرية بحيث تحفظ للعراق وحدته من خلال تنوعات تشكيلاتها وفصائلها، كما أنها تحتفظ لكل جوار العراق، من عرب وغيرهم، مصالحهم ووحدة أراضيهم وتضمن سيادتهم الكاملة على أراضيهم الوطنية.
فهل يلتقون معها في وسط الطريق قبل أن تزداد الأوضاع سوءاً؟

(35): تهافت نهاية التاريخ أسبابه وأبعاده
حسن خليل غريب 20/ 11/ 2007
فوكوياما يعلن تهافت «نهاية التاريخ» عند المحافظين الأميركيين الجدد
كمثل كل الأصوليات في التاريخ، جمَّد فوكوياما، رائد التنظير الفلسفي لجماعة الأميركيين الجدد، أو لأصحاب «القرن الأميركي الجديد»، نظريته وأعلن إفلاسها قائلاً: «خلصت الى أن المحافظين الجدد - رموزاً وافكاراً - يدورون حول شيء لا أستطيع بعد الآن أن أؤيده أو أقبله بتاتاً». وبتعبيره هذا، يكون فوكوياما قد طلَّق بالثلاث نتائج فلسفة المحافظين الجدد، التي وضعته على كرسي الشهرة، طلاقاً بائناً لا رجعة فيه. وتهافت هذه النهاية، والله، لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، فقد أفلست فلسفات قبلها في التاريخ وتهافتت، لكن أصحابها لم يعلنوا ذلك، وهم لم يكونوا بالجرأة التي تميَّز بها فوكوياما بإعلانه عن تهافت فلسفته.
«نهاية التاريخ» فلسفة لكل الأصوليات في العالم
فلسفة «نهاية التاريخ»، لم تكن مما يميِّز المحافظين الأميركيين الجدد، بل كانت استئنافاً للفلسفات السابقة التي أنهت التاريخ عند حدود إيديولوجياتها. وهو ما نراه في مرحلة الأصوليات الدينية، كما في مرحلة الإمبراطوريات في التاريخ، تلك التي كانت تعتبر أن التاريخ قد انتهى عند حدود فلسفاتها واتجاهاتها ومصالحها. فإذا كان فوكوياما قد عبَّر عن شوفينيته بمصطلح «الإنسان الأخير» الذي يعني الإنسان الذي يؤمن بالإيديولوجيا الرأسمالية المعاصرة، فإن غيره قد عمَّم مصطلحات أخرى تحمل المفهوم ذاته، شكلاً وروحاً، كمثل تفوق «الرجل الأبيض»، أو«خير أمة أخرجت للناس»، أو«شعب الله المختار»، أو«صفاء العرق الآري»، و... و...
لقد أفلست الإمبراطوريات، والأصوليات، التي سبقت إعلان «نهاية التاريخ» عند المحافظين الأميركيين الجدد، ولكن أتباعها لم يعلنوا إفلاسها، كما فعلها فوكوياما، متلطين تحت أكثر من ذريعة وسبب، لعل أكثرها وضوحاً، تلك الحجج التي تقول: لا يتحمل الفكر الإمبراطوري، أو الأصولي وزر أخطاء الماضي، بل الذي يتحمل وزرها هم أولئك الذين عملوا على تطبيقها.
ولقد تميَّز فوكوياما بجرأته عندما أعلن إفلاس تلك النهاية وتهافتها، بينما غيره لم يكن بمثل تلك الجرأة.
فوكوياما، الذي شغل الرأي العام الأميركي، منذ أوائل التسعينيات من القرن الماضي، يستقيل الآن ويترك كرسي الشهرة الذي احتله بعد إصدار كتابه «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، ولعلَّه بانسحابه قد أثار زوبعة كثيفة من الدخان عتَّمت سماء بيت المحافظين الجدد في واشنطن.
وباستقالة فوكوياما، تاركاً كرسي فلسفة التنظير، أقال قبل استقالته أو بعدها معظم أقطاب منظومة الأميركيين الجدد السياسية، وبها انهارت الصورة المشرقة لرجال ملأوا الدنيا ضجيجاً، دمروا فيه ما دمروا في البلقان، وأفغانستان والعراق، مكمِّلين مشوارهم تجاه لبنان وفلسطين والسودان.
تلك الانهيارات المتتالية لفلسفة المحافظين الجدد، وإن حجبت خطورتها أخبار الحروب وفظائعها وويلاتها التي يستكملها رئيس إدارة تلك الشلة تحت ضجيج «نصر موهوم»، إلاَّ أنه من غير الطبيعي أن تمر مرور الكرام أمام عدسات الناظرين والحاسبين لتداعياتها الاستراتيجية على مجمل النظام الأميركي خاصة وعلى مجمل النظام العالمي عامة.
بداية، كان جوهر فلسفة «نهاية التاريخ»، بمفهوم المحافظين الأميركيين الجدد، قائماً على عامل الدفاع عن مصالح الشركات الكبرى، شريكة المافيات العالمية وصنوها الدائم، تلك الفلسفة التي عملت، ولا تزال تعمل، على تجميل استغلال كل لحظة من لحظات الفلتان الموضعي أو العالمي من أجل المتاجرة بكل لحظة من لحظاتها، واستنفاذها من أجل تكديس الثروات على الثروات.
الترويج لتحقيق نصر للمحافظين الجدد فرصة انتقالية لمافيات الحرب
إن شعار النصر الموهوم، الذي يعممه رئيس تلك الإدارة، ليس أكثر من فرصة يتيحها أمام تلك المافيات لسرقة ما يمكن سرقته من دماء الشعوب قبل إعلان إفلاس المشروع القائم تنفيذه الآن في العراق وأفغانستان. وهي تعمل على تكديس آبار الدماء انتظاراً لمراحل فلتان أخرى يقومون بالتحضير لها، تحت شعارات وفلسفات ومسميات أخرى.
بداية نرى أن الترويج للنصر، الذي يمارسه جورج بوش هو فرصة أخيرة لاستنزاف مليارات أخرى من خزينة الولايات المتحدة الأميركية، حتى ولو كانت مترافقة مع تقديم قرابين إضافية من أرواح الجيش الأميركي، طالما أن أباطرة الشر لا يدفعون من جيوبهم سنتاً واحداً، ولا من دمهم قطرة واحدة.
ومن قبيل الحظ أن شعب الولايات المتحدة الأميركية هو الذي يدفع من جيبه ومن دمه، و إلاَّ لكانت كل الجرائم التي يرتكبها أباطرة الشر الأميركيين، مدعومين بأباطرة المافيات عابرة القارات، نسياً منسياً. تلك الصدفة هي التي نقلت معركة المواجهة ضد إدارة الشر من العراق وأفغانستان، وغيرهما إلى عمق الشارع الأميركي. وبنقلها إلى هناك، دفعت إلى إظهار الجرائم والكشف عنها كوسيلة لإسقاط المشروع على أرض الولايات المتحدة الأميركية.
مواجهة الشعب الأميركي لمفهوم «نهاية التاريخ» إعلان لتهافته
لكن لحظة الحظ تلك لم يكن مصدرها صحوة ضمير عند معظم الشارع الأميركي، بل كان مصدرها تلك القوة التي منعت المحافظين الجدد من استثمار نفط العراق لتمويل الحرب، كما أثخنت جنوده بالجراح والعوق، كما أردت الآلاف منهم في المقابر. وبهذا تسجل تلك القوة، التي هي المقاومة الوطنية العراقية، فضل حفر البؤرة التي تعمل على دفن فلسفة المحافظين الجدد، وهذا يؤكد على أنه ليس من قبيل الصدف أن يُعلن فوكوياما تهافت «نهاية التاريخ»، فتتهافت معها رؤوس المحافظين الجدد السياسيين والعسكريين.
مواجهة الشعب الأميركي نتيجة لعوامل مواجهة أخرى
إذن، كان السقوط العملي، والنظري، للمشروع يدفعنا إلى التفتيش عن أسبابه، لأن سقوطه لم يستند إلى عوامل أميركية داخلية، أو عوامل مراجعة فكرية، أو سياسية، وإنما كان سقوطه مرتبطاً بعوامل أخرى أتت من خارجه.
كان المشروع النظري مبنياً على رؤى علمية، من أهمها التبشير بديموقراطية النظام الرأسمالي لأنه هو، دون غيره من الأنظمة، الذي قفز قفزات هائلة في الميدان الحضاري، وفَّر فيه كل وسائل الراحة المادية للبشر، كما وفَّر أوهام صناعة الإنسان، على الطريقة البيولوجية، صناعة خاصة يستطيع فيه العلم الأميركي أن يصنِّع إنساناً بمواصفات محددة وخاصة يكون خاضعاً فيها، بشكل مخطط ومبرمج للانصياع إلى فلسفة الصناعيين والتجار.
ونحن سنعمل على دحض تلك الادعاءات، مستندين إلى العوامل ذاتها التي أوقفت مشروع اجتياح العالم. والعوامل ليست إلاَّ رزمة واحدة تجمعها عامل المقاومة والمواجهة، وعوامل المقاومة مستندة إلى عامل إنساني غريزي عنوانه الحرية والكرامة والاستقلالية الإنسانية.
فإذا كانت الحضارة المادية، التي أنجزت خطوات نوعية ومتقدمة لخير البشرية، هي المقياس الذي كال به فوكوياما نظريته، وجعلته على مقدار من الانبهار، يسمح له بتعميمها وفرضها على البشرية، فهو قد قصَّر عن بلوغ الحقيقة لأن بناء تلك الحضارة لا يجوز أن يعطي الحق لأصحابها بالسيادة على البشر، فالله لم يأمر بسيادة شعب على شعب آخر تحت أي ذريعة كانت. وإذا كان العكس هو الصحيح فلِمَ خلق مع الإنسان، كل إنسان قيمة الحرية والعدالة؟
وإذا كانت الحضارة المادية قد استطاعت أن تتحكم بجزئيات من شؤون خلق البشر، من خلال امتلاكها تقنية تطوير الجينات واستنساخ ما تأمر المصانع بصنعه، فإن هذا الأمر قد أصبح بغاية من التعميم والانتشار في مختبرات الدول الأخرى، الأمر الذي يتيح لها أيضاً أن تقوم بتصنيع بشر تزرع فيهم مواصفات مضادة لـ«إنسان فوكوياما الأخير» والمحافظين الجدد، بحيث لن يصبح الأخير على الإطلاق.
لا تعطي هذه الحضارة، في هذه الجانب حقاً للنظام الرأسمالي باحتكار التحكم في صناعة الإنسان الذي تريد حسب مواصفاتها، لأن الاحتكار فعلياً أصبح بحكم الملغى، من خلال تعميم تلك التقنية أولاً، ولأن المصانع الرأسمالية إذا أرادت أن تصنع بشراً يلبون رغبات مالكيها، فهذا الأمر لن يكون واقعياً لأن عليها أن تصنع نوعين من البشر: «نوع الأسياد»، و«نوع العبيد»، انسجاماً مع مفاهيم النظام الرأسمالي القائم على ثنائية «المنتج السيد والمستهلك العبد». فهل من الممكن أن تفعلها مصانع الرأسمالية لصناعة البشر حسب نظام «التحكم الجيني»؟
لقد كانت فلسفة فوكوياما مفصَّلة على مقاييس فلسفة الشركات الكبرى، ونجاح فلسفة تلك الشركات كان مبنياً على أسس خطة متكاملة، خططوا من أجل بلوغه كشرط لازم له، أن يجتاحوا المفاصل الاستراتيجية في العالم بنوعيها، الجغرافي والاقتصادي. تلك الخطة التي شرعوا بتنفيذها منذ وصول المحافظين الجدد إلى استلام السلطة في أميركا. وكانت بداياتها الأسرع في بلاد البلقان وأفغانستان، ولم تكن لتحصل بمثل تلك السرعة من دون العون الدولي لمنظومة الدول الرأسمالية. لكنها وقفت عند عقدة العراق لأكثر من سبب لعلَّ أهمه إن لم يكن الأكثر تأثيراً هو عامل الشعور بالسيادة والعدالة عند من خطط لتفجير المقاومة في وجه الاحتلال.
فلسفة المقاومة، قائمة على مفهوم السيادة، تؤسس لـبداية التاريخ على أسس أخرى
كونها من أعاق تنفيذ المشروع، إن للمقاومة فلسفة مناهضة للمفاهيم الإمبراطورية والأصولية السياسية، وعماد تلك الفلسفة ومحورها، الشعور بالسيادة كعامل يتعلق بالحرية الإنسانية، السيادة سواءٌ أكانت بمفهومها الاجتماعي والسياسي أم بمفهومها الذاتي الفردي. وهي تمثل حالة تمرد على كل الأصوليات التي تعمل على تعميم ذاتها وتصديرها إلى الآخرين بحجة أوهام صلاحيتها لكل البشر.
إن هدف فلسفة المقاومة التجدد الذي يستحيل أن يحصل من دون صياغة مفاهيم تصلح لبناء العلاقات الإنسانية القائمة على احترام القيم الإنسانية عند الإنسان، كعامل يسبق كل قيم عرقية أو دينية، وهي تمهد بذلك لصياغة علاقات إنسانية بين الشعوب كافة.
فقيم المقاومة هي انقلاب على القيم الإمبراطورية والأصولية، واعتبار الإنسان أينما كان أخاً للإنسان.
ليس مفهوم السيادة مفهوم عام ومطلق، بل للسيادة ترجمة في الواقع، وإن ابتدأت أصلاً من مفهوم الحرية الفردية، أي سيادة الإنسان على نفسه، فإنها تكتسب أعماقها الاجتماعية أيضاً بكون إنسانية الإنسان لا تتحقق إلاَّ داخل جماعة، والجماعة لا تستطيع أن تميز نفسها إلاَّ في إطار جغرافي يوفر لها عامل حماية اقتصادية وأعلاها مرتبة حماية مادية ضد كل مخاطر التهديد من جشع الخارج وأطماعه. وهذا الإطار الجغرافي ما يُعبَّر عنه بمصطلح الوطن.
ونحن لا نستطيع أن نفهم وجود جماعة من دون ذلك الإطار. ولكن هل يتلازم هذا المفهوم، بالضرورة، مع نزعة الشوفينية والتعصب؟
على الرغم من أن الفلسفات الدينية قديماً قد صنَّفت هذا الإطار في دوائر إعاقة تصدير إيديولوجياتها، فحاربتها. وأن الفلسفات الحديثة، كمفهوم الأممية الماركسية، قد انتقدت كل تكوين وطني أو قومي ووصمته بالشوفينية والتعصب، فجنَّدت جزءاً مهماً من دعوتها لمحاربته أيضاً، إلاَّ أن واقع الأمر كما نفهمه نحن ليس فيه ما يخيف الأصوليات الدينية ولا الأصوليات المادية، لأن التجمع البشري المتجانس هو مسألة طبيعية، ونزعة إنسانية فطرية، لا يمكن بترها. ففي بترها إعادة لتصنيع إنسان مثالي لا يعيش إلاَّ في مخيلات صانعيه. وهم أشبه بفوكوياما الذي أراد أن يُصنِّع الإنسان الأخير في المختبرات العلمية على مثال الأنموذج الرأسمالي. وهؤلاء الذين غلَّبوا نزعات الإيديولوجيا الأممية يعملون على تصنيع الإنسان الأخير في مختبراتهم الإيديولوجية. وكلاهما متساويان في ضخ أفكار صعبة التطبيق لأنها تتنافى مع أدنى النزعات الإنسانية في طلب السيادة والاستقلال.
مفهوم السيادة ليس بالضرورة مفهوماً شوفينياً
لكن هل في السيادة، بالمفهوم الوطني والقومي، ما يعرقل بناء علاقات أممية إنسانية؟
إذا كانت السيادة نزعة فردية واجتماعية، فرد ينال حقوقه، أو مجتمع يحمي ذاته، فهي تبني مثالاً لعلاقات إنسانية سليمة في الوقت الذي تبني فيه علاقات سليمة بين أفرادها، وبهما يتم تشذيب التعصبية الفطرية من كل أنواع الشوفينية.
وفي النتيجة، نرى أنه في تهافت الفلسفات الأصولية الدينية السياسية والأصولية المادية، أنموذجاً لتهافت أصولية المحافظين الأميركيين الجدد، هو إحياء لنزعة السيادة على المستوى الفردي والمجتمعي المتجانس. وهذه النزعة بدورها قد خاضت حروباً كثيرة استخدمت فيه عامل التضحية لتضييق الهوة بين قوة القوي وضعف الضعيف.
في التاريخ البعيد والقريب أمثلة برهنت على صحتها في كل أنحاء العالم بشكل عام، وفي أمتنا العربية بشكل خاص، والأنموذج الأكثر وضوحاً لأننا نعايشه منذ خمس سنوات تقريباً يجري على أرض العراق، فهل يمكننا تجاهلها؟
إن في سطوع البرهان ووضوحه، ما يدعونا لأن نعلن ليس تهافت نهاية التاريخ بالمفهوم الإمبراطوري الأميركي فحسب، بل تهافت نهاية التاريخ في مفاهيم الأصوليات الأخرى أيضاً. وفيه ما يدعونا إلى إعلان بداية تاريخ جديد من خلال الاعتراف المتبادل بسيادات الشعوب، كخطوة أساسية في بناء علاقات إنسانية عامة تقوم على احترام متبادل لسيادة كل شعوب الأرض قاطبة.
فتحية للمقاومة الوطنية العراقية التي وأدت إيديولوجيا المحافظين الأميركيين الجدد في المهد.
وتحية لها لأنها تؤسس، من خلال إيديولوجيتها الوطنية والقومية، لبداية أخرى في تاريخ العالم، فهي تؤسس، إذاً، لـ«بداية التاريخ».

(36): فتشوا عن المشهد العراقي في شوارع أميركا ومؤسساتها الرسمية والأهلية:
يا جماهير شعب الولايات المتحدة الأميركية، اتحدوا وانقلبوا على لصوص إدارتكم الرأسمالية
حسن خليل غريب 25/ 11/ 2007
انتشرت ظاهرة جديدة في متابعة ما يجري في العراق ومعرفة ما يدور هناك، وتتلخص في تساؤل الكثيرين وأسئلتهم عما إذا كان هناك أخباراً جديدة عن العراق، لكن الظاهرة الجديدة ليست في السؤال وإنما في الجواب، فالسؤال هو هو منذ بداية الاحتلال ولا غرابة فيه سواءٌ أكان ماثلاً لدى من يتعاطف مع محنة هذا البلد العربي، أم كان ماثلاً لدى من يكن العداء له. وإنما الغرابة هي في الحيرة التي يقع فيها من يريد أن يجيب عليه.
غالباً ما نسمع الجواب أنه لا جديد هناك، فالأوضاع هي ما هي عليه منذ انطلاقة المقاومة الوطنية العراقية حتى الآن، ولكن الجواب تجده فيما يجري في شوارع الولايات المتحدة الأميركية وكواليسها السياسية والعسكرية ومنتدياتها الفكرية والصحفية، ومن يريد أن يعرف ما يجري في العراق عليه أن يعرف ما يجري في أميركا. ولكن ذلك لا يشبع فضول السائل وإن كانت هذه هي حقيقة الوقائع على الأرض. فهل هذا منطقي ومقنع؟
لقد بدأت عمليات المواجهة في العراق بعد الاحتلال حسب ثنائية (المقاومة والاحتلال)، فأوفى طرف المقاومة الكيل والميزان، وقام بتعديل موازين القوى بين المتصارعين لصالح المقاومة، فتناقصت موازين الاحتلال وأصابها الضعف والوهن.
واختلال المعادلة بين ثنائية (المقاومة والاحتلال)، قاد إلى اختلال في العلاقة بين شعب الولايات المتحدة الأميركية وإدارتها الحاكمة. وكان السبب في ذلك انكشاف خطة الإدارة الأميركية وكذبها أمام الشعب الذي تحكمه بفعل عاملين:
-صعوبة، بل استحالة، فرض السيطرة الأمنية والسياسية في العراق كشرط لازم لنجاح استراتيجية الاحتلال في استغلال ثروات العراق وسرقتها، وتمويل نفقات الاحتلال من عائداتها.
-صعوبة المحافظة على حياة جنود الاحتلال، كأهم عامل من عوامل استقراره.
تضافرت تداعيات المحافظة على هذين العاملين ووضعت الإدارة أمام امتحان عسير، فهي لم تحصل على أية مكتسبات اقتصادية كما وعدت الشعب الأميركي الحالم بالسيطرة على ثروات العراق النفطية، وأرغمت المواطن الأميركي على الدفع من جيبه، ما يعادل العشرين ألف دولار حتى الآن. وستزداد الفاتورة وتتضاعف كلما طال أمد الاحتلال، خاصة وأن تقريراً نشره النواب الديمقراطيون بمجلس الشيوخ الأمريكي، أكد أن الحرب في العراق ألحقت ضرراً أكبر بالاقتصاد الأمريكي بالمساعدة في رفع أسعار النفط العالمية.
وهي لم تستطع أن تحافظ على حياة جنودها بحيث يُطمَر كل يوم، حسب إحصاءات البنتاغون، على كذبها، ثلاثة جنود عائدين جثثاً من العراق، وتستقبل المؤسسات الصحية، البدنية والنفسية، حسب إحصائيات البنتاغون أيضاً، ثمانية عشر جندياً كل يوم، عائدين إلى بلادهم فاقدي البصر أو الأرجل أو الأيدي... أوفاقدي الأهلية النفسية، والسوية العقلية.
ولما كانت المقاومة الوطنية العراقية مستمرة في أدائها، وعلى فرضية بقائه على وتيرته منذ انطلاقتها. ولما كان العامليْن لا يزالان مستمرين بفعل هذا المستوى من الأداء، الذي تثبت الوقائع ارتفاع منسوبه. فإن أي شيء لم يتغيَّر في معادلة ثنائية ( الاحتلال والمقاومة). وبالنتيجة فإن منسوب كذب الإدارة الأميركية يزيد من كشفه على حقيقته، ويزداد يقين الشعب الأميركي بحقيقة الكذب الذي تمارسه الإدارة السياسية والعسكرية على شعبها.
ومن هنا، لا نرى شيئاً غريباً إذا كان الجواب أن لا شيء جديد على الساحة العراقية، فحقيقة واقع الخلل بموازين القوى الراجح الكفة لصالح المقاومة الوطنية العراقية هو هو لم يتغيَّر منذ بداية انطلاقتها، فتراكم أدائها النوعي أدى إلى إفراز معادلة جديدة تقوم على قاعدة نقل المواجهة إلى شوارع المدن الأميركية وكواليسها السياسية والعسكرية والفكرية والصحافية. ونرمز إليها بالثنائية التالية: (المواجهة بين الأميركيين الرافضين لاحتلال العراق، وبين إدارتهم السياسية والعسكرية). واستتباعاً يمكننا القول: إذا أردت أن تعرف ما يجري في العراق اليوم، عليك أن تعرف ماذا يجري في الولايات المتحدة الأميركية. وما يجري هناك من مواجهات ترتفع أحياناً وتنخفض أحياناً أخرى، إلاَّ أن جمرها لن يخبو أو ينطفئ إلاَّ بإنقاذ الأرواح وتوفير الأموال.
في الولايات المتحدة الأميركية الآن شارعان: شارع يدعو إلى الانسحاب من العراق وهو الأقوى لأنه يمثل نسبة لا تقل عن الـ 70%، وشارع يدعو إلى إعطاء المزيد من الفرص لإدارة المحافظين الجدد من أجل تحقيق النصر الموهوم، وهو الشارع الأضعف لأنه لا يمثل أكثر من الـ 30%.
وفي داخل المؤسسات السياسية تياران: تيار الحزب الديموقراطي ويمثَّل الأكثرية المطلقة وهو يدفع باتجاه جدولة الانسحاب، إلاَّ أن تلك الأكثرية لم تصل إلى حدود الحصول على عدد يُلزم رئيس المحافظين الجدد بمشروعها. وتيار المحافظين الجدد في الحزب الجمهوري الذي يلعب دوراً دفاعياً سلبياً في منع تمرير أي مشروع للديموقراطيين.
يتميز التيار الشعبي الأميركي، الداعي للانسحاب من العراق، بأنه هو الذي يدفع من أرواح أبنائه وجيوب مكلَّفيه، وحول ذلك قالت مديرة مركز الإشراف الاجتماعي للأبحاث حول المنظمة العسكرية بجامعة ميرلاند الدكتورة (مادي سيجل): إن «ثمة عدة أبحاث تشير إلى أنه كلما طالت مدة الخدمة ازدادت مهمة الجنود وعائلاتهم صعوبة في التأقلم». ولذلك فهو صادق بمواقفه طالما أنه هو الذي يدفع فاتورة الحرب، ولا يمكن منع تحييده وحذف تأثيره إلاَّ باستمرار تدفيعه الثمن الذي من أجله انتفض على إدارة المحافظين الجدد وطالبها، ويطالبها، بالانسحاب من العراق. أما التيار المؤسساتي الرافض، وهو تيار الحزب الديموقراطى، فاستمرار ثباته على مواقفه مرهون بثبات التيار الشعبي الذي انتخبه على وقع طبول المطالبة بالانسحاب من العراق. وثبات موقف كل منهما مرهون بثبات أداء المقاومة الوطنية العراقية.
أما التيار المساند لإدارة المحافظين الجدد، فيتميَّز بأنه يشكل النخبة الرأسمالية، ومن خدامها أيضاً، المستفيدة من غنائم الحرب. وتيار الصهيونية العالمية المستفيدة اقتصادياً من خيرات العراق، والمستفيدة أيديولوجياً من تدمير معالمه الحضارية استجابة لشعارها الإيديولوجي القائل بنظرية «شعب الله المختار» الذي عليه أن يمدد دولته «من النيل إلى الفرات». ومن المعروف أن هذا التيار هو الذي يقبض كل شيء، ولا يدفع شيئاً من دمه ولا ماله.
تحت دخان الصراع الدائر في شوارع الولايات المتحدة الأميركية، ومؤسساتها الدستورية، وكواليسها الفكرية والصحافية، تشير التقارير المنشورة إلى الوقائع التي من أجل وجودها واستمرارها تنشط المواجهة بين شعب الولايات المتحدة الأميركية وسلطاتها، مع أرجحية في النجاح للحركة الشعبية المناهضة للاحتلال، وهي التالية:
أولاً: التعتيم على الإصابات التي تلحقها المقاومة بجنود الاحتلال
1-انهيار معنويات الجنود يؤدي إلى الانحراف باتجاه المخدرات: وقد اعترف رئيس الأرکان البريطاني الجنرال «ريتشارد دانات»، في تقرير نشرته صحيفة (صنداي تلجراف) بأنه يواجه مشکلة بسبب تراجع معنويات جنوده فى العراق وأفغانستان. وكشفت صحيفة الأندبندنت البريطانية أن العدوان على العراق تسبب في تضاعف وتزايد تعاطي المخدرات بين أفراد الجيش البريطاني ثلاث مرات.
2-الانتحار: أظهرت دراسة، أعدتها شبكة (سي بي أس) الأمريكية، ارتفاعاً ملحوظاً في عمليات الانتحار التي يقدم عليها الجنود العائدون من ساحات القتال في العراق، فيما أطلق علية اسم «فيروس الانتحار». وجاء في الدراسة أن 6200 جندي ومجندة أمريكية، وضعوا حداً لحياتهم في العام 2005 فقط، بعد عودتهم من ساحات القتال في العراق وأفغانستان، بعد ان عانى غالبيتهم من أمراض نفسية، جراء مناظر الحرب وويلاتها.
كما أكَّدت مذكرة مكتوبة بعثها وزير الدفاع البريطاني «بوب آينسوورث» انتحار 17 جندياً بريطانياً بينهم 15 في العراق، وواحد في أفغانستان وآخر خدم في كلا البلدين.
3-الاختلال العقلي: منذ غزو العراق جرح أو أخل عقليا على الأقل 60 ألف جندي أمريكي. وكشفت صحيفة «يو أس أيه توداي» النقاب عن أن 30 ألف جندي ممن لم تصنفهم وزارة الحرب الأمريكية جرحى في المعارك ظهرت لديهم أعراض أضرار في الدماغ، حسب سجلات جمعتها من مؤسسات تابعة للجيش وللمحاربين القدامى.
4-الجرحى: عن دراسة نشرتها محطة التلفزيون الأمريكية «ديموكراسي ناو» تؤكد أن نسبة الجرحى إلى القتلى، في العراق، هي 8 إلى 1، مقارنة بـ 3 إلى 1 أثناء حرب فيتنام، و 2 إلى 1 للحرب العالمية الثانية. أما النسبة المئوية لمبتوري الأعضاء فهي الأعلى منذ الحرب الأهلية.
5-الفارون: قالت صحيفة لوس أنجلوس تايمز إن عدد الجنود الأميركيين الفارين من الخدمة بالجيش الأميركي هذا العام زاد بنسبة 80% منذ غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003. وهو ما يعني أن أربعة آلاف و698 جنديا فروا من الخدمة هذا العام, مقارنة بثلاثة آلاف و301 العام الماضي.
لم يكن الهرب هو الملاذ الأخير للجنود، بل طالت لوثة الخوف من الموت الجهاز الديبلوماسي وهذا ما أشارت إليه مجلة تايم الأمريكية التي نشرت مقالاً لتشالرز كريين لخص فيها الأسباب الرئيسة التي تقف وراء عزوف الدبلوماسيين الأمريكيين عن الخدمة في العراق. وجاء هذا المقال تعقيبًا على رفض حوالي 300 دبلوماسي أمريكي العرض الذي قدم لهم لملء 50 وظيفة شاغرة في السفارة الأمريكية في بغداد، ومعظمهم أقر بأن مطالبتهم بالعمل في العراق إنما هو بمنزلة إصدار حكم بالإعدام عليهم.
ثانياً: عن الكذب والخداع الذي يمارسه إعلام إدارة المحافظين الجدد،
كتب «جيري لانسون» في صحيفة كريستيان ساينس مونتور ، بتاريخ 30/ 10/ 2007، مقالاً يستغرب فيه التعتيم الإعلامي على الاحتجاجات المناهضة للحرب العراقية في 11 مدينة رئيسية أمريكية على الأقل مثل بوسطن ونيويورك. مقترحاً على المنظمات الإخبارية القيام بواجبها لتغطية الأخبار، وتوعية العامة حول وجهات النظر المختلفة لأي قضية قومية رئيسية.
ثالثاً: عن الكذب والخداع في إخفاء حقيقة أرقام كلفة الحرب:
قال جوش وايت في مقال في صحيفة واشنطن بوست إن دراسة جديدة للديمقراطيين في الكونغرس الأمريكي خلصت إلى أن «التكاليف المستترة» رفعت تكلفة الحرب في العراق وأفغانستان إلى نحو 1.5 تريليون دولار. وأن هذا الرقم يقارب ضعف مبلغ 804 مليارات دولار الذي أنفقه البيت الأبيض.
هذا، وقد حذر تقرير، نشره النواب الديمقراطيون بمجلس الشيوخ الأمريكي، من أن الكلفة الفعلية للعمليات العسكرية في العراق وأفغانستان قد تصل إلى 3500 مليار دولار بحلول العام 2017.
أما عن تفسير لـ«لنفقات المستترة» فأشار التقرير الذي أجرته منظمة «أطباء من أجل مسؤولية اجتماعية»، وبرعاية السيناتور الديمقراطية باتي موراي، إلى أن التكلفة المالية للرعاية الصحية ورعاية الإعاقات بين الجنود الأمريكيين، الذين شاركوا في الحرب، سوف تتجاوز التكلفة التي تم تخصيصها للعمليات القتالية في العراق، وستتجاوز 650 بليون دولار. وقال التقرير إن الصدمة العقلية والاجتماعية من حرب العراق سوف تظل مع الجنود الأمريكيين الجرحى طوال حياتهم. ولهذا قال السناتور هاري ريد زعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ «كل دولار ينفق في العراق يأتي على حساب الشعب في أميركا».
رابعاً: فساد رؤوس إدارة المحافظين الجدد ينعكس فساداً بين المسؤولين الأميركيين عن الاحتلال في العراق:
وعن ذلك أشارت صحيفة «نيويورك تايمز» إلى أن المسئولين الأمريكيين أوكلوا إلى رجل أعمال عراقي مهمة توزيع الأسلحة على طلاب الشرطة العراقية، إلاَّ أنها ذهبت باتجاهات أخرى واختفت، وأخذت طريقها للبيع.
وبذلك أسست إدارة الاحتلال لمبدأ «أسرق ودعني أسرق معك»، وهذا ما كشفته ما تسمى بهيئة النزاهة العراقية عن المزيد من قضايا الفساد الحكومية, حيث أعلنت أن 17 ألف اسم وهمي يستلمون رواتب شهرية من مؤسسات الدولة، كما أعلنت الهيئة عن فقدان ملفات تتعلق بالفساد . وكان قد تم اتهام على راضي الراضي رئيس لجنة النزاهة الوطنية في العراق السابق بالفساد واختلاس أموال الدولة وشراء عقارات وبيع أخرى لا تخصه.
وللمزيد من تطبيق المبدأ، حددت الحكومة العراقية الموالية للاحتلال الأمريكي سعر النفط للمشترين في الولايات المتحدة عند سعر خام غرب تكساس الوسيط ناقصا 13.05 دولار للبرميل.
خامساً: أوهام إدارة المحافظين الجدد بتحقيق «النصر الموعود»:
1- الإدارة تعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مصالح أميركية في العراق، وعن ذلك علقت صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» على عزم بوش على اتخاذ كوريا الجنوبية نموذجاً لإبقاء 35 ألفاً من جنوده في العراق لعقد من الزمن. لذا تبني الإدارة شبكة من القواعد العسكرية في العالم، أرضية وبحرية وجوية وتجسسية ومخابراتية، تقدر بحوالي سبعمائة أو ثمانمائة قاعدة تكلف الولايات المتحدة سنويا مئات المليارات، من ضمنها عشرين قاعدة في العراق تكلفت 1،1 مليار دولار.
أما عن القواعد في العراق، فأشارت صحيفة دايلي تليجراف البريطانية‏،‏ إلى أن الجيش الأمريكي بدأ في بناء قاعدة أمنية دائمة في مياه الخليج قرب الأرصفة الخاصة بضخ البترول العراقي لحماية الثروة الإستراتيجية البترولية‏. وسيطلق عليها مركز العمليات التكتيكية‏.‏
أمام هذه الشبكة العريضة من القواعد العسكرية يرى الكثيرون أنها تشكل انتهاكا لسيادة دولهم، لذا زادت حركات المقاومة والمنظمات المدنية الداعية لتفكيك القواعد الأمريكية في معظم دول العالم. وهي تسعي إلى إطلاق حملات توعية تعليمية تثقيفية لشرح خطورتها على الأمن العالمي.
2-الأمر المضحك أن رئيساً خالٍ من الثقة سيصنع النصر لبلاده: وهذا ما أشارت إليه صحيفة الإندبندنت التي شبَّهت خطورة (جورج بوش) على العالم بخطورة (أسامة بن لادن)، وعن ذلك اعترفت مستشارته الدبلوماسية مداورة بذلك قائلة: إن هذا الوصف أفزعها مع أنها تتهم رئيسها بـ«أنه يعمل بطرق غامضة».
وبحسب وكالة «فرانس برس»، جاء في الاستطلاع الذي أعده مركز دراسات في هارفرد أن أكثر من ثلاثة أرباع الأمريكيين (77%) يعتبرون أن البلاد تعاني من «أزمة زعامة» مقابل 65% قبل عامين. ويعتقد حوالي ثمانية أمريكيين من أصل عشرة (79%) بالمقابل أن الولايات المتحدة على خط انحدار إذا لم يتولَّ شئونها قادة أفضل. بحيث اعتبر مدير المعهد ديفيد جيرجن أن «هذه النتائج يجب أن تدق ناقوس الخطر».
سادساً: النصر الموهوم صناعة سيناركية لتمديد فترة للنهب والسرقة
1-الحرب على العراق واحتلاله ليست ذات دوافع قومية أو وطنية:
من المعروف أن أي شعب يخوض حرباً فإنما تكون دفاعاً عن سيادة وطنية مهدَّدة، أو حماية لثرواتها الطبيعية. فهل للحرب التي خاضتها الولايات المتحدة الأميركية ضد العراق ذات علاقة بالمسألتين؟
لم تكن هذه الحرب شرعية بشتى المقاييس، وقد أثبتت الوقائع ذلك، ونكتفي بشهادة الأميركيين أنفسهم عندما اعتبروا أنها حرب يدفع فيها الشعب الأميركي «الدم مقابل النفط». واستكملوا موقفهم بحركة ضاغطة للانسحاب من العراق.
وعلى الرغم من كل ذلك يرغم رئيس إدارة المحافظين الأميركيين الجدد مجلسيْ الشيوخ والنواب على تمويل حرب خاسرة بكل المقاييس. فما هي أهداف إدارة المحافظين الأميركيين الجدد من استمرارها؟
2-فتشوا عن دوافع الاستمرار في الحرب في كواليس الحركة السيناركية:
حرب خاسرة للأميركيين من دون شك، يدفع فيها الدم والمال بسخاء لا مثيل له، ومن المعروف أن الدم والمال يُقدَّمان بسخاء للدفاع عن السيادة. ولما يعترف الأميركيون أن تلك الحرب ليست وطنية، فهناك عوامل تقف، بدون شك، وراء إصرار السلطة الأميركية الحاكمة على متابعتها والاستمرار فيها. وهذه العبثية التي تمارسها إدارة بوش تدفعنا إلى التفتيش عن تفسيرها من خلال معرفة أسرار ما تُسمى بـ«الحركة السيناركية».
إن تلك الحركة تأسست ونشطت في أثناء الحرب العالمية الثانية، وهي عبارة عن مجموعة من المافيات تعمل على إشعال الحروب من أجل التجارة بسلع الحرب وتحصيل الأرباح الهائلة من عائداتها. وظاهرة ما تُسمى بطبقة تجار الحروب وأغنيائها معروفة ومشهورة. وليست لتلك الطبقة أهداف لها علاقة بمن يخسر أو بمن ينتصر، فتطويل أمد الحرب إذا اندلعت هو الهدف المنشود، فبطول مدة الحرب تكثر الثروات وتتكدَّس.
لقد أثبتت أبحاث بعض المفكرين الأميركيين صحة هذا الواقع، كما أثبتت العلاقة الوثيقة بين إدارة المحافظين الجدد وبين تلك الحركة. وما إصرار إدارتهم السياسية الحالية على متابعة الحرب في العراق على الرغم من أنها تكلف الولايات المتحدة الأميركية مبالغ طائلة، لو حُسبت فإنها تعادل إفلاس مليون مليونير من شعبها، إلاَّ أن تلك التكاليف تذهب إلى جيوب حيتان الرأسمالية في إدارتهم الحالية. وإن البراهين على ذلك كثيرة وكثيرة جداً، ليس أقلها امتلاك صقورها لأكبر الشركات النفطية، وشركات المقاولات، والشركات الأمنية الخاصة. أوَ ليست شركتا هاليبرتون، وباكتل، المملوكة لأولئك الصقور إلاَّ برهاناً على ذلك؟
كل هذا يعني أن مبدأ الربح من اندلاع الحروب هو المرشد الأعلى لتلك الطبقة. كما يعني هذا أن صرف مئات المليارات من الخزانة الأميركية ستمطر في جيوب أولئك الحيتان المصرين على تمويل الحرب في العراق. فالمحافظون الأميركيون السيناركيون الجدد يسرقون، ليس فقط أرواح أبناء وطنهم فحسب، بل يسرقون رغيف الخبز من أفواه أبناء شعبهم أيضاً.
إزاء هذا الواقع، لا حل أمام الشعب الأميركي إلاَّ أن يعملوا على الانقلاب على لصوص الطبقة الرأسمالية الحاكمة التي تتاجر بأرواحهم ولقمة عيشهم، وإحالتهم أمام المحاكم، أو العمل على تأميم ثرواتهم التي سرقوها، ليس من دماء الشعوب الأخرى وثرواتهم فحسب، وإنما من دماء الشعب الأميركي وثرواته أيضاً.

(37): بداية الكلام في بكائية الجياع والمرضى:
محنة العمال في النقابيين الواقفين على أبواب سلاطين المال والطائفة
(طليعة لبنان الواحد عدد تشرين الثاني 2007)
لماذا يتحمل النقابيون الممثلون للعمال وزر المحنة؟
من البديهي أن يتحمل هؤلاء مسؤولية الدفاع عن حقوق العمال وحمايتهم من ظلم لاحق بهم من السلطة أو من الطبقة الرأسمالية، أوَ ليسوا هم رعاة العمال؟
أوَ ليس من واجب الراعي أن يحمي من يُمثِّل؟
قد تجور السلطة خاصة إذا كانت ممثِّلًة لطبقات النخبة في المجتمع، أما مصلحة الرأسماليين فتقف على طرفيْ نقيض مع مصالح العمال. أما ما ليس طبيعياً فهو أن يقف ممثلو العمال على أعتاب السلطة وأرباب الرأسمال، فهم بمثل هذه المواقف يخونون الطبقة التي اختارتهم لتمثيلها.
في ظلام الواقع السياسي الذي يعيشه لبنان، تتصارع فيه القوى وتتقاتل من أجل ما يلبي حاجات الخارج، ضاربة عرض الحائط كل هموم المواطن وآلامه، مستخدمة مادة المال السياسي في تحصين أنصارها من الفاقة والعوز، تاركة الأكثرية الساحقة من اللبنانيين تعاني الأمرين وتقف على حافة الجوع الحقيقي.
لقد عطلوا دورة الحياة الطبيعية للدولة، وكأن دورها أصبح تجاه حقوق المواطنين حيادياً، بعد أن عطلوا مؤسساتها ودوائرها، المعطَّلة أصلاً، لتستفحل شهية الفاسدين والوالغين نهشاً في صحة المواطن ولقمة عيشه.
هذا الواقع زاد من وتيرة إهمال تاريخي يشمل فساد الإدارة فزادها فساداً على فساد. فتآمروا مع التجار عندما غضوا الطرف عنهم، فتحوَّل التاجر، بتواطؤ واضح مع السماسرة والمستوردين والوكلاء، وأسسوا نقابة تشرِّع الأسعار على مقاييس مصالحها وجيوبها، وباتوا بديلاً للدولة ونواباً عنها، وبذلك استفحلت وتيرة الزيادة في أسعار السلع الغذائية. وتركوا المواطن يعاني ويئن وليس من مجيب. وإذا استجاب أحد فإن «كرتونة» من الحسنات والصدقات قد تدع المواطن يؤجل نقمته، ويبلع صوته ضماناً للحصول على «كرتونة» أخرى.
وإذا كانت الحركة النقابية قد وُلِدت أصلاً للدفاع عن حقوق الشعب ممثلاً بالعمال والفلاحين، فقد انقلبت الآية في لبنان وتحولت الحركة النقابية إلى راعٍ لا يسكت عن عدوان الذئاب المتعددي الجنسيات فحسب، وإنما تحولوا إلى نقابيين يدعون الشعب إلى النوم ونسيان حقوقهم أيضاً. فقد تحولت الحركة النقابية في لبنان إلى حركة نقابيين تستجدي سلاطين المال والسياسة والطائفة. وبوقوفهم على أبواب السلاطين أعطوا لرغيف الخبز هوية طائفية، لا يُخبَز إلاَّ في فرن الطائفة، ولا يباع إلاَّ إذا أدَّى لطائفته الطاعة، ولا يُؤكَل إلاَّ مُضِغ على طريقة طائفية.وأجاز هؤلاء التضحية برغيف الخبز من أجل مصلحة الطائفة الممثَّلة بزعمائها. إنه أمر يدعو للعجب!!
إنها، في معظم الأحيان، ضريبة الطائفية والتعصب الطائفي. تلك مسألة يستغلها رؤساء الطوائف بذكاء لتدعيم جدرانهم السياسية، وتنطلي الخديعة على الطيبين والبسطاء. فإذا أعلن زعيم طائفة أن الطائفة في خطر، وهم يعلمون ما ينعم به الزعيم من خيرات وبذخ ورخاء، تستنفر نفوس الطيبين للدفاع عن الطائفة، والدفاع عنها يمر بواقع الأمر بحماية الزعيم.
وإنها في معظم الأحيان ضريبة تلزيم المال السياسي رقاب الشعب، المال السياسي الذي نصَّب منتفخي الجيوب من كل حدب وصوب ولاية الأمر على الطوائف، وبها التزموا الدولة وكتبوها بأسمائهم في الدوائر العقارية، وصادق عليها الطيبون من أبناء الطوائف، وغرقوا في بحورها وأصبحوا أسرى لها.
لم يُلوِّث هؤلاء وأولئك دور الدولة وواجباتها فحسب، وإنما لوَّثوا صوت المواطن ورهنوه لإرادتهم أيضاً. وإذا صحَّ القول: (لا يلام الذئب في عدوانه إن يك الراعي عدو الغنم)، فيصح أيضاً القول: (لا يلام الراعي في عدوانه إن يك الشعب عدو نفسه). فإذا كان الذئب حريصاً على مصالحه، والراعي يحرص على السكوت عن عدوانه طمعاً بقطعة من لحم الضحية، فأين هي مصلحة «الشعب» في السكوت على هذا وذاك؟
فهل يُلام الزعيم إذا تناسى أن هناك من هو جائع؟
وهل يلام إذا تناسى أن هناك مرضى؟
وهل يلام إذا لم يفكر بقنديل كهربائي يضىء عتمة الطيبين؟
وهل... وهل...؟
إن معادلة تقول: حماية الطائفة تتم أولاً. معادلة تدفعنا للتساؤل: وهل حماية الطائفة لا تعني توفير العمل للعاطلين عنه؟
وهل تعني أن يبقى أتباع الطائفة جياعاً ومرضى؟ وهل على أولادهم أن يمتهنوا الأمية، وأن تظل بطونهم في حالة شوق لرغيف الخبز؟
وهل ... وهل... وهل...؟
جواباً على كل ذلك نراهن على الشخصيات والقوى والأحزاب، التي تسمع أنين الجياع والمرضى والعاجزين عن اللحاق بتزايد الأسعار، وتعرف الكثير عن معاناتهم، على أن ترفع صوت من لا صوت لهم، لعلَّها بمبادرتها تُبقي الأمل في نفوس المغبونين والمظلومين والجياع حياً، فتؤسس بمبادرتها لتيار جديد يمتهن السياسة من أجل خير الوطن والمواطن، وتعيد للدولة مفهومها الحقيقي ودورها الأساسي بعد أن سلبهما المتاجرون بمستقبل الوطن وجرَّدوهما من كل ما يمت لمصلحة المواطن بصلة، ويختصرونهما بمصلحة رعاة الطوائف الذين، بدورهم، سيَّبوا الوطن أمام الذئاب يدخلون إليه من بواباته الواسعة. أولئك الذئاب الذين لا تعنيهم صرخة أم لا يدر لبنها لرضيعها، ولا تعنيهم أن يأكل المرض حياته، وأن يفوته قطار المدرسة لأن أهله لا يملكون ثمناً لبطاقة الصعود إليه.
وإذ نبارك أية خطوة، فإنما نناشد السائرين في هذا الحقل أن لا يقعوا في فخاخ الذين يعملون على تسييس لقمة العيش، وأن يتابعوا خطواتهم لأن فيها وليس في غيرها الأمل في إحياء عمل وطني مطلبي صحيح، فالمسافات الطويلة تبدأ بالخطوة الأولى، لعلَّ وعسى.


القومية العربية
بين ثوابت الفكر النظري ومتغيرات الخطاب السياسي
في أوائل 2008
لقد تنوَّعت معالجات المفكرين العرب والحركات السياسية القومية لطبيعة العلاقة بين أصالة الفكر القومي وحداثته، وبين حداثته وعصرنته. فهم، حتى الآن، لم يتجاوزوا حدود أدلجة العلاقة بينهما، أي عملوا على تغليب خصوصيات الثقافة التُراثية على ثوابت التشريعات القومية الحديثة، كما عملوا على تزويجهما بشكل لا يؤدي إلى صياغة علاقات سليمة بينهما. بينما الوصول إلى تعريف لا يخضع لمعايير الإيديولوجيا هو الأمر الموضوعي المطلوب، لأن هذه المعايير غالباً ما تتأثَّر بالحركة السياسية والبيئة الثقافية السائدة، فتنتج تعاريف قد تكون قاصرة عن الوصول إلى الحدود الموضوعية. ومن أجل التوفيق بين عناصر الموضوعية والعوامل الإيديولوجية ليتكاملا، لا بدَّ من أن يكون للأيديولوجيا سقف موضوعي يحميها من الغرق في تغليب الذاتي على الموضوعي.
ونحن نحسب أن سبب هذا الخلط يعود إلى الالتباس الحاصل بين حدود ثوابت النظرية القومية وحدود الدور المرسوم لآلياتها السياسية، التي من أهمها يأتي دور الخطاب السياسي.
من أجل ذلك نرى أنه يقع على عاتق رواد الفكر القومي، حركات ومفكرين، مسؤولية تحديد الأولويات، بطرح التساؤل التالي: هل وضوح الفكر يأتي أولاً، والخطاب السياسي في المقام الثاني؟ أم أن تغليب الثاني على الأول، هو ما يجب الأخذ به؟
جواباً على ذلك نجد أنه من المتعارف عليه أن يشكل الفكر النظري المجرد، وما تتوصل إليه جهود المفكرين، البوصلة التي تصوِّب اتجاهات الفكر السياسي. وإذا أردنا أن نبرهن على صحة ذلك فنجد أن ليس من برهان أكثر وضوحاً من اعتقاد كل المجتمع البشري بأولوية القيم العليا، كالعدالة والمساواة مثلاً. فتعريف العدالة والمساواة بمفاهيمهما النظرية المجردة لا تختلف من مجتمع إلى آخر، أما مفاهيم تطبيقها في هذا المجتمع أو ذاك، فتكتسب خصوصيات مرحلية ومجتمعية بشكل لا يتعارض مع مفاهيمها الإنسانية العامة. واستناداً إليه تأتي مرحلية التطبيق السياسي لتضع خصوصيات تطبيقية في مجتمع لا تنسجم مع مجتمع آخر. ولكن مهما اختلفت وسائل التطبيق، باختلاف خصوصيات المجتمعات، فإن المفهوم العام لا يتغير، بل هو مفهوم ثابت، وعلى أساسه كمعيار، يمكن تصويب أي خلل يصيب حالات التطبيق الخاصة ليعيدها إلى مسارها القيمي العام. ولهذا السبب لا يجوز على الإطلاق أن نقول هناك عدالة عربية، وعدالة أميركية، وعدالة صينية... فالعدالة واحدة أينما كانت.
وقياساً على ذلك لا يمكن أن نقول بأن المفاهيم القومية، كنظرية حديثة، تختلف من مجتمع إلى آخر، بل هناك خصوصيات قومية لهذا المجتمع أو ذاك، أي خصوصيات تطبيقية تصلح لهذا المجتمع ولا تصلح لذاك، وهذا الأمر يسمح لنا بالكلام عن قومية عربية وقومية صينية وقومية فارسية...
فالمعيار القومي له أسس وضوابط، من أهمها وحدة الأرض، ووحدة اللغة، والتجانس الثقافي للمجتمع، ووحدة مصالح أفراده، وحقهم بالسيادة الجغرافية والسياسية والاقتصادية على ثرواتهم. وحقهم بالاتفاق على قوانين وتشريعات تنظم شؤون حياتهم الدنيوية على ألاَّ تتعارض مع قوانين القيم العليا أو تتناقض معها.
الخطاب السياسي متغير يسترشد بثوابت الفكر النظري
إننا نحسب أن أسباب الالتباس في تحديد الأولويات، بين الدورين، يعود إلى وجود إشكالية معاصرة، تفرضها طبيعة الصراع بين القومية العربية وأعدائها، الذي وصل إلى مستويات دموية بين أطماع القوى الاستعمارية وقوى المقاومة العربية وتياراتها. تلك المواجهة تحتاج إلى جهد كل المقاومين العرب بغض النظر عن أطيافهم الدينية والمذهبية والسياسية، فالمرحلة تحتاج أحياناً كثيرة إلى تغليب الشعور على البرهان، فالشعور القومي هو من أهم عوامل التعبئة للدفاع عن الوجود القومي، فهو يجمع قوى المواجهة سواءٌ أكانت رؤيتها دينية، أم كانت علمانية، أم كانت تنخرط تحت سقف رؤية وطنية أو قومية.
وإذا كانت مراحل النضال القومي، في بواكيرها الأولى، قد احتاجت إلى زيادة منسوب الخطاب التعبوي في بيئة كانت لا تميِّز تماماً بين ثقافتها الموروثة وثقافتها الحديثة، أصبح لا بدَّ، الآن بعد انقضاء أكثر من نصف قرن عليها، من أن نميِّز بين بيئة البواكير الأولى وبين البيئة السائدة الآن. ونرى أن تلك البيئة أخذت تنشدُّ إلى العامل القومي أكثر فأكثر نتيجة تعميق الشعور القومي في المراحل السابقة، هذا إذا لم يكن التغيير فيها قد بدأ فعلاً، وكما أخذت معظم النخب المثقفة تشعر أن معايير العلاقة السابقة، بين منسوب الوعي النظري ومنسوب الخطاب السياسي، لم تعد تلبي حاجة الأسئلة التي ترتفع لتعيد ترتيب معايير تلك العلاقة إلى طبيعة تخضع للبرهان أكثر من خضوعها للشعور والإحساس.
وهنا يجوز لنا، عندما نريد أن نتصور معايير خاصة للعلاقة بين الثوابت القومية ومتغيرات الخطاب السياسي، أن نضع تلك المعايير على ضوء طبيعة المرحلة السياسية التي يمر بها المجتمع العربي. فهي في مراحل النضال الوطني التحرري من الاستعمار المباشر، غيرها في مراحل النضال الوطني المطلبي. إلاَّ أن هذا لا يعني أن تكون معاييرنا مختلفة بالنوعية، بل هي تختلف بالدرجة. فهي تحتاج إلى جرعات زائدة من تعبئة الشعور والوجدان في الحالة الأولى، بينما في الحالة الأخرى تحتاج إلى جرعات أكثر من البرهان العقلي.
إننا من خلال طبيعة المرحلة، نحدد طبيعة تلك العلاقة بأن نرفع منسوب الشعور والوجدان أو منسوب العقل والبرهان، وبمعنى أوضح نزيد منسوب هذا العامل أو ذاك في خطابنا السياسي. لكن في الوقت ذاته لا يجوز أن نترك تعريفنا للفكر القومي عائماً وغائباً في متاهات الخطاب السياسي، بل العكس هو الصحيح، أي أن تكون لفكرنا القومي المجرد حدوداً واضحة المعالم أولاً، ومنه ثانياً نزيد منسوب الخطاب السياسي لهذا الجانب أو ذاك، أو ننقص منه بما يتناسب مع طبيعة المرحلة.

القومية واقع اجتماعي إنساني والنظرية ناظمه الفكري
ومن أجل الاسهام في توضيح ماهية الثوابت القومية نرى أنه بين رفض التعريف النظري للقومية، كنتاج فكري أوروبي مستورد، كما يحسب الرافضون، وبين واقع قومي كنتاج سياسي حديث لأسس الدولة الحديثة، مسافة لا يمكن الوقوف عندها من دون نقد وتمحيص.
الشعور القومي ليس نتاجاً فكرياً، بل هو واقع يرقى إلى مستوى الفطرة البشرية، أي هو رابط إنساني أصيل بين أفراد الأسرة الواحدة، اتَّخذ شكله الاجتماعي عندما تفرَّعت الأسرة إلى مجموعات قرابية، واكتسب شكله السياسي بعدما ضعفت المسافة القرابية بين تلك المجموعات، لتتحوَّل إلى نظام في تنظيم العلاقة بينها، ليس على أسس قرابية، بل على أسس مصيرية تحمي فيها وجودها. وعن ذلك تعارفت نتائج الأبحاث على أن من أهم تلك الأسس يأتي العامل الجغرافي واللغة والثقافة المشتركة والتراث المشترك والمصالح الاقتصادية في المقدمة منها على أن تشكل رزمة واحدة، بمعنى أن أي عامل مستقل عن العوامل الأخرى لا يشكل قاعدة ثابتة للعلاقة بين أبناء القومية الواحدة، إلاَّ أنه كلما انتفى وجود عامل منها يُضعف في أواصر تلك الروابط.
وقد أثبتت وقائع نشأة الدول الإمبراطورية تاريخياً صحة هذا الأمر، هذا مع العلم أنه لا رابط بين المجتمعات الخاضعة للسلطة الإمبراطورية إلاَّ وجود عامل القوة. فكلما دالت إمبراطورية في التاريخ تزول معها روابط العلاقة بين المجتمعات غير المتجانسة التي كانت تحكمها، وتشكل تلك الانفصاليات كيانات أخرى مستقلة تجمع ما بينها العوامل التي تشكل أسساً للدولة القومية المشار إليها أعلاه، وتبقى على هذا المنوال إلى أن تأتي إمبراطورية أخرى لتعيد دمجها بالإرغام وقوة الجيش والاقتصاد في إمبراطورية جديدة.
لا تشذ الإمبراطوريات، ذات الطابع الديني، عن هذا السياق العام، ولنا من آخر إمبراطورية إسلامية انهارت بفعل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وآخر إمبراطورية مسيحية، انهارت بفعل اندلاع نظرية الانفصال القومي في أوروبا، أكبر برهان.
وبانهيار الإمبراطورية الإسلامية، آخر تلك الإمبراطوريات، انهارت معها إمكانية بناء دولة أممية على الصعيد الديني. وبانهيار تجربة الاتحاد السوفياتي انهار معه حلم بناء دولة أممية تقوم على فكر مادي، أو على الأقل تنطلق من ثوابت ليس للدين فيه حصة.
وبفشل عامل الدين وحده، وعامل الاقتصاد وحده، في بناء دولة واحدة، جاءت نظرية بناء الدولة الحديثة على أسس قومية لتشكل الأنموذج النظري لتلك الدولة، وهي تمر الآن بتجربة تلاقي النجاح بنسب عالية. ويتم الاستمرار في بناء التجربة على الرغم من وجود الكثير من العقبات والمطبات في مواجهة القومية العربية التي تعيق تقدمها، يأتي في مقدمتها عداء التيارين الأمميين، الديني والمادي، الذي يقوده أصوليو الأديان، وأصوليو الماركسية. وقد دخلت النزعة الإمبراطورية المعاصرة، تلك النزعة التي كانت آخر ابتكارات حركة المحافظين الأميركيين الجدد، على خط مواجهة العداء للقومية العربية.

وضوح النظرية القومية وشفافيتها عامل ضروري في الحوار مع الأممية الدينية
على أساس كل ذلك، تقف الدولة القومية، والفكر القومي، أمام امتحان عسير.
وإذا كنا لن نقف طويلاً أمام عامليْ الأصولية الأممية الماركسية، والنزعة الإمبراطورية الأميركية، فلأنهما لم تحفرا في ذاكرة ثقافتنا العامة الشيء الكثير، وإن حفرتا فحفرهما لا يرقى إلى مستوى الطفرة النوعية التي تثير المخاوف المستعجلة، وإن كانت تتطلب المواجهة معهما وسائل مختلفة: فالمواجهة مع الأصولية الماركسية تخف تدريجياً بعد وعي بعض أحزابها السياسية أهمية العامل القومي واستحالة تطبيق الحلم الأممي بمعانيه السياسية، فهي أصبحت منزوعة الأنياب إلى حد كبير. أما المواجهة مع النزعة الإمبراطورية الأميركية فلا تتطلب جهداً فكرياً وسياسياً بأكثر مما تطلب جهداً مقاوماً عسكرياً بالدرجة الأولى. والأصولية الدينية الإسلامية تخوض تلك المواجهة إلى جانب التيارات القومية، وإن بأهداف مستقبلية أخرى.
تلك الأهداف، أهداف الأصولية الإسلامية، تقف في موقع النقيض مع الأهداف القومية أولاً، وتمنحها قوة الثقافة الشعبية لمعظم العرب التي تنطلق أساساً من الثقافة الدينية الإسلامية ثانياً، وأكثرها خطورة تعميم الثقافة الدينية المذهبية ثالثاً، وبنتيجة هذا الواقع تتعدد أهداف الحركة الإسلامية بتعدد أطرافها وأطيافها واجتهاداتها الدينية لتجعل المثقفين الدينين على حافة الاقتتال الديني – الديني، وهذا السبب يقود إلى احتمالات تفسيخ الأمة إلى دويلات يبلغ تعدادها العشرات.
ونحن إذا وقفنا أمام هذه الإشكالية، وأخذت منا الاهتمام الأول في بحثنا هذا، فليس لأنها الإشكالية الوحيدة، بل هي أكثرها حدة وظهوراً في ترسيم مستقبل حدود أمتنا القومية.
يكفي سبباً في جعل إشكالية العلاقة بين الفكرين الديني والقومي محورنا الأساسي، أن الحركات الإسلامية أقدر على الزرع والاستقطاب في بيئة ثقافية شعبية ذات أعماق وسقوف دينية، كما أننا نعطيها أولوية لكن على أن تنطلق هذه الأولوية من أسس الحوار وليس من محور الصراع.
إن شروط الحوار تتطلب من الطرف القومي المحاور، أن تكون عنده حدود الفكر القومي وآفاقه واضحة وجريئة، لأن الجلوس إلى طاولة حوار مع الآخرين من دون وضوح في أهداف المحاور من جهة، ووضوح أهداف الطرف الآخر من جهة أخرى، ستؤدي إلى الإرباك والتردد. وبالتالي سيؤدي إلى وضع المحاور القومي في موقع الضعف أمام آخر متمكِّن من فهم خياراته، تساعده بيئة ثقافية واسعة قادرة على تقوية مواقعه.
لذلك نحسب أن من أهم القواعد التي على القوميين أن يمتلكوها هي أن يكون فكرهم واضحاً أولاَ، وأن يكون المدافع عنه صلباً لا يتردد في الدفاع عنه مخافة من الاصطدام بالثقافة الشعبية ثانياً، وشرط ذلك أن لا يكون مسكوناً بهاجس اختيار الأسلوب الأسهل الذي يسمح له بالكسب الجماهيري ثالثاً.

من أهم ثوابت النظرية القومية أنها نتاج فكري حديث للوقاية من ديكتاتورية الدولة الدينية ولا عدالتها
تطرح هذه المسألة السؤال التالي: هل الدولة الدينية دولة ديكتاتورية؟
إن مجرد تقديس النص، يعني وجود عامل الإلزام من دون نقاش، بل من المحرمات أن يخضع النص للمناقشة، وفي هكذا حال يغيب حق الرأي الآخر في الإفصاح عن نفسه، وبغيابه تغيب الحرية الفردية، وهذا يعني غياب للديموقراطية. وغيابها يعني استحضار للديكتاتورية.
ولأن هذا الجانب متفرع ومتنوع، يكفي أن نذكِّر ببعض العناوين التي استهلكت وضع دراسات وأبحاث كثيرة، ومن أهمها:
-السلطة الدينية الحاكمة تزعم أنها تستمد سلطاتها من الله.
-التشريعات ذات مصدر إلهي مُحرَّم تعديلها.
-الاجتهاد في النص الإلهي نتاج بشري، واستخدامه دليل على الديموقراطية كلام باطل. وهو بدوره يبقى إشكالية خلافية بين المذاهب الدينية نفسها، هذا بالإضافة إلى تعدد مصادر الفقه بتعدد الفرق الدينية وهذا ما يطعن بزعم رجال الدين بإلهية التشريع.
-لم توازن تشريعات الدولة الدينية الحاكمة بين حقوق التعدديات المذهبية والتعدديات الدينية وواجباتها.
تلك الأسباب، كلها أو بعضها، أدَّت إلى ابتكار نظرية الفكر القومي في أوروبا بناء لتلبية حاجة المجتمعات الأوروبية في مواجهة عالمية الكنيسة التي كانت، تحت شعار توحيد العالم المسيحي، تبتز المجتمعات الخاضعة لسلطتها، وتفرض عليها قوانينها وتشريعاتها وتجمع الضرائب تحت مسميات الواجبات الدينية للفرد تجاه المؤسسة التي تمثل الله على الأرض، من دون أن تتلقى تلك المجتمعات مردوداً اجتماعياً، أو فائدة خدماتية. لذا انطلقت الدعوة إلى القومية أولاً من المجتمعات الأوروبية التي وعت حقيقة الأمر، ولم تر تلك الدعوات خلاصاً من سلطة عالمية الكنيسة وأمميتها إلاَّ من خلال الدعوة إلى القومية، ورفض سلطة الكنيسة العالمية. ومن بعد تلك المرحلة، واستجابة لواقع التعدديات الدينية والمذهبية في أوروبا، توسَّع الفكر الغربي في وضع أسس لنظام سياسي تقوم دعائمه على مبادئ علمانية تستجيب لمصالح كل التعدديات الدينية حيثما وُجِدت.
ويكفي هنا أن نشير إلى توضيح الالتباس الحاصل في الحركة النقدية التي تزعم أن العلمانية تقف في صف العداء للإيمان الديني، هذا إذا لم تتهمها بالإلحاد، وتُسقط عليها أحكام التكفير. وإننا نشير هنا إلى ضرورة التمييز بين تشريعات مدنية تحفظ وحدة المجتمع، وهي ذات مضمون اجتماعي سياسي واقتصادي، وبين حاجة الإيمان الديني استجابة لنزعة تفسير الكون ومصير الإنسان بعد الموت، وهي ذات مضمون ماورائي تلبي حاجات روحية وتملأ الفراغ فيها.
وبمثل هذا الفصل نستطيع تحييد العلمانية من وزر إقحامها في موقف لا تحتمله، ونبعدها عن متاهات التكفير لأنها تبغي تنظيم علاقات أفراد المجتمع المتنوع الانتماءات الدينية، فوظيفتها دنيوية، وهذا ما ليس له علاقة بمسألة الخيارات الدينية، التي هي ليست لها مضامين سياسية واجتماعية واقتصادية، فهي حاجة روحية خالصة، يختار طريقها الفرد وليس المجتمع. وبهذا لو تدخَّل النظام العلماني بكل مضامينه المادية والمدنية، فليست من مهماته أن يتدخَّل بمسألة الخيارات الروحية للفرد أو للجماعة. فالجانب الأول فيه عامل الإلزام للمحافظة على أمن المجتمع المادي، والجانب الثاني فيه التزام لا تستطيع السلطات العلمانية أن تتدخل في تحديده.
وفي المقابل، عندما انتقلت هذه النظرية، بعد ثبات نجاحها في أوروبا، إلى ثقافتنا العربية، وكان انتقالها إلى مجتمعاتنا، بواسطة الرعيل القومي الأول، لأنها وجدت فيها بداية جدية لوضع حلول اجتماعية وسياسية واقتصادية لآفات كانت تمارسها السلطات الدينية قبل انهيار آخر تجربة للدولة الإسلامية. وكان المراد من نشرها وتعميمها تلبية للشعور بواقع تعسف سلطة الخلافة الإسلامية العالمية على شعوب ليست متجانسة، بحيث كانت تمارس الخلافة سلطاتها مستغلة موارد تلك الشعوب وتوظفها لمصلحة شعب واحد، كان الشعب التركي هو الحاكم في تلك الفترة.
فالنظرية القومية، على الرغم من أنها تعبر عن حقيقية واقعية في العلاقة بين أفراد ومجموعات لتلبية أكثر من حاجة تشكل اللاحم القومي بينها، إلاَّ أن نشأتها كنظرية كانت بناء لحاجة سياسية، يجمع بين انطلاقتها في أوروبا وانعكاسها على الثقافة العربية.
كانت النظرية القومية، بالإضافة إلى هدفها الانفصالي عن سلطة الكنيسة أو الخلافة الإسلامية، قد أجابت على إشكالية كبرى تُختصر بإيجاد قوانين وتشريعات واحدة تستجيب لمصالح التعدديات الدينية والمذهبية التي تشكل قاعدة لبناء مجتمع القومي متآلف، كما أنها تضمن سيادة العدالة والمساواة لكل مواطني الدولة بشتى جوانب الحياة. فكانت الدعوة إلى العلمانية هي الحل النظري الذي اعتقد مبتكروها أنها قد توفِّر حلولاً لعلاقات الأديان والطوائف المتعددة التي تتشارك في وطن واحد، وهي ما تسمى وحدة منظومة الحقوق والواجبات. تلك المنظومة التي عجزت السلطات الدينية، مسيحية وإسلامية، عن توفيرها لسبب يعود أولاً إلى تطبيق ثوابت الفكر الديني. ولم تجد حلولاً للتآلف بين مذاهب الدين الواحد: في الكنيسة الأوروبية التي وجدت حلاً في تكفير بعضها البعض الآخر، وباتهام من لا يدين بمذهب الكنيسة الحاكمة بالهرطقة وإحالته إلى محاكم التفتيش لاستتابته أو لتعذيبه لإخراج عنصر الشر منه، أو للحكم عليه بالحرق حتى الموت.
وكذلك الأمر هو ما حصل في أكثر من مرحلة من مراحل تاريخ الخلافة الإسلامية، وهذا ما لا نستثني منه حتى بواكير الخلافة الراشدة تلك التي أسست لفتنة انقسام الإسلام إلى مذاهب متناحرة تجاوز عددها الأربعماية فرقة حتى الآن، مروراً بالعصور الأموية والعباسية والملوكية والفاطمية والعثمانية والصفوية.

ثوابت الفكر القومي تميِّز خصوصيات المجتمعات القومية وتحترمها
تتشابه ظروف المجتمعات التي وجدت في النظرية القومية ملاذاً آمناً لشتى أطياف المجتمع الدينية والمذهبية. ولهذا لا نرى علاقة انتشار الدعوة إلى القومية العربية بضمور السلطة الدينية في الخلافة الإسلامية أي اعتقاد غريب، وهذا ما يطرح إشكالية العلاقة بين التراث والمعاصرة في التاريخ العربي. أما التُراث فهو ما يضفي على المجتمعات القومية خصوصياتها. وإننا إذا اخترنا تحديث القوانين والتشريعات وعصرنتها، فأي جزء من التراث على تلك العملية أن تستفيد منه؟
هل كل التراث صالح للاستفادة منه؟
وإذا كان الجواب لا، فعلينا أن نراجع تُراثنا وننقده، لنهمل السلبي فيه ونستفيد من الإيجابي. وتلك هي عملية مكمِّلة ومتمِّمَة لخياراتنا التي حدد أهدافها الفكر القومي. فالحركة النقدية لتاريخنا السياسي والفكري والاجتماعي هي جزء ضروري من أجل استكمال وضع نظرية فكرية قومية متوازنة مع التحديث والعصرنة.

غياب التمييز بين الثوابت القومية وثوابت التراث تقود إلى خطاب سياسي غامض
حيث إن الثقافة الشعبية العامة، باستثناءات قليلة، تتحصن داخل الخطاب الديني، الإسلامي منه بشكل كبير، فهي تقف موقفاً سلبياً، إن لم يكن تكفيرياً، من أي فكر آخر، ومنه الفكر القومي العربي. وخوفاً من الاصطدام مع البيئة الثقافية السائدة، امتنع بعض الحركات السياسية القومية، وبعض المفكرين القوميين العرب عن القيام بعملية نقدية للتراث وللثقافة السائدة معاً، فطغى أسلوب الخطاب السياسي التوفيقي في أحيان كثيرة ولافتة وجاءت نتائجه أقرب للمبادئ الدينية التراثية وكانت على حساب المبادئ الأساسية للفكر القومي. واستناداً إليه ارتفعت شعارات تزاوج بين الفكرين الإسلامي والقومي من دون تمييز بين حدوديهما إلى الحد الذي يستغرب فيه الكثيرون من المفكرين القوميين والحركات السياسية القومية من وجود مثل تلك الحدود.
تلك هي إشكالية المرحلة الراهنة، التي أضاع فيها الخطاب السياسي حدود الفكر القومي، فطغت عليه المرحلية على الثوابت، وأصبحت أكثرية الملتزمين بالفكر القومي تنحاز إلى تغليب حدود الفكر الديني على حدود الفكر القومي، ذهب فيها البعض إلى خيار ثالث قائل بـ«الفكر القومي الإسلامي»، وبمثل هذا الاتجاه أضاع القوميون أهم ثابت من ثوابتهم، وبه زرعوا الخوف في نفوس معتنقي الأديان الأخرى أولاً، وتناسوا ثانياً أن الفكر الإسلامي المستند إلى الفقه قد أصبح أكثر من إسلام، لأن لكل مذهب إسلامي فقهه الخاص الذي وضعه المذهبيون في مرتبة المقدس. وبذلك سيتصارع أصحاب هذا الشعار حول أي فقه سيستندون في تشريعات الدولة القومية وقوانينها.
فأين تبدأ هذه الإشكالية وأين تنتهي؟

الخطاب السياسي القومي جزء مكمِّل للثوابت القومية معبِّر عنها ومتقيِّد بمضمونها
إذا كان على الفكر النظري النزول من النظرية إلى التطبيق، بحيث ينتفع به البشر، وإذا كان فكراً جديداً يهدف إلى نقل المجتمع الموجَّه إليه إلى ضفة التغيير. والتغيير بدوره لا يمكن أن يحصل بقفزات سريعة، بل يتم بنقلات متدرجة بحيث يهضمه المجتمع شيئاً فشيئاً، وقد تمر أجيال عديدة ليصل التغيير إلى حدود واضحة ومنظورة. أما السبب فهو أن الثقافة القديمة تدخل في مواجهة معه، وتضع عوائق وعراقيل في وجهه.
وكي لا تكون المواجهة شديدة تؤدي إلى رفض عميق، يلعب الخطاب السياسي دوراً أساسياً في التمهيد لنقلة تعقبها نقلة، على أن يكون مبنياً على خطط مرحلية، وأن يكون مدروساً ومتقناً، بحيث لا يصطدم مع الثقافة القديمة السائدة من جهة، وأن لا يجاريها في استسهال التقرب إلى الجماهير من أجل كسبها ثانياً. والانتقال من نقد سلبيات الثقافة القديمة وتقديم البدائل القومية المناسبة ثالثاً.

الثوابت القومية بوصلة تصوِّب اتجاهات الخطاب السياسي
قبل كل شيء، ولكي يساعد الخطاب السياسي في التغيير الفعلي، لا بدَّ من أن يمتلك، بتقديرنا، وضوح الرؤية بما يلي:
-أن تشكل الثوابت الفكرية الجديدة بوصلة للخطاب السياسي، ولا يجوز التعتيم على مضمونها، خوفاً من الاتهام بالإلحاد، أو الحكم بالتكفير على أصحابها.
-من أهم الثوابت القومية يأتي رفض بناء دولة دينية في مقدمتها. وإن هذا الأمر يستدعي نقداً للفكر الديني، لأنه من دون نقد واعٍ لا يمكن البرهان على صحة مضمون الفكر القومي وأهميته في بناء الدولة العصرية. والنقد المشار إليه يشمل نقد الفكر الديني بجانبه السياسي، سواءٌ أكان دينياً عاماً أم مذهبياً خاصاً. أما النقد بجانبه الروحي فهو ليس من مهمات الفكر القومي، والسبب أنه عندما يغرق الفكر القومي في نقد الجانب الروحي في الأديان والمذاهب، فسوف يتواجه بإشكالية التفضيل بين دين وآخر، أو بين مذهب وآخر، أو عليه أن يستنبط نظرية روحية جديدة، وهذا ليس من مهماته على الإطلاق.
-من ثوابت الفكر القومي أيضاً أن يحصر همه بتأسيس كل ما له علاقة بتنظيم حياة المجتمع القومي المادية والاجتماعية، وأساسهما العدالة والمساواة بين المواطنين كافة القائم على الأخلاق. وأما خياراتهم الروحية فهي شأن من شؤونهم الفردية لا يجوز أن يتدخل الفكر القومي فيها وكذلك الدولة القومية، بل احترام تلك الخيارات، معتقدات وطقوس خاصة بكل دين أو مذهب، وحمايتها، وأن لا تتدخل إلاَّ ضد ما يمس سيادتها ويمس وحدة المجتمع القومي.
-كي لا يصطدم بالموروث الثقافي الديني والمذهبي، على الفكر القومي أن يلحظ في ثوابته الفكرية ما يلبي حاجة النفس البشرية للدين بتعميم ثقافة مخاطر الترويج للإلحاد من جهة، ووضع خطة تربوية روحية قائمة على الأخلاق من جهة أخرى، وتهذيب وسائل الخيارات الروحية التي تلبي حاجة الإنسان للدين كخيار روحي راقٍ للخلاص في الآخرة.

(39): كلمة في المهرجان القومي في الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد صدام حسين
17/ 12/ 2007
إذا كنا نحيي هذا العام ذكرى شهادة صدام حسين ورفاقه طه وبرزان وعواد، ويجب أن نحييها كل عام، فلأنها ذكرى شهداء العراق والأمة العربية والإنسانية جمعاء.
فإحياء الذكرى، وإن كانت مبادرة وفاء لشهيدنا العظيم، فإنما هي أيضاً وفاء الأمة تجاه رموزها وحافز لها على العطاء.
لقد قيل الكثير عن معاني شهادة صدام حسين، وسوف يُقال أكثر منه، ويجب أن تأخذ من اهتمام الأمة الحيِّز الأكبر، ففي تكريم الرموز تكريم الأمة لذاتها، وفي إحياء ذكراهم تذكير للعالم بمكانتها الإنسانية في مواجهة الظلم والاستغلال.
ونحن نكرِّم اليوم شهيدنا الكبير، مباركين لأمتنا شهادته، فإنما نكرِّم أنفسنا، ونكرم أمتنا، ونصيغ لها تاريخاً تستأهله، لأنها أنجبت من يدفعون حياتهم في سبيل تخليص البشرية من أرباب الشر والشياطين.
ليست عظمة الأمة شعاراً يُطلَق عفو الخاطر، وليست هناك أمة وهبها الله العظمة، بل هناك أمة بنت عظمتها، وصاغت رسالتها بجهد أبنائها وبعصارة نبوغهم وكفاحهم. وعندما تكون الأمة كبيرة فبأبنائها الكبار، وعندما يصغر دورها ويضمحل، فلأن أبناءها لا يزالوا صغاراً، ولن تكون أمتنا العربية كبيرة، وتفرض نفسها بين الدول، ولن تسطر دوراً كبيراً إلاَّ بمقدار ما تنجب من أبطال.
تلك هي معادلة لا يمكن الحصول على التوازن بين طرفيها إلاَّ إذا ترجمت ذلك على أرض الواقع. وهذا ما حصل في العراق الآن، وما حصل في الجزائر منذ أجيال، وما سطَّره رموز المقاومة في فلسطين، وما قام بتسطيره رموز المقاومة في لبنان، وحبل البطولات سيكون طويلاً على جرار الأمة.
فأمتنا كبيرة، لأنها أنجبت المقاومين الكبار، فكبرت بهم وكبروا بها.
وإننا على الرغم من تقديم التحية إلى كل رموز الأمة العربية، وإلى كل المقاومين من المحيط إلى الخليج، نقف الآن أمام ذكرى صدام حسين، لكي نعدد معانيها ونستخلص العبر والدروس لفرادتها في أكثر من جانب، وهي:
-تفرده، وهو في مقدمة حزبه، ببناء مشروع نهضوي عراقي، له أبعاده القومية العربية. وكان هذا المشروع يُعتبر بمثابة التمرد على إملاءات أصحاب الشركات الرأسمالية الكبرى. وكان اختراقاً للخطوط الحمر التي رسمتها للشعوب الأخرى.
-إصراره على اعتبار الصهيونية عدواً للإنسانية بشكل عام، وللأمة العربية بشكل خاص، ورفضه الانخراط في مشاريع تصفية القضية الفلسطينية. وهذا خط أحمر آخر.
-تحديه لتهديدات الإدارة الأميركية ورفض أوامرها بتدجين العراق واحتوائه، ولهذا أعدَّ لمقاومة أصبحت الأولى في تاريخ الأمة والعالم. وبها أحدث التوازن الدقيق في العلاقة بين السلطة والثورة، فضحَّى بالأولى لأنها لا تعني له شيئاً من دون سيادة، واعتنق الثانية لأنها الممر الأساس للسيادة.
وفوق كل هذا وذاك، إذ عندما دعا الشعب العراقي للدفاع عن سيادة العراق، كان أول الذين نزلوا إلى خندق الثوار.
وعندما دعا الأسرى للصمود في وجه العدو وعملائه، كان أول الصامدين، وأصبح صموده مضرب المثل والأنموذج الثوري الحقيقي.
وعندما دعا المعتقلين إلى محاكمة العدو وعملائه، كان في طليعة الذين قاموا بهذا الدور.
وعندما دعا إلى مواجهة حبل المشنقة بشجاعة الرجال، كان في مواجهته أكبر من الرجال.
لن نقول وداعاً أيها الكبير الكبير، لأنك حاضر بيننا في كل لحظة من لحظات النضال.
لن نقول لك وداعاً، فأنت وديعة غالية عند رفاق لك في المقاومة مستمرون مهما كانت الصعاب.
لن نقول لك وداعاً، فأنت حاضر في ذاكرة العراقيين بكل أجنحتهم.
لن نقول لك وداعاً، فأنت حاضر في قلوب أبناء أمتك العربية ووجدانهم.
ولن نقول لك وداعاً فأنت حي في قلوب كل الأحرار في العالم.
وإذا كان لنا أن نفتخر، فنحن نفخر بك وبكل الرفاق، سواءٌ منهم الذين قدموا أرواحهم في سبيل الدفاع عن كرامتنا، أم الذين ينتظرون دورهم ليقدموا لأمتهم مهرها من دمائهم وأرواحهم. أم أولئك الذين يذيقون الاحتلال وعملائه المرارة.
فبكم وبكم وحدكم تكبر الأمة وتكبر ولن تقف مسيرة تحررها حتى النصر، وهو قادم يرفرف فوق نخيل العراق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق