بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 19 يناير 2010

حوارات ومناقشات (2)

(3): نقد كتاب «في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام»
د. علي الموسوي
عندما نتكلم عن العلاقة، مجرد العلاقة، إذاً هي بين طرفين مستقلين. إن ساءت هذه العلاقة أم حسنت، ففي الوقت الذي يشعر فيه الطرفان بمصلحة في العلاقة تتطور هذه العلاقة وتكون جيدة، وعندما يفقد أحد الطرفين أو كلاهما المصلحة في العلاقة فتسوء.
هل هذا ما ينطبق على العروبة والإسلام؟
هل العروبة شيء مستقل بذاته، والإسلام شيء آخر مستقل بذاته أيضاً؟
هل الإسلام هو تجربة عربية؟
أي هل لكلٍ من العروبة والإسلام شخصيته، وبنيته التاريخية والاجتماعية المستقلة؟
هل علاقة الإسلام، كفكر، بالعروبة كعلاقة الماركسية بقومية ماركس وإنجلز، أو بإحدى القوميات العالمية، أو قومية منظري الرأسمالية، أو كعلاقة أي نظام اجتماعي عرفته البشرية كنتاج لقومية ما، أو كعلاقة دين من الأديان السماوية بالقومية التي بشّرت به، أو بنصوصه، بين البشر؟
أسئلة لا بُدَّ من الإجابة عليها:
وهنا رأي خاص في هذا المجال: إن أي فكر اجتماعي أو سياسي، أو أية نظرية اجتماعية أو سياسية أو علمية، عرفتها البشرية عندما خرجت من حاضنتها، أي عندما تجاوزت حدود الزمان والمكان، اللذين أوجداها، خضعت هذه الفكرة للنقاش والإضافات والتصحيح، أي اشتركت في صياغة هذه الفكرة عناصر جديدة لم تكن قد عرفتها من قبل.
أما الإسلام، هذا الفكر الذي صيغ في حقبة عشرين عاماً، بكتاب اسمه القرآن، فتعاطت معه الأمم الأخرى إما بالرفض الكلي وإما بالإيمان الكلي، أي لم تشترك أية أمة لا بشكل جماعي أو فردي في صياغة أي عنصر من عناصر هذا الفكر. فكان إذاَ صياغة أمة استطاعت ضمن عبقريتها الخاصة أن تفصح عن ذاتها بهذا الفكر الرسالي، وهو الإسلام. فالإسلام أفصح عن شخصية الأمة العربية ضمن المنظور التاريخي لهذه الأمة. وخير معبِّر عن هذا ما قاله الأستاذ عفلق: »العروبة جسد روحه الإسلام».
من هنا لا يمكنني أن أتعامل مع العروبة كشيء، والإسلام كشيء آخر مستقل، بيحث تكون العلاقة بينهما خاضعة للتجاذب. ولا يمكنني أن أفهم الإسلام إلاَّ كفكر عربي يعبر عن تاريخ وحاضر ومستقبل الأمة العربية بمنظور إنساني رسالي: من هنا، أيضاً، أقترح أن يكون عنوان الكتاب: هل العروبة شيء والإسلام شيء آخر؟
د. علي الموسوي
توضيحات الباحث
إن الإسلام، كدعوة سماوية، دعوة عالمية موجَّهة إلى كل البشر. وهو بالتالي -حسب دعاته- يعمل على تأسيس نظام سياسي - إسلامي يحكم على أساس شرائعه.
والدعوة إلى القومية، كدعوة وضعية، موجهة إلى قطاع محدود من البشر. وهي بالتالي -حسب دعاتها- تعمل لتأسيس نظام سياسي يحكم على أساس قوانين وضعية.
فالإسلام، حسب مفاهيمه السياسية، والقومية حسب مفاهيمها السياسية، هما، إذاً، طرفان. لأنهما على الأقل يفترقان بمصادر تشريعاتهما: الإسلام يحكم بتعاليم سماوية، والقومية تحكم بتعاليم وضعية.
أما إذا لم يكونا كذلك، فهذا يعني أن القومية والعروبة يدعوان إلى إقامة نظام سياسي متفقان حول مصادره التشريعية. فهل هذا الواقع حاصل بالفعل بين العروبة والإسلام؟
إذا كان الجواب نعم، وبما أن للإسلام شرائع يسبغ عليها المسلمون صبغة الألوهية، أي هي أوامر إلهية، وبما أن النظام القومي العربي يقوم على أساس شرائع وضعية، يقودنا هذا إلى النتيجة التالية: من اللغو أن نضع الأوامر الإلهية في كفة ميزان واحدة مع الأوامر / القوانين الوضعية. فما علينا، في مثل هذه الحالة، إلاَّ أن نقول بأن الدعوة إلى قيام نظام قومي، بمصادره التشريعية الوضعية، إلاَّ لغو من الكلام. وعلى النظام القومي العربي أن يأخذ الشرائع الإسلامية دستوراً له. وهنا لا يفيد، أبداً، التفريق بين الإسلام والعروبة، بل يصبحا شيئاً واحداً، ويصح أن نقول بأن علينا أن نبني نظام الدولة الإسلامية العربية.
وإذا كان الجواب، أنه على النظام السياسي القومي أن يستفيد من بعض الشرائع الإسلامية دون بعضها الآخر، فهنا نقوم بتجزئة تلك الشرائع: بعضها مقبول وهو الجزء الذي يقبل به النظام السياسي القومي، ويكون الجزء الذي لا يأخذ منه غير مقبول، أي مرفوض. وهنا يكفينا هذا المثال دليلاً على وجود طرفين: لأنهما غير متماثلين تماماً استناداً إلى عدم الأخذ بكل الشرائع الإسلامية. ولا يغير من صدق هذه النتيجة أن يكون الجزء المرفوض من الشريعة الإسلامية واحداً من المليون أو واحداً من عشرة.
فالإسلام، إذاً، طرف في معادلة العلاقة بين العروبة والإسلام، والعروبة هي الطرف الآخر. لكننا لا نعدم السبيل في إيجاد معادلة متوازنة بين الطرفين: هما غير متدامجين تماماً، لكنهما غير متمايزين تماماً. فبينهما جوامع مشتركة، كما بينهما جوانب يتمايز كل منهما بها عن الآخر.
حتى لا تضيع العلاقة بين الطرفين في متاهات الجدال اللفظي والخطاب السياسي أو الديني التعبوي، ونضيع في متاهات اللاعلمية، ، ولأن الإسلام وُلِد على أرض العروبة، وباللغة العربية، ونُشر في أرجاء العالم الذي كان معروفاً في الأجيال التي رافقت بداية الدعوة الإسلامية، بسواعد عربية. لكل تلك الأسباب كان، وما زال، من الواجب على أصحاب الفكر القومي العربي أن يحددوا تلك العلاقة موضوعياً وبوضوح، بعيداً عن العبارات التي توحي بأكثر من تأويل وأكثر من تفسير. وإننا لن نعدم وسيلة للوصول إلى نتائج علمية واضحة.
من حيث المنهج المعرفي عند عفلق كان يضمَّن آراءه الكثير من العاطفة على حساب الفكر، سواء في رؤيته للمسألة القومية، أو في رؤيته للعلاقة بين العروبة والإسلام. فهو، تعقيباً على مواقفه العاطفية من المسألة القومية، التي تتمظهر من خلال الكثير من تعابيره، كمثل »القومية حب قبل كل شيء»، و»القومية قدر محبب»، و»الإيمان بالقومية يسبق أي تعريف»، و»القومية تذكر حي»… إلخ دفعه إلى التساؤل: »هل ستبقى قوميتنا بهذا الشكل العام المجرد، الذي يحوي من العاطفة أكثر مما يحوي من الفكر… أم أن خطورة المعركة التي نخوضها تتطلب أن ننظم عملنا، ونفتح وعي شعبنا على مفهوم لقوميتنا عميق إيجابي مكتمل الجوانب…؟».
ولا شك بأن في تعابير عفلق عن علاقة العروبة والإسلام الكثير من العاطفة، بحيث جاءت على حساب التعمق في علمية تلك العلاقة. وإلاَّ إذا كان الأمر غير ذلك، فكيف نستطيع تفسير الكثير من تلك التعابير؟ كمثل: »العروبة جسد روحه الإسلام»، و»ولقد ولد الإسلام في أرض العروبة… ولكنه أصبح أباها»…إلخ.
وإذا كان عفلق هو الذي وصف مفهوم القومية عند البعث بأنه يحوي من العاطفة أكثر مما يحوي من الفكر، فهل نكون ملومين إذا دعينا إلى إنشاء ورشة فكرية مؤسساتية في داخل الحزب لتحديد مفهوم لقوميتنا عميق إيجابي؟
وإذا كان هناك في فكر الحزب ودستوره ما يجعل التفريق بين الإسلام والعروبة مباحاً، فهل يكون إصرارنا على منع التفريق / التمييز بينهما عملاً مُستغرباً ومستهجناً؟ وتكون حجتنا ليست أكثر من القول، تقليداً لما قال به ميشيل عفلق، بأن خير معبر عن حقيقة العلاقة بين العروبة والإسلام هو أن »العروبة جسد روحه الإسلام». فلو طلبنا من أي بعثي أن يضع تفسيراً لما قاله الأستاذ، فهل يستطيع أن يضع تفسيراً يصمد أمام المنطق العلمي؟
وهنا، أطالب كل المهتمين بالشأن الثقافي أن يطلبوا من عدد من البعثيين، لكي يكتبوا موضوعاً حول ما يوحي لهم هذا القول، وأن يحددوا علاقة العروبة بالإسلام على أساسه، ومن بعد ذلك علينا أن نطلع على ما كتبوه، وإنني واثق من أن التفسيرات لن تكون أكثر من مقالات في التعبئة والتحريض.
فلو حاولنا أن نناقش »العروبة جسد روحه الإسلام»، فماذا نجد؟ من المعروف أن الروح عندما تترك الجسد لا بُدَّ من أنه سيفنى. وهذا يفرض علينا أن نتساءل: إذا افترضنا أن العرب امتنعوا عن اعتناق الإسلام، فهل تزول العروبة وتفنى؟ وبالتالي، نحن نعرف أن الجسد وروحه يُولدان معاً منذ أن تبدأ النطفة بالتكون في رحم الأم. وهنا نتساءل: هل العروبة والإسلام تكونا معاً وفي وقت واحد في رحم الجزيرة العربية؟ أم أن العروبة كانت سابقة للإسلام؟ فإذا كانت العروبة قد سبقته، فمن غير المنطقي أن ينمو الجسد ثم ينتظر روحه لكي تأتي بعد مئات السنين إذا لم يكن بالآلاف منها.
وإذا حاولنا أن نفسّر »ولقد ولد الإسلام في أرض العروبة… ولكنه أصبح أباها»، نرى أنه لا بُدَّ من أن نتساءل: كيف يولد مخلوق في رحم أم ثم يصبح أماً للأم. وكيف يولد مخلوق من نطفة رجل ثم يصبح أباً للأب؟ إن هذين المثلين كافيان ليدفعان بنا إلى أن نرتقي، كما طلب عفلق نفسه، بمفاهيمنا إلى مستوى الفكر والعلمية، وأن نخفف من العاطفة التي تطغى على تلك المفاهيم.
فكيف نرى العلاقة بين طرفي المعادلة؟
حاولت أن أنخرط في محاولة أبتغي من ورائها أن أنتقل بمفهوم القومية، وبمفهوم العلاقة بين العروبة والإسلام، من العاطفة إلى العمل العلمي الواضح، فقمت، خلال سنوات من البحث والتقييم والتحليل، بوضع كتاب »في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام».
وإنني قد غيَّرت عنوان الكتاب أكثر من مرة، فمحوت كثيراً، ووضعت عناوين أكثر. وكنت كلما انتقلت من مرحلة إلى أخرى، خلال البحث في التاريخ العربي - الإسلامي، أجد أن العنوان الذي كنت قد وضعته أصبح غير متوازن مع النتائج التي كنت قد توصلت إليها. فكان العنوان الذي تقترح تغييره إلى عنوان آخر، وهو»هل العروبة شيء والإسلام شيء آخر؟»، لم يكن جاهزاً قبل البدء بالبحث، وإنما نتائج البحث هي التي فرضته، لذا جاء معبِّراً عن النتائج الفعلية التي توصلت إليها. فتغيير عنوان الكتاب يتطلب جهداً بحثياً آخر، أتوصل فيه إلى نتائج مختلفة عن التي توصلت إليها من البحث السابق.
ماذا وجدت خلال البحث الذي لم أنجزه إلاَّ بعد سنوات من مشقات التفكير والبحث والتقميش والكتابة؟ كنت أحياناً أتلف بلحظات ما كنت قد تعبت لأجله أسابيع. وكانت غايتي أن أسهم برفد فكر الحزب بإطلالات علمية، وقد قمت أنت يا صديقي باختزال كل عملي الشائك بنتيجة قصيرة من خلال جملة قصيرة قالها ميشيل عفلق »العروبة جسد روحه الإسلام»، مما جعلني أندم على قيامي بكل ذلك الجهد لكي أكتشف نتائج غير حقيقية، في الوقت الذي توصل فيه تراثنا الحزبي إلى حقيقة أخرى بجملة واحدة.
إن المسألة القومية ليست شيئاً ثابتاً، يولد وينشأ ويكبر على وتيرة واحدة، بل هي مسألة لها علاقة بالتطور التاريخي في شتى جوانبه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية. إنها تاريخ متكامل: تتغير أرضاً وشعباً ومناهج فكرية. وهكذا كانت العروبة، نشأت نشأتها الأولى في الجزيرة العربية، ومرَّت عليها حضارات كثيرة ومتعددة، بعضها اندثر بفعل التطور التاريخي، وبعضها استمر بفاعلية ضرورتها وصلاحيتها… وكان الإسلام، بإيجاز، أحد تلك التطورات التي طرأت على حياة العروبة، ولعب دوراً مؤثراً وإيجابياً في تكوينها على الصورة التي هي عليها اليوم. وإذا كان الإسلام هو روح العروبة بمفرده، يعني ذلك أنه هو العامل الوحيد الذي أسهم في تكوينها، وإذا صحَّت هذه النتيجة، يعني أن كل ما جاء به من فكر وتشريعات وتقاليد وجهاد وبطولة… كان جديداً كل الجدة على الحياة العربية. وبما أن الدراسات التاريخية قد أثبتت أن في الإسلام: الشريعة والتقاليد والعادات… وحتى الكثير من العبادات، نقلها الإسلام عن العصر الجاهلي. فللعصر الجاهلي فضل في توليد كل ما أخذه الإسلام عنه. وحيث أن للإسلام شريك في بناء الحضارة العربية، الروحية والمادية، فالإسلام هو جزء من الروح العروبة وليس الروح كله.
كنت أتمنى أن تقرأ البحث الذي قمت بإنجازه »في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام». ومن ثمَّ تقوم بنقد قراءتي للتاريخ العربي - الإسلامي حيثما تجد إلى ذلك برهاناً. لأن نقد النتائج يتطلب نقد المقدمات التي سبقتها. فإذا كانت المقدمات خاطئة ستكون النتائج خاطئة، أما إذا كانت المقدمات صحيحة لا بُدَّ من أن تكون النتائج سليمة. أتمنى أن أكون مخطئاً في تقديري أنك لم تناقش مضمون البحث، بقدر ما قمت بمناقشة العنوان. والعنوان، كما أوضحت، كان نتيجة لنتائج البحث الذي قمت به، وليس هو موديلاً يناسب ما جاء به ميشيل عفلق من أن «العروبة جسد روحه الإسلام»، أو لا يناسبه، بل هو من نتائج بحث علمي، كان عفلق هو الذي دعا الأجيال البعثية الجديدة لكي تقوم به.
لا تقلق يا صديقي مما أقول، لأنه إذا لم نكن من أوائل الجريئين على رؤية أنفسنا بعلمية ونقد ذاتي هادف، فإن الزمن لن ينتظرنا طويلاً ونحن نضيعه في تفسير هنا وتأويل هناك. فلا الحزب يريد، ولا مؤسسه يريد، أيضاً، أن نجمّد النصوص لنختلف في تأويلها وتفسيرها. فلننخرط في ورشة ثقافية فاعلة تُنتج وتنتج وتتفاعل مع معطيات الفكر الذي يواكب حركة المتغيرات على صعيد التاريخ بشتى جوانبه الحضارية: الفكرية والسياسية والاجتماعية.
يكفينا، نحن القوميين، والبعثيين بشكل خاص، أننا وجدنا القومية طريقاً أساسياً لبناء حضارتنا القومية التي تعبّر عن حقيقة العصر كنظام اجتماعي - سياسي - اقتصادي، تستطيع فيه أمتنا العربية أن تجد طريقها الصحيح لبناء ذاتها قوة فاعلة في جسم إنساني واسع متعدد على طول الكرة الأرضية وعرضها. وإذا كان من فضل لتراثنا القومي بشكل عام، ولتراث حزب البعث بشكل خاص، أنه حفظ للروح دوراً أساسياً في بناء الإنسان العربي، وأعطى للقومية استقلاليتها عن تقليدية الأديان وجمود نصوصها وجعلها جامعاً لما فرَّقته الأديان والمذاهب التي طالما افتقدت روحية التوحيد، والتي افتقدت جرأة الاعتراف بالآخر، فجاء الفكر القومي لكي يعترف بها جميعها.
يكفينا يا صديقي أن البعث قد ارتقى بفكره القومي من مرحلة عدم التمييز بين العروبة والإسلام عندما كان يقال فلاناً مسلماً يعني أنه عربي، وعندما كان يقال أن فلاناً عربياً يعني أنه مسلم. فإذا عدنا إلى مرحلة عدم التمييز بين العروبة والإسلام فما هو الجديد الذي أتى به حزب البعث، إذاً؟ هذا يعني أننا لم نأت بجديد بل كان علينا أن نعود إلى فكر سابق أصبح بائداً، وها نحن نعود لنحييه بعد أن رفضه المفكرون القوميون السابقون لتأسيس حزب البعث. فهل هذا ما تريد أن نصل إليه؟
وانتظاراً لقراءتك كتابي من جديد قراءة منهجية ناقدة، وتسهيلاً لقراءة البحث أمامك، على الرغم من أنني سأطيل الرد، سأضع في خدمتك ما جاء في تعريف البحث في أحد وسائل الإعلام، التي قامت بتعريف القراء بمضامين بحثي المنشور:
مراجعة كتاب (في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام)( )
محتويــات الكتـــاب
البـاب الأول: القومية العربية ومرحلة التراكم التاريخي، السياسي والاجتماعي
- الفصل الأول: مرحلة الصفاء العربي: منذ الجاهلية حتى العصر الأموي.
- الفصل الثاني: العصر العباسي: تمهيد للانتقال من الدولة القومية إلى الدولة الأممية.
- الفصل الثالث: العصران المملوكي والعثماني: مرحلة الإسلام الأممي.
الباب الثاني: مرحلة التكوين والتأسيس للفكر القومي العربي (العقائدي والسياسي).
- الفصل الرابع: بين الثوابت السياسية الأمبريالية والحضارة الغربية، مساحة للتمييز بين الرفض والتفاعل.
- الفصل الخامس: مظاهر تأسيس الفكر القومي العربي (العقائدي والسياسي).
- الفصل السادس: مظاهر البناء السياسي وقضايا الصراع القومي العربي.
يؤسِّس الباحث في مقدمة كتابه لتوضيح ضرورة حسم إشكالية الصراع الدائر حول العلاقة بين العروبة والإسلام، فيقول: «للموضوع أهمية مُلِحَّة؛ والفصل بين طَرَفيْ الإشكالية التي يطرحها بنجاح أو فشل، يترتَّب عليه نتائج مصيرية على وضع الأمة العربية». والسبب في ذلك أن هذه الإشكالية استنزفت الكثير من الطاقات الفكرية والسياسية والتنظيمية والإعلامية... وانخرط في معارك الاستنزاف تيارات عديدة، من أهمها طرفان:
-أحدهما ينفي العلاقة بين القومية والدين، ويضعهما في موقع الطرفين المتناقضين، وفيه تساوى كل من الرافضين للدين بحجة رجعيته، والأصوليون الرافضون للقومية بحجة استنكارهم إحلال أية رابطة غير الرابطة الدينية بين أفراد المجتمع الإسلامي.
- أما الثاني، فهو الموقف التوفيقي، الذي يحسب أنصاره أنه لا تعارض بين الإسلام والعروبة.
ولأن كلاً من التيارين لم يلاق أي قبول عند الباحث، أدلى بدلوه في بئر هذه الإشكالية العميق؛ فاستخدم، للوصول إلى نتائج يحسب أنه يتجاوز بها مواقف التيارات المذكورة، منهج البحث التاريخي-الاجتماعي، أي دراسة الحالة (العلاقة بين العروبة والإسلام) كما حصلت في التاريخ فعلاً، وما هي النتائج التي انعكست على وضع المجتمع العربي بفعل تلك العلاقة. فكيف توصَّل الباحث إلى ما عدَّه صحيحاً؟
قسَّم حسن غريب بحثه إلى بابين: يتناول في الأول منهما أُسُسَ العلاقة بين العروبة والإسلام قبل تمظهر الفكر القومي في نظريات. وفي الباب الثاني مرحلة التكوين والتأسيس للفكر القومي العربي.
ففي الباب الأول، بحث غريب، وعلى مدى ثلاثة فصول، التاريخ العربي-الإسلامي منذ عصر الجاهلية، والدعوة الإسلامية، مروراً بالعصر الأموي، وانتهاء بالعصر العباسي، الذي أورث للمماليك والأتراك العثمانيين دولة إسلامية أممية بمصادر تشريعها وتركيبها السلطوي، وقد تُوِّجت بخلافة غير عربية، فاكتمل عقد دولة إسلامية أممية برئاسة أممية غير عربية.
ففي الفصل الأول: توصَّل الباحث إلى أن الدولة الإسلامية –دولة المدينة المنوَّرَة- التي فرضت سلطتها بالكامل على قبائل شبه الجزيرة العربية، أحدثت مُتغيِّريْن أساسيين: توحيد القبائل تحت سلطة سياسية واحدة، ونشرت الدعوة للإسلام، الدين الذي وحَّد العرب وخلَّصهم من تعددية الأصنام.
لكن تلك المرحلة، وإن كانت قد وحَّدت القبائل فهي لم تستطع أن تلغ العصبية العشائرية، التي استمرت حتى القرن العشرين. وإن كانت قد وحَّدت العرب تحت لواء دعوة دينية واحدة، لكنها لم تصل بهم إلى وحدة فكرية عميقة. فما أن توفي الرسول المُوَحِّد حتى أخذ الإسلام يتفتت إلى مذاهب وفرق دينية مُسلَّحَة بالنص الديني الإسلامي؛ وإلى العودة للعصبيات العشائرية والقبلية في صراع سياسي متواصل على السلطة، وتمظهرت في سلسلة طويلة من الفتن والصراعات الدموية.
ثم جاءت الفتوحات الإسلامية، التي أُنْجِز معظمها في العصر الأموي، لتشكِّل الجامع الأكبر للعرب، لعبت عدة من العوامل العسكرية والاقتصادية والسياسية دوراً كبيراً فيه، لكنها كانت تسير كلها تحت ذريعة نشر الإسلام، فجاءت لتُلبِّي طموحات الطبقات الحاكمة في السيطرة والتوسع.
ولما جاء العصر العباسي، كان مجتمع الدولة الإسلامية، التي تأسست بواسطة السيف العربي، يضم إليه الكثير من التناقضات على غير صعيد، ومنها: الإثنيات القومية، والتعدديات الدينية، والطبقية، والحضارية.
وإن كان هذا المزيج الكبير من الإشكاليات قد أسهم في تأسيس حضارة عربية إسلامية ذات شأن، فقد حمل، في الوقت ذاته بذور التفتيت والتجزئة، التي تمظهرت في سلسلة طويلة من الصراعات السياسية والمذهبية والقومية والطبقية... كان من أهم نتائجها أن العصر العباسي أسَّس لقيام دولة إسلامية أممية بتعددية شعوبها وحضاراتها، وتوَّجتها بقياد إسلامية غير عربية في عهد كل من المماليك والأتراك العثمانيين.
لم تستطع الدولة الأممية الإسلامية أن تحقق العدالة والمساواة بين رعاياها من المسلمين. وكانت اللاعدالة واضحة أكثر بحق رعاياها من غير المسلمين. ولذا تعددت الصراعات بين الدولة المركزية وبين كل تلك الإثنيات والتعدديات بأشكال مختلفة وعلى أكثر من صعيد.
كان من نتائج تلك المرحلة، موضوع الباب الأول، تعريب معظم المجتمعات الخاضعة للدولة الإسلامية، وكان للإسلام فضل في تعريبها لأن فهم تعاليم الإسلام وقراءة القرآن لن تتم إلا بمعرفة المسلم للغة العربية. وعندما تعرَّبت تلك الشعوب أخذت تتوحَّد: بتقاليدها وعاداتها وثقافتها. وانعكست وحدة اللغة على نوع من التكامل الاجتماعي والمصالح الاقتصادية والسياسية، وأخذت تشعر بالحاجة إلى وحدة سياسية عسكرية تحميها من الأطماع الخارجية، وهذا لم يكن يخفي توقها إلى نوع من القطرية / الانفصالية للمحافظة على استقلاليتها السياسية والاقتصادية وهذا ما كان يترافق مع خضوعها لمركزية الدولة في وقت واحد. ولكن بقيت عدة شعوب أسلمت ولكنها لم تتعرَّب لا باللغة ولا بالعلاقات الاجتماعية والفكرية ولا بالانتماء القومي، ولم تشعر بأي انشداد وحدوي مع الدولة المركزية إلا بحكم الخضوع لقوَّتها وسطوتها...
هذه هي الحال التي رست عليها الدولة الإسلامية الأممية عندما لحقت الهزيمة بالإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى. وهنا ، وفي نهاية الباب الأول، نتلمَّس أن الباحث يرى أن للإسلام فضل في تكوين ما يُعرَف اليوم بالأمة العربية، لكن هذا لا يعني –على الإطلاق- أن هذا الفضل يُرتِّب على الأمة أن تخضع لنظام إسلامي يحكم على أسس الشريعة الإسلامية بشكل كلي وكامل. إن التجربة السابقة، وعمرها مئات السنين، أثبتت فشلها وعدم صلاحيتها لأكثر من دليل تفصيلي في التاريخ عمل الباحث كل ما في وسعه للبحث عنها وأثبتها في الباب الأول من بحثه.
لم يحل النظام الإسلامي، كما أثبتت وقائع التاريخ، مشكلات رعاياه، على الرغم من أنه كان يحكم على أساس ما نصَّت عليه قواعد الشريعة الإسلامية، التي كان يفتي بها فقهاء مسلمون. ولا يغيِّر من نتائج الحكم السلبية للدولة الإسلامية الواحدة، شيئاً ما كان يدَّعيه فقهاء مسلمون من مذاهب إسلامية كانت في صف المعارضة، من أن تلك الدولة لم تكن تحكم فعلاً على أسس الشريعة الإسلامية.
فهل تصلح الشريعة، إذاً، بعد تجربة مئات السنين لإقامة دولة تحقق العدالة والمساواة لكل رعاياها؟ وهذا ما حاول الباحث أن يفتِّش عن جواب عليه في الباب الثاني. ففي الباب الثاني يثبت الباحث أن العرب لم يُظهِروا أسفاً كبيراً على انهيار الدولة العثمانية باستثناء ما له علاقة بالخوف على الإسلام من الطغيان المسيحي الديني. وعندما تبيَّن أن البديل لن يكون نظاماً دينياً مسيحياً أخذت النُخب العربية تفتِّش عن هوية وحدوية تعيد تجميعهم.
كيف واجهت الشعوب، التي كانت تخضع لحكم الإمبراطورية العثمانية الإسلامية، زلازل انهيار الرأس القائد للدولة الإسلامية الأممية؟
لم يحصل انهيار تلك التجربة، التي بنتها مئات السنين، بفعل التآمر الخارجي فحسب، بل ساعد على ذلك العديد من الإشكاليات السياسية والدينية والعرقية والطبقية، حيث كانت الشعوب الخاضعة لنفوذ الدولة تعمل في سبيل التحرر من هيمنتها، ومن تلك الشعوب كان الناطقون باللغة العربية، والذين أصبحوا من المحسوبين في دائرة العروبة، يعملون للتخلُّص من نير الحكم العثماني الإسلامي أيضاً.
واللافت في الأمر، كما يحسب الباحث، أن كل الشعوب التي لم تتعرَّب، عادت مطمئنة إلى أحضان قومياتها من دون اتهامات ضدها من قبل الإسلاميين أو من الأمميين العلمانيين، ولكن بقي الاتهام موجَّهاً إلى العرب الذين يعملون في سبيل لم شمل الأجزاء الناطقة باللغة العربية، والتي بقيت من دون هوية مُتَّفَق عليها.
ويتابع الباحث في الباب الثاني، فيرسم صورة شاملة للوضع الذي رست عليه ما أصبحت تُعرَف بالأمة العربية؛ فنرى، من خلال بحثه، أنه قد تساوى في الهجوم على الداعين لوحدتها كل من: واضعي إتفاقية سايكس-بيكو، والأمميين الماركسيين والأصوليين الإسلاميين. فهل هذه الاتفاقية ترضي الماركسيين، وهل ترضي الأصوليين الإسلاميين؟ إنه سؤال يرفعه الباحث بحدة ووضوح، ويطالب كل من يدعو إلى رفض الفكر القومي أن يتحمَّلوا مسؤولياتهم في الإجابة عليه.
يصبح من الواضح أن الصورة البانورامية الشاملة، التي رسمها الباحث، للوضع الذي رست عليه الأوضاع الجغراسية للأمة العربية، في أعقاب انهيار تجربة الدولة الإسلامية الأممية، أن عدة تيارات سياسية تتمزقها: منها القادم من الغرب الاستعماري، ومنها ما هو موجود في رحمها. والموجود في رحمها هو ما يجب أن يُحْسَم أولاً، لأنه لا يمكن لأمة أن تقاوم الغزو القادم من الخارج في الوقت الذي يتصارع فيه أبناؤها في الداخل. ويأتي على رأس تلك الأمراض الخلاف الكبير حول تحديد الهوية، بحيث أنه ما لم يتم الاتفاق حولها يصبح من غير الممكن أن نحدِّد أي نظام سياسي نريد أن يحكمها.
بعد اتفاقية سايكس- بيكو أصبحت الصورة على الشكل التالي:
- الماركسيون: وقفوا موقفاً سلبياً من القومية والوحدة العربية، ولم تشفع لهم مواقفهم المستجدة منذ الربع الأخير للقرن العشرين لأنهم لم يبلوروا، حتى الآن، أي مشروع نظري قومي جدي.
- الأصوليون الإسلاميون: الذين ما زالوا يضعون العوائق في وجه أي توجه عربي قومي وحدوي، وهم ما زالوا يحلمون ببناء دولة إسلامية مُوَحَّدَة، ويحسبون أن العمل في سبيل قيام دولة قومية عائقاً جدياً في سبيل مشروعهم، ولذلك ما زالوا يحسبون أن القومية ما خُلِقَت إلا لمحاربة الإسلام. وهم بذلك يرفضون قيام وحدوية قومية عربية، بينما أثبت التاريخ استحالة نجاح المشروع، الذي يحلمون فيه، مرة أخرى.
- القطريون: الذين يدعون للتقوقع في داخل أسوارهم القطرية، وهم على الرغم من تراجع تأثيرهم فإنهم غير متضررين من إدامة الصراع بين القوى والتيارات الرئيسة: الإسلاميون، الماركسيون، القوميون.
فهل كل هؤلاء إلا من الذين يتوافقون، بشكل واعٍ أم بشكل مُضَلَّل، مع ما فرضته اتفاقية سايكس-بيكو وما زالت تفرضه، من أهداف ومشاريع تقسيمية تطال الأمة العربية وحدها؟
ولأن تجربة الدولة الإسلامية الأممية لاقت فشلاً في تطبيق العدالة بين كل رعاياها، على شتى انتماءاتهم الدينية والعرقية، دعا الباحث للاستفادة من تراث الحضارة الإنسانية، ومنها الحضارة الغربية، فوجد أن من أهم المبادئ السياسية التي يمكن للعرب أن يستفيدوا منها هي تلك المبادئ السياسية الحديثة كالديموقراطية والعلمانية. وإن الاستفادة من نتائج الحضارة العالمية يجب أن يتمَّ من دون خوف أو تخويف، ففي الحضارة الإنسانية ما يمكن أن يُسهم في معالجة أمراضنا، ومن الممكن أن نُجري على الأدوية القادمة من الخارج أية تعديلات نراها مناسبة لمعالجة أمراضنا التي نتميَّز بها. وليس العلاج أن نرفض الدواء لأنه مصنوع في مختبرات الغرب.
ثم يخلص في نهاية بحثه إلى دعوة للحوار الجاد والجدي في سبيل الخلاص من مرحلة الصراع حول الهوية.
حسن غريب
***
مجموعـة من التساؤلات حول الأمـة والإسلام (د. علي الموسوي)
-هل جاء الإنتاج النصي في الإسلام على ضوء استيعاب وفهم الإطار الاجتماعي، المكاني والزماني؟ هل يمكن أن يُؤوّل النص خارج هذا الإطار؟ هل للنص معنى واحد أم معانٍ متوالية مواكبة لتطور الحياة؟
-إن كانت الآيات القرآنية قد أُنزِلت على محمد بناءً لما كانت تتفتّح عنه عبقرية بعض الصحابة، وفي مقدمتهم عمر، كما ورد في بعض النصوص؛ فهل عبقرية الأمة انتهت عند عمر أو غير عمر، وفي مرحلة تاريخية واحدة؟
-ما رأيكم بالناسخ والمنسوخ؟
-هل الإسلام ثقافة عالمية؟ وما هي الثقافة العالمية؟
-هل باستطاعة الأمة العربية، أو أية أمة من الأمم التاريخية، أن تكرر ذاتها من جديد؟
إن أي فكر أو أية رسالة لا يمكنهما أن ينتجا ويظهرا إلى العلن إلاَّ إذا توفرت لهما قاعدة بشرية ليس لها من الحياة مجرد الحياة في مجتمع ما، بل تكون هذه القاعدة البشرية قد أنتجت المجتمع لتعيش فيه من خلال هذا الفكر وهذه الرسالة.
والحقيقة أنه لم يكن للإسلام أن يظهر لولا أن أنتج العرب المجتمع البشري الوحيد القادر على حمل الإسلام كرسالة بشرية، وحمل قيم ومفاهيم تلك القاعدة البشرية التي أنتجها المجتمع العربي ما قبل الإسلام، وليحيا هذا المجتمع عبر الإسلام؟
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل أية قاعدة بشرية منتجة من مجتمع بشري ما قادرة على أن تتخلّق وتحمل في وجدانها فكر أية قاعدة بشرية منتجة من قبل مجتمع بشري آخرين؟ وهل هذا الفكر قادر على أن يسهم في تطور هذه الأمة؟
-هل القاعدة البشرية المنتجة من المجتمع العربي في العصر الحديث بحاجة لأن تنتج فكرة جديدة تكون فيه هذه الفكرة مساهمة إسهاماً فعلياً في إنتاج هذا المجتمع؟
-وهل استطاعت أمة من الأمم، عبر التاريخ، أن تتصدّر التاريخ البشري، كقوة وحضارة وعلم، بفترتين زمنيتين منفصلتين؟ أي هل الأمة تكرر ذاتها؟ وهل الأمة قادرة على أن تفصح عن عبقرية ما في أكثر من مرحلة زمنية؟
الدكتور علي الموسوي
***

نحـو صياغـة قواعد فقهيـة متجـددة حـول الناسخ والمنسوخ (للكاتب)
قد يقول قائل بأنه ليس من حق أيٍّ كان أن يزج نفسه في سلك المفسرين والمجتهدين. فمن يريد أن يزج نفسه في هذا المضمار من دون أن يكون من أهله، كمن يفتري على استخدام سلطة ليست من حقه. بل لا يجوز أن يتنكَّب هذه المهمة إلاَّ من حاز على شروط الأهلية التي حددها السلف، وبذلك عليه أن يكون من الفقهاء الذين درسوا في كليات الشريعة. ولا يسعنا هنا إلاَّ أن نلفت النظر إلى أن كليات الشريعة ليست موحدَّة، بل يمكن أن ينفي بعضها صلاحية بعضها الآخر. نقول هذا في الوقت الذي لا بُدَّ لنا من أن نُذكِّر بأن المسلمين الأوائل لم يتخرجوا من أية كليَّة بل اعتمدوا على كفاءاتهم العقلية والنقلية.
على الرغم من ذلك كيف أرى هذه المسألة من منظار معاصر؟
يرى الفقه التقليدي قواعد الناسخ والمنسوخ، كما حددها النيسابوري، على ثلاثة أنواع، وهي: ما نُسِخ خطه وحكمه. ومنه ما نُسِخ خطه وبقي حكمه. ومنه ما نُسِخ حكمه وبقي خطه. وهنا لا بُدَّ من التساؤل:
-ما هي الحكمة من وراء نسخ الخط أو الحكم؟ وهل لدى الله غرض من إغفال حكمة ما نسخ خطه وحكمه؟
-لماذا نسخ خط بعض الأحكام وأبقى على حكمها؟
- ولماذا أبقى على خط كان قد نسخ حكمه؟ وما فائدة بقاء الخط بغير الحكم؟ وهل الغاية هي الخط أم الحكم؟ فإذا كانت الغاية هي الخط، فلماذا نسخ الخط في بعض الأحكام؟ وإذا كانت الغاية هي الحكم فلماذا أبقى على خطوط أحكام كان قد نسخها؟
ونتساءل أيضاً: هل لا يجوز لنا أن نناقش النيسابوري أو غيره من فقهاء المسلمين الذين وضعوا قواعد لفهم القرآن والسنة أم أن ما جاؤا به أصبح من النصوص المقدَّسة؟ وهل لنا أن نقول غير ما قاله الإمام محمد عبده: هم رجال ونحن رجال. وهل نغض الطرف عما قاله محمد عبده لأنه خريج أحد كليات الشريعة، ولا نغض الطرف عن غيره؟
أما حول موضوع الناسخ والمنسوخ، فنرى أنه من الموضوعات التي لم تأت لتغيَّر حكماً بحكم، أو آية بآية أحسن منها( )، في خلال حياة الرسول فحسب، بل إن ما جاء في القرآن هو تدليل على أنه لا يمكن للأحكام الزمنية أن تبقى ثابتة، بل إنها تتغير بتغير الظروف، أيضاً، في كل زمان ومكان. فعندما يريد الله أن يُنسي آيةً أو ينسخها، فهو يفعل ذلك لأنه يعلم أنها لم تعد تواكب روح العصر. وهذا دليل على أن أسلوب النسخ جاء لا لكي يضع أحكاماً ثابتة لأعمال هي من المتغيرات، بل ليدل على أن الشريعة ليست ثابتة بل وُضِعت لتحاكي ظروف البشر ومصالحهم، فإذا أصبح الحكم لا يلبي مصلحة البشر، في زمان ما أو مكان ما، فلا ضير ولا خوف من تعديله بأحسن منه.
يرى الفقه أن قواعد الناسخ والمنسوخ لا يمكن أن تتجاوز ما حصل في أثناء حياة الرسول، أي أن الله نسخ في حياته ما نسخ، وأنسى ما أنسى، أما بعد وفاته فقد أقفل باب النسخ. ولهذا السبب يرى الفقه التقليدي أن شرائع الإسلام أصبحت ثابتة لا يمكن لأحد أن يقوم بتغييرها، أبداً، بعد وفاة الرسول.
وهنا، سنفرد بحثاً موجزاً عن الناسخ والمنسوخ، بهدف المساعدة على صياغة قواعد فقهية متجددة حولهما. وسنتَّخذ شرائع الحرب في الإسلام أنموذجاً يساعدنا على الصياغة. وسنفتتح البحث بآيات من القرآن جاء فيها:
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا (محمد:4).
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً (لأنفال:69).
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ (الأنفال:41)
غنـائم الحرب في الإســلام
I- الجزيــــة
قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (التوبة:29). وقد حدَّد الغزالي خمسة أركان للجزية( )، وهي:
1-نفس العقـد: «هو أن يقول نائب الإمام أقررتكم بشرط الجزية والاستسلام، ويذكر مقداره، فيقول الذمي قبلت… وعقد الجزية غير لازم من جانب الكفار، بل لهم الالتحاق بدارهم إذا شاؤوا»( ).
2-العاقـــد: هو الإمام.
3-فيمن يعقد له: «كل كتابي عاقل بالغ حرٌّ ذكر متأهب للقتال قادر على أداء الجزية»( ).
4-في البقــاع: «يقرّون في سائر البلاد إلاَّ الحجاز، وهي مكة والمدينة واليمامة ونجد ومخاليفها والطائف وخيبر…»( ).
5-في مقدار ما يجب عليهم: ويرى أن واجباتهم خمسة:
أ-الجزيــة: يستوي فيها الغني والفقير. وللإمام أن يماكس بالزيادة ما شاء( ).
ب-الضيافـة: للإمام أن يوظف عليهم ضيافة الطارقين من المسلمين بشرط أن يذكر عدد الضيوف ومقدار طعامه وأدمه وجنسه وقدر علفه ومنزله ومدة مقامه( ).
ج-الإهانـة: أي «أن يطأطئ الذمي رأسه عند التسليم، فيأخذ المستوفي بلحيته ويضرب في لهازمه وهو واجب… لكن يجوز إسقاط هذه الإهانة مع اسم الجزية عند المصلحة بتضعيف الصدقة»( ).
د-«يجوز أخذ العشر من بضاعة تجار الحرب. ويجوز الزيادة. ويجوز النقصان إلى نصف العشر عن الميرة ترغيباً لهم في التكثير وكل ما يحتاج إليه المسلمون»( ).
هـ: الخراج: لا يسقط الخراج عنهم إلاَّ بالإسلام( ).

ملاحظـات حول أحكـام الجزيــة( ).
-إن الكيفية التي تعامل بها الإسلام مع أهل الذمة تنبني على اعتبارات دينية: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلام (آل عمران: 19)، وسياسية (الاعتراف بسلطة الإسلام السياسية)، واجتماعية (اعتبار أهل الذمة أقل قيمة من المسلمين والعرب)، واقتصادية (استفادة الأمة مما يدفعه أهل الذمة من جزية وخراج).
-إن أحكام أهل الذمة تعود في مجملها إلى ما عرف في التاريخ الإسلامي بالعهد العمري (عهد عمر بن الخطاب لنصارى الشام).
لا تخرج أبعاد هذه الطريقة في معاملة أهل الذمة عن ما يلي:
أ-الإحساس القوي، الذي صاحب الفاتحين الأوائل بتفوقهم الحضاري والثقافي، باعتبارهم مسلمين وعرباً (الجزية لا تُفرض على العرب باتفاق كثير من الفقهاء). وقد تدعَّم هذا الإحساس عندما واجه الفاتحون شعوباً عريقة في الحضارة معتزَّة بتراثها وماضيها.
ب-الهاجس الأمني: ذلك أن وجود غير المسلمين في صلب المجتمع الإسلامي مقبول إذا لم يهددوا مصالح الإسلام. لذلك يُطلب منهم التميز عن المسلمين لكي تسهل مراقبتهم.

II- الغنيمــة
تقسم الغنائم إلى أربعة أصناف أساسية:
1-السلب: هو ما كان على المقتول الكافر من لباس وسلاح وفرس وأموال( ).
2-الغنيمة: كل ما يفتكُّ بقوة السيف، ويشمل الممتلكات والأشخاص( ). فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً  (الأنفال:69). وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السبيل (الأنفال:41).
بعد عودته من الطائف، قام الرسول بتوزيع غنائم حنين، ومعه من هوازن سبي كثير: ستة آلاف من الذراري والنساء؛ ومن الإبل والشاء ما لا يدرى عدّته.طلب منه وفد من هوازن، كان قد أسلم، أن يردَّ عليهم الأهل من دون الأموال، ففعل الرسول وكذلك بعض المسلمين ، فردّوا عليهم الأهل من دون الأموال .أما الذين امتنعوا عن التنازل عن حقّهم، فقال لهم الرسول: «أما من تمسّك منكم بحقِّه من هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض ( إبل) من أول سبي أصيبه»، فاستجاب الممتنعون لما قال الرسول فردوا إلى الناس أبناءهم ونساءهم( ).
3-الفيء: هو كل ما وصل من المشركين عفواً من غير قتال، ويشمل بالأساس الأرض( ). يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك (الأحزاب: من الآية50). مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ  (الحشر:7).
4-النفل (جمع أنفال): هو ما يتمتع به بعض المجاهدين زيادة على نصيبهم من الغنيمة( ). يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ (الأنفال:1).
وتُقسَم الغنائم إلى أربعة أقسام: الأموال والأراضي والسبي والأسرى.

مشروعيـة الغنيمـة
تحدَّث معظم الفقهاء عن مشروعية الغنيمة من الكفار( ). ومشروعيتها تعني أن الأرض وما عليها ملك لله، وإن الإنسان مستخلف في (ملك الله)، وإذا هو لم يوظف ما يمتلكه لعبادة الله وتقواه يُحرَّم عليه. وبما أن الكفار يستغلّون ممتلكاتهم في الكفر، فالمؤمن أولى بها من الكافر. فالغنيمة، إذاً، تؤخذ من الكفار انتقاماً منهم( ). كما أن الغنائم تعتبر مكافأة من الله للمجاهد لمجهوده في سبيل نشر دينه.

مناقشـة حول إمكانيـة نسخ أحكام الردة وأحكام الغنيمـة( )
أعطى النص الإسلامي أحكام الردة وأحكام الغنيمة مشروعية إلهية، فأسبغ المسلمون عليها صفة القدسية، وهذا يعني أنه لا يمكن لأحد أن ينسخها إلاَّ الله. وهناك، خاصة من الإسلاميين، من يريد أن يثبت أن المستحيل ممكناً عندما يحسبون أن الشرائع الإسلامية ليست عرضة لأي تغيير لأنها تمثِّل أحكاماً وشرائع إلهية؛ ويؤمنون أنها صالحة لكل زمان ومكان. يقول بعضهم: «إن شريعة الإسلام عامة خالدة، هذا من القطعيات الضرورية»، و«إن الأصل في أوامر الله وأحكامه هو الثبات والبقاء، حتى ينسخها الله بذاته بشرع آخر، إذ لا يملك بشر سلطة فوق سلطة الله، حتى يلغي أحكامه. ولا شرع لله بعد محمد(ص)»( ). وتتمثل شرائع الإسلام القطعية «في شؤون الزواج، والطلاق، والميراث، والحدود، والقصاص، ونحوها من نُظُم الإسلام، التي ثبتت بنصوص قطعية الثبوت، قطعية الدلالة»( ).
بناءً عليه لا يمكن لفقهاء المسلمين أن ينسخوا أحكام معاقبة المرتد عن الإسلام وأحكام الغنيمة، أو بعضها لأن نسخها ليس من بأمر منهم بل هو من إرادة الله. فأحكام قتل المرتد وأحكام الغنيمة هي أحكام إلهية قطعية.
لكن ظروف المرحلة المعاصرة قد بدَّلت كثيراً من العلاقات السياسية والاجتماعية بين الدول. وأوجب التبديل في العلاقات تبديلاً في كثير من شرائع شتى المجتمعات، وأخذت بعض الشرائع طريقها نحو العولمة، مما أفسح في المجال للشرائع الدولية / العالمية أن تحلَّ مكان كثير من الشرائع الخاصة لتلك المجتمعات.
لقد أقرَّت الاتفاقيات الدولية، الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة، والتي وافقت عليه معظم الدول الإسلامية نصوصاً تنسخ -ضمناً- أحكام الشريعة الإسلامية حول حرية الاعتقاد وأحكام غنائم الحرب. وجاء فيها:
-نصَّت المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ما يلي: «لكل إنسان الحق في ممارسة الديانة التي يعتنقها. وهذا الحق يشمل حرية تغيير العقيدة وحرية نشرها وتدريسها وممارسة شعائرها».
-ونصَّت الفقرة 2 من المادة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية، على ما يلي: «لا يجوز إخضاع أحد لإكراه من شأنه أن يعطِّل [حرية الإنسان] في الانتماء إلى أحد الأديان أو العقائد التي يختارها».
-أعلنت الفقرة الأولى، من المادة 45 من اتفاقية جنيف الثالثة، حمايتها لأسرى الحرب. وحدَّدت المادة 75، من البروتوكول الملحق بالاتفاقية، ضمانات الحماية الأساسية، التي تؤكد على ما يلي: «يُعامَل معاملة إنسانية، في كافة الأحوال، الأشخاص الذين في قبضة أحد أطراف النزاع…». وحضَّرت اعتماد الأفعال التالية بحق الأسرى: «ممارسة العنف إزاء حياة الأشخاص أو صحتهم أو سلامتهم البدنية أو العقلية، وبوجه خاص: القتل - التعذيب - التشويه - انتهاك الكرامة الشخصية…».
-دعت المادة الرابعة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، من أنه «لا يجوز استرقاق أو استعباد أي شخص، ويحظر الاسترقاق وتجارة الرقيق بكافة أوضاعهما».
لقد شرَّع الإسلام، كما فعلت غيره من الأديان السماوية، قتل المرتد عن دينه؛ وشرَّعت الغنيمة، أي الاستيلاء على أموال العدو وممتلكاته، وسبي النساء والأطفال، وقتل الأسير أو العفو عنه أو قبول فدية لتحريره.
وإذا قمنا بمقارنة بين التشريعين: الدولي والإسلامي، فماذا نجد؟
أ-فرض الإسلام الجزية على أهل الكتاب.
ب-وشرَّع الإسلام قتل المرتد عن الإسلام. أما القانون الدولي فقد ضمن حماية حرية الاعتقاد، بما فيها حرية تغيير الدين.
ج-وشرَّع الإسلام سبي النساء والأطفال واسترقاقهم. أما التشريع الدولي فقد فرض حمايتهم ومنع استرقاقهم.
د-من أحد خيارات معاملة أسير الحرب، في الإسلام، هو قتله. أما التشريع الدولي فقد حدّد شروطاً واضحة تُلزِم المتحاربين بحماية الأسير.
وبعد المقارنة نتساءل: أي التشريعين يواكب روح العصر من جهة، وأيهما يؤمن حماية الإنسان وحريته: أهو التشريع الإسلامي، أم التشريع الوضعي (كأنموذج التشريعات الدولية)؟
طبعاً سيقول الإسلاميون أنهم لن يختاروا غير التشريع الإسلامي. وإليهم نتوجه بالأسئلة التالية:
-هل تستطيع الدول الإسلامية الحاضرة، أو التي يمكن أن تنشأ في المستقبل، أن تقتل مرتداً عن الإسلام؟
-وهل تستطيع، في حالة قيام حرب بين دولة إسلامية ودولة مسيحية، أن تفرض الدولة الإسلامية الجزية على المسيحيين؟
-وهل تستطيع أن تحكم علناً بقتل أسير حرب؟ وهل تستطيع -في السر أو العلن- أن تسبي النساء والأطفال؟ وهل تستطيع مصادرة أملاك الخصم وأمواله كغنائم حرب؟
إن جوابنا هو: كلا لا تستطيع أية دولة تحكم حسب الشرائع الإسلامية، ولن تستطيع، أن تشرِّع أحكام قتل المرتد عن الإسلام، أو أن تشرِّع أحكام الجزية على أهل الكتاب، أو أن تشرِّع أحكام غنائم الحرب. فما هو موقفها من النص المقدَّس في مثل هذه الحالة؟
هي تلتزم بالأحكام الإسلامية نظرياً، ولكنها مرغمة على نسخها عملياً. وقال بعض الفقهاء، حول هذه المسألة «إن الحديث عن الإماء وأحكامهن أصبح بلا جدوى بعد إلغاء الرق»( ).
لقد نسخ الأمر الواقع لروح العصر وظروفه نصوصاً إسلامية. فهي قد أصبحت تساوي، كما جاء عند النيسابوري: ما نُسخ حكمه وبقي خطه. وهنا، نتساءل: ما هي أهمية أن يُنسَخ الحكم ويبقى الخط؟ وماذا يترتَّب على فقهاء المسلمين أن يفعلوه في حالات مشابهة، ونحن نرى أن روح العصور القادمة سوف تتغيَّر، وسوف تنسخ معها أحكاماً إسلامية أخرى؟
وإذا عدنا إلى قواعد الفقه الإسلامي، في الناسخ والمنسوخ، لوجدنا أن روح العصر، والعلاقات الدولية المعاصرة، تقتضي من الفقهاء أن يقرّوا بجواز نسخ أحكام ظلَّلوها بالقدسية الإلهية وكفَّروا من يجرؤ على نسخها. إن إعطائهم الجواز بنسخها يأتي كبديل منطقي وواقعي لعوامل الإرغام التي يخضعهم لها القانون الدولي. فالنسخ هو نسخ سواء تمَّ بالرضى أم تمَّ بفعل الأمر الواقع.
فإذا رضخ الفقهاء للأمر الواقع، وعدّوا أن أحكام حرية الاعتقاد والجزية والغنيمة، أصبحت بلا جدوى بعد أن ألغتها مواثيق العلاقات الدولية وشرائعها، أفلا نحسب أن في هذا الاعتراف نسخاً لعدد من أحكام شرائع الإسلام؟
بلى هو نسخ، سواء كان هذا النسخ إرادياً أو إرغامياً. وإذا جاز نسخ حكم واحد من الأحكام الإسلامية القطعية، يجوز نسخ كل حكم يثبت العصر ابتعاده عن تأمين مصالح الإنسان. فمن داخل هذه النتيجة نعود إلى إعطاء رأي حول تعريف الناسخ والمنسوخ، على الشكل التالي:
-إن قواعد الناسخ والمنسوخ ما هي إلاَّ قواعد دائمة وثابتة. وهي تعني إمكانية تغيير الشرائع أو تجديدها كلما اقتضت ظروف المجتمعات ذلك. سواء حصل النسخ والتغيير في حياة الرسول أم بعد مماته.
إذا اتفقنا على أن تنزيل عدد من آيات القرآن قد تبدَّلت / نُسِخت مع تبدل الظروف والأحداث فهذا شيء مهم، بل وفي غاية الأهمية. وهذا ما لا يجعلني مصراً على معرفة لماذا بقي من الأحكام ما نُسخ خطه، ولا على معرفة ما نسخ من الأحكام وبقي خطه. بل ما يعنيني هو أن جوهر مسألة النسخ أن لا تقتصر على ما نُسخ في السابق دون أن نلتفت إلى تبدل الظروف في عصرنا الراهن. وهذا مما له علاقة بموضوع حرية العقل.
صدر عن هيئة الأمم المتحدة، المنظمة الدولية التي تعمل على عولمة القوانين والتشريعات، في ما له علاقة بحقوق الإنسان، إعلاناً عالمياً تقرُّ في مادته الثامنة عشرة، والتي جاء في نصها ما يلي: »لكل إنسان الحق في ممارسة الديانة التي يعتنقها. وهذا الحق يشمل حرية تغيير العقيدة وحرية نشرها وتدريسها وممارسة شعائرها«. وعندما توافق عليه كل الدول أو أكثريتها، ومنها الدول العربية والإسلامية، فهل تستطيع أية دولة أن تسمح لفقهاء المسلمين أن يطبقوا قانون الردة على المسلمين؟ بمعنى أن يصدروا فتوى بقتل المرتد وأن ينفذّوها استناداً إلى شرائع الإسلام، تطبيقاً لحديث الرسول: »من ارتدَّ منكم عن دينه فاقتلوه«.
من المستحيل أن يُعطى الفقهاء المسلمون صلاحية إصدار مثل ذلك الحكم. فقوانين الدول، حتى الإسلامية منها، لن تسمح بقتل المرتد لأنها بذلك تخرق التشريعات الدولية. ماذا تكون النتيجة في مثل هذه الحال؟
إن النتيجة هي أن حكم قتل المرتد عن الإسلام قد نُسخ. وما هو حكم من يقبل بنسخ حكم قد شرَّعه الله؟
فالذي يقبل النسخ يكون كمن يتمرّد على الإرادة الإلهية. ومن يسكت عن النسخ يكون كالشيطان الأخرس. وفي كلتي الحالتين يكون النسخ قد حصل بالفعل، وما هي فائدة قواعد الفقه التي وُضِعت عن الناسخ والمنسوخ؟ فهل وضع الله أحكاماً ثابتة ونهائية لا يجوز نسخها لكي تُنسخ؟

هل الإسلام ثقافة عالميـة؟ وما هي الثقافة العالميـة؟
أولاً: ما هي الثقافـة؟
جاء في تعريف الثقافة ما يلي: هي كل ما فيه استنارة للذهن، وتهذيب للذوق، وتنمية لملكة النقد، والحكم لدى الفرد أو في المجتمع، وتشتمل على المعارف والمعتقدات، والفن والأخلاق وجميع القدرات التي يسهم بها الفرد في مجتمعه. ولها طرق ونماذج عملية وفكرية وروحية، ولكل جيل ثقافته التي استمدها من الماضي وأضاف إليها ما أضاف في الحاضر، وهي عنوان المجتمعات البشرية.

ثانيـاً: كيف نكتسب الثقافـة؟
يقول ميشيل عفلق، في حديث له تحت عنوان (قضية الدين في البعث العربي) في العام 1956م، عن الثقافة ما يلي: «يهمنا أن يكوّن هذا الجيل لنفسه ثقافة حقيقية متميزة تميزاً واضحاً عن العامية المسيطرة على مجتمعنا. وباختصار، يتساءل عفلق، كيف نفهم الثقافة؟ فيجيب: هي أولاً مشاركة في الجهد، وليست انفعالاً وتكيفاً، أي أن الذين عليهم أن يتثقفوا يتوجب عليهم أن يتعبوا، وان يتقاسموا الجهد مع مثقِّفيهم، وأن يمشوا بأنفسهم خطوات جديدة في طريق المعرفة والتثقف، إذ لا يجدي قضيتنا شيئاً أن نجمع شباباً لا يعملون أكثر من حفظ بعض الشعارات والكليشيهات والأجوبة العامة الموجزة التي يمكن أن تُفهَم على أي شكل، أي أن لا تُفهَم مطلقاً. على الشعب العربي أن يفهم أن الثقافة هي نوع من أنواع النضال، النضال مع النفس، النضال مع الفكر، لكي يتعب في تحصيل المعرفة، ولكي يجرؤ على تبديل الأسس السطحية في التفكير الشائع التي هي في داخله لكونه ابن وسطه، لكي يعيد النظر في كل الأمور الأساسية حتى يصل إلى النظرة الجديدة، النظرة الانقلابية التي أوجدها الحزب في المجتمع العربي الجديد… فكل شيء يمكن أن يُستعار، وأن يُقلَّد إلاَّ الفكر»[انتهى].
ثالثـاً: تعريف الثقافـة العالميـة:
فالثقافة العالمية غير موجودة إلاَّ في القيم الإنسانية السامية، أي تلك التي تستجيب لوضع حلول لمشاكل مختلف المجتمعات البشرية. وحيث أن لكل مجتمع ثقافته الخاصة ولكل أمة ثقافتها المتميزة نقول: الثقافة العربية، أو الثقافة الفرنسية… ونرى أن ما له علاقة بخصوصيات مجتمع أو آخر، يكتسب ثقافته الخاصة التي على أساسها يقوم بإيجاد حلول لمشاكله الخاصة. فللمشكلات الخاصة ثقافة خاصة.

رابعـاً: هل الإسلام هو ثقافـة عالميـة؟
ما نستطيع أن نقوله إن في الإسلام مجموعة من القيم الأخلاقية والروحية التي تصح أن تكون قيماً إنسانية، وبهذا تصح أن تصبح ثقافة إنسانية. والثقافة الإنسانية هي التي تعدُّ جامعاً مشتركاً بين ثقافات العالم، أي الثقافة التي تستجيب لظروف ومصالح أكثر المجتمعات البشرية؛ وفي هذا السياق يُعدُّ الفعل العلمي التكنولوجي فعلاً علمياً حضارياً يكتسب هويته العالمية؛ أما الفعل الثقافي الفكري، الذي يستند إلى القيم الإنسانية المطلقة، فيشكِّل أساساً لثقافة إنسانية عالمية، وعندما يختلف، ببعض تفصيلاته من مجتمع إلى آخر، فلن يصبح خاصاً بل يحافظ على عالميته. وهنا نرى أن كل ما ترفضه الشعوب الأخرى من الإسلام لن يكون مشروعاً لثقافة عالمية. وهنا، نسترشد بمسألة - إشكالية، وهي: يعدُّ الإسلام غنائم الغزو / الحرب حقاً من حقوق المسلمين المنتصرين على أعدائهم؛ وتشمل الغنائم الأملاك والأموال والنساء والأطفال، بينما الرجال يُقتلون أو يُسترجعون بالفدية. أما في المرحلة المعاصرة فقامت هيئة الأمم المتحدة لتحدد مفاهيم وشرائع أخرى حول هذه المسألة، وفيها تلغي حق المنتصر في أموال العدو وأملاكه ونسائه وأطفاله…
فهل نحسب أن التشريع الإسلامي -في هذا الجانب- عالمي؟ أم أن شرعة حقوق الإنسان الصادرة عن هيئة الأمم المتحدة، التي تعترف بحقوق أسرى الحرب -من الأطفال والنساء والرجال المدنيين- هي التي تكتسب صفتها العالمية؟
لا شك بأن ما صدر عن هيئة الأمم المتحدة، أي الشرائع الصادرة عنها، هي التي اكتسبت صفة العالمية، لأنها حازت على إجماع العالم، وعلى أقل تقدير، حازت على موافقة الأكثرية المطلقة من دول العالم. وهنا، هل يمكننا -في المرحلة الراهنة- أن نعمم الثقافة الإسلامية المتعلقة بهذا الجانب، أم علينا أن نعمم ثقافة شرائع هيئة الأمم المتحدة؟
إن ما يصح أن نقوله حول الثقافة الإسلامية، يصح حول ثقافات المذاهب الإسلامية، فثقافة المسلم السني هي غير ثقافة المسلم الشيعي. فهناك الثقافة الشيعية الإثني عشرية هي غير ثقافة الشيعية الزيدية أو الشيعية الإسماعيلية… وثقافة المنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين هي غير ثقافة المنتمي إلى حركات إسلامية سنية أخرى…
فالثقافة المشتركة، بين أفراد مجتمع ما، هي تلك التي تنبع من اعتناق لعاداته وتقاليده على المستوى الاجتماعي، أو تستند إلى ممارسة لعبادات الدين المنتسب إليه وطرقه الخاصة في المعرفة على المستوى الديني. أو تنبع من ممارسته لأساليب اقتصادية معينة في معرفة المعاملات الاقتصادية على المستوى الاقتصادي…
فهل تمثل الثقافة الإسلامية جوامع مشتركة مع الثقافة البوذية أو الكونفوشية أو المسيحية؟
تعمل كل دعوة دينية على الانتشار على المستوى العالمي. كل ديانة تعمل على عولمة نفسها. فهل تحقق طموحاتها أو لا تحققها؟ هنا يختلف الأمر. لكن كل دين من الأديان، المعروفة حالياً، ليس بدين عالمي حتى لو اعتنقه مليارات من البشر. والسبب -كما نحسب- هو أنه إذا استجابت شرائع دين لمصالح معتنقيه الروحية، فإنها لا تستجيب لمصالح المؤمنين بالأديان الأخرى. أما لو دعونا إلى القيم الإنسانية المطلقة، بمفاهيمها الفلسفية، لكانت ثقافة عالمية. ولكن عندما نراجع مفاهيمها الثقافية الخاصة بكل مجتمع مدني أو ديني، لوجدنا أن الخلاف حولها سوف يبرز إلى الواجهة، لأن كل مجتمع يحاول أن يطبِّق طرق الوصول إليها تبعاً لثقافته الدينية أو المدنية الخاصة. أما لو جرى الاتفاق -كما تدل مواثيق هيئة الأمم المتحدة وشرائعها- على تطبيقات متجانسة في كل المجتمعات، ستتحول القيم الإنسانية، بمفاهيمها الفلسفية والسياسية، إلى ثقافة عالمية.
لكن هل تبقى كل ثقافة، تحت ذريعة خصوصياتها الاجتماعية أو الدينية، جامدة لا يطالها التغيير؟
إن الثقافة ليست ظاهرة جامدة بل هي متغيرة بتغير الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وتغير نمط علاقات الأفراد بين بعضهم البعض. وقد تتبدل الظروف في داخل مجتمع ما نتيجة لحركة تطوره الحضاري، وهذا ما يستدعي تغيراً في النمط الثقافي على مستوى الفرد والمجتمع. وحتى داخل المجتمع الواحد أو الجماعة الواحدة تتغير المستويات الثقافية وأنماط التفكير والسلوك…
• وهل استطاعت أمة من الأمم، عبر التاريخ، أن تتصدّر التاريخ البشري، كقوة وحضارة وعلم، بفترتين زمنيتين منفصلتين؟ أي هل الأمة تكرر ذاتها؟ وهل الأمة قادرة على أن تفصح عن عبقرية ما في أكثر من مرحلة زمنية؟
إن لكل أمة عبقريتها الخاصة بها. فليس هناك أمة عبقرية أو أمة غبية بالمطلق. ومقياس تقدم العبقرية ليس في الانتماء إلى عرق معين. وإلا لكنا نؤمن بالنازية التي تدَّعي أن العرق الجرماني هو أصفى الأعراق وأكثرها رقياً. وعبقرية أمتنا ليس مرتبطاً بالجنس العربي، بل هو مرتبط بفعلنا الحضاري التاريخي، لكن انتماءنا الحضاري التاريخي لن يكسبنا عبقرية متميزة مستمرة في تميُّزها. ورفدنا الحضارة الإنسانية بتراثنا الحضاري، منذ عدة قرون، لا يعطينا الأفضلية في التميُّز والاعتداد بالنفس، إلاَّ أننا أثبتنا من خلال التاريخ أنه يمكن أن يكون لنا دور حضاري، أي أن اختبار التاريخ قد أعطانا البرهان على أنه يمكن أن يكون لنا دور في الحاضر، هذا إذا عملنا على أن يكون لنا مثل هذا الدور، وليس لأننا أحفاد من كانت عبقريتهم في التاريخ قد أثبتوا جدارة، وعلينا أن نعمل على إعادة الاعتبار إلى عبقريتنا كعرب.
ماذا نعني بالعبقرية؟ إن العبقرية هي، بالأساس، صفة فردية. وهي «جملة من المواهب الطبيعية السامية التي تمكن صاحبها من التفوق. وهي إلهام سريع، أو حدس قوي، أو صبر طويل، أو قوة خلق وإبداع، أو قدرة عجيبة على التحليل والتركيب…». وإذا أُضيفت العبقرية إلى الفرد، تدل «على ما يتَّصف به من استعدادات طبيعية خاصة. وإذا أُضيفت إلى آثار الجماعات دلَّت على ما تتَّصف به هذه الآثار من أصالة». والعبقرية، سواء كانت على مستوى الفرد أو الجماعة، فهي الابتكار على الصعيدين العقلي والعملي. ومن تلك الابتكارات ينشأ الفعل الحضاري، على صعيد التقدم العقلي والمادي. أي كل ما تعطيه الأمة على صعيد تقدم العقل والفعل عند أفرادها. فلا فعل حضاري من دون وجود أفراد أو جماعات من الأفراد يتَّصفون بالعبقرية. فعبقرية الأمة، هنا، هي عبارة عن عبقرية أفرادها. فإذا غاب وجود أفراد عباقرة في الأمة تبتعد الأمة عن وصفها بالعبقرية.
فالعبقرية لها وجهان: على الصعيد الثقافي الفكري، وعلى الصعيد العملي المادي. ولن تكون الأمة عبقرية إذا كانت ثقافتها متقدمة من دون أن ينعكس التقدم الثقافي على تطوير الجانب العملي المادي لها. لأنها تتلهَّى بالثقافة من دون أن تترجمها لصالح المجتمع.
وهنا، لا بُدَّ من أن نتساءل: وهل تبقى الثقافة جامدة؟ وهل إذا بقيت الثقافة من دون تجديد تظلَّ صالحة لكل زمان ومكان؟ وهل ثقافة صالحة لمجتمع معيَّن وزمان معيَّن تصلح لكل المجتمعات وكل الأزمنة؟
وهنا، أيضاً، علينا التمييز بين أمة وأخرى: الأمة التي كانت تمتلك فعلاً حضارياً تاريخياً، وبين أمة لا تمتلك ذلك الفعل. وعلينا أن نميِّز، أيضاً، بين أمة تخلَّفت عن ركب الحضارة الإنسانية، بعد أن كانت من المساهمين في صناعتها، وبين الأمة التي أسهمت في رفد الحضارة ولا تزال تسهم.
فحول هذه المسألة لا بُدَّ من أن نستنتج بأن الأمة التي أسهمت، في مرحلة ما من تاريخها، في رفد الحضارة الإنسانية ولكنها تخلَّفت عن الفعل الحضاري في مراحل أخرى، فهي تتمايز عن الأمم الناشئة، في أنها تمتلك تراثاً يساعدها على أن لا تبتدئ من الصفر كالأمم الناشئة. فهي، في مثل هذه الحالة، تمتلك قابلية واستعداداً للدخول بسهولة وبسرعة في ركب الحضارة الحديثة، ولكن ليس على أساس أن تراثها الذي كان صالحاً في زمن محدد ومكان محدد هو صالح لكل الأزمنة وكل الأمكنة. و لا بُدَّ لها من أن تتواصل مع مضامين الحضارات المعاصرة وإنتاجاتها. فالأمة لن تكرر ذاتها، أي إذا أرادت أن تكون نسخة طبق الأصل عن تجاربها الحضارية السابقة.
فالحضارة الإنسانية هي كمٌّ متراكم تعطي التجارب الأخرى وتأخذ منها. فلهذا السبب، ومن الواقعي، أن لا تقلِّد الأمة تجاربها السابقة وإنما عليها أن تبتكر ما يتناسب مع روح العصر الذي تعيش فيه. أما موقع تجاربها السابقة فسوف تستفيد منها بما يتناسب مع تطور الحضارة على الصعيد الإنساني بشكل عام.
ماذا نعني، هنا، بالفترتين الزمنيتين المنفصلتين؟ هل يعني ذلك أنها تكرر ذاتها، أي تكرر فعلها الحضاري على الأسس ذاتها التي أبدعته في مرحلة سابقة؟
هنا، علينا التمييز بين الثقافة والحضارة، ولتحديد معنى كل من هذين اللفظين، جاء ما يلي: نطلق لفظ «الثقافة على مظاهر التقدم العقلي وحده، وهي ذات طابع فردي»، ونطلق لفظ «الحضارة على مظاهر التقدم العقلي والمادي معاً، وهي ذات طابع اجتماعي».
إن الفعل الحضاري هو نتيجة لعوامل عديدة، ومن أهمها: التراكم الثقافي والعلمي، وجود سلطة سياسية تضع الخطط للتراكم الثقافي وتقوم بتشجيع البحوث والدراسات العلمية، وتقوم بوضع خطط تسهم في تفعيل العلوم والابتكارات وترجمتها إلى واقع، أي العمل على الإنتاج.
حسن غريب


(4): قراءة كتاب في سبيل علاقة سليمة المقدم إلى مكتب الثقافة والإعلام القومي
وردود المؤلف في اجتماع المكتب
أولاً: قراءة الرفيق جلال زيادة للكتاب

الرفيق مسؤول المكتب المحترم
تحية رفاقية
م / ملاحظات نقدية حول كتاب الأستاذ حسن غريب المعنون «في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام» (بحث في التاريخ والإيديولوجيا)
(عرض ونقد الرفيق جلال زيادة)
بناءً على تكليفكم، قمت بقراءة مركَّزة ومتأنية لهذا الكتاب الذي يقول مؤلفه إنه انتهى من تأليفه في 15 / 1 / 1994م، وصدر متأخراً عن دار الطليعة في بيروت في العام 1999م.
احتوى الكتاب على بابين وستة فصول، ولعلَّ الفصل الأخير هو الأهم، والجدير بالمناقشة وإبداء الملاحظات.
يمكن تلخيص ملاحظاتي في محورين: الجوانب الإيجابية للكتاب والجوانب النقدية.
أولاً: الجوانب الإيجابية في الكتاب:
1-لا شك في أن الكتاب يشكل جهداً كبيراً ومقدَّراً من حيث موضوعه، ومن حيث جرأته في إبداء الرأي حول العديد من القضايا الفكرية والتاريخية الحساسة، بصرف النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معه.
2-سلاسة ووضوح التقسيم التاريخي لمراحل التطور التاريخي للأمة العربية من حيث النهضة والانحطاط، ومن حيث التلاقي والافتراق بين العروبة والإسلام.
3-الدقة والموضوعية من حيث تشخيص عوامل بروز الظاهرة السياسية الدينية (السلفية)، بل والحكم الصائب على مستقبلها. إذ يرى أنه كما «تميزت العقود الأولى في النصف الثاني من القرن العشرين بكونها العصر الذهبي للتيارات القومية الليبرالية، فإن هذه العقود منه تشهد العصر الذهبي للأصولية والسلفية الإسلامية» (ص 463). ويطرح السؤال حول مدى تأثيرات تلك الظاهرة على العلاقة بين القومية والدين، وبين العروبة والإسلام.
4-يُصدر حكمه واستنتاجاته مستنداً إلى موقف مبدئي سليم عندما يقول (في الصفحة 464): «إن أي تيار لا يحمل استراتيجية وحدوية، سواء على مستوى الأديان أو على مستوى القومية والوطنية، سيكون عاجلاً أم آجلاً من المبذرين في مصائر شعوبهم وأوطانهم وأوقاتهم». بناءً على ذلك فإن «التيارات الأصولية والسلفية التي تؤثر اليوم في الأوساط الشعبية ذاتها، التي كان يؤثر فيها التيار القومي، سوف تقع في الأخطاء ذاتها التي وقعت فيها التيارات الليبرالية، لكن باتجاهات مغايرة، إذ هي لن تستطيع تقديم بديل وحدوي لتلك الأوساط، بل سوف تقدم الشرذمة والتفتيت عندما تستفيق لتجد نفسها واقعة من جديد في متاهات المذهبية والطائفية والإقليمية… فهي لن تنجح في تقديم نظام سياسي إسلامي وحدوي، كما لن تنجح في تأسيس بنى سياسية واجتماعية واقتصادية».
5-ونتيجة لهذا الفشل للظاهرة السياسية – الدينية، الذي حصل فعلاً، يتنبأ بعودة الصراع والتنافس بين التيارات السلفية والقومية، وسوف تعود إشكالية (أية هوية نريد) إلى واجهة الصراع… ويدعو إلى الحوار والتكامل بين التيارين بدلاً من التناحر والافتراق (ص 465).
6-يخلص الباحث إلى أن «إلقاء الضوء على صراعات الاتجاهات الفكرية بين الحركات الأصولية الإسلامية والحركات القومية الحديثة والمعاصرة، قد كشفت أن الصراع دائر حول تحديد هوية للأمة العربية. فالإشكالية الرئيسة التي يمكن أن يدور حولها الحوار الهادئ والهادف والجاد والجريء، هي: أية هوية نريد؟ أدينية إسلامية هي؟ أم قومية علمانية؟» (ص 466). ويرى أنه إذا لم يتم التوصل إلى حسم إشكالية الهوية بشكل واضح وجلي ومحدد، بعيداً «عن المجاملات التوفيقية، وعن الانفعالات السياسية الطارئة، فإن الأمة بمختلف تياراتها وحركاتها الفكرية والسياسية والعقائدية، سوف تبقى داخل دائرة الجدل البيزنطي».
اعتقد أن هذا السؤال، مطروح على الحزب أولاً، خاصة وأن مؤلف الكتاب هو مناضل بعثي وقيادي معروف… إذ يقول في نهاية بحثه: «إن كتابنا الموجود بين يدي القارئ الكريم، الذي درسنا فيه التاريخ العربي الإسلامي، لم يعطنا الجواب الشافي والكافي حول أنموذج سياسي، اقتصادي، اجتماعي، فكري، محدد وثابت، لأن يكون أنموذجاً يمكننا من أن نشفي بواسطته كل علل الأمة، وردم كل ثغراتها، ويساعدنا على تشييد بناء سياسي سليم، لا عورة فيه، يحفظ للأمة عافيتها. إلاَّ أن هذا لا يعني أن كل ما هو تاريخي، يصبح من المرفوض، بل إن لهذا التاريخ وجوهه الإيجابية الناصعة، والتي يجب أن لا تعمينا عن رؤية الوجوه السلبية».
7-إن المنهج الذي اعتمده الباحث هو الذي أوصله إلى هذه النتيجة. وبصرف النظر عن ذلك، فإن وضع الإشكالية في دائرة الحوار الداخلي، ومع الآخرين، هو في حد ذاته شيء إيجابي بلا شك…
ثانيـاً: الجوانب النقدية للكتاب:
منهج البحث: أعتقد أن الباحث وقع في خطأ منهجي منذ البداية، حيث تبنَّى منهجاً أكاديمياً مجرداً بحجة الابتعاد عن الدوافع الإيديولوجية المتحيِّزة على الرغم من أنه ينطلق من رؤية إيديولوجية لا تخطئها العين. فقد قسَّم المواقف من مسألة العروبة والإسلام بين موقف قومي خالص يستبعد الدين، وموقف ديني أممي خالص يستبعد القومية، وعدَّها اتجاهاً واحداً من حيث التطرف الإيديولوجي.
أما الاتجاه الثاني الذي استبعده، ويدخل ضمنه موقف حزب البعث، هو الاتجاه الذي يرفض التعارض أو افتعال التناقض بين العروبة والإسلام… وعدَّ هذا الموقف بأنه «توفيقي»… وكأن التوفيقية في حد ذاتها موقف سلبي أو غير علمي… ومثل هذا الحكم يحمل في طياته موقفاً متطرفاً ومسبقاً ولا علمياً، إن لم نقل في حدِّ ذاته هو موقف إيديولوجي. وقد ترتَّب على هذا المنهج النتائج التالية:
1-استبعد الباحث مصادر بعثية مهمة حول العروبة والإسلام للقائد المؤسس تعطي إجابات واضحة لأسئلة يطرحها كتاب الأستاذ حسن غريب؛ والغريب في الأمر أن هذه المصادر اعتنى بها كاتب إسلامي مثل الدكتور محمد عمارة في كتابه الصادر في العام 1999م، تحت عنوان «التيار القومي الإسلامي». وعلى الرغم من أن الأستاذ غريب أشار إلى كتاب القائد المؤسس المعنون «البعث والتراث» إلاَّ أنه لم يستخدمه في البحث، واعتمد على نصوص يتيمة من مصادر ثانوية…
وحتى المؤلفات الكاملة للمؤسس، التي أشار إليها في قائمة المصادر، لم يستخدم منها غير الجزء الأول (طبعة دار الطليعة)، والجزء الخامس فقط. حتى الاستخدام المحدود لنصوص المؤسس راح يبرره بالقول: إن عفلق كان يعبِّر بدقة عن العقل الجمعي للحزب (انظر ص 307، وهامش المتن).
2-تعامل بنوع من (الحيادية) في الحكم على تجربة الحزب في سوريا والعراق، حتى بعد الردة الشباطية وقيام ثورة 17 – 30 تموز من العام 1968م، أي في معرض تحليله لمرحلة ما بعد النكبة في يونيو / حزيران من العام 1967م. فيقول في الصفحة 407: فقد حصل على الصعيد العربي تطوران مهمان، وهما:
الأول: استيلاء الجناح الأكثر اعتدالاً في حزب البعث العربي الاشتراكي على السلطة في سوريا في 16 / 11/ 1970م، (أي صعود جماعة حافظ الأسد)، والذي قبل بقرار مجلس الأمن الدولي المرقم 242، بعد أن كان من الرافضين له.
الثاني: وفاة عبد الناصر في أيلول من العام 1970م، واختيار السادات خلفاً له.
ويظهر هذا النوع من الحيادية في مواقع أخرى من الكتاب. ففي الصفحة 444، يقول: «تكاد تكون الأنظمة السياسية في كل من مصر وسوريا والعراق متشابهة في اتجاهاتها القومية بشكل عام، بتجاربها ومحاولاتها الوحدوية السياسية. كانت تلك الاتجاهات في موقع القوة اللافتة طوال الخمسينات والستينات والسبعينات. لكن بعد وفاة عبد الناصر، استمر الوضع في كل من العراق وسوريا حاملاً الدعوة القومية، ولو بأساليب سياسية مختلفة»!!!
3-تجنَّب الإشارة إلى ثورة 17 – 30 تموز 1968م كرد على هزيمة حزيران 1967م، وكاستثناء من حالة التدهور، وذلك في معرض تحليله التاريخي. كما تجاهل تماماً الإشارة إلى الحرب العراقية الإيرانية (القادسية الثانية) كأقصى عملية اصطدام بين العروبة الحديثة المؤمنة والإسلام السياسي السلفي الطائفي. كما تجاهل في هذا الصدد خطب وأحاديث الرفيق القائد صدام حسين حول العروبة والإسلام في تلك المرحلة، وكذلك ما ورد من تحليل دقيق لظاهرة الإسلام السياسي في التقرير السياسي للمؤتمر القطري التاسع 1982م.
-ربما يرجع هذا الحياد، والتجاهل كذلك، إلى عوامل سياسية وأمنية فرضتها ظروف تواجد الرفيق غريب في لبنان، وخوفه من بطش النظام السوري… فحاول إخفاء موقفه الحقيقي تحت غطاء المنهجية الأكاديمية المجرَّدة…
4- تعامل مع التيار القومي كاتجاه واحد دون التمييز بين اتجاه قومي تقليدي (تعصبي ويميني)، واتجاه قومي حديث وثوري اشتراكي… بل تجنَّب استخدام أي مصطلح ثوري أو اشتراكي في وصف التيار القومي، وإنما استخدم مصطلحاً غامضاً لا ينسجم مع عقيدة البعث هو (قومي ليبرالي، وقومي علماني، والأنظمة القومية الوطنية الليبرالية… وأحياناً القومي الليبرالي / الجذري).
يُفهَم من مجمل البحث انه يُصنِّف التجارب القومية، في مصر وسوريا والعراق عموماً، ضمن أنظمة الليبرالية السياسية (أنظر ص 444 وص 459)، ولا أعتقد أن هذا التصنيف صحيحاً حتى بالمفهوم الأكاديمي السياسي والتاريخي العلمي.
5-اعتمد على مصادر كثيرة جداً ليست مبرَّأة من التحيز الإيديولوجي (عربية وغربية استشراقية)… يصعب وصفها بأنها أكاديمية وعلمية وموضوعية… إلخ، بل ينطلق بعضها من مواقف إيديولوجية وحضارية معادية للأمة العربية والإسلامية…
6- على الرغم من كل هذا الحياد والتجريد خرج الباحث بحل توفيقي، هو الحل الذي توصَّل إليه البعث والمتمثل في الاستقلالية والتكامل بين العروبة والإسلام مع الحوار مع الحركات السياسية الدينية المستنيرة.
ثالثـاً: المواقف الفكريـة الخاصـة:
عبَّر الباحث عن فهمه الخاص لبعض الجوانب الفكرية في نظرة البعث، خاصة نظرته للتاريخ العربي الإسلامي، ومفهوم الرسالة الخالدة. يقول الباحث في الصفحة 351: «يتبادر إلى ذهن المتتبِّع لأدبيات البعث، في تلك المرحلة –أي مرحلة الأربعينات والخمسينات- أن التاريخ العربي الإسلامي كان مضيئاً في أكثر جوانبه، ويكاد المتتبِّع، أيضاً، أن يشعر أن هذا التاريخ لم يحمل سلبيات تُذكَر. لكن وإن كان هناك ما يدفعنا إلى القول بأن التاريخ لم يكن مضيئاَ بالمقدار الذي تصفه فيه الأدبيات البعثية، نرى أن السبب الذي دفع البعث إلى المزيد من إنارة الجوانب المضيئة، والتعتيم على الجوانب المظلمة –كما فعل غيره من التيارات والاتجاهات النخبوية القومية- هي حساسية الظرف التاريخي الذي كان يخوض فيه الشعب العربي معاركه الاستقلالية والتحررية».
-إن هذا الاعتقاد لدى الباحث، وهو يعلِّق على محاضرة ذكرى الرسول العربي في العام 1943م، هو الذي جعله يتجاهل المضامين ذاتها التي أكَّدها المؤسس في النصف الثاني من عقد السبعينات، والتي صدرت في كراسة (البعث والتراث). هذا يعني أن هذه الرؤية ليست ظرفية أو تكتيكية، كما يُفهَم عكس ذلك في طروحات الباحث.
كما أن الباحث عبَّر عن فهم خاص للرسالة الخالدة في الصفحة 349، حيث يقول: «فالجانب الرسالي في الإسلام لا يجب، بالضرورة، أن يكون عقيدياً دينياً، وإنما هو –بجزء أساسي منه- قومي سياسي، بل هو يمثَّل جانباً مضيئاً في التاريخ العربي… إلخ».
إن مثل هذا التفسير قد يكون مفيداً في بلد كلبنان، ولكنه قد يثير جدلاً حادّاً في أماكن أخرى، ويصعب تبنّيه حتى داخل البعثيين.

رابعـاً: أخطـاء تاريخيـة:
وردت في متن البحث العديد من الأخطاء التاريخية، على الأقل في كل ما يتعلّق بالسودان. وعلى سبيل المثال نورد الأخطاء التالية:
1-في الصفحة 186، يقول إن حركة المهدي في السودان قد دعت للأخذ بالكتاب والسنة وتوحيد المذاهب الأربعة، وتحريم زيارة القبور، والقضاء على الفساد السياسي… إلخ. والصحيح أن المهدي وحَّد الطرق الصوفية وليس المذاهب.
2-في الصفحة 287، يقول: لم يكن عبد الرحمن المهدي (1843 – 1886) راضياً عن سير السلطة في الخرطوم، متهماً إياها… إلخ. وكان الدراويش هم الذراع العسكرية.
الصحيح هو محمد أحمد المهدي، وليس عبد الرحمن المهدي… لأن عبد الرحمن المهدي هو ابن المهدي، ظهر على المسرح السياسي بعد سقوط المهدي، واحتلال البلاد من قبل بريطانيا، وتحول إلى عميل للإنجليز، ووقف ضد وحدة وادي النيل.
ويخلط الباحث بين مصطلح الدراويش والأنصار، وهما شيء واحد. وعبارة الدراويش هي وصف استخفافي وسلبي أطلقته الدعاية البريطانية على أنصار الإمام المهدي. ويتكرر الخطأ نفسه في هامش متن الصفحة نقلاً عن موسوعة عبد الوهاب الكيالي السياسية.
أما حزب الأمة، فقد أسسه الإنجليز لمقاومة الحركة الوطنية، والوقوف ضد وحدة وادي النيل بزعامة عبد الرحمن المهدي، الذي حوَّل الأنصار إلى طائفة دينية تابعة له، وكتلة انتخابية لصالح حزب الأمة.
3-في الصفحة 287، يقول: «اندلعت الحرب الأهلية في السودان منذ العام 1935م… إلخ». والصحيح منذ العام 1955م. وفي الصفحة 288، يرجع أسباب الحرب إلى مسيحية الجنوب وإسلامية الشمال، وهذا غير صحيح. قاده هذا الخطأ إلى القول، في الصفحة 236، بأن التاريخ السوداني يلتقي في بعض جوانبه مع الإشكالية التي حصلت في لبنان بين القومي والقطري والديني، والذي يختلف عن الوضع في السودان الذي يوجد فيه فرز سكاني واضح (جنوب مسيحي، وشمال إسلامي).
هذا المنطق غير دقيق، والصحيح أن السبب الرئيس كان بتحريض بريطاني، وعوامل إثنية، واخطاء الأحزاب التقليدية في الشمال. فالإحصاءات، في تلك المرحلة، كانت تقول إن أغلبية سكان الجنوب (الزنوج الأفارقة غير العرب) كانوا وثنيين أو لا دينيين مع أقلية مسلمة ومسيحية متساوية العدد.
4-في الصفحة 332، وتحت عنوان «اتجاهات الاستقلالية القطرية»، يقول: «وفي السودان كانت الحركة الاستقلالية متأثرة بالحركة الاستقلالية في مصر… وكان من أبرز تلك المنظمات مؤتمر الخريجين الذي تأسس في العام 1938م، واتحاد المعلمين السودانيين الذي أخذ يطالب بالوحدة مع مصر… إلخ».
تأسس اتحاد المعلمين بعد الاستقلال في العام 1956م، وهو محشور في النص
5-في الصفحة 333، تحت عنوان الأحزاب الدينية، يقول: في السودان تأسس حزب الأمة… إلخ. هذه المعلومات المنقولة عن موسوعة الكيالي غير دقيقة.
6-في الصفحة 301، يقول: «تميَّز الحزب الشيوعي السوداني بمسايرته للمشاعر الدينية، لذا احتلَّ رجال الدين الإسلامي عدة مقاعد في لجنته المركزية… إلخ».
هذا غير صحيح بتاتاً، وهو كلام سماعي غير مسنود، ويبدو أنه مقتَبَس من المبالغات الدعائية التي وردت في كتاب فؤاد مطر المعنون (الحزب الشيوعي السوداني: نحروه أم انتحر؟) عندما قال إن البدو الرحل في صحارى السودان يتجمعون ليلاً حول نار الحطب ليقرأوا رأس المال وكتابات ماركس ولينين، وهي مبالغات دعائية أسطورية سخر منها حتى الشيوعيون السودانيون.

خامساً: أخطـاء طباعيـة:
-في الصفحة 217، السطر (1) انتهت الحرب العالمية الأولى في العام 1918م، وليس في 8191.
-في الصفحة 349، ورد خطأ في نص القائد المؤسس: العربي وليس العرب.
-في الصفحة 358، الفقرة (1)، ومغالبة للتيار، وليس (فعالية للتيار)، من نص المؤسس.
سادساً: توصيـات وخلاصـة:
إن جميع هذه الملاحظات لا تقلل من قيمة الكتاب، كمبادرة يُحمد عليها الأستاذ حسن غريب، وكجهد كبير وواسع في إعادة قراءة التاريخ العربي الإسلامي بمنظور قومي عربي. ويبدو أن ظروف اعتقاله الطويلة غيَّبت عنه الكثير من المصادر والمعلومات حول تطور تجربة البعث في العراق. كما أن خصوصية ظروف لبنان قد تفرض عليه عدم الإفصاح عن كامل رؤاه، وهذا ما لاحظناه كذلك في كتاب د. محمد عمارة.
في ضوء ذلك أوصي بآلاتي:
1-لا أعتقد أن هذا الكتاب يصلح للتثقيف الحزبي، وإنما هو مفيد على صعيد التثقيف الذاتي، خاصة في ساحة لبنان.
2-تزويد الأستاذ غريب بالكتيِّب البيبليوغرافي الذي أصدره مكتب الثقافة والإعلام حول مصادر الدين والتراث والحركات السياسية الدينية في مصادر البعث، كذلك نسخة من كتاب محمد عمارة، وكتابات الرفيق القائد صدام حسين حول الدين والتراث والعروبة والإسلام والقومية المؤمنة.
3-إن عدم حسم شكل الدولة العربية لا يعني أن الأمة تعيش أزمة هوية: إما أن تكون إسلامية أو علمانية… فدستور الحزب حدَّد الشكل بأنها دولة قومية لا مركزية، فهي دولة مدنية روحها الإسلام.
عليه أوصي بإعداد دراسة حول علاقة الدين والدولة في تجربة البعث في العراق.
حزيران من العام 2002م مع التقدير
***
ثانياً: ردود المؤلف على النقد في اجتماع المكتب الثقافة والإعلام القومي
وقائع ما جرى في اجتماع المكتب الثقافي القومي، الذي دُعيت إليه، من أجل مناقشة المراجعة التي تقدم بها إليه الرفيق جلال زيادة عن كتاب (نحو علاقة سليمة بين العروبة والإسلام):
ترأس الجلسة الرفيق الدكتور أحمد الشوتري، نيابة عن الرفيق الدكتور الياس فرح بسبب مرضه، وحضر الاجتماع أكثر من عشرة رفاق، أذكر منهم: الرفاق التالية أسماؤهم: الدكتور محمد سعيد الصحاف، حميد سعيد، سامي مهدي، هاني وهيب، ناصيف عواد، الدكتور حسن طوالبة، جلال زيادة...
قرأ الرفيق زيادة التقرير الذي أعدَّه، وأُفسح لي المجال للتوضيح.
وكانت أهم ملاحظاتي، عامة وخاصة، وهي التالية:
الملاحظات العامة: أبديت تقديري للجهد الذي بذله الرفيق زيادة في قراءة الكتاب وكتابة مراجعة أكاديمية سليمة، ولم أتوقف عند الملاحظات العامة التي أبداها الرفيق في نقده للكتاب، لأنها تدل على خبرة أكاديمية، فقد شكرته على بعض التصحيحات في التواريخ والوقائع التي أبداها حول الجانب السوداني.
أما اعتمادي على بعض دراسات المستشرقين، فهي ليست زلة لأنني لم أعتمد على نتائجها إلاَّ بناء لقناعاتي بها، وكان الأحرى بالرفيق زيادة أن يوضح مواضع الخطأ بالاعتماد على كتابات بعض المستشرقين التي استفدت منها في بحثي.
وحول عدم أدلجة الموقف من النظام السوري، فلها أغراض اكاديمية اولاً، ولأنه من غير الجائز أن أتوسع في هذا الجانب لأسباب أمنية ثانياً، وأنا الخارج حديثاً من السجون السورية. ولأنه لا يجوز أن أغامر بتأجيل نشر كتاب أحسب أنه يخدم فكر الحزب من أجل قضية أكثر أبعادها سياسية وأمنية.
أما عن التوسع في الكتابة عن القطر العراقي، فدراسته بأكثر من الإشارة إلى النتائج العامة لهو تقزيم له، خاصة وأن الكتاب كبير الحجم ويعالج مراحل أكثر من ألف وثلاثماية عام.
الملاحظات الخاصة: وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: وهو تنظيمي، عدم اعتبار الكتاب صالحاً للتثقيف الحزبي، وإنما يُعتمد مرجعاً للتثقيف الذاتي. وهذا الأمر سليم، وأنا ملتزم به، لأنه لا يجوز اعتبار أية مادة تثقيفية مُلزمة ما لم تصدر عن المكتب الثقافي القومي، او يسمح بها.
الثاني، النصح بتوفير نسخة عن كتاب الدكتور محمد عمارة لكي أصحح مواقفي على ضوئها، فكان ردي بأن الكتاب المذكور كان أخطر ما نُصح به الحزبيون بقراءته، لأن نتائجه كانت بغاية الخطورة تاه فيه البعثيون عن طريق الفكر القومي السليم. وأنا شخصياً قمت بنقده، ونشرت النقد في كتابي المعنون (نحو طاولة حوار بين الفكرين القومي والإسلامي).
أما الثالث، فهو ما جاء في مراجعة الرفيق زيادة، حيث قال: إن كتابات الرفيق غريب، وإن كانت تتناسب مع البيئة في لبنان، إلاَ أنها تثير متاعب في أقطار أخرى. ولهذا يجب العودة إلى ما نص عليه دستور الحزب من أنه يؤمن بدولة مدنية روحها الإسلام.
فكان ردي عليها، إن دستور الحزب الذي أعلنا انتماءنا إليه على أساسه لا ينص على الإطلاق بما قاله الرفيق زيادة.
وتبع ذلك عدد من التعقيبات، وأذكر منها ما يلي:
كان هناك إجماع على أن عدم اشتمال الكتاب على توسيع في موضوعيْ العراق وسورية له أسبابه الموجبة.
الرفيق الصحاف، يحق للرفيق غريب أن يكتب رأيه وينشره، ومن غير المسموح لأحد أن يمنعه من ذلك، وأنا أقولها في أعلى اجتماع تنظيمي للحزب مسؤول عن الثقافة.
وثانياً، تابع الرفيق الصحاف: حول كتاب الدكتور عمارة، فقد اشتريت من القاهرة خمسين نسخة منه لأنه لفت عنوانه نظري. وقرأت نسختي في العراق، ولما وصلت إلى النتائج التي ذكرها الرفيق غريب قمت بإتلاف النسخ الخمسين. (وقد أيدّه في ذلك الرفيق حميد سعيد قائلاً: لقد كنا في عزلة عن العالم، ولما صدر كتاب الدكتور عمارة اعتبرناه صلة وصل مع العمق العربي والإسلامي، فبادرنا إلى التعميم على المنظمات الحزبية بقراءته. وتبين لاحقاً أن نتائجه كانت خطيرة. واستكمل الرفيق هاني وهيب قائلاً: لقد قمنا بنقد الكتاب، وأشرنا على نتائجه تلك، ونشرنا النقد في جريدة الجمهورية، ووعدني بتوفير نص النقد إلاَّ أن ذلك لم يحصل).
وقد طلبت أنا التعميم على الجهاز الحزبي حول هذا الأمر، لأن الجهاز الحزبي في لبنان لا يزال متقيداً بالتعميم السابق.
كما عقَّب الرفيق ناصيف عواد على عبارة (دولة مدنية روحها الإسلام) فطلب شطبها لأنها تتنافى مع دستور الحزب.
أما الرفيق سامي مهدي فقال: إن المنهج الذي تسلكه في الكتابة يصلح ليس لهذه المرحلة بل إلى ما بعد عشر سنوات تكون فيها البيئة الثقافية الشعبية قد ارتقت إلى مستوى أفضل من الوعي والإدراك.
وفي نهاية الاجتماع كلَّف المكتب الرفيق الشوتري بكتابة تقرير عن نتائج الاجتماع لرفعه إلى القيادة القومية.
***
(5): نقد كتاب (نحو طاولة حوار بين التيارين القومي والإسلامي)
كرم الحلو
كتب كرم الحلو في جريدة الحياة، تاريخ 18 آذار / مارس 2001م:
أجوبة متسرِّعة لإشكالات معقَّدَة وتاريخية تتصل بالعروبة والإسلام().
إحتدم السجال الإيديولوجي في عقديْ الثمانينات والتسعينات حول المسائل الإشكالية والخلافية في الفكر العربي من إشكال الهوية والانتماء وعلاقة العروبة بالإسلام، إلى إشكال النظام السياسي وعلاقة السياسي بالديني، إلى إشكال العلاقة بالغرب بين الرفض أو التفاعل أو التبعية والتماهي. وليس ما يؤشر إلى أن هذا السجال سيصل إلى نهايته في المرحلة الراهنة على الأقل، أو أن تحولاً غير متوقع سيحسم هذه الإشكالات في أي اتجاه.
في هذا الإطار السجالي، يدعو حسن غريب إلى حوار عقلاني ومتفتح بين المشروعين القومي والإسلامي، إذ أن النهوض بالمجتمع العربي ليس ممكناً من دون الارتقاء بغالبية الشعب العربي، ذات الثقافة الإسلامية، عن طريق حوار مع الإسلاميين بات ضرورياً بل ملحاً، بعد أن شهدت الساحة العربية، منذ أوائل السبعينات، مداً إسلامياً وانتشاراً أصولياً متعدد المذاهب والمشارب.
يطرح المؤلف في الحوار مع الإسلاميين إشكاليتين أساسيتين: إشكالية تحديد الهوية التي تميز المجتمع: هل هي إسلامية أم عربية؟ وإشكالية تحديد أولوية أي نظام سياسي: هل هو ديني - إسلامي أم قومي علماني؟
في ما يخص الإشكالية الأولى يرى المؤلف أن الرابطة القومية موجودة منذ الوقت الذي بدأت فيه المجتمعات تنشأ وتتكون بدءاً من الأسرة فالقبيلة فالقومية، وهي مشتقة من قوم، هي الرابط الوجداني الذي يحس به الإنسان بالانتماء إلى قوم ينتسب إليهم، ويحقق بهم ومعهم ميله الاجتماعي اقتصادياً وسياسياً. من هنا فإن الشك حول وجود الرابطة القومية، وفي أن القومية العربية لم تكن لتوجد لولا انعكاسات الفكر الأوروبي هو لغو من الكلام صادر عن مواقف إيديولوجية. إن العرب كانوا يشعرون دائماً أنهم عرب، ولا فضل للأوروبيين سوى أنهم دلّوا على ظاهرة هي موجودة بالفعل. لكن الكاتب فيما هو يشدد على أولوية الرابطة القومية مستنداً إلى زين نور الدين زين ومحمد عمارة، لا ينتبه إلى أنهما يُرجعان الفضل إلى الإسلام في انصهار العرب في رابطة قومية عربية.
وإذ يرى أن الاتجاه القطري الوطني ليس منافساً للفكر القومي العربي بشكل جدي، لا ينتبه أيضاً إلى أن القطر هو الذي كان دائماً، ولا يزال موجوداً بالفعل فيما الوطن العربي الموحَّد لم يكن ولا هو الآن إلاَّ أمنية من الأمنيات، مشروعاً مطروحاً للتحقيق بالإيمان والعمل والجهاد وليس شيئاً آخر ناجزاً ومحققاً يُعمل على هدمه وتفتيته. ولعل هذا بالذات ما وقف وراء فشل المشاريع الوحدوية العربية.
كذلك لم تكن (الوحدة العربية) المطروحة في الخطاب السياسي العربي، منذ منتصف القرن الماضي، هي ذاتها التي طُرحت في أوله. فنجيب العازوري حصر القومية العربية بالأقاليم الآسيوية فقط، معتبراً سكان مصر من البربر. وكان المفكرون النهضويون في لبنان وسوريا، في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، على الرغم من اعتزازهم بالعروبة الحضارية، يعتبرون أنفسهم سوريين لا عرباً.
من هنا يجب التمييز بين الانتماء إلى العروبة، كلغة وتراث وحضارة، وبين الأفكار الوحدوية الرامية إلى توحيد العرب في أمة ذات كيان سياسي واقتصادي وثقافي واحد موحَّد، الأفكار التي ما كان لها أن تنهض وتتقدم لولا التأثير المباشر للفكر الغربي في مرحلة نهوض الدولة الوطنية القومية في أوروبا.
وإذ يتصدى المؤلف لإشكالية تحديد أولوية النظام السياسي، الإشكالية الخلافية الأكثر دقة وتعقيداً في الفكر العربي، منذ النهضة إلى الآن، يجد أن الصراع بين الديني والسياسي قد ساد طوال المرحلة التي امتدَّت منذ وفاة الرسول إلى إلغاء الخلافة الإسلامية في العام 1924م، بعد انهيار الدولة العثمانية الإسلامية. وإن السياسي كان سائداً على الديني، وفي أفضل حالات التكامل بينهما كان أحد المذاهب الإسلامية، الممثَّل بالسلطة، يعمل على التنكيل بالمذاهب الأخرى وإبعادها عن قصر الخليفة. وإذا حُسِم الصراع بتسوية ما كان فيها السلطان يقرِّب الفقهاء لتدعيم سلطته السياسية، وكان الفقهاء يتقرَّبون منه تحت حجة حماية الحدود للدولة والشريعة. وبنتيجة ذلك لم يستفد سوى معظم الفقهاء، أما العامة فلم تحصل إلاَّ على الويلات الاجتماعية والاقتصادية والتخلف والجهل. أما تطبيق حدود الشريعة الإسلامية فلم يطل الخاصة، وإنما كان تطبيقه مقتصراً على العامة. فقد مارس الفقهاء سياسة السكوت عن سلوك الخليفة وحاشيته والسلطان وحاشيته ضد أحكام الشريعة.
من هنا، عن الاعتقاد بترابط الديني والسياسي، كان وما زال اعتقاداً طوباوياً في الفكر الإسلامي، باستثناء مرحلة النبوة وأوائل عهد الراشدين. فقد كان بين السلطة الدينية والسلطة السياسية طلاق واضح مارس فيه الفقهاء هذا الفصل على الرغم من إيمانهم وقولهم بضرورة اندماج الديني في السياسي.
منطلقاً من هذه الأسس والمقدمات دعا حسن غريب إلى الفصل بين المقدس الدنيوي والمقدس الأخروي، إذ ليس كل ما هو عقائدي مقدس يجب أن يكون سياسياً مقدساً أيضاً. فالنظام السياسي الإسلامي لم يحقق مصالح العامة من المسلمين أولاً، وهو لن يوفق في تأمين حقوق المذاهب الإسلامية بسبب اختلافاتهما العقائدية ثانياً، وهو لن يستطيع تأمين الحقوق كاملة لغير المسلمين ثالثاً.
ما توصل إليه حسن غريب لا يختلف في جوهره ومضمونه عما دعا إليه بطرس البستاني منذ 1860، من فصل للسياسي عن الديني، وعما بشَّر به كل العلمانيين العرب، الذين لم يذهب أحد منهم إلى إنكار السماوي باسم الوضعي. لكن المؤلف يتنبَّه على الرغم من ذلك إلى المجازفة التي يقدم عليها في ظل الأجواء المحمومة الراهنة في العالم العربي، فيلجأ إلى ما يشبه الاعتذار والتبرير والتراجع عما كان قد جهد في التأكيد عليه بقوله:
أ-إن النتيجة التي توصلت إليها ليست تشكيكاً بالعقائد الدينية، وإنما هي كشف لخلل في العلاقة بينها وبين السياسي.
ب-إنه بالإمكان التنصل من شعار العلمانية وإطلاق إسم آخر على أي نظام توحيدي يلم الشمل ويكون «حارساً أميناً لحماية معتقداتنا الدينية ومانعاً للانزلاق في متاهات الحضارة المادية».
ج-إن الذين لجأوا إلى وضع قوانين وتشريعات لحماية المجتمع إلى مصادر غير مصادر الشرائع السماوية ليسوا كفاراً ولا عملاء ولا ضد الدين، وإنما انطلقوا في محاولاتهم وأعمالهم من مصلحة عباد الله، وفي سبيل خلق مجتمع آمن.
د-إن النص الوضعي، ولو كان ناقصاً وكان مصدره بشرياً هو بداية الحل؛ لأن النص الوضعي ليس مقدساً، وهو قابل للنقاش ومسموح بإسقاطه متى ثبت بطلانه.
هـ-سواء كانت نصوص القانون ذات مصادر دينية أو أخلاقية أو اجتماعية، فمقياسه أن يتجاوب مع حاجات المجتمع. وكلما ابتعد عن غايته أصبح لاغياً، ومن الواجب تغييره وتبديله أو تعديله. فمصلحة المجتمع هي الثابت.
وفي محصلة نهائية لموقفه يرى غريب أن الغرب بعد اجتياز مسافة الردة عن المسيحية، شق طريق العقل المستنير، فمهَّد الطريق لثورة حضارية تكنولوجية، وثورة فكرية في السياسة والاقتصاد والاجتماع. أما الشرق الإسلامي، حيث لا تزال الردة سيفاً مسلطاً على العقل، فهو لم يحقق للأخلاق قاعدة تكون صالحة للعبور إلى حياة أخروية سعيدة، وفي الوقت ذاته لم يبنِ للدنيا ما يحقق لها حضارة تؤمن الرفاه والسعادة حتى بحدهما الأدنى، ما يدفع إلى الاستنتاج أن «انقلاب العقل على مسلمات اللاهوت المسيحي في الغرب لم يؤد إلى عقوبات إلهية للمجتمع الغربي»، كما أن انتصار النقل على العقل منذ ثمانية قرون في الشرق الإسلامي لم يؤدِ إلى مكافآت إلهية للمجتمع الشرقي.
إذ نقدِّر جهد المؤلف وجرأته من أجل إثبات وتأكيد فصل الديني عن السياسي، وتحرير العقل العربي من أحكام الردة والتكفير والأخذ بحركة التطور والتغيير باعتماد القوانين الوضعية، إلاَّ أننا نرى أولاً أن الكتاب وهو يهدف في الأساس إلى الحوار بين المشروعين القومي والإسلامي لم يحسم جدل الهوية بين العروبة والإسلام، حيث ظلت الحدود بينهما ملتبسة وضبابية، ولم يضف جديداً إلى ما كان القوميون العرب قد دللوا عليه.
وثانياً، اعتبر المؤلف القومية العربية من المسلمات البديهية التي لا يرقى إليها الشك في الوقت الذي شكَّل التفتيت القطري، وتفاقم مسألة الأقليات إلى جانب استشراء الفكر الأصولي أكبر التحديات التي تواجه الفكر القومي العربي في المرحلة الراهنة، ما دفع مفكرين قوميين إلى مراجعة أفكارهم وقناعاتهم في السنوات الأخيرة.
وثالثاً، إن ما يدعو إليه المؤلف من قوانين وضعية اصطدم دائماً وسيصطدم بالعقل الأصولي المهيمن الرافض كل أطروحات العلمانيين. أليس هذا ما توصَّل إليه محمد أركون بعد أكثر من ربع قرن من الدعوة الحثيثة إلى علمنة الإسلام؟
إن المأزق الإيديولوجي الذي علق فيه غريب، هو عينه مأزق كل العلمانيين العرب الذين عمدوا إلى طرح أفكارهم العلمانية من دون الأخذ في الاعتبار الإمكان الواقعي لتلقي هذه الأفكار، فظلَّت طوباويات مرفوضة على هامش المجتمع. وهي ستبقى كذلك في ظل الإحباط المتمادي للتنمية العربية والتصاعد المستمر في نسب الفقراء والأميين والتحدي الصهيوني المفروض على العرب، ما شكَّل أرضاً خصبة للأصولية والارتكاس إلى التراث في صورته الجامدة، بل التقدم نحو التحديث.
إن علمنة المجتمع العربي ليست مسألة نظرية، كما تصوَّر أكثر دعاتها؛ إنها على العكس تماماً مسألة تطور تاريخي يجب أن يطاول المجتمع في بناه الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، كي يصبح ممكناً الانتقال نحو تصور آخر للعلاقة بين الديني والسياسي والخروج من الحلقة المفرغة للرهانات الخاطئة.
***

(6): مناقشـة بـحث: محمد عمارة مفكر إسلامي
(د. محمد مراد وآخرون)
«محمد عمارة: مفكر إسلامي يشد لحاف التيار القومي نحو كامل الإسلام«()
I - ملاحظـات حول المنهج:
II - المآخذ على الكاتب:
III - نقـاط تُغني الحــوار:
IV - في المنهـج:
مساهمة في سبيل إغناء البحث (د. محمد مراد)
1-الإسلام دين السماء، كما اليهودية والمسيحية السابقتين عليه
2-لماذا هذه الرسالة؟
3-الرسالة السماوية كجوهر وكطقس:
4-أين تقع الإشكالية بين الجوهر والطقس؟
5-كيف تطورت نظرة ميشيل عفلق إلى الإسلام؟ إعلان إسلام عفلق بعد مماته: المعاني والأبعاد. الإسلام والقوميـة. لماذا لم تكن المسيحية والعروبة؟
مداخلـة أخرى لإغنـاء البحث: ومضات من حوار ومناقشات مع أفكار الدكتور عمارة، وحوار مع بحث حسن غريب حول معاني إسلام ميشيل عفلق (ظافر المقدم)
ملاحظات الباحث وتوضيحاته وردوده حول آراء المحاورين ومداخلاتهم
أولاً: في توضيح الغاية من نقد كتاب محمد عمارة «التيار القومي الإسلامي».
ثانيـاً: في توضيح الموقف من الإسلام كاملاً:
ثالثـاً: غموض الرد على عمارة وضعف الاستدلالات
رابعـاً: في ما حُسب تناقض بين موقعي عفلق: المفكر والسياسي
خامساً: وجوب إظهار خصوصية الإسلام العربية
سادساً: حول غياب رسم الخط البياني لتطور موقف عفلق من الإسلام
سابعاً: لماذا أعلن عفلق إسلامه؟
***
المداخلــة الأولى للدكتور محمد مراد
I - ملاحظـات حول المنهج:
أولاً: تنويه بالمناقشة العلمية المركَّزة للكاتب لجهة تناوله مقولات عمارة، ومن نتائج ردوده واستنتاجاته بشأنها. وقد غلب على منهجية النقاش ما يمكن تسميته: مناقشة المقولة بالمقولة. وهذا جانب مهم من جوانب المنهجية العلمية في الكتابة.
ثانياً: يجدر التنويه بمنهج الكاتب العام في تحليل الإشكاليات والفرضيات، والذي هو منهج التاريخ الاجتماعي الذي يقوم على رصد أسباب الظاهرة، أية ظاهرة، وملاحقة مسارها التطوري، وصولاً إلى النتائج التي تتركها أو تنتهي إليها. فهو يناقش ثلاثة مناهج:
- الديني كمنهج تسليمي ما ورائي.
- الماركسي، كمنهج مادي أحادي في حركة التاريخ.
- التاريخ الاجتماعي، كمنهج شمولي اقتصادي، اجتماعي ،ديني، ثقافي، سياسي … ألخ.

II - المـآخذ على الكاتب:
ما يُؤخذ على الكاتب مسائل أربع:
الأولى: ارتباك في المنهج من حيث الشكل، مثلاً: رسم الخط البياني لتطور فكر عفلق تجاه الإسلام. فكان ينبغي اعتماد التسلسل الزمني (العلاقة بين الزمن والفكر).
الثانية: ما يوحي بالتناقض عندما يتناول الكاتب شخصية عفلق الفكرية والسياسية.
الثالثة: الاكتفاء بالردود على أفكار عمارة، بل كان ينبغي تقديم جديد إضافي لم يذكره عمارة، ولا حتى عفلق، القائد المؤسس لحزب البعث، ألا وهو: خصوصية الإسلام العربية؛ وهذا ما يمكن أن يخدم آراء الكاتب بتطور الإسلامي باتجاه القومي، وليس تطور القومي باتجاه الإسلامي، كما يريد أن يصوِّر عمارة.
الرابعة: عدم التوقف عند المعاني والأبعاد التي تعكسها أسلمة عفلق في ختام حياته. وهل كانت أسلمة بالمعنى الطقسي الديني، وخروجاً على المسيحية الأرثوذكسية؟ أم كانت تسجيل موقف للتاريخ العربي، وشهادة صادقة عن مكانة الإسلام العربي في الحراك الحضاري للأمة العربية، من حيث هو حركة نضالية نهضوية تركت بصماتها على حركة الثورة العربية منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً من الزمن؟

III - نقـاط تُغني الحــوار:
أما النقاط التي وجدت من الضرورة إثارتها في مجال إغناء النقاش، بشأن الموضوع المطروح: موضوع العلاقة بين الديني والقومي، فهي أربع:
الأولى: المركَّب الثنائي لشخصية عفلق: صص 1 - 2.
الثانية: الإسلام كجوهر وطقس: صص 3 - 4.
الثالثة: كيف تطورت نظرة ميشيل عفلق إلى الإسلام: صص 4 - 6. ولماذا قال عفلق عن الإسلام ولم يقل عن المسيحية، مثلاً؟: صص 7 - 8.
الرابعة: خصوصية الإسلام العربية: صص 11 - 17. لماذا برزت القومية العربية في التاريخ المعاصر كمحرك للأمة العربية، وسجَّلت سبقاً على الإسلام؟: صص 9 - 10. بمعنى آخر: ما هي التأثيرات العميقة التي تركها الإسلام في البنية العربية؟: صص 11 - 17.

IV - في المنهـج:
التنويه بالمناقشة العلمية للباحث في ردوده المركَّزة على آراء عمارة ومقولاته واستنتاجاته. لكن ينبغي التوقف عند أمور يطرحها الباحث حول فكر ميشيل عفلق:
1-أفكار عفلق هي «ملهمة وليست ملزمة«.
2-التمييز بين الموقع الفكري لعفلق والموقع الحزبي والسياسي.
3-الثنائية في شخصية عفلق: (مفكر ذو رؤية فكرية خاصة) و(حزبي سياسي ذو موقع عام).
4-إن لموقع المفكر داخل حزبه وتنظيمه استقلالية فكرية خاصة.

وهنا أطرح بعض التساؤلات:
أليس هناك من تلازم بين الفكري والسياسي الحزبي؟ أليس الفكري هو الذي أنتج الحزبي - السياسي؟ ألم يكن السياسي هو شرح لا بل ترجمة تطبيقية للفكري الذي هو بمثابة نظرية في الأصل؟ ألم يكن تعدد المواقع الفكرية، ذات الخصوصية والاستقلالية داخل الحزب، سبباً للتكتلات والانشقاقات الحزبية التي عرفها الحزب كثيراً في مسيرته؟
وجوب تلازم الفكري والسياسي، مثلاً: جاء في ص 48، في دعوة عفلق للمسيحيين للغرف من الثقافة الإسلامية، يصوغ الباحث، في الصفحة 57، المقولة التالية: اختلاف وتوافق داخل الحزب في آن واحد، أي اختلاف حول الحقائق الفكرية، وتوافق حول قضايا نضالية وسياسية واحدة!! ( من الأهمية قراءة النص). وأنا أعتقد أنه داخل الحزب ينبغي الحسم النهائي لكل القضايا التي لها علاقة بتشكل الحزب الفكري والسياسي، لأن عدم الحسم قد يؤدي، في بعض الأحيان، إلى ثغرات، وبالتالي إلى تغايرات واختلافات متعددة. وهذا ما يعود الباحث ليلقي الضوء عليه، في الصفحة 61، فيؤكد على تلازم الفكري والسياسي حين يقول: «والذي يستوقفنا هو أنه (أي عفلق) ليس مفكراً منعزلاً عن الحركة النضالية لحزبه، وعن حركة الصراع الدائم الذي تواجهه أمته العربية مع شتى القوى الداخلية والخارجية«.

مساهمة في سبيل إغناء البحث
1- الإسلام دين السماء، كما اليهودية والمسيحية السابقتين عليه: تلتقي الأديان السماوية حول محور عقيدي كبير وأساسي، وهو أن الدين السماوي ليس سوى رسالة من السماء إلى الأرض، وهي رسالة تصل إلى بني البشر في الأرض عبر الأنبياء والرسل عن طريق الوحي، أي «الوحي الإلهي«.
2- لماذا هذه الرسالة؟ من أجل الصلاح للإنسان… من أجل أن يحقق الإنسان إنسانيته في عالم الأرض… وإنسانية الإنسان تعني كل ما هو إيجابي وخير وصلاح له ولغيره من البشر الآخرين.
3- الرسالة السماوية كجوهر وكطقس: أراد الله الجوهر من الرسالة، أي بلوغ الإنسان مستوى الإنسانية كهدف أسمى. أما الطقوس فهي تبسيط لفهم الإنسان من أجل إقامة علاقة أو ربط بين الطقس والجوهر، أي بين المحسوس والمجرد الروحي. والجوهر هو حقيقة الخلق يسعون على مدى الزمن للتعبير عن هذه الحقيقة من خلال إنجازات متنوعة: نُظُم - علاقات - أنماط اقتصادية - أفكار - قيم - شرائع وقوانين - حضارات، ألخ…
4- أين تقع الإشكالية بين الجوهر والطقس؟ تكمن الإشكالية في أن قلة من البشر تأخذ بأولوية الجوهر على الطقس، وهذه القلة تقوم على المفكرين والفلاسفة، مع العلم أن درجة المعرفة لهؤلاء تبقى نسبية وتختلف في ظروف الزمان والمكان بين الناس.
إلا أن كثرة الناس تأخذ بأولوية الطقس على الجوهر، لا بل يتحول الطقس معها إلى جوهر بحد ذاته. من هنا، ظهرت الإشكاليات في التاريخ وتنوعت بتنوع الطقوس وتحولاتها وما نشأ عنها من تأويلات وتفسيرات، لا بل من أفكار وأنماط حياة اختلفت باختلاف الطقوس البشرية وباختلاف ظروفها الزمانية والمكانية.
لقد قصدت من هذه المقدمة أن أقول: إن ميشيل عفلق هو مفكر متنور، بدأ رحلته الفكرية في الثلاثينات، ومطالع الأربعينات، ليشهد أول ثمرة لأفكاره من خلال تأسيس حزب البعث العربي في العام 1947م. وليتحول إلى الاشتراكي في العام 1952م (بعد الاندماج مع الحزب الاشتراكي العربي لأكرم الحوراني). وليشهد الثورة الناصرية في العام 1952م، التي اقتبست الكثير من أفكاره. وليشهد، أيضاً، قيام أول تجربة للوحدة العربية (الوحدة السورية - المصرية من 1958م - 1961م). وليشهد تسلم حزبه السلطة في سوريا (8 آذار / مارس 1963م). ومن ثم في العراق (8 شباط / فبراير 1963م، ومن بعدها في 17 - 30 تموز / يوليو 1968م). هذا بالإضافة إلى أنه شهد محطات مفصلية في تاريخ العرب المعاصر، ومنها: نكبة فلسطين 1948م، العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956م، وهزيمة حزيران / يونيو في العام 1967م، وتجربة الثورة الجزائرية خلال الخمسينات ومطلع الستينات، وتجربة الثورة الفلسطينية منذ العام 1965م، ليشهد أيضاً الاحتلال الإسرائيلي للبنان في العام 1982م، وحرب الخليج الأولى (1980 - 1988م). لكنه لم يشهد _«أم المعارك«، وهنا أظن أنه كان يتوقعها قبل مماته، وهي انفتحت في آب / أغسطس من العام 1990م ولا تزال؛ وهي تلخص الحقد الإمبريالي، وامتداداته الصهيونية والرجعية والمذهبيات الدينية المختلفة، على أنموذج ميشيل عفلق الحضاري المتمثل بنهضة الأمة العربية لتأدية رسالتها الحضارية الإنسانية، والتي يشكل الإسلام، الإسلام الجوهر، أحد أهم ركائزها ومقوماتها.
نستطيع القول إن الفكر التنويري لميشيل عفلق كان يتعمَّق ويظهر أكثر تنويراً وعمقاً من خلال محطات التأثير المشار إليها، والتي عاشها في حياته. وهذه سمة أساسية للحراك الفكري لأي فكر، لأن الفكر الذي يتوقف عن الحركة يصاب بالسكونية والموت.

5- كيف تطورت نظرة ميشيل عفلق إلى الإسلام؟ في خلال الثلاثينات، ومطالع الأربعينات، أي في المرحلة التي انكبَّ فيها ميشيل عفلق على استقراء تاريخ الأمة العربية وتوقفه عند مواطن القوة والضعف التي عرفها هذا التاريخ الطويل، أدرك، لا بل اكتشف -كما يقول بنفسه- أن الإسلام كجوهر هو أحد أهم العوامل الحاملة (Elements porteurs ) لإنجاز مشروع نهضة الأمة العربية في التاريخ: في الماضي، في الحاضر وفي المستقبل.
إضافة إلى ذلك، فقد توصل عفلق، من خلال قراءته التاريخية المتعمقة لتاريخ العرب والعالم، أن هناك ثمة خصوصية في العلاقة بين الإسلام والعروبة: الإسلام كفعل تغييري ثوري نهضوي حضاري مستمر، والعروبة كحالة حضارية عربية فاعلة ومستمرة.
إنطلاقاً من هذا الاكتشاف لحرارة العلاقة بين الإسلام والعروبة، كان عفلق، كمفكر، يتمادى في توصيف جديد لخصوصية العلاقة بين الطرفين، وذلك في كل مرة يكتشف فيها جديداً، أو يخضع فيه لتحدٍّ جديد، سواء كان هذا التحدي خارجياً أم داخلياً.
وهذه صورة أولية لتطور الخط البياني لفكر عفلق تجاه الإسلام، معزَّزَةً بالتسلسل الزمني:
1-في العام 1943م، في محاضرته «في ذكرى الرسول العربي«، قال عفلق: «لا يفهمنا إلاَّ المؤمنون، المؤمنون بالله… ونحن وصلنا إلى هذا الإيمان، ولم نبدأ به، وكسبناه بالمشقة والألم، ولم نرثه إرثاً، ولا استلمناه تقليداً، فهو لذلك ثمين عندنا، لأنه ملكنا وثمرة أتعابنا«. فماذا اكتشف عفلق بعد جهد وألم؟
إكتشف سر العلاقة المتميزة بين العروبة والإسلام. إكتشف أن الإسلام، كجوهر، خصوصية عربية أخصَّ العرب بدور حضاري نهضوي في التاريخ، ولم يخص غيرهم من الشعوب أو الأمم الأخرى التي اعتنقت الإسلام وأخذت بتعاليمه.
لقد غاب عن عمارة، وعن الباحث غريب أيضاً، مقولة لميشيل عفلق أعلنها في المناسبة ذاتها، أي في العام 1943م، «في ذكرى الرسول العربي«، حيث قال: «كان محمد كل العرب، فليكن العرب اليوم كلهم محمد«.
تعكس هذه المقولة فكر عفلق وإدراكه لموقع الإسلام في إنجاز المشروع الحضاري النهضوي للأمة العربية، ذلك أنه، أي عفلق، يركز على النوعية في الإسلام، على القيادة النوعية المبدعة وليس على الكمية القابلة للاختزال والنقصان، فيما النوعية هي القوة الحية القادرة على توليد تراكم نوعي وخلق حوافز مستمرة.
2-في العـــام 1976م، أي بعد ثلث قرن من الزمن، عاد عفلق ليؤكد أكثر على اكتشافه لأهمية الإسلام كثورة في الحياة العربية، والتي ينبغي استلهامها دائماً في مواجهة تحديات الإعاقة لمشروع النهضة العربية، سواء كانت هذه التحديات خارجية أم داخلية.
3- في العـــام 1977م، ربط عفلق بين نشأة البعث، كحركة إحياء وتجديد لنهضة الأمة العربية، وبين اكتشاف الفعل المهم والإنجاز التاريخي الذي أحدثه الإسلام في حياة الأمة، سواء مع الاستجابة العربية لمنطلقات الدعوة الإسلامية الأولى أم مع المحطات المضيئة التي عرفتها الأمة في تاريخها على الأصعدة السياسية والاقتصادية والفكرية والعسكرية والثقافية (الفتوحات - تطور نظام الحكم - تعريب النقد وتوحيده - العلوم والترجمات والنقل - التفوق العسكري على الفرس والروم والصليبيين …). لكن الإسلام لم يستمر كفعل ثوري دائم في حياة الأمة؛ فقد تضافرت عوامل عديدة ومختلفة شوَّهت المعاني المضيئة في الإسلام، وراحت تأخذ بأولوية الشكل والاعتبارات السطحية لتحلها محل المضامين الجوهرية الحقيقية التي جاء الإسلام من أجلها. هنا، بدأت الأمة تتطور تطوراً مأزوماً على كل المستويات إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه في التاريخ المعاصر من تجزئة وتفتت وانحطاط وتراجع. وهنا، في مسعى منه، يجعل الأمة تتجاوز أزمتها وتستعيد دورها كأمة ذات رسالة حضارية على مستوى العالم، راح عفلق يفكر بإنشاء الأداة القادرة على قيادة الأمة وتحقيق نهضتها، فكان البعث كنتيجة استلهام واكتشاف لدور الإسلام في ثورته العربية الأولى وفي الإنجازات النوعية التي أحدثها. ففي العام 1977م، وبع ثلث قرن على النشأة الرسمية لحزب البعث جاء ميشيل عفلق ليقول: «إن طريق البعث كان نتيجة اكتشاف الإسلام… لقد كانت اللحظة التاريخية في حياة الثورة العربية المعاصرة هي سلامة الاختيار… وقد كان الموقف من التراث القومي، أي من الإسلام… معبراً عن أحد الاختيارات الكبرى لفكر البعث… كان لا بُدَّ حرصاً على المستقبل وسلامة الاتجاه، من الإشارة الصريحة إلى ذلك. والتتمة على الأجيال البعثية الصاعدة«.

إعلان إسلام عفلق بعد مماته: المعاني والأبعاد.
الإســـلام والقوميــــــــة
تعريف عفلق للإسـلام: الإسلام هو «حركة روحية امتزجت بتاريخ العرب، واصطبغت بعبقريتهم، وأتاحت ظهور نهضتهم الكبرى، له مكانته الخاصة في روح القومية العربية وثقافتها وحركة انبعاثها«( ). والسؤال هو كيف؟ وأين يظهر ذلك؟
لقد وُجدت العروبة قبل الإسلام، ولكن الإسلام هو الذي أنضج عروبتنا. لقد وُلد الإسلام في أرض العروبة… ولكنه أصبح هو أباها. كيف؟ هل يمكن لنا ولغيرنا أن نتساءل:
-المسيحية دعوة روحية، سبقت الإسلام بحوالي 600 سنة، ووُلدت في الأرض العربية، وكانت العروبة موجودة كحالة حضارية معينة قبل ولادة المسيحية.
لماذا، إذاً، لم يقل ميشيل عفلق: المسيحية حركة روحية امتزجت بتاريخ العرب، واصطبغت بعبقريتهم، وأتاحت ظهور نهضتهم الكبرى، ولها مكانة خاصة في روح القومية العربية وثقافتها وحركة انبعاثها؟؟
لماذا لم يقل: لقد وجدت العروبة قبل المسيحية، ولكن المسيحية هي التي أنضجت عروبتنا؟
لماذا لم يقل: لقد ولدت المسيحية في الأرض العربية… ولكنها أصبحت هي أباها؟
والمسيحية هي دين أيضاً وسابقة على الإسلام. لماذا لم يكن لها تلك التأثيرات العميقة التي تركها الإسلام على الحراك التاريخي العربي؟
يقول الباحث غريب، في الصفحة 70، مقتبساً عن عفلق: «فالمسألة الدينية ليست عرضية في التاريخ العربي… والديني ليس شيئاً ثانوياً مصطنعاً في حياة الأمم، فهو موجود في صميم القضية العربية، وفي ضمير المواطن العربي«.

لماذا لم تكن المسيحية والعروبة؟
1-حول إشكالية التجريد:
-إشكالية الهوية للمسيح بين: ناسوتيته ولاهوتيته.
- قوة التجريد، لا بل حسم مسألة التجريد عند الإسلام: تأكيد الإسلام على وجود الله الواحد الأحد غير المنظور لا يدركه إلاَّ العقل.
2-إشكالية المخاطبة بين المسيحية والإسلام:
-المسيحية لم تخاطب العرب بصورة مباشرة.
-الإسلام خاطب العرب مباشرة من خلال: -لغة القرآن العربية. -لغة الرسول محمد العربي. -التأكيد على الدور المعنوي للعرب (كنتم خير أمة أخرجت للناس).
3-لم تغير المسيحية بالملموس في الواقع العربي، بحيث لم تترجم المسيحية إلى تشريعات في الواقع العربي (لم تخرج عن التبشير بالوحي)، بينما تلازم في الإسلام الروحي بالاجتماعي بالاقتصادي بالسياسي في الواقع العربي.
4-تقبل العناصر العربية للدعوة الإسلامية بسرعة في بلاد الشام والعراق ومصر وأصقاع المغرب العربي: في تونس والجزائر ومراكش وليبيا وغيرها، بينما بقي انتشار المسيحية محدوداً في تلك الأصقاع.
يقول عفلق في العام 1946م: «لكل أمة، في مرحلة معينة من مراحل حياتها، محرك أساسي… كان في وقت ظهور الإسلام هو الدين… أما اليوم فإن المحرك الأساسي للعرب هو القومية… وحدها… والإيمان القومي وحده«. فهل انتهى هنا (في أواسط القرن العشرين) دور المؤثر الديني الإسلامي في مد الحركة القومية العربية بمقومات انبعاثها الأساسية؟
الجواب: كلا، فالإسلام هو روح العروبة، فلا يمكن للروح أن تموت. ولكن ماذا يقصد عفلق؟ فهو يقصد بالتالي:
1-إن القومية العربية وصلت، في أواسط القرن العشرين، بفعل الإسلام -كعامل تاريخي أساسي- وغيره من العوامل المؤثرة الأخرى، إلى مرحلة من النضج الفكري، الثقافي، الاقتصادي والسياسي، بحيث أن هذا النضج تحوَّل إلى قوة دفع أساسية للأمة العربية، قوة دفع تعادل قوة الدفع الدينية الإسلامية السابقة من دون أن تلغيها. فهي أبقت عليها كعنصر أساسي من عناصر تكونها التاريخي، وإنما سجلت عليها سبقاً في التاريخ الحديث والمعاصر بفعل التطور المهم الذي عرفه العالم، وعرفته معه الأمة العربية أيضاً.
2-إن الإسلام، بعد مرور طوال أربعة عشر قرناً على ظهوره، لحقت به تشويهات كثيرة على مستوى الممارسات الإسلامية في السياسة والسلطة والعلاقات التناحرية بين مذاهبه وفِرَقه والدول الحاكمة باسمه، وكذلك بفعل محاولات التشويه المستمرة التي قام بها الغرب منذ إرسال الحملات الصليبية، وصولاً إلى محاولات الاختراق الرأسمالي الاستعماري الحديث.
هنا، باتت الضرورة التاريخية تقضي بأن تتقدم القومية العربية، كعنصر حاسم في المعركة، سائر العناصر الأخرى، في مواجهات الحرب الشرسة التي تُشنُّ على العروبة والإسلام معاً من قبل الأعداء الكثر لهما معاً: دينياً، المشوهين لجوهر الدين ولحقيقة رسالته. وإلحادياً، قيادات الماركسية على اختلافها. واستعمارياً غربياً، ولسائر قوى التجزئة والتخلف من داخلية وخارجية، للحؤول دون نهضة الأمة العربية وتقدمها.
فسلاح القومية العربية، هنا، هو سلاح دفاع وتحصين وحماية، ليس فقط عن العروبة كحالة حضارية مستمرة، وإنما أيضاً عن الإسلام الأصالة والنقاء، وكحالة فاعلة حية في الحراك التاريخي العربي.
فكما كان الإسلام أباً للعروبة، والعروبة هي الإبن، فالآن أصبح الإبن رجلاً قادراً، تتوقف عليه مهمات الاحتضان للأب بدافع من الحنين والحرارة والعلاقة الروحية بينهما. وهذا ما يؤكد عليه عفلق بعد ثلاثين سنة، أي في العام 1976م، عندما يقول: «إن نجاح القضية العربية متوقف على امتزاج الأرض والسماء، أي على تكامل العلاقة بين العروبة، كحالة حضارية في الواقع الأرضي، والإسلام كحالة دينية سماوية«.
وتكمن، هنا، العلاقة التكاملية بين العروبة والإسلام، في التبادلية التاريخية (Reversibilite) التالية:
الإســـــلام
العروبـــــة
من هنا، كان البعد التاريخي للبعث يعني إحياءً مستمراً للتبادلية التاريخية بين العروبة والإسلام.
***

المداخلـة الثانيـة لإغنـاء البحث (ظافر المقدم)
ومضات من حوار ومناقشات مع أفكار الدكتور عمارة، وحوار مع بحث حسن غريب حول معاني إسلام ميشيل عفلق
داعياً عمارة لتحديد قواعد للحوار، قال غريب، بما معناه، تعال بنا يا عزيزي نتفق على قواعد للحوار كل من مخزونه واجتهاده، على أساس التلازم بين موقع الانتماء المعتقدي وموجبات آلية التفكير باتجاه تطوير الاكتساب المعرفي بحثاً عن حقائق مضافة، وخدمة لثوابت أرستها مسيرة كلٍّ منا على مدى أكثر من عقد، تفكيراً وسلوكاً والتزاماً.
من وجهة نظري، علينا أن نحدد فواتيح توصلنا إلى نوافذ الاكتساب المعرفي المضاف من خلال:
1-حاجة الباحث بنتاجه، أو في رده على بحث آخر، إلى الإلمام التأملي مع مادة البحث، على أن تحكمها آلية عقل منفتح ولكنه ملتزم، وإلاَّ أصبح الباحث بدون هوية، أي ما يشبه الحالة الشمولية الأممية.
2-العمل على استنباط الحجة من خلال الاطلاع على مجمل الآراء المعنية بهذا البحث أو ذاك، على قاعدة التمكن من التقاط شبكة الخط البياني الذي يمثله الباحث في رده على باحث آخر في موقع آخر. وهنا يمكننا القول بأن البحث بحاجة إلى فواصل بحث، والنقد بحاجة إلى نقده (أي نقد النقد). وخلاصة النتاج تنضجها مبادرات فردية مؤهلة، وتخرجها، كفعل كلي أو مكتمل، جهود عقل مؤسساتية، لتصبح مؤهلة للاستقطاب التنافسي الهادف لخدمة موقف أو قضية.
3-على الباحث أن يكون طويل الباع واليقظة، متحفزاً دائماً لالتقاط نوعية التساؤلات وتوظيفها في خدمة سياقات المعرفة المحددة في خط بياني متماسك ومتناغم في تحديداته وموسيقاه البنيوية الواضحة والمقرؤة.
أكتفي الآن بما قدمته من ملاحظات لا أدري إذا كانت مفيدة في تحديد أطر ومداخيل تهدف إلى إرساء قواعد مساهمات حوارية داخلية، مؤكداً على أنني لا أعتبر نفسي منخرطاً في العمل البحثي. ولكنني سأسعى دائماً للاكتساب من خلال المطالعة والحوار وإبداء الرأي بموضوعية وبدون حرج.
وعليه قرأت نتاجك عبر أربعة كتب بحدود ما أمكنني من وقت واستيعاب، ومن ضمنها موضوع الدكتور عمارة وردودك عليه. وسوف أبدي بعضاً من الملاحظات حسب قدرتي الآن. وسوف أعمل على مزيد من المساهمة إذا أمكن.
أولاً: إن مجمل ردودك على الدكتور عمارة، يمكن توصيفه بأنه محاولة جادة ومفيدة ومحفزة، ولكنها لم تلامس أعماق الخط البياني البحثي، الذي انطلق منها عمارة، كخلفية ملتزمة مشبعة بتصويب عصبوي يدعي الانفتاح، ولكنها غير مؤهلة للتفتيش عن ركائز تجمع ما فرَّقته مفاعيل التطور الحدثي والفكري بكل أبعادها لعلاقة عضوية حتمية بين العروبة والإسلام، وبين العقيدة القومية والعقيدة الدينية الإسلامية. وإن جهدك يجب أن يتواصل بحثاً وحواراً وإنضاجاً لتكتمل شروط البحث والردود.
لقد انطلق عمارة من مقولة تقول بأن القومية، كمعتقد وآلية منظمة، احتوتها مقومات العقيدة الإسلامية لأنها هي نتاج لانطلاقة الإسلام الرحب وحاضن الفكر والإيمان والقانون، وهو أي الإسلام هو الرهان القادم لنهوض الأمة.
لقد تناسى عمارة أو نسي بأن العروبة قبل الإسلام كانت لها نظمها الاجتماعية والقانونية والفكرية وغيرها، و[ان الإسلام الصحيح قد شكَّل رافعة نهضوية، ولكنه أخذ أو ارتكز على العديد والعدة من محتويات حضارية وإنسانية معاشة في القوانين واللغة والعادات والمؤثرات التي كانت سائدة في مرحلة ما قبل الإسلام. ولن أقول الجاهلية، لأنني أشك في أهداف إطلاق هذا المصطلح بشكل واسع في توصيفات مرحلة ما قبل الإسلام. وعلينا هنا أن نعود إلى كتابات الدكتور أحمد سوسة في بحثه عن المنطقة العربية قبل الإسلام بآلاف السنين. وهنا أود أن أتساءل عن الكيفية التي يفسر بها الدكتور عمارة إسلام الفرس، الذي في الوقت نفسه يتبنى محوراً فقهياً اجتهادياً داخل الإسلام، ويعمل على قواعد باطنية عصبوية يمكن على أساسها وصف إسلامية الفرس بأنها تأخذ من قوانين معتقدية يسميها الباحثون العقيدة الغنوصية التي أنتجت ما يسمى الإيمان المسترسل، والتي في مضامينها لا تعترف باطنياً بالنبوة، والتي استجد عليها، في أواخر السبعينات ما يسمى ولاية الفقيه لأسباب عصبوية سياسية فكرية لخدمة منطق باطني يقول، دون أن يعلن، إن إيران قوة إقليمية عظمى، ويتصرف ولي الفقيه على هذا الأساس، وهنا أود أن أحدد سؤالي:
هل يعتقد عمارة بأن الفرس حوَّلهم الإسلام إلى خارج هذه الباطنية، وحوَّلهم إلى عقيدية قانونية فكرية خارج انتمائهم القومي خاصة بالتعامل مع الأقليات الإسلامية داخل إيران، وغير الإسلامية؟ وهل يعتقد عمارة بأن الخلفية الإيديولوجية التي تتحكم بنظام ولاية الفقيه هي إيديولوجية إسلامية؟
ملاحظــة: لا أريد بتساؤلي هذا أن أستحضر عوامل الصراع المذهبي. ولكنها تساؤلات فكرية وعقلية. وأود، أيضاً، أن أقدم تساؤلاً آخر: هل أثَّر الإسلام، على مدى قرون طويلة، في الأتراك؟ وهل أخرجهم من انتمائهم القومي، بحيث أصبح الإسلام بديلاً عن التترك كخيار حضاري انتمائي؟
حول ادِّعاء عمارة بأنه اكتشف أن عفلق تدرَّج بخط بياني متصاعد نحو تبني الإسلام الكامل، مستنداً إلى ما كتبه عفلق بدءاً من محاضرته «في ذكرى الرسول العربي« مروراً بأن العروبة روحها الإسلام، وصولاً إلى الإضافات التصويبية في موضوع العروبة والإسلام في السبعينات، وحتى العام 1989م، لا تمثل معطى صحيحاً على اتجاه عفلق إلى الإسلام الكلي معتقداً إيديولوجياً وقانونياً وطقوسياً وسياسياً وتنظيمياً ورهاناً حضارياً كلياً، ونحن نملك تراثاً فكرياً وأدبياً يختزن كماً كبيراً من التفاصيل التي تضيء على الخيار الحضاري القومي، ونملك القدرة على توضيع مجمل المقومات، وتحديد خصوصياتها وأولوياتها في سياقات الزمن والحدث، فكراً وعادات وقوانين وتراكمات نتاج بحثي يؤكد التلازم العضوي بين العروبة والإسلام، كرافد حضاري روحاني لا كبديل عن الانتماء القومي.,عن مفتاح ردنا الأولي هو أننا لسنا بوارد القول أن على الإسلام أن يأكل العروبة، ولا على العروبة أن تأكل الإسلام أو أن تنكر حضوره التفعيلي الحضاري الروحي. وإن العروبة، بخصائصها الحيوية الإنسانية الحضارية وروحانيتها، هي المؤهلة لتقديم خط بياني مستقيم لارتقاء البشر إلى مستوى الأخوَّة الإنسانية، خارج متاريس الانتماء الديني والمذهبي، ولارتقاء الأمة إلى دائرة السلوك الوحدوي العادل والديموقراطي.
لم يعلن عفلق إسلاميته الكلية: لا طقوساً ولا نكراناً لأرثوذكسيته، بل أدرك أن أول شرط لوحدة الأمة يكمن في إعادة استحضار مكوناتها الحضارية، وإن الإسلام يشكِّل مساحة واسعة من هذه المكونات.
وهنا، لدينا ما يؤكد صدق عفلق بأولوية نضاله وقناعته وعقلانيته التأملية باتجاه الوحدة، انطلاقاً من موقعه الموروث كأرثوذكسي عربي اكتسب من معنى الكلمة أرثوذكس، أي المستقيم أو القويم. وهذا المعنى مخزون في شخصيته غير الفئوية، بدليل عقلانيته الصادقة الموصولة بانفعالاته الإيمانية الإسلامية، التي تعدُّ إحدى مقومات شخصية الأمة الحضارية الأساسية، وضرورة استحضارها كعامل تفعيلي وحدوي متنور ومنفتح على آفاق المعرفة في خدمة كل أفراد الأمة أياً تكن مواقعهم الإيمانية الربانية.
إن عمارة وضع عفلق في موقع المتراجع عن خطه البياني الذي انطلق منه إلى خيار خط بياني آخر هو خط الدكتور عمارة كباحث إسلامي. وهنا أود أن أتساءل: ألم يقع عمارة في بحثه في دائرة التناقض بين العروبة والإسلام عندما أعطى أحكاماً توصيفية حول مسيرة مفكر قومي عربي بأنه لو بقي حياً، لفترة لاحقة، لأصبح إسلامياً كلياً.
وهل عمارة يعتقد بأن الإسلام الكلي، في تكوينات الواقع الموضوعي، موجود من الناحية الفقهية الاجتهادية الطقوسية القانونية الشرائحية المذهبية وتكويناتها السياسية، أم أن الواقع يؤكد عكس ذلك؟
هل يعتقد عمارة بأن على العربي أن يترك عروبته إلى الإسلام، والإسلامي يترك إسلامه إلى العروبة، والمسيحي يترك عروبته إلى المسيحية… إلخ؟
حول ما قدَّمه الباحث غريب:
لقد فكَّك غريب عفلق في بعض ما قدَّمه، باعتبار عفلق مفكر غير ما هو سياسي - صوفي غير ما هو عقائدي بعثي ملتزم. ووضع عفلق في مواقع متناقضة بعض الشيء، وكان قصده إيجاد عوامل تمايز في وصفه لعفلق عما قدمه عمارة، علماً بأن لدى غريب القدرة على تقديم تمايز متماسك وواقعي عبر بذله جهداً تأملياً في قراءة عفلق المفكر والعقائدي والسياسي.
إن وصف عفلق بخلفيته الصوفية، التي تمثل حالة من العزل عن كونه مفكراً قومياً تنظيمياً في الفكر والسياسة والممارسة، خطأ ارتكبه بعض المفكرين عندما وصفوا عفلق بأنه مفكر لتأملات نثرية رومانسية.
وفي اعتقادي إن ما بدا من تأملات فيها انحناءات صوفية عند عفلق لا تخرج عن كونها، في الشكل والمضمون، سمة من السمات التي تبدأ عند أي مفكر في نسيجه الفكري والمعرفي عندما يقدم نتاجه، بحيث تختلف نسبة معاييرها من حالة إلى أخرى في صياغة وجهات النظر.
وفي اعتقادي، أيضاً، أن عفلق نتيجة لقناعته الكاملة بأولوية القومية والوحدة ترك لتأملاته الهادفة استحضاراً لمكونات الأمة ومقوماتها ومنها الإسلام، فترك حيزاً متواصلاً في الحديث والتفكير مع ذاته ومع الآخرين حول أهمية الإسلام، لا كبديل، بل كإسناد حضاري في خدمة الأمة وقضاياها الحيوية.
وأخيراً، وعلى أساس أن للبحث صلة، أعتقد بأنه إذا كان الإسلام قد شكَّل، في مرحلة تاريخية، رافعة لانتظام السياق الحضاري للأمة، فإنه الآن غير قادر على استمرار هذا الدور، لا لأنه في مضامينه الإيمانية غير مؤهل، ويمكن تبيان وجهات النظر عبر سياق طويل من التفاصيل لاحقاً.
وإنني أعتقد، الآن، بأن الأمة بحاجة ماسة إلى حالة نهضوية عبر استحضار المسألة القومية الوحدوية بمفاعيل جديدة يجب العمل والنضال من أجلها ولها.
***
ملاحظات الباحث وتوضيحاته وردوده حول آراء المحاورين ومداخلاتهم
أولاً: في توضيح الغاية من نقد كتاب محمد عمارة «التيار القومي الإسلامي«:
حسبت بعض المداخلات أن ردي على محتويات كتاب عمارة لم يكن تاماً وكاملاً، وإنني لم أشبع البحث. وإنني لم أناقش عمارة، كمفكر يدعو إلى الأخذ بالإسلام الحضارة والقانون والشريعة. بل اكتفيت بما هو موجود في كتابه. فهناك نقص في الرد.
منهجياً، لا يستدعي من الكاتب، الذي يضع مراجعة أو نقداً لكتاب كاتب آخر، أن يؤلف كتاباً جديداً. لأنه على الراد أو الناقد أن يراعي حجم البحث الناقد، وهو عادة محدود. فأن تنقد كتاباً هو أنك لا تقر نتائجه العامة التي توصَّل إليها كاتبه، فتناقشها كما جاءت عنده، وتدحضها ببراهين وأدلة منتَخَبة، وبما يكفي لتدعيم وجهة نظرك.
فإذا استطعت أن تُضعِف نتائج البحث المنقود، تأتي مرحلة أخرى، وهي صياغة نتائج جديدة. وإذا كنت كباحث قد قمت بصياغة نتائج جديدة حول الموضوع المنقود، خاصة إذا كانت منشورة، كما هو حاصل معي، فمن الخطأ التكرار خاصة إذا كانت الأدلة، التي سقتها في سبيل تلك النتائج، تصل إلى حجم بحثين مساحتهما ألف صفحة. ومن المعلوم لديكم أنني قمت بنشر كتابين كبيرين، وهما: في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام، أما الآخر فهو الردة في الإسلام. وقد حاولت فيهما أن أبرهن أن علاقة الإسلام بالعروبة لا تصل إلى حدود الاندماج الكامل، لكنهما لا يخضعان إلى حدود الابتعاد الكامل. وإنني أحسب أنني، من خلالهما، حاولت أن أدحض الفكرة الإسلاموية القائلة بأن على القوميين أن يعتمدوا الإسلام الصحيح، فالعروبة بدون الإسلام تكون بغير دليل فكري وروحي. لذا جئت في كتاب الردة لأبرهن أن شعار العودة إلى الإسلام الصحيح ليس سوى شعار تعبوي وتبريري. وإنني أحسب أن مناقشتي التفصيلية المطلوبة حتى يكون ردي على عمارة كاملاً وتاماً هو غير منفصل عن مطالبتكم لي بالإتمام والكمال عن طريق توزيع كتابيَّ المنشورين ببحث من المفروض أن لا يتجاوز حجمه المنشور، وهذا مطلب عسير التنفيذ.
لذلك، كان من أهم أغراضي في نقد كتاب عمارة أن أفصل الشك باليقين حول مطالبته للقوميين عامة، وللبعثيين خاصة، بأن يتمموا ما كان عفلق يتجه إليه فيما لو بقي على قيد الحياة، وهو أن يأخذوا ليس بالإسلام الحضارة -كمثل ما دعا إليه عفلق- بل بالإسلام كاملاً.
إن هذه الدعوة تدعو إلى الاشتباك بين خيارين فكريين - سياسيين: هل نريد دولة إسلامية تحكم بما أنزل الله، حسبما يحسب الإسلاميون؛ أم نريد دولة قومية تحكم بقوانين وضعية، حسبما يحسب القوميون.
كان يكفيني من مراجعة كتاب عمارة أن أصل إلى نتيجة أن عفلق، من داخل دائرته الفكرية الخاصة، أو من داخل دائرته الحزبية العامة، لن يتوصل -فيما لو بقي حياً- إلى الأخذ بالإسلام كاملاً: أي الإسلام الحضارة والقانون والشريعة. فإذا نجحت بهذه المهمة فإنها تكفيني، أما التوسع بما أريد، كبعثي أو كباحث قومي، أو بما تريدون أن اتوسَّع فيه، فهذا موضوع آخر يمكن العودة إليه من خلال أبحاثي المنشورة. وهنا أنا جاهز للاستماع والحوار حول أية ثغرات يمكن أن تشوب البحثين المذكوريْن. وأنا شاكر لأية جهود يمكن أن تبذلونها في قراءتهما قراءة نقدية هادفة للوصول إلى أقرب ما يمكن للحقيقة.
إنني، بعد متابعة الخطاب السياسي لعشرات السنين، وجدت أن تبييض الصورة التاريخية عند العرب والمسلمين، يكاد يشكل طغياناً كبيراً على ثقافتنا. وانطلاقاً من سؤال وجهته إلى نفسي: إذا كنا نمتلك كل تلك الصفحات التاريخية الناصعة، فما هو السبب الذي جعلنا ننحدر إلى مصاف الدول المتخلفة؟
سيطر هذا السؤال على منهجي المعرفي، فأجبت نفسي: إذا كان هناك مئات الألوف حسبوا أنفسهم مسؤولين عن التعبير عن مظاهر الصحة في الأمة. وطالما أن في الأمة مظاهر كثيرة من مظاهر اعتلال صحتها، أرى نفسي ملزماً أن أختار طريق الكشف عن تلك المظاهر، لأنه لا يمكن أن نحضِّر علاجاً لمرض مجهول الأسباب. فاخترت درب النقد، والنقد هو أكره مهنة عندنا، بما نتميز به من قصور في الاتفاق حول أصول الديموقراطية، فإنك تجد مئات الآلاف الذين يهللون لمكتشفي الصفحات الناصعة، وبمقدار عددهم سوف تجد من الذين يصبون اللعنة على كل منتقد آثم. فاخترت أنا طريق الإثم، الذي هو طريق النقد، لأنني أحسب أن هذا الطريق، على الرغم من أنه ملتبس بالإثم فهو الطريق الأسلم للوصول إلى الدواء الناجع، فالطبيب لن يستطيع أن يصف الدواء من دون النتائج التي يظهرها المختبر. والى أن نصل إلى مستوى ندرك فيه أن للمختبر الذي يكشف الجراثيم في أجسادنا دور يعادل، إذا لم يتفوق على دور الطبيب، لا بأس من أن أتعرَّض إلى اللوم والتقريع كلما اكتشفت بثقافتي النقدية جرثومة تنخر في جسمنا العربي والإسلامي، كما أنها تنهش في رؤانا المعرفية.
لم تكن هذه المقدمة معزولة عن التوضيح الذي أريد أن أبرر فيه من أنني وقعت في نقص عدم إشباع البحث، بمعنى أنني لم أوضح بشكل مفصَّل البديل بعد نقدي لكتاب عمارة. كان كل همي أن أبرهن على بطلان توقعاته وأمانيه في أن يتحول البعثيون إلى ما افترضه عمارة نفسه، وليس إلى ما كان عفلق يتجه إليه.
إنني، من خلال اختياري طريق النقد الفكري، لا أؤسس لنظرية جديدة فورية، ولذلك -وكما هو واضح في شتى أبحاثي المنشورة- لم أقم باستنتاجات كافية تؤهلني الآن إلى وضع ما ينتظره القارئ. وإنني، ربما بعد أن أشبع تساؤلاتي وفضوليتي في نقد ما لا أراه صحيحاً، أكون كمن يعبد الطريق مع غيره، من ناقدي التراث، أمام شتى المفكرين والمهتمين بشؤون مجتمعنا وأمتنا بالإسهام في مثل تلك الورشة الإنتاجية. وإنني أحسب أن جلسة الحوار حول أحد أبحاثي وهو ما نقوم به الآن، قد زرع الحافز أمام أحد المشاركين معنا لوضع أنموذج لتفسير إسلام عفلق بطريقة فيها الكثير من العمق في فهم إسلام عفلق، وفيه الكثير من العمق في التحليل والاستنتاج. ألا يكفينا من جلستنا النقدية أنها قد بدأت تثمر، وتفسر العلاقة المهمة والضرورية بين النقد الفكري والإنتاج الفكري؟

ثانيــاً: في توضيح الموقف من الإسلام كاملاً:
• جاء في أحد المداخلات: كان ردك على عمارة وكأنه جاء رداً على الإسلام وليس على الإسلاميين. وأخطر ما في الرد هو ما كان موجهاً ضد الإسلام. وإنك تتحدث عن الإسلام وكأنه ماضي، بينما هو المشروع الإلهي الأخير، وهو مشروع متكامل ولم ينته دوره حتى الآن. فالإسلام ليس هو تراث فقط، بل هو حالة متجددة دائمة. وهنا نتساءل: هل الإسلام هو مشروع فاشل؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى نتساءل: هل المطلوب، كما تصل أنت، أن نعترف بكل تلك الفرق التي تدعو إلى أن يعترف بعضها بالبعض الآخر، وأين موقع الإسلام الصحيح إذا قمنا بمثل هذا الاعتراف بالفرق والمذاهب المتفرعة عنه؟
• من خلال بعض النتائج والصياغات الجديدة، التي توصل إليها بعض الحاضرين، أحسب أننا قد بدأنا نقترب من ملامسة الأهداف التي من أجلها وضعت نقدي لكتاب الدكتور عمارة. ولمزيد من التوضيح، أصف الواقع الذي ساد في صفوف البعثيين بشكل خاص، والذي تحوَّل -بشكل عام- إلى الانفعال والاقتناع والتأثر بالنتائج التي توصل إليها عمارة، وظهر ذلك عندما أخذ البعض يدخل في ممارسات فكرية تتجه بهم إلى تغليب الإسلامي على القومي.
ولأنني كنت خائفاً من سلوك هذا الطريق، وأصابني الجزع من أن يتحوَّل البعثيون إلى فِرَقٍ متباعدة في الرؤى الفكرية، ومن أن يتحول البعثي، مثلاً، إلى بعثي سني أو بعثي شيعي… أو بعثي مسلم وبعثي مسيحي… وجدت أنه من الضروري تصويب النقد باتجاه النتائج التي توصل إليها عمارة، وكانت سبباً في انفعال البعض بها وتأثرهم بما جاء فيها.
من هنا، سواء كان النقد مكتملاً أو ناقصاً، كان من أهم أهدافي هو أن تسود المنهجية النقدية حتى لا نقع في محظور التقليد والانفعال بكل ما له علاقة بأحد العناوين الكبرى في حياتنا الفكرية من دون أن نمعن النظر بمدى قربه أو بعده من فكرنا القومي. وكان من أهم المداخل لهذه المسألة أن نبدأ بورشة عمل فكرية ناقدة ومنقِّبة في ما كان يريد أن يصل إليه عفلق، كأحد المفكرين الكبار في حزب البعث العربي الاشتراكي حول علاقة العروبة بالإسلام. وهذا لا يمكن الوصول إليه من خلال التفسير والتأويل، بل أن تعود إلى دستور الحزب ومقررات مؤتمراته، وهي التي تغنينا عن الولوج في متاهات التفسير والتأويل، و إلاَّ سوف نقع في المحذور الذي وقعت فيه الفرق الإسلامية فأغرقها تفسير النص وتأويله، فتاهت وتشرذمت وكفَّر بعضها البعض الآخر. أما علينا نحن أن لا نغرق في متاهة الكتاب (دستور الحزب ومقررات المؤتمرات) والسُـنَّة (سيرة المؤسس وكتاباته)، فهناك ميزة الخلق والابتكار عند البعثيين، لأنهم غير ملزمين بكل النصوص في كل زمان ومكان، فحياتنا وفكرنا في تجدد مستمر، وعطاؤنا وابتكاراتنا القائمة على حرية وتغيير النصوص إذا ما أثبتت التجربة قصورها أو فشلها. لكن وفي سبيل المقاربة التنظيمية في الفكر والسياسة علينا أن نستفيد من المنهج المعرفي الذي سلكه عفلق في تحديد العلاقة بين العروبة والإسلام، ولكن أن نعود إلى المنهج العلمي الذي كان، ولن نتجاوزه في المستقبل، الدليل لوضع دستور الحزب ومقرراته. فمن خلالهما: منهجية عفلق المعرفية الوجدانية ومنهجية الدستور العلمية، متحدين أو منفرديْن، نستطيع أن نرى بوضوح أين يقع الإسلام في دائرة الحزب الفكرية. وهل للحزب مصلحة أن يرى في الإسلام الحضارة والقانون والشريعة هدفاً رئيساً له؟
إذا كنت أرى في الجانب النقدي ضرورة ملحة، لا بُدَّ منها للوصول إلى أفضل الإجابات عن الأسئلة التي أطرحها، فعلينا جميعاً أن نناقش النقد الذي أمارسه. وإذا ما اتفقنا على العناوين الكبرى: حول الحدود التي علينا أن نصل فيها إلى فهم الإسلام فهماً جديداً من دون انفعال. وحول الحدود التي علينا أن نأخذ فيها من الإسلام، يبدأ دور كل من يستطيع أن يقدم صياغة جديدة لما نتفق عليه من نتائج. وهنا، لا بُدَّ من أن أؤكد أنه ليس دوري بمفردي، لأننا نحن مؤسسة يكمِّل بعضها البعض الآخر. فاتركوني أثير الإشكاليات وأتحمل وزر إثارتها، على شرط أن نتعاون حول صياغة بدائل لما نتفق حوله لأنه مهمتنا جميعاً. لكنني لن أتوانى، على الإطلاق، عن ممارسة دور الناقد لأنني أحسب أنه بدونه لن يكون لدينا الحافز للوصول إلى أقرب ما يكون من الحقيقة.
فالمزيد من النقد، ومن نقد النقد، هو المسار المهم الذي يساعدنا على تصويب الأمور، وإعادة اتجاهات عقارب البوصلة إلى مساراتها الصحيحة التي دعا إليها البعث في المادة /15/ من دستوره، والتي تقول: «الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة واحدة«.
وهنا أتساءل: هل ما جاء في نص المادة /15/ هو موجَّه ضد الإسلام؟
يقول الإسلاميون، استناداً إلى النصوص، إن الإسلام هو الرابطة الوحيدة بين المسلمين، ومن يؤمن من المسلمين برابطة أخرى غير الإسلام يوجَّهون إليه التهمة التي تصل إلى حدود تكفيره. ويقولون، أيضاً، لم توجد القومية إلاَّ لمحاربة الإسلام.
إن شعار «لا حاكمية إلاَّ لله«، وفتوى تكفير من يخضع لغير ولاية المسلم … وهي نصوص مأخوذة من النص القرآني وليس من اجتهادات الفقهاء المسلمين أو الإسلاميين. ألا تتناقض مع المادة /15/ من دستور الحزب؟ فأيهما على البعثي أن يؤمن به؟ فهل نعتقد أن نص المادة /15/ هو ضد الإسلام؟
أنا لا أتكلم عن الإسلام وكأنه ماضٍ، بل أتكلم عنه وأراه في الحاضر، وألمس مدى تأثيراته -من خلال شتى فرقه. ولذلك أنا لا أرى أن العمل بشرائعه وقوانينه هو الذي يشكل عاملاً توحيدياً بين أبناء القومية الواحدة المتعددة الأديان. ولا أراها توحيدية بين أبناء القومية الواحدة المتعددة المذاهب الإسلامية. وهنا أحيلكم إلى بحثي المنشور في كتاب نحو طاولة حوار، تحت عنوان «هل يحقق الفقه المذهبي الإسلامي وحدة الدولة والقانون؟«.
ورداً على القول «إن الإسلام هو المشروع الإلهي الأخير، وهو مشروع متكامل، ولم ينته دوره بعد… وهو ليس تراث فقط، بل هو حالة متجددة دائمة«، ورداً على التساؤل: هل الإسلام مشروع فاشل؟ أقول: من موقعي الناقد، والنقد لن يتم أبداً، كما لن يكون سليماً، إذا كان العقل مقموعاً، بل من حق العقل أن يبدأ بالشك في أية حقيقة، أتساءل: إذا كان المؤمنون بهذا القول صادقين في إيمانهم به ومسلِّمون به، فما هو السبب الذي دفعهم إلى اختيار عقيدة البعث، إذاً؟ فإذا كان البعث هو الإسلام، أي إذا كانت العروبة هي ذاتها الإسلام، فلماذا بذلنا كل تلك الجهود لوضع نظرية في الفكر القومي ما دام الفكر الإسلامي لا يختلف عنه؟
فما دامت شرائع الإسلام هي مشروع إلهي؟ وما دامت متكاملة؟ وما دام الإسلام حالة متجددة، وما دام لم يثبت فشله، فلماذا نتركه وننادي بعقيدة وشرائع أخرى؟ أليس ما يفعله البعثيون هو نوع من العبث؟
فإذا كان الإسلام مشروع إلهي، فماذا يميزه عن المشاريع الإلهية الأخرى التي أُنزلت منذ عهد آدم وصولاً إلى الإسلام ذاته؟ وهل ليست كل تلك المشاريع السابقة عليه، بدءاً بالموسوية مروراً بالمسيحية، فاشلة؟ ولماذا الله تعالى يأتي بكل تلك المشاريع الفاشلة؟ أما كان يمكنه أن يأتي بمشروع واحد ناجح؟
لكي يتهرَّب فقهاء الإسلام ومفكروه من الإجابة على ذلك يلقون باللوم على السوء في التطبيق وليس على النظرية، فالوزر -كما يقولون- يقع على المسلمين وليس على الإسلام.
فإذا كان المشروع الوحيد الناجح هو الإسلام، للأسباب التي يذكرها الإسلاميون: أي أنه آخر مشروع إلهي أنزل بواسطة خير أمة أخرجت للناس، وإن التخلف الذي لحق بأمة الإسلام يعود وزره على المسلمين وليس على الشرائع الإسلامية، فهل ما زلنا نراهن على أن يأتي أفضل من صحابة الرسول العربي وأفضل من آلاف الفقهاء الأفذاذ الذين عرفتهم الدول الإسلامية المتعاقبة لكي يعملوا على فهم تلك الشرائع بشكل أفضل من سابقيهم، وأن نجد السلطة السياسية التي تستطيع تطبيقها بأفضل من السلطات التاريخية التي أساءت التطبيق؟
فإذا كانت تجربة طولها ألف وأربعماية سنة لم تكن كافية، فكم نطلب من الوقت الإضافي لكي نعيد تجربة أخرى نختبر فيها صلاحية الشرائع الإسلامية في التطبيق العملي؟
وهنا نتساءل أيضاً: هل الإسلاميون الذين يأتون بمثل هذا التبرير هم موحدو الاتجاهات والرؤى حول الإسلام الصحيح؟ وهل هم متفقون، فعلاً، حول نظام إسلامي واحد يستطيع أن يجمعهم ويلتفون من حوله؟
لقد تشتت الإسلام إلى مئات الفرق والمذاهب، بحيث تحسب كل فرقة أو يحسب كل مذهب، أنه الوحيد الذي يعتنق الإسلام الصحيح. فأين هو الإسلام الصحيح يا ترى؟
قد يجيب مجيب على تساؤلنا بأنه في القرآن والسنة وكتب التراث، وهذا ما يلزمنا بأن نطرح التساؤل التالي: وهل هناك فرقة إسلامية، أو هل هناك مذهب إسلامي واحد يقر بأنه لا يتَّبع القرآن والسنة والتراث الإسلامي؟
فالسؤال هل الإسلام فاشل، هو غني عن الجواب. دعوني، هنا، أنطلق من شكي وحسي النقدي من دون أية اتهامات جاهزة، وهي الاتهامات التي يطلقها الإسلاميون فوراً استناداً إلى النص الإسلامي. وأنا سأدع السائلين ينطلقون من إيمانهم، لأقول: إذا كانت تجربة 1400 سنة غير كافية لاختبار فشل تجربة أو نجاحها، فكم تريدون من الوقت لاختبار إضافي؟ وهل نرى في الأفق، القريب أو البعيد، منقذاً إسلامياً يستطيع تفسير النص الإسلامي وتأويله بشكل يجمع كل المسلمين من حوله، ثم يضع آلية تطبيقية سليمة تحقق وحدة الإسلام والمسلمين؟
ولأن البحث طويل وطويل جداً، وقد استهلك بحثي النقدي حول هذه الإشكالية عدة سنوات، من قراءة عشرات المصادر والمراجع، ومن ضمنهما القرآن والسنة، وكتابة مئات الصفحات، أرجو ما يلي:
- أدعوكم إلى قراءة كتاب الردة في الإسلام، وهو البحث الذي وضعته من أجل التفتيش عن الإسلام الصحيح. ومن بعد القراءة فلنتشارك ونتعاون في رسم صورة الإسلام الواحد الموحِّد.
- إنني، وحتى ينضج مشروعي النقدي، لن أضع أية صياغة نظرية جديدة ما لم أستكمله. وإنني بدون إنضاجه لن أستطيع أن أعطي جواباً متكاملاً، أو أقرب ما يكون من التكامل، عن حقيقة طالما بحثت عنها ولا أزال. وطالما أن دوري هو أن ألعب الشق الشائك من المهمة فإنني أضع في الحساب أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه المتحاورون معي لكي نتعاضد ونتعاون في سبيل اكتشاف الثغرات الحقيقية في مناهجنا الفكرية وأدائنا الثقافي، والتي سوف تساعدنا على اكتشاف الثغرات التي تشكل عوامل أساسية في تخلف أمتنا، كما هي الآن، والتي أحسب أنها تشكل السبب الأساسي في حالة التخلف التي نعاني منها.
إن لمشروع نقد الفكر الديني، ومنه الإسلام، أهمية قصوى في حسم إشكالية أي نظام سياسي يريده القوميون ويأتي على رأسهم البعثيون. ولأنه بدون نقد الفكر السياسي الديني لن نستطيع أن نؤمن بصحة الشعار الذي ندعو إليه، وهو أن الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة التي تجمع بين أبناء القومية العربية، وإذا عجزنا عن هذا الإثبات فما علينا إلاَّ أن نعود إلى ما قاله ويقوله الإسلاميون، ومنهم الباحث عمارة، وهو أن على البعثيين أن يتابعوا البوابة المفتوحة التي تركها لنا مفكر الحزب وقائده ومؤسسه، أي الخروج من الطريقة الانتقائية من الإسلام، وعدم الاكتفاء بالجانب الحضاري للإسلام، إلى الأخذ بالإسلام كاملاً: الحضارة والقانون والشريعة.
ولأننا متفقون على أن الحقيقة القومية هي الرابط الوحيد الذي نحسب أنه يحقق وحدتنا، دعونا نحفر بالحقيقة معاً، بعيداً عن العناوين الكبرى الموضوعة من أجل التعبئة والتحريض، وبعيداً عن الأسئلة المقصودة بالتشكيك في إيمان المسلم كطريقة لإخراجه عن طاولة الحوار باتهامه بالإلحاد، وهو أضعف طرق الحوار. ودعونا من دوائر التقليد التي يسجننا فيها الفقهاء المسلمون تحت وابل من التهديد بالعقوبات الدنيوية والأخروية، لأننا لن نصل إلى الحقيقة أو أن نسلك المنهج المعرفي الصالح للوصول إليها أو ملامستها ما دمنا نعيش هواجس ومخاوف اختراق ما نحسبه مقدسات إلهية.
وهنا لن يفوتني أن أقول إن مجرد الخروج عن أحد أركان الإسلام: في القانون والشريعة، يكفي للخروج عن الإسلام وعدم الاعتراف بأنه مشروع ألهي متكامل، وأنه صالح لكل زمان ومكان. فمن ينقص من إيمانه جانب من الجوانب العديدة فهو كمن ينقص من إيمانه أكثر من جانب. ولا يخفى، أيضاً، أن من يؤمن بأن هناك جامع للمسلمين غير الإسلام فهو خارج عن الإسلام، فيكفي أن تختار ولي أمر غير مسلم حتى تكون مخالفاً للشريعة الإسلامية. وهل نستطيع، كبعثيين وقوميين، أن نضع نصاً يُحْرِم العربي غير المسلم من هذا الحق؟
من هنا أرى أنه ليس لأحد أن يدَّعي أن معرفته بالإسلام هي ملك يديه، وأنه حريص على الإسلام أكثر من الآخرين. ولأن كل فرقة من الفرق الإسلامية ترى الإسلام مختلفاً، من زاويتها الخاصة، فتنظر إليه بغير العين التي تراه فيها الفرق الأخرى، يبقى من حق الأفراد،أيضاً، أن يروا إلى الإسلام من زواياهم، طالما أن أهم همومهم أن يروا الأمة في مستوى النهوض والتقدم. وقد يقول قائل إنه لا يستطيع أن يفتي حول تعاليم الإسلام إلاَّ من كان ضليعاً بالعلوم الفقهية، فإنني أتساءل: هل كانت المدارس الفقهية في بدايات الدعوة الإسلامية قائمة، وهل كان لها قواعد وحدود وأسوار؟
وإذا قيل من الممنوع على غير الفقيه أن يفتي، لأنه ضليع بتفسير النصوص وتأويلها، أتساءل: وهل اتفق الفقهاء من شتى المذاهب على تفسيرات وتأويلات واحدة لكي نأخذ بها. فما دام الفقه يستند إلى التفسير والتأويل يفقد، ساعتئذٍ، قدسيته، ومتى فقد النص قدسيته وأصبح من صنع بشري، فلكل مسلم الحق في أن يستخدم حقه بالاجتهاد والتأويل والتفسير.

ثالثـــاً: غموض الرد على عمارة وضعف الاستدلالات
• وفي مداخلة أخرى جاء فيها أن عمارة قد جاء بمستندات استطاع من خلالها أن يبرهن على أن عفلق قد تبنى الإسلام. لكن الرد عليها لم يكن واضحاً، ولم تكن استدلالات الرد واضحة بشكل عام.
• إنني لم أقف ضد ما قاله عمارة حول أن عفلق قد تبنَّى الإسلام الحضارة، ولم يستخدم أي جهد في البرهان عليها، والسبب أن عفلق كان واضحاً في نصوصه حول دعوته إلى بناء علاقة خاصة ومميزة بالإسلام. فلا عمارة بذل جهداً في البرهان، ولا أنا بذلت جهداً في نفي ذلك البرهان. فعفلق كان واضحاً في نصه، ولم أتناقض مع عمارة حول صدقية ذلك النص.
من هنا، يبدو من الضروري أن أوضح أنه بيني وبين عمارة نقاط اتفاق ونقاط اختلاف، وإذا قمنا بتوضيحها أحسب أن الالتباس قد يزول.
نقاط الاتفاق تتمحور حول ما يلي:
1-كلانا متفقان على أن عفلق قد أعطى خصوصية في علاقة الإسلام بالعروبة. ولم نبذل جهداً في البرهنة على ذلك لأن كتابات عفلق كانت أكثر من واضحة.
2-ونحن متفقان، أيضاً، حول أن عفلق قد أخذ من الإسلام جانبه الحضاري، لأسباب لها علاقة بمراحل التحرر القومي من جهة، ولقوة تأثيره الواسع في توحيد العرب وبناء حضارتهم من جهة أخرى.
أما نقاط الخلاف، فقد تمركزت حول النتائج التي توصَّل إليها عمارة من خلال دراسته لاتجاهات عفلق الإسلامية، وهي التالية:
1-يستنتج عمارة، بما يشبه التنبؤ،أن عفلق كان لا شك واصل إلى تبنّي الإسلام كاملاً، أي أنه، من خلال الخط البياني التاريخي لتطور موقفه الفكري من الإسلام، كان سينتقل بقناعاته، لو بقي حياً، من الدعوة إلى الإسلام الحضارة والروح إلى الإسلام الحضارة والقانون والشريعة.
2-استناداً إلى استنتاجاته دعا عمارة البعثيين والقوميين إلى أن يخطو الخطوات نحو الإسلام الكامل، وذلك على قاعدة أن يجتازوا المسار الفكري الذي كان من المتوقع أن يسلكه عفلق، كأهم مفكر بعثي قومي، وكأمين عام لحزب البعث العربي الاشتراكي.
3-وجدت، من جانبي، أن عمارة قد وقع في خطأين: الأول، في استنتاجات خاطئة عندما حسب أن عفلق سيصل إلى تبنّي الإسلام كاملاً، فاستندت إلى بعض النصوص التي نقَّب عمارة عنها لتدعيم استنتاجاته، والى نصوص أخرى، لم يتناولها عمارة أو أن يشير إليها. أما الخطأ الثاني، فهو أنه حسب أن عفلق كان فرداً متميزاً مما يخوله أن يؤثر أو أن يلزم رفاق دربه أو أترابه من أصحاب الانتماء الفكري القومي، إلى درجة قد يحسبهم من المقلدين. ولهذا أبدى استغرابه من أن كثيرين من رفاقه لم ينظروا باهتمام زائد عندما أُعلِن انتماؤه للإسلام.
فكان هدفي من نقد كتاب عمارة أن أبرهن النتائج التالية:
1-أنه ليس من الصحيح أن عفلق كان سيصل إلى تبنّي الإسلام كاملاً.
2-وإنه على افتراض أنه كان سيصل، فهو لن يلزم البعثيين بخياراته. لأن ما يوحِّد الاتجاهات الفكرية في داخل الحزب، ليس مفكر واحد أو أمين عام للحزب. فالذي يعمل على توحيدها هي قيادة الحزب الجماعية ومقررات مؤتمراته.
استناداً إلى نقاط الاتفاق ليس هناك ما يستوجب من الناقد أن يقوم بتكرار ما يتفق حوله مع المنقود، وربما تكون الملاحظة الموجهة إليَّ حول وجود نقص في المستندات أو ضعف فيها تصب في هذا الجانب. وكنت أتمنى أن يفصَّل من وجَّه هذه الملاحظة ما يجعل ملاحظته واضحة تغنيني عن التخمين والاستنتاج.
وعلى كل حال، سأقوم بسرد الأدلة التي سقتها، من أجل أن أبيِّن صعوبة أن يتحول عفلق إلى تبنّي الإسلام كاملاً، فكانت تستند إلى ما يلي:
1-يقدِّم عفلق العروبة، دائماً، على كل شيء آخر، وإنه أحبَّ الإسلام بدافع من حبه للعروبة (راجع ص 68).
2-إن حبَّه للإسلام ناتج عن أن الإسلام وُلِد في الأرض العربية (ص 70).
3-كان الإسلام، في بداية الدعوة الإسلامية، محركاً أساسياً للعرب. وأصبحت القومية، في عصرنا الراهن، هي ذلك المحرك (راجع ص 71).
4-إن العروبة تمنع أية سلطة من ممارسة الضغط الديني على أية جماعة في الأمة (راجع ص 74).
5-إن الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة في الدولة العربية (راجع ص 75).
6-إذا كان العرب أمة مؤمنة، فلا يعني إيمانها إنشاء الدولة الدينية (ص 77).
7-كل قول أو مسلَّمَة تبتعد عن القول بوحدة الأمة العربية هي خاطئة (79).
ولنحاول، هنا، أن نربط تلك النصوص مع بعضها البعض، لكي نرى ماذا كان يريد عفلق من خلال موقفه الفكري المتميز من الإسلام:
يحب عفلق الإسلام بدافع من حبه للعروبة، والسبب يعود إلى أن الإسلام لعب دوراً مهماً في توحيد العرب وكان دافعهم الأساسي في بناء الدولة العربية، فهو كان حافزاً روحياً دفع بالعرب إلى بناء إمبراطورية إسلامية - عربية كبرى. لكن حبَّه للإسلام لا ولن يلغي محبته للعروبة قبل كل شيء. فإذا كان الإسلام محركاً رئيساً للعرب في الماضي أصبحت العروبة، اليوم، هي ذلك المحرك. وأحبَّ العروبة التي تمنع الضغط الديني، لذلك عدَّها بأنها الرابطة الوحيدة بين العرب. وأعلن بوضوح لا لبس فيه بأن حبه للإسلام لا يعني على الإطلاق أنه يؤمن بإنشاء الدولة الدينية.
قمنا بهذا الربط، في صفحات متعددة من البحث، وأوجزناه هنا بعدة أسطر. ربما كانت طبيعة النقد تقتضي بعض التفصيلات والاستطرادات، مما قد لا يخفى على القارئ الذي يتميز بصبر جميل في القراءة. وما يهمنا، هنا، أن نعيد سؤال السائل بسؤال آخر: هل تحسب أن عفلق، بعد هذا الوضوح في نصه، أنه كان سيتبنَّى الإسلام كاملاً؟
ويبقى الجزء الآخر من الإشكالية التي تفصل بين النتائج التي توصل إليها عمارة، ودعا فيها البعثيين والقوميين إلى أن يتابعوا تطوير مواقفهم الفكرية باتجاه أن يصلوا إلى ما كان سيصل إليه عفلق فيما لو بقي حياً، أي أن يتبنّوا الإسلام كاملاً: الحضارة والقانون والشريعة.
لا يكفي، كما أحسب، أن أثبت صعوبة أن يتحوَّل عفلق إلى تبني الإسلام كاملاً، بل لا بُدَّ أمامي من أن أُثير مسألة في غاية الأهمية، والتي يمكن لعمارة أو لغيره من المفكرين الإسلاميين من أن يقعوا في خطأ النظر إليها من خلال رؤيتهم إلى مسلَّمة فقهية، والتي يرون فيها أن الفقهاء وحدهم، أو أولي الأمر من المسلمين، هم وحدهم الذين يجتهدون عن عامة المسلمين، باعتبار أن ما يقوم به الفقهاء وأولي الأمر يعد فرض كفاية.
وهنا، ولأسباب منهجية أيضاً، كان من الواجب أن أميّز بين موقعين شغلهما عفلق: الأول، بوصفه مفكراً قومياً وبعثياً، والثاني، بوصفه شاغلاً لأمانة الحزب العامة. وهنا تجدر الإشارة إلى التباس وقع فيه بعض المتحاورين من أنني فصلت فصلاً تعسفياً بين الموقعين، وهنا أقول إن الفصل بين الموقعين لم يتم إلاَّ لأسباب منهجية في البحث، وإنني لا أخرج عن كوني مقتنعاً بخطورة الفصل بينهما وكأنهما موقعين متمايزان أو متناقضان، بل إنهما متكاملان. وأود أيضاً أن ألفت النظر إلى أن هناك قلائل جداً من المفكرين الذي تسنى لهم أن يجمعوا بين الموقع الفكري والموقع السياسي - التنظيمي الذي من خلاله يعملون مباشرة في الحقل التطبيقي. وإن الموقع السياسي - الحزبي لعفلق قد يقيده ببعض الضوابط التنظيمية، بمعنى أنه ليس نتاج المفكر لوحده هو الذي يفرض نفسه على اتجاهات الحزب الفكرية، بل هناك للمفكر مشاركون في اتخاذ القرار السياسي أو توحيد المناهج الفكرية للحزب. فهنا لن يكون تفكير المفكر هو فرض كفاية، كما هو معروف في المؤسسات الدينية هذا إذا وُجدت مؤسسات مرجعية تُلزم كل المسلمين، بل يكون فكر المفكر، في داخل المؤسسات الحزبية، موضوعاً في خدمة الجماعة التي تشكل مرجعية فكرية وسياسية تُلزم في كثير من جوانبها التنظيمية سائر الأعضاء. ومن هنا، وإذا كان عفلق مفكراً متميزاً في داخل الحزب ويشغل موقع أمانته العامة، فهذا لن يعطي له الصلاحيات المطلقة بأن تكون أفكاره أو منهجه المعرفي أو الفكري ملزمةً لحزبه بل تكون ملهمةً، لأن أفكاره لن تخضع للقبول أو الرفض إلاَّ إذا أقرتها مؤسسات الحزب بتراتبيتها التنظيمية: القيادة الجماعية والمؤتمرات الدورية.
راجياً أن يكون الالتباس الذي علق في أذهان المتحاورين حول ما حسبوه فصلاً تعسفياً بين موقعيْ عفلق قد زال، لكي أشير هنا إلى أن الأسباب المنهجية التي دعتني إلى الفصل بين الموقعين كان دافعها أن أعود، في خلال الدفاع عن وجهة نظري، إلى بعض النصوص التي أقرتها المؤتمرات الحزبية. فتصبح أمام الباحثين في فكر ميشيل عفلق واضحة في المستقبل. ومن خلال وضوح هذه المسألة المنهجية، أن يستندوا في أبحاثهم عن فكره إلى مقررات حزب البعث العربي الاشتراكي وأن يحذروا من الوقوع في خطأ منهجي عندما يفصلوا بين ما يمكن أن يصل فكره وبين ما يمكن أن يُسمَح لفكره بالوصول من خلال شتى مؤسسات الحزب المركزية.
إن ما لم يقله عفلق من خلال نصوصه المباشرة قاله من خلال نصوص ومقررات الحزب. لهذا السبب، واستناداً إلى بعض تلك النصوص والمقررات، توصلت إلى النتائج التي تقول بأن عفلق، لو بقي حياً، لم يكن ليصل إلى ما استنتجه عمارة من خلال استعراضه للخط البياني لتطور اتجاهاته الفكرية حول الإسلام. وتعود بعض أسباب الاستنتاجات إلى أن الحزب بقيادته الجماعية غير ملزم بأن يأخذ دائماً بالنتائج الفكرية التي يتوصل إليها الأفراد الحزبيون، سواء على مستوى التراتبية الدنيا للتنظيم أو التراتبية العليا، إلاَّ بعد أن تتبناها المؤتمرات الحزبية، وهي التعبير الديموقراطي الذي يمارسه الحزب في هياكله الداخلية وعلى شتى الصعد الفكرية أو السياسية أو التنظيمية. لكن هذه الضوابط لا تمنع الأفراد أو القادة من أن يختاروا المناهج المعرفية التي يريدون التعبير فيها عن إبداعاتهم، أو أن يعبروا عن تلك الاتجاهات بحرية لا تعيق عمل الجماعة الحزبية.
إن لعفلق منهجية معرفية خاصة بالإسلام، وقد عبَّر عنها بأسلوبه المعرفي الخاص، والذي يتميَّز بوجدانية صوفية، تعبِّر عن خياراته المنهجية المعرفية والتي تعتمد على مظاهر التعبير الوجداني / الحسي / الصوفي. وهو منهج قلما يستطيع التعبير بواسطته سوى قلائل من المفكرين، وهو أسلوب راقٍ في التعبير لأنه يعتمد على منهج ذاتي يستبطن الحقائق بناء على حدس داخلي، يقول عنه بعض الفلاسفة الحدسيين أنه يسمح لهم برؤية ما لا يستطيعون رؤيته بواسطة العقل البرهاني المجرد.
لا يعني أن الاختلاف بمناهج الوصول إلى المعرفة بين الأفراد اختلافاً بالأفكار. وعلينا أن نحذر الوقوع في إشكالية عدم التمييز بين المصطلحات التي نستخدمها. فعندما قال عفلق بأسلوبه الخاص «بدافع من الحب للأمة العربية أحببنا الإسلام«، قالت نصوص الحزب بأسلوب المنهج العلمي إن «الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة في الأمة«. لقد أعطى النصان السالفان أولوية للعروبة،فتوصّلا إلى نتيجة فكرية واحدة بأسلوبين مختلفين.
ماذا تعني هذه النتيجة؟ إن إعطاء الأفضلية المطلقة للعلاقة القومية كرابط بين أبناء الأمة، لهو تحديد واضح أن الإسلام لن يكون تلك الرابطة. وإذا استخدمنا هذه النتيجة فإن هذا يعني أن عفلق لن يصل إلى مرحلة يتبنى فيها الإسلام كاملاً و إلاَّ كان عليه أن يلغي النتيجة الفكرية الأساسية التي يقوم عليها البناء الفكري للحزب، فيعيد، بذلك، مرة أخرى صراعات الفرق والمذاهب إلى مراحلها الأولى، والتي تسابقت فيها تلك الفرق والمذاهب على تحديد شروطها في تعريف موقع الإسلام الصحيح. وبمثل هذا التسابق اختلفت أيما اختلاف وتشرذم الإسلام أي تشرذم، وكانت النتيجة الأساسية في كل تلك الاختلافات هي أن كل فرقة ومذهب حسبت نفسها أنها تعبّر عن الإسلام الصحيح وغيرها من الفرق والمذاهب انحرفت عنه.
وهنا لو استخدمنا المنهج الفرضي في بحثنا، ووضعنا احتمال أن يغيّر عفلق اتجاهاته عن تبنّي الإسلام الحضارة إلى الإسلام الكامل، فماذا تكون نتائج هذا التحول على بنيان الحزب الفكري والسياسي والتنظيمي؟

رابعـاً: في ما حُسب تناقض بين موقعي عفلق: المفكر والسياسي
• وفي مداخلة جاء فيها: هناك ما يوحي بوجود تناقض بين شخصيتيْ عفلق الفكرية والسياسية. أو ليس هناك تلازم بين الفكري والسياسي؟ ينبغي التوقف عند أمور يطرحها الباحث حول فكر ميشيل عفلق:
1-أفكار عفلق هي «ملهمة وليست ملزمة«.
2-التمييز بين الموقع الفكري لعفلق والموقع الحزبي والسياسي.
3-الثنائية في شخصية عفلق: (مفكر ذو رؤية فكرية خاصة) و(حزبي سياسي ذو موقع عام).
4-إن لموقع المفكر داخل حزبه وتنظيمه استقلالية فكرية خاصة.
• وعلى هذه المداخلة أجيب: يظهر أن ما أحدث التباساً في فهم النص، هو غياب تعريفٍ للمصطلحات التالية: المنهج المعرفي والمنهج الفكري. وقد التبس فهم المصطلحين عند القارئ بحيث حسب أن لهما تعريف واحد.
وهنا تتعدد مناهج الوصول إلى المعرفة، ومن أهمها: المنهج العلمي والمنهج الذاتي: فالمنهج العلمي هو خطة منظمة لعدة عمليات ذهنية أو حسية، بغية الوصول إلى كشف حقيقة أو البرهنة عليها. أما المنهج الذاتي، وينطبق على المنهج الصوفي / الحدسي، فيقوم على تفسير الظواهر في ضوء المشاعر والميول الداخلية، وأكثر ما يطبق في علم النفس، ويتلخص في تأمل باطني ينصب على ما يجري في عالم الشعور، ويسمى الاستبطان.
ونحن نستطيع أن نصل إلى معرفة العلاقة بين العروبة والإسلام بواسطة أحد هذين المنهجين / الطريقين. ولا ضير إذا اختلفت طرق وصولنا إلى معرفة ما، وإنما الخلل أن نصل إلى نتائج متناقضة. ونحن نستطيع أن نصل إلى معرفة العلاقة بين العروبة والإسلام، إما عن طريق المنهج العلمي أو عن طريق المنهج الذاتي. وقد يغلِّب أحدنا أرجحية تأثير العامل الديني الروحي على غيره من العوامل أو ترجيح عامل آخر على العامل الديني. وليس في هذه الترجيحات ما ينتقص من قيمة الجامع المشترك الذي هو أولوية الرابط القومي على ما غيره من الروابط الأخرى.
وهنا، أحسب أن الالتباس قد يزول، عندما نقول إن عفلق قد اختار طريق المنهج الصوفي الحدسي (الذاتي) في تعريف المسألة القومية، فتوصل إلى نتائج تضاهي ما توصل إليه آخرون عن غير طريق المنهج الصوفي (المنهج العلمي). لقد طغت على منهج عفلق المعرفي مفردات صوفية واضحة، ويبدو الأمر جلياً أكثر إذا ما عدنا إلى بعض تصريحاته الواضحة والتي يصف بها معرفة البعث بالمسألة القومية أنها كانت ذات جوانب صوفية. وقياساً عليه فقد فهم عفلق علاقة العروبة بالإسلام عن طريق المنهج الصوفي، فأخذ منه الجانب الروحي الذي كان دافعاً مهماً يمتلك من الحرارة والحب ما جعله يؤثر على العرب في فتح أراضٍ واسعة وشاسعة مما أتاح لهم تأسيس أكبر إمبراطورية في العالم تضاهي الإمبراطوريات التي سبقتها قوة ومنعة. فهل هنا ما يوحي بالتناقض إذا ما توصَّل إثنان إلى معرفة فكرية واحدة موحَّدَة عن طريق منهجين معرفيين مختلفين؟
وهنا أريد أن أوضح أن المنهج الصوفي، ليس هو المنهج السطحي الذي تمارس على أساسه الطرق الصوفية الطقوس الدينية، بل هو ذلك المنهج الفلسفي الذي انتهجه أكبر الصوفيين في تاريخ الفكر العربي الإسلامي. هو منهج راقٍ من مناهج الوصول إلى المعرفة واكتسابها. وليس عليه أية مواصفات سلبية كما يكون قد تبادر إلى بعض الأذهان. وهنا، أشير إلى أن تاريخ الفكر العربي الإسلامي قد عرف مفكرين أفذاذاً ومتميزين من أصحاب المنهج الصوفي بالمعرفة. وعلى صعيد الفلسفة الأوروبية الحديثة نشأ برغسون وهو من أكبر فلاسفة أوروبا في أوائل القرن العشرين، الذي أسس منهجاً معرفياً قائماً على الحدس الصوفي، الذي أثَّر ردحاً من الزمن على الفلسفة الأوروبية.
إذا ما كان هذا التوضيح كافٍ، فإنني أحسب أن الإجابة عن فروع الملاحظة الأم يعفيني من الاستطراد في التوضيح. وإنني لا شك من الذين يؤيدون الاستنتاجات التي تكلم حولها الدكتور مراد والتي تؤشر على وجود مخاطر تنتج على وحدة التنظيم إذا تعددت الرؤى المتنافرة. فالذي يؤسس للتناقضات الفكرية، ليس تعدد مناهج المعرفة، أي طرق الوصول إليها، وإنما التناقض في النتائج هي التي تشكل ذلك الخطر. والمثال الذي أريد أن أعطيه، والذي يجيب، أيضاً، حول تفسير ما جاء في بحثي حول أن أفكار عفلق هي ملهمة وليست ملزمة.
إن هذه النتيجة: أفكار عفلق ملهمة وليست ملزمة، هي نتيجة صادقة ولا دخل لها في إحداث تناقض بين الفكري والسياسي. فإذا أعطى عفلق للإسلام صفة العلاقة الحميمة بين الإسلام والعروبة، أو قل علاقة حب خاصة بينهما لا يعني أن ذلك يلزم المسيحي العربي أو المسلم العلماني، الذي لم يقتنع بأهمية تلك العلاقة لكنه اقتنع بإيجابية العلاقة القومية وآمن بإيجابية الروابط القومية، وهل إذا كانت درجة حماسهما للعلاقة الحميمة بين العروبة والإسلام أقل من حماس عفلق، يشكل شرطاً لاستبعادهما ورفض انتسابهما إلى حزب البعث؟
إن ما يجمع عفلق، المتميز بنظرة خاصة حول علاقة العروبة بالإسلام، مع العربي الذي لا يؤيد عفلق حول تلك النظرة، هو الإيمان بأوحدية الرابطة القومية بين أفراد الدولة العربية. إن الأساس هنا هو الاعتراف بأن الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة بين أبناء الدولة التي يعمل حزب البعث على تأسيسها. والنظرة إلى العلاقة بين العروبة والإسلام هي العامل الثانوي، فليؤمن كل منهما بمستوى مختلف من العلاقة عن الآخر، لأن هذا لن يضير الشراكة النضالية بين الإثنين. واستناداً إلى هذا وصفت أن الطريق المعرفي لعفلق هو ملهم وغير ملزم.

خامساً: وجوب إظهار خصوصية الإسلام العربية
• وجاء في مداخلة ما يلي: كان من الواجب تبيين خصوصية الإسلام العربية، وهذا ما يخدم أراءك بتطوير الإسلامي باتجاه القومي، وليس العكس.
• إذا كان التوضيح ضرورياً في بحث نقدي يتناول كتاباً لباحث آخر يستدعي وضع نظرية جديدة أو أفكاراً جديدة أكثر مما يستطيع أن يستوعبه بحث محدود، فإنني ألفت النظر، من جديد، إلى أنني وضعت بحثاً طويلاً لتبيين خصوصية الإسلام العربية، وهو كتاب منشور تحت عنوان: «في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام«. وأنا أحيل القارئ إليه، وإنني إذا كنت أريد التكرار فهذا ما سوف يلزمني أن أعيد تكرار النتائج التي توصلت إليها في الكتاب المذكور، وهذا ما ليس من الصحة أن أقوم بممارسته في كل مرة أريد أن أتحدث فيها عن الإسلام والعروبة إلاَّ بما يخدم التوضيح السريع.

سادساً: حول غياب رسم الخط البياني لتطور موقف عفلق من الإسلام
• حول المنهج وغياب رسم الخط البياني لعفلق تجاه الإسلام. فكان من الواجب اعتماد التسلسل الزمني لأفكاره.
• يُعدُّ رسم الخط البياني لدراسة أية ظاهرة اجتماعية أو فكرية من الأسس المنهجية، خاصة في منهج البحث عن الظاهرة الاجتماعية أو الفكرية في داخل سياقها التاريخي، مسألة صحيحة ومطلوبة. ولكن، وبما أنني لم أجد من خلال مراجعة موقف عفلق من الإسلام طوال مراحل حياته الفكرية وفي شتى نصوصه ما يدل، كما استنتج عمارة من الخط البياني الذي رسمه لفكر عفلق الإسلامي، على أن هناك تبديلاً أو تغييراً في موقفه يتطلب المراجعة والرصد، فقد تجاوزت هذا الواجب المنهجي.
ومن خلال الرصد الذي قام به الدكتور مراد للخط البياني، والذي بذل فيه مجهوداً مشكوراً، لم يتوصل إلى أكثر من أن الخط البياني لموقف عفلق من الإسلام بقي مستقيماً دون أي تغيير. لقد تبدلت الظروف التاريخية لمسار حركة التحرر العربية، لكن اتجاهات عفلق من الإسلام لم يتغير، بل بقي الإسلام ملهماً روحياً وبقي محمد -الرسول العربي- شخصية فاردة متميزة في تاريخ العرب.
كان الإسلام حافزاً روحياً في بداية الدعوة الإسلامية، وبقي حافزاً روحياً في خطاب عفلق «ذكرى الرسول العربي«، في الأربعينات، وظل هو الحافز الأهم -في فكر عفلق- في السبعينات، وأصبح أباً للعروبة في أواخر حياته.
وبمراجعتنا لمثل تلك المواقف لا يوجد، على الإطلاق ما يوحي بأن هناك تحول نوعي في الموقف، بل ربما يكون هناك إضفاء بعض الحرارة الزائدة على الخطاب التعبوي. وللتأكد من ذلك يمكن للقارئ أن يعود إلى قراءة نص الوصية التي أُعلِنت بعد وفاته.

سابعـاً: لماذا أعلن عفلق إسلامــه؟
• وفي مداخلة أخرى تُوِّجت بالتساؤل التالي: إذا كان عفلق يؤمن بالإسلام الحضارة فقط، فلماذا أعلن إسلامه؟ ولم تتوقف عند المعاني والأبعاد التي تعكسها أسلمة عفلق في ختام حياته.
• لماذا أوصى عفلق أن تُعلن قيادة الحزب إسلامه بعد وفاته، ولماذا اتَّخذ هذا الخيار، لا يدل أبداً، كما أحسب، على أنه تخطى الإسلام الحضارة إلى الإسلام كاملاً. وإذا اختلفت الرؤى والتفسيرات والتأويلات حول هذه المسألة، علينا العودة إلى وصيته. فماذا جاء فيها؟
وهنا، سننتخب بعض فقرات الوصية، يقول عفلق: «بالنسبة لي شخصياً، الإسلام كان ملهماً استلهمه دون تصريح… عاطفياً اعتبرت نفسي دوماً مسلماً… هذا الكلام ليس له أي معنى ديني غيبي… ولكن أنا كعربي كمناضل أنا مسلم… أنا شخصياً متحرر من العقيدة من الدين -بمعناه الغيبي. من سن الخامسة عشرة، لست مسيحياً… ولكني أؤمن بالله إيماناً معلَّلاً… بأن المناضل الصادق لا يمكن أن يستغني عن الإيمان بالله… هذا الإيمان لا يتعارض مع العلم ولكنه يصقل النفس ويهذبها ويعينها على الصبر والاحتمال… وآمنت بمحمد العربي كرجل عظيم له تجربة تاريخية وأخلاقية عظيمة لا يمكن أن يفهمها إلاَّ الثوريون… ونحن وصلنا إلى هذا الإيمان … وكسبناه بالمشقة… ولم نرثه إرثاً ولا استلمناه تقليداً…«.
وحيث إن عفلق، كما هو واضح من نص وصيته، يؤمن بالإسلام كدافع روحي، فهو يتميز عن ذوي العقلية الغيبية والرجعية. وما هو معنى هذا؟ هل له علاقة بفلسفة ما بعد الموت، أم له علاقة فقط بجانبه الثوري الدنيوي؟ لقد آمن عفلق بأن الأمة العربية التي تعاني من ذل الاستعمار تحتاج إلى ما يغذي فيها روح النضال، وليس في التاريخ العربي الإسلامي ما هو أكثر استثارة لروح النضال في الأمة من تجربة محمد العربي.
لكن إيمان عفلق بأن المناضل الصادق لا يمكن أن يستغني عن الإيمان بالله، أي الإيمان بالحق، ليس هو حقيقة مطلقة، بل هو منهج ملهم أكثر منه مُلزم، حتى بالنسبة للبعثيين. وإذا كان حقيقة مطلقة فيجب علينا أن نفسر سبب انتصار ثورة فيتنام الشيوعية الملحدة، وهي من أكبر نماذج النضال في العالم، على أكبر دولتين في العالم وهما فرنسا والولايات المتحدة الأميركية. ولن ننسى ثورة كوبا الشيوعية، والتجربة النضالية التي خاضها الشيوعي تشي غيفارا. نحن مع صلاحية الاستفادة من التجربة الملهمة للثورة الإسلامية على يد محمد العربي لأنها من تجاربنا الذاتية، ولكنها ليست بمستوى من التعميم الصالح لكل زمان ومكان.
لقد أتى فهم عفلق الخاص للإسلام متميزاً عن تيارين رئيسين: الماركسية بنظرتها المادية في تفسير التاريخ، والتي نفت دور الروح والعوامل الروحية. وعن الإسلاميين الذين فسروا التاريخ بشكل جامد، وعدّوا أن الإسلام هو نص إلهي يلم بالحقيقة كاملة، فقالوا بالإسلام الحضارة والقانون والشريعة. وجاء تميز عفلق في فهمه للإسلام مستنداً إلى عوامل الثورة التي أتى بها الإسلام ليغير كثيراً في بنية العرب السياسية والاجتماعية في زمن قياسي، وهو نسخ وإلغاء للتعددية الدينية والتعدديات الاجتماعية التي أفرزت قوانين وشرائع تتناسب مع حالة التمزق القبلي والعشائري، والتي كانت سبباً في صراعات قبلية متواصلة، كان لها التأثير البالغ على تمزق النسيج الروحي والاجتماعي والسياسي عند عرب شبه الجزيرة العربية.
كان توقف عفلق عند أهمية الثورة التي أحدثها الإسلام في تطوير كل تلك البنى، الدينية والسياسية والاجتماعية، هي ما يميزه عن غيره من الذين نظروا إلى الإسلام إما نظرات تقليدية تسليمية أو الذين عملوا على نسخ الإسلام وغيره من الأديان التي تعطي الروح دوراً في حياة البشر.
لو كان عفلق يريد، من خلال فهمه للإسلام، أو من خلال الخط البياني لموقفه منه، لو كان يريد بنا أن نصل إلى أن الإسلام هو الدين الذي يعبِّر عن الحقيقة المطلقة، والتي تقول بصلاحيته لكل زمان ومكان على شتى الصعد، لكان هذا مثار تساؤل واستغراب، ولحدا بنا إلى أن نتساءل: ما هو الجديد الذي يأتي به عفلق إذا صحَّ هذا الافتراض؟ فإذا كان يريد أن يصل بنا إلى ما دعانا إليه محمد عمارة، لكان الأحرى بنا أن لا نكون قد أضعنا كل الأوقات التي انفصلنا فيها عن مذاهبنا الدينية السابقة، ولكان الأجدر بنا أن نتمسك بها، منذ البداية، وأن نأخذ عن فقهائنا الذين هم أقدر من أي شخص آخر على فهم الإسلام وتفهيمنا إياه.
لكن عفلق جاء بجديد بنظرته الجديدة: والجديد فيها أنها بعيدة عن الإلحاد، بمعنى نكران دور الروح في حياة البشر عامة، وفي حياة العرب الذين يناضلون من أجل تحررهم واستقلالهم خاصة؛ وهي بعيدة أيضاً عن فهم الإسلام بشكل تقليدي وجامد وكحقيقة مطلقة وكشرائع خاصة بالمسلمين لوحدهم، لأن الإسلام لن يستطيع أن يجيب على الإشكاليات التي تعاني منها الشعوب التي تدين بغير الإسلام كطريق روحي لخلاصها في العالم الآخر، وهو لا يجيب أيضاً على الإشكاليات الفكرية والمذهبية والسياسية التي كانت سبباً في تشرذمه إلى مئات الفرق المتناحرة. وهذا الجديد هو ما جعلنا نبتعد عن مفاهيم المذهبية والشرذمة، ومفاهيم الدين المغلقة، وإلا فلا معنى لغير ذلك.
حسن غريب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق