بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 22 يناير 2010

مقالات العام 2004 (2)

(19): الديموقراطية قشرة ثلج تغطي كوماً من القاذورات الأميركية
إشتهرت في الأدب العربي القديم حكايات »ألف ليلة وليلة«، وتشتهر اليوم في أدب أصحاب »القرن الأميركي الجديد« حكايات »ألف قشرة ثلج إعلامية أميركية وقشرة«. وسوف نبدأ في التأسيس، ونرجو من الكتَّاب القوميين أن يسهموا في الكشف عنها واحداً واحداً، لعلَّنا نخدم البشرية في تعرية الجسم الإمبريالي الأميركي، وغيره، حتى من ورقة التوت التي تستر عوراته كلها.
بداية جرَّد الأميركيون -من المعارضين لمشروع أصحاب »القرن الأميركي الجديد«،وبعض من عملوا في كواليسه- جورج دبليو وإدارته من الثوب الذي يستر أكاذيبهم. وصحَّ على وصف الإدارة بإدارة الكذب والخداع.
وكان أخطر ما كشف عنه »ليندون لاروش«، الأميركي العريق، أن تلك الإدارة تخفي وراء مشاريعها حقيقة حركة سياسية اقتصادية، أطلق عليها اسم »تحالف القوى الدولية المالية والمصرفية«، تدير عمليات »الإرهاب الأعمى« و»استراتيجية التوتر«. وتستخدم من أجل تحقيق مآربها كل الموبقات اللاأخلاقية، على الطريقة الميكيافيلية، ومنها الكذب والخداع.
على قاعدة الاحتيال والكذب، يطل علينا بول بريمر، المندوب السامي الأميركي »قوَّاد« المافيات الأميركية والعالمية، كل يوم بمعزوفة جديدة يعبِّر فيها عن عشقه للديموقراطية، ويهاجم فيها من يحسبهم »أوباشاً« وإرهابيين من الذين يحولون بينه وتعميم ديموقراطية رئيسه وإدارته ومشروع أوليائه من أصحاب »القرن الأميركي الجديد«. يهاجمهم لأنه لا يريدون –كما يزعم- أن تعمَّ التجربة الديموقراطية في العراق.
ويطل علينا جورج دبليو، وبول بريمر، كلما أفلحت وسائل الإعلام في الكشف عن بعض نتائج أعمال المقاومة العراقية في »قصف رقاب« عدد من جنوده المضلَّلين أو من مرتزقته، لنراه دامع العين، باكياً على جثمان الديموقراطية المذبوح في العراق على أيدي »الجهلة والإرهابيين«!! ممن لا يريدون أن يسمحوا لمشروعه الإنساني!! أن يشق طريقه إلى خارج أميركا.
لا شك بأن الديموقراطية تعبير سياسي للحرية. والحرية قيمة إنسانية عليا. وهي بالنسبة للفرد الذي يعيش في مجتمع من أولويات حاجاته كالطعام والتنفس… ولكن على ألاَّ تكون قميصاً جاهزاً، أي بالتعبير الأجنبي »ستاندارد«، تلبسه كل الأجسام. وعلى ألاَّ يكون شعاراً يستخدمه كل من يريد، كما يفعل جورج دبليو وبول بريمر، غطاءً لأعمال قذرة تُبذَل من أجل كل شيء إلاَّ الهدف الديموقراطي. ومن هنا تبدأ حكايتنا الطويلة والمملة مع الديموقراطية الأميركية.
أولاً: الثوب الديموقراطي الأميركي مفصَّل على مقاييس جسم اتحاد الشركات الأميركية الكبرى: فالثوب عندما يفصِّله الخياط فإنما يكون على مقاييس جسم خاص. أما ثوب جورج بوش الديموقراطي فهو مفصَّل على مقاييس الجسم الطبقي الرأسمالي. والجسم الرأسمالي لا يليق به إلاَّ ثوب ديموقراطي يلغي كل مصالح الطبقات الأخرى، ويرتهنها من أجل خدمة جيوب »الفوق نخبوية« الاقتصادية على الطريقة الرأسمالية.
فحتى الطبقات المسحوقة في أميركا الرأسمالية لا تعني ديموقراطية جورج بوش لها شيئاً إلاَّ أن تكون خادمة لنفض الغبار عن أثواب طبقات الشركات الكبرى التي من أهم المستفيدين من خيراتها هم جورج بوش الأب ونائبه ووزير دفاعه ونائب وزير دفاعه إلى آخر السلسلة من إدارة أصحاب »القرن الأميركي الجديد«.
مراجعة سريعة لبعض جوانب إيديولوجيا الشركات الكبرى في أميركا تكشف لنا مدى الحقد الذي يكنّه أصحاب الرساميل لكل فكر تجديدي لا يعير مصالحهم أدنى اهتمام. فهذا لويس باول، (رجل الأعمال الأميركي ومؤسس إيديولوجيا »حرب الأفكار«)،يرى في أي إجراء تقدمي مؤمن بالإصلاح السياسي والاجتماعي هجوماً يستهدف المبادئ المؤسِّسة لأميركا. أما تلك المبادئ فهي تلك التي وضعها »اتحاد الشركات الكبرى« الأميركية العاملة تحت اسم »غرفة التجارة الوطنية«. ومن أهم أهدافها »اجتثاث« تأثير النقابات العمالية، ومحاربة الفكر الذي يدعم الأقليات العرقية.
وهذا وليم كورز، أحد الأقطاب الأميركيين المؤسسين لإيديولوجيا »القرن الأميركي الجديد«، يخاطب الأقليات السوداء، بحقد، قائلاً: »إحدى أفضل الأشياء التي قام بها تجار العبيد بحقكم هي جرّ أجدادكم المكبلين حتى وصلوا بهم إلى هنا«.
ثانياً: ليس الثوب الديموقراطي الطبقي هو الوجه الوحيد المرفوض في ديموقراطية جورج دبليو بل الوجه الوطني هو الوجه الآخر. ولأنه ليس للرأسمال وطن، فالثوب الأميركي الطبقي، الذي لا يتناسب مع الطبقات المسحوقة في أميركا، لن يلائم أبداً جسم الشعوب المقهورة ولا يعبِّر عن مصالحها الوطنية. فالمشروع الذي ينهب جهد مواطنيه وعرقهم لن يكون أقل رحمة بجهد غيرهم وعرقهم.
منذ الخمسينيات من القرن العشرين، وبعد الحرب العالمية الثانية، وبعد حالة التراكم الصناعي والمالي النوعي في الولايات المتحدة الأميركية أعلن »اتحاد الشركات الأميركية الكبرى« أن القرن العشرين هو القرن الأميركي بامتياز. ولأن النمط الأميركي في التفكير والسلوك هو على مثل تلك المقاييس: »لا يرى شيئاً خارج ذاته«، أصبح استيلاؤه على المجتمعات الأخرى يشكل الخطورة الأولى على البشرية.
إن تأصيل المحتوى الإيديولوجي لمفهوم الديموقراطية في القاموس الأميركي هو خير برهان ودليل على نوع الديموقراطية التي يريدها كل من جورج دبليو ومندوبه السامي في العراق. أما مظاهر المحتوى العملي لتلك الديموقراطية فهي أكثر من معبِّر كما سنحاول الإشارة إليها، أي تلك التي يجهد بريمر نفسه لإقناعنا بها، ومن أهم عناوينها ما يلي:
احتلال أرض بشكل مخالف لكل الشرائع الأممية (قوانين وتشريعات الأمم المتحدة).
ولكل الأعراف الدينية (معارضة بابا روما والكنيستين الغربية والشرقية معاً).
ولكل الأعراف الأخلاقية (وصف طوني بن، الوزير البريطاني السابق، احتلال العراق بأنه »سطو مسلَّح«).
وللضمير العالمي (المظاهرات الكبرى في شوارع أكبر المدن في العالم).
وللضمير الأميركي والبريطاني (تظاهرات الأميركيين في العشرات من المدن الأميركية، والبريطانيين في المدن البريطانية).
حتى الأنظمة التي ساندت الاحتلال لم تلتفت إلى الديموقراطية ببلادها ولم تعرها أدنى اهتمام، بل تصرفت على العكس من رغبة شعوبها (مثال أسبانيا المباشر). وعلى الطريقة ذاتها تسير الشعوب الإيطالية والأوسترالية واليابانية والبولندية…
فعلى من تنشر أكاذيبك يا جورج دبليو؟ (أصبح يوصف بالنبي الكاذب في أميركا يمكن للقارئ أن يعود إلى عشرات التصريحات المنشورة،الصادرة عن شتى شرائح المجتمع الأميركي ابتداءً من الجندي انتهاءً بالسيناتورات الأميركيين).
وعلى من تنشر أكاذيبك يا بول بريمر؟ أعلى الأميركيين (وقد وصفوا كل إدارة رئيسك بالكذب، وبالطبع أنت خادم بينهم تنتظر حصتك كقواد للشركات الكبرى)، أم على الشعب العراقي؟
أما إذا كانت أكاذيبك موجَّهة إلى الشعب العراقي، فهي مردودة إليك من دون أي كلمة شكر. فالشعب العراقي أكثر من ملسوع من تلك الأكاذيب. وما نستخدمه من براهين لكشف أكاذيبك لهو آتٍ على لسان العراقيين الذين يشتموك من على شاشات التلفزيون على الرغم من أنك تقطع لسان كل صحفي ينقل خبراً لا يمر من خلال المصافي الإعلامية التي تأتمر بأوامر أولياء أمرك من ثيران »القرن الأميركي الجديد«.
وإذا كانت المجلدات، للكلام عن تلك الأكاذيب، ليست كافية، لأن المتابعين للوضع الحقيقي على الأرض لديهم عشرات آلاف الأدلة، فإننا نحيلها إلى القراء الذين يختزنون الكثير والكثير جداً منها.
بعد ذلك، أناشد ضمائر من بقي لديهم ضمير من وسائل الإعلام العربية، وأسألهم: أوً ليست الديموقراطية التي يبكي من أجلها جورج دبليو، ومن أجلها أرسل الشباب الأميركي لينتحر على أرض العراق، أوَ ليست ستاراً جميلاً يخفي وراءه الأكوام الهائلة من قاذورات مشروعه الخبيث في العراق، وفي غيره من الدول المستهدَفَة لاحقاً؟
وإلى الحلقة القادمة تحت عنوان ( »إعمار العراق؟‍‍«:خدعة أميركية لتضليل الضمير العالمي)، نستودع عزيزنا القارئ. وكل كشف آخر عن قشرة ثلج إعلامية أميركية جديدة وأنتم بخير.
***

(20): حالة التراكم اللا أخلاقي في مشروع إدارة جورج بوش
يقابلها حالة تراكم من الرفض يختزنها الضمير العالمي
البصرة، والكادر، والوحدوي، وصوت الوطن بتاريخ 10 و11/ 4/ 2004م
من المفيد تكرار التذكير بالطبيعة المافياوية لإدارة الرئيس جورج بوش، فهي تركيبة أميركية متطرفة في يمينيتها أولاً، وتبشيرية تنسب نفسها إلى المسيحية ثانياً، وصهيونية تلمودية ثالثاً، أما الجامع بينها والمنسِّق الأساسي وصاحب المصلحة في مشاريعها فهو »تحالف القوى الدولية المالية والمصرفية«.
أما ذلك التحالف فيضم إلى عضويته أبرز رؤوساء وإدارات دول كثيرة في العالم. وأكثرها ظهوراً ودلالة كان الساقط »أزنار«، رئيس الحكومة الإسبانية السابق وقد كان أول من أسقطه ضمير الشعب الإسباني. ومن أكثر أعضائه ظهوراً الآن هو »هاوارد دين« رئيس الحكومة الأوسترالية، ورئيس الحكومة اليابانية، والإيطالية… وهؤلاء كنماذج ستكون بلادهم –كدول صناعية متقدمة، ليست بحاجة إلى أية مساعدات اقتصادية أميركية- رهينة للغول الاقتصادي الأميركي فيما لو نجح مشروع إدارة الرئيس بوش في العراق.
أما لماذا يصرون على الالتحاق والتبعية للمشروع الأميركي، بمواصفاته الخطيرة على دولهم، على الرغم من معرفتهم تلك الخطورة؟
لماذا يصرون على تلك التبعية وهم يدركون أن مصالح بلادهم ستكون بألف خير عندما يفشل مشروع الغيلان الأميركيين؟
إن كلمة السر قد نجدها عند مدير المايسترو الأكبر »تحالف القوى الدولية المالية والمصرفية«. فهؤلاء وأولئك يمتثلون لأوامره لأنهم هم، بأنفسهم أعضاء فيه، أو لأنهم كأفراد خاضعون لتهديداته، خاصة وأن صورة »ألدو مورو« -الرئيس الإيطالي الأسبق، المخطوف والمقتول- لا تزال ماثلة في ذاكرتهم، أو لعلَّ تحالف القوى الدولية يمسكون عليهم أسراراً يفجِّرونها في اللحظة التي تظهر منهم أول إشارة تمرد على قراراته.
إن استراتيجية تحالف المافيات الدولي تستند إلى عمليات »الإرهاب الأعمى« و»استراتيجية التوتر«. ومن غير البعيد أن يشمل إرهابهم الأعمى بنعمته رؤوس هؤلاء وأولئك، سواء بالقتل أو نشر الفضائح المستورة.
أما لماذا اختار تحالف المافيات الدولي الولايات المتحدة الأميركية بشكل عام، وإدارة الرئيس بوش بشكل خاص لتنفيذ مشروع السيطرة على العالم؟ فلهذا أسباب نعيد التذكير بها بهدف ترسيخها في الذاكرة العربية أولاً، وترسيخها في ذاكرة الضمير العالمي ثانياً:
تسيطر على أميركا ثقافة شعبية رائجة تتميز بالنرجسية والغرور بالانتصارات الأميركية الدائمة منذ أقل من قرن بقليل. وثقافة النخبة المهيمنة على مفاصلها السياسية، جمهوريين وديموقراطيين، تقوم على إيديولوجيا التوسع الرأسمالي في العالم.
أما إدارة بوش فتتميز:
-بتطرفها، بحيث أنها تجمع المتطرفين الاقتصاديين والقوميين، وتطرف المبشرين المسيحيين، فهي قد استهلك الإعداد لوصولها إلى السلطة أكثر من ثلاثة أجيال من الزمن. وإمكانياتها العسكرية والاقتصادية والسياسية غير معروضة للمنافسة من قبل دول العالم، على دولة لدولة.
لذا كانت الولايات المتحدة الأميركية جاذباً لأنظار تحالف المافيات الدولي، وازداد الحاجة للاستناد إليها بعد أن قادت إدارة »توني بلير«، رئيس الحكومة البريطانية، إلى السير في حاشية صاحب الجلالة جورج بوش.
فالمخطط الاستراتيجي –كما أصبح واضحاً- يسلك كل الطرق اللا أخلاقية لتحقيق أهدافه. لكن لم يتسنَّ للرأي العام العالمي أن يشاهد مناظر من أفعاله، إلى أن تورَّط المخطط في رمال العراق. فمنذ تلك اللحظة، ولأن في العراق من أقسم –قبل حصول الاحتلال- وتربى على إيديولوجيا الدفاع عن الشرف الوطني، كانت طلائع المقاومة العراقية مُعدَّة لمواجهة قوات الاحتلال –في حال حصوله- بكل الوسائل النضالية، نفسية وأخلاقية ووطنية، بالإضافة إلى مكملاتها المادية من تدريب عسكري وتسليح وتذخير.
لو لم تكن تلك المقاومة قد أعدَّت نفسها للمواجهة، لكان جورج بوش –محاطاً بعلامات الرضى عليه من كل أقطاب تحالف المافيات الدولية الاقتصادية- قد أجرى في بلاطه في واشنطن أكبر حفل استقبال لمناسبة انتصار مشروعه في العراق. خاصة وأن وكالات الأنباء كانت تشير إلى أن »توني بلير« قد حزم حقائبه للسفر إلى واشنطن ليكون إلى جانب صاحبة الجلالة »جورج بوش«، ليستعرض احتفالات النصر في العراق.
وهنا، أفقدت المقاومة العراقية بهجة النصر للمحتلين مرة أخرى.
بعد عام على احتلال بغداد تبدو بغداد مشتعلة. وبعد أيام من تهديد أهالي الفلوجة بتدفيعهم ثمن قتل أربعة من اللصوص الأميركيين تأكَّد أنها قد حرمت بوش من الاحتفال بالنصر الموهوم.
ولم تقف وقائع الحقائق عند حرمان الأميركيين من نصر موهوم هنا أو هناك، بل أظهرت الفلوجة –هذه المرة- حقيقة أخرى كانت محجوبة عن الضمير العالمي، وهي آثار الهمجية واللا أخلاقية الأميركية.
باستثناء ضمير النظام العربي الرسمي، صدمت مناظر التدمير في الفلوجة ضمير العالم، ومنه ضمير الشرفاء من الأميركيين والبريطانيين، كما أثقلته مشاهد القتلى الذين ينتظرون الرحمة بالدفن، والجرحى الذين ينتظرون الدواء الغائب، والحصار الوحشي حولها الذي ينتظر رغيفاً أخذ يندر وجوده، وأخبار القنابل العنقودية التي تقصف أعمار العباد ولا تأتي بأي »إعمار للبلاد«، وجولات طيران العدو الحربي وصولاته فوق رؤوس الأبرياء حتى يثبتوا أنهم ليسوا »إرهابيين«، وفوق سطوح الأبنية السكنية لتدميرها لعلَّهم يوسِّعون الساحة أمام »عقود الإعمار« لشركاتهم الشرهة، ومآذن الجوامع لعلَّهم يغيِّرون بغيابها »ثقافة الجهاد«…
لم تكن مجازر الفلوجة هي الوحيدة التي ارتكبتها إدارة المافيات في واشنطن، بل سبقها الكثير منها والأشد صدماً للضمير، لكنها لم تنتقل إلى الشاشات المرئية بأوامر من أسياد »سيد البيت الأبيض«، و»سيد البنتاغون«. ولأن الصدفة هي التي حجزت »قناة الجزيرة« في الفلوجة بعيداً عن رقابة الاحتلال، فقد نقلت عدساتها من المشاهد ما يصدم الضمير الإنساني ويدفعه إلى البكاء تألماً. أوَ لم يكن خروج مراسلي الجزيرة من الفلوجة من أول شروط »كينيت: الناطق العسكري باسم قوات الاحتلال«؟
بلى، فهم يريدون حجب الحقائق عن الضمير العالمي. ولكن المخطط الذي اعتمدته قيادة المقاومة، في أنها وسَّعت مساحات عملياتها لتجبر قوات الاحتلال على التشتت والانتشار، أصاب –بدوره- عصفوراً آخر عندما حرَّر وسائل الإعلام من أسر »ديموقراطية« الرقابة الأميركية. فسرحت ومرحت في أرجاء العراق ونقلت كل ما التقطته عيونها وآذانها وكاميراتها من حقائق »ديموقراطية جورج بوش«، وأهدافه الإنسانية في »إعادة إعمار العراق«، وفي بناء نظام سياسي جديد تقوم أسسه على »أوامر بإقالة أو تعيين وزير أو عضو في مجلس الحكم«….
لم تظهر لا أخلاقيات المشروع الأميركي بوضوح كما ظهرت في الذكرى الأولى لاحتلال بغداد. ولأن الأمر كذلك، فقد أخذ التململ في شارع الضمير العالمي يستعيد نشاطه إلى الواجهة من جديد. وأخذت السنة الأولى تجر أعضاء المافيات الدولية في عدد من الدول التي تشارك الاحتلال الأميركي، يتراكضون إلى العراق لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ماء وجه رؤوساء الحكومات المشاركين في احتلال العراق.
وأخذ شارع الضمير العالمي، ومنه الشارع الأميركي، يستعيد عافيته من جديد. وأخذت التظاهرات تعم عواصم الدول التي تشارك حكوماتها في احتلال العراق. خاصة بعد أن تبيَّن أن تضليل ضمائر شعوبهم لن ينطلي بعد الكشف عن اللا أخلاقيات الأميركية بأن دوافع مشاركاتهم كانت ذات أهداف »إنسانية« و»إعمارية«.
ومرَّة أخرى تدفع نضالات المقاومة العراقية وتضحيات الشعب العراقي إلى حالة تراكمية نضالية سريعة، تؤدي بدورها إلى حالة تراكمية أخرى في الضمير العالمي، وتتراكم حالة الرفض العالمي، وهي –وإن لن تعطي ثمارها في شهور- فإن صناديق الاقتراع قادمة بسرعة، ومنها سوف يتلقى كل أعضاء المافيات الدوليين صفعات –كمثل الصفعة التي تلقاها أزنار- وقد تكون الصفعة الأكثر قسوة وتأثيراً الصفعتين الجاهزتين على وجهيْ كل من بوش وبلير، ومنهما يتلقى مشروع مجانين »القرن الأميركي الجديد«، ومشروع »تحالف القوى الدولية المالية والمصرفية« الصفعة الأكبر من الضمير العالمي.
لكن لا تسألوا عن الضمير العربي والإسلامي، فقد مات إلاَّ أقله،
لذلك لن نستطيع أن نقول إلى أهلنا، في الفلوجة خاصة وفي العراق عامة أي شيء ما عدا أنكم الوحيدون الذين يحق لكم أن ترفعوا رأسكم عالياً فقد نلتم شهادة الشرف والإباء والكرامة والوطنية والقومية. أما نحن فعلينا أن نطأطئ رؤوسنا خجلاً…

(21): إعمار العراق؟‍‍ خدعة أميركية لتضليل الضمير العالمي
نُشر في 28/ 4/ 2004م.
دأب المشروع الاستعماري على استخدام عدد من المصطلحات التي ظاهرها الأخلاق والإنسانية، وباطنها الشر والاستغلال.
ولأن المشروع الاستعماري يعبِّر تماماً عن رؤية وإيديولوجيا اقتصادية تخدم مصالح الشركات الكبرى، فقد أصبح من المعروف أنه قام بإنشاء مئات مؤسسات الدراسات التي تعنى بإنتاج الأفكار التي تحمي تلك المصالح وتقوم بتسويق إنتاجها، كما سياستها في الاستغلال، على أسس ثقافية بارعة في إتقانها. وإذا كان باطنها الاستغلال، وهو مفهوم مكروه إنسانياً، فتقوم مكاتب الدراسات بتزويقه بشعارات ولغة تقلب المعنى السيئ إلى معاني وكأنها لا تنطق ولا تهدف إلاَّ لخير البشرية.
لقد استأجرت الشركات الكبرى لخدمة مصالحها آلاف الاختصاصيين في العلوم الإنسانية، ومن أهمها علماء النفس والاجتماع والإعلام والفن...، وأسندت إليهم دراسة الأسواق وطبائع الشعوب كخطوة أولى لإنتاج مفاهيم ثقافية تزوِّر فيها حقائق الأهداف. ولا شك بأن تلك المكاتب قامت بوضع آلاف الأبحاث المبنية من أجل تحديد العادات والتقاليد السائدة، في سبيل أن تنتج لها مفاهيم جديدة ظاهرها العسل وباطنها السم الزعاف.
من جملة تلك المفاهيم، أنتجت مكاتب الدراسات اصطلاحاً جديداً وهو »الإعمار« بديلاً للاستعمار. ولأن الكراهية لدى الشعوب، المتقدمة منها والمتخلفة، تعمَّقت ضد الاستعمار –كمفهوم للاحتلال والاغتصاب والهيمنة والاستغلال- ولأن إيديولوجيا الاستعمار لم تنته بل استفحلت ظاهرته وأصبحت أكثر قوة وبأساً في أعقاب الطفرة الصناعية والتكنولوجية الهائلة، أصبحت حاجة الشركات الكبرى ماسَّة لتصدير فوائض إنتاجها، وأعدَّت كل وسائل التصدير بالحسنى أو بالإكراه.
واستفاق العالم، حتى نادي الدول الرأسمالية، على مشروع من أخبث ما عرفه التاريخ البشري حتى الآن، وهو مشروع »أمركة العالم« المدعوم بالقوة الهائلة، عسكرية ومالية وسياسية. وكان هذا المشروع مسلَّحاً بقوة الدراسات والأبحاث والنتائج الثقافية الجديدة التي تدعم وتغطي كل الأهداف الخطيرة، وتبرزها بثوب إنساني ظاهرها الخير كل الخير للشعوب التي تستهدفها آلة الاستعمار العسكرية.
ولما احتل قادة المشروع الاستعماري الأميركي الجديد العراق، كان في جعبة المخطط دراسات معدَّة مسبقاً حددت بعض المصطلحات التي تغطي فيها أهدافها الحقيقية. ومن جملة تلك المصطلحات، يلعب مصطلح »إعادة إعمار العراق« دوراً واسعاً وخبيثاً في تضليل الرأي العام العالمي.
ما هي الأهداف الحقيقية التي يعمل المصطلح على إخفائها؟
تعرَّض العراق، منذ العدوان الثلاثيني، في العام 1991م، لسلسلة من التدمير الممنهج، شمل شتى نواحي الحياة الاقتصادية والعمرانية والثقافية والعلمية والصحية والتعليمية، وليس من التكرار الممل أن نعيد التذكير بها لأنها ستظهر الحقيقة كاملة من وراء تعميم مصطلحات الثقافة الإمبريالية الحديثة.
كان العراق قد أنجز، حتى أواخر الثمانينات، طفرة نهضوية كبيرة شملت شتى جوانب الحياة فيه. ولما كانت شركات الاستغلال الإمبريالي الأميركي مستبعدة من نعيم عقود تلك الطفرة، شكَّل الاستبعاد حافزاً إضافياً من حوافز مخطط احتلال العراق، الذي كان قد صُمِّم –مباشرة- بعد تأميم النفط العراقي في العام 1972م.
إن عملية إحصائية، ونظرة مقارنة، لمن يعود إلى دراسة تاريخ التطور النهضوي الذي أنجزه نظام حزب البعث في العراق. ونظرة مقارنة لتاريخ ما قبل استلام الحزب الحكم فيه، تظهر لنا مدى التقدم العمراني الذي تمَّ إنجازه، وهذا ما ضاعف حوافز احتلاله من قبل الاستعمار الأميركي، لسرقة ثروته بشكل مباشر والهيمنة على كل عقود إعماره واحتكارها.
منذ العام، 1990م، تسلل قرار احتلال العراق، تحت ذريعة دخول القوات العراقية إلى الكويت، وأحبط المشروع المعادي أية محاولات لحل الإشكال الحاصل بالوسائل العربية. وكان تسارع الضغوط الأميركية دليلاً على أن أمامهم فرصة قد لا يتم تعويضها في المستقبل القريب. ومسلسل الأحداث معروف لدى القارئ، ويمكن لغير المتابع أن يستعيد ذاكرتها في المصادر الموثَّقة.
بعد التدمير الشديد الذي تعرضت له شتى مرافق الاقتصاد والعمران والصناعة العراقية في العام 1991م، استكمل التدمير بقرار الحصار الظالم لمدة أكثر من عشر سنوات من جهة، والقصف المتقطع لكثير من المنشآت تحت ذريعة حماية مناطق الحظر الجوي من جهة أخرى.
واستكمل المشروع المعادي مخططه في التدمير الممنهج للبنى التحتية في العراق، في العام 2003م،أثناء العدوان وبعد الاحتلال. وهنا يمكننا أن نعدد بعض وجوه التدمير وحجمها واتجاهاتها ووسائلها:
في أثناء العدوان: من غير الصحيح أن العدوان كان يستهدف البنى والمنشآت العسكرية فقط، وإنما كانت كل البُنى العمرانية الدسمة أهدافاً للتدمير تحت حجة أنها أماكن محتملة لسلاح الدمار الشامل العراقية المزعومة. ولمن يريد أن يعرف حجم كل ذلك، يمكنه أن يعود إلى تقرير أميركي يقدِّر فيه كاتبه أن حجم الكتلة النارية التي سقطت على العراق، يعادل كثافة 240,000 قنبلة بحجم قنبلة هيروشيما. ومن خلاله يمكننا أن نتصور حجم التدمير الذي ألحقه العدوان في البنى التحتية العراقية، هذا إذا أغفلنا مدى الأذى الهائل الذي ألحقه بالمستقبل الصحي للعراقيين من جراء كميات الإشعاع النووي الهائلة. ويمكن القارئ أن يستعيد بعض التقارير التي تتحدَّث عن الخسائر البشرية، مدنية وعسكرية، صحية مباشرة أو غير مباشرة.
بعد الاحتلال مباشرة: كانت مشاهد الحرائق في أكبر البنى العمرانية في المدن العراقية، وبشكل خاص في بغداد، أكبر برهان مرئي على حجم التدمير الذي ألحقته عمليات السطو تحت رعاية مافيات السرقة المحلية، أو المستوردة، المحمية من القيادات العسكرية الأميركية، التي كانت بدورها مأمورة من رؤساء المافيات في الشركات الكبرى لكي تغض الطرف عما يقوم به المخربون المدربون والمعدون قبل وقت كاف للقيام بذلك الدور لتأمين الخراب في ما يمكن أن يُعطى التزامات وعقود للشركات الأميركية.
ما فعلته قيادات الاحتلال العسكرية المحلية: كان كل قائد وحدة عسكرية أميركية عضواً في مافيات عقود الإعمار، وكان المطلوب منه أن يهدم المباني التي تضررت جزئياً تحت حجة إعادة إعمارها –كما يدعي- حفاظاً على السلامة العامة.
كما شاركت المافيات في نهب آليات المصانع وبيعها في السوق السوداء وأكثر من استفاد من شراء تلك الآليات هم الإيرانيون، لأنهم كانوا يشجعون اللصوص على السرقة، وهم يقومون بشرائها بأبخس الأثمان. ولم تلك الطريقة لتضير المحتلين، فهم يعتبرونها من أهم مهماتهم، لأن أية سلعة يتم سرقتها وبيعها إلى إيران يكبِّر حجم العقود لاستيراد بديل عنها، وهذه غاية في الأهمية للشركات الأميركية.
-سرقة السيارات وتهريبها إلى شمال العراق وتجميعها في المنطق المحمية من الميليشيات الكردية على طريق تصديرها إلى إيران.
-حرق مستودعات الأغذية، خاصة تلك التي خزَّنتها الدولة العراقية لمصلحة الشعب العراقي المحاصر، لأن كل ما يتم إتلافه سيكون كسباً أكبر لتلزيم عقود أكثر.
وهل يتم التعداد أكثر؟!
إن ما نريد أن نبرهن عليه هو أن المخطط العدواني من الحرب والاحتلال هو إيجاد فرص أكبر لعقود ما يسمونه إعادة الإعمار.
فإعمار العراق كان يقتضي أن تهدم قوات الاحتلال كل ما تستطيع تدميره، وبشتى الوسائل، وإلا فلن تفوز الشركات المساهمة في تمويل الغزو بأي شيء. ولهذا وتحت حجة إعادة إعمار العراق، والتي أصبحت سُبُله واضحة، كان لا بد من التدمير.
والأكثر إيلاماً من كل ذلك تحاول وسائل الإعلام، ومنها العربية للأسف، أن تبرز المصطلح وكأن رسالة الاحتلال في العراق ملائكية، ووجهها إنساني. لذا راحت تعمم استخدام هذا المصطلح على نطاق واسع في حملتها لاستجداء مساعدة الدول العسكرية والمالية.
لقد تغطَّت بعض الدول الأوروبية وغيرها كمثل أستراليا وإسبانيا وإيطاليا وبعض دول المنظومة الاشتراكية، سابقاً، واليابان، برضوخها للإرادة الأميركية في تقديم مساعدات من الجنود والأموال تحت ذريعة المساهمة في إعادة »إعمار العراق«. وأصبحت كل الموبقات تُعلَّق على مشجب رسالة الاحتلال الإنسانية في أنه يريد إعماراً. ولكن إعمار ماذا؟
ولكي تستر بعض تلك الدول ارتهانها للإرادة الأميركية، ولكي تغطي بعض الإدارات الحكومية تواطأها مع مافيات الاقتصاد العالمي، راحت تتلطَّى أمام شعوبها بغطاء إنساني وهو المساهمة في إعادة الإعمار. تارة بتقديم مساعدات طبية وتارة أخرى في إعادة ترميم المرافق العامة، أو تقديم خبرات في هذا المجال أو ذاك. أما الهدف الحقيقي فهو مساعدة الولايات المتحدة الأميركية في تأمين غطاء سياسي دولي لمخطط السرقة والنهب في العراق.
ما كانت الإدارة الأميركية لتطلب تلك المساعدة، وهي التي كانت على استعداد لأن تخوض الحرب بمفردها، لولا أن الغطاء السياسي الأممي أصبح حاجة ملحة بعد ازدياد تأثير المقاومة العراقية في منعها من تحقيق أهدافها بالضربة النظامية القاضية.
لكن وعي كثير من القوى الداخلية في تلك الدول لم تنطل عليها وسائل الخداع الإعلامي الأميركي أو وسائل الإعلام المساندة له في ما يسمونه الدول المانحة. وتعرف تلك القوى أن تبرعات الدول المانحة لن تذهب لمصلحة الشعب العراقي بل ستكون تسديداً للعقود التجارية التي لن يستفيد منها أحد إلاَّ الشركات الأميركية الكبرى وحدها، وكل من يرتبط معها بالسمسرة أو المشاركة في الرأسمال أو الرشاوى من حكومات الدول المانحة أو هيئاتها الاقتصادية الأعضاء في اللوبيات المالية العالمية.
لن نلوم وسائل إعلام المشروع المعادي لأنها مستفيدة من الرشاوى التي تدفع إليها، أو لأنها بالأساس ممولة ومؤسسة كأحد الفروع الخادمة للشركات الكبرى.
أما ما نريد أن نتوجه بالملامة إليه فهو إلى وسائل الإعلام العربية والإنسانية والصديقة لأنهم، وإن استفادت البعض منها من رشاوى وأجور للإعلانات... فإنها تبيع قضاياها الوطنية والقومية بثلاثين من الفضة. فعلى تلك الوسائل التي قد تعود إلى ضميرها وإلى رشدها، يمكنها أن تفضح حقيقة مصطلحات الإعلام المعادي، وأن لا تسهم –بشكل أو بآخر من خلال استخدامها ببراءة تصل إلى حدود السذاجة- بخداع الرأي العام العربي والعالمي، وأن تسهم –بالتالي- في خداع الضمير العالمي.
***

(22): قشرة ثلج ديموقراطية أميركية: الديكتاتورية كانت السبب في احتلال العراق!؟
في مواجهة القاعدة الإعلامية التي تستند إليها إدارة جورج دبليو »إكذب ثم فتش عن تبرير للكذب«، لا يمكن إلاَّ أن نحكم على كل تصريح إعلامي، لأي عضو من أعضاء إدارته، بأنه كاذب حتى يثبت صدقه. أما المؤلم في وعينا العربي العام أن طبقة من أنتلجنسيا السياسة والثقافة العرب، يبنون أحكامهم على أن الإعلام الأميركي صادق حتى يثبت كذبه، والأشد ألماً أنهم لا يتعبون أنفسهم –لاحقاً- في الحكم عليه بالكذب حتى ولو كشف الضمير الأميركي عن حقيقة سلوك إدارة جورج دبليو المتخمة بالكذابين، والمحتالين والاغبياء.
ومن المستغرب أن تلك الطبقة، التي إما هي غبية أو أنها تعتمد على استغبائنا، تبني أحكامها على الأمور استناداً إلى كذبة أميركية من هنا، أو كذبة من هناك.
من تلك الأكاذيب أن العدوان الأميركي استند إلى شعار »تحرير العراق« من الديكتاتورية. فلاقت الكذبة صدى واسعاً في نفوس طبقة الأنتلجنسيا العربية –المشار إليها أعلاه- وأيَّدتها وروَّجت لها بحماس لافت للنظر. ولما انكشفت الكذبة الأميركية التي كانت السبب في حماس المتحمسين وتأييد المؤيدين من طبقة السياسيين والمثقفين النخبويين، لم يكلِّف أي منهم نفسه بإعادة النظر في أحكامه، فبقيت تلك الأحكام ثابتة على الرغم من ظهور كذب مقدماتها.
ذلك هو شر البلية التي تُضحِك.
يكفينا سذاجة في تصديق ما يقوله إعلام إدارة جورج دبليو.
يكفينا استغباء مما تردده بعض الأصوات العربية التي تنسب نفسها إلى نخبة المثقفين أو السياسيين: لولا ديكتاتورية النظام لما أقدم الأميركيون على احتلال العراق.
يتساوى في الإساءة إلى وعي المواطن العربي كل من إعلام الإدارة الأميركية مع سذاجات الأنتلجنسيا العربية السياسية والمثقفة. أما الأسباب فلا تخرج –كما نحسب- عن التالي:
لتبرير بعض التعصب الإيديولوجي أو لإخفاء حقيقة الأهداف الأميركية يستسهل البعض في أن يحمِّل نظام حزب البعث بشكل عام، والرئيس صدام حسين بشكل خاص، مسؤولية احتلال العراق. أما السبب الساذج، كما يروِّجون، فيعود إلى المعادلة التالية: لولا الممارسة الديكتاتورية للنظام لما كانت الإدارة الأميركية قد أقدمت على احتلال العراق، ولذلك، لو لم يكن النظام ديكتاتورياً لكانت أميركا قد أحجمت عن احتلاله؟؟!!
هكذا وبكل سذاجة، إما أنها تدل على غباء أو تعصب، أو أنها مُوجَّهة من أجل تبرئة الذئب الأميركي من دم ابن يعقوب العراقي. أو أن تلك الدعوات تعتمد على غباء من هنا أو جهل من هناك، أو أمية سياسية في فهم مجريات الأمور من هنالك.
إن أولئك يرتكبون جريمة ذات حدين:
الأولى هو تجهيل حقيقة الأهداف الأميركية الخبيثة، والتي كشفها الضمير الأميركي قبل غيره من الضمائر، والتي لمست خطورتها الحركات السياسية الثورية في العالم، ولم تخرج عن صفها تلك الدول التي يرتبط مشروعها الاقتصادي مع المشروع الأميركي.
أما الثانية فهو تبرير، عن سابق إصرار وعلم، للإدارة الأميركية حقها في أن تتجاوز كل القوانين والشرائع الدولية لتؤدب نظاماً من هنا أو نظاماً من هناك، وتقوم باحتلاله وتغيير النظام فيه تحت ضغط العسكر والدبابات. وهي بالتالي، وهذا أغرب الأمور، التي لم يجرؤ ابن ثقافة عربي على الاعتراض عليه، هو أن إسقاط نظام لا يحظى برضا معارضة مهاجرة جبانة أو قبولها، تبرير لها يمكنها من أن تستعين بشيطان خارجي لينوب عنها في المهمة التي هي مكلفة بها أصلاً وفصلاً.
تصوروا يا أبناء الديموقراطية في العالم العربي خاصة، وفي العالم عامة، أن فيدل كاسترو، كمعارض لنظام باتيستا، قد لجأ إلى الولايات المتحدة الأميركية، وطلب منها إسقاط نظام باتيستا، لأنه نظام ديكتاتوري؟!
أو أن فيدل كاسترو كان قد طلب من الاتحاد السوفياتي أن يأتي بالجنود الشيوعيين من كل أنحاء العالم، وأن يأتي بطائراته ودباباته لإسقاط نظام باتيستا؟!
إنما العكس هو الصحيح، واسألوا فيدال كاسترو –فما زال حياً- لماذا لم يُقدِم على ما أقدمت عليه أكثرية فلول المعارضة العراقية في كواليس المخابرات الأميركية والبريطانية والصهيونية؟
أما كان أجدى لتشي غيفارا ومن الأسهل والأسرع له، أن يطلب تدخل الصين أو الاتحاد السوفياتي لغزو شتى دول أميركا اللاتينية التي تعيش في ظل أنظمة ديكتاتورية؟ ولماذا كان عليه أن يموت في الأدغال؟ بينما لو كان مثقفو الصالونات عندنا اليوم في سن النضوج في ذلك الوقت لكان يمكنهم أن يرشدوه إلى أقصر طريق للثورة في تغيير أنظمة أميركا اللاتينية الديكتاتورية، وهل هناك أغرب من أن يكون ممر المخابرات الأميركية هو أقصر الطرق لتغيير الأنظمة؟؟
رحمة عليك أيتها الديموقراطية، وسلاماً عليك أيتها الديكتاتورية، كم تُرتكب من الآثام الفكرية والسياسية والأخلاقية باسميكما. وممن؟ من أولئك الذين ينتسبون إلى دوائر الفكر والسياسة.
ويؤلمنا أن تقوم فئة من طبقة المثقفين والسياسيين العرب بإحداث انقلاب في المفاهيم، فهي وإن لم تروِّج إلى إحداث انقلاب على القيم الإنسانية المثلى، أو أن تنقلب على كل الشرائع والقوانين التي سنَّتها المؤسسات الأممية حول »حق الدول والشعوب في تقرير مصيرها«، فهي تقوم –بوعي منها أو من دون وعي- بإعادة كتابتها من جديد، وبشكل مخالف لكل الأعراف والقيم. فهي تنصح المعارضات المحلية، في الدول التي لها استقلاليتها المعترف بها دولياً، بأن تحمل حقائبها إلى الخارج كلما حُرِم أحدهم من وزارة أو من منصب، أو كلما هوَّل عليه رجل أمن بقبضة من يده.
وعلى تلك النخبويات الصالونية، أو الموبؤة بالتعصب الإيديولوجي، أو الموبؤة بلوثة مخابراتية مجزية الأجر، أن تشطب شريعة »حق الأمم في تقرير مصيرها« وتستبدله بشرعية تكليف التحالف الأنجلو أميركي الصهيوني بأن ينوب عن المعارضات المحلية في تقرير مصير الشعوب.
فيكون من أهم نتائج هذا التكليف، وكما هو حاصل في العراق المحتل، بمظاهره الفاقعة في لا أخلاقيتها، وفي ديكتاتوريتها، أن يقوم مندوب المكلف الأميركي (غارنر، ومن بعده بريمر، الذي يمكن استبداله) بتعييِن هذا وإقالة ذاك من العراقيين، والمقاييس والأسباب -طبعاً- هي مدى التعبير عن الولاء للاحتلال ومصالحه. وعلى السياق ذاته، يعتقل ويقتل ويدمر، وينتهك الحريات الخاصة والعامة، يبرز ما يريد على الإعلام ويخفي ما يريد. يسمح لهذا المراسل أن يتحرَّك ويمنع الحركة عن ذاك. يقفل تلك الصحيفة بالشمع الأحمر، ويروِّج لتلك. يوزِّع شهادات الوطنية والديموقراطية على كل من يقدِّم له وردة، ويهدي رصاصة أو قذيفة أو صاروخ لمن يرفضون وجوده فيجود عليهم بألقاب الإرهاب والفلول والسفلة والخارجين على القانون.
ترى طبقة الأنتلجنسيا عندنا كل تلك المشاهد، وتقرأ عنها، وتسمع، لكنها تتعامى عنها، ولا ترشقها بوردة، لأن صورة الحكم السابق عندها لم تتغيَّر، فيبقى المتهم عن جرائم الاحتلال هو ديكتاتورية حزب البعث وديكتاتورية صدام حسين!!
قاد حزب البعث المقاومة بعد أن كان قد أعدَّ لها. وترك صدام حسين كل القصور ونعومتها (التي كانت محطاً لاتهامه) لينزل إلى خندق المقاومة ويقودها. فأيَّدت طبقة الأنتلجنسيا العربية المقاومة العراقية واعترفت بأهميتها وفاعليتها وشدة تأثيراتها ووصفتها بالظاهرة التي رفعت رأس العرب، ولكن لم تكن جريئة على الاعتراف بأن الظاهرة التي رفعت رؤوسهم هي بقيادة من أصروا على اتهامه.
إنه الحقد الإيديولوجي الذي ينظر إلى القضايا من نوافذ الشخصنة والفردنة. إنه الانفصام النفسي والشخصي لتلك الطبقة. إنه باختصار كمن يخبأ رأسه في رمال كي لا يربط بين قضية كبرى –كمثل قضية المقاومة العراقية- وبين صانعها ومنفذها وشهيد في صفوفها، ومتحمل القهر والعذاب والتضحيات من أجل استمرارها وتطويرها.
ما أحلاها من ديموقراطية »بوشيَّة« عندما عينَّ بول بريمر »شريفاً« على مزرعته في العراق!! أوَ يبقى ذرة من وعي وإخلاص عند الذين يحمِّلون ديكتاتورية نظام أو شخص في استدراج احتلال لأرض وذبح لشعب؟
أيبقى ذرة من ضمير عند من يمارسون أسلوب الانفصام، بفصل الظواهر الكبرى عن صانعيها؟
***

(23): عبد العزيز الرنتيسي لقد اغتالك رصاص الصمت العربي والإسلامي
وللصمت رصاص قاتل. فعندما تسكت عن قول الحقيقة، وعندما لا تقول في وجه حاكم ظالم كلمة حق تظهر له ظلمه، فكأنك تقتل هذا الحق.
لقد قتلك رصاص الصمت العربي والإسلامي يا شهيد فلسطين، وشهيد الأمة العربية.
لقد قتلك رصاص الصمت العربي عندما امتنع النظام العربي الرسمي عن الرد على اغتيال الشيخ أحمد ياسين.
واغتالوا الأخير عندما سكتوا عن مجازر مخيم جينين، وحصلت مجازر جينين عندما دفنوا شهداء مجزرة دير ياسين –أو تركوهم في العراء- بخجل وصمت ولا مبالاة. وسقطت الضحايا بسلسلة لم تنته ولن تنتهي عندما تواطأوا على احتلال أرض فلسطين.
لقد اغتالوك منذ أن ابتلعوا مجزرة قانا في لبنان، وهانوا أمام حصار الفلوجة في العراق، ويتهربون من مسؤولياتهم أمام حصار النجف والكوفة.
سلسلة من التنازلات تعبِّر تماماً عن حالة الانحدار العربي والإسلامي المستمر. إن كرة التنازلات تكبر وتكبر، أما كرة الغضب الشعبي فتتزايد أيضاً.
أقسمت أني لن أكون نادباً النظام العربي الرسمي، بل سأكون له من الرادحين. فالندب لن يفيد الميت، أما الردح فيسلط الأضواء على المجرم، كي لا يتركه مرتاحاً وخانعاً، فالصمت على جرائمه يدعه مرتاحاً في سريره الوثير.
وفي المقابل، فلا حل لكل مآسينا مع الصهيونية والاستعمار إلاَّ بالكفاح الشعبي المسلَّح، وأضعف الإيمان فيه أن ترفض بالقلب ما يُرتكب، وأوسطها أن ترفض بالكلمة، فالعصيان المدني، وأشرفها وأكثرها تأثيراً حمل السلاح في وجه العدوان.
ولأنه على الشعوب أن تحمل قضاياها بأنفسها، لن يكون الرد إلاَّ بجهر شعبي دائم يكشف الستر عن خبايا الضعف والاهتراء في جدران النظام العربي الرسمي، ووصفه بأنه هو الذي يغتال حركة التحرر العربية باغتيال المناضلين فيها، سواء بقتلهم أو بأسرهم، أو بتناسي نقاط الضوء المقاوم الساطع، أو بحصارها بجدار سميك من العيون العمياء والآذان الصماء.
تلك هي الفلوجة في العراق، العصيَّة على الاغتيال. وتلك هي جحافل الأبطال فيها ترفع رايات النصر على نُصُب من جماجم الشهداء.
تلك هي غزة وجينين وطولكرم، العصاة على الاغتيال والإرهاب. وتلك هي جحافل الأبطال، الذين ما أن يسقط شهيد تنتصب قوافل الأبطال حاملة لواء الثورة.
من الفلوجة إلى غزة، يدفن الأبطال جثمان النظام العربي الرسمي بدون أسف عليه، فهو صامت سواء كان حياً أو ميتاً، سواء كان مدفوناُ تحت التراب أو مستسلماً للنوم فوق الكراسي الوثيرة. فهو قاتل بصمته، فهو القاتل الأول، أما الثاني فليس إلاَّ التحالف الأميركي – الصهيوني الذي يستخدم الرصاص في القتل بعد أن خدَّر »عشَّاق الكراسي« كي لا يسمعوا صوت رصاصهم القاتل، وكي لا يسمعوا صوت الأطفال والشيوخ والشرفاء يهتفون للثورة.
لقد أصمَّ النظام العربي الرسمي آذانه إلاَّ عن سماع نصائح بوش وشارون وبلير، فذهبوا إلى بلاطهم يستجدون، وزحفوا إلى كواليسهم ضعفاء جبناء، والهدف هو أن يقدموا الرجاء إليهم بالإجهاز على الضحية دفعة واحدة، لأن الإجهاز عليها بالتقسيط يراكم إحراجهم أمام شعوبهم.
وكي لا يستمر الصمت الشعبي كرصاصة تقتل المناضلين وتغتالهم، وكي لا يتحول إلى رصاصة موجَّهة نحو قضايا التحرر العربي، نرى أن الوقت يمر بسرعة من دون أن تملأ جحافل الشعب العربي كل الشوارع هاتفة للثورة والكفاح المسلح.
لقد أطلقت المقاومة الفلسطينية على العدو الصهيوني الطلقة الأولى، وأطلقت المقاومة العراقية على العدو الأميركي – البريطاني الطلقة الأولى، فما على الشعب العربي –من المحيط إلى الخليج- إلاَّ أن يطلق الطلقة الثانية. ففي طلقة الشعب العربي ما يشكل البداية الأساسية كي تستعيد العروش والقصور العربية سمعها وبصرها وألسنتها الصامتة عن كل ما يرتكبه الاستعمار والصهيونية من جرائم ومجازر. وفيها النعش الذي تقدمه الجماهير الشعبية لأنظمة الاستعمار والصهيونية كي تنقل موتاها من الجنود الغزاة، وكلما تكاثرت جثثهم ستلسع سياطها آذان بوش وبلير وستصفع عيونهم بمناظر موتاهم التي طالما أثارت الضمير العالمي، وليس غيرها من وسيلة تشكِّل خشبة الخلاص والتحرر. وستكون ردَّاً على كل الداعين إلى ضبط النفس أمام عدو يرى في جثثنا جسراً تعبر عليه قوافل مصالحه.
لاحقوهم أيها الأبطال أينما ثقفتموهم، ولا تخدعنَّكم أصوات الداعين إلى حقن الدماء فهو ليس أكثر من تخدير لكم. فحقن الدماء وضبط النفس لن ينفع إلاَّ بخروج المحتل من أرضنا، وإلاَّ بأن تترك الذئاب عادة النهش في أجسامنا وثرواتنا وكراماتنا. ولن تجدوا في دعوات ضبط النفس إلاَّ هروباً من المسؤولية التاريخية والإنسانية أمام عدو فاجر مأفون، يريد أن يشرب نخب انتصاره على جماجمنا، وجثثنا، وأعراضنا، وكراماتنا، ثم »يبول« على حكمتنا وحكمائنا من الداعين إلى الهروب.

(24): الموقف الإيراني في العراق والمنزلقات الخطيرة
نُشر في 21/ 4/ 2004م: دنيا الوطن – البصرة – الوحدوي…
لم تكن زلة موقف أن تطلب الإدارة الأميركية من الحكومة الإيرانية أن تكون وسيطاً مع السيد مقتدى الصدر لمعالجة التداعيات في النجف وكربلاء. ولم تكن مهمة إنسانية خالصة لوجه الله أن تستجيب الحكومة الإيرانية بسرعة للنداء الأميركي.
لم يكن حقن دماء المسلمين، الهدف المعلن للوفد الإيراني الرفيع المستوى الذي وصل إلى العراق، هو الهدف الحقيقي. فأهداف الإعلان الإيراني لم تكن نظيفة –أيضاً-عندما صرَّح المسؤولون الإيرانيون بأن »النجف وكربلاء خط أحمر«.
إننا لا نخرج عن الموضوعية عندما نضع الأهداف الإيرانية في موقعها غير النظيف في الآونة الأخيرة. فتلك المواقف هي نتائج لمقدمات سبقتها في التنسيق الجاد والهادف بين الإدارة الأميركية والحكومة الإيرانية حول أفغانستان. وهو ما لم ينفه الإيرانيون فحسب، بل أكَّدوه أيضاً. وكان ذلك التنسيق مدعاة مِنَّة أعلنها الطرف الإيراني طالباً من الطرف الأميركي بأن يحفظ الجميل الإيراني لقاء الخدمات التي قدَّمها في رحلة احتلال أفغانستان.
ينظر الطرف الإيراني إلى قضية أفغانستان من زوايا المصالح الإيرانية، ضارباً عرض الحائط كل مصلحة إسلامية أولاً، وكل مصلحة إنسانية ثانياً. وهذا هو المنطق التجاري الصرف.
ففي المصلحة الإسلامية، على الرغم من أننا لا ندخل إلى معالجة المسألة من هذا المدخل، لا نرى أن يدعم نظام إسلامي نظاماً غير إسلامي في احتلال أرض إسلامية. (إيران الإسلامية تتحالف مع أميركا غير الإسلامية ضد أفغانستان الإسلامية).
أما في المصلحة الإنسانية، وهذا ما نقيس منهجا في التحليل عليه، لا نرى في العدوان الأميركي أية قيمة إنسانية يمكننا أن ننصرها. فالعدوان الأميركي –حتى ولو كان مغلَّفاً بقشرة أممية متحدة- هو عدوان على حق إنساني أعلنته الأمم المتحدة نفسها تحت مبدأ »حق الشعوب في تقرير مصيرها«.
بعد توضيح تلك المخالفات الإيرانية للأسس الإسلامية والإنسانية، فهل يبقى من شك لدينا في وضع علامات الاستفهام حول المواقف الإيرانية في القضية العراقية؟
لا علاقة للمبادئ والأهداف الإسلامية والإنسانية في مبادرات إيران ومواقفها من العراق. لأنها تلعب من داخل الملف العراقي لعبة خطيرة. والخطورة فيها أنها باركت العدوان على العراق منذ لحظاته الأولى، أو لنقل قبله بكثير. فهي قد شاركت في الإعداد له، سواء بدور إيراني صامت وراء الكواليس، أو بدور إيراني ناطق من خلال التنظيمات المذهبية السياسية التي أسستها (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وميليشياته »فيلق بدر«)، أو التي باركتها (حزب الدعوة الإسلامي في العراق).
نتيجة التنسيق الأميركي – الإيراني دخلت المخابرات الإيرانية إلى العراق. ونتيجة أبوَّتها للتنظيمات السياسية المذهبية تسلَّلت إلى »مجلس الحكم الانتقالي«. ونتيجة الضوء الأميركي – البريطاني الأخضر اكتظَّت الأسواق وغرف التجارة العراقية بالتجار الإيرانيين، ومنه تسلَّلت إلى أجهزة المافيات (سرقة ونهب) بدون النظر إلى عرقها أو مذهبها، إذ تشاركت الأحزاب الكردية مع الأحزاب السياسية الشيعية (فيلق بدر وجماعات البرازاني والطالباني) في نهب كل ما طالته أيديهم وباعوه إلى التجار الإيرانيين، واستناداً إليه وصف أحد العراقيين الدور الإيراني في العراق قائلاً: »خرجت إيران –بعد احتلال العراق- بأكبر حصة من وليمة ذبح الدولة العراقية«.
إن مستفيداً من وليمة كبرى، كمثل استفادة إيران من وليمة ذبح العراق. كما أن شريكاً في احتلال العراق، كمثال شراكة إيران لأميركا، لا تلزِمُه أهداف إسلامية ولا إنسانية. هذا السبب يفرض على من يريد تحليل الموقف الإيراني الأخير أن يتساءل: أية أهداف يرمي إليها التدخل الإيراني الأخير بعد التهديد الأميركي باقتحام النجف لاعتقال السيد مقتدى الصدر؟
لقد اقتحمت قوات الاحتلال الأميركي مدينة الفلوجة، وحاصرتها، وقتلت المئات من أبنائها، وجرحت الآلاف. فلم يهتز للنظام الإيراني جفن. وكأن المجازر التي تُرتكب خارج كربلاء والنجف لا علاقة لها بأي منظار إنساني.
وليس من الغريب أن لا يهتز الضمير الإيراني بحصار الفلوجة وقتل أبنائها، فهو قد تواطأ على احتلال العراق كله، فهو لا يضيره أن يحتل المعتدي مدينة من مدنه.
أما لماذا أخذ ذلك الضمير يتململ عند حصار النجف؟ فهنا تبدأ مظاهر الخطورة في الموقف الإيراني.
لقد حاصر الأميركيون –منذ عقود طويلة- مكة المكرمة، واحتلوها برضى من النظام الحاكم. واحتل الصهاينة القدس الشريف وعاثوا فيه فساداً، وارتكبوا جرائم كبرى في حق الإنسانية. ومن أجل تلك الأسباب، أعلن النظام الإيراني شعارات العداء لأميركا، كمثل، »أميركا الشيطان الأكبر«، و»الموت لأميركا«.
فالشعار شيء والموقف شيء آخر. فبدلاً من مقاومة أميركا، وقد أصبحت على بعد أمتار من رافعي شعار الموت لها، تتحوَّل أميركا إلى طرف يجوز التفاوض معه وبه ولأجله!!!
فلماذا أتى الوفد الإيراني إلى العراق من أجل »حقن دماء المسلمين في النجف« تحت شعار الدعوة إلى التهدئة بين السيد مقتدى الصدر وقوات الاحتلال؟ ولماذا عاد؟ وبماذا عاد؟
أما بعد عودة وفده من العراق فقد وجَّه النظام الإيراني تهديده »للشيطان الأكبر«، قائلاً: »إن النجف وكربلاء هما خط أحمر«. ولكن كيف حصل، ولماذا حصل؟
يعرف النظام الإيراني أن له مصلحة في احتلال مقعد فاعل في المنطقة العربية، ويعرف أن طريقه إليه لن يكون سهلاً بدون مساندة محلية عربية يتَّكئ إليها. ولهذا السبب قام بتصنيعها منذ أكثر من عشرين سنة، مستفيداً من احتقان مذهبي ضيق عند بعض النُخب الشيعية العراقية. وهو يعرف أنه إذا فقدها فسيخسر وسيلة المساندة الأساسية، ولهذا نراه حريصاً على عدم قطع العلاقة بينه وبينها بشتى السبل والوسائل، ومن أهمها أنه يريد أن يتلطى بغطاء الدفاع عن العتبات الشيعية المقدسة في العراق.
عجباً للشطارة بالتلاعب بعواطف الشارع الشيعي البريئة!! وكأن العتبات الشيعية المقدسة في العراق لم تكن محاصرة أو محتلة قبل الأزمة الأخيرة التي وتَّرت الأجواء بين السيد والأميركيين.
لا يعني للنظام الإيراني أن يكون العراق محتلاً، وكأن العتبات المقدسة غير موجودة في العراق. أو كأن العراق شيء والعتبات شيء آخر. وأنه إذا احتل العراق فلن تكون العتبات تحت الاحتلال!!
بلى إن العتبات كانت محاصرة ومحتلة وممنوعة من الحرية، بمعنى امتلاك حرية القرار السياسي وتطبيقه في اختيار الدستور أو شكل النظام أو حتى اختيار الحاكمين العراقيين الوطنيين الأكفياء على قاعدة الاختيار الشعبي الحر.
أما السبب الذي من أجله، تحوَّل الموقف الإيراني من موقف الوسيط، الذي أضاء الخطوط الخضراء، الغيور على حقن دماء المسلمين، إلى الموقف الذي يضع الخطوط الحمراء أمام الاحتلال، فنراه كالتالي:
توهَّم النظام الإيراني أنه ولي لأمر الشيعة في العراق، فتعجَّل قيامه بالوساطة لعلَّه يكسب رضى وعرفان للجميل من قبل الأميركيين، لكنه فوجيء حال وصول وفده المفاوض إلى العراق، بأن حسابات حقله لم تلق رضى من البيدر الشيعي تحديداً. فالبيدر الشيعي العراقي يحسب الحساب لأكثر من أمر:
أولهما أنه لا يرضى بحقن دماء المسلمين في النجف وكربلاء بينما يتفرَّج على إهراقه في الفالوجة والموصل، فقد تربى الشيعي على حس وطني سليم، باستثناء من ربَّاهم النظام الإيراني على الحس المذهبي التفتيتي.
وثانيهما، هو ما لمسه الشيعي من خلال سلوكات النظام الإيراني التجارية التي لعقت الكثير من الدم العراقي، ولم ينج الدم الشيعي من اللعق.
وثالثهما، هو الانتماء الوطني للشيعي العراقي قبل أي انتماء آخر، وهو لا يرضى أن يُقال بأنه كان يتفرَّج على احتلال أرضه وإهانة عرضه من جهة، أو أن يتفرَّج على إهانة كرامة جاره العراقي وعرضه من جهة أخرى. فالشيعي العراقي لم يقبل أبداً في كل تاريخه أن يكون تاجراً ليس على حساب شعبه فحسب، بل ولا على حساب أي شعب آخر أيضاً.
ورابعهما، معرفة الشيعي أن بلده كله محتل، ودماء المسلمين وغير المسلمين كلها مهدورة وتُراق كل يوم وكل لحظة، على أيدي الاحتلال الأميركي والبريطاني، وعلى أيدي التجار الإيرانيين، وأجهزة المخابرات الإيرانية التي لم تستفحل شجاعة وإقداماً كما استفحلت وأصبحت أكثر شجاعة في التنسيق والتعاون مع المخابرات الأميركية والبريطانية في ملاحقة أبطال المقاومة العراقية واعتقالهم أو تصفيتهم.
لمس الوفد الإيراني، حامل الأضواء الخضراء، أن وساطته سوف تصطدم بالعقبة الشيعية الرافضة للسلامة الشيعية على حساب السلامة الوطنية. فأصبحت بضاعته غير مرغوب فيها، ولم يجد من يريد أن يشتريها ممن حملها إليهم.
وبأسلوب التاجر الشاطر بدَّل بضاعته إلى خطوط حمراء خوفاً من أن يخسر من حسبهم زبائن دائمين على قاعدة الوحدة المذهبية.
في مثل تلك الأساليب الملتوية، التي يسلك النظام الإيراني دروبها، إنما يقود نفسه إلى منزلقات خطيرة لا بُدَّ من أن تعكس آثارها السلبية على الإسهام في تفكيك اللحمة الوطنية العراقية. أما كفى العراق ما يمارسه الاحتلال من تفكيك وتفتيت؟
ليس هناك أكثر خطورة على تفكيك النسيج الإسلامي والقومي في العراق من استخدام الأساليب المذهبية الملتوية، خاصة إذا كانت مغطاة بالدين.
أتركوا العراقيين يحافظون على تاريخهم الناصع بلحمة وطنية أثبتوا أنهم من المتمسكين بها بأهدابهم. ولا تلعبوا مع السيد مقتدى الصدر لعبة المذهبية، فهو قد رفضها، وهو يعمل كي لا يسجِّل في تاريخ المرجعية الشيعية أنها آثرت السلامة المذهبية على حساب وحدة البلاد والعباد.
ونناشد الحريصين على العراق، بمذاهبه وأديانه وأعراقه، أن لا يلعبوا لعبة المحتل الأميركي القاضية بتحييد هذا الطرف أو ذاك ليستفرد بهم واحداً إثر واحد، لأن وليمته لن تكتمل إلاَّ بذبح الجميع واحداً واحداً. ولا تكونوا كالخراف التي تجترُّ بينما الجزار يقود بعضهم إلى الذبح.
ونناشد النظام الإيراني بأنهم إذا لم يكونوا لكل العراقيين، وهم لن يكونوا، فعليهم أن يكفوا العراق شرهم وهو أضعف الإيمان. وأن لا ينزلقوا به إلى منزلقات خطيرة.
***

(25): هل هناك مقاومة للاحتلال تفتت الوطن؟
أُرسل إلى جريدة السفير ردَّاً على مقال للدكتور محمد علي مقلد، بتاريخ 28/ 4/ 2004م، لكنها لم تنشره.
كتب محمد علي مقلد في جريدة السفير، بتاريخ 23 نيسان 2004م، وفي العدد 9776، مقالاً تحت عنوان »مقاومة لتفتيت الوطن«. ومن أهم ما جاء فيه:
يصفعك العنوان من دون تردد، ويتبادر إلى الذهن، فوراً، مقولة الراحل بيار الجميل الذي كان يحسن التمييز بين »مقاومة شريفة«، و»مقاومة غير شريفة«. كما أن بعض الأوساط اليسارية، اليوم، راحت تعزف على وتر مشابه، وتعمل على التمييز بين مقاومة تقدمية ومقاومة لا تقدمية، مقاومة ديموقراطية ومقاومة ديكتاتورية. وهم يريدون أولاً –ليحددوا مواقفهم من المقاومة العراقية- أن يعرفوا من يقاتل؟ وكيف يقاتل؟ وضد من يقاتل؟ وانتظاراً لأجوبة تروق مزاجهم فعلى المقاومة العراقية أن توقف زحفها انتظاراً لحصول هؤلاء وأولئك على أجوبة قد لا يحصلون عليها ويكون الأميركي قد ابتلع كل شيء وعلى رأسهم التقدميون واليساريون الذين يبحثون عن جنس الملائكة على حساب الفلوجة والنجف وبغداد وكربلاء. وأخيراً يطلع علينا الدكتور مقلد بتمييز فريد من نوعه »مقاومة تفتت الوطن« و »مقاومة توحد الوطن«.
نربأ بالدكتور مقلد أن يكون في داخل تلك الاحتمالات ويعزف على وترهم، وهو الذي يعتز بدور الحزب الشيوعي في المقاومة الوطنية اللبنانية، وهو الذي كان يرفض تصنيف المقاومة بين مقاومة للتفتيت ومقاومة للتوحيد. و هو على الرغم من تعدد ألوان المقاومة اللبنانية وأطيافها –في وقتها- لم يكن يدعو المقاومة اللبنانية أن توقف أعمالها حتى يتم الاتفاق بين اللبنانيين على نوع النظام السياسي أو جنسه. فكانت الأولوية لطرد العدو، وفي الوقت ذاته كان الحوار يدور حول جنس النظام السياسي ونوعه لكن على أساس أن لا يحول الحوار حول تلك المسألة دون المقاومة ومتابعة نضالها.
لا نحسب أن الدكتور مقلد يريد أن يعود بنا إلى ما قبل العام 1968، وهو التاريخ الذي نقد فيه الحزب الشيوعي نفسه ورفض فيه مقولة »المقاومة عمل مغامر«، ومنذ تلك اللحظة انخرط الحزب الشيوعي بكفاءة يُشكر عليها، عندما أسهم في احتضان المقاومة الفلسطينية وراح يسهم –جنباً إلى جنب الأحزاب الوطنية اللبنانية- في التأسيس لبُنى في المقاومة لها خصوصيات وطنية لبنانية.
قبل كل شيء نرى أن لا يعيد الدكتور مقلد عقارب الساعة النضالية الشعبية إلى الوراء. أي إلى ما وراء المؤتمر الوطني للحزب الشيوعي اللبناني. وأن لا يكون عزفه مؤيداً لبعض تيارات الشيوعيين العراقيين الذين يقفوا في صف الاحتلال، وفي الصف المعادي والمقاوم للمقاومة الوطنية العراقية.
ومن تلك النقطة نبدأ بمناقشة أطروحاته في المقال المنشور في السفير المشار إليه أعلاه.
أما بداية فكنا نتمنى عليه أن يخرج أيضاَ من عقدة التعصب الإيديولوجي وهو من أنصار الخروج منها ومن مؤيديها -على الأقل كما يشير إلى ذلك في مقاله- وبدون الخروج من النفقين: العودة إلى ما قبل المؤتمر الوطني الثاني للحزب الشيوعي اللبناني، والتعصب الإيديولوجي، لا يمكننا أن نتابع الحوار.
إن مقاومة الاحتلال حتى تحرير الأرض تماماً لا يخضع إلاَّ إلى تقييم واحد هو أن مقاومة الاحتلال –بغض النظر عن لونها وجنسها وطعمها ورائحتها- هو عمل أساسي في التوحيد الوطني. وبدون التحرير لا يمكننا الكلام عن الوحدة والتوحيد. حرِّر الأرض أولاً، ثم انتقل إلى الكلام حول جنس النظام ولونه ورائحته، لأنه لا لون لأي نظام سياسي بدون التحرير إلاَّ لون الاحتلال ذاته وطعمه ورائحته… لكن هذا لا يعني –على الإطلاق- أن نجمِّد البحث عن تحديد رؤية مستقبلية لنظام ما بعد التحرير، ولكنها –إذا ما استهلكت الوقت في الجدل حولها- تصبح عاملاً معيقاً للمقاومة المسلَّحة. أما القاعدة الأساسية التي لا يمكن إغفالها هو أن تحديد نظام ما بعد التحرير هو حق ديموقراطي لكل من أسهم فيه.
ومن الخندق النضالي الواحد، خندق المقاومة في لبنان، لنا عتب على الدكتور مقلد، من أنه لم يستفد من دروس التجربة النضالية الخالية من الرؤى الفئوية ذات الأبعاد الإيديولوجية المغرقة في شوفينيتها. وهو من دعاة رفض الشوفينية. هذا مع العلم أن الشوفينية الإيديولوجية لا ترى الآخر إلاَّ من خلال منظارها، فالشوفينية هي تعصب فكري وسياسي على شتى المستويات، وهل هناك من شوفينية أكثر خطورة من أن تنسخ كل إيجابيات الآخر؟ وهل هناك أكثر شوفينية من الذي يفرض عليك أن تأخذ بوجهة نظره و إلاَّ فأنت لست ديموقراطياً؟. لذا ندعوه إلى العمل معاً إلى محاربة تلك الشوفينية (ونقصد منها تلك التي تراكمت عبر أجيال كانت فيها تيارات الحركة العربية الثورية تتنافس على مواقع قيادتها وليس على أحقية قضاياها) كمدخل أساسي وضروري لأية دعوة توحيدية. ومن دونها نكون كمن ينفخ في نار التفرقة والتشتيت.
ليست الأسباب التي دعت مقلد إلى وصف المقاومة العراقية –كما نشتم بوضوح من أسبابه التي يضمنها مقاله- إلاَّ عائد إلى جملة من الأغراض الفئوية التي تنبع من أغراض تعصبية، والدلائل على ذلك هو أنه يجعل من البعث كبش المحرقة الدائم والمسؤول الأول عن هزائم الأمة، وهو الذي يطالب فيه مقلد بتحصيل حق »جيل الهزائم المتلاحقة« من حزب البعث. وحول ذلك جاءت التعبيرات الواضحة أو التي توحي بما يخبِّئ وراءه. وهنا نتوجَّه إلى الصديق مقلد أن يعود إلى دروس الماضي القاسية التي كانت فيها الخصومات بين التقدميين أكثر إيلاماً من خصوماتهم مع أنظمة »العشيرة والعائلة والقبيلة«.
ولأن المقاومة العراقية (التي مؤسسها وقائدها حزب البعث) هي المقصودة بالعنوان، ولأن الهتَّافين هم من قابضي »الدنانير العراقية البخسة الثمن«، ولأن تحميل مسؤولية »التجربة القومية المرة« في العراق، لحزب البعث، ولأن التضحيات هي من أجل »الوحدة والحرية والاشتراكية« كشعارات خاصة بالحزب، فهي شعاراته، نقرأ المكتوب من عنوانه.
ومن خلال متابعة تسلسل الأغراض في مقاله نراه يحقق الإصابة في بعض الثوابت ويخطئ في إصابة النتائج وكأن الثوابت مجرد »موديلات« نظرية نغلِّف فيها أخطاء النتائج لنبرز وكأن النتائج صحيحة لمجرد أنها مبنية على ثوابت مبدأية صحيحة.
يربط مقلد، أولاً، بين ما حصل من مجازر في نيسان من العام 2004م، والاعتراضات الشيعية على الدستور العراقي الذي وضعته إدارة الاحتلال الأميركي في العراق. كما أنه وضع مجلس الحكم مع »أهل الحل والربط«، وكأنه يعترف له ولأعضائه بشرعية تمثيلهم للعراقيين.
يؤكِّد، ثانياً، على ثوابت أربعة، وهي: »مقاومة الاحتلال تدور بين مناضلين ومحتلين«، و»اتفاق الأمة حول العداء للولايات المتحدة الأميركية« على شتى النعوت التي تصفها. ويؤكد، ثالثاً، على أن الحرب الأميركية على العراق لم تكن من أجل الذرائع المعلنة، بل من أجل النفط. ويؤكد، رابعاً، على حالة الفرز بين مؤيدي المشروع الأميركي في العالم ومن هم ضده.
ويبدأ مقلد، بعد تعداد تلك الثوابت الموضوعية، وبشكل مفاجئ، وبدون إنذار إلى شتم الشعب العربي والإسلامي، الذي لم يتحرك من أجل مواجهة ذلك المشروع إلاَّ على وقع موسيقى »الدنانير العراقية البخسة الثمن دُسَّت في جيوب القادة والهتَّافين«.
متعففاً من أن تملأ الدنانير جيوب القادة لأنه أحرص من غيره على سلوك السبيل النضالي بأخلاقية!! لكنه لا يخرج عن كونه ظالماً لأنه تتوه به سُبُل التعصبية الإيديولوجية إلى منزلقات عشوائية، وكأن ضمير الشارع العربي الذي خرج رافضاً الاحتلال ومؤيداً المقاومة العراقية أو الفلسطينية حفنة من المنتفعين. أما الذين لم يخرجوا إلى الشارع فهم المناضلون الذين يأنفون رائحة الدنانير، وهو يعرف أكثر من غيره أن رائحة »الدولارات تزكم الأنوف«.
على الرغم من ذلك –يتابع قائلاً- ارتكبت قيادة قوات الاحتلال في العراق مجازر فظيعة، ورأى مقلد أن التنديد لا يكفي، ووضع بديلاً عنه »مواجهة القهر الأميركي«، مستتبعاً الحل بسؤال مشروع: »ولكن كيف نواجه؟ وبمن نواجه؟ وبماذا نواجه؟« واعتبر أن الأمة عجزت عن الإجابة عن تلك الأسئلة، فراح هو يعمل جاهداً ليعطي الأجوبة المناسبة.
لا يعطينا مقلد جواباً على الأسئلة التي طرحها، بل غرق في متاهات كثيرة وحاول أن يغرقنا فيها، وتلك المتاهات ذات علاقة بمجاهل التاريخ، السياسي منه والديني العام والمذهبي الخاص. كما أعلن أنه لا يعجبه العجب حتى الأممية غير الدينية التي ينتسب هو نفسه إيديولوجياً إلى ناديها. كمٌّ هائل من الإشكاليات التي تغري بالبحث عنها، وهي جديرة بالبحث. ولكن ما علاقتها بمقاومة تخوض صراعاً لا يحتمل التأجيل لحظة واحدة؟
ونطق باسم كل الاتجاهات والحركات الوطنية وحمَّلهم –بمكياله الديموقراطي- ما لا يريدون أن يحملوه، ولكي يتأكد من خطأ حكمه عليه أن يتابع المواقف الحقيقية لمن سماهم في مقاله (بعثيون وشيوعيون وإسلاميون وسواهم)، الذين –كما أعطى مقلد حكماً نهائياً- بأنهم يفضِّلون الاحتلال على »التجربة القومية المرة« في العراق التي سبقت الاحتلال. وكنا نتمنى أن يعود إلى بيانات تلك الفصائل التي تسهم في القتال فعلاً، ومنهم عدد كبير من الشيوعيين العراقيين، ليرى أن مواقفهم الحقيقية لا علاقة لها بما نسبه إليهم الصديق مقلَّد.
وراح –من جانب آخر- يندب حظ »جيل الهزائم المتكررة« ويطالب بحقهم في أن يعرفوا أين ذهبت تضحياتهم من أجل »الوحدة والحرية والاشتراكية والأممية«.
لو تابعت أيها الصديق غازلاً آراءك على منوال ثوابتك التي حددتها في بداية المقال لكنت قد أعفيت نفسك من مشقة الأسئلة التي طرحتها، وأعفيت الآخرين –ممن هم ليسوا أنت- من سلسلة الأجوبة التي حاولت أن تقنعنا بها، ولم تكن إلاَّ عبارة عن أسئلة أخرى، بدلاً من أن تجعل الرؤية أمامنا أكثر وضوحاً فإذا بك تجعلها أكثر تعتيماً. لكن ما ظلَّ واضحاً أمامنا ليس أكثر من العنوان الذي توجت مقالك به وهو »مقاومة لتفتيت الوطن«.
فإذا كان الحرص على المقاومة العراقية صحيحاً وخالٍ عن الغرض والوطر، على قاعدة أن تكون المقاومة مسلَّحة ب»الوحدة الوطنية والدولة الحديثة« فنحيل مقلد إلى أن يبذل القليل من الجهد في متابعة الأمور مع قليل من القراءة فإنه سيجد أجوبة على كل تساؤلاته. وكان من الممكن أن يكفي نفسه من وضع الكثير من العناوين التي تغلِّب الشك على اليقين. من دون أن يعطي بديلاً يقينياً واحداً، ومن دون أن يخرج من آليات »الندب« التقليدية التي وسمت البنى المعرفية الفكرية والسياسية لشتى تيارات حركة التحرر الوحدوية.
كان الأجدر بمثقف من وزن محمد مقلد أن لا يضيف إلى تعقيدات وعقد الثقافة الشعبية العربية رقماً جديداً، بل كان الأجدر به أن يسهم في استخلاص دروس من نضالات الحركة العربية الثورية، وبشكل خاص »فكر المقاومة الشعبية المسلَّحة«، تلك التي أثبتت جدارتها وأعطت نتائج باهرة في صراعها مع الصهيونية والاستعمار. وهو أدرى من غيره من هم آباء الفكر المقاوم وأبنائه.
كان الأجدر به أن يستخلص دروساً وعبراً من تجربة المقاومة العراقية، تأصيلاً في تاريخية إعدادها وجذورها الفكرية، ومدى علاقتها بين النظامي والثوري. تلك العلاقة التي أثبتت أن حزب البعث في العراق لم يكن حزباً في السلطة ينضاف إلى منظومة الأنظمة العربية التقليدية، بل هو الحزب الذي استفاد من وجوده في السلطة للإعداد للثورة الشعبية التي نقرأ نتائجها الآن (والتي لا يريد أن يعترف بها، على الرغم من أن المشروع الأمبريالي يكتوي اليوم بنارها الحارقة، وعليه أن يقرأها في وجه بوش وبلير وشارون).
وكأنه تناسى التداعيات الاستراتيجية لتأثير المقاومة العراقية على المشروع الأمبريالي فراح يختزلها بمظاهر جداً سطحية. وكان أجدر بمقلد أن لا يقف عند تلك المظاهر التي يسقط فيها مدنيون عراقيون –مستسلماً لأكاذيب الإعلام الأميركي- في التحريض ضد المقاومة لأغراض لا تخفى على نباهة الكاتب مقلد وقارئه. بل كان يمكنه أن يرى تلك الصورة من خلال ما قاله أحد رجال الدين العراقيين: تستطيعون أن تفتشوا عن أسباب سقوط الضحايا المدنيين من العراقيين عند كل من يخطر على بالكم باستثناء المقاومة العراقية.
ولو بذل مقلد جهداً بسيطاً لعرف أن للمقاومة العراقية منهاجاً استراتيجياً من أهم مبادئه الوحدة الوطنية وللحصول على نسخة عن المنهج نحيله إلى 9/ 9/ 2003م، تاريخ صدوره، (وقد نشرته جريدة المجد الأردنية كاملاً). وأن للمقاومة »مجلساً وطنياً« ينسِّق النضالات العسكرية، والمواقف السياسية لمجموعات واسعة من التنظيمات السياسية والعسكرية العراقية (لقد نشرت جريدة القدس العربي نصه الحرفي بتاريخ 1/ 4/ 2004م). وهو لا يدري أن هناك قطاعاً واسعاً من التيارات الوطنية العراقية ومنها الديموقراطية لا ترى في المقاومة العراقية إلاَّ العمود الفقري الأول –بدون منازع- المعقودة على نواصيها رايات النصر (ونعدد له تلك التجمعات، ومنها: التحالف الوطني العراقي الذي يضم بعثيين سابقين وناصريين وشيوعيين وقوى قومية وتقدمية. وتنظيم الكادر الذي انفصل عن قيادته وأدان قيادة الحزب الشيوعي العراقي لتعاونها مع المخابرات الأميركية ومشاركته في مجلس الحكم. …).
ولو بذل جهداً بسيطاً، بعيداً عن الغرض والهوى، لعرف أن النظام السابق في العراق قد بنى الدولة المدنية الحديثة (حبيبة قلب الكاتب)، التي هي النقيض ل»دولة القبيلة والعشيرة والعائلة«، ولولا ذلك لما وضع المشروع الأميركي النظام في العراق في أولويات أهدافه. ولولا ذلك لما وجد من أكثر الأنظمة العربية عداءً ومشاركة للمشروع الأميركي في إسقاطه. أو لم يخطر على بال مقلد ما يعنيه القرار الاستراتيجي الأميركي المعنون ب»باجتثاث حزب البعث من المجتمع العراقي«، طبعاً اجتثاث فلسفته من العراق، وتالياً من الساحة العربية كلها؟
وكأن مقلد لم يقرأ تاريخية الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية، إذ كان هم الاستعمار ليس إسقاط الاتحاد السوفياتي بقدر ما كان همه إسقاط الفكر الاشتراكي، ولأجل ذلك الهدف صوِّر الشيوعية بعبعاً وشيطاناً وهدفاً. وهو اليوم –بعد إسقاط الاتحاد السوفياتي- وإضعاف الحركة الشيوعية، انتقل إلى إضعاف حركة الثورة العربية –ممثلة بأهم أحزابها الذي كان حاكماً في العراق- إن لم يكن باجتثاثها.
ليست المقاومة العراقية وليدة ساعتها، وليست المجازر الأميركية رداً على اعتراض الشيعة على القانون المؤقت، بل جاءت رداً على ما ظهر من بوادر تؤشر على توسيع رقعة المقاومة المسلحة في الجنوب العراقي. وهذا ما يعده الاحتلال من أخطر البوادر والظواهر.
كن مطمئناً يا عزيزي على صحة منطلقات المقاومة العراقية وعلى برنامجها السياسي الوطني التوحيدي، وكن مطمئناً إلى أن أهدافها كانت ولا تزال بناء دولة مدنية تعترف بحرية الانتماء والممارسة الدينية على أن لا تكون مهماتها دينية.
وكن مطمئناً إلى أن المقاومة ليست لتفتيت الوطن، بل هي الدعوات التي تشكك بها هي ما يقود إلى تفتيته.
وكن مطمئناً إلى أن الدنانير العراقية ليست هي أهداف من يهتفون للمقاومة العراقية بل هي الأصالة في الدفاع عن الشرف الوطني والقومي، وعن السيادة الوطنية والقومية. وعلى كل الذين يغلِّفون أغراضهم باتهامات مادية من هنا أو هناك هم من الذين –على الرغم من مظاهر حرصهم على المقاومة- أن لا يركبوا موجة الإعلام المعادي، أميركي وصهيوني وأصحاب أغراض إيديولوجية، وأن يعالجوا الأمور والقضايا من جوانبها الشريفة لأنه ليس للمقاومة أرصدة توزعها على هذا أو ذاك، فالمقاومة عليها أن لا تترك مناضليها نهباُ لحاجة تسليحية أو إعالة عائلات مناضليها. وأخرجوا من شيطان الهواجس أو الادعاءات الكثيرة والمتفرعة. وعلى كل الحريصين على المقاومة –إذا كان حرصهم صادقاً أن لا يتناولوا كل صوت مؤيد لها أنه صاحب غرض ولا وطر.
***

(26): رسالة إلى أحمد الجلبي: عندما تتساقط رؤوس العملاء فسيكون رأسك »المطلوب رقم واحد«
30 / 4/ 2004م.
لم نكن لنقف أمام مسألة واحد من الذين خانوا شعبهم ووطنهم، لولا أننا نريد –من خلال التذكير بأمثولته- أن نحذِّر الآخرين ممن وقفوا في صفه من نهاية محتومة على أيدي المخابرات الأميركية.
من لصوصية بنك »البتراء« في الأردن، إلى بنك »مبكو« في لبنان، إلى بنوك الصحف الأجنبية التي كنت تزودها بالتقارير الكاذبة عن أسلحة العراق، إلى جيوب ميزانيات »السي آي إيه« و»البنتاغون« في واشنطن، إلى السطو على جيوب المكلف الأميركي برواتب شهرية كشفت وسائل الإعلام أرقامها، إلى سرقة البنوك العراقية في ظل الاحتلال، إلى مافيات تفكيك كل البنى والمؤسسات الصناعية في العراق وتصديرها إلى إيران وبيعها في أسواق »الخردوات« الكردية والإيرانية.
لقد أسهمت، بكل قصد وتصميم، في غزو بلدك الذي غادرته منذ أكثر من خمسة وأربعين عاماً، وكأنه لم تكفك كل أموال الدنيا فعدت طامعاً بمزيد من السرقة. وكنت طامعاً برئاسة العراق تحت عباءة رامسفيلد.
أنت لا تحسب نفسك خاسراً على الإطلاق، فقد قبضت ثمن تزويرك للتقارير، وتعلن بفخر أنه قد عفى عليها الزمن، وليس كذبها أو صدقها –كما أفصح تصريحك الأخير- هو الأمر الذي يحوز على اهتمامك، بل إن خلاصة النتائج عندك كانت أن الجيش الأميركي هو الآن في العراق. ولم تكن المقدمات –عندك- هي صاحبة الأولوية، فلو كانت مقدماتك كاذبة فإنما نتائجها هي الصادقة.
لا تعني لك الوسيلة شيئاً، فالجيش الأميركي في بغداد وجيوبك تمتلئ وتزداد امتلاءًا يوماً بعد يوم. فلو بقي الجيش الأميركي في العراق فأنت سوف تكدس أكثر فأكثر من غنائم النهب والسرقة، وإذا خرج يمكنك أن تستريح لتهضم ما سرقته.
لكن، وبما أن »الموسى وصل إلى ذقن المكلف الأميركي« الذي يدفع من ماله ودمه، وأنت من المساهمين في تدفيعه ذلك الثمن، فلن يغفر لك، وسوف يطيح أسيادك برأسك كثمن يقدمونه للمكلَّف الأميركي. أم أنك لم تشعر –حتى الآن- أنك ستكون كبش الفداء عن رؤسائك. فأنت شئت أم أبيت لن تهنأ بما سرقت، وإذا نجوت من غضبة الشعب العراقي، فأنت لن تفلت من غضبة الشعب الأميركي. فبعد أن يندحر الاحتلال، وبعد أن ترحل معه، ستصبح عبئاً ثقيلاً على أكتاف صقور إدارة جورج بوش، لأن صلاحية مدتك قد انتهت لدى أجهزة المخابرات، ولن يتركوك عبئاً ثقيلاً يثقل كواهلهم، خاصة وأن كلاً منهم يريد أن ينقذ رأسه، لذا سوف يتخلصون منك، وهم لا تفوتهم الوسائل.
أنت لم تعد تستطيع أن تقدم خدمة ما لأنك أصبحت أكثر من مكشوف، ولهذا لن تستطيع ثلاجات المخابرات أن تأويك، لأنهم سيدفعون مجاناً -بعد سقوط سمعتك وانكشافها- ثمناً لكهرباء الثلاجة التي ستأويك، فأنت قد انتهيت أيها الشلبي البارع، وانتظر حسابك ونهايتك على أيدي المخابرات الأميركية بالذات، ويكفي الشعب العراقي أنه اقتص منك بأن نهايتك ستكون أمثولة لكل الخونة واللصوص.
يكفيك أنك أتيت إلى العراق مشروعاً ل»قرضاي«، ولما حال بيدر المقاومة العراقية دون حسابات حقل المشروع الأميركي، كنت الشماعة التي علَّق عليها صقور الإدارة الأميركية أوساخ كذبهم، وانكشاف ذرائعهم. فوضعوا أسباب خداعهم للعالم وللشعب الأميركي في عنق تقاريرك الكاذبة.
أوَ لم تشعر بعد أنك أصبحت على لوائح الشطب السياسي من لوائح »المعلَّبين« في الحكومة التي يتم تشكيلها؟ حكومة تأتي كإخراج مسرحي لتديم السيطرة الأميركية بقوالب ظواهرها شرعية، وفي بواطنها لا تمتاز شرعيتها عن شرعية مجلس الحكم الذي يشيعه الأميركيون إلى مثواه الأخير.
تمارس الإدارة الأميركية –اليوم- لعبة قرعة إسقاط الأصنام من أعضاء مجلس الحكم ممن يمثلون أكثر الوجوه انكشافاً في مزايا اللصوصية والخيانة. فستكون أنت، وليس غيرك، من ستصيبهم قرعة الإسقاط الأولى. فاهنأ بتلك الأولوية، لأنهم أحيوك (قبل أكثر من أربعين عاماً لتكون صنمهم في معارضة عراقية مفتعلة) ولأنهم أحبوك لصفاتك التي لا يسابقك أحد عليها فأقصوك من برامجهم، لأنك ستكون كبشاً لفداء طقوسهم في خداع شعوبهم وتضليلها.
قام مشروع إدارة جورج بوش على ضرورة توليد ذرائع –حتى ولو كانت كاذبة- تسهِّل له القيام بالخطوة الأولى، وهو تبرير الحرب والاحتلال. وبعد أن يستقر لاحتلالهم المقام بحيث يشعر المواطن الأميركي المخدوع بحلاوة النصر العسكري وحلاوة طعم البترول، تصبح تلك الحلاوة كفيلة بأن تغفر للإدارة كذبها وخداعها.
لكن بعد أن اكتشف صقور الإدارة أن طعم الحلاوة، التي كانوا ينتظرون إلهاء الرأي العام الأميركي بها، مر وعلقم، إذ حرمتهم المقاومة من أن يتذوقوها، اكتشف الرأي العام الأميركي أنه لم ينتصر عسكرياً بدليل أن الحرب لا تزال قائمة ومستمرة. وأنه لم يتذوق حلاوة البترول لأن قرار المقاومة الاستراتيجي كان يحول دون تصدير النفط بتفجير أنابيبه من وقت لآخر.
كان صقور البنتاغون والمخابرات الأميركية متواطئين معك أيها الشلبي، وكانوا يعلمون أن تقاريرك كاذبة، ولكنهم كانوا بحاجة إلى أية ذريعة حتى ولو كانت كاذبة، فاعتمدوا فنك في الكذب، وأفاضوا بالنعم عليك ليحمِّلوك وزر الأكاذيب متى وجدوا أنفسهم في قفص الاتهام، وهذه الساعة المناسبة قد أزفت.
كانت مهمة أكاذيبك الأساسية أن تمهد لهم طريق الوصول إلى بغداد، وهذا أنت كما صرَّحت قد أوصلتهم بكذبك إليها.
لم تكن مهمتك أكثر من ذلك، ومن بعد جيبك الطوفان. وأنت الآن مطمئن إلى أنك قمت بتنفيذ دفتر شروط التزام الأكاذيب، ولكن لما لم ينطبق حساب بيدر صقور البنتاغون والمخابرات على حقل المقاومة العراقية أخذت تداعيات الكذب تتوالى فصولاً.
ولأن الكذب له تداعيات أخلاقية عند الرأي العام الأميركي وقد يدفع الكاذب أثماناً سياسية عند الاستحقاق الانتخابي، احتار صقور الإدارة وماروا، وبدت للعلن أن بعضهم عليه أن يدفع الثمن من أجل الآخرين، وتبيَّن أنهم حائرون حول إقناع أحدهم بذلك. ويبدو أنهم لم يتفقوا حول من عليه أن يكون كبش الفداء للآخرين، فاتَّجهت الأنظار إليك. وفتحوا الملفات على مصراعيها وسرَّبوا إلى الإعلام ما كان موكولاً إليك وكأنهم يمهدُّون لاتخاذ قرار ما، وهذا القرار كان في أن تكون أنت كبش الفداء.
كان »جون كيلي« خبير الأسلحة البريطاني كبشاً للفداء عن »توني بلير« وحكومته، أما أنت أيها الراكب على دبابة الاحتلال -التي تسحق وطنك- فلن تكون بمنأى عن أيدي مافيات صقور المشروع الأميركي، فانتظر مصيراً أسوداً على أيدي الذين علَّبوك في ثلاجاتهم. وكل كذبة أيها الشلبي وأنت نائم على فراش من الشوك إلى أن ينهي رؤساؤك أمراً فيك كان مفعولا.
***

(27): ألم يطفح كيل معتصم العرب والمسلمين بعد؟
1/ 5/ 2004م.
وامعتصماه!!!
إلى متى نبقى متعقلين بينما »أولاد الزانية« يسطون على كراماتنا وأعراضنا؟!
هل يكفينا أسف جورج بوش وصدمة طوني بلير؟!
وهل الوحش لا يتلبسنا إلاَّ نحن؟!
وهل أسف جورج بوش على غياب الديموقراطية عند صدام حسين هو العذر في تصدير حضارته إلينا؟!
هل رؤية المناظر التي التقطها الوحوش »أبناء الزانية« للسجناء والسجينات العراقيين هو ما يجب أن يعيد الكلمة العاقلة إلى لغتنا وخطابنا؟!
كفى يا ناس تمثيلاً، وتقليداً لعقلائنا. فالكلمة اليوم هي للمجانين. الكلمة اليوم هي تلك الصرخة من الجنون. وهل آلمتنا مشاهد المعلَّقين على أبواب الفلوجة؟ هل »وحشية أهالي الفلوجة« هي التي على جورج بوش أن يُعدم آلافاً منهم بين شهيد وجريح، أطفالاً ونساء وشيوخا؟ وهل من أجل وحشيتهم قرَّر أن يحاصر أهل الفلوجة بالنار والطائرات والصواريخ، فيموت المريض من قلة الدواء، ويموت الطفل من الجوع؟
وهل قام »أولاد الزانية« في سجن أبي غريب بما قاموا به، مما تقشعر له أكثر الضمائر تحجراً، انتقاماً من »وحشية أهالي الفلوجة«؟
أفيقوا يا ناس. لا تقولوا كلمة هادئة بينما يفترس »الوحوش« الذين أرسلهم جورج بوش أبناءنا ونساءنا بدم بارد.
عجباً، لقد وعد بوش وبلير بمحاكمة الجناة، وكأنهما يغسلان أيديهما من »دم الصديق«!!! وكأنهما لا يعلمان أنهما أرسلا إلى العراق، في أقذر مهمة لا أخلاقية، إلاَّ الوحوش الكاسرة، لكي يخيفوا العراقيين بهم. وكأنهما لا يعلمان أنهما أرسلا –كذباً- بمهمة وطنية أميركية، وبمهمة إنسانية، وحوشاً، لكي يدافعوا عن نساء أميركا قبل وصول العرب إليهن في مخادعهن؟
لقد أصابت الصدمة طوني بلير، وكأنه يجهل أن جنوده –من الذين تسربَّت بعض المعلومات عن وحشية بعضهم- بالأمس أنهم وحوش، استشهد العديد من الأسرى العراقيين بين أيدي وحوشه المتحضرين المتمدنين.
حرام عليكم يا ناس، لماذا تزعجون جورج بوش –وقد أعلنت أمه في نيسان من العام 2003م، أنها لا تريد أن تشوِّه صباحها الجميل بالحديث عن القتل والقتلى؟
لا تزعجوه، كما كانت الإدارات الأميركية السابقة تزعج نيكسون بأخبار جثث الجنود الأميركيين العائدة من فييتنام!!
علينا نحن العرب، أن لا نزعج جورج بوش الديموقراطي، لأنه قدم إلينا على دبابة »تحرير العراق«. قدم إلى العراق لتحريره من الكرام والماجدات، ليكون الشعب العراقي تحت إمرة وحشية وحوشه.
أتركوه، فلا تزعجوه، فهو قادم غداً على دبابة »تحرير سوريا« أيضاً!!
أتركوه، فلا تزعجوه، ولا تزعجوا أمه، فهو قادم بعد غد على دبابة »تحرير إيران«. ومن إيران المستكينة على حرير الوعود الأميركية. إيران التي لم ير أي من آياتها صور العراقيين وهم كما خلقهم الله يخضعون لسخرية جنود »الشيطان الأكبر« وتعذيبهم. والتي لم ير أي من آياتها صور العراقيات، كما خلقهن الله، يتعرضن لاغتصاب جنود »آل بوش«، و»آل بلير«، و»آل صهيون«.
أتركوه يحررنا من الشرف والكرامة، أتركوا بلاغة طوني بلير تقودنا إلى الهاوية. أتركوه، حرام عليكم أن تزعجوا أحلامه التي يرى من خلالها »العالم أفضل بدون صدام حسين«!!
طبعاً إن العالم أفضل بدون صدام حسين، فهو كان يستجيب لنداء ماجدات العراق، وكان حامي شرفهن من تهديدات المأفونين الذين أتوا إلى عراقنا الحبيب ليعيدوا إعماره!!. صدام حسين لم يترك الماجدة إلاَّ رافعة الرأس، أما الآن فيمكن »أولاد الزانية« أن يستبيحوا أعراض الماجدات تحت سمع وبصر عبد العزيز الحكيم ومحمد بحر العلوم وابراهيم الجعفري ومحسن عبد الحميد، الذين يريدون –بحكمتهم ودرايتهم- أن يدرأوا الخطر الأكبر عن العراق بالخطر الأصغر، والمعسور بالميسور!!.
طبعاً إن العالم هو أفضل بدون صدام حسين، وإلا كيف يسرح اللصوص مثل أحمد الجلبي وابن أخيه وحاشيتهم، وكيف يسرح »البدون هوية« كمثل موفق الربيعي ويستلم أعلى موقع أمني تحت سلطة أدنى والٍ أميركي، ليتعامى عن الموبقات التي يرتكبها »أولاد الزانية« في سجون العراق بماجدات العراق وأشرافه.
لا تكفي كلمة عقل، عندما ترى رامسفيلد قائد »أولاد الزانية« في سجن أبي غريب، والسجون العراقية الأخرى، يبارك قادة السجن، في »مسلخ الشرف« حيث يجردون الماجدات من ثيابهن، والأحرار من ثيابهم، في مناظر تقشعر لها أبدان أصحاب الضمائر.
عندما طلبت إحدى ماجدات العراق، قبل أكثر من شهرين، وهي من اللواتي واكبهن حظ الخروج من السجن، ورفعت صرختها قائلة: »لقد امتلأت أرحامنا بأولاد العار«، لم يرفع ابن شريفة من المتربعين على كراسي الحكم، من العرب والمسلمين، صوته مطالباً بإنقاذ شرف العرب والمسلمين من بين أيدي »الزناة، أولاد الزانية«، وكأن الأمر لا يعنيهم، لأن ضميرهم قد مات. وراحوا يتلهون بكيف يستقبلون شهود الزور من »مجلس الحكم العميل« ليؤمنوا لهم مقعداً هنا أو هناك لتسويقهم كممثلين للشعب العراقي. ولكن لم يسألهم أحد –من أولئك المستقبلين- هل استطعتم أن تحافظوا على شرف الماجدات العراقيات؟ أو هل استطعتم أن تحافظوا على كرامة أحرار العراق؟
لقد اتَّخذت المقاومة العراقية قراراً بأنه لا يمكن الرهان على النظام العربي الرسمي، أو النظام الإسلامي الرسمي، بل الرهان كل الرهان على زنود الأبطال المقاومين المحررين.
أما اليوم، فنناشد كل أصحاب الحمية والشرف، ليس أن يناشدوا جورج بوش وطوني بلير، ولا أن يثقوا بأسفهم ودعوتهم إلى محاكمة »أبناء الزانية« لأنهم لن يحاكموهم، فهم الذين انتقوهم للقيام بمثل تلك الأعمال. ولكن على أصحاب الشرف والحمية أن يدعوا كل »الرغاليين«، و»أبناء العلقمي«، من أصنام الحكم، وفي المقدمة منهم كل الذين سخَّروا الفتوى الدينية من أجل تبرير الاحتلال، فأجازوا »لأبناء الزناة« أن يعبثوا بشرف الماجدات والأحرار. وعلى كل من لديه ضمير أن يسائلهم هل سينجو شرفهم، وشرف نسائهم من اللوثة والتلويث؟
وعلى كل من لديه ذرة من شرف أن يمتنع عن اللقاء مع أولئك »الرغاليين«، الساكتين الصامتين المتآمرين القابعين في أوكارهم، الخافضين عيونهم أمام ولي أمرهم »بول بريمر«.
لقد خجل الحياء من إحدى عضوات »مجلس عملاء العراق«، عندما باركت ديموقراطية جورج بوش الذي سيعطي نساء العراق 25% من مقاعد الحكومة، ولكنها تناست أن نساء العراق يُجرَّدن حتى من ورقة التوت في سجون »الديموقراطيين الأميركيين الجدد«، بينما تعرَّى عملاؤهم من كل خجل أو حياء أو نخوة، وراحوا يباركون لهم آثامهم، ويسكتون على استباحة نساء وطنهم.
يطول الردح، ولن ينتهي. فقد امتلأت حناجرنا، و»حبلت« قلوبنا، ولن يسكتنا عن استخدام العبارات –التي كنا نأنف عن استخدامها- إلاَّ بأن نسترد الشرف لنسائنا، و إلاَّ أن نثأر لمهانة أحرارنا، وإلاَّ أن نرى »أبناء العواهر« من جيوش »بوش وبلير« قد هربوا إلى شوارع بلدانهم يعيثون –وبالطريقة التي يريدون- بشرف من يريدون، وبديموقراطية »العهر والزنى« التي يحبها »الشريف الأميركي« على طريقته وطريقة »آل صهيون« من شذاذ الآفاق والتاريخ والإيديولوجيا.
***

(28): إذا قال بوش بأن »رامسفيلد يقوم بعمله بشكل رائع« فصدِّقوه
11/ 5/ 2004م
يقول الأميركيون –على أعلى المستويات وأدناها- أن جورج بوش يمارس العادة السرية في الكذب والخداع. لقد ظلم الأميركيون رئيسهم، عندما وجهوا إليه تلك الاتهامات. أما نحن فنرى أن بوش صادق وأكثر من صادق. والذين يطلبون منه أن يُصدِقهم القول فهم لا يعرفون أن بوش ينفِّذ مشروعاً، وهو ينفذه بمنتهى الدقة والأمانة والمصداقية. وكل من ينفِّذ مشروعاً آمن به فهو صادق وليس كاذباً.
من أهم أعمدة المشروع الذي يشارك فيه جورج بوش، هم دونالد رامسفيلد كوندوليزا رايس وبول وولفوويتز، ومنذ أيام يقوم كل منهم بتمثيل الدور المندوب إليه ويقوم بتنفيذه. والتمثيل يتم على مسرح سجن أبو غريب يقوم الجنود الأميركيون، بتنفيذ أوامر ضباط في السي آي إيه، بتحويل حياة السجناء العراقيين والسجينات العراقيات إلى جحيم قبل استدعائهم للتحقيق. وضباط السي آي إيه يتلقون أوامرهم من زمرة إعداد المشروع الأميركي في احتلال العراق، وهم المذكورة أسماؤهم أعلاه. والجميع مرتبطون وموكل إليهم المشروع التالي، وبالوسائل التالية:
فلسفة المشروع قائمة على فكرة الصراع والحرب: »صراع الحضارات«، و»حرب الأفكار«، و»معركة هرمجدون بين محور الخير ومحور الشر«... ومن أهم مظاهره الإعلامية أو العسكرية، هي تلك المصطلحات التي كانت سائدة قبل العدوان، وأثناء الحرب، وبعد الاحتلال، ومن أمثلة ذلك: »لقد نفذ صبر الإدارة«، استخدام وسيلة »الصدمة والرعب«، والعمليات العسكرية التي تأخذ أسماءها من مصطلحات إرهابية كمثل »عقرب الصحراء«, »أفعى الصحراء«، و»المطرقة الحديدية«، و… وأدوات التنفيذ مجموعات من المرتزقة ال»بدون قضية وطنية« وكل قضيتهم أنهم يقبضون رواتب مميزة، وموعودن بحمل هوية »الجنة الأميركية«، وجنود أميركيون ومجندات أميركيات يتصفون أو يتَّصفن بالشواذ الجنسي والسادية (والدليل على ذلك رؤية مجندة أنثى تدخن سيكارتها بأعصاب باردة وبسمة لا تدل على أنها سوية أمام مناظر أسرى عراقيين عراة بالكامل، ويظهر أن بعضهم قد أجبر ليظهر بمظهر الذي يمارس اللواط مع زملائه…).
أما فلسفة المشروع الأميركي فقد قامت على ما يلي:
-صنعت النخبة الاقتصادية الأميركية إيديولوجيتها الخاصة القائمة على قاعدة »البقاء للأقوى« داخل مجتمعاتها، وراحت تعمل على تصديرها إلى خارج الولايات المتحدة الأميركية.
-ووضع لويس باول الأساس الفكري لما سُمِّي ب»حرب الأفكار« في أوائل السبعينيات، ومضمونها القضاء على كل الأفكار التي تهدد الإيديولوجيا الرأسمالية، فلاقت رواجاً عند وليام كورز الأميركي، الذي أسس مراكز للأبحاث تروِّج لتلك الإيديولوجيا. وكورز هو من المتطرفين الذين ينظرون باحتقار وازدراء تجاه العمال وعلى رأسهم الأميركيين السود، وقد وصف أجداده وأجدادهم قائلاً: »إحدى أفضل الأشياء التي قام بها تجار العبيد بحقكم هي جرّ أجدادكم المكبلين حتى وصلوا بهم إلى هنا«.
-يترأس (ديك تشيني) نائب الرئيس بوش، مجموعة من اليمينيين المتطرفين، وهم يُعرَفون ب(الشتراوسيين)، وتقوم فلسفة (شتراوس) على القيام بحروب موجَّهة ضد الحضارة الإنسانية لبناء حكومة عالمية تتَّصف بالقسوة والإرهاب.
تؤكد مضامين فلسفة المشروع الأميركي على أنها خالية من أية مضامين إنسانية أو أخلاقية في فرض نفسها على طبقات المجتمع الأميركي التي هي دون طبقة النخب الاقتصادية الكبرى. وهي مليئة بالدعوات إلى استخدام القوة بشتى أنواعها، فهي –بلا شك- ستكون عقيدة ملزمة للمؤمنين بها:
-بدءًا من الذين سينفذون مضامينها ابتداءً من الإدارة السياسية العليا (بوش تشيني ورامسفيلد…).
-مروراً بالحلقة الوسيطة (جهاز السي آي إيه، وكبار الضباط في القيادات العليا).
-وصولاً إلى العصا الغليظة الميدانية (صغار الضباط والرتب والجنود والمجندات).
وانسجاماً مع هذا الترتيب الهرمي لمنفذي المشروع نستطيع تفسير وقائع تنفيذ الجرائم بحق الأسرى العراقيين والأسيرات العراقيات في سجن أبي غريب وغيره من السجون.
اعترفت رئيسة سجن أبي غريب، معطوفة على اعترافات الجنود الأميركيين، أن صغار الضباط في السي آي إيه كانوا يصدرون الأوامر لصغار الرتب والمجندين بأن يحولوا حياة الأسرى إلى جحيم. وإذا كنا لا نشك بسادية أولئك المكلفين بالتحقيق والإشراف الإداري والحراس، فهم لا يمكن أن يرتكبوا جرائمهم طوال أشهر امتدت منذ شهر أيار/ مايو من العام 2003م إلى أواسط نيسان من العام 2004م من دون أن تتغير إلى أن كشفتها ضمائر بعض المجندين الذين لم تستطع ضمائرهم أن تتحمل ما كانت ترى عيونهم، وفي أسوأ الحالات سرَّبها متعاطفون مع المعارضة الأميركية لأغراض انتخابية. وكرَّت السبحة بعد أن دق أول ضمير مجند جرس الإنذار، والحكاية والصور أصبحت في متناول جميع البشر.
ولما استوفت مرحلة الترتيب الهرمي الدنيا شروطها أخذت تنتقل المسؤولية إلى المراتب الأخرى، وهنا ابتدأ دور وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، الذي –متحملاً كل المسؤولية (حسب تصريحه)- أعلن أسفه وقدَّم اعتذاره تحت الضغط الشديد الذي تعرَّضت له الإدارة الأميركية من جراء وقوع أكبر جرائم العصر تحت مسؤوليتها. وقد تبيَّن –بعد اعتذار رامسفيلد وتحمله المسؤولية عن تلك الجرائم- أن الأدوار بين رؤوس الإدارة كانت منسَّقة على طريقة التنظيمات المافياوية. تلك الطريقة تقوم بأن يتحمل أحد أعضاء المافيا مسؤوليته عن الجريمة –بالنيابة عن الجميع- على قاعدة وعده بأن المافيا تضع كل ثقلها في سبيل الحصول على براءته.
وما أن مثَّل رامسفيلد دوره بناءً لطلب الإدارة حتى جاء دور أعضاء المافيا الآخرين على الشكل التالي:
-لم يرفض جورج بوش أن يُقيل رامسفيلد من منصبه في وزارة الدفاع فحسب، وإنما أعطاه شهادة حسن سلوك نصها: »إن دونالد رامسفيلد قام بعمله بشكل رائع« أيضاً.
-راح كل من كوندوليزا رايس (مستشارة الأمن القومي)، وبول وولفوويتز (نائب وزير الدفاع)، يروِّجان أن دونالد رامسفيلد هو »أعظم وزير دفاع في تاريخ أميركا«.
مما تقدَّم تكون مافيا »إدارة بوش« قد أتقنت أصول التمثيلية وإذا بعد عدة أيام تكون أكبر جرائم العصر قد أعلنت براءة المافيا المجرمة براءة نفسها بنفسها من على مسرح البيت الأبيض.
وبعد تلك الإيضاحات من يستطيع أن يقول إن جورج بوش كاذب؟
ليس جورج بوش كاذباً بل هو صادق ألف مرة. وقد تمر خدعة »شخصنة « المشروع الأميركي الخبيث على البسطاء، أي أنه يمكن تقديم شخص واحد أو عدة أشخاص كفدية من أجل إنقاذ المشروع، وكان من الممكن أن يتم تقديم رامسفيلد كفدية. وهو على الرغم من أنه أقسم، مع غيره من إدارة مافيا البيت الأبيض، على أنه قد يضحي بنفسه من أجل سلامة المشروع، فقد يكون قد أصابه الضعف في اللحظة الأخيرة من أن يفقد مجداً خطط له منذ سنوات مديدة، فرأى أن سلامته الشخصية أصبحت تواجه خطورة كبيرة، وهذا ما دفع برامسفيلد إلى تمثيل دور الفدية على شرط أن لا تكون جدية، فنال وعداً سرياً بالعمل على الحصول على براءته وإلا فإنه لن يلتزم بتوقيعه لأنه يكون قد هدد بأن »من بعده الطوفان« أو »عليَّ وعلى (أصدقائي) يا رب«.
ولما انتهى رامسفيلد من تنفيذ شق الاتفاق من جانبه، بادر جورج بوش، ومن بعده كوندوليزا رايس وبول وولفوويتز، إلى تنفيذ شق الاتفاق المتعلق بهم، وهو العمل من أجل إعلان براءة رامسفيلد. لكل هذا كان جورج بوش صادقاً عندما أعلن أن »رامسفيلد قام بعمله بشكل رائع« لأنه لو لم يأمر بارتكاب تلك الجرائم لكان »مرتداً« عن إيديولوجيا المشروع الأم القائم بحد ذاته على الحرب والوحشية والإرهاب.
وعلى العالم أن لا ينخدع أبداً بأن ينشغل بمتابعة محاكمات صغار الجنود والضباط، ويعتبر أن القضية تقف عند تلك الحدود، لأن إدارة مافيا الإدارة الأميركية تكون قد استبدلت وحوشاً بوحوش آخرين، تلبية لموجبات تنفيذ المشروع الخبيث. وإلى أن تكتشف وسائل الإعلام، أو تلتقط بعض الضمائر الفردية، جرائم أخرى قد تكون نتيجة استمرار أسلوب القسوة وتحويل حياة العراقيين إلى جحيم هي السياسة التي ستغطيها حملة مواكبة المحاكمات، التي بشِّرت الإدارة أنها ستستهلك وقتاً طويلاً لتُعرَف نتائجها.
أليس هذا واضحاً من الجرائم الكبرى التي ترتكبها قوات الاحتلال في النجف والكوفة وكربلاء؟؟!! وهي تتم وتتابع مساراتها الوحشية تحت دخان تصريح تلاوة فعل الندامة من قبل رامسفيلد، وتصريحات بوش، ومعه كل إدارة المشروع الأميركي الخبيث، من أجل تسليم رامسفيلد صك البراءة.
ومن بعد أن تصل الإدارة كلها إلى شاطئ السلامة، يعمل مسؤولوها متكاتفين متضامنين، من أجل أن يكون بعض صغار الوحوش المنفذين فدية عن أسيادهم، وهو ما تخطط له الإدارة الأميركية لامتصاص النقمة عليها في داخل الولايات المتحدة الأميركية وخارجها.
لن نعفي طوني بلير من المسؤولية إذا لم نذكره في كل مرة نتوجه فيه إلى كشف جرائم الإدارة الأميركية، لأننا عندما نكشف مسؤولية رأس الأفعى نكون قد كشفنا مسؤولية ذنبها.

(29): إلى القمة العربية: لا نريد إصلاحاً على طريقة جورج بوش وضغوطه
14/ 5/ 2004م
يا أولياء نظامنا العربي الرسمي نخاطبكم وأنتم مقبلون على عقد قمة باسمنا، واتخاذ قرارات باسمنا، ومغازلة جورج بوش باسمنا.
لقد أعلنتم أن القمة ستقوم بدراسة مشاريع للإصلاح في هيكلية النظام العربي الرسمي، وبهيكلية الحياة السياسية للمجتمع العربي، وبها تكونون قد استجبتم لغيرة جورج بوش الكاذبة، فهو يريد أن يتاجر بقراراتكم ويضعها في خدمة المعركة الانتخابية القادمة، لينال رضى الأميركيين بمشروع أسياده أصحاب الشركات والمافيات العالمية.
يا سادة النظام العربي الرسمي
لقد دخل مشروع المافيات العالمي، على حصان صهيوني، إلى فلسطين منذ أكثر من نصف قرن. وبشِّرنا أصحابه أن الصهاينة سوف يسهمون في إعادة إعمار الحضارة العربية والإسلامية انطلاقاً من القدس.
لقد استهان العديد من أسلافكم بتلك الدعوة، وصدَّقوها، وأصدقوها القول والعمل. فانتقل الصهاينة من حصتهم التي اغتصبتها شرعية »هيئة الأمم المتحدة« إلى مصر وسوريا والأردن ولبنان، ففتحت بعض العواصم أذرعها مرحبة بحرارة وأقفلت بعض الأبواب وقاومت، أو لا تزال تقاوم، فأقفلت بوابة التوسع وجمَّدتها.
سكت بعض أسلافكم عن اغتصاب فلسطين، في سجون الكيان الجديد، كما هم ساكتون –الآن- عن اغتصاب الماجدة العراقية في سجن أبو غريب.
بعد أن اطمأن بال أصحاب مشروع المافيات الرأسمالية العالمي، وفي القلب منهم مافيات إدارة جورج بوش، إلى أن السكوت العربي عن الاغتصاب، من فلسطين إلى سجون الاحتلال في العراق، هو علامة القبول والرضى، راحوا يضغطون باتجاه الحصول على المزيد من التنازلات المهينة لكرامة العرب وشرفهم وقيمهم، فصدَّروا إلينا مشروع الشرق أوسطية الجديد تحت عناوين الخداع الديموقراطية.
حصل التصدير بطريقة الديبلوماسية الناعمة، ومن الغريب أن يقوم أصحاب المشروع الأميركي الخبيث باستخدام الأيدي الناعمة وهو القائم على القتل والإرهاب والدبابة والقنابل الذكية، وعقارب وأفاعي ومطارق حديدية. أما السبب فلا يخفى على اللبيب، الذي من الإشارة يفهم.
لما أتى كولن باول إلى المنطقة في أيار من العام 2003م حاملاً أوامر وليس مطالب للتفاوض حولها، مبتدئاً بسوريا، كان رسولاً لإمبراطور العالم الجديد، ليقوم بترتيب أوضاع المنطقة بما يتناسب مع مصالح المافيات العالمية. وهدد سوريا قائلاً: إن سوريا تعرف ما عليها أن تفعله. بلَّغ الرسالة وعاد. كما بلَّغ المنظمات الفلسطينية أيضاً قائلاً: إنها تعرف ما عليها أن تفعله.
ولكن حقل كولن باول، استطراداً، لم ينطبق على بيادر الوطن العربي (ونحن كنا نأمل أن يكون بيدراً واحداً، ولكن للأسف). كانت محاضرة باول في مجلس الأمن بليغة في تقديمه البراهين التي عرضها لإثبات أن العراق يمتلك أسلحة الدمار الشامل، واستطراداً أيضاً، شعر بالإحباط قبل شهر من الآن، وشعر بالأسى لأن أجهزة المافيات قد كذبت عليه فاضطر ليكذب على العالم. وتزداد كآبة كولن باول يوماً بعد يوم!!
لكن كآبة كولن باول لم تدفعه إلى قطع حبل الكذب، بل راح يكذب من جديد. أما الآن، فهو يكذب بتسويقه لمشروع الشرق أوسطية تحت أثواب الديموقراطية والحضارة، والدفع بأولياء النظام الرسمي العربي إلى القيام بإصلاحات سياسية محشوَّة بلوز ديموقراطية جورج بوش وجوزها.
قامت الديبلوماسية الأميركية بلبس قفازات من الحرير في التعبير عن رغباتها، بعد أن استخدمت العصا، قبل عام من الآن، لأن المقاومة العراقية كسرت العصا على رؤوس أصحابها. فلا يظنن أولياء النظام العربي الرسمي أن بلاغتهم ونباهتهم وحكمتهم، كما لا يظنن أحد منهم أن كولن باول يستخدم التهذيب –كما رئيسه- لأن حضارتهم في الأخلاق تدفعهم إلى ذلك. ولا يدفعهم الحرص على حقوقنا الديموقراطية هو ما جعلتهم يلبسون القفازات الناعمة بديلاً للعقارب والأفاعي والمطارق.
إن الدفع باتجاه الموافقة على مشاريع الإصلاح، على قاعدة الحرص الأميركي على الديموقراطية، يحمل السم بالدسم. فالديموقراطية الأميركية قائمة على الاغتصاب.
منذ اغتصاب شرف الأمة في فلسطين إلى اغتصابه في العراق، وممارسته بأقذر طريقة عرفتها البشرية في سجن أبو غريب في العراق، تمر الأمة بسلسلة من عمليات الاغتصاب الديموقراطي الأميركي المتواصلة. ونحن فقدنا الإحساس والنظر لما يفتعله التحالف الصهيوني من مخازٍ واعتداءات على العرض والأرض.
لقد انشغلتم يا سادة النظام الرسمي العربي بمشاهدة الدموع في عيون جورج بوش، وتابعه طوني بلير، ولم تنظروا إلى السكين التي يغرسها وحوشه المدربَّة في أجسام الضحايا كل يوم.
لقد حشوتم آذانكم ب»القصدير« لتمتنعوا عن رؤية القتلى والجرحى، كل دقيقة وكل ساعة وكل يوم، في غزة ورفح وطولكرم. في الفالوجة والموصل والبصرة والنجف وكربلاء. وقمتم بفتحها لسماع لغة الحرير الديبلوماسية التي تدعوكم، ليس للقيام بإصلاحات سياسية في أنظمتكم، بل للترويج لبضاعة جورج الفاسدة من أجل تأمين نجاحه في الانتخابات القادمة.
نحن لسنا من الدعاة إلى الشماتة بكم لأنكم ستدرسون الإصلاحات تحت الضغوط الأميركية، ولسنا من المرددين: كان من الواجب عليكم أن تقوموا بتلك الإصلاحات بمبادرات ذاتية قبل أن تبادروا تحت الضغط.
لسنا من المتفائلين بأنكم ستبادرون ذاتياً بعمليات الإصلاح، فللإصلاح طريق طبيعي وحتمي للتغيير. ولسنا من المنخدعين بالحرص الأميركي على الإصلاحات الديموقراطية. لهذا نرفض مشاريع الإصلاح على تلك الطريقة، خاصة تحت الضغوط الأميركية، لأننا نعرف حرصها الكاذب، ونعرف مضامين ديموقراطيتهم القائمة على الاغتصاب.
لهذا يا سادة النظام الرسمي العربي، ممن يحضِّرون أنفسهم لحضور اجتماعات القمة العربية، نقبِّل أياديكم ونقول لكم:
أتركونا أينما شئتم، وكيف أردتم. إسحقونا بدبابات جنازيرها عربية. أجلدونا بكرباج عربي. وكِّلوا بحراستنا أي »بسطار« عربي، وستجدوننا، والله، طائعين.
نرجوكم، ونقبِّل أياديكم، أتركونا نُهان على أيدٍ عربية، وبكلمات بذيئة عربية، ولا تسلِّمونا لديموقراطية جورج بوش. فنحن نرفضها، نرفض جنة »عدنه«، ولن ندخلها على الإطلاق، فناركم أكثر رأفة بنا، وبأطفالنا وبنسائنا وشيوخنا. فجلادنا العربي أرحم بنا من وحوش، و»وحشات (بالإذن من قواعد اللغة)«، جورج بوش، وكولن باول، والساديين من أمثال رامسفيلد وكوندوليزا وبول…
يا سادة النظام الرسمي العربي
كونوا كما تريدون، كما أنتم، بظلمكم ولا عدالتكم، بأجهزة الأمن المحيطة بكم على شرط أن لا يكون بينها جندي ديموقراطي أميركي من أجهزة »السي آي إيه« الديموقراطية… ونرجوكم أن تتخذوا قراراً وحيداً وواحداً، هو أن تشاهدوا كل يوم، ولو لساعة واحدة، مشاهد الديموقراطية الأميركية في فلسطين والعراق.
ومن بعدها فأهلاً بناركم مهما بلغت من القساوة. فنحن وإياكم نستطيع أن نكمل الشوط في الإصلاح على طريقتنا وشروطنا بعيداً عن »جنة عدن جورج بوش« الديموقراطية. لعلَّ الرسالة تصل إلى المسامع ونحن على الدرب سائرون.
***

(30): هل يمكن للمرجعية الشيعية في العراق إعادة توحيد الشيعة على أساس وطني؟
في 20/ 5/ 2004م
يستوقفنا في هذه اللحظة الجدل الدائر على الساحة الشيعية في العراق حول الموقف من الحصار الأميركي للعتبات المقدسة، النجف وكربلاء والكوفة.
بداية لا بُدَّ من القول إن العتبات وقعت منذ العشرين من آذار الماضي، إن لم يكن تحت الاحتلال، فأقله تحت الحصار. نقول هذا على الرغم من أن الآخرين يرون عكس ذلك، أو أنهم لا يريدون تصوير الأمر على حقيقته كي لا يقعوا تحت مرمى الإدانة. وإذا كان الله يغفر لهم هذا اللعب على الحقائق فإنه لن يغفر لهم عندما ادَّعوا وروَّجوا، ويدَّعون ويروِّجون، أن العتبات المقدسة قد شملتها نعمة التحرير!! الخاص »بتحرير العراق«!!. وهم إذا كان لهم من اعتراض على الاحتلال فلأنه لم يضع أمن العتبات المقدسة تحت إمرة الأمن الخاص للميليشيات الشيعية، خاصة تلك المرتبطة بمشاريع إقليمية، ليبنوا فيديراليتهم المذهبية الخاصة، ومن بعدها فليشمل العراق الطوفان.
من نافل القول أن نذكِّر الجاهلين، أو المتجاهلين، بحديث الرسول القائل: »ومن مات دون أرضه شهيد… «. والموت دون الأرض يعني وقوع الاحتلال. والاحتلال يرتبط –حتماً ومن دون أي شك- بعامل خارجي أو بقوة خارجية، وليس –على الإطلاق- بعامل داخلي أو قوة داخلية. فالمواطن الذي يغضَّ الطرف –وهي أدنى شروط الجريمة- عن إقدام قوة خارجية للدخول إلى الأرض الوطنية فهو مدان ومتواطئ، فكيف يكون الأمر عندما يخطط ويعدُّ العدة مع تلك القوة، ويساعدها على ارتكاب جريمة الاحتلال، بل ويشترك في التنفيذ؟!
وبمثل تلك الفعلة توهَّم المتواطئون أن العتبات المقدَّسة لم تُحتلُّ ولم تُحاصر، بل هي قد تحرَّرت وفيه منتهى السذاجة والقصور عن التفكير. لأن المشروع الأميركي الخبيث يريد أن يبتلع العراق كله، بأهله وثرواته، ومن السذاجة أن يفكر الانفصاليون –مذهبيون وعرقيون- أن يوزِّع جورج بوش عليهم قطع جبنة العراق ليبني كل واحد منهم على حصته النظام الذي يحلو له إقامته.
إن من أوصل العتبات المقدسة في جنوب العراق، أو في أي مكان منه، إلى الحالة التي نراها عليه اليوم، هو أطماع وأغراض الحركات الدينية السياسية، وهي لا ترى مصلحة الدين والمؤمنين إلاَّ من خلال أغراضها الضيقة وأهدافها الخاصة.
فليس الملفت للنظر هذه الحقيقة لأنها واضحة لا لبس فيها. أما الملفت للنظر فكان –ولا يزال- يتمثَّل في موقف المرجعيات الدينية، وهي التي من واجبها وبحكم موقعها أن تعمل على الفصل الموضوعي بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة.
لقد كتبنا مقالاً في 29/ 12/ 2003م، تحت عنوان »المرجعية الشيعية في العراق أخذت تفقد أهميتها منذ أن تمزقتها التيارات السياسية الشيعية الأممية«، خاصة تلك التي انحازت –كلياً- إلى نصرة مذهبها، أو افتعلت نصرة المذهب، على حساب نصرة وطنها لتحقيق مآرب سياسية خارجية أغدقت عليها عوامل الدعم المادي والعسكري.
وبدخول تلك التيارات تحت راية الاحتلال، وحماية دباباته، راحت تمارس الضغط على المرجعية الشيعية لتحصل على تغطية تغلِّف بها جريمتها، أو على الأقل تمنع الإدانة عن تلك الجريمة. ولما فشلت في الحصول على الغطاء الشرعي اكتفت بالضغط من أجل الحصول على صمت المرجعية، ولهذا –كما جاء في مقالنا المذكور- »شكَّلت تلك المواقف ضغطاً على المرجعية الشيعية في النجف، فتأثرت بها مواقفها، فبدا –في كثير من الأحيان- وكأن تلك المواقف مشوبة بالغموض والتردد. وهذا ما لم تعان منه تلك المرجعية في أي مرحلة من المراحل. خاصة في كل ما له علاقة بالاحتلال واغتصاب الأرض«.
تزداد مواقف المرجعية الشيعية غموضاً –بعد حصار ما يسميه البعض الخطوط الحمراء- فإذا بها –متعارضة مع التيار الشيعي الذي يقاتل الاحتلال- تفصح عن موقف وسط ينحاز باتجاه السلبية، عندما يساوي بين خطر الاحتلال وخطر المقاتلين العراقيين الشيعة، فيدعوهما معاً إلى الخروج من النجف.
إن رسالتنا إلى المرجعية الشيعية تستند إلى أن عليها أن تتَّخذ الموقف المبدئي أو الشرعي من دون خوف من لومة لائم. والموقف الشرعي يقوم على قاعدة أن »من مات دون أرضه فهو شهيد«. ولأن المرجعية الشيعية لم تكن واضحة وحاسمة –منذ البداية- في اتخاذ فتوى في الجهاد للدفاع عن الأرض والشهادة في سبيلها، أضاعت الكثير من الوقت، وهي اليوم تتحمَّل مسؤولية الضياع الحاصل في الصف الشيعي العراقي إلى الحدود التي ارتفعت فيه أصوات يدل ظاهرها على بداية تجاوز للمرجعية، وقد تتعمق تلك المواقف كلما كان اللا موقف سيد الساحة.
لقد حذَّر مقتدى الصدر، قبل أيام، »فيلق بدر« من القتال إلى جانب الأميركيين. وصرَّح مدير مكتبه في »الناصرية« أن الشيعة –في مقاومة الاحتلال- ليسوا بحاجة إلى فتوى للجهاد.
ودعا السيد علي خامنئي –المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية- قوات الاحتلال الأميركي إلى الخروج من العراق، بعد أن وجد أنه –من خلال الحصار المباشر للنجف وكربلاء- قام بإحراج إيران، فلم يعد بمقدورها أن تصمت أو تحاذر النظر إلى ما يجري في العراق.
وكأنها فرزت حصتها في حدود العتبات المقدَّسة دعت إيران شيعة العالم إلى الدفاع عن الخطوط الحمر هناك، وإبعاد قوات الاحتلال إلى خارجها، وكأن احتلال العراق لا يعنيها في شيء. وهذا هو حقيقة موقف النظام فيها، لأنه لو أردوا أن يدرأ خطر »الشيطان الأكبر« عن إيران لكان وقف بشجاعة ضد مبدأ الاحتلال –على الأقل- إذا لم يكن المطلوب منهم مقاومته.
وقامت تظاهرات في طهران، أمام السفارة البريطانية، احتجاجاً على حصار العتبات المقدسة في العراق، بعد أن سكتوا على احتلاله طويلاً.
ودعا السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله في لبنان –استجابة للدعوة الإيرانية وحسب شروطها وأغراضها- إلى تظاهرة المساندة للشعب العراقي »المظلوم«. وأسبابه أن الخطوط الحمر بلغت من اللمعان أكثر مما تطيقه قوة الاحتمال في الإحراج الذي سبَّبته له قوات الاحتلال الأميركي.
أما »المجلس الأعلى للثورة الإسلامية« في العراق، بقيادة عبد العزيز الحكيم؛ وكذلك »حزب الدعوة الإسلامي«، بقيادة ابراهيم الجعفري، فدعيا إلى الحوار مع المحتل على قاعدة الابتعاد إلى خارج حدود العتبات المقدسة. وهو الموقف ذاته الذي دعا إليه »الحزب الإسلامي«، بقيادة محسن عبد الحميد لمعالجة حصار الفلوجة. فليس من المستغرب أن تقبل التيارات الدينية السياسية وترضى بقسمة »الوطن« لأنها ليست الأم الحقيقية التي تهب ولدها للأم المزيفة منعاً لتقسيمه بينهما كما حكم القاضي الذكي ليعرف الأم الحقيقية من الأم المزيفة.
وأخيراً طلب آية الله علي السيستاني، المرجع الشيعي الأعلى في النجف، من قوات الاحتلال الأميركي، ومعها على قدم المساواة »جيش المهدي« الخروج من النجف لكي تتجنَّب المدينة الأخطار.
فإذا كان الموقف المبدئي أن تطلب المرجعية الشيعية من قوات الاحتلال الانسحاب من الأرض، فما هو المبرر الذي تطلب فيه من أهل الأرض الخروج منها؟
هنا نرى أن ما تطلبه المرجعية –تعبيراً عن مواقف التيارات العميلة للاحتلال- ليس خروج الأهل من النجف، بل المطلوب هو خروج الضمير المقاوم الذي بدأ يولد، (وسوف لن تتأخر تراكماته لكي تشكل قفزة نوعية)، لأنه متى خرج الضمير المقاوم يستطيع المتواطئون مع الاحتلال أن يفصَّلوا قميص العتبات المقدسة كما يشاؤون وكل منهم يريد تفصيله على مقاساته وليس على المقاييس المبدئية العامة. فقد أثبتت التلوينات في المواقف والتواءاتها أن المقصود ليس حماية العتبات المقدسة بل الخروج من السيطرة عليها بالهيمنة بأكثر ما يمكن من المصالح الذاتية.
وهل هذا الموقف إلاَّ شبيه بموقف التيارات الدينية السياسية العراقية –سنية وشيعية- التي تساوي بين قوات الاحتلال (على الرغم من أنها دخلت على متن دباباته) والمقاومة العراقية عندما تعتبر أنهما يهددان أمن العراق؟
من خلال استعراض عناوين مواقف القوى الشيعية الفاعلة على الأرض، نرى أن ما يجمعها هو اللا موقف وعدم الوضوح، كما تغلِّفها الكثير من التراجعات التكتيكية في الموقف من الاحتلال والمقاومة. وهنا لا بُدَّ من الإشارة إلى أن من يهون عليه تقسيم الوطن بين إثنياته الدينية، يهون عليه تقسيمه بين التيارات التي تنتمي إلى المذهب الواحد. وهو ما تبرهن عليه المواقف المتفاوتة والمتناقضة بين أبناء المذهب الشيعي الواحد حول موضوع العتبات المقدسة.
لقد ضاع الموقف الواحد بين تموجات وتعدديات كان سببها تكاثر المرجعيات الدينية وتضارب مواقفها، وهذا ليس بالغريب ولا المستهجن، فإن تعدد المصالح والمآرب الفئوية ولَّدت تعددية في المرجعيات، ولن يجمعها أي شيء إلاَّ العودة إلى تحكيم المبادئ الموضوعية والقيم السامية تحت ظل المرجعية الأم.
حتى وإن كانت تلك المبادئ من الصنف التي يحفظها الإنسان عن ظهر قلب، يمكننا أن نضيف تكراراً آخر، والمقصود منه البناء عليه لتشكيل دعوة تساعد المرجعية الشيعية العراقية، وليس غيرها، إلى إعادة تشكيل الموقف الواحد مما يجري على أرض العراق.
أولاً: إن الدفاع عن الأرض الوطنية قيمة عليا. تتوحَّد حوله الدعوات الدينية والمدنية، على قاعدة أن احتلال أي شبر من الأرض هو احتلال للأرض كلها. وعلى كل المواطنين أن يشاركوا –على قدم المساواة- في تحرير ذلك الشبر.
ثانياً: لا يجوز أن ينتظر أحد للدفاع عن أرضه قراراً بالقتال أو فتوى بالجهاد. فالدفاع عن القيم العليا والجهاد من أجلها لا يحتاج إلى قرار رسمي أو فتوى.
ثالثاً: كل من يطلق رصاصة ضد الاحتلال –في أي زمان أو مكان- هو مقاوم وعمله مشروع مهما كان انتماؤه الديني أو السياسي. أما من لا يمتلك الرصاصة فعليه أن يرفض الاحتلال بقلبه أو لسانه أو تعبير عيونه، انتظاراً للحصول على عدة القتال العسكرية. ومن لم يستطع القتال فعليه أن يسهم في تأمين الرصاصة للمقاتلين. أو تسهيل حركتهم وإيوائهم. ومن لم يستطع فعل أي مما ذكرنا فعليه أن يمنع الوشاية بهم للعدو المحتل.
رابعاً: كل العراقيين المشاركين في الاحتلال بالدعوة أو التخطيط أو التنفيذ أو التعامل في حفظ أمن قواته والتغطية على نهبه الثروات والتعمية السياسية عن أهدافه، أو الداعين للحوار معه على قاعدة الوهم بأنه سيتسجيب لتسليمهم السيادة، أصبحوا من المدانين بصدقيتهم ومصداقيتهم، خاصة أولئك الذين احتلوا المناصب والمواقع والكراسي، وأولئك الذين راحوا يقتلون أبناء وطنهم، أو تسليمهم للمحتلين، تحت ذريعة أنهم يقاومون الاحتلال أو يرفضونه.
خامساً: أما الذين شرَّعوا وسيلة الحوار مع الاحتلال على غير قاعدة »التفاوض من أجل خروج آخر جندي للاحتلال فوراً« فهم فقدوا المصداقية –عندما غلَّبوا التكتيكي على الاستراتيجي، أي المصلحي على المبدئي، أي ما هو مخالف لمبادئ الشرع على المبادئ الشرعية الأساسية- في إعطاء رأي سليم وصادق يصب في مصلحة توحيد الموقف والرؤية، اللهم إلاَّ إذا نقدوا مواقفهم السابقة وتراجعوا عنها وتابوا إلى ضمائرهم، تلك المواقف التي لم تكن تستند إلى عمق شرعي ومبدأي وقانوني.
سادساً: أما المستفيدون من إغراءات الإسناد الذي قدَّمته لهم بعض الجهات المساندة للاحتلال –بشكل أو بآخر- فليسوا فأصبحوا من المشكوك في نزاهتهم وفي شهادتهم وتحكيمهم، إلاَّ إذا أثبتوا أنهم اكتشفوا خطأهم، وأن مواقفهم لا تلوثها الغايات الشخصية والانتهازية من أموال أو مناصب أو خدمة لأغراض خارجية مهما كانت أسبابها أو دوافعها.
سابعاً: أن يثبت الذين عليهم أن ينخرطوا في ورشة توحيد الموقف أنه ليس لديهم دوافع فئوية، مذهبية أو عرقية، بل دوافع وطنية سليمة.
لهذا لن يصل الشيعة، باستثناء الذين يكيلون المواقف على قواعد وطنية جامعة، إلى وحدة في الموقف، إذا ما ظلَّت دوافع تياراتهم تتشرذم لصالح هذه أو تلك من القوى التي تدفع الإسناد من أجل الحصول على فوائد وعائدات تفوق كثيراً ما تدفعه.
وفوق ذلك كله، ولأن المرجعية هي المنزَّهة عن الأغراض والأوطار، عليها أن تخرج من موقف اللاموقف، وتشهر سيف المبدأ كمكيال تقيس عليه أحكامها ومواقفها. فالوطن العراقي واقع تحت الاحتلال، فمن غير المنطق أن نصوِّر للرأي العام وكأنَّ المدن المقدسة ليست محتلَّة طالما ليست قوات الاحتلال موجودة في داخلها. ومن الخطل أن نصوِّر أن العتبات المقدسة خط أحمر بينما الاحتلال تجاوز كل الخطوط الحمر القانونية والشرعية والأخلاقية عندما استباح الوطن من أقصاه إلى أقصاه.
من غير المنطقي أن ندعو من يطلق الرصاصة على الاحتلال إلى الخروج منها في الوقت الذي لا نرشق فيه معاونوه وحماة أمنه بوردة. أو هل يتوهَّم الداعون إلى التهدئة غير أن العتبات المقدَّسة قد دنسها الاحتلال منذ أن وطأت قدماه »أم قصر«؟
فإذا كانت غيرة الداعين إلى التهدئة قد ثارت عندما شعروا بأن سلامتهم الشخصية قد أصبحت مهدَّدة فكيف يمكنهم أن يتولوا شؤون السلامة العامة؟ وهل من المنطقي أن تلوم من يدافع عن أرضه بينما المتآمر عليها يبقى بمنجى عن لومة اللائمين؟
***


(31): رد على مقال للدكتور عصام نعمان
29/ 5/ 2004م
بتاريخ 23/ 5/ 2004م، نشر الدكتور عصام نعمان في موقع »التجديد العربي« مقالاً تحت عنوان »العراق بين الفوضى وتمديد الاحتلال هل من خيار ثالث؟«. ومن منطلقات المحبة والاحترام له، واستناداً إلى الفائدة المرجوة من الحوار معه، جئنا بهذا الرد على مقالته المذكورة.
بداية لا بُدَّ من أن نبيِّن للقارئ أن الدكتور نعمان يحتل عدداً من المواقع المميزة. فله كرسيه الوطني والقومي، كما كرسيه السياسي والقانوني. ففي ردنا على مقاله نحيِّد موقعه الوطني والقومي لحرصنا، من منطلق الاعتراف بالجميل، لأن كتاباته يحدوها خدمة الفكرين الوطني والقومي، فنحن نعترف أن الهدف من كتابة مقاله يستند إلى مصلحة قومية صادقة. ولهذا سنحصر ردنا في الجانبين السياسي والقانوني.
لا يمكن أن يقع الدكتور نعمان في خطأ سياسي بحجم ما بدأ به مقاله عندما حصر اشتداد أسباب الفوضى في العراق باغتيال عز الدين سليم، الرئيس الدوري لشهر أيار، ل»مجلس الحكم الانتقالي« في العراق. وحول ذلك بدأ مقاله قالاً: »مع إغتيال الرئيس الدوري لمجلس الحكم الانتقالي السيد عز الدين سليم، انزلق العراق إلى حضيض متدنٍ من الفوضى والفلتان الأمني«، بينما الدقة تثبت أن الفوضى والفلتان الأمني كانا منذ أن كان الاحتلال الأميركي للعراق، فاغتيال عز الدين سليم ليست إلاَّ تفصيل أمني من عشرات ألوف التفصيلات، لذلك لا يقدم اغتياله من واقع العراق الأمني أو يؤخر شيئاً. فمصير عز الدين ليس شاذاً لأن كل المشاركين في مجلس الحكم وُضِعوا على لوائح استهداف المقاومة العراقية منذ البيان الأول الصادر عن قيادة المقاومة العراقية الصادر في 24/ 5/ 2004م، (راجع جريدة القدس العربي – لندن).
لم يكن اغتيال عز الدين سليم سبباً أقنع زملاءه في المجلس بطلب قوات حماية دولية على قاعدة: »ما دامت قوات التحالف عاجزة عن توفير الأمن والنظام«، »، فلماذا لا نطالب بحماية دولية؟«. وإنما أعضاء المجلس يعرفون أنهم لا يحق لهم بأن يطالبوا بأي شيء، لأن من هو مكلَّف بالطلب عنهم هو حاميهم وراعيهم وحراميهم الأميركي. فالطلب الذي ينسبه الدكتور نعمان إلى أعضاء المجلس ليس واقعياً على الإطلاق. كما لا يجوز على الإطلاق أن نضع أولئك الأعضاء في أية دائرة من دوائر »حسن النية« أو ننسب إليهم أي فضل من فضائل المطالبة بالشرعية الدولية لأنهم لو أرادوها فليس لمصلحة العراق. وهم لو كانوا يعطون أي وزن لها لما ركبوا على دبابات الاحتلال الذي دخل العراق رغماً عن أنف تلك الشرعية. فالأولى –ونحن لا نريد أن نعطي دروساً في السياسة للدكتور نعمان- أن لا يُعطى أولئك العملاء أية أسباب تخفيفية في الحكم عليهم لأنهم عندما عادوا إلى العراق على دبابات الاحتلال لم يعودوا وهم من »حسني النية«، بل عادوا وهم يعرفون مدى فداحة الثمن الذي سيدفعه وطنهم من فوضى وتخريب وفلتان أمني ونهب لثرواته واستيلاءً على سيادته في السياسة والنهب الاقتصادي. لهذا فهم خارج كل معادلة ذات علاقة بالتفكير بالبديل للاحتلال، تمهيداً وتفاوضاً وتشكيلاً. أما السبب فيعود إلى ما يحكم عليهم القانون المتعلق بالتآمر على أمن الدولة وسلامتها.
ليس الخوف من »الفوضى المتطورة الى لون من ألوان "اللبننة«" ، التي »لم تبقَ مجرد إحتمال« هو ما على العراقيين أن يأخذوه في الحسبان من أجل طلب قوات دولية، بل إن مطلب العراقيين يجب أن ينصب على خروج الاحتلال أولاً، لأنه لا خوف على »لبننة« العراق، ففي الوقت الذي يخرج فيه الاحتلال ستخرج معه الميليشيات المتسترة تحت عباءات دينية مذهبية أو عباءات عرقية، وتلك الميليشيات وحدها تشكل العامل الوحيد الذي يمكن أن يسهم في »لبننة« العراق. فمن بعد خروجهم –وهم سيخرجون مع الاحتلال حتماً- لا خوف على العراق من الفتنة.
فإذا كان الأمر واضحاً: رفض لأي دور لأعضاء »مجلس الحكم«، مجتمعين أو منفردين (إلاَّ من تاب منهم قبل فوات الأوان)، في التخطيط لمستقبل العراق. وإذا كان واضحاً أن التخويف من فتنة ليس واقعياً. فمن الممكن الاتفاق حول كل الأدوار التي يمكن أن يلعبها الوطنيون العراقيون الذين لم يتلَّوثوا بأية علاقة مع الاحتلال.
يستطرد الدكتور نعمان في مقاله مقترحاً عدة من البنود التي يحسب أنها تسهم في وضع مشاريع حلول للقضية العراقية، بعد أن يحصل المجتمع الدولي على ضمانات أميركية بإنهاء الاحتلال حسب جدول زمني واضح، يمهِّد الدكتور نعمان لاقتراحاته بالقول: »ليس من المغالاة في شيء القول إن المقاومة العراقية نجحت على صعيد الكفاح المسلح، لكنها لم تفلح على صعيد الكفاح السياسي«. وهنا لا بُدَّ من وقفة أمام الجزء الثاني من العبارة، وهو الحكم الذي تساوى بإطلاقه عدد من الكتَّاب العرب على أن المقاومة العراقية لا تمتلك منهجاً سياسياً، وكأنهم –من منطلق حسن النية- يوحون بأن العقل الذي أسَّس للمقاومة العظيمة عقل مبدع في التخطيط العسكري لكنه عقل عقيم بالسياسة.
نحن لا نريد أن نبخس الناقدين للمقاومة، حول غياب منهج سياسي يساعدها على الرؤية الاستراتيجية، حقهم وغيرتهم. ولا أن نبالغ في نباهة قيادة المقاومة حول أنها لم تغفل هذا الجانب الأساسي. واستناداً إليه نود أن نلفت النظر إلى ثلاثة أمور حول علاقة المقاومة بالسياسة والإبداع السياسي:
أولاً: لم يخطط للمقاومة التي فاقت نتائجها كل التصورات عقل سياسي قاصر. بل كان وراء التخطيط لتلك المقاومة إيديولوجيا قومية ثورية بشِّر بها حزب البعث العربي الاشتراكي منذ أوائل الأربعينيات من القرن العشرين، وبلغت حتى الآن أكثر من ستين عاماً من عمرها. وتربَّت على أياديها ملايين من العرب. وتلك الإيديولوجيا واضحة تماماً من حيث تحديد أولوياتها في مقاومة الصهيونية والاستعمار على قاعدة »الكفاح الشعبي المسلح«. ولأن للحزب إيديولوجيا علمانية مميَّزة فهي تستند في ثورتها للتحرر إلى المواطنية وليس لأي انتماء آخر. ففيها ما يطمئن كل الإثنيات الدينية إلاَّ الذين لا يريدون أن يطمئنوا إلاَّ على قاعدة الانتماء إلى المذهب. وفي تلك الإيديولوجيا ما يطمئن كل الإثنيات العراقية إلاَّ الذين أخفوا أهدافهم في الانفصال عن الوطنية العراقية.
ثانياً: ولخصوصية المرحلة (مرحلة التحرر من الاحتلال)، وقبل أن تمر خمسة أشهر على الاحتلال أعلنت قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق – قيادة المقاومة والتحرير- بتاريخ 9/ 9/ 2003م، »المنهج السياسي الاستراتيجي« (وهو منشور في مواقع الأنترنت التالية: موقع القوى الشعبية العربية – المحرر، وشبكة البصرة – نت، وكتاب المقاومة الوطنية العراقية: معركة الحسم ضد الأمركة…). وفي المنهج أكَّدت قيادة الحزب والمقاومة على كل الثوابت الاستراتيجية والتكتيكية ذات العلاقة بخصوصيات المقاومة العراقية، ومنها أسس العلاقات الجبهوية لكل من يريد أن يقاوم الاحتلال على الطريقة التي يبرع فيها أو تلك التي تقع في مدى إمكانياته، من دون النظر إلى لونه أو جنسه، شاملاً كل الأطياف العراقية، من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب.
كنا نتمنى من كل الناقدين المخلصين أن يقرأوا ذلك المنهج المعلن –منذ أكثر ثمانية أشهر منذ الآن- قبل الحكم على عقل قيادة المقاومة بعدم »الفلاح« السياسي. وكنا نتمنى أن ينقدوا قيادة المقاومة على شيء وضعته، وقد يكون فيه عدد من الأخطاء. لكن أن تُحاسَب على قاعدة أنها غائبة عن مدى أهمية البعد السياسي فهذا ما هو إلاَّ ظلم. ولا يبرره أن الناقد لا يعلم بوجود نص سياسي ذي علاقة، فعليه أن يسأل أو يبحث. ولهذا لنا كل الرجاء من الدكتور نعمان –تخصيصاً- أن يفيدنا عن ملاحظاته حول ذلك المنهج.
ثالثاً: منذ أكثر من عشرة شهور، أسَّست قيادة المقاومة العراقية مجلساً جبهوياً للمقاومة يُدعى »المجلس الوطني للمقاومة العراقية ليضم كتائب المجاهدين من المناضلين البعثيين ورجال القوات المسلحة وأبطال أجهزة الأمن القومي، ومعهم -وبكل تلاحم- عشرات الآلاف من الوطنيين العراقيين الرافضين لمنطق الاحتلال والخنوع للمستعمر. وانخرط في المجلس شيوخ العشائر النجباء ورجال الدين المجاهدين وعدد من القوى الإسلامية لكي يكون إطاراً تنظيمياً يقود عملية المقاومة، وينظم برامجها وعملياتها تبعاً لتطور الموقف العسكري والوضع السياسي«.
رابعاً: أعلن المجلس برنامجه السياسي، بتاريخ 1/ 4/ 2004م، والذي يحدد في إعلانه الخطوات التالية:
1-رفض مطلق وشامل لمنطق الاحتلال وأدواته وعناصره.
2-استمرار المقاومة بكل أشكالها المسلحة.
3-بمجرد خروج المحتلين الغزاة، وتحرير العراق، تعود الدولة بكل مؤسساتها الوطنية والسيادية والخدمية، وعودة الجيش كمؤسسة وطنية إلى سابق عهده، أي على ما كانت عليه الأمور قبل يوم 9/4/2003.
4-سيعلن المجلس الوطني -في الوقت المناسب- عن تشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية لمدة سنتين، تقوم بالمهام التالية: (الدعوة خلال سنتين إلى انتخابات جديدة لمجلس وطني جديد بإشراف جامعة الدول العربية والمراقبين الدوليين والهيئات الدولية المحترمة والمهتمة بالديمقراطية). و(تشكيل مجلس شورى من 150 عضواً من آهل الرأي والحكمة). و(انتخاب رئيس للجمهورية ونائب له لمدة خمس سنوات. ويعرض اسم الرئيس على الشعب في استفتاء عام). و(إطلاق الحريات السياسية بموجب قانون منظم لها). و(تشكيل مجلس أعلى لحقوق الإنسان من الشخصيات المعروفة باستقامتها ونزاهتها الوطنية). و(تطوير قانون الحكم الذاتي لكردستان العراق بما يضمن الحقوق القومية والثقافية لإقليم كردستان). وهنا نلفت النظر إلى أن نص البيان الكامل قد نُشر في (1/ 4/ 2004م: القدس العربي: لندن).
إن وجود مثل هذه الوثيقة بين أيدي القراء يمكن لأي كان أن يبدي رأيه فيها، وخدمة للمقاومة يمكنه نشر ما يريد من ملاحظات، ولا نحسب أن آذان قيادة المقاومة إلاَّ صاغية لكل ملاحظة تصدر عن كل المخلصين والصادقين.
أما حول تفاصيل بعض الاقتراحات التي قدَّمها الدكتور نعمان في مقاله، فلنا بعض الملاحظات:
أولاً: حول اقتراحه بالمساواة بين الاحتلال وعملائه، ونظام حزب البعث السابق والمتعاونين، أي كما جاء في نص الدكتور نعمان: تشكيل حكومة عراقية »من شخصيات وطنية كفؤة يجمع أعضاؤها بين صفتين: استقلالهم التام عن إدارة الاحتلال وعدم تعاونهم مع قواته وأجهزته، واستقلالهم التام عن النظام السابق وعدم تعاونهم معه ماضياً أو حاضراً«.
لنا حول هذا النص ملاحظات أخلاقية وسياسية وقانونية:
الملاحظات الأخلاقية: ينال منا العجب كل منال من أن يساوي أحد بين الاحتلال وعملائه من العراقيين مع أي عراقي حتى ولو كان من المحايدين (الذين كفوا المقاومين شرهم)، فكيف يكون الأمر لو جرت المساواة بين الاحتلال وعملائه من جهة والمقاومين للاحتلال (على اختلاف درجاتهم) من جهة أخرى؟؟!!
لا يمكننا أن نقبل تلك المساواة، فلكل عراقي قاوم الاحتلال بقلبه حق في المشاركة بحكم بلده. ومرفوض كل قول خلاف ذلك من أية جهة أتى أو من أية أغراض صدر.
من دون التخصيص ولنبق بالتعميم: أخلاقياً لا يجوز انتزاع حق المقاوم من المشاركة في تقرير مصير بلده تحت أية ذريعة كانت، فبتسلسل الحقوق تكون الأولوية للذي يقدِّم أكثر في معركة التحرير، ويتم التسلسل بالحقوق درجة فدرجة.
لقد أقرَّ بهذا المبدأ الأخلاقي كل الفصائل والقوى العراقية المقاومة ووضعوه على رأس أولوياتهم لمرحلة ما بعد التحرير. ومن الأمثلة على ذلك: لقد جاء في البيان السياسي ل»المجلس الوطني الموحد للمقاومة العراقية - الجناح السياسي«، ما يلي: »وليعلم الجميع أن من يتصدى لمهمة مقاومة المحتل، وطرده، وتحرير العراق، هو الأجدر على قيادة العراق وإعادة بنائه وليس في العراق مكان للخونة واللصوص والمرتزقة«.
الملاحظات القانونية: لقد اتَّخذ الدكتور نعمان –ويمكن الإشارة إلى أنه ليس الوحيد الذي أصدر حكماً غيابياً بحق النظام السابق وأعضائه- الحكم التالي: »إحياء وإعادة بناء القوات المسلحة العراقية من ضباط وصفوف ضباط من غير القيادات التي تعاونت مع النظام السابق، أو التي شابت ممارستها مخالفات وجرائم تكون مدعاة لملاحقة قضائية مبنية على قرارات تصدرها لجنة مستقلة من قضاة من أهل الكفاية والاستقلال والنزاهة، على أن تقترن بموافقة الحكومة الانتقالية. الأمر نفسه يمكن تطبيقه على سائر موظفي الدولة، لا سيما أفراد الجهاز التعليمي«.
إن عقدة ما يحلو للبعض أن يسمُّوه »جرائم« النظام السابق ليست أكثر من عقدة نفسية أسهمت بترويجها: تكبيراً وتضخيماً وتكراراً شهود يقف على رأسهم كل أجهزة المخابرات الأميركية وغيرها. وهي ليست مسألة قانونية أو أخلاقية أو سياسية. أما لو كانت مبنية على أسس قانونية، فلتلك الأسس قواعد ومبادئ إذا تمَّ تجاوزها تصب في دائرة اللا عدالة. ولأن الدكتور نعمان من المتخصصين في القانون، وهو الذي تسلَّم الكثير من الدعاوى للدفاع عن حقوق الناس، ويعرف مبادئ العدالة وحقوق المواطن، يأتي على رأسها المبدأ الأخلاقي القانوني »المتهم بريء حتى تثبت إدانته«. أما قاعدة »المتهم مدان حتى تثبت براءته« فهي قاعدة لا علاقة لها بالأسس الأخلاقية ولا القانونية. ولما كان من اعتبرهم متهمين لم تصدر الإدانة بحقهم، فعلى قاعدة العدالة الأساسية »كل متهم بريء حتى تثبت إدانته« لا يمكن حرمان أي واحد من الذين استثناهم الدكتور نعمان من حق المشاركة في بناء عراق ما بعد التحرير شاملاً حقوقه المدنية والسياسية والمعيشية
لقد حاكم كثير من السياسيين العرب، ونقولها بكل أسف، نظام حزب البعث في العراق، على قواعد مسيئة للعدالة. ونستدل على لا عدالتها من أنها لا تستند إلى »الشهود العدول« فحسب، بل إنهم من الأعداء والكذَبَة واللصوص والمتواطئين مع أعداء وطنهم وأمتهم أيضاً. وإذا انتفت عن الشاهد صفة »العدل والصدق«، فمن غير الجائز أن يتخذ القاضي حكماً بناء على شهادته. (مع الإذن من الدكتور لأنه أستاذ في القانون، ونحن لا نريد أن نضع أنفسنا في موقع العارف أكثر منه، لكنه يسمح لنا بأن نقدم ورقة دفاع على مقدار فهمنا للأسس القانونية).
عندما أقصى الدكتور نعمان كل البعثيين أو الذين تعاونوا معهم عن حقهم في المشاركة بالنظام السياسي في مرحلة ما بعد التحرير يكون قد خالف أقل القواعد والمبادئ القانونية. وهو قام بإصدار حكمه في إقصائهم بناء على شهادة التالية مواصفاتهم:
-المخابرات المركزية الأميركية والبريطانية والصهيونية والإيرانية.
-أقطاب المعارضة العراقية، الذين عادوا إلى العراق على دبابات الاحتلال. ويعرف الدكتور نعمان أن عدداً منهم تقوم المخابرات الأميركية بمحاكمتهم سياسياً بسبب المعلومات الكاذبة التي قدموها لمكاتب الاستخبارات والدولة الأميركية. أما من جانب أقطاب المعارضة العراقية الذين أثبتوا مصداقية وطنيتهم، فقد أعلنوا –بدون استثناء- أن من يحق له حكم العراق هم المقاومون كل حسب جهده. وأجَّلوا وضع حلول لما اعتبروه أخطاء حصلت في الماضي إلى مرحلة ما بعد التحرير، حيث تتم معالجتها –حينذاك- على قاعدة »المتهم بريء حتى تثبت إدانته«.
لذا فليسمح لنا الدكتور نعمان بأن نقول في الشكل: إن قراره باستثناء البعثيين، أو حتى من قام بمصافحتهم أو النظر في عيونهم –أي »التي تعاونت مع النظام السابق« كما يعبِّر عنهم الدكتور نعمان- قرار مردود بالشكل. وإعادته بالشكل يعفينا من متابعة إبداء الأسباب الأخرى. لأن تلك المحاكمة حق من حقوق »النظام والمعارضة«: »النظام« الذي أثبت جدارته بقيادة، المقاومة و»المعارضة« التي أثبتت وطنيتها وشرعيتها من خلال انحيازها إلى الدفاع عن السيادة الوطنية والأمن الوطني العراقي والقومي العربي.
لكن لا يفوتنا أن نذكِّر بأن البعثيين ومن تعاون معهم هم بالملايين، تلك المسألة التي لم يلتفت إليها بول بريمر عندما أصدر حكمين بالإعدام على البعثيين والذين تعاونوا معهم فأصدر »فرمان« (اجتثاث البعثيين من المجتمع العراقي)، وفرمانات (حل الجيش العراقي) و( حل القطاع الوظيفي) ومنه العلماء وأساتذة الجامعات. تلك الفرمانات قامت على قاعدة منع البعثيين من المشاركة في إعادة بناء »القوات المسلحة«، وبناء المؤسسات المدنية ومنها المؤسسات التعليمية. فواجه بول بريمر عواقب الفرمانات العشوائية التي أصدرها بحق النظام السابق وكل من تعاون معه. وهنا لم نكن نريد للدكتور نعمان أن يدعو –وهو الدقيق بعلميته واختياره للمصطلحات الدقيقة- أن يقع في مطب »حسن النية«، عندما وقع في خطأ تعميم حكم جرَّبته قيادة الاحتلال في حق »النظام السابق وكل من تعاون معه« من ضباط ولم يستثن من ذلك أساتذة الجامعات.
الملاحظات السياسية: حزب البعث العربي الاشتراكي، حزب مليوني في العراق. ومن غير المسموح لأن يقول أحد بأن الحزب المليوني تم تشكيله على قاعدة الحصول على امتيازات السلطة. مع تأكيدنا على كذب مصداقية هذا القول، والدكتور نعمان يعرف تماماً أن البعثيين مناضلين ولن يكون سبب انتمائهم بسبب سلطة ولا نعمها. والمقياس حول ذلك يعرف أن البعثيين انتسبوا إلى الحزب قيل السلطة وبعدها، ويعلم تماماً أن ليس البعثيين –من المحيط إلى الخليج- انتسبوا إلى البعث طمعاً بمكاسب السلطة.
وحتى لو انتسب قسم من العراقيين إلى الحزب طمعاً بالسلطة فهي ليست قاعدة وإنما هي شواذات القاعدة، ولا يمكن القياس على الشواذ. أو إصدار الأحكام كلها بناء لحالات شاذة.
ما نريد أن نقوله، هنا، إن الحزب المليوني، إذا صحَّ أن تسقط منه الملايين، فلن تسقط صفته المليونية. فسيبقى –بعد إسقاط ما تشاء- أكبر تكتل حزبي على الساحة العراقية، فهل من الديموقراطية أن يصدر حكم –هكذا بإعدام حق الملايين من المواطنين- ومنعهم من حقوقهم السياسية؟.
لا يقف الأمر عند تلك الحدود، بل أن يصدر أمر بإعدام حقوقهم الوظيفية (لقمة عيشهم ومصدر رزقهم) ». الأمر نفسه يمكن تطبيقه على سائر موظفي الدولة، لا سيما أفراد الجهاز التعليمي«. وهنا لا بُدَّ من رفع علامات التعجب والاستفهام لنقول: هل من المعقول أن تبلغ العدالة إلى هذا المستوى الراقي؟ وهل من المعقول أن يصل الرقي بالديموقراطية هذا المبلغ؟!!
على كل حال، اعتذاراً من الدكتور نعمان، وتوضيحاً لما يقوم البعض بتجهيله حول هوية المقاومة الوطنية العراقية، نطلب منهم الحكم بعدالة وموضوعية حول تلك الهوية. وقبل أن نلزمهم بتعريف محدد، نحيلهم إلى كل الوثائق السياسية والعسكرية التي تصدرها كل الفصائل المقاتلة بالبندقية أو بالكلمة حتى لا ندع البعض يسلب حق البعض الآخر. وعليهم أن يحددوا هوية واضحة للمقاومة غير العناوين العامة والعائمة حتى نستطيع أن نحكم بموضوعية، وأن نحاور بموضوعية، وأن نتَّفق حول أسس وقواعد تسهم في رفد المقاومة العراقية بالرأي السليم والموضوعي.
نقول هذا، مما كنا لا نريد أن نشير إليه خوفاً من الوقوع في الفئوية التي قد تلهي الفصائل المقاومة عن رسالتها ومهمتها وأهدافها، أو تسرق بعض الوقت أو الجهد منها، الذي يجب أن ينصبَّ كله باتجاه قتال العدو الأميركي المحتل. لكن أن يقوم البعض بتجهيل دور حزب البعث في مقاومة كان صانعها من الألف إلى الياء، اختارت قياداته الشهادة والأسر أو الاختباء والتشريد والجوع والألم والعذاب لأنفسهم ولعائلاتهم، فهذا –والله- منتهى الظلم واللا عدالة.
لقد كبَّروا أخطاء البعثيين وقياداتهم وأصدروا بحقهم الأحكام بتعسف، وها هم اليوم يريدون أن يطمسوا دورهم الرائد والأكثر شرفاً في تاريخ العالم كله، فهو تصرف ليس أقل ديكتاتورية من ديكتاتوريات الأنظمة.
لم يحاكموا تجربة البعث في السلطة بعدالة، وهم لا يريدون أن ينظروا إلى تجربته في المقاومة بعدالة. يريدون أن يسلبوا المناضلين البعثيين من نضالهم تحت ذريعة أن أي إعلان لدور البعث في المقاومة فيه ما يخيف العراقيين!!!
بالعودة إلى قرارات بول بريمر، الحاكم المدني الأميركي للعراق، نرى أنها تركِّز على اجتثاث البعث: فلسفة وحدوية اشتراكية مقاومة للاستعمار، ومشروعاً نهضوياً عربياً ينقل الأمة من الصف المستهلك إلى الصف المنتج…. فاجتثاث البعث في المصطلح الأميركي، وهو أكثر دقة من مصطلح كثير من الساسة والمثقفين والمفكرين العرب، يعني اجتثاث فكره وتطبيقاته العملية معاً.
لقد انقاد من أشرنا إليهم من العرب إلى تسطيح المصطلح والأهداف الأميركية من غزو العراق، و»غمَّسوا« من خارج »صحن الحقيقة« عندما أقدموا على تقييم وضع »نظام البعث« في العراق على قاعدة أنهم أخذوا يحللون طبيعة »الرأس« فيه (والرأس عبارة عن محتوى داخلي ومظهر خارجي) فبتروا تعسفاً تقييم ما يختزنه الرأس من مشاريع كبرى ذات قيمة أثارت مخاوف المشروع الأميركي الصهيوني، وانغمسوا في تقييم تسريحة شعره وطريقة حلاقة ذقنه وطول شاربيه أو قصرهما. فبهذا التسطيح ساد العقم في النظرة السياسية والمبدئية عند كثير من الساسة العرب. وإذا كنا نتوجَّه باللوم إلى من نحبهم لأجل مواقفهم الوطنية والقومية السليمة فلأنهم هم أنفسهم الأقدر على أن يلعبوا دور المرشد الواعي الموضوعي، من دون تحيز أو انحياز، في توجيه دفة الأمة كلها انطلاقاً من القضية العراقية للوصول إلى المرفأ بسلامة.
إطمئنوا أيها الحريصون على العراق على أن دور البعثيين في المقاومة وقيادتهم لها ليس فيه ما يخيف إلاَّ الاحتلال والمتعاونين معه، و إلاَّ حاملي العقد الإيديولوجية التي تعود إلى الزمن الماضي، و إلاَّ حاملي العقد السياسية لسبب أو لآخر.
فليقولوا لنا ماذا يريدون؟ أيريدون إعطاء براءة لقانون الأول من أيار من العام 2003م الذي أصدره بول بريمر تحت عنوان »تطهير المجتمع العراقي من حزب البعث«؟
فإذا كان بريمر يريد استئصال البعث كلياً، كهاجس يزرع الخوف والأرق في عيون وقلوب صانعي المشروع الأميركي الصهيوني الخبيث، فإن أحبة المشروع النهضوي العربي يريدون استئصال »العقل الصانع« لذلك المشروع في العراق تحت ذرائع تجميل شعر الرأس والذقن والشوارب. لذا نناشد الأحبة والأصدقاء والصادقين من القوميين العرب أن يرأفوا بعقل الأمة ويعملوا على تطويره وتحديثه وتجديده ليس ببتر الرأس واللهو بتصفيف شعر الجثة لأنه لا حياة فيها ولا أمل منها ومن جمال تسريحة الشعر فيها. نناشدهم أن ينقذوا الرأس أولاً وليصففوا شعرها –بعد إنقاذه- على الطريقة التي تريحهم، ليبدو الرأس (محتواه وروحه) متناسقاً مع تسريحة شعره (مظهراً خارجياً) على أجمل حلة وأحلاها.
أيريدون أن يقاتل البعثيون في تجربة من أهم تجارب حروب التحرير الشعبية في العالم ويكونوا ملائكة في إخفاء دورهم القيادي والنضالي استجابة لنزوة إيديولوجية من هنا أو نزوة سياسية من هناك؟ أيريدون من المناضلين البعثيين أن يتركوا للآخرين حق التسلق إلى موقع قيادة العراق على جماجمهم، ليثبتوا أنهم ديموقراطيون. وهل من الديموقراطية في شيء أن ينال الإنسان أقل مما يبذل من جهد، وأن ينال الآخر أكثر مما يبذله من عمل؟؟!!
أين حقوق المناضلين؟
أمن أجل أن لا ينكسر خاطر » قوات بدر« و»حزب الدعوة« و»الحزب الإسلامي« و»أحمد الجلبي« و»البرازاني« و»الطالباني« …….. نقوم بنحر نضالات البعثيين شهادة وأسراً وتضحيات أخرى جساما؟!
***

(32): ليس نقل السيادة إلى العراقيين حالة إدارية بل هي حالة تحرر عسكري سياسي واقتصادي
1/ 6/ 2004م
أقيمت الاحتفالات، يوم الفاتح من حزيران من العام 2004م، في قاعة المؤتمرات في بغداد لإعلان اسم رئيس لجمهورية العراق، وتحت رعايته تمَّ إعلان اسم رئيس الحكومة العراقية وأسماء أعضائها. واستجابة لتحقيق هذه النقلة الفنية أعلن مجلس الحكم السابق حلَّ نفسه.
كانت مظاهر الاحتفال توحي وكأن هناك انتقالاً نوعياً بين حالة قديمة وحالة جديدة. وأوحت للمراقب وكأن هناك تجديداً وجدية في ذلك التغيير. فمن وجوه قديمة إلى وجوه أقلها قديم وأكثرها جديد لم يتغيَّر شيء ما في هوية الحاكمين الجدد، فروح القديم استمرت حاكمة، ومن أهم مظاهرها أنها تمَّت تحت رعاية وضغط من قبل الحاكم الأميركي –وهو الحاكم الأب والأم- اضطر معها ممثل الأمم المتحدة إلى البصم والموافقة على النص الجديد القديم وإعلان رعاية الأمم المتحدة للعرض المسرحي الأميركي الجديد في العراق.
مسرحية – ملهاة جديدة يعمل المشروع الأميركي للتسول بواسطتها على أبواب الرأي العام العالمي من أجل الحصول من الدول الأخرى على عكازات يستعين بها للوقوف على الأرض العراقية. ومن تلك المسرحية سوف تبدأ بعض الدول الحليفة للولايات المتحدة الأميركية في تسويق شهر التسول الدولي طلباً للحصول على عكازات دولية لتمرير المشروع الأميركي المُعاق في العراق. فكان العكاز الأول هو الحصول على توقيع »المختار الدولي« الأخضر الإبراهيمي وختمه. وسوف تتوافد في الأيام القادمة الجمعيات الخيرية الدولية لجمع مزيد من العكازات للمشروع الأميركي. ونتوقع أن تزداد أسهم إدارة الرئيس بوش بضع نقاط باتجاه التحسن، ولكنها ستعود القهقرى من جديد بعد أن يذوب الثلج عن نص المسرحية الحقيقي. وهذا ما عركته الإدارة الأميركية منذ الأول من أيار من العام 2003م، يوم إعلان النصر في الحرب، مروراً بأسر الرئيس صدام حسين، وصولاً إلى استعراض هياكل المجلس العراقي القديم في عرض جديد في الفاتح من حزيران من العام 2004م.
عاشت بغداد يوماً احتفالياً مزخرفاً بالوعد والوعود والوعيد. أشرف على إخراجه بول بريمر، ورعاه الأخضر الإبراهيمي، ويا ليته امتنع –ولو من قبيل الالتزام الأخلاقي الشكلي- كابن للثورة الجزائرية وترك المهمة لرئيسه كوفي عنان، ولكنه للأسف لم يفعلها ابن الجزائر الثورة. وانتهى العرس الذي أتقن فنانو هوليوود إخراج مشاهده، وأحسنوا تسليط الأضواء عليه فظهر وكأن الاحتفال يجري في أكثر الدول استقراراً وأمناً إلى أن كشف رئيس الحكومة المعيَّن أن الاحتفال قد حصل وسط تطبيل المقاومة العراقية وتزميرها، عندما جعلت من يوم العرض المسرحي المشؤوم أسوأ الأيام شؤماً على المتسلقين سُلَّم برَكَة بول بريمر. فلم تترك المحتفلين يهنأون باحتفالهم أو بسماع إعلان أسمائهم تُذاع من على شاشات التلفزيون. فكانت المهمة الأولى لرئيس الحكومة المعيَّن أن وجَّه القرار الرقم واحد هدَّد فيه باجتثاث المقاومة العراقية، وهو يريد أن يقلِّد بول بريمر، عندما أصدر قرار الأول من أيار من العام 2003م، مهدداً باجتثاث البعث من المجتمع العراقي.
كثيرة هي الاحتفالات التي مرَّرها بول بريمر وجعل الممثلين فيها أدواته التي قدمت معه على متن دبابة »إبرامز«، لكنه لم يهنأ طويلاً في قطف ثمارها، لأن الفشل كان الحليف الوحيد لكل قراراته واحتفالاته، ومن لم يصدِّق فليسأل جورج بوش وكل »عتاعيت« إدارته.
ليس بين الناقل للسيادة والمنقولة السيادة إليه أية مسافة، فالناقل يعيد نقل السيادة إلى نفسه لأن المنقولة إليه ظاهرياً ليس طرفاً آخر غير أدواته وعملائه. ونتأكَّد من ذلك إذا استعدنا من الذاكرة أن من ينقل بريمر إليهم السيادة ليسوا إلاَّ الذين اتَّكأ إليهم منذ أول خطوة دخل فيها العراق محتلاً، وكان قد أعدَّهم قبل المباشرة بالاحتلال.
ففي احتفالات الفاتح من حزيران، من العام 2004م، شبَه كبير باحتفالات الفاتح من أيار، من العام 2003م. وباحتفالات السابع من تموز من العام 2003م. فالاحتلال يعيد إنتاج نفسه بأشكال وألوان مختلفة، وهي من طرق الخداع التي يسلكها السَحَرَة والمشعوذون، فتنطلي على السُذَّج والحمقى فيأخذهم الإعجاب مآخذ شتى فتضطرب الرؤيا لديهم وينخدعون.
هل يريد بريمر أن يمرِّر خداعه على العراقيين؟ وعلى المجتمع الدولي؟ وأن يجد الأعذار فيجذب إليه المترددين من أنظمة العرب الرسمية؟ وأن يسحب الواقع الشرعي للمقاومة العراقية؟ أم أنه يريد أن يخدع كل هؤلاء وأولئك؟
يريد بريمر أن يستغفلهم كلهم. ولكن لن يعلق بشَرَكه إلاَّ المغفَّلون أصلاً، أو من الذين يشاركونه ممارسة طرق الخداع. فلينخدع من يريد، وليعلق بحبال عنكبوت التغيير الإداري الجديد في العراق من يريد… أما المقاومة فواعية لمواجهة كل وسائل التضليل فهي قد حدَّدت مسبقاً أنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب العراقي، وسوف ترفض كل ما يصدر عن الاحتلال من ترتيبات تطال التغيير في أية بنية سياسية أو عسكرية أو إدارية أو أمنية أو اقتصادية أو تشريعية أو قانونية حتى لو استخدمت إدارة الاحتلال كل الأغطية الدولية، وعلى رأسها المؤسسات الأممية.
حاول المبتهجون من وسائل الإعلام السائرة في ركاب خطة المشروع الأميركي أن يُظهروا وكأنَّ مشكلة نقل السلطة في العراق ذات أبعاد إدارية فنية. لذا راحوا يخدِّرون الرأي العام بدعوته إلى انتظار نتائج أعمال الحكومة العراقية الجديدة التي قد تحقق »ثورة انتقال السلطة« إلى العراقيين، وكأن تلك الوسائل تريد أن توحي بأن نقل السيادة عبارة عن إجراءات إدارية لا تتجاوز ما حصل. أما واقع الأمر فليست المشكلة تدور حول الأشخاص بل تدور حول قضية، والقضية هي ليست نقل السيادة كشعار من دون مضمون بل هي معركة تحرر سياسي، ولن تنتصر هذا القضية إلاَّ بتحرير الأرض من الاحتلال، بينما كان مجلس الحكم السابق صنيعة له، والتشكيلة الإدارية الجديدة هي إعادة إنتاج لمجلس الحكم القديم بأشخاصه ومؤسساته وأهدافه.
وإذا كنا لن نعيد تحديد أهداف المجلس القديم والحكومة الجديدة، فإنما الضروري هو التذكير بأن من أهدافهما الرئيسة والأساسية يأتي الاستمرار في دعم بقاء الاحتلال في العراق تحت ذريعة المساعدة على حفظ الأمن فيه. ولما كان تحرير الأرض آتٍ خارج أهداف الحكومة الجديدة فكيف يمكن للعراقيين أن يبتهجوا بأن بول بريمر سينقل السيادة إلى من لا يريد إنهاء وجود الاحتلال العسكري والسياسي؟
من أهم معالم السيادة أن تكون ذات إرادة سياسية حرة في اختيار النظام الذي تريد. وذات إرادة عسكرية تحافظ على الأمن بقواتها الذاتية وتدفع عن الوطن أي عدوان خارجي بواسطة جيشها الوطني. وأن تستثمر ثرواتها الوطنية لصالح مواطنيها.
أما هل كان من أهداف مجلس الحكم القديم أن يبني نظامه السياسي من دون احتواء أو ارتهان؟ وهل كان بإمكانه أن يسمي من يريد لحكم العراق؟ وهل كان منفصلاً عن سلطة بول بريمر وارتهانه لإرادته ومنعه من استخدام حق الرفض لقرارات المجلس؟
وهل كان من أهداف المجلس القديم أن ينهي الاحتلال العسكري للعراق؟ أي هل كان يمكنه إلاَّ أن يوافق على تشريع بقاء قوات الاحتلال إلى آماد غير محددة؟
وهل كان من أهداف المجلس أن يحرر ثروات العراق من استغلال الشركات الأميركية؟ أي هل كان بإمكانه أن يمنع الاحتلال من التحكم باستغلال نفط العراق؟
فإذا كان المجلس القديم عاجزاً عن العمل من أجل التحرر العسكري والسياسي والاقتصادي، فإن الحكومة الجديدة التي هي على صورته ستكون عاجزة حتماً عن تأمين شروط التحرر والتحرير. فعن أية سيادة تتحدث –إذاً- الأدوات الجديدة بحللها الجديدة؟
من هنا لا نستطيع أن نفهم ما تعدُّ له الإدارة الأميركية في العراق –تحت مظلة الأمم المتحدة- إلاَّ قشرة ثلج أممية تغطي الاحتلال وتعمل على تمويهه بأدوات محلية من صنعه وإخراجه.
***

(33): قرار مجلس الأمن 1546: كسب تكتيكي في الوقت الأميركي الضائع
10/ 6/ 2004م
وقعت الإدارة الأميركية في الخطيئة الكبرى، حسب التيار السياسي الأميركي المناهض لاحتلال العراق من دون غطاء أممي، عندما حرقت المراحل في شن العدوان على العراق وقفزت من فوق إرادة الممانعة الدولية.
منذ تلك اللحظة انتشرت موجة الخوف الجدي من خطورة المشروع الأميركي الذي ينفِّذه اليمينيون الأميركيون المتطرفون حتى في نفوس أصدقاء أميركا ممن ينتسبون إلى نادي الدول الرأسمالية. وشعروا بمدى خطورة المشروع –بعد احتلال بغداد في 9/ 4/ 2003م- عندما تناوب على تهديد مصالحهم في العالم كل أعضاء الإدارة الأميركية الحالية. فراح الممانعون يقدِّمون مراسيم الطاعة إلى السيد الأميركي.
ولكن منذ اللحظة التي ظهر للعالم الممانع مدى تأثير المقاومة الوطنية العراقية على واقع الاحتلال الأميركي، شعر أن الموازين ستنقلب إلى غير مصلحة الاحتلال، وكأن أقطابه استشعروا أن الإدارة الأميركية ستلجأ إليهم مستنجدة المساعدة، فأخذ »غنج« دوله و»دلالهم« يتعمَّق عند أول صرخة استغاثة أطلقتها إدارة جورج بوش، واتَّخذ أشكالاً عدة من العروض الفنية التي أخذ يتبارى في إظهارها حلفاء الأمس للولايات المتحدة الأميركية. وكانت معظم عروض الإغراء تظهر بأثواب ديبلوماسية ناصعة البياض، وأيدٍ ديبلوماسية ناعمة الملمس. رافضة أن ترى جيش الولايات المتحدة الأميركية مهزوماً، لكنها من أجل إنقاذه من الهزيمة لن تقدِّم أية مساعدة عملية من دون ثمن حده الأدنى إعادة الاتفاق على تقسيم المصالح في العالم بالعدل والمساواة.
انتقل المأزق الدولي الممانع بعد التاسع من نيسان إلى مأزق أميركي بعد الأول من أيار 2003م. وتبادل الأميركيون المحتلون وأصدقاؤهم الممانعون للاحتلال الأدوار. فأصبح الممانعون في موقع الذي يبتز المحتلين، بعد أن كان المحتلون في الموقع الذي يبتز الممانعين. ولله في خلقه شؤون، هكذا هي المعادلة التي تحكم علاقات أعضاء دول النادي الرأسمالي العالمي. لكن هذا لا يعني نهاية لعهد نادي الدول الرأسمالية والصناعية، بل هو نقطة البداية من أجل إعادة صياغة التوازنات الدولية حسب مقاييس جديدة تستعيد معها تعددية القطبية الدولية عافيتها من جديد، ولكن ليس إلى خارج مصلحة الرأسمالية نفسها.
في مواقف المحتل والممانع للاحتلال في النادي الرأسمالي علامات ثابتة ومتغيرات:
أما العلامات الثابتة فهي مصلحة الرأسمال قبل أي شيء آخر، فأعضاء النادي لا يتناقضون حول المبدأ وحول المصلحة الرأسمالية الجامعة.
أما المتغيرات فهي وسائل التنفيذ وأساليبه.
لقد تعلَّم الممانعون، ربما من تجاربهم التاريخية في استخدام وسيلة الاستعمار المباشر، أن الاحتلال العسكري لن يجد حلولاً وتأميناً للمصالح الرأسمالية، ففي الاحتلال حوافز أمام الدول المغلوبة لمقاومة الاحتلال، وبالتالي تهديداً للاستقرار والأمن كأهم عوامل جذب الرأسمال الدولي. فهو لن يستطيع ممارسة الاستغلال إلاَّ في أفضل البيئات الأمنية هدوءًا.
ولذلك، ومنذ أن تأسس مشروع »القرن الأميركي الجديد« القائم على إيديولوجية الغلبة في الحرب، حمل معه عوامل موته، لأنه حمل الصراع من دائرته التقليدية التي انتهت بانتهاء الاتحاد السوفياتي سابقاً إلى دائرته الجديدة أي بين حلفاء الأمس من أجل رسم حدود جديدة لقطبية متعددة يكون أطرافها من أعضاء النادي الرأسمالي أنفسهم.
كانت اتجاهات أعضاء النادي الرأسمالي تميل إلى وضع ضوابط جديدة لمنع أي من أطرافها من السيطرة على العالم لوحده، فكانت المواجهة الجدية الأولى بعد أن وصل التيار الأميركي من أصحاب إيديولوجيا »القرن الأميركي الجديد« في أوائل العام 2001م، إلى السلطة وراح يعرب عن رغبته في تنفيذ مشروعه الإيديولوجي. وخدمت اتجاهاته المتطرفة التداعيات المتواصلة التي ابتدأت في 11/ 9/ 2001م، وانتهت في غزو العراق في 9/ 4/ 2004م.
إذا كانت المخاوف قد أقلقت حلفاء أميركا من وصول التيار المتطرف إلى السلطة فوقعوا في أسر هواجس ابتكار أفضل طريقة لمنع انتصاره، ظهرت أولى بوادر الصراع في محاولة منعه في معالجة الملف العراقي. وإذا كانت بداية الحكاية مما لا نريد أن نكرر سردها، فهي معروفة الوقائع والنتائج حتى الأول من أيار من العام 2003م، إلاَّ أننا سنقف أمام مظاهر الصراع وبواطنه التي تتالت فصولاً بعد وصول المقاومة الوطنية العراقية إلى مرحلة الثبات في جهدها، استراتيجية فكرية وسياسية وعسكرية، خاصة بعد أن أثبتت أنها قادرة على منع الاحتلال الأميركي من الوقوف عند حدود ثابتة، بل فرضت عليه التراجعات واحداً تلو الآخر، ومن أهم معالمها:
طلبت الإدارة الأميركية المال والجنود من حلفاء الأمس بعد أن غرقت في بحور الخسائر البشرية والمادية في مواجهة المقاومة العراقية.
ورحَّبت تلك الدول بعامل المقاومة العراقية الذي أضاف إلى جهدها المبذول في منع المشروع الأميركي المتطرف من النفاذ، وهو –بلا شك- ثقل نوعي قلب معادلة الموازين في القوى رأساً على عقب. فراحت تلك الدول تغزل على نولها مشاريع لجم الجموح الأميركي اليميني المتطرف. وهي كانت تقدِّم لحليفها الأميركي ما يزيد عن حاجته من الكلام الديبلوماسي المنمَّق في ثلاثة من القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي في أقل من ثمانية شهور، بدءًا من القرار 1483، مروراً بالقرار 1511، انتهاءً بالقرار 1546 الصادر بتاريخ 9/ 6/ 2004م.
كانت تلك الدول تقدم اعترافات بما يشبه تشريعاً دولياً لاحتلاله، كان يقطف منها لحظات من النصر الديبلوماسي الموهوم، لا تمر أيام عليه حتى تعيد المقاومة العراقية تنغيض النصر الديبلوماسي المرحلي عليه.
كان الاحتلال الأميركي بحاجة إلى مال وجنود وليس بحاجة إلى سيل من العواطف الديبلوماسية، لأنها لا تُصرف بدبابة واحدة أو بجندي واحد. بينما يعرف المناهضون لمشروع الاحتلال أن في تقديم العون له مالاً ورجالاً لهو تثبيت لمشروعه المتطرف فيكون تقديمهم العون له -كما يشترطه- لهو كمن ينفِّذ حكم الإعدام بنفسه، ولذلك ليس من المحتمل أن يقدموا له العون بأكثر من الموافقة على قرارات دولية خالية من مضامين الدعم الفعلي، فهم كمن يقدم »شيكات من دون رصيد«.
إذا كان القرار الدولي الجديد قد أثار الارتياح في نفوس دولتيْ الاحتلال الأساسيتين: أميركا وبريطانيا، وأراح حكومات الدول المساندة نفسياً أمام شعوبها الرافضة، فإن ما أعلنوا عنه ليس إلاَّ راحة موهومة ستفقد بريقها بعد عدة أيام فتنحجب عن الرؤية بعد الإعلان عن أول جثة لجندي أجنبي مشارك في احتلال العراق لتعود دوامة الصراع بين المقاومة والاحتلال إلى سابق عهدها. تندفع معها الإدارة الأميركية للتفتيش عن أكياس أخرى من المصل لتنعش نفسها بما يجعلها تصل إلى الاستحقاق الانتخابي القادم وهي تسير على عكازين.
في الوقت الذي لم تجد فيه الإدارة الأميركية أي عون دولي فعلي، وهي لن تجده إلاَّ عند الدول الكبرى كمثل فرنسا وألمانيا، وتلك الدول لن تقدم هذا العون، تعمل الإدارة إلى تقطيع الوقت الضائع الذي يفصلها عن الانتخابات القادمة بعجز جزئي محسوب له أن يتحول إلى عجز كلي، وما مراهناتها على منع التداعيات أو التقليل منها ليس إلاَّ وهماً وتعلقاً بمراهنات سراب لن تجديها نفعاً.
يقول البعض إن القرار الدولي الجديد هو خطوة إيجابية تصب في خانة الاعتراف بشرعية الحكومة العراقية الجديدة التي شكَّلها الاحتلال قبل الحصول على قرار دولي، وهذا قد يشكل مظلَّة تتلطى تحتها بعض الدول في تدعيم الاحتلال الأميركي. تلك المظلة تصبح بنظرهم شرعية عندما تدعوهم حكومة عراقية، أضفى عليها مجلس الأمن شرعية دولية، للمشاركة في إعادة الأمن إلى العراق.
لم يأخذ هؤلاء ولا أولئك أن القرار الأساس في إضفاء شرعية على أن أي حل -مهما كان غطاؤه- يجب أن يخضع لموافقة المقاومة العراقية. أما المقاومة فقد أعلنت موقفها الحاسم بأنها ستعتبر أي جهد عراقي أو عربي أو إسلامي أو دولي يصب في مصلحة تثبيت للاحتلال هو احتلال من نوع جديد ستتعامل معه كما تعامل القوات المحتلة.
وحيث إن الدول التي تستطيع أن تؤمن الغطاء الشرعي الدولي أو الاسهام الجدي في الجهدين المالي والبشري لن تقدم على إنقاذ مشروع أميركي تتناقض أهدافه مع مصالحها. وحيث إن أية حكومة عراقية لن تكتسب شرعيتها إلاَّ بموافقة المقاومة. وموافقتها مشروطة بإنهاء الاحتلال فعلياً، وليس صورياً كما هو حاصل الآن مع الحكومة الحالية المركَّبة أميركياً. وحيث إن الحكومة الحالية تعمل على تثبيت الاحتلال بحماس يفوق حماس الاحتلال نفسه.
نعتبر أن قرار مجلس الأمن الرقم 1546 لن يقدِّم أو يؤخر في تغيير الأمور على الساحة العراقية بأكثر من أنه يسهم في تأجيل إعلان إفلاس الإدارة الحالية من ضمان استقرار وجودها في العراق. وهو لا يشكل نقلة نوعية يمكن للإدارة الأميركية أن تعتمد عليها. فهو ليس إلاَّ إملاء فراغ في الوقت الضائع من عمر الإدارة نفسها.
وإلى قرار جديد –وهو ما لن يحصل- فما على إدارة المشروع الأميركي الجديد في العراق إلاَّ أن تتلقى مزيداً من جثث الجنود الأميركيين العائدة إلى أميركا ملفوفة بعلم أميركا. وإلى ذلك الحين فما على الدول التي تشارك الاحتلال الأميركي إلاَّ أن تعد نفسها لاستقبال مآزق جديدة كلما فرضت عليها المقاومة العراقية أن تشكل إدارة خاصة لاستقبال جنودها العائدين جثثاً إلى أوطانهم، وهي ستكون –بدون شك- أورقاً انتخابية تسهم في إسقاط كل من تواطأ مع احتلال غير شرعي لإكسابه شرعية خارج إرادة شعوبها.
***

(34): دراسة حول الواقع السياسي الشيعي في العراق المحتل
15/ 6/ 2004م
أولاً: تمهيد تاريخي في تأصيل الفكر الشيعي والمصالح الإيرانية في العراق
تعود بذور الخلاف السني الشيعي إلى اللحظة الأولى التي رافقت وفاة النبي محمد، فمن تحديد الأحقية في خلافته اندلعت الشرارة الأولى بين القبائل التي وحَّدها الإسلام. وتعود بداياتها إلى انقسام المسلمين إلى فريقين: يمثَّل الأول، علي بن أبي طالب (ابن عم الرسول) ويقول بأحقيته بالخلافة لأنه أقرب الناس إليه فهو ابن عمه وزوج ابنته. أما الفريق الثاني فضمَّ القبائل التي لا تمت بصلة نسب مباشرة إلى النبي، وترى أن الخلافة حق لكل مسلم.
لم يكن للمذهب الشيعي فكر مستقل عن الإسلام، وإنما التراكمات السياسية اللاحقة في الصراعات الإسلامية – الإسلامية هي التي كان لها الدور الأول في تكوين المذاهب الدينية الإسلامية ومنها المذهب الشيعي. وارتبط التكوين الفكري بمضامين الخلافات السياسية، التي كانت تدور حول مسألة الخلافة، فكان كل مذهب ينهل من الأصول الإسلامية ما يدعم وجهة نظره.
يعود اكتمال التكوين الفقهي الديني الشيعي إلى جعفر الصادق (أحد أحفاد النبي من سلالة الحسين بن علي بن أبي طالب) والذي تميَّز بنبوغه الفقهي والذي كان معظم الذين أسسوا للمذاهب الفقهية السنية قد تتلمذوا على يديه. أما اكتمال التكوين الفكري السياسي فيعود إلى العام 260 هـ بعد أن غاب الإمام الثاني عشر وإليه تعود تسمية الشيعة الإثني عشرية.
وُلِد جعفر الصادق في العام 80 هـ، وتوفي في العام 148هـ، فتعود بهذا أصول تكوين المذاهب الفقهية الإسلامية إلى ما يقرب من قرن ونصف القرن بعد وفاة النبي محمد. ولما كانت الخلافات السياسية هي التي أسَّست لتشرذم المسلمين فقد اتَّكأت إلى النصوص الدينية لتدعيم مواقعها. ولذا كان الخليفة المسلم مُحاطاً بدائرة من الفقهاء الذين يصدرون شتى أنواع الفتاوى لتدعيم شرعية خلافته.
وبمرور الزمن، أي ما يعادل القرون من السنين، وبتراكم الخلافات السياسية حول موقع الخليفة تعمَّقت التناقضات بين المذاهب الإسلامية، فوصلت أقصى ذروتها في القرنين الرابع والخامس الهجريين. ومن بلوغ الذروة أصاب الخلافة الإسلامية التفسخ، فعرف التاريخ الإسلامي، في مرحلة من مراحله، وجود خلافتين: أحدهما سنية في بغداد، والثانية شيعية في القاهرة (297هـ – 567هـ).
كان لبلاد فارس (إيران حالياً) دور مستمر ومترافق مع الصراعات المذهبية، وقد لعب الفرس دوراً كبيراً في الخلافات المذهبية المذهبية حيث كان الفرس ميالين إلى تأييد المذهب الشيعي منذ انتهاء الخلافة الأموية في العام 125هـ. وكان العهد الصفوي (أواخر القرن السادس عشر الميلادي) عصرهم الذهبي في بناء دولة تحكم باسم الشيعة، فاستولت على العراق من ضمن ما استولت عليه، لأنه من غير المفهوم أن تقوم دولة شيعية لا سيطرة لها على العتبات المقدسة الشيعية في النجف وكربلاء والكوفة (أكبر المدن الشيعية في العراق والتي تحتضن مدافن أئمة الشيعة: علي بن أبي طالب والحسين والعباس…).
لم يستقر المقام للفرس في العراق، بل كان الكتف التركي الذي انتقلت إليه الخلافة الإسلامية منذ القرن السادس عشر الميلادي يمثل المذهب السني، وسرعان ما استعاد سيطرته على العراق.
وهكذا تبقى السيطرة الإيرانية على العراق هدفاً دائماً لن تكتسب أية دولة شيعية شرعية مذهبية من دون السيطرة المباشرة على العتبات الدينية الشيعية المقدسة في العراق.
ثانياً: مفهوم الدولة والسلطة السياسية في الفكر الشيعي الإثني عشري
منذ العام 260 هـ اختفى آخر أئمة الشيعة –الذين يتحدرون من صلب الحسين بن علي بن أبي طالب- وهو الإمام الثاني عشر، وعمره خمس سنين، من دون أن يخلفه أحد. وبغيابه انقطعت سلسلة الأئمة، فتأسست من بعد غيابه نظرية »الانتظار« عند الشيعة الإثني عشرية. وتقوم نظرية الانتظار على أساس أنه لا يجوز أن يتولى السلطة السياسية للدولة الإسلامية الشيعية إمام غير معصوم عن الخطأ. فالإمامة –بمحتواها الديني والسياسي عند الشيعة- تكليف إلهي لتطبيق الشرائع السماوية، فالله الذي أنزل تلك الشرائع لن يسمح لأحد أن يطبقها إلاَّ إذا كان معصوماً عن ارتكاب الأخطاء.
منذ تلك اللحظة آمن الشيعة الإثني عشرية بأن عليهم أن ينتظروا عودة الإمام الغائب ليعيد العدل والمساواة إلى العالم بعد أن يمتلئ ظلماً وجوراً. وهي شبيهة بنظرية »عودة المسيح المخلِّص« عند بعض الفرق المسيحية التي تؤمن بعودة المسيح منتصراً للخير بعد أن يستفحل الشر في العالم. فتكون أية دولة، في فترة الغيبة، غير شرعية. ولهذا توقَّف الشيعة عن الاعتراف بشرعية أية دولة، وامتنعوا عن المشاركة في العمل السياسي. فتكون نظرية المعرفة الدينية والسياسية عند الشيعة قد منعت المنتسبين إليها من المشاركة في أي نظام سياسي. ولهذا امتنعت المرجعيات الشيعية –تاريخياً- عن الاهتمام بالسياسة لأن أي اهتمام بها هو مخالف للقواعد الشرعية الشيعية.
ثالثاً: التجديد في الفكر السياسي الشيعي الإثني عشري
تعود مسألة الانقلاب على الفكر السياسي عند الشيعة إلى عهد الدولة الصفوية في بلاد فارس عندما أجاز فقهاؤهم شرعية أن يتولى شيعي موقع »نائب الإمام الغائب« فتقاسم السلطة كل من الفقيه (وصلاحيته الفتوى الدينية) والشاه الصفوي (وصلاحيته حكم شؤون الدولة). وانتهى هذا الشكل من الحكم بانتهاء الحكم الصفوي الفارسي في إيران. وظل تجربة تاريخية نائمة حتى أواسط القرن العشرين الميلادي.
ففي أواخر الخمسينيات من القرن العشرين نشأت في النجف في العراق –ربما كردة فعل لنشأة حركة الإخوان المسلمين السنية في مصر- حركة دينية شيعية سياسية تؤسس لفكر شيعي سياسي جديد يجيز القفز فوق »نظرية الانتظار« لتفسح أمام الشيعة في لعب دور سياسي في بنية الدولة. ولهذا الغرض تأسس »حزب الدعوة الإسلامي« الشيعي (الذي ينتسب إليه إبراهيم الجعفري عضو مجلس الحكم سابقاً ونائب رئيس العراق المعيَّن من قبل الأميركيين) وهو السبب الذي دفع بالكثير من النخب الدينية الشيعية أو السياسية والاقتصادية إلى الانتساب إلى صفوفه خاصة وأنه حفَّزهم على أن يلعبوا دوراً سياسياً في أجهزة الدولة كانت محرَّمة عليهم استناداً إلى النظرية السياسية التقليدية التي كانت تحد من طموحاتهم ورغباتهم.
ترافق تأسيس حزب الدعوة الشيعي مع بدايات أول ثورة قامت بها الأحزاب العلمانية، البعثيون والشيوعيون، في العام 1958م. وكان بناء دولة علمانية تحكم على أسس تشريعات وطنية جامعة يتعارض مع أية دعوة تعمل من أجل بناء دولة دينية، فاصطدمت السلطة العراقية الجديدة بالحركات الدينية السياسية سنية وشيعية على حد سواء. فكان في واجهة الصراع كل من حركة الإخوان المسلمين السنية (وهي كانت ممثَّلَة في مجلس الحكم المعيَّن أميركياً) وتفريعاتها، وحزب الدعوة الإسلامي الشيعي.
في أواخر الستينيات من القرن العشرين، مترافقاً مع بدايات التململ الشعبي الإيراني ضد نظام الشاه، نُفي الخميني من إيران فلجأ إلى النجف في العراق. فكانت له تجربة الاحتكاك مع التيار الشيعي الجديد الذي أخذ يروِّج إلى إجازة العمل السياسي في فترة انتظار عودة الإمام الثاني عشر الغائب. وبرهنت الدلائل –فيما بعد- أن الخميني قد اقتنع بأجواء التجديد شكلاً ومضموناً، وكانت لديه الوسائل الكفيلة لتعميق تلك المفاهيم ونشرها بين طلابه، فظهرت بشكل محاضرات ألقاها على طلابه في النجف، وقد صدرت –فيما بعد- بكتاب »الحكومة الإسلامية«.
في الوقت الذي كان محظوراً نشاط الحركات الدينية السياسية العراقية كان الخميني يحتمي بصفته لاجئاً سياسياً ويمارس نشاطه السياسي من دون محاذير. وقد كانت أشرطة »الكاسيت« التي يسجِّلها، والتي تعمل الأوساط الإيرانية المعارضة للشاه على ترويجها في إيران، تحضَّر في العراق وتُرسل إلى الداخل الإيراني.
كان مضمون الخطاب التجديدي الذي عمَّقه الخميني في الفكر الشيعي قد تبنَّى نظرية »ولاية الفقيه« التي تُجيز للشيعة العمل السياسي في فترة »غيبة الإمام المنتظر«، وهي تجديد للنظرية التي حكم العهد الصفوي الشيعي في بلاد فارس (إيران) على أساسها.
رابعاً: التجديد في الفكر السياسي الشيعي بداية الأمل في إعادة الخلافة الإسلامية وبناء الدولة الإسلامية
وبنجاح الثورة الإيرانية بقيادة الخميني كان لا يمكن لرجال الدين الشيعة أن ينخرطوا في ورشة العمل السياسي بقيادة الدولة وتأسيس دولة إسلامية من دون نظرية »ولاية الفقيه«. وبهذا الانتصار، وبمثل تلك النظرية اندفعت الثورة الإيرانية إلى تصدير نفسها إلى خارج إيران، خاصة بعد أن أعلن الخميني مبدأ »تصدير الثورة«. فيكون الخميني –بمثل هذا الإعلان- قد فتح الباب واسعاً أمام أمل إعادة الحياة للخلافة الإسلامية حسب التعاليم الشيعية الإثني عشرية.
لقد أنعش انتصار الثورة الدينية في إيران آمال الحركات الدينية السياسية السنية من جانب، وفتح الأبواب أمام الحركات الدينية السياسية الشيعية للعودة إلى الحياة السياسية من جديد. وبمثل تلك البيئة وقف العالم الإسلامي أمام مرحلة جديدة تراجعت فيه القوى العلمانية، وطنية وقومية وماركسية، إلى أكثر حدودها ضعفاً منذ أن تكوَّنت في مطالع القرن العشرين. وأسهمت في تراجعها عدة من العوامل منها دعم نظام الرئيس الراحل أنور السادات للحركات الإسلامية عامة كمقدمة لاستقطابها واحتوائها من أجل تمرير صفقة تسوية الصراع العربي الصهيوني. واحتضان بعضها من قبل الإدارات الأميركية لمحاربة الشيوعية، وكان أشدها بروزاً مقاومة الاحتلال السوفياتي لأفغانستان. وتوّجت تلك العوامل انتصار الثورة في إيران بقيادة رجال الدين الشيعة.
تعاونت تلك العوامل مجتمعة لتؤسس لحركة إسلامية ناشطة تتبادل مواقع القوة التي طبعت جيل الثمانينات من القرن العشرين. وكانت فيها حرب الحركات السياسية الدينية في أوج نشاطها في كل من أفغانستان ضد الوجود السوفياتي، والحرب العراقية الإيرانية التي امتدَّت لثماني سنوات، والساحة اللبنانية خاصة بعد أن تعمَّق التناقض بين الحركات القومية والوطنية في لبنان لأكثر من عامل ومؤثِّر.
أطلَّت مرحلة التسعينيات من القرن العشرين وكانت الحرب العراقية الإيرانية قد انتهت بإنهاك العراق وإيران معاً، وانتعشت الحالة الأصولية في أفغانستان بعد انسحاب الجيش السوفياتي من أفغانستان، وبهما حقَّقت الإدارة الأميركية مكسباً رئيساً بعد انهيار منظومة الدول الاشتراكية، فراحت تعد للتدخل المباشر في المنطقة بعد أن أضعفت كل خصومها، واعتبرت أن مناخاً جديداً مهَّد الطريق أمامها من أجل استكمال اكتساح العالم من دون منافس أو مقاومة.

خامساً: إحياء الخلافة الإسلامية عودة إلى أسس الخلاف التقليدية بين السنة والشيعة
ليس هدف إعادة إحياء الخلافة الإسلامية ذات مضامين مُتَّفَقٌ عليها بين المذاهب السنية والشيعية. وتعود جذور الخلاف إلى منابعها التاريخية التي أشرنا إليها أعلاه.
فللحركات السياسية السنية أهداف إعادة الخلافة كحق لكل مسلم، فهم بمثل هذه النظرية يتناقضون مع أهداف إعادة الخلافة على الطريقة الشيعية التي تحصرها في سلالة النبي محمد من ابنته فاطمة.
واستناداً إليه ستعود الحركات الدينية السياسية الإسلامية بتاريخ الصراع الشيعي السني إلى أيامه الخوالي. ففيه سيغرق المسلمون في صراعات دموية جديدة. ولأنه ليس لهذا الجانب مكان يتَّسع له في دراسة محددَّة الموضوع والحجم، نعتبر التفصيل فيه من اهتمام دراسات أخرى قمنا بنشرها سابقاً في أبحاث وكتب.
سادساً: المخطط الأميركي بداية في إعادة انتعاش الأمل الإيراني في غزو العراق
تحت دخان ذريعة دخول القوات العراقية إلى الكويت بدأت الإدارة الأميركية بتنفيذ مخططها في المنطقة، وراحت تنبش خططها الاستراتيجية الموضوعة في الأدراج تحت بند »قيد التنفيذ«، فكانت مسرحية العدوان الثلاثيني ضد العراق في العام 1991م. التي استخدمت فيها الإدارة الأميركية عامل العداء الإيراني للنظام العراقي وغضَّت النظر عن دخول قوات إيرانية إلى الجنوب العراقي من أجل استكمال مرحلة إخراج القوات العراقية من الكويت في إحداث الشغب والفوضى في المنطقة الشيعية من جنوب العراق كمدخل لإضعاف النظام فيه وبداية لتفتيت سياسي واجتماعي وجغرافي من الجنوب يتم استكماله من الشمال الذي تسكنه المعارضة الكردية، فيبقى الوسط العراقي معزولاً عن جنوبه وشماله، فيصبح مؤهلاً لغزو سهل تقوم به القوات الأميركية في أي وقت من الأوقات التي تراها مناسبة لتنفيذه.
أصبحت مرحلة التنفيذ مناسبة وأكثر قرباً من النجاح بعد إخضاع منطقة البلقان –في أوائل القرن الحالي- للنفوذ الأميركي، واحتلال أفغانستان. ولما جاء دور العراق كانت العلاقات الأميركية الإيرانية في أعلى مستويات التناغم والتنسيق، خاصة وقد أثبتت وقائع احتلال أفغانستان مدى صدقيتها وثباتها.
على طريقة استغلال جهود الآخرين وإهمالهم من بعد استنفاد الأغراض من مساعدتهم، ولمدى التأثير الإيراني في الجنوب العراقي الشيعي، ومستغلة الأطماع والمصالح الإيرانية في العراق تعاونت الإدارة الأميركية مع النظام الإيراني، ورسمت له دوراً أساسياً في العدوان على العراق. وبذلك تكون قد أضعفت المناعة العراقية في شمال العراق وجنوبه، وهذا ما يفسِّر تسرَّعها في دخول الحرب ضد العراق من دون غطاء شرعي دولي أو مشاركة قوات دولية في الحرب. وبمراهناتها على الدور الإيراني في جنوب العراق من جهة والدور الكردي في الشمال من جهة أخرى ما يفسَّر الثقة الكبيرة التي استندت إليها الإدارة الأميركية في التخطيط لكسب الحرب بطريقة سهلة وسريعة.
من نقطة البداية تلك يمكننا أن نفهم طبيعة الجغرافية السياسية الشيعية في جنوب العراق، تلك الجغرافيا التي كان من الصعب فهمها من دون تلك المقدمات. ولنبدأ في محاولة تفسير ما هو غامض في فهم المفاتيح الداخلية للوضع الشيعي في العراق.
سابعاً: الجغرافيا الفكرية والسياسية لشيعة العراق تحت الاحتلال
بداية لا بُدَّ من توضيح مسألة فكرية دينية وسياسية لها ارتباط مع أسس الفكر الديني أو الرسالة الدينية كتعبير عن إرادة إلهية. وتستند تلك المسألة إلى أن الله عندما أنزل الشرائع السماوية لم ينزلها لقوم دون قوم، بل أنزلها لمصلحة الإنسانية جمعاء. فإبقاؤها من دون تصدير للبشرية يبدو وكأنه مخالف للتعاليم السماوية، لذا تحمل كل دعوة دينية سماوية أسسها الأممية السياسية. ولهذا فبناء دولة دينية عالمية يتناقض مع وجود حدود جغرافية كمفهوم حديث للدولة القومية. وبه يكون من واجب المنتسبين للحركات الدينية السياسية أن يثبتوا ولاءهم لأديانهم ومذاهبهم حتى ولو كان على حساب ولائهم لقومياتهم ودولهم السياسية القومية. فعند تلك الحركات يصبح المبدأ القومي حاجزاً يحول دون العمل من أجل قيام دولة دينية مفتوحة الحدود، ولهذا السبب أعلنت تلك الحركات الإسلامية أن القومية ما وُجِدت إلاَّ لمحاربة الإسلام. وبمثل تلك الأسس الفكرية الدينية لا تعني السيادة الوطنية عند المنتسبين إليها شيئاً. فيصبح مصطلح الخيانة للوطن خالٍ من أي مضمون سياسي أو أخلاقي.
على أرض الواقع العراقي، في أثناء الإعداد للعدوان وبعد الاحتلال، تساوت الحركات السياسية الإسلامية عند السنة والشيعة في مواقفها من العدوان والاحتلال، فانخرطت في الإعداد وشاركت في تدعيم الاحتلال على المستويات السياسية والإدارية والأمنية والعسكرية.
استناداً إليه يمكننا أن نوزِّع التيارات الشيعية في جنوب العراق إلى الفئات التالية:
في مساحة الفضاء التي تفصل بين التيار العميل للاحتلال الأميركي والتيار المقاوم ضده يسبح تيار ثالث تتذبذب مواقفه ارتفاعاً أو انخفاضاً لصالح طرفي المعادلة تبعاً لمصلحة من هنا أو مصلحة من هناك.

الأول: التيار العميل للاحتلال الأميركي في مواجهة المقاومة الوطنية العراقية:
أ-حزب الدعوة الإسلامي. والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية (فيلق بدر).
تعود بدايات تأسيس بعض الحركات والأحزاب الشيعية في العراق إلى العام 1958م، إذ أسَّس عدد من المراجع الشيعية ما يُعرَف اليوم بحزب الدعوة الإسلامي، وكان من أهم مؤسسيه محمد حسين فضل الله (الذي كانت تُنسَب إليه الأبوة الروحية لحزب الله اللبناني)، ومحمد باقر الصدر الذي ينتسب إلى عائلة الصدر (عائلة مقتدى الصدر الذي ينطق اليوم باسم تيار شيعي عراقي، ومؤسس جيش المهدي). وإلى حزب الدعوة تعود جذور إعادة الحياة إلى نظرية »ولاية الفقيه« الذي نقله الخميني في خلال فترة لجوئه السياسي إلى العراق في أواسط الستينيات من القرن العشرين. وبسبب من الخلاف السياسي المستديم بين شتى الأنظمة السياسية التي تعاقبت على حكم العراق وحزب الدعوة الإسلامي، وكان آخرها نظام حزب البعث السياسي منذ العام 1968م، اتَّخذ حزب الدعوة موقع المعارض الدائم لأي نظام علماني. ولما انتصرت الثورة الإيرانية في العام 1979م، انحاز الحزب المذكور إلى تأييد الثورة الإيرانية في حربها ضد العراق على قاعدة تصدير الثورة الشيعية إلى العراق وعلى رأس أهدافها السيطرة على العتبات الشيعية المقدسة في النجف وكربلاء. بل وراح حزب الدعوة يقدم على عمل كل ما يمس أمن العراق وتهديد سيادته الوطنية. ولكن لأن للحزب اتجاهات في إبقاء المذهب الشيعي تحت قيادة شيعية عربية شكَّلت أسباباً تحول دون احتضانه من قبل الإيرانيين الذين يريدون أن يقودوا المذهب الشيعي، لجأ الإيرانيون منذ بداية الحرب العراقية الإيرانية إلى تكوين حصتهم الشيعية العراقية التي تدين بالولاء لهم ومن دون أن تربك خططهم، فاستطاعوا أن يؤسسوا تنظيماً أطلقوا عليه اسم »المجلس الأعلى للثورة الإسلامية« الذي يتزعمه أبناء محسن الحكيم أحد المرجعيات الشيعية المعروفة في التاريخ المرجعي للشيعة. وساعد أبناء الحكيم (محمد باقر الذي اغتيل في النجف في العام 2003م، وعبد العزيز الذي شارك في مجلس الحكم العراقي الذي أسسته قوات الاحتلال الأميركي) الأميركيين في احتلال العراق، وهم يقدمون لهم المساعدة في إدامته.
استفاد أبناء الحكيم، برعاية ومساعدة من الإيرانيين، من العراقيين ذوي الأصول الإيرانية الذين هربوا إلى إيران في أثناء اشتعال الحرب العراقية الإيرانية، كما استفادوا من الأسرى العراقيين الذين ضعفوا أمام التهديدات الإيرانية أو من الذين طمعوا بمكتسبات مادية وأمنية من خلال تعاونهم مع الإيرانيين، فشكَّلوا حركة سياسية »المجلس الأعلى« وجناحاً عسكرياً تابعاً لها أطلقوا عليه اسم »فيلق بدر« ضموا إليه كل تلك الشرائح التي قمنا بتعدادها قبل قليل.
لقد قطع كل من حزب الدعوة الإسلامي والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية كل حبال الود مع أي نظام علماني، وبشكل خاص نظام حزب البعث، واختاروا الوقوف في أي خندق معاد له، فارتكبوا الخطيئة الأولى في التعاون مع إيران في الحرب وساعدوها في اختراق الأمن العراقي والسيادة العراقية، وكان آخرها نشرهم الفوضى في جنوب العراق في العام 1991م تحت غطاء العدوان الأميركي، وفيها سقط عشرات آلاف الضحايا من العراقيين في جنوب العراق، اعترف بها محمد باقر الحكيم في وقتها. وللأسف حاولت الأجهزة الإعلامية الأميركية والإيرانية والشيعية العراقية المعادية لنظام حزب البعث في نسبة المقابر التي دُفنت بها الضحايا كمجازر ارتكبها نظام حزب البعث.
إن الخطوة الأولى في ارتكاب جريمة الخيانة مع الإيرانيين ضد أمن وسيادة العراق شجَّعت التنظيمين الشيعيين المذكورين إلى ارتكابها مرة أخرى مع الإعداد الأميركي للعدوان على العراق واحتلاله، وكان موقفهما المعادي من المقاومة العراقية تحصيل حاصل، فملاحقة المقاومين أو قتلهم أو اعتقالهم أو تشريدهم من الجنوب العراقي المحسوب كمناطق نفوذ أساسية لتلك التنظيمات كانت نتائج منطقية لسلوكية لا تردعها تهمة الخيانة العظمى فأنا »الغريق وما خوفي من البلل«.
ب-النخب الشيعية العلمانية العميلة للاحتلال:(أحمد الجلبي وأياد علاوي، وحميد مجيد).
ليس لهذا التيار –باستثناء حميد مجيد- تنظيمات معروفة قبل الاحتلال الأميركي للعراق، بل كانوا أفراداً تركوا العراق لأسباب ملاحقات قانونية لا تمت بصلة إلى ما يبررون به هربهم بسبب ديكتاتورية النظام. فأحمد الجلبي هرب إلى الولايات المتحدة الأميركية قبل وصول حزب البعث إلى السلطة بسنوات، وكان مُثقَلاً بملف قانوني كبير بتهمة سرقات البنوك في كل من الأردن ولبنان. وهناك وقع فريسة لأجهزة المخابرات الأميركية وقصته أصبحت منتشرة بالتفصيل. وقد أسس بعد العام 1992م حزباً دعاه »المؤتمر الوطني العراقي« ليكون رأس حربة للمعارضة العراقية التي تمَّ تجميعها بشكل مشبوه أو بآخر.
أما أياد علاوي، فقد ترك العراق في أواسط السبعينيات هرباً من تنفيذ حكم قضائي صادر بحقه، وفي الخارج وقع فريسة بين أيدي المخابرات الأمريكية واستخدمته في تنفيذ مخططاتها ضد العراق. وأصبحت قصته منتشرة بمعظم تفاصيلها في الصحافة ومواقع الأنترنت.
وتبقى معارضة حميد مجيد متميزة عن معارضة كل من أحمد الجلبي وأياد علاوي. فحميد مجيد شيعي وصل إلى موقع الأمين العام للحزب الشيوعي العراقي. ولسبب أو لآخر ارتاح في أحضان المخابرات الأميركية بعد أن كان قد انحاز إلى جانب إيران في الحرب العراقية الإيرانية، واستكملها بعلاقاته مع أجهزة المخابرات الأجنبية للتجسس على أمن وطنه وسيادته. وكان مشاركاً في التخطيط والغزو وفي واجهاته الحاكمة. وقد كشف الشيوعيون العراقيون موقعه الحقيقي واتهموه بخيانة مبادئه ووطنه. وللحصول على معلومات وافية عنه، يمكن مراجعة مصادر »الكادر في الحزب الشيوعي العراقي«.
ج-تيار النخب الشيعية الدينية الاقتصادية: (عبد العزيز الخوئي، ومحمد بحر العلوم).
بسبب من ضبابية الموقف من مفاهيم العلاقة بين خيانة المذهب وخيانة الوطن. أو فلنقل في ضبابية العلاقة بين أولوية الانتماء إلى وطن والانتماء إلى الدين أو المذهب، أو ضبابية العلاقة بين مصلحة الوطن ومصلحة الدين والمذهب، وقع العديد من رجال الدين أسرى ضبابية العلاقة مع النظام العلماني الحاكم.
وإذا ما أضيفت لتلك الضبابية الفكرية السياسية الدينية وقوع البعض في دائرة مذاق حلاوة تجميع الثروات في أثناء لجوئهم إلى الخارج، أو أنهم لجأوا إلى الخارج أصلاً للمحافظة على ثروات استولوا عليها بطريقة غير شرعية أمام الدين والقانون، لاستطعنا أن نضع الأنموذجين: محمد بحر العلوم وعبد المجيد الخوئي –كرجليْ دين شيعيين- في مصاف المتعاونين مع الاحتلال طمعاً إما بحماية استيلائهم على ثروات تعود للشعب العراقي عامة وللشيعة خاصة، أو استغلال الفرصة من أجل تكديس المزيد من الثروات في المشاركة بذبح الوطن لاحتلال موقع وسيط سياسي أو تجاري بين الشركات الكبرى التي ترعى الاحتلال ومصادر الثروات العراقية.
ومن الجدير بالاهتمام أن الصف المذكور في البند (ب)، والمذكور في البند (ج) هم من المحسوبين على الشيعة. و لا بُدَّ من أن يكونوا هم الأحصنة الذين تثق بهم قوات الاحتلال أكثر من غيرهم لأنهم من غير المحتَضَنين من قوى سياسية أخرى قد تتعارض مصالحها في يوم ما لعوامل أو متغيرات مع مصالح الاحتلال. ولهذا أحاط الصفان (ب) و (ج) أنفسهم بأغطية تنظيمية من المنتفعين والذي يظهرون بهم أنهم ذوو أغطية شعبية في المجتمع العراقي.

الثاني: التيار الذي يسبح في مساحة الفضاء بين الاحتلال والمقاومة:
أ-تيار النخب الاقتصادية والدينية ذات الجذور القومية العربية ويمثِّله مقتدى الصدر:
من مميزات هذا التيار أن من أهدافه المحافظة على الهوية العربية لاتجاهاته في مواجهة الاتجاهات الإيرانية التي تعمل على تنصيب نفسها وصية على الشيعة. ولم تكن هذه المظاهر خاصة بين هذا التيار من الشيعة العراقيين والنظام الإيراني، بل هي ظاهرة أساءت علاقة إيران مع بعض المرجعيات الشيعية العربية الأخرى.
وإن لم يكن هذا التيار حاسماً موقفه إلى جانب المقاومة العراقية فهو لم يقف موقف المهادن للاحتلال الأميركي، بل وصلت حالة الغليان بينهما إلى مواجهات عسكرية عديدة دامت أسابيع منع فيه مقاتلو جيش المهدي (الذي أسَّسه مقتدى الصدر كممثل لهذا التيار) قوات الاحتلال من الدخول إلى مدينة النجف.
فمن موقفه الوسط الذي لم يرتق إلى الموقف الاستراتيجي في اختيار المقاومة المسلحة إلاَّ أن تطور الأمور ستجعله يقترب من إعلان هذا الشعار خياراً وحيداً له في الموقف من الاحتلال. وإن كانت بعض القوى المؤثرة فيه مترددة باختيار المقاومة المسلحة فإن بعض العوامل –كما نحسب- هي ما تشده إلى تأخير إعلانه تأييد المقاومة المسلحة وممارستها، ومن أهمها:
-ليس لهذا التيار عمق فكري استراتيجي، بل تتمثَّل فيه ضبابية الرؤية في الانشداد إلى المذهب أو الانشداد إلى الوطن. وإن كانت القاعدة الواسعة منه تنشد الدفاع عن الوطن بحكم العرف في تجربة العيش المشترك الطويلة إلاَّ أن البيئة الثقافية التي تُغرق الشيعي الأمي بآمال الخلاص في الآخرة عن طريق المذهب، تُحدِث الكثير من التشويش أمام الشيعي القليل الثقافة في حسم خياراته الصحيحة تجاه الدفاع عن الوطن.
-إن من يمسك بالوضع الأمني في المناطق الشيعية الآن هو الذي يستطيع التأثير أكثر على مواقف الكتلة الشعبية الأمية الطيبة وذلك بسبب امتلاكه قوة الحماية الأمنية، فيغطي بها من يشاء ويرفعها عمن يشاء. وفي ظل وضع أمني فالت يستقوي الكثيرون بمن يؤمن لهم الحماية الذاتية. هذا بالإضافة إلى أن من يملك الحماية الأمنية وُضعت في يده بعض وسائل لقمة العيش. ولأن الجدار الإيراني قد دخل بزخم أمني سياسي مادي إلى المناطق الشيعية فإنه يترك تأثيرات لا بأس بها في عقول الكثير من عامة الشيعة.
لكن الشيعي العراقي -من المحسوبين على تيار الوسط- ينشدُّ أكثر باتجاه وطنيته وقوميته إذا رُفعت عنه السيوف الأمنية أو المعيشية المسلطة على رقبته. والدليل على هذا وجدنا أنه عندما دعا مقتدى الصدر إلى مقاومة المحتل، وعندما قام بتشكيل تنظيم عسكري (جيش المهدي) استطاع أن يجذب إلى جانبه كتلة شيعية كبيرة شاركت في مقاومة الاحتلال وعملائه من التنظيمات الشيعية معاً. وقد دفعت الكثير من التضحيات في الأرواح والأرزاق.
ستقترب –حسب تقديرنا- مواقف هذا التيار أكثر فأكثر من المقاومة المسلَّحة وممارستها، وبدأت –فعلاً- بتأمين البيئة الصالحة لاحتضان من يقاتلون قوات الاحتلال. وستزداد المواقف اقتراباً من المقاومة كلما عجز الاحتلال عن تأمين الأمن والرغيف للملايين العاطلة عن العمل من جهة، وكلما اطمأنَّ إلى أن ساعد المقاومة أصبح أقوى وأكثر ثباتاً من جهة أخرى.

ب-السيستاني والحوزة العلمية الشيعية العربية:
لا يزال السيستاني، المرجع الشيعي الأعلى، من المنتسبين إلى الفكر الشيعي التقليدي أي الفكر الذي لا يجيز للشيعة العمل على بناء دولة شيعية قبل ظهور المهدي المنتظر. وقد فاجأته المتغيرات التي فرضها الاحتلال بعد إسقاط السلطة السابقة. وكان السيستاني، كما المرجعيات الشيعية التي تتمسَّك بالأصول المعرفية الشيعية التقليدية، متأقلماً مع قوانين السلطات السابقة للاحتلال، بحيث أن المرجعية لم تكن بحاجة إلى اتخاذ مواقف سياسية، بل ظلَّت تمارس واجبها التقليدي في الفتوى بالشأن الديني للمذهب الشيعي. ولما دخل عامل الاحتلال كمتغير جديد جرَّ معه الكثير من التداعيات ومن أهمها أنه جعل المرجعية الشيعية في مواجهة مباشرة مع مرجعيات التجديد الإيرانية التي تدين لفكر »ولاية الفقيه« بالطاعة والاذعان وتنفيذ تكليفاتها الشرعية، خاصة وأنها دخلت الساحة العراقية بقوة الأمن والسلاح والمال بعد الاحتلال، بينما كان نشاطها محظوراً في السابق، ولم تكن تشكل عبئاً مباشراً على المرجعية الشيعية التقليدية.
منذ تلك اللحظة ظهرت للعيان، وبشكل خاص لدى السيستاني ، حجم التناقضات في الجسم المذهبي الشيعي. وبعد أن كان يلعب دور الحكم في حسم الفتوى ذات العلاقة بشؤون المذهب الداخلية أصبح عرضة للخصومة والتشكيك بمرجعيته من قبل هذا التيار أو ذاك. فكان يمر، وهو لا يزال يمر، بأكثر المواقف حرجاً. فهو يعاني من عدة من الإحراجات: الصراعات بين واقع التقليد والتجديد على الصعيد الفكري بين تحريم العمل السياسي أو تحريم الابتعاد عنه، والصراعات حول تسليم المرجعية للإيرانيين أو الدفاع عن موقعها العربي، والصراعات حول الولاء للمذهب والوقوف إلى جانب الاحتلال، أو الولاء للوطن الذي يترنَّح تحت ضغوط أكثر من عامل خارجي يعمل على استغلاله والاستفادة من تمزيقه.
كثيرة هي العوامل التي تضغط على موقع السيستاني كمرجعية دينية، وجدت نفسها في وسطها وهي لم تستعد لمواجهة هكذا مشاكل بالنوع والكمية. ونحن نرى أنه ليس بمقدور المرجعية أن تجد أجوبة واضحة وحاسمة لهذا الكم من المشاكل وذلك النوع من الانقسام العامودي في الصف الشيعي العراقي. بل ستظل المرجعية تمارس دور المجاملات والتوفيق بين شتى التيارات والمشاكل إلى أن يثبت وجه واضح لما سترسو عليه الحالة العامة للعراق.
وفي ظل غياب الحسم في وضع أسس معرفية شيعية متجددة تجيب على كل الإشكاليات التي تعيق انتقال الفكر الشيعي من التقليد إلى مواجهة متغيرات العصر، ومن أهمها دخول القومية كمفهوم فكري وسياسي، نرى أن مواقف المرجعية الشيعية ستظل تدور في دوامة الفعل ورد الفعل، أي ما تثيره التناقضات في التكوين الشيعي من خلافات حادة في هذا الجانب أو ذاك.
أما رؤيتنا حول الميناء الذي سترسو عليه سفن التناقضات الشيعية، وبشكل خاص المرجعية الشيعية التي يمثلها السيستاني اليوم، أو من يأتي من بعده، في ظل واقع العراق تحت الاحتلال فنتوقَّع ما يلي:
كلما ازدادت أخطاء الاحتلال، وهي ستزداد حتماً لأسباب عديدة، ستترافق مع ارتفاع موجات النقمة الشيعية ضده. وستقود حالة التراكم تلك إلى زيادة في حجم الشعور الوطني لدى القواعد الشيعية الواسعة، باستثناء تلك التي لن تتضرر من أخطاء الاحتلال بشكل مباشر. والزيادة في عوامل النقمة ستجعل الشيعي أكثر قرباً من المقاومة العراقية، أو على الأقل أكثر قرباً من الزعامة الشيعية التي تقف في موقع الأكثر رفضاً للاحتلال. وفي مثل تلك الحالة ستضعف مواقع المؤيدين للاحتلال وستكون المرجعية في الموقع الذي عليه أن ينحاز إلى الصف المقاوم، ويصبح الأقرب إلى إصدار الفتوى بالجهاد.
ومن هنا نحسب أن التجربة العراقية في ظل البيئة الفكرية التي لم تحسم لمن تكون أولوية الولاء (للمذهب أم للوطن)، ستبقى إشكالية ماثلة في ذهن المرجعيات الدينية الشيعية. فهي لن تستطيع أن تبقى مكتوفة الأيدي تقف في موقع المحايد بين الوطن والمذهب، وسترى نفسها معنية ومسؤولة عن التفتيش عن حلول لها. وإلا ستكون النتيجة في أن التجديد في الفكر السياسي الشيعي الذي دخل بواسطة حصان »ولاية الفقيه« سيبقى معرَّضاً للقصور الشديد في معالجة طبيعة العلاقة بين المذهب والدين من جهة، والعلاقة بين الدين والقومية من جهة أخرى.
وإن كان من خلاصة نأمل التركيز عليها في المستقبل، فهي أن الكيان الشيعي في العراق سيتعرَّض لاحقاً إلى المزيد من التمزق إذا لم يجد الفكر الشيعي حلولاً لإشكاليات عديدة نبتت بذورها منذ عشرات السنين ولم تجد حلاً لها، ومن أهمها:
مشكلات التقليد، والمشكلات الإضافية التي أوجدها التجديد. وإن لم تكن تلك سمات خاصة تواجه الفكر الشيعي بمفرده بل هي إشكاليات موضوعة في وجه كل الحركات الدينية السياسية، بل وفي مواجهة الفكر الديني بشكل عام، خاصة وأنه يواجه متغيرات حديثة على صعيد التكوين السياسي للدولة بشكل عام. وذلك بعد أن انتهى عصر الدول المفتوحة الحدود، وانتقلت البشرية إلى عهد الدول ذات الحدود والمحمية بالقوانين والشرائع الدولية.
الثالث: التيار المقاوم للاحتلال
بداية لا بُدَّ من الإشارة إلى أن الوسط الشيعي كان الأكثر قبولاً للفكر السياسي الحديث من أي وسط آخر. والسبب أن نظرية المعرفة الشيعية التقليدية كانت قد أغلقت أبواب العمل السياسي في وجه المنتسبين للمذهب الشيعي، وأساسها نظرية الانتظار. ولما جاءت نظرية »ولاية الفقيه« لتفتح تلك الأبواب، فإن السماح بدخولها كان مرتبطاً بالفقهاء دون غيرهم. وتقوم ولاية الفقيه على قاعدة أن الفقيه هو نائب للإمام الغائب. ولما كان من أهم صفات الإمام العصمة عن الوقوع في الأخطاء، كانت من شروط انتخاب الفقيه أن يكون عالماً وعادلاً ليستطيع تطبيق الشرائع الإلهية. ولما كان الفقيه نائباً للإمام المعصوم، أصبحت الفتوى أو الرأي الذي يصدر عنه بمثابة »تكليف شرعي« أي »تكليف إلهي«، فمن يعصى التكليف كأنه عاصٍ لأوامر الإمام، ومن يعصى الإمام فهو معصية للنبي، ومن يعصى النبي فكأنه يعلن العصيان على الله. لذا يحتل الفقيه كرسي النطق باسم الإمام والنبي والله. فأصبح التجديد يفرض قيوداً أكثر على المنتسبين للمذهب الشيعي.
من استحالة في فكر الانتظار إلى استحالة أخرى في نظرية ولاية الفقيه، لم يشعر الشيعي العادي أنه أمام مشكلة شديدة الخطورة على مجرى حياته اليومية. فمن مستقيل عن واجباته وحقوقه الدنيوية في حرية العمل السياسي إلى مصلوب على صليب الرأي الشديد المركزية عند الفقيه، يسترخي الشيعي المنقوص الثقافة ويتآكله الكسل الذهني والعقلي فيضع مصيره في الدنيا والآخرة في يد الفقهاء الذي يعدون الملايين من الناس بأن الخطأ الذي يرتكبونه لن يُحاسبوا عليه في الآخرة، بل هم (أي الفقهاء) من يتحمل مسؤولية الحساب عن الآخرين. وإذا ما أضفنا المميزات التي يكتسبها الفقيه من أصول الفقه، هو أنه لن تتمَّ محاسبته على الإطلاق عن خطئه في اجتهاده لأن »من اجتهد فأصاب، له أجران؛ ومن اجتهد فأخطأ، له أجر واحد«. فهو لن يخشى الوقوع في الخطأ لأنه مأجور في كل الأحوال. فالأمر في غاية السهولة لكل من الفقيه الوالي والشيعي الذي يقلِّده.
أ-التيار العلماني وليد للأحزاب القومية والماركسية المؤيد للمقاومة العراقية والمشارك فيها.
سواء كانت أسس المعرفة الشيعية تقليدية أم تجديدية فهي عرضة للثغرات والنقد من النخب الشيعية المثقفة، ممن تحمَّلت مهمة مسؤولية أفعالها الذاتية واجتهادها الذاتي. ولما كانت النخبة عددياً هي الأقل فإن سرعة التغيير سوف تكون بطيئة، والوسط الذي سيقود التغيير سيكون الأقل مساحة. وهكذا ابتدأت تجربة الأحزاب العلمانية في العراق في الوسط الديني عامة، ومنه الوسط الشيعي بشكل خاص. ولما تعددت الأحزاب العلمانية، ساد التنافس الفئوي بينها على حساب قضايا التغيير الكبرى. فتحكَّمت الفئوية بعلاقاتها التي كانت –على الأغلب الأعم- علاقات توتر واحتراب. فكان المستفيد الأكبر هي التنظيمات الدينية السياسية لأنها كانت تغرف من بحر، في الوقت الذي كانت فيه الأحزاب الحديثة تنحت من صخر.
كانت حالة الاحتراب المتبادَل بين الأحزاب تتم على حساب رسالتها في حفر البنى الثقافية الشعبية السائدة ونقدها والتجديد فيها. وهذه مسألة من أهم مهمات أي نظام ديموقراطي مستقبلي ستفرزه المقاومة العراقية لتأخذه بعين الاهتمام القصوى من أجل المساعدة في بناء ثقافة قاعدية شعبية على أسس جديدة تتناسب مع مرحلة الدولة القومية الحديثة.
وبالإجمال، على قاعدة التمهيد أعلاه، فوجِئت الحركة اليسارية، قومية وماركسية، بما حصل في العراق وخاصة في البيئة الشيعية. ووجدت نفسها أمام تيار شعبي واسع واقع تحت الاحتلال مجرَّد من معرفة ثقافة وطنية معمَّقة. ولكن ما أسهم في مهمتها هو أن القاعدة الثقافية كانت قد اكتسبت بحكم تجربة التعايش المشترك بين الأديان والمذاهب الكثير من الأعراف الوطنية، وتعمَّق الشعور الوطني في وعيها.
وقد تجاوزت بعض التيارات العلمانية العراقية خصومات الماضي وانخرطت في ورشة المقاومة الوطنية العراقية، وتناسقت جهودها وتكاملت في معظم الحقول الداعمة لرفض الاحتلال ومقاومته.
لقد حصل فرز بين القواعد التي تدين بثقافتها للأسس الدينية العامة وتلك الحركات الدينية السياسية التي تواطأت مع الاحتلال وتعاونت معه، تخطيطاً وإعداداً وتنفيذاً. وكما أنه لم يكن للعمالة مع الاحتلال لون سياسي أو مذهب ديني، لم تكن المقاومة العراقية ذات لون واحد أو دين واحد. لذا نرى بين صفوفها البعثي والناصري والشيوعي أو القوى والشخصيات ذات الثقافة القومية والماركسية. كما نرى بينها الشيعي والسني والمسيحي، كما نرى العربي والكردي والتركماني والآشوري…
فإذا كانت الحركات السياسية الدينية صافية بانتسابها لمذهب واحد أو دين واحد، كما أن الحركات السياسية العرقية صافية بانتسابها إلى عرق واحد، فإن الحركات القومية والوطنية العلمانية تضم إليها شتى الأطياف والألوان من الانتماء الديني أو المذهبي أو العرقي. ولهذا من الصعوبة بمكان أن ننسب البعثي أو الشيوعي أو الناصري إلى مذهب أو دين أو عرق. ولهذا السبب نرى من الصعب أيضاً أن نتكلم عن بعثي شيعي أو سني عربي أو كردي أو تركماني أو آشوري.
أما فيما له علاقة بدارسة عن الشيعة فإننا نرى أن التيار المقاوم في البيئة الشيعية، هو من الملاحَقين والمطاردين من قبل الاحتلال وعملاؤه، اغتيالاً واعتقالاً وتشريداً. أما تعدادهم فيصل إلى عشرات الآلاف بين عدة من الملايين. وإذا كان البعض منهم يقاومون فإنما تتم مقاومتهم بغير غطاء شعبي يستطيع تأمين سبل الحركة الآمنة، لكثافة انتشار الميليشيات المحلية العميلة التي تعفي مخابرات الاحتلال من القيام بعبء ملاحقتهم فهي وكيلة عنها لإلحاق شتى صنوف التضييق حولهم وحول عائلاتهم. وإذا كانت عمليات المقاومة قليلة في تلك البيئة، على الرغم من نوعيتها وتأثيرها، فلا يعني أن أعداد من يريدون أن يقاتلوا بالقليل،وسوف تتكاثر تلك العمليات كماً ونوعاً كلما باتت البيئة أكثر ملاءمة لحركة المقاتل، وتتوفَّر بفعل عاملين: الأول مدى الضعف المتوقَّع الذي سيلحق بالميليشيات العميلة التي تساعد احتلالاً لا يوفِّر الأمن والرغيف من جهة، ومدى تعميق مأزق الاحتلال ومأزق عملائه من جهة أخرى. وما سوف يساعد على تعميقهما هو أن تراكم حالة الاحتقان الشعبي في الشارع الشيعي في الجنوب سيزيد من مساحة احتضان المقاومين ومساعدتهم على إيجاد بيئة أمنية كفيلة بتكسير العوائق من أمامهم.
ب-مرجعيات دينية شيعية ومقلِّدوها: (الإمام الخالصي).
كما أن الصف العميل للاحتلال ضمَّ إليه صنوفاً من شتى الأطياف السياسية والدينية والمذهبية الدينية، ضمَّ صف المقاومين إليه تنوعات تنتمي إلى مذاهب دينية مختلفة. وهنا، ولكي لا ننخرط في تفاصيل التنوعات تلك، ولأن دراستنا ذات علاقة بالشيعة سنولي اهتمامنا ببعض نماذج الفقهاء الشيعة من المؤيدين للمقاومة العراقية والداعين إلى إسنادها ومشاركتها بشتى مستويات الدعم. ويأتي الإمام الخالصي من أولئك الفقهاء الشيعة الذين حسموا طريق المعرفة الشيعية باتجاه مواءمتها مع متغيرات العامل القومي والوطني. وهو ممن توصَّلوا إلى أن نصرة المذهب أو الدين لا تنفصل عن نصرة الوطن وحمايته، ففيه الملاذ الآمن لحرية ممارسة العقائد الدينية على قاعدة تكامل وتضافر عوامل العيش المشترك بين شتى الأطياف الدينية التي تسكن على أرض واحدة، ذات حدود واحدة، وقوانين واحدة تحمي حرية العيش المشترك الآمن والحر لشتى تلك الأطياف.
***

(35): إنتخابات البرلمان الأوروبي: إنتصار الضمير العالمي لشرعية المقاومة العراقية
15/ 6/ 2004م
منذ أن قطفت المقاومة العراقية أول حبة من عنقود الضمير العالمي بالموقف الشهم الذي وقفه الشعب الإسباني، منذ ثمانية أشهر من الآن، كان الضمير العالمي يغلي فوق مرجل الانتصار لحق الشعوب في تقرير مصيرها. وها هو العنقود بكامله يصبح أكثر نضجاً بعد أن أفرزت نتائج انتخاب البرلمان الأوروبي ما يؤكد على ذلك.
يعيش العالم اليوم، ومن ضمنه ما أفرزه الشعب الأميركي نفسه من مظاهر تنتصر للضمير الإنساني، حالة شبيهة تماماً، إذا لم يكن بشكل أسرع وأكثر لفتاً للنظر، بحالة وقفة الضمير الكبرى التي انتصر فيها للقضية الفييتنامية.
حمل الشارع العالمي معالم الشجب ضد العدوانية الأميركية قبل احتلال العراق وبعده، وتحرَّك ضد المشروع الأميركي الرأسمالي في الهيمنة على العالم سياسياً واقتصادياً، وأصيب بنوع من حمى العداء ضد مشروع الإدارة الأميركية الجديدة التي أضافت مثالب أخرى هي الأكثر خطورة على العالم بأكمله، شاملة أطماعه التي ستصل إلى غزو أصدقائه في النادي الرأسمالي في عقر دارهم.
وقفت حكومات بعض الدول الرأسمالية الممانعة للمشروع الأميركي، الخائفة منه على مستقبلها الاقتصادي، مواقف مائعة كانت تتراوح بين ديبلوماسية الغزل الناعم مع إدارة جورج بوش خائفة من موقف القطع الواضح معه خوفاً من ضياع بعض فتات الشركات الأميركية العملاقة في العالم، وفي الوقت ذاته راحت تراهن على من يحمل جرس الهجوم على ذلك المشروع. وكانت أهم مراهناتها معقودة على ما يمكن أن تفرزه المقاومة العراقية، فكانت بمواقفها تلك تتجانس مع مصالح شركاتها من دون أن تضع في مكاييلها كثيراً من حسابات الشرعية الدولية أو الأخلاقية.
على العكس من حكوماتها وقفت شعوب العالم في خندق الضمير الإنساني والأخلاقي وأخذت تراكم حركتها النضالية في سبيلهما من دون كلل أو يأس. فجاء الانتصار الإسباني نقطة الضوء الواسعة التي زرعت الأمل في توسيع دائرة الضوء فشملت أوروبا من أقصاها إلى أقصاها. وخضعت لأول تجربة عملية في أثناء ممارستها لانتخابات البرلمان الأوروبي.
جاءت نتائج الانتخاب، بإجماع كل المراقبين، لتشكل ردَّاً حاسماً ضد ميوعة مواقف الحكومات الأوروبية التي جاملت الإدارة الأميركية من خلال الموافقة على قرار مجلس الأمن الرقم 1546، والذي جاء بنصوصه المائعة لكي يصب في مصلحة الاحتلال وليس في مصلحة العراق. وليضفي شرعية، حتى ولو كانت واهية، لمصلحة التراكيب الرئاسية والحكومية التي جملَّتها قوات الاحتلال بالمساحيق التي تظهرها وكأنها شرعية، لكن القرار كان بعيداً كل البعد عن مصلحة الشعب العراقي.
لم تكن نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي لتصب في مصالح تكتيكية مؤقتة بل كانت ذات نتائج استراتيجية تدين الاحتلال والاستعمار وتدعو لمكافحته من جهة، ولتعطي تأييدها المطلق لحق الشعوب في مقاومة الاحتلال مهما كانت أهدافه ووسائله من جهة أخرى.
تلك هي حقيقة ما عبَّرت عنه نتائج تلك الانتخابات وهي الانتصار للمبادئ. والانتصار للمبادئ يسهم بجدية في توليد عملية تراكم نوعي في الثقافة السياسية على المستوى العالمي. وهي نقطة أساسية تشكل جامعاً ضميرياً لتوحيد الجهود البشرية على طريق ثقافة عالمية تنبني على أسس متينة من القيم الإنسانية العامة.
أما من حيث دلالات النتائج التفصيلية التي تصب لمصلحة تأييد الاستنتاجات الاستراتيجية فقد جاءت كما يلي:
أولاً: إسقاط النهج البريطاني والإيطالي المنحاز للمشروع الأميركي، ومن دلالالته للمستقبل أن حكومتيْ بلير وبرلسكوني أصبحتا في حكم الساقطتين عملياً في الانتخابات المحلية العامة في المستقبل القريب.
ثانياً: نجاح الأحزاب الحاكمة في كل من أسبانيا واليونان لمواقفهما المبدئية من الاحتلال الأميركي للعراق، وتأييدهما حق المقاومة العراقية وشرعية نضالاتها.
ثالثاً: صفارات إنذار ضد مواقف حكومة فرنسا المائعة من قرار مجلس الأمن، التي تقوم على أساس الممانعة، وأحياناً مقاومة المشروع الأميركي، ولكن على قاعدة وضع قدم في الحقل الأميركي ووضع القدم الأخرى في الحقل المقاوم لمشروعه. فتلك المواقف تقترب من دائرة المقاومة السياسية من دون التصلُّب إلى جانب مواقف القيم الإنسانية وانتصاراً للضمير الإنساني. وفيه ما يحابي مصالح الشركات المحلية من جهة، وما يدغدغ ضمير الشارع الفرنسي من جهة أخرى.
ما أشبه ليالي سايغون بالأمس بليالي بغداد اليوم. لقد أعلن الشارع العالمي وقوفه الحاسم إلى جانب الحق الفييتنامي بالعيش تحت خيمة مبدأ الحق في تقرير المصير. وإلى جانب شرعية المقاومة الفييتنامية في دحر قوات الاحتلال الأميركي. والشارع العالمي اليوم يقف إلى جانب الشعب العراقي في تقرير مصيره، وإلى جانب الاعتراف بشرعية المقاومة العراقية في دحر قوات الاحتلال الأميركي.
لن ننسى بالأمس، أنه لما تجاوزت المقاومة الفييتنامية خط الخوف من التراجع تصاعدت موجة التأييد العالمي لها وانتصرت لها، وظلَّت ثابتة على مواقفها إلى أن حققت الانتصار. وهذه المقاومة العراقية قد تجاوزت خط الخوف من التراجع من جهة، وتصاعدت موجة تأييدها في الشارع العالمي من جهة أخرى، وتلك الموجة أصبحت من الثبات بما لا يوحي على الإطلاق بأدنى تراجع في خطواتها. ولعلَّ ثبات نضال المقاومة العراقية وثبات تأييد الضمير العالمي لها، يشكلان دائرة الضوء الواسعة في وصول المقاومة العراقية إلى دخول دائرة النصر، تدخلها وهي منصورة بحركة الضمير العالمي.
(36): راكاد سلامة (أمين سر جبهة التحرير العربية) منسيٌّ في سجون الاحتلال الصهيوني
أنموذج الفصل بين القضية وطلائعها أمر ليس بالمستغرَب في هذا العصر العربي. لقد تبارى فيه المثقفون الليبراليون وأكثر الحركات السياسية والحزبية في مدح القضايا وردح طلائع المناضلين في صفوفها، أو تجاهلهم و تجهيلهم، طمس أسمائهم أو تناسيها.
أبا محمود (راكاد سلامة) أنت ممن حملوا هموم الأمة في وجدانه وعقله وباع كل متاع الدنيا من أجلها. حملتها في عقلك القومي، وهو الوعاء الذي يتَّسع هموم الأمة بشكل متساوٍ ومتوازن. ولهذا فقد حملت هموم فلسطين ليس لأنك فلسطيني، بل لأنك عربي. كما أنك تحمل كل قضية وطنية عربية كما لو أنها فلسطين.
لقد زرع هذا الفكر الأرق في جفون الطامعين في الأمة المعتاشين على واقع تفتيتها، وهم الذين يعملون ضد أن تتوحَّد بالسياسة، أو تمنع المناضلين فيها من أن يتوحَّدوا.
أنت من الذين ارتكب هذا الإثم، فتكتَّل على تجهيل وضعك أكثر من طرف، ولا سيما منهم الذين يؤرقهم اتساع مساحة النضال في تفكيرك وعقيدتك.
فمن أجل قوميتك التي رضعتها مع مبادئ حزبك تكاثر المتناسون لوضعك الشخصي. لقد وضعوا كل أسلحتهم ومؤامراتهم من أجل القضاء على كل لمعة فكرية ذات علاقة بالفكر القومي الوحدوي، فكيف يكون الأمر إذا اقترن الفكر مع النضال؟
تلاقى حول ذلك، القطريون والرجعيون والأمميون من كل لون سياسي وصنف مذهبي وشكل ديني. وعلى الرغم من أن الكثيرين منهم يقفون في خندق العداء للاستعمار والصهيونية، فهم –للأسف- يعلمون أو لا يعلمون بأنهم في وقوفهم في خندق محاربة الفكر القومي كأنهم يقدِّمون المساعدة للمخطط الإمبريالي الخبيث.
لقد تناسوك في سجنك، كما لو أنهم يريدون أن يتناسوا الضمير القومي. ففيه ما يجعل هؤلاء وأولئك أمام إحراجات لا يريدونها لأنهم يريدون أن ينفصلوا عن قضايا الأمة القومية ليتحللوا من واجباتهم تجاهها في فلسطين والعراق. وهذا ما يسمح لهم بأن يتقوقعوا كلٌّ في حدوده القطرية، أو المذهبية، أو في عشيرته الحزبية أو الحركية، أو في منتدياته التنظيرية…وعفا الله من المسؤولية كل قطري أو مذهبي أو عشائري…
تجنَّبوا قضيتك يا أبا محمود وأنت في سجون الاحتلال الصهيوني، لما تجنَّبوا رشق قرار بريمر (الرقم واحد) في العراق بوردة واحدة. ذلك القرار الذي يكشف حقيقة الأهداف الاستعمارية والصهيونية،ويأتي على رأسها مخطط »اجتثاث فلسفة البعث«، و»تطهير المجتمع العراقي من حزب البعث«، وسوف يليه قرار بتطهير المجتمع العربي منه في كل أقطار الأمة من محيطها إلى خليجها. فمن تلك القرارات المعلنة والمضمرة تفوح رائحة المخطط الخبيث الذي يريد أن يطهِّر العقل العربي من كل إشارة ذات علاقة بالمضامين القومية السياسية والنضالية. وإذا كان بريمر –ممثلاً إدارة يمينية استعمارية- قد أعلن ذلك القرار فلعلمه أنه ليس هناك أشد ما يشكل خطورة على الاستعمار وأهدافه ومخططاته من الفكر الذي نشره حزب البعث العربي الاشتراكي على مستوى الأمة من المحيط إلى الخليج.
من المفهوم والمنطقي أن يعمل الاستعمار لاقتلاع حزب البعث من التربة العربية، أن يقتلعه من جذوره. ولكن من غير المفهوم على الإطلاق أن يكون الاقتلاع من مهمة العاملين ضد الاستعمار والصهيونية. سواء بالدعوة المباشرة، وبكل صفاقة إلى محاكمة رموز البعث، أو إقصائهم عن ساحة النضال، أو بتناسي أدوارهم الأساسية، أو بتناسي الدفاع عنهم أينما كانوا، وفي أي سجن أقاموا.
أبا محمود أيها المناضل القابع في سجون الاحتلال الصهيوني: باعتقالك يمارسون أوهامهم في اعتقال حزبك في كل مكان.
بتعريض حياتك للخطر لم يتحرَّك الضمير العربي للدفاع عن الذين يحملون الهم القومي على أكتافهم. وبأسرك بين أربعة جدران يحاولون حجب الحقيقة عن الشمس العربية، ولكن من يستطيع أن يحجبها؟
يراهنون على اقتلاع البعث في العراق على طريق اقتلاعه من الأرض العربية!! ويراهنون على أن وقوف الكثيرين ممن باعوا كرامتهم الوطنية سيدع حزب البعث في عالم النسيان!!
فالأسلوب الذي يمارسونه بحق حزبك يطبِّقونه عليك. فمصير الحزب هو مصيرك. لكن مصير الحزب أن يُزهر دائماً بأمثالك. فبعد أن اقتلعوه من السلطة في العراق –بتحالف شذاد العالم مع شذَّاذ الوطن- نبت في أرض الثورة وأينع وغرس وحان وقت القطاف القريب.
نحن لم يصبنا الجزع في يوم من الأيام من أن البعث سيموت بل سيبقى لأنه بعث، وسيبقى المخرز الذي ينكأ عيون كل الحاقدين. وسيبقى السد الذي يحمي الأمة في فلسطين والعراق وفي كل مكان من الأمة العربية.
نحن لا نخاف عليك، فأنت اخترت قدرك بنفسك، ووجدت أن قدر أمتك مرهون بنضال أبنائها. فلبَّيت النداء شجاعاً صامداً.
ولكن ما يهزَّنا هو أن الكثيرين ممن يقع عليهم واجب رفع الصوت من أجل حماية المناضلين هو أكثر انخفاضاً مما يجب. وهو أكثر إيلاماً مما كنا نحسب.
وإذا كان لنا أن نعتب على الصادقين فإنما عتبنا هو أن يضعوا كل المناضلين في سجون الاحتلال الأميركي وسجون الاغتصاب الصهيوني في سلة واحدة. وعلى قدر واحد من الاهتمام والعناية.
لا نستغرب يا أبا محمود أن يخبِّئ البعض رأسه في الرمال، ظناً منهم أن حزبك في الموقع الأضعف، وخيِّل إليهم أنهم مرتاحون من عبء الإحراج. ولذلك تناسوك في سجنك، وتناسوا أن يرفعوا الصوت لتسليط الضوء على صحتك التي تنهار أمام إهمال جلاَّديك، بل تواطؤهم.
إن حزبك يا أبا محمود أقوى مما يظنون، أو يتوهمون، أو يتمنون. حزبك اليوم ليس رائد الثورة العربية فحسب، بل هو رائد الثورة العالمية المعاصرة. ومن لم يقتنع بعد، فليسأل شارع الضمير العالمي، بل ليسأل شوارع واشنطن ولندن ومنتدياتها السياسية. وليسأل كل القوى والدول التي تناهض المشروع الأميركي عمن تراهن في هذه اللحظة بالذات.
فإذا كانت كلماتنا لن تستنهض من انطفأت لديهم الرؤية الصحيحة، فأنت أعلم منهم وأكثر بصيرة بأن انتصار الأمة لن يحصل إلاَّ بما يقدمه أبناؤها من تضحيات. ولك الشرف، ولنا، وللأمة كلها، أن تقدم من حريتك وصحتك ما على الجميع أن يقدموه. فاصبر أيها العزيز العزيز، واصمد أيها المناضل المناضل، فأنت من الطلائع التي نفخر بها.
نحن نعرف أن لك الحق على كل المخلصين والصادقين، لك الحق بأن تطالبهم بأن يصرخوا في وجه التيارات والتنظيمات والقوى والهيئات الإنسانية والعربية ممن يهمهم حقوق الإنسان أن يرفعوا الصوت ليشرحوا وضعك في السجن، والتهديد الذي تواجهه حياتك. فألف تحية إليك وإلى كل المناضلين الشرفاء في سجون الاحتلال الأميركي في العراق. وألف تحية إلى كل المناضلين الشرفاء في سجون صنيعته، على أرض فلسطين المحتلة. ولن تكون فلسطين –بدم شهدائها وزنود مناضليها وآلام معتقليها- إلاَّ حرة عربية من البحر إلى النهر.

(37): نقل السيادة للعراقيين أوكازيون أميركي لبيع العراق
29/ 6/ 2004م:
عن أية سيادة يتحدثون؟ وعن أي عراقيين؟ ومن ينقل السيادة لمن؟ ولماذا كل هذا الحماس في استباق الموعد المحدد؟ كان الثلاثون من حزيران هو الموعد، ولماذا غيَّر الساحر الأميركي الثلاثين من حزيران –كيوم تاريخي موعود- إلى الثامن والعشرين منه؟
إفرحوا أيها العراقيون، وابتهجوا، وارقصوا في الشوارع، وزغردوا لألاعيب الساحر جورج بوش. يمد يده إلى كم قميصه فيخرج حرباً، ويمد يده مرة أخرى فتتحول الحرب إلى احتلال، ومرة ثالثة تتحول أطماع السيطرة على العالم وبترول العراق إلى حرب ضد الديكتاتورية، وإلى وعود لتصدير الديموقراطية. ويتحوَّل تسليم العراق للعبودية إلى نقل للسيادة … وهكذا دواليك، فانشرحوا إلى رؤية ساحر يحوِّل التراب إلى ذهب. ويحوِّل اللصوصية إلى ديموقراطية، والخونة إلى محررين، وعملاء المخابرات إلى وطنيين، والوسطاء التجاريين إلى وسطاء للغش والخداع…. ولن تنتهي سلسلة الفنون التي يمارسها جورج بوش.
فإذا كان جورج بوش كاذباً ومخادعاً ولاأخلاقياً وقاتلاً وبائعاً دم الأميركيين ثمناً للنفط.
وإذا كان جورج بوش سمساراً للشركات الأميركية الكبرى.
وإذا كان رئيساً لعصابة تعمل لسرقة آخر دولار من العراق قبل أن يعلن هزيمة مشروعه.
وإذا كانت كل تلك الصفات هي نفسها –وبالحرف الواحد- هي التي أطلقها الأميركيون ضد رئيسهم، فانظروا أيها العراقيون إلى السيادة التي سينقلها إليكم هذا الرئيس!!!
ليس نقل السيادة إلاَّ مثال صارخ لعملية قرصنة، تنطبق مواصفاتها على قراصنة التاريخ في العالم. لم يكن همُّ القراصنة –عندما كان يسيطرون على باخرة في عرض البحار- أن يخلِّصوا البحارة من مالك السفينة، بل كانوا يستخدمونهم طوال الفترة التي تستغرقها عملية تفريغ البضائع أو بيعها، بما فيها ومن فيها، إلى أول مشتر. وقد يسوقون معهم من البحارة كل من هو ماهر أو يريد أن يكون ماهراً في القرصنة.
لا تتعب نفسك أيها المراهن على الاحتلال بانتظار جواب للسؤال: ماذا سيحصل بعد الثلاثين من حزيران، وشبيهه الثامن والعشرين منه، والأول من تموز، وكل الأيام اللاحقة لمشروع بوش، لأن همَّ عصابة القراصنة اليوم هو إرادة النهب والسرقة لكل ما يستطيعون نهبه من دون دفع الكثير من جثث الجنود الأميركيين قبل إعلان الهزيمة النهائية.
نهبت عصابة القراصنة –حتى الآن- و(إذا لم ندخل في حساباتنا مما سرقته عصاباتهم من تفكيك للبنى التحتية وفيه ما يُدمي القلب) عشرين ملياراً من الدولارات عداً ونقداً (هذا ما استطاعت بعض التقارير أن تكشف عنه، والمستور قد يكون أعظم).
أما لمن ينقل جورج بوش السيادة؟ فهي المهزلة الأكبر والأشنع في تاريخ السياسة العالمي.
ينقل القرصان السيادة إلى فئة من بحارة السفينة، من الذين تواطأوا معه على السيطرة عليها، ممن لهم حصة في غنائمها. وهم –بلا شك- من الذين سيعملون على المساعدة في نهب العراق، لأنهم متى خرجوا مع القرصان عن أرض العراق، وهم سيخرجون حتماً، هذا إذا لم يتواطأ القرصان على قتلهم لنهب حصصهم من الغنائم مهام بلغت من الزهد، سيحملون معهم –إذا لم يكونوا قد نقلوه بعد- كل ما وصلت إليه أيديهم من سرقات اقتطعوها من لحم شعبهم الحي.
نقل القراصنة الأميركيون السيادة إلى من هم أكثر منهم حقداً على العراق، وأكثر لهفة على السرقة والنهب. فظنوا أنفسهم أسياداً، ويا ويل العبد إذا ظنَّ نفسه سيداً (بالإذن ممن يُطلق عليهم اسم العبيد بالمعنى الكلاسيكي، فنحن لا نقصدهم، وإنما نقصد تعريفنا العام لمصطلح العبد). لقد ظنَّ من مثَّلوا دور المنقولة السلطة إليهم أنهم أسياد، فراحوا يهددون بقطع الأعناق والأيدي، وتفتيش بيوت العراقيين بيتاً بيتاً لملاحقة أبناء وطنهم أو اعتقالهم أو إذلالاهم.
لقد راح من توهموا أن السيادة قد نقلها إليهم الساحر بوش، ولم يخطر ببالهم أن كل الخدع التي مثَّلها -ولم تنطل على شعبه وإنما انطلت على الأغبياء والسذج من عبيد القراصنة الأميركيين الجدد- أنه يريد أن يُلصق كل قذارات الاحتلال برقابهم، ويجعلهم الشماعة التي تحميه من غضبة الضمير الأميركي وغضبة الضمير العالمي.
لقد راح بريمر إلى بلاده لكي »ينام« كما صرَّح قبل مغادرته العراق. ونوع النوم الذي يريده، هو وضع رأسه على وسائد حشاها بحصته من غنائم القراصنة، بتهريب النفط، وبيع البنى التحتية لكل المصانع والمختبرات، والأجهزة العلمية، والبنى العسكرية، التي باعها أدواته العراقيون إلى إيران والأردن والكويت… وكل معارض الخردة في العالم، ولم تخرج »إسرائيل« من دون حمص من مولد ذبح العراق، فهي قد نقلت الكثير من التجهيزات النووية العراقية إلى مجمعاتها النووية… والحديث يطول، وكلما طال الحديث كلما أصابنا الألم حتى العظم.
راح بريمر الحاكم وجاء نيغرو بونتي السفير. إنها والله مهزلة. فافرحوا يا خصيان جورج بوش، لقد خلَّصكم من حاكم مكشوف وأهداكم حاكماً مستوراً بلباس ديبلوماسي. لقد خلَّصكم من حاكم ونائبه، وأهداكم حاكماً مستوراً ومسوَّراً بأربعة آلاف نائب، وهم سيطلبون الإذن من الدمى، (في رئاسة الجمهورية، ورئاسة الوزراء، ووزارة الدفاع، ووزارة الداخلية، ورئاسة الأمن القومي، في العراق) وينتظرون الإذن من كل منهم ليسمحوا لهم بالمقابلة لتقديم أوراق اعتمادهم!!!!
ليست السيادة هي كل هذا. وإنما سيضع جورج بوش كل جنوده، من نظاميين ومرتزقة، من حراسات تابعة للشركات الأمنية. وكل الجنود الذين أوفدتهم دولهم، من أوستراليين وإيطاليين، ويابانيين، وكوريين جنوبيين، وأوكرانيين وبولنديين… تحت إمرة (أصحاب السيادة)، فمنهم حراساتهم التي تزرع الاطمئنان في النفوس، وهم الخائفون من أبناء وطنهم. وهم يأمرونهم فيطيعوا أوامر نيغرو بونتي. ويصدرون القرارات لوزاراتهم فينفذ الموظفون فيها أوامر أكبر حاشية حشدها جورج بوس في سفارة نيغرو بونتي. فاهنأوا بالسيادة يا أصحاب السيادة. فسيقف جنود جورج بوش حراساً على أبواب غرف نومكم. وهم سيحددون نوع المولود الذي ستنجبون أذكر هو أم أنثى. ما بالكم لا تشكرون نعم جورج بوش عليكم!!!؟؟
لقد أفاض جورج بوش النعم عليكم، فقدَّم موعد نقل السيادة إلى الأسياد مثلكم يومين، وهما أكثر أيام التاريخ بروزاً في تاريخكم. لقد فرضتم عليه، من خلال اجتماع حلف شمال الأطلسي، أن يقدم هدية لكم يومين اثنين (وهما لن يقدما أو يؤخرا في أفضالكم على العراقيين) من أجل إعلان أوكازيون لبيع العراق بأرخص الأثمان لحلفائه وإغرائهم بالشراء من أجل تقديم أفضل الشروط لهم من أجل (استعمار) العراق.
فللمتسائلين عن مصير العراق بعد تسليم السيادة؟؟! للعراقيين؟؟!! نقول: من فهم من كلامنا شيئاً يكون قد أعفانا من عبء الجواب. ومن لم يفهم علينا ما نقصده لهو تأكيد أنه لا يريد أن يرى الصورة (بكل إيجابياتها) لمستقبل العراق بعد نقل السيادة؟؟!! للعراقيين؟؟!!
وعلى جميع الأحوال، إذا لم يكن نقل السيادة يعني خطوة أولى من أجل الهروب الأميركي من العراق، فاسألوا أبطال المقاومة العراقية، وقرار نقل السيادة إلى العراقيين هو بيدهم هم وليس بيد أحد غيرهم، عن الموعد الحقيقي. فلن نتردد معهم في القول: إن يوم الاستحقاق الفعلي لقريب، وقد تأتي المرحلة الزمنية القريبة بما لم يكن بالحسبان.

(38): محاولة نظرية في فهم الاتجاهات العامة في السياسة الأميركية والدولية
12/ 7/ 2004م
يستند مشروع »القرن الأميركي الجديد« إلى إيديولوجيا مميَّزة في تاريخ أميركا. وكانت نتيجة تراكمات متواصلة لثقافة رجال الأعمال والصناعيين الكبار تعود إلى إيديولوجيا الغزو الاستيطاني وطلائع الغزاة الأوربيين للقارة الأميركية التي كانت حمراء أصلاً، فأصبحت بيضاء بعد انتصاراتهم على السكان الأصليين. والتحول من إيديولوجيا حمراء (رمز السكان الأصليين وهم كانوا متخلفين أصلاً) إلى الإيديولوجيا البيضاء أي النقيض الحضاري والأخلاقي ضد كل الألوان الأخرى غير البيضاء. وهي قائمة أصلاً على الغزو والاحتكار واحتقار الألوان الحمراء والسوداء، فالمنتمون إليها كما يصفهم وليم كورز أحد غلاة »مشروع القرن الأميركي الجديد« مخاطباً العبيد الأميركيين قائلاً: »إحدى أفضل الأشياء التي قام بها تجار العبيد بحقكم هي جرّ أجدادكم المكبلين حتى وصلوا بهم إلى هنا«.
صحيحٌ أن المستوطنين الأوروبيين كانوا من صناعة مرحلة النهضة في أوروبا، إلاَّ أنهم كانوا يعبِّرون عن أفكار الطبقة البورجوازية التي كانت نتاجاً لمرحلة النهضة التي أسقطت تعسف ديكتاتورية الإقطاع وجرائم محاكم التفتيش في الكنيسة المسيحية، لتُحِلَّ مكانها ديكتاتورية بورجوازية تمهِّد لقيام ديكتاتورية رأسمالية.
عندما غزا المستوطنون الأوربيون أميركا الحمراء كانوا يحملون إيديولوجيا الاستغلال والاستثمار الاقتصادي فأدَّت سيطرتهم على القارة إلى تطبيق إيديولوجياتهم البورجوازية التي عرفت طفرة نوعية في التصنيع والإنتاج الصناعي فشكَّلت مرحلة انتصار الرأسمال في داخل حدود القارة، وراحت تفتش عن أسواق جديدة بدلاً من التفتيش عن تفاعل حضاري إنساني بين الأمة الأميركية وأمم العالم الأخرى. فانحرفت إيديولوجيا الطبقات العليا في الولايات المتحدة الأميركية نحو المزيد من التراكم الرأسمالي وبالتالي نحو الجنوح باتجاه بناء إمبراطورية أميركية تسيطر على العالم فيصبح العالم كله ميداناً لنشاطها واستغلالها.
فالعلاقة الجدلية التي ربطت بين الانتصارات الأميركية في ميدان الحضارة المادية وصانعي تلك الانتصارات من الصناعيين والرأسماليين زرعت المزيد من الطموحات في مشاريع الإدارات الأميركية المتعاقبة مما قاد إلى عدة من التناقضات داخل المنتسبين إلى نادي الطبقة ذاتها. وراحت الشرائح الصناعية الكبرى في أميركا تتشرذم تسابقاً وتزاحماً حول الأرباح بحيث أفرزت الكارتلات الكبرى، كأحد وجوه توحيد المنتسبين إلى تلك الطبقة، تناقضاتها الذاتية في التأسيس لبدايات التفسخ في صفوفها. وكانت أولى ملامحها قد جاءت بعد الاندحار الأميركي في فييتنام في العام 1973م.
كانت وحدة أصحاب الكارتلات منشدَّة نحو تهديم التيارات الاشتراكية في العالم، وكانت وحدة الخطر هي التي تجمعهم. وبانهيار وحدة الاتحاد السوفييتي زال أهم عامل كان يجبر أصحاب الكارتلات على العمل جبهة واحدة، فانقسم الحلف إلى تيارين رئيسين، وإن لم تكتمل تشكيلاته وأدواته حتى الآن إلاَّ أن هناك ما يشير إلى حصول مثل هذا التفسخ في داخله.
تقوم معالم التفسخ في داخل وحدة الطبقات الصناعية والرأسمالية الأميركية إلى جملة من العوامل من أهمها:
-لا ينفصل التنافس بين الرأسماليين، القائم على قاعدة الغلبة للأقوى، عن المعادلة ذاتها. فالمنتسبون إلى طبقة تقوم على استغلال الآخر لا بُدَّ من أن تنعكس على العلاقات بينهم، إذ لا بُدَّ من أن يقود الطبقة ذاتها نخب تعمل على إضعاف الآخرين وتزيحهم عن طريقها لمنعهم من الحصول على أسباب القوة التي تؤهلهم لقيادة الطبقة النخبوية.
-إن التنافس الحالي قائم على قاعدة حزبية تنقسم إلى قوتين: الحزب الجمهوري والحزب الديموقراطي. وبعد زوال الخصم المشترك، راح الحزبان يفتقدان عامل توحيدهما في تجميع قوتيهما تحت محاربة »مصدر الخطر الواحد« فدخلا في معركة منافسة من المتوقع لها أن تشتد على المدى الطويل.
من خلال حركة التنافس الجديدة سوف تدخل عوامل تقوي مواقع هذا الطرف أو ذاك. ومن أهم تلك العوامل:
-التكتل الدولي غير الأميركي الذي لا يتنكر لانتمائه الرأسمالي، لكن لا يريد أن يشكل انتماؤه أداة تخضع لسيطرة نخبة أميركية تؤدي به إلى لعب دور التابع وليس الشريك.
-الصهيونية العالمية التي تعمل على الاحتفاظ بشراكة الطرفين المتنازعين في داخل النخب الرأسمالية الأميركية، لأنها ليست أمينة لأخلاقيات الشراكة، بل هي أمينة على مصالحها والمحافظة عليها، والتي تقوم على قاعدة »اليهود شعب الله المختار«. وبالتالي العمل من أجل تطبيق الأمر الإلهي على مستوى العالم كله.
-الأصولية المسيحية المتمظهرة بتيار المبشرين المسيحيين. هذا التيار ليس قائماً بذاته بل يتنازع عليه كل من اليمين الأميركي المتطرف للاتكاء إليه في معركة التنافس بين النخب الرأسمالية الأميركية من جانب، والصهيونية العالمية في تعميق إيديولوجيته الدينية اليهودية من جهة أخرى، فبينهما عامل إيديولوجي مشترك هو ظهور المسيح المخلص والحاسم بين الخير والشر.
وفي موازنة جذب عوامل الاستقواء بين النخبتين الرأسماليتين في أميركا يتميَّز الطرف المستقوي بعامل الدول الرأسمالية الأخرى بأنه الأقوى على المدى الطويل.
ليست الغاية في الموازنة بين الطرفين العمل من أجل ترجيح كفة أحدهما على الآخر، بل من أجل الموازنة بين السيئ والأسوأ. فانتصار السيئ يختزل مسافات الصراع بين قوى التحرر وقوى رأس المال، لكنه لن يلغيها. وهذا لا يعني إلاَّ أن على قوى التحرر أن تستفيد من الصراعات الداخلية التي تدور داخل قلاع الرأسمالية الأميركية من جهة، وبين القلاع الرأسمالية العالمية والقوى الأميركية التي تسعى لاحتواء القرار العالمي على قاعدة: قطبية أميركية يمينية واحدة وقطبية عالمية واحدة.
***

(39): موقع القضية العراقية الراهن واحتمالات المستقبل
منذ احتلال بغداد في التاسع من نيسان من العام 2004م حتى الآن، أي مرحلة ما بعد نقل السيادة الصورية إلى العراقيين، حصلت عدة من التطورات والتداعيات على غاية من الأهمية، تلك التي من خلال تشخيصها تساعدنا على وضع صورة لاحتمالات ما سوف تصل إليه تطورات الوضع لمستقبل القضية العراقية:
إن الثوابت هي التي تحدد صورة المستقبل، ولن يكون غيرها الراسم لتلك الصورة. إن ثوابت المشروع الأميركي الخبيث لم تتغيَّر وإنما وسائل تحقيقها هي التي تخضع لمتغيرات ووسائل جديدة بشكل دائم. أما المشروع المقابل الموضوع في المواجهة فهو مشروع المقاومة العراقية. هذا المشروع أصبح بغاية من الثبات مما لا يدع المشروع الآخر يستقر على أرض العراق، ومن مظاهر ثبات المشروع المقاوم هي التالية:
1-انطلاقة المقاومة الوطنية العراقية: بعد التاسع من نيسان من العام 2003م، أي بعد احتلال بغداد، كانت المفاجأة التي أذهلت كل المراقبين بعد أن كانوا قد استكانوا إلى نتائج الحرب النظامية – النظامية، هو انتقال الصراع إلى حرب مواجهة أخرى بأسلوب آخر كانت قيادة الحزب والسلطة في العراق قد أعدَّت موجباتها وآلياتها التفصيلية. وكانت من أهم أسسها الاستفادة من عوامل القوة في الطاقات الثورية التي يختزنها حزب البعث العربي الاشتراكي التي تستند إلى استراتيجيته في مقاومة كل مظاهر الاحتلال الأجنبي للأرض العربية. وكان الحزب قد استفاد من تجربة الحرب العربية الصهيونية في العام 1948م. منذ تلك المحطة التاريخية أعلن الحزب استراتيجيته القائمة على توظيف الجهود الشعبية في المقاومة. وتعلَّم من تجاربه الميدانية في كل من القضيتين الفلسطينية واللبنانية.
يكفي الإشارة إلى أن نتائج تلك الاستراتيجية قد وضعت أكثر الدول الكبرى قوة عسكرية وتكنولوجية في مأزق حقيقي. بحيث لم تكتمل مدة الشهر الواحد على الاحتلال إلاَّ وأخذت المقاومة تلفت نظر قوات الاحتلال إلى أن الحرب لم تنته في التاسع من نيسان وإنما هي مستمرة وتظهر أكثر إيذاءً من الحرب النظامية، واستمرت التداعيات على إيذاء قوات الاحتلال التي تصاعدت بشكل ملفت للنظر بما لم يسمح لقوات الاحتلال مجالاً لإخفاء قوة تأثير المقاومة العراقية ومنعه من تحقيق أهدافه السياسية والاقتصادية. فتغيَّرت وسائل قمعها وأساليبه في احتوائها لكن من دون فائدة. ووصلت أوهامه إلى الحدود التي ظنَّ أنه بأسر قيادة الحزب والسلطة سيؤثر على أداء المقاومة والحد من تصاعدها. فأسر الجميع وكان آخرهم الرئيس صدام حسين.
2-أسر الرئيس صدام حسين: بعد الرابع عشر من كانون الأول من العام 2003م، أي بعد أسر الرئيس توهَّم العدو مرة أخرى أنه حقَّق أغراضه وأصبح قاب قوسين أو أدنى من احتواء المقاومة من خلال أسر قائدها. لكنه لم يأخذ بعين الاعتبار أن الذين خططوا للمقاومة الشعبية قد وضعوا في حساباتهم أن القيادة الظاهرة قد تتعرَّض للشهادة أو الأسر، فكانت قد وضعت البدائل لمثل تلك الاحتمالات. ولم تمر أيام حتى تأكد العدو المحتل أن أسر الرئيس لن يؤدي إلى تأثيرات سلبية على أداء المقاومة وإنما العكس هو الذي حصل من خلال تصاعد العمليات العسكرية كماً ونوعاً. وهكذا تهاوت أوهام الاحتلال مرة أخرى فراح يشدد قبضته لعلَّ وعسى، وكان الرد دائماً من قبل المقاومة هو المزيد من إثخان العدو بالجرحى والقتلى في صفوفه. والمزيد من توجيه الضربات إلى مفاصل البنى الاقتصادية التي ترى أن الاحتلال لم يكن ليحصل لولا الطمع في الاستفادة منها.
3-نقل السيادة الصورية لعملاء الاحتلال من العراقيين: بعد الثلاثين من حزيران من العام 2004م، وهرباً من قلب المعركة أولاً، واستجداءً للدول التي تطمع الإدارة الأميركية في استدراجها للمساعدة في احتواء المقاومة العراقية ثانياً، قرَّر أركانها اللجوء إلى وسيلة من وسائل خداع الرأيين العام الأميركي والعالمي الضاغط باتجاه الحصول على إجماع دولي في احتلال العراق وتحمل جزء من الجهدين العسكري والمالي، إلى تمثيل مسرحية جديدة فكانت تمثيلية »نقل السيادة إلى العراقيين«. وبمثلها توهَّمت الإدارة الأميركية أنها ستفلح بالإفلات من مأزقها. وخاب ظنها للمرة المفصلية الثالثة والسبب أن المقاومة العراقية ظلَّت مستمرة في أدائها، فراح الاحتلال ونوابه يصرخان هذه المرة معاً. إذ تركَّزت وسائل المقاومة على تهديم ما كانت الحكومة الصورية العميلة تبنيه من أدوات أمنية وعسكرية وسياسية.
وبتجاوز المقاومة العراقية كل تلك العوائق يدل على أنها أصبحت من الثوابت التي يصعب على الاحتلال، مهما تغيرت وسائل وأساليب احتوائها والتأثير عليها، من جعلها تتراجع عن أهدافها. وإذا كنا نريد أن نستشرف آفاق مستقبل الصراع بين الاحتلال والمقاومة فلا يمكن أن تكون الاحتمالات قريبة من المصداقية دون أن نضع أداء المقاومة في المقام الأول. ففي قوتِّها وتصاعدها تميل الاحتمالات إلى نتيجة طرد الاحتلال بشكل أو بآخر، بهزيمة أو بتفاوض حول الانسحاب؛ وبضعفها تمكين للاحتلال من الاستقرار العسكري المباشر، وهو ما يؤدي بالتالي إلى تسهيل تحقيق أهدافه السياسية والاقتصادية التي من أجلها قرَّر احتلال العراق.
ثلاثة مفاصل تاريخية أثبتت عدداً من الحقائق والأوهام:
وهم الاحتلال وعملائه بإعلان التاسع من نيسان عيداً وطنياً، وحقيقة فرض المقاومة العراقية نفسها قوة حطمت حلم الاحتلال وأوهامه.
وهم الاحتلال وعملائه بإعلان الرابع عشر من كانون الأول عيداً تم القضاء فيه على آخر معالم السيادة الوطنية بأسر الرئيس صدام حسين، وحقيقة إعلان المقاومة أن العراقيين كلهم صدام حسين واستمرت في أدائها الرائع لتكريس جماعية مفهوم السيادة الوطنية.
وهم الاحتلال في الثلاثين من حزيران بأن يقتتل العراقيون بين عميل للاحتلال ومقاوم في صفوف المقاومة بتسليم صوري للسلطة إلى العملاء، وحقيقة استكمال المقاومة مهماتها الاستراتيجية في تحرير العراق من الاحتلال وعملائه معاً.
من مقدمات التحليل يتأكَّد لنا وجود ثابتين:
الأول: المقاومة التي استقر الوضع لها في منع الاحتلال من تحقيق أهدافه ومن الصعوبة بمكان أن نضع احتمال تراجعها في كل الحسابات.
والثاني:الاحتلال بثوابت مشروعه التي تخلخلت مفاصلها بفعل ضربات المقاومة؛ والتي تعني للإدارة الأميركية أنها لن تبقى ثابتة في مواقفها من أجل تحقيق أهدافها بعد الخسائر الكبيرة التي تدفعها من دم الجنود وأموال المكلَّف الأميركي.
من ثبات المقاومة العراقية، ومن المتغيرات المفروضة على ثوابت المشروع الأميركي، تصبح صورة مستقبل الصراع أكثر وضوحاً، وتتلخَّص في انتصار مشروع المقاومة العراقية من جهة واندحار المشروع الأميركي الصهيوني من جهة أخرى.
***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق