بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 22 يناير 2010

الإمبراطورية الأميركية بداية النهاية (الفصل السادس)

الفصل السادس
إشكاليات تعيق المقاومة المسلَّحة
رؤى واحتمالات

يحسب أكثر الحريصين على المقاومة أنها تعاني من نقص في عاملين أساسيين، لا يمكنها من دون توفيرهما أن تعمِّق مأزق الاحتلال وتحصر تأثيراته في إنجاح مشروعه السياسي، وهما: تأسيس جبهة وطنية تجمع جهود كل الفصائل المقاتلة والرافضة للاحتلال. والاتفاق على منهاج سياسي يعبِّر عن رؤية وطنية جامعة تزرع الاطمئنان في نفوس شتى أطياف المجتمع العراقي.

أولاً: إعداد منهج سياسي لبناء جبهة وطنية عراقية من الرافضين للاحتلال
يرى بعض الصادقين، أن عشوائية العمل السياسي، خاصة إذا لم يكن لدى المقاومة منهجاً سياسياً معلناً وواضحاً ومتفقاً حوله من قبل شتى شرائح تنوعات المجتمع العراقي، الدينية والمذهبية والسياسية والعرقية. وإذا لم يكن في المنهج السياسي للمقاومة ما يلبي مصالح تلك الشرائح، فإنها تحمل في جدرانها ثقوباً ونواقص تتسلل منها عوامل الضعف وتؤثر على إضعاف عامل الالتفاف السياسي والشعبي حولها. وبدلاً من أن تكون أهدافها مبهمة تضع شريحة اجتماعية، أو أكثر أمام حيرة حول مستقبل نظام ما بعد المقاومة، فمن الواجب أن يكون في المنهج ما يطمئن جميع الشرائح، ويأتي على رأسها المنهج الوحدوي الوطني والقومي، والمنهج الجبهوي الديموقراطي.
من أهم ما يقلق الحريصين على المقاومة، على الرغم من أدائها المتميِّز واستمرارها وزيادة الفعالية في عملياتها، بعض الشروخ التي تحمل خطورة، ومنها حصر المقاومة في شرائح مذهبية تارة وفي شرائح عرقية تارة أخرى، وفي مناطق جغرافية، مثلَّثة أو غيرها. فمن أولويات الرؤية التي على المنهج السياسي للمقاومة أن يلحظها –كما يرى الحريصون- أن يتضمن أجوبة عليها.
وعلى سبيل المثال، ولأن الاحتلال وعملاءه يعزفون على وتر مذهبية المقاومة (أنها سنية)، أو فئويتها السياسية (أنها بعثية)، كمبعث للتفتيت، فإن التهجم اللفظي على بعض المذاهب في العراق لا تفيد إلا المحتل، كما أن التفجيرات ضد المدنيين فيها (وهي غير الهجمات المشروعة على المتعاونين مع الاحتلال)، بغض النظر عن هوية منفذيها، »تفيد في إخراج الاحتلال من مأزقه من خلال معركة طائفية«. ولهذا السبب كان لا بُدَّ للمقاومة العراقية من أن يكون برنامجها السياسي واضحاً في وطنيته كي لا تترك فسحاً من مساحة الافتراق على قاعدة المذهبية( ).
وكي لا يبدو الأمر وكأن هناك مذهباً عميلاً والآخر وطني، كما تهدف إليه وسائل الإعلام المعادية. فإن الواقع ينفي ما يرمي إليه الاحتلال. هناك سنة متعاونون مع الاحتلال ويخدمونه وهناك شيعة أيضاً متعاونون معه ويخدمونه. أما الحس الوطني فيظهر واضحاً في بيانات شتى الفصائل المقاومة، فالوطنية عندها جميعاً –فصائل دينية وعلمانية- لا تعتمد على دين وطائفة. وما يجب التأكيد عليه هو –في واقع الأمر- أن الشعب العراقي وحدة واحدة بكافة أديانه وطوائفه، وكله يقاوم الاحتلال( ).
إذا كان العمل الجبهوي يشكل عامل الصمود للمقاومة وضماناً لاستمراريتها وازدياداً في تأثيرها ضد قوات الاحتلال وعملائها، فإن مدخلها وضابط إيقاعها يمر من خلال منهج سياسي. فهل المقاومة العراقية، بفصائلها المقاتلة والمساندة، لا تعطي هذا الجانب أهمية في برامجها وأهدافها؟
بداية نرى أنه لا أساس من الصحة للمزاعم التي تروِّج افتقاد المقاومة استراتيجية سياسية: فلديها استراتيجية سياسية وعسكرية.
أما العسكرية فتستند إلى إيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر البشرية، والى الحدّ الذي تصبح فيه قدرة الاحتلال على تحمل الخسائر مستحيلة. وتطوير ضربات المقاومة وتصعيدها بحيث تمتدّ آثارها ونتائجها إلى خارج العراق.
أما الأهداف السياسية الإستراتيجية فهي تتحددّ في إعادة تركيب وصياغة مفهوم (الشرعية) السياسية لتكون »مُتلازمة مع تحرير البلاد واسترداد استقلالها وطرد الاحتلال ومؤسساته«( ).
أما إذا كان المقصود أن يبرز للعلن من ينطق باسم المقاومة، فيبدو أن الوقت المناسب لم يأت بعد. وترى بعض الفصائل أن وقت الظهور للعلن، يصبح مناسباً عندما يبدأ التفاوض حول ترتيبات انسحاب قوات الاحتلال من العراق لأنه عادة ما تحتاج المقاومة إلى ناطق باسمها لأمور كالتفاوض أو عرض وجهات نظرها على العدو. والتفاوض –الآن- في عرف المقاومة غير وارد، إلاَّ حين يعلن أنه مغادر العراق، بلا رجعة( ).
وعندما يتخذ المحتل قراره بالانسحاب، يمكنه أن يتفاوض مع المسؤولين العراقيين المعتقلين، لأنهم لم يفقدوا شرعيتهم بمجرد أن أقصتهم قيادة احتلال هي بحد ذاتها ليست شرعية. ومن شروط الانخراط في التفاوض أن يكون الانسحاب من دون قيد أو شرط. أما بعد أسر الرئيس صدام حسين، وتأكيداً لشرعية منصبه، أعلنت قيادة حزب البعث أن العدو متى اتَّخذ قرار الانسحاب، يمكنه أن يتفاوض مع الرئيس المأسور( ).
يحتاج تأسيس مثل تلك الجبهة إلى تجميع شتات القوى الوطنية الرافضة للاحتلال داخل البلاد وخارجها، والاتصال بها بما يخلق حالة فرز وطني جديد في الساحة العراقية ويؤدي إلى عزل القوي والعناصر العميلة للاحتلال والمناصرين لمشروعه الاستعماري الصهيوني في المنطقة.
وأول خطوة ضرورية على طريق بلوغ هذا الهدف هو أن تبني القوى والتجمعات والفصائل النواة الأولى النظرية والعملية، وتنشط بشكل تصاعدي لتنمية النواة وتوسيعها. وبها لا بُدَّ من أن تصل –في النهاية- إلى بناء حالة جبهوية تكون أقرب إلى التعبير عن طموحات كل الوطنيين العراقيين في مواجهة الاحتلال من جهة، وفي استشراف آفاق النظام السياسي الذي سيحكم العراق بعد التحرير من جهة أخرى.
أما تغييب الحديث عن وجود الجبهة الوطنية فلا يعني أن الفصائل المقاومة والمساندة لا تتحرك من أجل هذا الهدف. بل إنها تعمل في سبيل تأسيس قواعد نظرية للعمل الجبهوي من جهة، وتبذل جهداً عملياً في سبيل ذلك من جهة أخرى. وهناك العديد من الأسس التي أعلنتها شتى الفصائل، التي حتى لو لم تعلنها ببيان واحد إلاَّ أنها –وكما سنرى لاحقاً- متَّفقة حول شتى أسسها وقواعدها، وما يبقى مما هو ليس موضع اتفاق فلن يزيد عن تفصيلات متفرقة.
وحول هذا الجانب سنقوم بقراءة شاملة للاتجاهات النظرية المطروحة من قبل عدة من الفصائل المقاتلة أو المساندة للمقاومة، وسنتَّخذ من القراءات التفصيلية التي قمنا بها في الفصل السابق أساساً لها لعلَّنا –من خلالها- نصل إلى رؤية واقعية للجوامع النظرية بين شتى الاتجاهات. ومنها سنطلُّ على واقع ما حصل من خطوات عملية.

1-العمل الجبهوي من الزوايا النظرية:
لو اتَّخذنا رؤية الرئيس صدام حسين، مضافة إلى رؤية قيادة قطر العراق لحزب البعث، مضافة إلى مواقف قيادة »المقاومة والتحرير« عموداً فقرياً للبحث حول المنهاج السياسي للمقاومة. وتأسيساً عليه نقوم بمقاربتها مع رؤى التنظيمات الأخرى، يمكننا أن نستخلص رؤية نظرية موحَّدة للأساس النظري لقيام حالة جبهوية تكون الجامع الوطني الموحِّد للنضالات ضد الاحتلال. ومن أجل منهجة البحث نضع العناوين الرئيسة ونقوم بمقاربة شتى المواقف منها:
-في التفاضل بين التحرير والديموقراطية: الأولوية لتحرير الأرض الوطنية العراقية:
في بيانها الأول دعت »قيادة المقاومة والتحرير« أبناء العراق إلى قتال المحتل حتى خروجه من العراق( ). وفي رسالة الرئيس صدام حسين الأولى، في أوائل أيار/ مايو 2003م، دعا العراقيين إلى المقاومة، لأنه »ليس هناك أولويات غير طرد المحتل«( ). أما حول من لديهم هواجس من التجربة السابقة حول الديموقراطية، والتي حملت فيها عدة تيارات »قميص دمها«، فقد وعد الرئيس بأن بعد التحرير »وحين يكون هناك وقت ومكان لمراجعة التجربة، سنفعل بروح ديموقراطية لا تخضع لأجنبي أو صهيوني«( ).
والمتابعون المنصفون لما يجري في العراق, يعرفون جيداً أن البعث، ومنذ الأيام الأولى للاحتلال, دعا إلى تشكيل جبهة وطنية عريضة من الرافضين للاحتلال, من مختلف الانتماءات والشرائح, لأن مقاومة الاحتلال هي فرض عين على كل العراقيين( ).
كما نسجت التيارات العراقية الوطنية الأخرى، موقفاً واحداً من تلك المعادلة:
أكَّدت التنظيمات الناصرية في العراق على أن قيام نظام ديموقراطي يتعارض مع وجود الاحتلال، فلذلك دعت إلى إتمام التحرير أولاً، وإلى تأسيس جبهة موسَّعة لطرد المحتل( ).
وأعطى التحالف الوطني العراقي قضية الدفاع عن العراق وتحريره الأولوية على ما عداها من المهمات الوطنية( ). و»كانت مسألة إدراك الجميع لأهمية إدارة الظهر للماضي والتطلع إلى المستقبل«، هو أن العراقيين جميعاً لا يرغبون في البقاء محتجزين داخل الماضيٍ، خاصة مع جسامة وخطورة الأوضاع التي تتطلب، على العكس من الدعوات لنبشه والتوقف عند تخومه، »أن يبادر الجميع إلى تأسيس توافقات جديدة من أجل المستقبل«( ).
ولا يرى الشيوعيون العراقيون (الكادر) مهمة تسبق تحرير العراق، وليس عندهم أية تحفظات أو اعتراضات على جنس أو لون أو اتجاه المقاومين السياسية( ). لذلك وجهت قيادة »الكادر« أنصارها في العراق، من أجل أن ينفذوا عمليات ولو فردية ضد الاحتلال. ودعت جميع عناصرها أن يعتبروا أنفسهم جزءًا من المقاومة المسلحة، وأن ينفذوا ما تطلبه منهم، ويضعوا أنفسهم تحت قيادتها( ).
-الموقف من عملاء الاحتلال:
سبق الاحتلال فرز بين التيارات المعارضة لنظام حزب البعث في العراق: واعتبرت المقررات التي توصَّل إليها الطرفان أن »كل المعارضين العراقيين بمن فيهم الذين يدعون إلى قلب النظام, يمكنهم العودة إلى بغداد ومواصلة انتقاد النظام والدعوة إلى التغيير شرط ألا يكونوا على علاقة بأجهزة استخبارات أجنبية«( ).
لذا أجمعت التيارات الوطنية العراقية على فرز العراقيين بين وطني مقاوم، وعميل للاحتلال. وبناء عليه اتفقت حول »شرعية وواجب التعامل القتالي مع المتعاملين والعملاء«( ).
لكن حول هذا الجانب دارت بعض الحوارات حول تحديد موقف من الذين يتراجع منهم عن عمالته. هل يمكن عزلهم كلياً أو فتح باب التراجع أمام من يريد منهم؟
بعض القوى الوطنية يمتلك رؤى مختلفة تجاه أساليب وأشكال التعامل مع الجماعات التي من المحتمل أن تترك جبهة العدو، أو تقوم بتصحيح مواقفها… ولقد حلّ محل التباين، نوع من التفهم المشترك لأهمية تفكيك جبهة العدو، وإضعاف معسكره السياسي( ).
أما بيان »المجلس الوطني للمقاومة العراقية « -الصادر بتاريخ 1/ 4/ 2004م،فدعاهم إلى »مراجعة سريعة للنفس، والتراجع فوراً عن هذا الموقف غير المشرف، والعودة إلى أحضان المقاومة بكل أشكالها، وعفا الله عما سلف«( ).
تحاور المقاومة الإسلامية الوطنية »كتائب ثورة العشرين«، كل عراقي بشرط أن لا يكون متعاوناً مع المحتل. ومَنْ كان مع المحتل فهو خائن مهما كانت صفته أو عقيدته( ).
ولم تشذ الفصائل والتيارات الأخرى عن الأنموذج المذكور أعلاه.
-استمرارية المقاومة طالما كان هناك احتلال وبأي صيغة وعلى أي جزء من أرض العراق وبغض النظر عن القرارات الأممية اللاحقة للاحتلال( ).
طبَّقت المقاومة، عسكرياً، هذا الجانب: وتعاملت مع كل القوات المحتلة المتواجدة على أرض العراق من شماله لجنوبه ومن شرقه لغربه، فتعرضت قتالياً للقوات الأمريكية والبريطانية والإسبانية والبولندية والأوكرانية والبلغارية والأستونية«. كما »ونجحت المقاومة الباسلة في تحذيرها للبعثات الدبلوماسية المتواجدة في ظل الاحتلال غير الشرعي، حيث شرع العديد من هذه البعثات بإغلاق سفاراتها والخروج من العراق (بلغاريا وأسبانيا)، ونحن هنا ندعو حكومات الأقطار العربية باتخاذ خطوات إغلاق بعثاتها الدبلوماسية في العراق دونما تأخير« .
-منع وعرقلة جهد الاحتلال من التصرف والتمكن والاستغلال، لثروات ومرافق وممتلكات العراق( ).
نجحت المقاومة في إيقاف فعلي لتصدير النفط العراقي عبر الأراضي التركية، في الوقت الذي نجحت في وقف عمليات الاستخراج في حقول كركوك. ونجحت في فرض توقيف التشغيل التجاري لمطار البصرة، ولقد نجح تحذيرها لشركات الطيران العربية والأجنبية ( حسب البيان الصادر في 23 آب 2003م) بمنع تنفيذ برامج الرحلات من وإلى المطار. وحذرت القيادة في بيانها الصادر في 16 تموز 203م، أن مطار صدام الدولي سيبقى هدفاً عسكرياً للمقاومة، حيث فقد صفته المدنية منذ أقامت القوات الأميركية على أرضه معسكراتها ومعتقلاتها.
-تعميم المقاومة المسلحة على أرض العراق كلها وبفعل ومشاركة العراقيين كلهم، والتأكيد على واجبهم وحقهم المتكافئين في المقاومة وتحرير العراق تحت أي عنوان أو مسمى( ).
يعمل التحالف الوطني العراقي، و»يؤكد على أهمية وضرورة تشكيل جبهة وطنية قومية واسعة ومتحدة تستوعب كل قوى المجتمع العراقي المناهضة للاِحتلال«( ).
ويوجب التيار العراقي الوطني الديموقراطي على جميع العراقيين الانخراط في التيار المقاوم: »ديمقراطيون، علمانيون، وماركسيون شيوعيون، وناصريون، وقوى إسلامية وممثلون لأديان وقوميات كالآشوريين والتركمان، و ممثلو عشائر ومثقفون وحركات مجتمع مدني «( ).
ويرى الحزب الشيوعي العراقي (الكادر) أن مرجعية المقاومة هي الشعب العراقي عامة، والكتائب المقاومة الفاعلة على الأرض خاصة. ومن يحمل السلاح ويقاتل هو المرجعية وليس غيره. وعلى كل الأحزاب والهيئات الوطنية الرافضة للاحتلال، والمقاوِمة له، أن تكون مجرد صدى للمقاومة الوطنية العراقية( ).
ويرى تنظيم »المجاهدون«، أن المعركة ضد الاحتلال هي معركة الشعب بكافة اتجاهاته وفئاته وأحزابه. وهذا يتطلب تعزيزاً دائماً ومستمراً لإدامة الوحدة الوطنية والوقوف الحازم ضد الذين يجنحون بالعراقيين إلى كهوف الظلام والطائفية( ).
أما الإخوان المسلمون، وحزب التحرير الإسلامي، فيرون أن إنقاذ العراق الآن ودحر الأعداء يتمثل في أمرين لا ثالث لهما أولهما المقاومة وثانيهما وحدة المسلمين سنّة وشيعة( ).

2-العمل الجبهوي من الزوايا العملية:
بين الفصائل العاملة في الكفاح المسلَّح والمساندة لها سياسياً وإعلامياً تجمعات وأطياف، يضم كل تجمع منها عدداً من الفصائل والتيارات، فهي ليست مغلقة بل تعمل على تكوين نوى جبهوية من هنا أو هناك –سواء على الصعيد العسكري أو السياسي، في الداخل والخارج، لكن عوامل النقص فيها حتى الآن أنه لم يتم تجميع تلك النوى في حالة جبهوية متكاملة.
وكبداية للوصول إلى الحالة الجبهوية نضع أمام القارئ خريطة لكل نواة، ومن أهمها:
-»المجلس الوطني للمقاومة العراقية«: تأسس منذ عشرة أشهر. ويضم كتائب المجاهدين من المناضلين البعثيين ورجال القوات المسلحة وأبطال أجهزة الأمن القومي، ومعهم -وبكل تلاحم- عشرات الآلاف من الوطنيين العراقيين الرافضين لمنطق الاحتلال والخنوع للمستعمر. وانخرط في المجلس شيوخ العشائر النجباء ورجال الدين المجاهدين وعدد من القوى الإسلامية لكي يكون إطاراً تنظيمياً يقود عملية المقاومة( ).
-التحالف الوطني العراقي: تشكَّل من كل من: الجناح الآخر من حزب البعث العربي الاشتراكي. وحزب الوحدة الاشتراكي (توجه ناصري). وحزب العمل العربي (توجه قومي عربي/ ماركسي). والحركة الاشتراكية العربية (خلفية قوميين عرب، أكثر ميلاً إلى الماركسية). والجيش الإسلامي الكردي. وحزب السلام الكردستاني (نخبة من المثقفين والصحفيين الأكراد). والتيار الوطني في الحزب الشيوعي العراقي (أما الشيوعيون فقد انبثقت عنهم كتلتان وطنيتان، إحداهما في التحالف (كتلة خالد سلام وأحمد كريم)، والكتلة الأخرى هي الكادر المتقدم (كتلة عضو المكتب السياسي في الحزب الشيوعي باقر إبراهيم الموسوي). ومجموعة من المثقفين والسياسيين المستقلين( ).
-المؤتمر الوطني العراقي لدعم المقاومة العراقية: ويضم عبد الأمير الركابي (عن التيار الوطني الديمقراطي)، أيهم الرحاوي (عن الإسلاميين المستقلين)، والدكتور نهاد إيلخاني (عن التركمان)، والشيخ محمد الآلوسي (عن التجمع الإسلامي)، واللواء الطيار جودت النقيب، والعقيد سعد المالكي، والعميد منذر (عن الجيش)، والدكتور جمال السامرائي (عن الناصريين والقوميين العرب)، ود نوري المرادي وإيمان السعدون (عن الحزب الشيوعي العراقي ـ الكادر)، والسيد نواف السعدون (شيخ عشائر السعدون). وحالت ظروف دون مشاركة علاء اللامي والشيخ جواد الخالصي والسيد رضا البغدادي والجزائري( ).
فإذا كانت تلك التجمعات، كما هو معلَن، ذات مواقف متجانسة من القضايا الأساسية في المرحلة الراهنة، إلاَّ أنه لم يبدر منها –أو على الأقل مما نراه ونلمسه- أية خطوات عملية في سبيل تجميع تلك النُوى في إطار حالة توحيدية منظَّمَة. وتلك هي –كما نرى- من مهماتها الأكثر إلحاحاً في المراحل القادمة.
أما في خلال المرحلة التي تسبق تأسيس تلك الحالة الجبهوية، وعلى قاعدة أن ما يجمعها أسس كثيرة واستراتيجية، فيواجهها جميعها، خاصة تلك التجمعات التي تنشط في خارج العراق، عدة من المهام والوسائل التي تعضد المقاومة المسلَّحة في الداخل، وتقوِّي مواقعها. ومن تلك المهمات:
-تأسيس جهاز إعلامي شعبي يتولى نقل أخبار المعركة إلى الجماهير العراقية وإلى الرأي العام العربي والعالمي، ولا ينبغي أن تترك الساحة الإعلامية في حالة فراغ لا يملأها سوى الإعلام المعادي الإنجلو أمريكي وعملائه.
ومن المؤسف واللافت للنظر معاً أن يكشف الإعلام الغربي عن حقائق بعض ما يحصل في العراق، بينما تتعاون شتى وسائل الإعلام العربية، باستثناء من يتميزون بحس قومي سليم، على طمس تلك الحقائق، بل وتشويهها، أو الجنوح بها إلى متاهات من التعصب والحقد. واللافت في الأمر أن تضيء بعض تصريحات إعلام قوات الاحتلال والإدارة الأميركية –طبعاً ليس انحيازاً للموضوعية- على بعض تلك الجوانب التي تفك حصار التعتيم عن المقاومة –طبعاً من دون قصد منها-. ومن تلك الفلتات الإعلامية ما أشارت إليه بعض الوسائل الإعلامية العربية: إن كثافة ودقة عمليات المقاومة وشدة إيلامها للعدو، فرضت على العدو نفسه أن يكون لسان حالها. فهو الذي كان يروِّج لمعدل العمليات في اليوم. حتى أوصل عددها إلى 56 عملية يومياً. إن التخبط والتضارب الذي يرافق تصريحات المحتلين وعملائهم بعد كل عملية، أغنى المقاومة عن الإيضاحات التي عادة ما توكل إلى مكتب إعلامي متخصص بالردود والدعاية المضادة. أي إن العدو وعملاءه كانوا أفضل دعاة للمقاومة. وكمثال: رحلة بوش المزعومة إلى العراق يوم عيد فصح العام 2003م. ولم تخجل أمريكا من التصريح بأن زيارته إلى العراق رافقتها إجراءات أمنية صارمة حذراً من »الإرهابيين العراقيين«( ).
-يؤدي استمرار العمليات ضد أهداف مختلطة عسكرية ¬ مدنية إلى سقوط ضحايا من المدنيين، وهو ما ينبغي تجنبه، ويتم ذلك عبر التنسيق بين التنظيمات المختلفة( ). حول هذا الجانب يرى آخرون أن المقاومة لا تتحمل وزر هذا الخطأ لأنه قد يكون من أعمال عدد من اللصوص أو المجرمين( ). أو من إعداد الأجهزة السرية بالتعاون مع »الموساد الإسرائيلي« لاختراق المناعة الوطنية بأسلوب إحداث التشويه والتشويش في ما يتعلق ببعض الارتكابات الخاطئة للمقاومة، كاستهداف المؤسسات الدولية التي لا تخلو هي نفسها من بعض العناصر المدسوسة كما هي العادة دائماً( ).
إن ضحايا التفجيرات المشبوهة، التي تقوم بها قوات الاحتلال أو عملاؤها، »في الأغلب الأعم هم من العراقيين، أو من جهات يراد تأليبها على العراق والمقاومة الوطنية«، أما القصد منها فلنشر الفتن، وخلط الأوراق عن طريق بث المعلومات والتسريبات الخاطئة، ولتفويت الفرصة على الشعب العراقي أن يميِّز بين معسكرين: »معسكر الاحتلال و صنائعه، ومعسكر الشعب والإسلام والوطن. فكل ضربة لا توجه مباشرة للاحتلال هي من عمل الاحتلال، لا يتحمل الشعب صاحب الحق الشرعي في المقاومة أية مسؤولية عنها«( ). ولذا فإن أي عمل لا يستهدف الاحتلال بشكل مباشر هو من صنع الاحتلال كائناً ما كانت المسميات التي تدعيه( ).
-يتأسف البعض حول مقتل بعض العراقيين، الذين يعملون مع قوات الاحتلال، تحت ذريعة حاجتهم لمصدر رزق، ولكن البعض الآخر يرى فيهم خطورة أكثر من الاحتلال نفسه، فهم عيونه الذين يرى فيهم، ولسانه الذي ينطق به، ولولاهم لكان العدو أخرساً وأعمى. لهذا السبب من الواقعي والأخلاقي أن يكون العراقيون الذين يتعاونون مع الغزاة »أهدافاً أساسية للمقاومة…وأي عراقي يقوم بالتعاون مع الغزاة الأمريكان ضد شعبه يعتبر أسوأ من الغزاة أنفسهم ويوصم كخائن«( ).
-العوامل الداخلية: على الرغم من أن عمليات المقاومة تغطي تقريباً خريطة العراق كله وأن النضال السياسي ضد سلطة الاحتلال نشيط ومنتشر في كافة الأقاليم العراقية باستثناء بعض مناطق الأكراد ، فلا يزال تطور المقاومة المسلحة العراقية متفاوتاً بين المحافظات العراقية، وهو ما لا يزال يسمح للاحتلال بتركيز قواته ضد مناطق المقاومة الناشطة ويعرقل تحقيق الهدف الذي تبتغيه كل مقاومة شعبية مسلحة وهو تشتيت قوة العدو لتسهيل عمليات اقتناصها. ويرجع هذا التفاوت إلى عدة أسباب، من أهمها:
الأول: التأثير السلبي لكثير من المراجع والقادة العراقيين الشيعة الذين وإن كان اغلبهم يرفضون الاحتلال الأجنبي إلا أنهم لا يحبذون حالياً اللجوء للمقاومة المسلحة.
والثاني: تورط بعض القوى العراقية –المفترض أن تكون في الصف المقاوم للاحتلال ـ في التعاون معه بحجة التخلص من الديكتاتورية وإقامة الديمقراطية. وتشمل الحزب الشيوعي العراقي( ).
الثالث: تعميق الأحزاب السياسية الكردية للشعور الشعبي الكردي الانفصالي.
أما الرابع: فهي وجود الأحزاب الطائفية على اختلاف أنواعها فالبعض منها تشعر بأن كل طائفة هي امتداد لدولة أخرى.
وعلى الرغم من وجود الثغرتين الثالثة والرابعة، إلاَّ أن التراث الثقافي الشعبي( )، والتراث الإيديولوجي للحركات والأحزاب القومية والوطنية يشكِّل حصانة في تخفيف حدة الحقن في المشاعر الإثنية والطائفية عند العراقيين.
-العوامل العربية: إن أخطر العقبات والمصاعب الحالية، بعد التطور الكبير والملموس لعمليات المقاومة، هو ضعف– أن لم يكن غياب- الجبهة العربية السياسية المساندة لها؛ والمعضلة أن تطور المقاومة العراقية لابد من أن تواكبه مساندة عربية متنامية ولا مخرج حالياً من هذه المعضلة سوى بنهوض المساندة الشعبية لتقديم الدعم السياسي والمعنوي فضلاً المساعدات »السلاح والمال والمتطوعين« التي يمكن تسريبها أو تهريبها إلى داخل العراق( ).

ثانياً: الصعوبات الحالية والمحتملة التي تواجه المقاومة العرقية
إن الظروف التي تحيط بالمقاومة العراقية، هي الأصعب في تاريخ كل المقاومات السابقة، في ظل غياب التوازن الدولي، وفي ظل تآمر دول الجوار على المقاومة أو صمتها، وفي ظل سيل هائل من الإعلام المعادي الذي ينقل الرواية الأميركية فقط للأحداث، ويعتم على أخبار المقاومة. لكن ذلك »لن يثبط من عزائمنا، لأننا نعرف جيدا أن أخبارنا ونتائج أفعالنا تصل مباشرة إلى قوات الاحتلال، التي تتخبط باستمرار في تقديم إحصائية لخسائرها في العراق« ( ). لكنها ليست الصعوبة الوحيدة، بل هناك عدد من الصعوبات الأخرى، ومنها:

1-إشكالية الفتاوى الدينية الإسلامية بالجهاد ضد الاحتلال:
قد يحصل الالتباس، أيضاً، من خلال الترويج من أجل زيادة الحقن المذهبي بين الطوائف الدينية العراقية، من إبراز فتاوى دينية سلبية لرجال دين محسوبين على هذا المذهب أو ذاك، بينما الواقع أن مواقف المراجع الدينية الإسلامية المترددة تجاه المقاومة المسلَّحة ليست محصورة بنوع مذهبي محدد بل يطول مواقف رجال دين من شتى المذاهب. وما يلعب دوراً في هذا التردد والالتباس هو مشاركة تنظيمات إسلامية سنية، وتنظيمات سياسية شيعية في مجلس الحكم الذي فرضته سلطات الاحتلال على العراقيين.
لم يقتصر التقصير في إصدار الفتوى الدينية، التي تحض على قتال القوات المحتلة، على طائفة دون أخرى، بل تساوت الطوائف السياسية به. ووقفت معظم المؤسسات الرسمية الدينية على الحياد وكأن الأمر لا يعنيها في شيء. وغالباً ما غلَّبت بعض الأوساط الدينية موقفها الحيادي على الوضوح في الموقف، وهو يتساوى –إذا لم يتطوَّر- مع الموقف القابل بالاحتلال.
وإذا كان هذا هو واقع الحال، بشكل عام، فهناك فلتات شوط من عدد من علماء المسلمين الذين صدَّروا فتاوى واضحة، فأتت في ظل الموقف العام السائد، وكأنها شمعة في ظلام دامس. وهذان أنموذجان لهذا النوع من الفتاوى:
الأنموذج الأول: »إن احتلال بلاد المسلمين من قبل الكفار لا يحتاج إلى فتوى خاصة بوجوب مقاومتهم إذ أن الحكم الشرعي الذي لا يختلف فيه أحد إن احتلت بلاد المسلمين من قبل الكفار والظالمين يستلزم وجوب مقاومتهم من دون حاجة إلى فتوى أو إذن خاص«( ). ولهذا فليس أمام الشعب العراقي إلا المقاومة بجميع الوسائل ضد الاحتلال، فالمقاومة حق تقره جميع الشرائع الدولية والدينية. وكان الخالصي قد دعا العراقيين في 22-4-2003 إلى الجهاد ضد القوات الأمريكية ورفض عملائه ومشاريعه الاستعمارية في العراق، والمبادرة بتشكيل لجان لإدارة البلاد وحفظ الأمن ومنع الفوضى وتأمين الخدمات العراقية«( ).
ولأن » خطورة الاحتلال الأمريكي للعراق لا تكمن في كونه احتلالاً عاديًا للأرض ونهبًا تقليديا للثروة، بل تكمن في كونه احتلالاً محمّلاً بمشروع صهيوني معادٍ للإسلام والعرب، يستهدف العراق دينًا وحضارة وهوية ووجوداً«. فعلى كل القوى السياسية العراقية التي »تعاونت مع المحتل الأمريكي بأن تبادر بالانسحاب من مشاريعه«، بعد أن باتت واضحة »حقيقة مقاصده الصهيونية الشريرة تجاه العراق والإسلام«، ولكل ذلك فإن »التعاون مع المحتل خيانة، وأن هذه الخيانة لا تقبل أي تبرير تحت أي ذريعة«( ).
الأنموذج الثاني: يتوجَّه فيه إلى الحكام، ثم العلماء، ثم عموم أفراد الشعب:
أولاً- الواجب الشرعي على كل حاكم مسلم : يفرض عليه»أن يعلن النفير العام - أي التعبئة العامة - للجيش ولعموم أفراد الشعب« …وأن يصدر »إنذاراً إلى القوات الأمريكية والإنكليزية المتعاونة معها بالانسحاب حالاً من العراق«، و»إيقاف ضخ النفط من قبل الدول العربية والإسلامية المصدرة للنفط لتعطيل آلة الحرب العدوانية«، و»قطع العلاقات الدبلوماسية وسحب السفراء فوراً من عواصم دول العدوان وطرد سفرائهم من بلادنا«. و»غلق أجواء وأراضي ومياه وممرات الدول الإسلامية أمام آلة العدوان الهمجي الغاشم«. ويتبع ذلك »مباشرة إصدار الأوامر من قبل كل حاكم مسلم لجيشه والمتطوعين بالتوجه حالاً إلى العراق لنجدة إخوانهم«.
ثانياً- والواجب الشرعي على علماء الإسلام: يفرض عليهم»أن يتقدموا الجيوش التي استنفرها الحكام ليمدوهم بالمدد الروحي«، على أن يجتمعوا فوراً، ويتولوا، إذا لم يدع الحاكم إلى »إعلان النفير العام«، »إعلانه بأنفسهم«.
ثالثاً - واجب عموم المسلمين: »إذا لم يقم الحكام بإعلان النفير العام، ولم يقم العلماء بواجبهم الشرعي«، فإن »تنفيذ واجب الجهاد بالقتال ينتقل إلى جميع المسلمين«. وفي مثل تلك الحالة »يجب على كل مسلم الاشتراك في جهاد الأعداء الكفرة عن طريق بذل المال وأي عون آخر ( مادي وإعلامي وتقني ) للمجاهدين المقاتلين للأعداء«( ).
الأنموذج الثالث: يمثله تيار في حركة الإخوان المسلمين في العراق، والحزب الإسلامي:
إن النصوص القرآنية واضحة والأحاديث متواترة تمنع التعاون مع الكافرين أو الركون إليهم أو الانصياع لهم والعمل تحت إمرتهم أو إمرة مجالسهم فلا مجال للاجتهاد والتلاعب بالألفاظ أمام قوله تعالى ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم). فإذا أصبح الإسلام العظيم بالشكل الذي يفسره الجاهلون فقد كان بإمكان الرسول (ص) القبول بما عُرض عليه من مال وجاه وملك وسلطان فيقبل بما عرض عليه تخفيفاً للضرر، وتقليصاً للسلبيات، إلى أن تأتي الفرصة السانحة فينقض على المشركين؟!! وكان على قطز الإنقياد للمغول وتسليم مصر وفلسطين تحت ذريعة القبول بالمفسدة الصغيرة درءًا للمفسدة الكبيرة؟!!( ). ومن الغريب العجيب أن بعض القياديين من الإخوان في مصر فسر دخول الحزب الإسلامي في »مجلس تقسيم العراق« بأنه اجتهاد ربما يكون صحيحاً أو خاطئاً( ).
أما بعض الفتاوى، وإن لم يرتق إلى مستوى الدعوة إلى الجهاد، أو الاعتراف بشرعية المقاومة المسلَّحة، إلاَّ انه كشف عن عورات الدعوة إلى الديموقراطية التي دخلت جيوش الاحتلال إلى العراق تحت يافطاتها( )، كما أنه كشف الزيف عن شعارات الديموقراطية (حبيبة قلوبهم والتي لأجل الدفاع عنها تآمروا مع الشيطان، وبذلوا العناء للعودة إلى بلادهم على دباباته) التي روَّج لها، ولا يزال، فريق المتعاملين والمتعاونين مع الاحتلال.
وعلى أية حال سنغامر، هنا، ونعمل على عرض وتأصيل لإشكالية الفتوى حول الجهاد، لعلَّنا –بمثلها- ومن خلال تجربة العراق نسهم في المستقبل في وضع حلول لتلك الإشكالية منعاً لها من أن تتكرر. وهنا لا بُدَّ من الإشارة إلى أن الفكر القومي، على الرغم من أنه يعطي للإسلام دوراً مميزاً في تكوين القومية العربية، إلاَّ أنه لم يعطٍ جانب الفتوى في الجهاد اهتماماً ملحوظاً، بل راح يحسب أن تلك الفتوى من أوجب الواجبات على الفقهاء المسلمين وكأن هناك إجماعاً حولها إذا ما تعرَّضت الأرض للاحتلال.
واستناداً إلى الرؤية القومية تفاجأ أكثر المفكرين القوميين بما يحصل من التباسات وإشكاليات حول تلك الفتوى، إلى أن أتى نفر من الإسلاميين يوضح أصول تلك الالتباسات ليخلصوا إلى نتائج لم تكن مثار ارتياحهم. ومن هنا نرى أن نبدأ من حيث انتهت نتائج آراء ذاك النفر.
الأنموذج الأول: أعلن ممثل السيستاني، المرجع الشيعي الأعلى في النجف، معارضته المقاومة المسلحة، معتبراً أن ذلك »يلحق الضرر بمصالح الشعب«. فالسيد السيستاني يرى أن تكون المقاومة »سلمية«. ولم يأخذ السيستاني موقفاً حيال الوجود الأميركي في البلاد إلا أنه بدأ بإسماع أطروحاته المعارضة التالية:
أ-حول آليات انتقال السلطة إلى العراقيين: رفض الأسباب التي يعلن أصحابها استحالة تنظيم انتخابات عامة، في ظل الوضع السائد في العراق، مصراً على انتخاب أعضاء الجمعية الانتقالية التي يتم تسليم السلطات إليها وليس تعيينهم( ).
ب-رفض نص القانون المؤقت،الذي أصدره الاحتلال خلال في 8 آذار/ مارس من العام 2004، بحيث وصف ممثل السيستاني القانون بأنه »مهزلة تاريخية« ( ).
وتوَّج السيستاني موقفه بإعلانه القبول بتحكيم الأمم المتحدة. ولكن لم يقف أمام حقيقة ارتباط تلك المنظمة بالمشروع الأميركي، ومدى ارتهانها لإرادة الإدارة الأميركية. وقد حاول البعض تبرير موقف المرجعية الشيعية بالأسباب التالية:
أ-ليس متوقعا أن يتصاعد موقف السيستاني إلى مستوى الإفتاء والحكم بالجهاد والمقاومة المسلحة، ببساطة أو بسرعة، لأنه يحتفظ بموقعه الولائي المتفق عليه فقهياً –كما يحسب هاني فحص- في حدود الأمور الحسبية، من جهة، وعليه أن يأخذ في اعتباره أن هناك تعدداً شيعياً لا يستطيــع اختزالــه من جهة ثانية. ولذلك -يحسب فحص- حرص السيستاني منذ البداية على التشاور الدائم مع مجلس الحكم الانتقالي، الذي يمثل تعددية عراقية وتعددية شيعية، وقد يكون هناك اتفاق ضمني، وقــد يكون صريحاً، على تعدد الأدوار وتكاملها في المحصلة.
ب-قال ممثل السيستاني في البصرة ما مفاده »إن الشيعة سيسعون إلى تحقيق أهدافهم بالوسائل السلمية في الوقت الراهن... والعراقيون لا يحتاجون إلى العنف للحصول على حقوقهم ما دامت هناك وسائل سلمية يمكن اللجوء إليها. وإذا وجد العراقيون أن الوسائل السلمية لم تعد متاحة فسيتعين عليهم البحث عن وسائل أخرى«.
ج-وللحرص الذي تبديه المرجعية –يتابع فحص- خوفاً من تواطؤ »قوى معينة… على التفريط بالسيادة والاستقلال«، تشاورت مع أعضاء المجلس للبحث عن مخرج على قاعدة التفتيش »عن حل وسط بتحسين شروط الاختيار أو التعيين، لجعله حالة وسطاً بين التعيين وبين الانتخاب العام، على أساس القاعدة الشرعية في عدم سقوط الميسور بالمعسور«، ولأن المرجعية لم تجد أن القاعدة الشرعية –التي يستند إليها بعض رموز أعضاء المجلس- تنطبق على واقع الحال في العلاقة بين المحتل والعراقيين، قررت»التوجه إلى الأمم المتحدة، … طالب فيه السيد بأن يكون للمنظمة الدولية دور ورأي، مبدياً استعداداً للالتزام«. لكن »الحاكم الأمريكي بول بريمر استشاط غضباً ]وقال[ إذا ما أرادت ]الأمم المتحدة[ العودة لا يمكن أن يكون موقعها خارج المنطقة الخضراء في بغداد، أي فـي محيـط إدارة الاحتلال أمنياً وسياسياً«. ولما رضخ الأميركيون لطلب المرجعية –يحسب فحص- بقيت المخاوف من مكرهم تسكنها لأن »المنطق والتجربة والخطاب الأمريكي، كلها تلزم التقليل من حسن الظن والتفاؤل«. وعلى العموم –يرى فحص- تسترشد المرجعية باتخاذ مواقفها »بناء على معايير المصلحة والمفسدة … والموازنة بين المهم والأهم (الترتب) …، والحساب الدقيق للمحاذير تجنباً للوقوع في الأشد محذورية. على أن القبول المتعقل بالأمر الواقع … يعني صبراً وحكمةً … لاستخدام كل الوسائل المشروعة في اللحظة المناسبة، دون تأجيل المعجل أو تعجيل المؤجل«( ).
وهنا نتساءل: هل على المرجعية الدينية المركزية أن ترهن رأيها بالواقع السياسي؟ أي هل تتغيَّر القيم استجابة لأهواء السياسة؟ فإذا كان ذلك كذلك فما هو الهدف من وجود مرجعية تأخذ المبادئ بوصلة لتصويب الأهواء السياسية وأغراضها؟
هل أخذت المرجعية المواصفات الشخصية لأعضاء مجلس الحكم؟ وهل لا تعلم بأن كثيرين منهم متورطون في مشاريع مالية لا علاقة لها بالشيعة، بل هي مشاريع ذات نفع شخصي لا تأخذ النفع العام بعين الاهتمام؟ وهل لا تعلم بالأدوار السياسية التي لعبها الكثيرون منهم قبل الاحتلال؟ وهل لا تعلم بأن المخابرات المركزية الأميركية كانت ترصد ميزانيات خاصة لتمويل بعض تلك الشخصيات وتنظيماتها؟ وهل لا تعلم أن التنظيمات التابعة لبعض أعضاء المجلس قد أسهمت في احتلال العراق جنباً إلى جنب القوات الأميركية والبريطانية الغازية؟ وهل لا تعلم بأن بعض أعضاء المجلس لهم علاقات تاريخية مع الصهيونية؟ وأنهم أغدقوا الوعود على حكومة العدو »الإسرائيلي« بتصحيح العلاقة بين العراق »الديموقراطي المحرر« والعدو الصهيوني؟ ألا تكفي تلك المواصفات الشخصية والعامة لكي تتخِّذ المرجعية موقفاً صارماً يقضي بطردهم ومنعهم من الدخول إلى أقداس العتبات المقدسة؟
أما حول تكامل الأدوار بين المرجعية وأعضاء مجلس الحكم، فنتساءل: وهل تنطبق قاعدة تكامل الأدوار بين التعدديات ذات المقاصد الخيِّرة وأصحاب الأهداف المنحطة؟
ليس ذلك –على الإطلاق- تكاملاً في الأدوار، بل إن صراع المتناقضات هو القاعدة بينهما، ونربأ بالمرجعيات الدينية أن يكون موقعها مكمِّلاً ومحاوراً لأصحاب الأهداف المنحطة.
وهل جاء المحتل إلى العراق بقصد أن يعطي للذين ربَّاهم في ثلاجاته الحق بالاعتراض على مشروعه؟ وهل لدى هؤلاء النية في أن يقاوموا المحتل الآن وبعد الآن وإلى أبد الآبدين؟
وهنا نقول: إن كل الذين دخلوا إلى العراق بحماية دبابات الاحتلال لم يكن القصد من مساعدتهم له قبل حصوله، الإطاحة به بعد وقوعه. فالقصد من تسهيل الاحتلال هو إبقاء قواعد للاحتلال في العراق لكي تكون حامية –للذين تعاونوا معه- من غضب شعبهم، لأن شعبهم سوف يكتشف –آجلاً أو عاجلاً- أنهم جاءوا ليبرروا سرقة المحتل لخيرات العراق على أن يسمح لهم بأن يكونوا سماسرة بين اللص السارق والشعب العراقي المسروق.
الأنموذج الثاني: يفتي المستشار فيصل مولوي لتبرير شرعية مجلسٍ للحكم عيَّنه الاحتلال الأجنبي. و يميز بين مشاركتين، يحدد التزام المجلس بإحداها شرعيته من لا شرعيته.
الأولى: »إذا كانت المشاركة تنطلق من الموالاة للقوات الأمريكية ضد مصالح الشعب العراقي، ومن الرغبة في بقاء الاحتلال، فهي غير مشروعة يقيناً«.
الثانية: أما »إذا كان قصد المشاركين أن ينوبوا عن شعبهم في انتزاع حقوقه من المحتل، وأن يخففوا من الأضرار الناتجة عن الاحتلال، وأن يقوموا بالخدمات التي يحتاجها الناس، وأن يشاركوا في وضع الدستور الجديد ليكون أكثر تعبيراً عن عقيدة الشعب العراقي وخصوصياته، فمشاركتهم جائزة بهذه النية«( ).
لقد فات المستشار أن أعضاء مجلس الحكم، هم من الذين شاركوا في الإعداد للعدوان على وطنهم، وكانوا من الموعودين بالتعيين في مجلس للحكم في أثناء الإعداد للحرب. وتمَّ تعيينهم، ليقوموا –ليس لتأمين الخدمات بما يوفر المعاناة عن شعبهم- بل بدور أمني يستهدفون منه ملاحقة المقاومين وقتلهم أو اعتقالهم وتسليمهم لقوات الاحتلال من جهة، وليبصموا على القرارات والقوانين التي يُعِدُّ الاحتلال نصوصها.
الأنموذج الثالث: وجاء في بحث حول إشكالية الجهاد عند (معتز الخطيب) عدد من الأسئلة المشروعة واللافتة للنظر والاهتمام تمهِّد إلى قراءة جديدة لفتوى الجهاد، ونرى أنه من المفيد التذكير بها، كما وردت عند كاتبها، وتتلخص الإشكاليات المطروحة عنده بما يلي:
تساوى موقف السياسي وفتوى الفقيه في أسلوب »الترضية«، أي بمعنى أن كليهما كان يريد رفع العتب حول إبداء رأي من عدوان يتعرض له بلد عربي ومسلم. أما بخصوص الفتوى فقد تشابهت نصوص الفتاوى التي صدرت عن أطياف دينية متعددة، ومن أقطار عربية متعددة، حيث كان النص الذي أجمعت عليه الفتاوى، هو التالي: »بمنطق شريعة الإسلام إذا نزل العدو في أرض المسلمين يصبح الجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة«.
واستناداً إليه يضع معتز الخطيب() جملة من التساؤلات لكي يبني عليها رؤيته لتجديد مفهوم الجهاد. فيرى أولاً أن ظروف الماضي قد تغيَّرت، واستمر الفقهاء المسلمون بإصدار فتاوى على أساس الحالات الماضية، وهذا ما يجب الاهتمام به لمن يريد الخوض في مناقشة الفتوى الدينية حول الجهاد. ويبرز إلى الواجهة ثلاث إشكاليات:
الإشكالية الأولى:ظروف اليوم تخضع لظروف الدولة الوطنية العلمانية المحصورة الحدود، وتقسيمات الوظائف فيها فصل بين الديني والسياسي. وهذا ما يطرح الإشكالية التالية: من له صلاحية إصدار الأمر بالجهاد؟ هل هو السياسي وهو غير مخوِّل بالشأن الديني؟ أم هو الفقيه وهو لا سلطة سياسية له لتكون فتواه قابلة للتنفيذ؟
ولهذا يقول الخطيب: »إذا كان قرار الجهاد مرتهنًا بالإمام الذي يجمع بين الديني والسياسي«؛ فإنه مع انفصال الدين عن السياسة، وتعدد دُور الإسلام، تشظت الفتاوى الدينية كمثل تشظي القرارات السياسية.
أما الإشكالية الثانية: فهي وجود تنافر بين فتوى المفتى بوجوب الجهاد وموقف السياسي المرتبط المصالح مع قوى الاحتلال. »وهو ما يجعل من الواقعي النظر إلى تداخل مفهومي الجهاد: الجهاد ضد الداخل (الحاكم) والجهاد ضد الخارج معًا«.
ولكي يجد حلاً، يبدأ الخطيب بتكوين رؤية جديدة لفتوى الجهاد مبتدئاَ بتحديد مبادئها الدينية الأساسية قائلاً: »إن الجهاد –بمفهومه الدفاعي– يكون بهدف حفظ الدين والحرية الدينية، ومواجهة أي عدوان يستهدف الشريعة، أو أي اعتداء على الدولة الإسلامية«. لكن مع »وجود نظام الدولة العلمانية… أصبحت الأمور أكثر تعقيدًا«. والسبب أنه لما أفرزت العلمانية وجود حاكم مستبد، فعلى قاعدة حديث الرسول : »إن أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر«، كان من الأولى على الفقهاء أن »يدعوا إلى الجهاد ضد الحاكم الطاغية«.
أما الإشكالية الثالثة: فتتمثَّل بتعقيدات تعدد الرؤى حول مفهوم الجهاد، إذ دعا بعض الفقهاء إلى نماذج متعددة منه كمثل الجهاد المدني، الجهاد الذي لا علاقة له بالجانب القتالي.
وبالإجمال يرى الخطيب بأنه كان من الأولى على الفقهاء المسلمين أن يدعوا إلى جهاد الحاكم الظالم، والحاكم المرتبط بالأجنبي؛ وهذا لو طُبِّق في السابق لما كانت الأمور قد وصلت إلى مرحلة السوء الحالية( ).
الأنموذج الرابع: لا تُجيز (جماعة التكفير والهجرة: تأسست العام (1397هـ =1977م). وتحسب نفسها أنها الفرقة الناجية من النار) قتال العدو، ولهذا طلبوا إعفاءَهم من الخدمة العسكرية في الجيش المصري، لأن الجيش –كما تحسب الجماعة- لا يقاتل في سبيل الله، و»قتال العرب الآن لليهود لا يمكن بحال أن يُسمَّى قتالاً إسلامياً؛ حيث إن القتال الإسلامي-كما نعرفه-هو القتال في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، يعني لغرض الحكم بما أنزل الله، وليس من الممكن أن يقاتل قوم لا يحكمون أنفسهم بكتاب الله، ليحكموا غيرهم به«( ).
لهذا، حتى لو دخل اليهود مصر » فليس بالضرورة أن يكون سلوكي هو تقديم شباب جماعة المسلمين للموت في هذه المعارك، إنما قد يكون سلوكي ترك مصر وينتهي الأمر…«. و»خطتنا هي الفرار من العدو الوافد تماماً كالفرار من العدو المحلِّي وليس مواجهته…«( ).
2-في احتمالات الفتنة العرقية والطائفية:
يشغل الحريصين على استمرار أداء المقاومة العراقية هواجسٌ ومخاوف من أن يزرع الاحتلال في طريقها بعض العوائق والحواجز، بما يؤثر في إضعافها أو إلهائها عن مهماتها الأساسية في ضرب الاحتلال وأدواته. ومن جملة تلك المخاوف والهواجس التساؤل عن إمكانية خلق فتن طائفية هنا أو هناك، أو خلق فتن عرقية.
ولأننا حريصون على المقاومة العراقية بما يجعلها تحت أضواء واضحة، من حيث مهمتها وأدائها وتأثيراتها: كشفاً عن أسباب وجودها، ومراحل تكوينها، وواقعها في اللحظة المعاشة، واحتمالات تطورها، وعوامل استمرارها وتطويرها، وبالتالي البحث عن وسائل تنشيطها، وعن عوامل إلهائها عن مهمتها، واستشراف تأثيراتها في سياق الصراع العام بينها وبين أهداف الاحتلال وواقعه، وسبل إضعاف وسائل حمايته، نرى أن نقف بجدية أمام الإشاعات والتكهنات التي تنذر بإمكانية خلق سلسلة من الفتن الداخلية في العراق، ومنها احتمال قيام فتنة عرقية أوطائفية، يكون أصحاب مشروع »القرن الأميركي الجديد« من راسميها وصانعي سبل وعوامل توليدها.
لتلك الأسباب،ولأن الاحتمال بغاية من الحساسية، دفعنا الحرص لاستقصاء رؤى الكتَّاب والمفكرين العراقيين لأنهم الأعلم بخصوصيات الساحة العراقية، ولم نهمل بعض الآراء التي صدرت عن غيرهم ممن لهم آراء في تشخيص عوامل مخطط الفتنة وإمكانية نجاحها وأسبابها.
بعد أن قلبت المقاومة العراقية الطاولة على رؤوس المحتلين، وفي مقدمتهم »إسرائيل« والصهيونية العالمية، أخذوا يعملون على نبش وتحريك رماد الطائفية والعرقية في المجتمع العراقي المتعدد التنوع، لتكون المحاولة الأخيرة، بعد أن يدب اليأس في نفوسهم من إمكانية وضع العراق تحت السيطرة الكاملة. فهم بمثل شعورهم بالفشل لن يأسفوا على شيء ما أن تصبح أطماعهم بحكم المقضي عليها، فمن بعد فشل مشروع »أصحاب القرن الأميركي« الطوفان.
يرمي أصحاب الخطة الخبيثة إدخال العراق في حرب (التدمير والإبادة، حرب الطوائف والقوميات). ففيها الكثير من الخطورة في نقل الصراع من صراع عراقي – أميركي إلى صراع عراقي – عراقي. إنها المعركة الفصل التي يتقرر على ضوئها بقاء العراق عربياً لكل مواطنيه، وفي تفتيته نهاية لتجربة قومية رائدة. ومع تلك النهاية يكون المشروع الصهيوني – الأميركي على العراق قد حقق أهدافه( ).
ومن جملة مظاهر الإعداد لهذا المخطط الخبيث، نرى أنه ليس من الغرابة ‏أن يتصاعد الحديث في وسائل الإعلام الغربية عن منظور الحرب الأهلية، ويتساوق هذا مع تصريحات أطلقها نائب بول بريمر، الحاكم الأمريكي في العراق، عن إمكانية التصعيد في العراق مع اقتراب تسليم السلطة لمجلس الحكم. واتفقت وسائل الإعلام البريطانية على فكرة الحرب الأهلية. ويبدو أنها حضرت في كل تحليلات المعلقين البريطانيين. فهي تارة تشير إلى الجماعات الوهابية السنية العراقية، وتارة أخرى إلى أبي مصعب الزرقاوي ومؤامرة القاعدة. وهذا ما يراد به من وراء إبراز الوثيقة التي نسبتها له المخابرات الأميركية. ونحن نرى أن الصُنعة فيها تفضحها من خلال اقتراح مزعوم وجَّهه الزرقاوي لبن لادن لاستهداف الشيعة الذين ارتدوا –حسب الوثيقة المزعومة- لباس الجيش والشرطة، لذا اقترحت استخدام أساليب التفجيرات الاستشهادية للإضرار بهم( ). ويبدو الخبث المخابراتي الأميركي واضحاً من وراء تسريبها، لأنها تريد أن توحي أن استهداف الجيش والشرطة من أجل كون عناصرهما من الشيعة، وليس لأنهم يشكلون دروعاً للاحتلال.
ولكن الصحافي البريطاني، روبرت فيسك كان قد حذَّر، في معالجته للموضوع( )، من الأهداف المرسومة للحملة الإعلامية الأميركية والبريطانية في تكرار الحديث عن إمكانية اندلاع فتنة طائفية في العراق بين السنة والشيعة. وكشف زيف الوثيقة التي سرَّبها بول بريمر لوسائل الإعلام. مستنداً في جزمه إلى مدى الفائدة التي تجنيها قوات الاحتلال من التحضير لها وتصنيع عوامل اندلاعها، قائلاً: »إن اندلاعها يعني أن العراقيين سيقبلون أي حل أو خيار تفرضه أمريكا عليهم«. ويشكك فيسك بصحة الأخبار التي تروِّجها المصادر الإعلامية ذاتها، عندما تحصر الإشاعات عن التفجير بغير الشيعة، أي بكل من الأجانب الذين يجتازون الحدود السعودية مع العراق، أو بمن هم من »القاعدة« أو بمن هم –حسب زعمهم- من بقايا البعث أو السنة العراقيين الذين يريدون –كما تروِّج الأخبار المدسوسة- حرف المسار الديمقراطي في العراق الذي بدأت تلوح بشائره من خلال الموافقة المزعومة على مسودة القانون الأساسي( ).
وتؤكِّد بعض الوسائل الإعلامية الغربية أن »إشعال فتيل حرب أهلية بين الشيعة والسنة، يوفر أعذاراً لإطالة أمد احتلال البلاد من قبل الأمريكيين، وربما حلف الناتو لاحقاً، بحجة تجنيب البلاد »كارثة إنسانية«، وبدعوى »المحافظة على الأمن والنظام«( ).
إنَّ تقسيم العراق وتفتيته إلى كيانات هزيلة، هو أمر مطلوب لإنجاح المخطَّط الأمريكي. فمن المؤكد أنَّ هذا التقسيم لن يمرر بقرار صادر عن سلطات الاحتلال بشكل علني ومباشر عن مجلس سكرتاريَّة بريمر، ولن يتحقَّق عن طريق قرار صادر عن إدارة جورج بوش، بل سيتم طرحه وفرضه كحلٍّ نهائيٍّ ووحيد لإنهاء الحرب الأهليَّة المخطَّط لها، ويتمُّ تهيئة الأجواء المطلوبة لاندلاعها تمهيداً لتقسيم العراق. ومن الواضح أنَّ توفير الشروط المثلى لاندلاع الاقتتال الوطني -لا سيَّما في مجتمع متعدِّد القوميَّات والديانات والمذاهب كالعراق- يتطلب إثارة النعرات الطائفيَّة والعرقيَّة، وشحن الأجواء بالكراهية والبغضاء ، ورفع وتيرة التعصُّب الطائفي والعرقي عن طريق اغتيال رموز معروفة، وتفجير وتدمير مراكز دينيَّة لها مكانة روحية واجتماعية، وإلقاء تبعاتها على جهات محسوبة على طائفة معيَّنة. ولوضع المخطط قيد التنفيذ يقوم الاحتلال وعملاؤه بالاعتداء على بعض الأماكن المقدَّسة وإلى اغتيال رجل دين من هنا أو هناك. وهذا ما يجد تفسيراً له في ما تعرَّضت له مساجد السنَّة والشيعة من اعتداءات متكرِّرة، واغتيال العراقيِّين المسيحيِّين، أو حملات التطهير العرقي التي تشهدها كركوك( ).
ولقد أسهمت، الميليشيات المذهبية، وكذلك الميليشيات العرقية -ولا تزال تسهم- في تنفيذ مخطط التقسيم المرسوم لها تنفيذه. وما يحدث في المناطق العراقية المختلطة بين الأكراد والعرب يؤكد ضلوع تلك الميليشيات –بقرار سياسي من أحزابها- بالتنفيذ. وحول ذلك، »أضحت كل الأسماء في واجهات المطاعم ودور السينما والمدارس والإدارات باللغة الكردية. أما مزارات الأولياء (من العرب) فقد مُحيت من الوجود بواسطة البلدوزرات لئلا يُقال إن هذه أماكن أولياء من أصول عربية عاشت وماتت في كركوك. حتى شواهد قبور العرب الموتى أزيلت. وأصبح مشهد (تكريد) كركوك ماثلاً للعيان في كل ركن وزاوية من المدينة« ( ).
وهنا نتساءل: هل الحرب الأهلية في العراق اليوم، هي خطر حقيقي وداهم؟
نتيجة فشل الاحتلال في تثبيت مشروعه في العراق وحمايته، وصلت الإدارة الأميركية »إلى مرحلة المقاربة مع طرح مشروع التقسيم كمخرج من الأزمة«( ). وحول هذا المخرج، تلاقت مصالحها مع مصالح كل من إيران وبعض الجماعات العراقية، وخاصة »المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق«، والأحزاب الكردية ذات الاتجاهات الانفصالية. وبمثل هذا المشروع تنتعش آمال »الكيان الصهيوني«، فهم يتعاونون من أجل إنجاحه( )..
ليست الخطورة تكمن في تفاوت الأهداف السياسية لأعضاء »مجلس الحكم الانتقالي« الذين يتراوحون من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وما هو السبب الذي جمع أحزاباً وشخصيات متباينة في مرجعيتها الفكرية لأن توحد موقفها في تسجيل التحفظ على نصوص »قانون الدولة العراقية المؤقت«؟ وما هو السبب الذي دعا إلى التآلف بين المؤتمر الوطني وحزب الدعوة، وحركة الوفاق والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية وغيرهم؟ وهل يمكن أن يكون هنالك من شيء سوى الانتماء المذهبي المحض؟( ).
أما الأحزاب الكردية، بالتنسيق مع الكيان الصهيوني والإدارة الأميركية، فقد وقَّعت على بروتوكولات لتأسيس دولة كردية – يهودية في شمال العراق( ).
أما بالنسبة للدور الإيراني فقد كان »ذرائعياً، وهو ]يعمل[ على حساب العراق ووحدته«، ولهذا يرى مصلحته في التأسيس السياسي على قاعدة تشكيل مجلس الحكم العميل، والذي يعني تقسيم العراق على قاعدة الإثنيات الدينية والعرقية( ).
لقد تسلَّل الدور الإيراني لكسب حصته من كعكة العراق الديموغرافية والجغرافية، بعد احتلال العراق. أما مضامين الزوايا التي تلطَّت بها الأطماع الإيرانية، فقد أشار نص في البروتوكول إلى ضرورة إرضاء دول الجوار بحيث إنه: وفى إطار جميع هذه التغيرات سيتم منح إيران امتيازاً خاصاً من خلال منحها حق شراء أراضٍ في المنطقة التي لها مكانة خاصة بالنسبة للشيعة والمتمثلة في النجف وكربلاء والكوفة( ).
تلعب التنظيمات السياسية الشيعية دوراً مكملاً للدور الإيراني في موضوع الفيدرالية. لكن المؤسف أنها لم تلتزم بمصلحة الوطن العراقي ولا حتى بمصلحة الطائفة الشيعية. فهي كانت، ولن تستطيع إلاَّ أن تكون، أداة بيد المشروع الإيراني تارة، وأداة بيد المشروع الأميركي تارة أخرى. ففي أحسن الأحوال لن تستفيد مع من تدَّعي تمثيلهم من الشيعة العراقية إلاَّ مما يفيض عن حاجة الأطماع الإيرانية تارة، والأطماع الأميركية تارة أخرى. وحتى الأطماع الأميركية سوف تأكل كل شيء بحيث لن تترك لإيران أي منفذ للاستفادة من العراق إلاَّ ما تسمح به الإدارات الأميركية –فيما لو استقر لها الوضع في العراق- من كوى ونوافذ خاضعة لرقابة صارمة من أجهزة مخابرات الاحتلال.
أما الذين أسسوا على الإثنية الدينية – الطائفية، فقد تمسكوا بمواقفهم المعادية للمقاومة، وبرروا مواقفهم بعدم وجود فتوى دينية. وهذا مخالف لأبسط قواعد النظر إلى الاحتلال، بحيث أن مقاومة الاحتلال »ليست بحاجة إلى فتوى دينية أو صك مرجعي، وبذلك فإن تأجيل أو ارتهان المقاومة بانتظار صدورهما إنما يعتبر تقاعساً وطنياً. واستمرار حالة التأجيل والارتهان تلك إنما تصبح تواطئاً مع الاحتلال وخيانة للوطن«. وليس هناك خطر على وحدة الأوطان أكثر من خطورة الشرخ المذهبي. ويستثمر الاحتلال الأميركي –اليوم- تلك التقسيمات من أجل إحداث شرخ على صعيد الوطنية العراقية كتمهيد لإحداثه على الصعيد القومي العربي. »وفي النهاية تكون عوامل تفتيت للوطنية العراقية، بحيث تضرب بها ومن خلالها المقاومة الوطنية المسلحة المستهدفة تحرير العراق والحفاظ عليه موحداً ووطناً لكل العراقيين«.
بسبب ما تمثله تلك الظاهرة من خطورة على الصعيد الوطني، فإنها تمثل الخطورة نفسها على أداء المقاومة، لذا تؤكد قيادتها على عدد من الثوابت الوطنية، فتعتبر أن »المقاومة المسلحة مقاومة وطنية جامعة«، وهي »ليست محصورة على أبناء مذهب بعينه أو ديانة بعينها…وهي بذلك يتشرف بالانضمام إليها والقتال ضمن تشكيلاتها الرفاق البعثيون والمناضلون الوطنيون سنة وشيعة… ولا تنحصر فعالياتها القتالية والأخرى في منطقة جغرافية دون غيرها«( ).
فالمقاومة العراقية، نتيجة المخاطر التي تطول العراق من جراء تنفيذ مخطط التفتيت، عليها أن تضرب كل صانعيه أو القابلين به، أو الذين يؤهلون لحمايته –وخاصة منها الميليشيات المحلية( ). وإن »الرهان الوطني الكبير على إحكام عزلة النشاط المدني بخاصة، للمحتل، والحد من تنميته لظاهرة التعاون والمتعاونين مع أجهزته، يشكل الوجه الآخر لرهانات الصدام المسلح والعمليات الهجومية الجريئة المتصاعدة الوتيرة«( ).
يرى البعض، من الذين كتبوا من الأكاديميين والسياسيين العراقيين، »إن الذين يشيعون هذه الخرافة (الفتنة العرقية والطائفية) ويحاولون تسويقها، إنما يحاولون عبثاً الإيحاء بأن بقاء الاحتلال هو الحل الوحيد لمواجهة خطر اندلاع حرب أهلية… ومن أبرز هذه الحقائق أن المجتمع العراقي لا يعيش أي نوع من الانقسام المؤدي إلى ارتطام الحساسيّات الثقافية أو الكتل الاجتماعية. على العكس من ذلك، ثمة إجماع متزايد عند الشيعة والسنّة على صيانة الوحدة الداخلية«. وإذا »كان رحيل قوات الاحتلال سوف يسفر عن فوضى، كما يُزعم، فالفوضى جلبها الاحتلال نفسه، وبالتالي، فإنها سوف تزول بزواله«( ).
ويرى آخرون، أن ثمَّة سلوكات إيجابية تنجم بعد كل حادث يشتمُّ منه العراقيون رائحة الفتنة إذ يسارع المخلصون، وهم ليسوا قلة في المجتمع العراقي، إلى التأكيد على الوحدة الوطنية والدينية. ففي أعقاب كل تفجير مشبوه يتكاتفون ويجمعون على استنكاره. وتتعالى أصواتهم بالمطالبة بإنهاء الاحتلال، والتنديد بسياساته ، وتصرُّفات مرتزقته( ).
كما أوجز أحد العراقيين المثقفين جوابه حول التساؤل: هل هناك إمكانية حصول فتنة طائفية في العراق، قائلاً: ليس في ماضي العراق وحاضره ما يدل على أن احتمال الفتنة الطائفية، أو العرقية، واقعياً. وبالإضافة إلى تاريخ العلاقات الإيجابية بين شتى الأديان، وشتى العرقيات، فقد كان لاتجاهات نظام حزب البعث الوطنية القومية ما زاد في ترسيخ العلاقات الإيجابية بين العراقيين، إذ أصبح الولاء للوطن هو الجامع الأساس بين شتى أطياف العراقيين. وما يُشاع عن ظلم أُلحِق بالشيعة والأكراد، ليس إلاَّ ذرَّاً للرماد في العيون، وهي إشاعات عمَّمتها أجهزة المخابرات الأميركية، بالتعاون مع أصحاب المشاريع السياسية المذهبية، وأصحاب المشاريع السياسية الانفصالية من الأكراد، والقصد منها إيجاد ذرائع يتغطَّى به مشروع الهيمنة الصهيوني – الأميركي على العراق، أرضاً وشعباً وثروات().
إن نسيج العلاقات الوطنية المتينة بين العراقيين، ونسيج العلاقات القومية ذات الأبعاد الإنسانية، لا تمثل الوجه الوحيد لحصانة العراقيين ضد الاقتتال الطائفي أو العرقي فحسب، وإنما وعيهم لرغبة المحتل في تأجيج الفتنة الطائفية وجه آخر. فالشعب العراقي يعي أن الاحتلال يرتاح وسط الفوضى والاقتتال الداخلي. ونتيجة لهذا الوعي فلن تنجح الفتنة سواء كانت طائفية أو عرقية. ولكن ما يُخشى منه، كما يرى أحد رجال الدين العراقيين، أن مدة سعي الاحتلال لذلك ستطول مما يؤدي لسقوط المزيد من الضحايا. وفي المقابل يرى العالم نفسه، أنه كلما »كان تلاحم أبناء الشعب أكثر كلما اقتنع المحتل أن لا فائدة من محاولاته«( ).
إن وعي المشكلة ومخاطرها اجتياز لنصف حلها، أما النصف الباقي من الحل فهو مرهون بالتعاون المتكامل بين شتى أطياف المجتمع العراقي، الذي يتطلَّب –في أحيان كثيرة- الصبر على امتصاص نتائج وتأثيرات ما يفتعله أصحاب الشأن الأميركي – الصهيوني من محاولات وتفجيرات واغتيالات يكون القصد منها إيصال حالة الاحتقان إلى مدياتها القصوى، أي إلى الحد الذي يحسب فيه أن المتضررين لن يضبطوا أعصابهم من بعدها فيتحولون إلى ردود الفعل، والوصول إليها تنفلت المقاييس والحسابات العقلية وتتحول إلى ردود فعل غريزية.
أما وعي المشكلة والتعامي عن مخاطرها فيمثِّل النصف الأصعب، السبب الذي يجب أن يشكل حافزاً لذوي العاقلة من العراقيين إلى عدم الاسترخاء عن القيام بضبط من يسهل انقيادهم إلى ردود الفعل العشوائية، وهذا الجانب لا يزال مدار اهتمام عند الأوساط العراقية الواعية، وهذا ما يزرع الارتياح في النفس.
لكن، على الرغم من تلك النظرات المتفائلة، والتي تحمل الكثير من جوانب الواقع الصحيحة، تبقى عدة من العوامل التي يشجع الاحتلال على تعميقها، لعل من أبرزها تلك المخاطر التي تواجه العراق بعد الاحتلال وهي مسألة الفيدرالية التي بدأ الحديث عنها، في بعض الدوائر، يتصاعد ليصل إلى أعلى مستويات الخطورة.
إن الفيدرالية لم تكن في يوم من الأيام علاجاً لبلد يعيش الوحدة بشكل صريح وواقعي كما هو الحال في العراق، لأنها كما هي مطروحة كحل لدى البعض على أساس عرقي ستقود إلى فيدرالية بين المذاهب، لتنطلق عرقياً ولا تنتهي مذهبياً. إن ما يقود إليها هو الإشكالية التي تدور، سراً أو علناً، حول من يحكم العراق. ومن هم الأقلية ومن هم الأكثرية. إن المطلوب هو أن يتوحد العراقيون بكل أطيافهم السياسية وانتماءاتهم العرقية أو المذهبية على أساس العناوين الكبرى، ومن أهمها السعي الجاد للخلاص من المحتل بكل السبل المتاحة، والسعي لحفظ وحدة العراقيين في مواجهة الاحتلال ومخاطر اللعبة الدولية( ).
يأتي هذا التشخيص على غاية من الأهمية، ويستدعي الوقوف عنده. ويتطلَّب النظر إليه من زاوية الواقع السياسي والفكري الذي أدخلته الحركات الدينية السياسية على الفكر الديني من جهة، والفكر السياسي الوطني من جهة أخرى. وقد فتحت الدعوات الفيدرالية الانفصالية لبعض الأحزاب الكردية شهية الدعوات المذهبية السياسية. فهناك ترابط بين الاتجاهين حتى ولو كانت أهدافهما متباينة، إلاَّ أن نجاح أحدهما يدعم نجاح الآخر. بحيث يتغذى ويجد له مبرراً.
لا بُدَّ من القول إن للدين دوراً في كل ما يتعلَّق بشؤون الناس الدينية، والدنيونية، بحيث لا يمر طريق الخلاص إلى الآخرة –كما تعتقد التيارات الدينية السياسية- إلاَّ عبر حياة دنيوية صالحة تلبي شروط الخلاص الأخروي. ولأن الحياة الدنيوية لا يمكن إلاَّ أن تكون محكومة بشرائع الدين، تحسب التيارات الدينية السياسية أن التكليف الدنيوي للإنسان حسب الشرائع الدينية، والمذهبية على الغالب الأعم، هو الطريق الوحيد للخلاص في الآخرة. ولأن تلك الشرائع تمثِّل إرادة إلهية، لا يمكن إلاَّ أن تكون ثابتة ، ولا يجوز أن تُستبدَل بشرائع دينية أخرى، ولا حتى بشرائع وضعية، تنخرط تلك التيارات في التأسيس للدعوات الانفصالية على قاعدة أن الناجين في الآخرة هم أتباعها وحدهم. ولأجل الترابط بين الخلاص في الآخرة مع تفصيلات الحياة الدنيوية يتوجَّب على كل تيار ديني سياسي، أو تيار مذهبي ديني سياسي، أن يسعى لبناء دولة تطبق شرائع هذا الدين أو ذاك، أو شرائع هذا المذهب أو ذاك.
ولحصر رأينا حول مسألة الفتنة، نقف عند حدود معالجة دور الحركات الدينية السياسية في العراق، وتبيان دورها في التأسيس إلى نظام ثيوقراطي يطبِّق شرائعها الخاصة، تحت حجة أنها تستطيع أن تحترم حرية الإيمان عند الآخرين. ولا يضير أي كان من أن يعيش تحت ظل ذلك النظام. وبمجرد استفحال تلك الاتجاهات تتوالى دعوات المذاهب الأخرى وتتكاثر بحجة تلك الذرائع ذاتها. وبتكاثرها وانتشارها يحق لكل اتجاه ديني أو مذهبي ما يحق للآخر؛ وبها تنتشر دعوات الانفصال عن الدولة الأم. وبدعوات الانفصال تحتاج كل دعوة إلى من يساندها من الخارج لتستقوي به. ويكفي النظر إلى الخريطة السياسية التي سيتحول فيها العراق من وطن واحد إلى العديد من الأوطان. وكم هي خطيرة تلك الجغرافيا عندما تتحول أرض العراق إلى فسيفساء من الدول الحامية.
إن الفكر الديني، بما له علاقة بالسياسة، لا يستقيم مع ما أفرزته التطورات السياسية على صعيد بناء أنظمة ودول وقوميات مسوَّرة بحدود جغرافية. تلك الحدود التي لا يمكن لأي كان اختراقها أو تجاوزها إلاَّ ويكون مخالفاً للشرائع والقوانين الدولية. فكانت الجغرافيا –في مثل تلك الحال- حائلاً دون تكوين دول دينية أو مذهبية، أي بمعنى أن يلزم دين معين الأديان الأخرى بشرائع وقوانين مفصَّلة على قياس منتسبي هذا الدين أو ذلك المذهب. لذا حلَّت مكانها الشرائع الوضعية، التي تؤمِّن حرية الاعتقاد الإيماني لكل مواطني الدولة القومية بما هي اعتقادات شخصية ذات علاقة بين المخلوق كفرد وخالقه. وأصبح من الضروري أن يكون الاعتقاد الإيماني منفصلاً عن التشريعات الدنيوية لأن دور تلك التشريعات هو أن تنظِّم علاقات الأفراد بين بعضهم البعض على هدي القيم الإنسانية العليا. وما لم تستطع أن تنظم أي دولة تلك العلاقات بين أفراد متعددي المشارب الدينية والمذهبية فالبديل هو التفسخات والانفصاليات والدويلات، أو لم نتعلَّم من سلبيات تلك المرحلة في التاريخ العربي الإسلامي؟
وفي تلك الحالة أصبح بناء دول دينية أو دينية مذهبية في حدود جغرافية واحدة، أمراً في غاية الصعوبة، لأن ما يعتبر مشروعاً من القوانين عند دين أو مذهب هو غير ذلك عند الأديان والمذاهب الأخرى. فكانت القواعد الأساسية للشرائع التي عليها أن تكون عادلة بين الأديان هي تلك التي تؤمن حرية الممارسة الدينية لكل مواطني الدولة على أساس قياس الحقوق والواجبات الأخرى على مكيال المصلحة العامة لشتى أطياف المواطنين وانتماءاتهم الدينية.
من هذه البداية يمكن أن نتصوَّر خطورة الفيدرالية القائمة على قاعدة المذهب أو العرق، تلك الاتجاهات التي ينبني عليها المشروع الأميركي بالنسبة للعراق. وإذا كان تطبيقه يخدم المشروع الأميركي فلأنه يعمل تفتيتاً في البنى الوحدوية الوطنية والقومية. وعلى منواله تصب دعوات التنوع في إطار الوحدة خاصة إذا كانت مسألة الحقوق والواجبات مبنية على قاعدة دينية أو مذهبية، ويصح ذلك على كل المستويات بما له علاقة في كل الجوانب ما عدا حقوق الممارسة الدينية التي تقوم على قاعدة حرية الاختيار الذاتي.
يحسب الانفصاليون على قاعدة الفيدرالية العرقية أن مشروعهم يصبح في غاية السهولة إذا ما حاولوا ابتزاز أصحاب المشروع الصهيوني الأميركي، لحاجتهم إليهم في مرحلة احتلال أرض العراق. ولكنهم لا يدرون أن أصحاب المشروع يريدون العراق كله سواء كان موحَّدَاً أو مفتتاً، بل إذا لم يستولوا عليه موحَّداً فأخذه مفتتاً لا يضيرهم شيئاً.
فالعراق المفتت هو مشروع اقتتال دائم بين العراقيين، ويكون المعبر الآمن لقوات الاحتلال لأنها لن تدفع ثمناً من أرواح جنودها عندما يصبح العراقي عدواً للعراقي الآخر. وليكن على قاعدة العداء العرقي أو العداء المذهبي فالأمر سيان عند من يعمل لاحتواء العالم كله.
وقبل أن يصل الانفصاليون العرقيون أو المذهبيون إلى مواجهة الواقع المر، عليهم أن يراجعوا حسابات الربح والخسارة بين أن يكون العراق، بأكمله لكل منهم، أو أن يكون لكل منهم قطعة منه فقط يشاركه فيها الاحتلال من موقع الآمر الناهي. وهو بعد أن يمزِّق النسيج الوطني، اللاحم الوحيد بين أبناء العراق، سيُعيد ترتيب أوضاع البيت العراقي بما يخدم مصالحه وحدها (فمشروع المتطرفين الأميركيين الجدد لا يرى الآخرين خارج مصالحه).
أما على أرض الواقع فنرى أن الخطر الآتي -لخلخلة وحدة الشعب العراقي- هو من أن»حصان طروادة« الأميركي التفتيتي يستعين بالميليشيات التابعة للحركات السياسية الدينية والعرقية، لأن تلك الميليشيات وحدها تحمل عوامل الاستعداد لمشاركة قوات الاحتلال في حفظ أمنها الخاص في العراق، ومن أهم جوانبه ملاحقة المقاومة العراقية لتصفيتها. وما أخذ يتسرَّب من أنباء عن أحداث حصار الفلوجة، في أوائل شهر نيسان/ أبريل 2004م، عن مشاركة تلك الميليشيات في حصار المدينة واقتحامها، لهو دليل على أن العراقي –المنظَّم في ميليشيات عرقية أو مذهبية- هو الوحيد المعدّ ليقاتل أخاه العراقي على ظهر دبابات الاحتلال( ).
إن التنازلات المتبادَلَة بين المذاهب الروحية عن شق التشريعات الدنيوية لمصلحة تشريعات الدولة المدنية الموحَّدَة والموحِّدَة، بحيث يحتفظ كل تيار ديني لنفسه بالجانب الإيماني الروحي الذي يحسبه طريقاً للخلاص في الآخرة، هي الطريق الأكثر واقعية في أُسس الدولة القومية وقواعدها بما يحفظ لجميع المواطنين العدل والمساواة في الحياة الدنيا.
وإن احتفاظ الأقليات القومية بخصوصياتها ذات العلاقة بتراثها القومي –بأبعاده الإنسانية- من جهة؛ والتنازل للدولة القومية المركزية عن التشريعات العامة التي تضمن لجميع القوميات تطبيق العدل والمساواة، هو الطريق الأكثر واقعية وعدالة في عصر الدول القومية.
وإذا كانت الدعوة إلى إعادة النظر بوسائل إيصال المنتسبين إلى أديان ومذاهب للخلاص في الآخرة، على قاعدة الاعتراف للآخر بحقه في اختيار طريق خلاصه، من الأحلام التي تثير –في كثير من الأحيان- هزء تلك التيارات وسخريتها، نرى نحن أنها ليست مستحيلة بدليل توافق الفلسفات الوضعية على واقعية حل المسائل الغيبية عن طريق حرية الاعتقاد الفردي الحر من جهة، وتقرير بعض الكنائس المسيحية أن طريق الخلاص في الآخرة ليس محصوراً بالمسيحيين لوحدهم بل يمكن أن يكون عن طرق روحية غير المسيحية من جهة أخرى.
إن إعادة جديدة في النظر حول تعاليم الانفصاليات السياسية العرقية، والانفصاليات الفكرية الروحية التي تروِّج لها عدة من الحركات الدينية السياسية، يسهم في إقصاء فكرة الفيدرالية التي يرسمها المشروع الأميركي الخبيث على مقاييس مصالحه. وبمحاربة الفيدرالية، فكراً وممارسة، يعزل العراقيون الداعين لها ويعرُّونهم عن أهدافهم الحقيقية، قبل أن يستفحل الأمر وينجح الاحتلال في تثبيت مشروعه ليقف متفرِّجاً على صراعات جانبية بين أبناء العراق الواحد، ويصبح وجوده ضرورة دولية أولاً، وضرورة للإنفصاليين العرقيين والمذهبيين ثانياً.
فإذا كانت الحركات الدينية السياسية، والحركات الانفصالية العرقية في العراق، لم تخضع لتجربة خطيرة كمثل التي يحاولون أن يخضعوا لها. وإذا كانوا يجهلون نتائجها ومآلها فليرجعوا إلى تجربة الحرب الأهلية اللبنانية، ولكل منها علاقات بشكل أو بآخر مع حركة لبنانية ذاقت آلام تلك التجربة وعرفت نتائجها.
لا يمكن لصاحب اتجاه انفصالي أن يحقق آماله وأوهامه، وإن التجربة اللبنانية جعلت الأقليات اللبنانية –هذا مع العلم أن لبنان كله مجموعة من الأقليات- يدفعون الثمن غالياً من أرواح أبنائهم وممتلكاتهم. أما بعد طول مرارة وآلام عاد اللبناني –على الصعيد الوطني- إلى دفن رأسه في حضن اللبناني الآخر والدمعة في عينيه، والألم يتآكل قلبه وروحه. فلعلَّ تجربة لبنان تفيد الساحات الوطنية القومية على طول الساحة العربية وعرضها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق