بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 22 يناير 2010

مقالات العام 2004 (4)

(60): دول الجوار الجغرافي للعراق في بيت الطاعة الأميركي
1/ 12/ 2004م
تترابط أهداف اجتماع وزراء داخلية الدول المجاورة للعراق في طهران مع أهداف مؤتمر شرم الشيخ. وقد انعقدا استلحاقاً لنتائج الانتخابات الأميركية، التي أعطت فرصة أخرى لأصحاب مشروع «القرن الأميركي الجديد» لاستكمال احتواء العراق، فأخذ أصحابه يبذلون جهوداً مكثَّفة، استباقاً للانتخابات العراقية من أجل ترتيب ما يمكن ترتيبه لتخفيف تأثيرات المأزق الذي وضعتهم فيه المقاومة العراقية، لعلَّ وعسى يصلح «العطَّار الإقليمي» ما أفسده المقاومون العراقيون على المشروع الأميركي. فأخذوا يستعينون باحتياطهم من الذين حجروا عليهم في «بيت الطاعة» الدولي والإقليمي، ويترأسهم نظاما حسني مبارك في مصر، وملالي إيران في طهران.
ما بين نتائج الانتخابات الأميركية التي جدَّدت أربع سنوات أخرى لإدارة الشر الأميركية بقيادة جورج بوش، والانتخابات العراقية التي من أهدافها التجديد في عمر الاحتلال للعراق إلى أمد غير منظور، مسافة يستغلها جورج بوش للإعداد إلى انتخابات بما يضمن تمريرها بأقل ما يمكن من العوائق. فاستخرجت إدارة الشر الأميركية من جعبة بيت الطاعة التي تأوي فيه زوجات موضوعة تحت الاختبار الدائم، فجمعت في شرم الشيخ (كبيت فرعي للطاعة) باستخدام النظام المصري، كسمسار خاضع للإرادة الأميركية، جمع عدداً من الأقطاب الدوليين والعرب ودول الجوار الجغرافي العراقي، من أجل تأمين ستار من الشرعية الدولية والعربية والإقليمية على وجودها في العراق. كما جمعت في طهران (بيت فرعي آخر للطاعة) وزراء داخلية دور الجوار الجغرافي لاتخاذ قرارات تساعد الاحتلال، ممثَّلاً بحكومة أياد علاوي، مستخدمة النظام الإيراني، كسمسار له مصلحة في ضرب المقاومة العراقية، لكي يؤمن له حصة مهما بلغت من القلَّة في كعكة ذبح العراق.
كان مؤتمرا شرم الشيخ وطهران وكأنهما يمثلان اجتماعاً ل«أهل العريس» الأميركي الذي يريد تزويج الاحتلال مع أرض العراق. فأجمع «العريس الأميركي» مع أهله من المؤيدين لهذا الزواج كل من منطلقاته (وهذا لا ينفي أهمية بعض الاعتراضات من هذا الطرف أو ذاك)، على العمل من أجل تسهيل هذا الزواج. لكن حكاية الموافقة على التزويج من طرف واحد لا تنتهي بهذا المؤتمر أو ذاك. فلكي يكتمل الزواج لا بدَّ من أن توافق «العروس العراق» وأهلها. وبانتهاء موافقة «العريس الأميركي» وأهله يبدأ رفض «العروس العراق» وأهلها.
تبدأ حكاية أهل العروس من أن أرض العراق تأبى أن يدنِّسها أي احتلال مهما كان لونه ورائحته وشكله، ومهما كان عرقه أو دينه أو مذهبه، فهي تلفظه وترفضه، كما تلفظ «الكريات البيضاء» أي نوع من الجراثيم والأوبئة التي تتسلل إلى دم الإنسان وترفضها وتقاومها بشتى الأشكال والوسائل. ف«العروس العراق» أبيَّة وعصيَّة ضد أي زواج بالإكراه، وأكثر مظاهر الإكراه قبحاً هو الاحتلال الأجنبي، وأكثره فظاظة هو الاحتلال الأميركي، وأقبح مشاريعه ووسائله هو وجه أصحاب «القرن الأميركي الجديد».
أرض العراق هي غير أرض الملوَّثين بالتعصب الأعمى للمذهب، والتعصب الأعمى للعرق.
وأرض العراق ارتوت من مياه دجلة والفرات، كما أنها ارتوت من دم الغزاة منذ فجر التاريخ.
أرض العراق لا مذهب ولا عرق فيها فهي أرض العراقيين كلهم وكفى.
أرض العراق رفضت منذ فجر التاريخ الأول أن «تأكل بثدييها». أرض العراق شريفة وطاهرة وكل من تلوَّثت يداه بغير الطهارة من العراقيين لم يكن من أبنائها.
فإذا كانت تلك سمات أرض العراق فهي سمات العراقيين أيضاً. ولأنهم كذلك استقبلوا الغازي الأميركي بما يستأهله من أصوات الرصاص والقذائف والعبوات الناسفة. فبين العراقيين والغزاة تاريخ طويل من الصراع والعداوة، وكانت العداوة ضد الغازي الأميركي أكثر تلك المظاهر وضوحاً، وأكثر تلك الأعمال أذى وإيذاءً لوضع جنوده ووضعه السياسي، وكلاهما في وضع لا يحسدهما أحد عليه.
من وهج أعمال المقاومين العراقيين ونتائجه، التي فاقت التصور (ولمن لم يقتنع بعد فليراجع حقائق ما يجري على أرض الفلوجة التي أذهلتنا جميعاً)، لجأ العدو الأميركي إلى استخدام الاحتياط ممن يسكنون «بيت طاعته» من أجل مساعدته بعقد مؤتمر من هناك أو لقاء هناك. فكان من بينها مؤتمرا «شرم الشيخ»، و«طهران». وبهما وافق «العريس وأهله»، وراحا يطلبان ود العروس.
فكان الجواب سريعاً في كل أنحاء العراق، إذ تحتفل المقاومة كل يوم بتشييع جثث جديدة للجنود الأميركيين وعملائهم ممن خانوا الوطن، وجرحى جدد، يصلون كل يوم إلى أهلهم بالأكفان. ومن لا أهل له تلقي بهم «طائرات الشينوك» في أعماق دجلة والفرات مكفَّنين بأكياس سوداء تبرَّعت بها إدارات الشركات الكبرى في أميركا تكريماً لكل من يقاتل دفاعاً عن مصالحها، أو تدفنهم في أماكن نائية في صحراء العراق لكي تكشفهم الحيوانات الكاسرة، فتكشف وحوش البراري عن وحوش مدفونين في أرض العراق.
أما الرد الأول والأخير «لعروس العراق» جواباً على المحتل الأميركي وكل من جيَّشهم لتوسيطهم في كسب ودِّها، وودِّ العراقيين ستذروها رياح الصحراء وستدفنها في أعماق الرمال بحيث لن تبقى ولن تذر.
وإذا كنا لن نراهن على أن يسمع رئيس الإدارة الأميركية «المأفون» نصيحة المقاومة العراقية، فإن ملامح العتب على البعض من العرب والمسلمين، والألم من تواطؤ البعض الآخر، وخيانة بعض هذا البعض، لا بدَّ من أن تكون معلنة برسمهم لعلهم يفيئون إلى أمرهم. وأشد آيات السخط تتوجَّه من الشرفاء إلى العراقيين الذين لا يدرون ماذا يفعلون بوطنهم، إذ عليهم أن يتذكروا أن الأميركيين والإيرانيين يتصرفون بمصير العراق على قاعدة أنهم ليسوا «أم الولد» الحقيقية. فإننا ندعوهم أيضاً إلى أن يعوا أنهم هم الضحية ولن يكونوا بمنأى عن الذبح لتمتلئ معدات الشركات الأميركية والإيرانية، وتُتخَم، باللعق من دماء العراقيين، كل العراقيين، بغض النظر عن شيعيتهم أو سنيتهم. عن عروبتهم أو كرديتهم، أو آشوريتهم، أو كلدانيتهم.
إن مهر «العروس» غالٍ، فهي ترفض الاحتلال «بالثلاث». وليس ذلك فحسب، لأن العروس لا تقبل بأقل من أن تشيِّع جثمان الاحتلال إلى مثواها الأخير أيضاً. وليس هذا فحسب، وإنما لن ترضى بأقل من أن تخيِّب مراهنات عملاء أميركا فتكون اللحظات الأخيرة في بقائهم على كراسي المسؤولية في «بيت الطاعة الأميركي» أيضاً.
ومن أهم وسائل ذبح وحدة العراق تأتي جريمة الانتخابات على رأسها، فجريمة المشاركة فيها «تُدخِل نار جهنم» وليس العكس. ولن ينجو من عواقب تلك الجريمة، المتواطئ عن عمد أو عن جهل، من داخل العراق أو من خارجه. فالكل المشارك في تلك الجريمة لن يكون بمنأى عن تسلط المخطط الأميركي. فهل نسي البعض أو تناسى عنجهية جورج بوش وفلول إدارته في الأول من أيار من العام 2003م، عندما أعلن الإمبراطور الأميركي «السخيف» و«الكذاب» انتهاء الحرب في العراق، كما أعلن أن خطوته التالية هي قضم الآخرين حبة حبة؟؟؟!!!
***

(61): الاحتلال الأميركي يستغفل إيران وإيران تستغفل عقولنا
4/ 12/ 2004
إن الانتخابات في العراق، هي قبل كل شيء حاجة أميركية للتخفيف من مأزق احتلالها للبلد المذكور. ولهذا فالإدارة الأميركية لا تفوِّت أية فرصة ولا تضيِّع أي دعم لها من أية جهة أتى. لكن التقاط الفرص وقبول الدعم محكومان بالمصلحة الأميركية أولاً وأخيراً.
تحت هذا السقف، خُيِّل للاعب الإيراني بما يبذله من جهد، أن الانتخابات العراقية هي فرصته الذهبية لاقتطاع حصته في العراق إذا ما أوصل مرشحيه إلى ندوة العراق النيابية حتى ولو تحت مظلة «الشيطان الأكبر». وهو حكماً عجز –في السابق- عن تصدير ما سماه الثورة الإسلامية على الرغم من أنه ضيَّع من عمر المنطقة ثماني سنوات من الحرب ضد العراق.
وفي هذا الإطار أطلَّ علينا النظام المذكور بالمستغرَب والمستهجن من وسائله الديموقراطية، والتي لا تقل بشاعة عن رضاه في ممارسة ذلك الدور تحت مظلة احتلال غير شرعي بنظر القانون الدولي والإنساني والأخلاقي، أو تحت مظلة ما كان يسميه العدو الأول و«الشيطان الأكبر». فراح يستغفلنا، أو يستغفل نفسه، بإصراره على ممارسة الديموقراطية، ودعوة الشيعة لممارستها تحت حراب الاحتلال الأميركي. ومن أجل العمل لتحقيق مآربه، كما يتوهم، راح يستغل سذاجتنا بواسطة السيستاني.
لقد برهنت وقائع الأمور التي تدور الآن، سواء على صعيد الانتخابات الملغومة في العراق أو في مؤتمر شرم الشيخ الملغوم أيضاً أو مؤتمر وزراء داخلية دول الجوار العراقي الذي انعقد في طهران، أن الخطة الأميركية جمعت كل المؤثرين على الساحة العراقية من أجل احتوائهم بالتهديد والوعيد، وأخذت تجمع أوراقاً جديدة لمصلحتها تساعدها على احتواء الوضع المتفجر في وجهها تحت قيادة المقاومة العراقية.
ولأن خطوة الانتخابات في العراق –كاستحقاق مطلوب من الاحتلال الأميركي إنجازه من الدول التي أسهمت في الموافقة على قرار مجلس الأمن الرقم 1546- باتت على الأبواب، باتت إدارة الشر الأميركية في عجلة من أمرها لتنفيذها من أجل أن تقدِّم ولو إنجازاً شكلياً إلى الدول الممانعة لبقاء الاحتلال الأميركي لمدد طويلة في العراق لتوحي لها أنها جادة في الإعداد لترتيبات الانسحاب منه.
أما اللاعب الإيراني فوجد نفسه أمام عجالة من أمره ليقتنص مرحلة الرضى الأميركي عنه، وليقتنص فرصة أتاحتها له خطوة إجراء انتخابات في العراق، خاصة وأن ليس هناك من ينافسه في الساحة الشيعية: فما هو ليس تحت مظلته الأمنية، سواء لأجهزة «سافاكه» أو للأجهزة العراقية المأجورة لإرادته وقراره، فهو موجود تحت مظلة حليفه الأميركي وعملائه الآخرين.
وكما أن الاحتلال الأميركي قد نصَّب غازي الياور رئيساً لجمهورية العراق، وقام بتسويقه في شوارع العالمين الغربي والعربي والإسلامي وأسدل من بعدها الستار عليه إلاَّ من لحظات يُظهره فيها مقموعاً بحضور بيغروبونتي، فإن النظام الإيراني قام بتسويق السيستاني في شوارع لندن والكويت ليحصل منه على فتوى بشرعية الانتخابات العراقية، ومن بعدها أسدل الستار عليه.
يُستدَلُّ من إعلان السيستاني تأييده الانتخابات التي ستجريها قيادة الاحتلال الأميركي في العراق، أنها ليست المرة الأولى التي يحدد الوهم المستحيل مواقف المرجعية الشيعية في العراق. إذ مرَّت مواقف المرجع المذكور بعدد من التحولات التي كان يشوبها التردد في الوقوف إلى جانب أحد طرفيْ المعادلة: الاحتلال والمقاومة في العراق. لكن تأكَّد منذ الاحتلال أن اللاموقف هو الذي كان يميز موقفه تحت ذريعة أنه لا يريد تمزيق الصف الشيعي. لكن –منذ معارك النجف في صيف العام 2004م- بدأت التحولات الدراماتيكية في موقفه تتَّضح شيئاً فشيئاً- وكانت رحلته إلى لندن تحت زعم العلاج الصحي أنها كانت رحلة علاج من عقدة اللاموقف. وهذا ما أثبتته الأيام التي أعقبت عودته.
ابتدأت التراجعات عن موقف اللاموقف، والانحياز للاحتلال، منذ أن أعلن مقتدى الصدر تسليم مفاتيح العتبة الحيدرية في الكوفة والنجف إلى السيستاني. وكانت بداية لحل قضية النجف على أسس وقواعد مشبوهة تنال من وحدوية الوطنية العراقية. وليس هناك أخطر من أن يقسِّم الاحتلال العراق إلى مربعات ومثلثات ومخمسات طائفية ومذهبية.
كانت رحلة التقسيم الأميركي للعراق قد استندت بشكل أساسي إلى إخضاع السيستاني إلى عملية غسل نفسي لما شاب تفكيره للحظات قصيرة في الاختيار بين الولاء للوطن أو الولاء للمذهب على الطريقة الإيرانية. وأصبح الأمر أكثر خطورة عندما استسلم مقتدى الصدر لواقع الأمر، وقطع كل الخيوط التي كانت تنسج مواقفه على قواعد مقاومة الاحتلال، وانحاز إلى صف الاحتلال بشكل غير مباشر تحت وعود وذرائع ظاهرها طيب له وللمذهب الشيعي وباطنها ملغوم ومحشو بديناميت تفجير سمعة المذهب وجرِّه إلى مستنقع الموقف البعيد عن الوطنية. وهذا ما يحصل الآن من دون أن يعرف مقتدى الصدر أو يستطيع رؤية حقيقة المؤامرة، وهو الشاب القاصر عن فهم أبعاد ومرامي الخطة الخبيثة الموضوعة للعراق بشكل عام والمذهب الشيعي بشكل خاص.
روَّج الإعلام الأميركي، بتوابعه وأتباعه، وعزف الإعلام الإيراني وأتباعه على الوتر نفسه، للفتوى السيستانية الغريبة الأطوار والعبارات ومن أكثرها سذاجة هو أن من لا يشارك في الانتخابات سيكون وقوداً للنار، وهو لا يُظهره اليوم إلاَّ بشكل صور مكبَّرة على لوائح الترويج لسلعة الانتخابات. وبمثل هذا الأمر الذي يصفع عقولنا أدخل الإيرانيون، والسُذَّج والمضلَّلون، صور السيستاني إلى معترك الإعلانات. فتحوَّلت المرجعية الشيعية إلى ملصق على الجدران يستخدمه التجار، من أميركيين وإيرانيين، للترويج لسلعة الانتخابات.
أما استغلال أحكام غيبية على الممتنعين عن المشاركة في الانتخابات العراقية فليست مقطوعة الجذور عن نسق فكري متكامل بثَّته إدارة السياسة في طهران.
من المعلوم –في هذا الإطار- أن كلاً من الحليفين: الأميركي والإيراني تاجر ماهر. فالتاجر الأميركي يسوِّق لمشاريعه بالترويج للمعركة الفاصلة بين محوريْ «الخير والشر» تحت قيادة جورج بوش، أما التاجر الإيراني فيسوِّق لبضاعته بتوزيع «صكوك» الدخول إلى الجنة أو الدخول للنار. وهذا ما يقارب تجانس أهدافهما ووسائلهما في الوصول إليها، باستغلال القوة الغيبية لخلاص الأنفس في الآخرة.
فإذا كان التاجران هما الإدارتان في واشنطن وطهران، فإن السلعة التي تجتمع حولها أطماعهما هي العراق. ولأن العراق، في نظريهما، سلعة فلا يضيرهما مجتمعين أو منفردين أن يمزقانه قطعة قطعة. فهما ليستا «أم الولد» لكي يبكيا على تمزيقه. لكن المثير في الأمر، والمستغرب، والذي يثير الألم والحنق والغضب، هو موقف من يدَّعون أنهم «أم للعراق»، وهؤلاء ممن يزعمون أنهم عراقيون وعرباً ومسلمين، وهم الذين استغفلهم النظام الإيراني بحرصه الكاذب على مصلحة المذهب، فراحوا يعملون تمزيقاً وتفتيتاً في جسد العراق، وأكثرها تعبيراً ووضوحاً إصرارهم على المشاركة في الانتخابات تحت مظلة احتلال لا شرعي.
إلى هؤلاء نقول: ليست الانتخابات شرعية لأن من يشرف عليها هو معتد أثيم احتل العراق ضارباً عرض الحائط شتى أنواع المبررات الشرعية، ولا تهمه مصلحة العراق ولا مصلحة الذين ينتخبون أو لا ينتخبون. وهؤلاء –المشرفون- سواء الذين يزعمون بأنهم رواد ديموقراطية، أو رواد «المحافظة على المذهب أو حمايته»، فهم يستخدمون أكثر أساليب الكذب والتضليل، وأكثرها إثماً وتضليلاً هو ربط مصير الممتنعين في الآخرة بموقفهم من الانتخابات.
قال الرسول الكريم: «من مات دون أرضه فهو شهيد، ومن مات دون عرضه فهو شهيد، ومن مات دون ماله فهو شهيد». لكن مبادئ الإسلام لا تنص على أن من يموت دون إجراء انتخابات في ظل الاحتلال هو شهيد خاصة وأن الانتخابات في العراق هي خداع من أجل تبرير احتلال الأرض والعرض والمال.
إن أرضكم محتلة ولا تدافعوا عنها. وأعراض ماجدات العراق تُنتَهَك ولا يرمش للمتواطئين منكم رمش. وأهم أطماع الاحتلال هو سرقة مال العراق، والذي بدأ في السطو عليه بالتعاون مع عملائه، وأنتم لا تدافعون عن مالكم. يحصل كل ذلك وهو جريمة، وتتناسون كل هذا وتوغلون في المساعدة على إضفاء شرعية على المجرم.
فلا يمكننا إلاَّ أن نقول:
ليست المشاركة في الانتخابات هي التي تقرر مصيركم في الآخرة، وإنما المشاركة في الدفاع عن الأرض والعرض والمال هو المقياس الحقيقي لتحديد مصيركم في الدنيا والآخرة.
إن فتوى السيستاني بدخول النار لمن لا يشارك في الانتخابات ليست إلاَّ بدعة إيرانية على قاعدة «ولاية الفقيه» وإلزام أتباعه بتقليده تحت طائلة الاتهام بمخالفة أوامر الله. ولهذه المسألة جوانب دينية مذهبية يعمل الإيرانيون حسب قواعدها. ولكي لا نتناول فتوى السيستاني وكأنها زلة لسان، فهي بالحقيقة قاعدة فقهية إيرانية، تحدد أسس العلاقة بين «الفقيه» و«مقلديه». ولكي نعرف تلك الحقيقة يمكننا أن نقوم بمراجعة فكرية لمصادرها الأساسية.
في كتابه «الحكومة الإسلامية» يعطي الخميني للحاكم الإسلامي، الفقيه الذي هو نائب للإمام، سلطة مُطلَقَة في أصول المعرفة الدينية، وله أيضاً السلطة المطلقة في المعرفة السياسية وتطبيق هذه المعرفة. فهو الذي يتولَّى «الزعامة الكبرى والرئاسة العليا [وهو] المصدر للقيادة العليا الإسلامية… فالأمراء والقواد هم الممتثلون لأوامر الفقيه الشاغل لمنصب الزعامة، الواقع في قمة الحكم، والبقية مأمورون مؤتَمِرون [وهو] المخوَّل من قبل الله في إجراء الحدود»(راجع الصفحة 51 من الكتاب المذكور).
وللفقيه سلطات واسعة غير محدودة، أُعطِيَت إليه من الله تعالى، وهي -كما يراها الخميني- «إجراء الحدود وفصل قضايا الناس، والتصرف في بيت مال المسلمين، وفي شؤون المجتمع، والخلاصة: أن بيده أزمَّة الأمور كلها، الله أعطاه هذا الاختيار، وأوكل إليه أمر الأمة»( راجع الصفحة 51 من الكتاب المذكور). وهو يرى أن: «الزعامة المحدودة بحدود القانون لا يختلف مجال تنفيذها بالنسبة إلى النبي والإمام (ع) والفقيه. إن الحكومة تكون للعالم العادل: نبياً أم إماماً أم فقيهاً عادلاً»( راجع الصفحة 55 من الكتاب المذكور).
وبناءً على تلك النصوص ابتكر فقهاء المذهب الشيعي من أنصار نظرية «ولاية الفقيه» تعابير ومصطلحات تدل على طرائقهم في قيادة الجمهور الشيعي كمثل إلزامهم بتقليد الفقيه بما يُسمَّى «التكليف الشرعي». و«التكليف الشرعي» يعني أن الفتوى ليست إلاَّ تعبيراً عن الأوامر الإلهية الموكول تطبيقها للفقيه، كنائب للإمام.
وهنا لا يخفى على القارئ أن مخالفة «التكليف الشرعي» عليها تبعات في مصير الإنسان في الآخرة. وحيث إن فتوى السيستاني، حول المشاركة في الانتخابات العراقية، هي «تكليف شرعي» للشيعة يحمل أمراً إلهياً بالمشاركة، فمن يلتزم به يدخل الجنة لأنه نفَّذ الأوامر الإلهية، ومن لا يلتزم بها سيدخل النار لأنه تمرَّد على تلك الأوامر.
وبعد كل هذا يحلو لأولي الأمر ممن يعتنقون نظرية «ولاية الفقيه» أن يوزِّعوا الاتهام لهذا أو ذاك بالخروج عن قواعد الديموقراطية، أو يتَّهمون هذا أو ذاك بالديكتاتورية لأنهم –حسب زعمهم- يصادرون حرية التفكير وحرية الاختيار للبشر؟؟!!
تلك هي قواعد الديموقراطية على ال«موديل» الإيراني.
وتلك هي حبائل الذكاء التي تقود خطوات النظام وكأنه «يتشاطر» على إدارة الشر الأميركية مستغلاً حاجتها لمن يمد لها سبل النجاة، فأغفل أن جورج بوش، بعظمة لسانه، قد أطلق الحرب ضد محور الشر وأحد أعضاء هذا المحور هي إيران. فلن تتناسى ذاكرتنا أن «العراق وإيران وكوريا الشمالية» هي تلك الأقانيم.
***

(62): رد حول ردود وتعليقات على مقال غالب الفريجات
8/ 12/ 2004
بداية لا بدَّ من التذكير بالفرمان السلطاني الأميركي الذي تمَّ توزيعه على كل عملاء ال(سي آي إيه) في شتى أنحاء العالم، والذين عليهم أن يلتزموا به في إسهاماتهم الإعلامية. ووقائعه أن أصحاب مشروع »القرن الأميركي الجديد«، ومن أهمهم: (تشيني، رامسفيلد، ريتشارد بيرل، بول ولفووتيز، وليم كريستول…)، أولوا الإعلام اهتماماً كبيراً في العدوان على العراق، وقد جاء في إحدى توصيات أصحاب المشروع –كما أوردته جريدة القدس العربي (أواسط تموز / يوليو 2003م)- ما يلي: من الضروري أن تركز أجهزة الإعلام، وخاصة الفضائيات وكُتّاب المقالات والتعليقات، على الموبقات والجرائم التي ارتكبها نظام صدام حسين، بشكل يومي، وتكرار التعليق على المقابر الجماعية وضحايا الأسلحة الكيماوية، وعلى أحداث القتل والاعدامات والتحكم الفردي بمقدرات العراق، دون نسيان الحديث عن القصور الفخمة والبذخ والاسراف، وذلك من أجل صرف النظر عن الاحتلال الأميركي.
ونحن نراجع هذا الفرمان، في الوقت الذي نقرأ فيه ردوداً على مقال الدكتور غالب الفريجات، من أمثال بعض الخفافيش الذي يكتبون ردوداً ببغائية على مواقع الأنترنت كلما قام أحد الكتَّاب بالدفاع عن نظام حزب البعث في العراق. وهم يستنكرون –بخلفيات ديكتاتورية مخابراتية- أية إيجابية لنظام حزب البعث.
كان من هؤلاء المدعو (الصحفي الفلسطيني مهند صلاحات) الذي نشر رداً مسهباً على مقال الدكتور غالب الفريجات.
سواء إلى المستورين أم الذين يعلنون آراءهم بأسمائهم الصريحة نتوجَّه بالرد، على الرغم من أنهم لا يعترفون بحقتا في ممارسة الديموقراطية لأن أجهزة الإعلام الأميركية، والمتواطئة معها، هي وحدها التي تفصِّل القمصان والبيجامات والثياب الداخلية للديموقراطية. ولأن أمثال الذين ردوا على الدكتور الفريجات لن يدعونا نمارس هذا الحق بحجة الانتماء الى فكر البعث، فنحن لم يرهبنا بول بريمر جزار (اجتثاث فلسفة حزب البعث من المجتمع العربي)، لذا لن يرهبنا هؤلاء أو أولئك من ببغاوات السياسة والثقافة.
هم ببغاوات –بدون أدنى شك- والسبب أنه لو أدخلنا كلمة المصطلح المدروس مخابراتياً بعناية، وهو ( جرائم صدام حسين وديكتاتوريته) في محرك البحث في الأنترنت لأُصبنا بالذهول من التفاهم المطلق حوله من أوساط كثيرة يجمعها عنصر الحقد للحقد والكره للكره ليس لصدام حسين وحزب البعث فحسب، بل لكل من يتفوَّه أو يستخدم مصطلح (القومية العربية) أيضاً. ومن غرائب الأمور أن تلتزم الأوساط الصهيونية وأصحاب مشروع الأمركة القذر، بكل من يحيط به في الأوساط الدولية، وبكل من يساعده في العالمين العربي والإسلامي، بفرمان السلطان الأميركي المشار إليه أعلاه.
تساوى شارون –بالنظر الى صدام حسين ونظام حزب البعث في العراق بشكل خاص، وأي نظام قومي بشكل عام- مع الحركات السياسية الإسلامية من سنة وشيعة، مع أصحاب الفكر الليبرالي العربي السائر على خطى مشروع أمركة العالم، مع أنظمة المافيات الدولية في العالم أجمع. وراح بعض الخفافيش المستورين والمعلنين يرددون –ببغاوية مطلقة- ما أشار إليه فرمان السلطان الأميركي.
لقد حيَّرنا هؤلاء وأولئك.
فإذا قلنا لهم إن صدام حسين طلَّق كل بهارج السلطة، وقال: لا لأميركا، رافضاً كل ترغيبها وترهيبها. قالوا: هو عميل أميركي؟
وإذا قلنا إنه أطلق تسعة وثلاثين صاروخاً على الأرض التي احتلتها الصهيونية. قالوا هو عميل أميركي.
وإذا قلنا إن صدام حسين له مصطلح دائم في قاموس خطابه (لتعش فلسطين حرة عربية من البحر إلى النهر). قالوا إنه عميل.
وإذا قلنا إنه دعم نضالات الفلسطينين، وكان يقدِّم من لحم العراق الحي مساعدات لكل فلسطيني يهدم العدو الصهيوني بيته، ولمن يقع شهيداً، ولمن ينفذ عملية استشهادية، قالوا: إنه عميل.
وإذا قلنا: إنه خطط للمقاومة العراقية لمواجهة العدوان الأميركي، كبديل للحرب النظامية، وأعدَّ مستلزمات انطلاقها، قالوا: إنه عميل.
وإذا قلنا: إن التخرصات التي ساعدت من سمَّت نفسها (معارضة عراقية) ليست أكثر من ادعاءات كاذبة رسمتها أجهزة البنتاغون والكابيتول والبيت (الأسود). قالوا: إنه عميل. أما (المعارضة التي قدمت على ظهور الدبابات الأميركية) إنما أتت لتخليص العراق من الديكتاتورية؟؟!!
وإذا قلنا: انظروا الى بشاعة الجرائم التي يرتكبها الاحتلال بمساعدة وغطاء من عملائه من (المعارضة العراقية سابقاً). قالوا إن صدام حسين ديكتاتور.
عجباً. ليست الببغاوية على هذا الشكل. نحن نعرف أن الببغاوية تنقل الكلام حرفاً حرفاً. أما هؤلاء ف(ببغاوات) لديهم بعض الحرية إذ أجادوا في تزويق الكلام لخداع الناس أكثر. ولكن كيف يستطيع هؤلاء أن يزوِّجوا (الخيانة) مع الوطنية. وأن يزوِّجوا (الثائر في وجه أميركا) لمفهوم (العمالة لأميركا). وأن يزوجوا (الذي يدعم المقاومة الفلسطينية) مع (المتآمر مع العدو الصهيوني). هل بلغت درجة الغباوة والاستغباء هذا المستوى من الدجل والخداع؟
عجباً لأمثال هؤلاء. نقول إن مشاكلنا الداخلية يمكننا أن نحلها على القاعدة الشرعية حسب مصطلح (الاختيار الذاتي وحق الشعوب في تقرير مصيرها)، يقولون: إننا لن نتحرر سوى تحت حذاء الوحش الأميركي حتى لو التهمنا. وليس هناك من سبب إلا التخلص من (توتاليتارية) الأنظمة التي تحكمنا.
وعلى قاعدة المماحكة، كمثل ما يمارسه السيد مهند صلاحات، يبرر بشكل غريب ومقزِّز كل الأخطاء التي يقع فيها عملاء الاحتلال، بدءًا من إعدادهم لغزو العراق مؤتمرين بأوامر المشروع الأميركي، انتهاءً بعمالة هذا أو ذاك للاحتلال بشتى الوسائل والسبل. فاحتلال العراق وتخريبه وتدمير كل منشآته الحيوية واغتيال العلماء وسرقة الآثار فيه، وتهديم منشآته العلمية والعسكرية، وفرض حكومة عميلة وافتعال مسرحية الانتخابات وتفتيت النسيج الوطني العراقي إلى تكتلات وتروستات مذهبية ودينية وعرقية... لم يظهر سبب أمام (مهند) إلا أنها كانت بفعل ديكتاتورية صدام حسين وحزب البعث؟؟!!
عمالة (قوات بدر) و(الحزب الإسلامي في العراق) كانت نتيجة لديكتاتورية صدام حسين وحزب البعث؟؟!!
ليس هذا إلا منطقاً تخريبياً.
وليس هذا الا تبريراً مشبوهاً.
ما رأيك يا مهند لو أن حزب البعث قد استعان بك من أجل مراقبة أجهزته السياسية والأمنية والقضائية، وكلَّفك بمحاكمة من تعامل مع عدو خارجي، إيرانياً كان أم أميركياً؟ ونسألك ما هي الأحكام التي تصدرها بحق هؤلاء؟
كما نسألك: هل لديك مصدر إثبات على ما تقول وتتهم غير مصادر (المعارضة التي ثبتت عمالتها للمخابرات الأميركية والصهيونية)، وغير ما أشاعته مخابرات البرازاني والطالباني (وليست خافية عليك علاقاتهم المشبوهة بشتى أنواع المخابرات منذ وقت طويل)؟؟
لا تكن كالشاهد المخدوع. كما عليك أن لا تكون ببغاء تردد ما سمعت من دون تحليل أو تمحيص.
وهل الذين (فبركوا) الاتهامات إلا من الذين يستقدمون –حتى الآن- جنوداً صهاينة، وخبراء صهاينة، وعصابات صهيونية، تسرح وتمرح في أرجاء العراق، وليس لهم مهمة غير تدمير كل البنى الحضارية النهضوية التي بناها صدام حسين وحزب البعث في العراق؟
هل أتى الصهاينة إلى العراق من أجل إسقاط عميل أميركي؟
هل أتى الصهاينة إلى العراق من أجل إسناد الوطنيين والقوميين؟
هل أتى الصهاينة إلى العراق من أجل زيادة المساعدات للشعب الفلسطيني؟
هل أتى الصهاينة إلى العراق من أجل الاحتجاج على مواقف صدام حسين وحزب البعث على تقصيرهم في دعم المقاومة الفلسطينية؟
هل أتى الأميركيون والصهاينة إلى العراق من أجل تنصيبك مراقباً على حسن تطبيق الديموقراطية في داخل الأحزاب العراقية، ومن أجل مراقبة حسن تطبيق الديموقراطية الأميركية في العراق؟
كن مطمئناً أيها السيد (مهند) إن من يدافع عن العراق، رئيساً وشعباً وحزباً، ليس مستنداً إلى فراغ. بل نريد أن نختم هذا الغيض من فيض الأسباب التي تجعلنا في موقع الدفاع عن العراق، بكل ما ذكرنا، هو ما قاله أحد الباحثين الفلسطينين : (ليس من سبب دفع الأميركيين للعراق أكثر من سبب أنه بنى أحدث وأكبر مشروع نهضوي قومي عربي). هذا مع العلم أن المذكور، الذي نحجم عن ذكر إسمه، لأننا لم نستشره في هذا الأمر. وهو يعد –من خلال مركز للأبحاث- الصورة الواقعية لذلك المشروع الذي بلغ مجلدين كبيرين حتى الآن.
وكي يبقى للود مكان مع السيد مهند صلاحات ندعوه الى طاولة حوار موضوعية بعيداً عن الاتهامات المعلبة ومنطق اللامنطق.
وأخيراً نقدم اعتذارنا للدكتور غالب الفريجات على ردنا على الذين قاموا بالرد أو التعليق على مقاله لأننا نعتبر أن ما نشره وما نشروه أصبح ملكاً للقارئ وليس ملكاً لهم.
***

(63): بعد سنة على أسره: صدام حسين رائد الثورة العالمية المعاصرة
أعلى المكاييل التي نقيس على أساسها مواقع الأشخاص هي اعتناقهم للفكر الثوري. وإعدادهم للثورة. وممارستهم لها في خندق النضال. فإذا كانت استراتيجية الفكر الثوري لا تتجاوز حدود الوطن، فالثائر هو رائد للثورة الوطنية. وإذا كانت استراتيجيته تشمل آفاقاً قومية، كمثل ما هو حاصل في حالة الأمة العربية، فالثائر هو رائد للثورة القومية. وإذا كانت استراتيجيته مما تستفيد منه شعوب أخرى فهي ثورة عالمية.
أما المكاييل التي نقيس الفكر الثوري على أساسها، فأعلاها يُعبَّر عنه بمقاومة الإمبريالية التي هي أعلى درجات الاستغلال ضد الشعوب. ولا شك بأن اتجاهات أصحاب «القرن الأميركي الجديد» تصبو إلى أمركة العالم فلهذا السبب يُصنَّف الفكر الثوري الذي يناهض أو يقاوم أهدافهم في دائرة الثورة العالمية.
فأين يقع صدام حسين في ميزان الثورة؟
صدام حسين، قائد لحزب البعث العربي الاشتراكي، وحزب البعث في موقع السلطة الحاكمة في العراق، أعدَّ لاستراتيجية الثورة في وجه أمركة العالم.
رفض الإملاءات: إغراءات وتهديدات، وعداً ووعيداً، ونأى بحزب البعث وسلطته الحاكمة في العراق، عن الاستجابة أو الرضوخ لاجتياح العالم ووضعه تحت الإمرة الإمبراطورية الأميركية.
وتحدَّى القوة الأميركية المتغطرسة التي أرهبت العالم، واتَّخذ قراراً بالمواجهة على الرغم من معرفته بنتائج المواجهة النظامية.
لكن المخزون الاستراتيجي الفكري والعملي للأمة العربية كان جاهزاً في فكر الثائر صدام حسين، فقرر أن يستثمر هذا المخزون بطاقات شعبه النضالية، وهذا ما حصل. وليست النتائج التي حصدتها المقاومة العراقية، بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي، إلاَّ دليلاً على ذلك.
فكان صدام حسين، الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي، ثورياً وطنياً بامتياز ورائداً للثورة الوطنية العراقية بجدارة.
ولأن المستهدفة أولاً، باحتلال العراق، مقدرات الأمة العربية وثرواتها، فإن ما تنتجه المقاومة العراقية من انتصارات ضد الاحتلال الأميركي، يصب –من دون أدنى شك- في صالح الثورة القومية العربية. وبذلك يكون صدام حسين رائداً للثورة العربية المعاصرة.
ولأن الاستيلاء على ثروات الأمة العربية، ومنها ميزاتها الجيو ستراتيجية، شرط ضروري ولازم للاستيلاء على العالم، يكون صدام حسين بتخطيطه وإعداده للمقاومة العراقية، وقيادته لها، في صف ريادة الثورة العالمية المعاصرة.
ولهذا أخاطبك أيها الرفيق القائد بصفتك رائد الثورة العالمية المعاصرة. وأتوجه إليك بمناسبة مرور عام على أسرك، مباركاً لك ريادتك، وقد باركتها حركات الضمير في العالم قبلنا نحن العرب، وهذا مصدر فخر واعتزاز لنا جميعاً.
بعد مرور عام على أسرك، يا رفيقي. وبعد مرور عام وعشرة أشهر على احتلال بغداد، أي بعد عام وعشرة أشهر على انطلاقة المقاومة العراقية، لا يسعني إلاَّ أن أجدد الثقة بفكر الحزب واستراتيجيته التي فاق تطبيقهما كل التصورات. وهذه الإدارة الأميركية تهتز، إيديولوجياً واستراتيجية سياسية وعسكرية، تحت أقدام رفاقك وأبناء شعبك ممن أنفوا أن يروا الجندي الأميركي يختار لهم «حقهم بتقرير المصير» على ذوقه وحسب الخيارات الصهيونية والأمركة المتصهينة، أو على الطريقة التي اختارتها المافيات العالمية التي من أهم قياداتها، أو الخاضعين لإمرتها، «جون هيوارد»، و«برلسكوني»، و«طوني بلير»...
أنت اليوم، أيها الرائد الكبير، في معتقلات آسريك. تملأ موقعك كثائر، وقائد للثورة.
أنت اليوم، ترى بعين حاستك السادسة، وإلهامك الثوري، أن ما راهن عليه العدو المحتل قد باء بالفشل. وتلك هي سواعد رفاقك، وأبناء شعبك، عراقيين وعرب، تلبي النداء منذ العاشر من نيسان، ولا تستكين. تقدم الشهيد تلو الشهيد فينام في ثرى العراق شامخاً كبيراً. وتدفع تلك السواعد كل يوم بتوابيت جديدة إلى البيت «الأسود» لتزيد من اكفهرار الصورة في عيون جورج بوش، وتابعيه وآمريه على حد سواء.
أنت اليوم، يا أبا عدي، يا أبا الشهداء، مثال لكل الثوار. أنت اليوم في عرينك، مأسور وآسر، ترى أن النصر آتٍ. وترى، عن قرب، كما رأيت عن بعد، أن الاحتلال مأزوم ولا يرى درباً للخلاص إلاَّ على قاعدة لعبة قمار يضع اليوم كل رصيده في معارك الفلوجة «تاج رأسنا»، والرمادي، والموصل، والبصرة، وكل ما بينهم من مدن ودساكر. من قرى ومزارع. لن يستطيع الاحتلال أن يفرض الإذعان على أي عراقي شريف.
يا من تشخص إليك قلوب الشعوب المقهورة، وضمائرها، لتراك القائد للمقاومة العراقية التي ليست إلاَّ الأمل الأساس في خلاص العالم من أسياد «القرن الأميركي الجديد»، لن نشكو إليك يا رائد الثورة العالمية المعاصرة، ما تراه عيوننا مما يرتكبه بعض الآثمين من عراقيين وعرب. فما نراه هو مثال الخزي والعار، ممن لبسوا ثياب المذهب، وثياب الدين، وثياب القومية، وثياب الوطنية العراقية. لن نشكو إليك مما نرى، فرفاق الدرب يقومون بتطبيق ما رضعوه من فكر الثورة، الآن، وحتى تتحرر أرض العراق، كل العراق، فلا يبقى للواهمين إلاَّ حصاد حفنة من الريح. وهي أكثر ما يستأهلون.
***

(64): «كُتَّاب الشنطة» المتجولون على مواقع الأنترنت يبيعون «خردة» صدئة
15/ 12/ 2004م
من أسوأ أوضاع الثقافة، في هذا الزمن العاهر، أن نترحَّم على المثقفين الليبراليين الذين انحازوا إلى الإعلام الأميركي فراحوا يروِّجون لأكاذيبه مبررين عهره الديموقراطي، مقتنعين بأن الديموقراطية ستكون أجمل لو أتت على حصان رأسمالي أميركي. ولقد استدعت دعاءنا بالرحمة على أولئك تلك الظاهرة الجديدة التي أخذت تحتل مقاعد لها على صفحات الأنترنت ويمثلها أرباع وأسداس وأثمان مثقفين، ممن تطفَّلوا على الكتابة والصحافة. والأسوأ من ذلك أنهم بنوا حولهم جدران من الأشخاص الذين يصفقون لهم، ويقومون بتشجيعهم، بكل سطحية وغفلة، وهم لا يدرون كم من الحماقات الثقافية والسياسية والمنطقية يقومون بارتكابها، خاصة وأن ما يستند إليه أولئك الكتاب من معلومات لا وجود لها لا في حقائق التاريخ ولا الجغرافيا. وعلى الرغم من استنادهم إلى الكثير من المغالطات التي يأباها المنطق والذوق الثقافي السليم تجد من يصفِّق لهم، ليس لسبب إلاَّ لأن الكلام المكتوب يجد هوى في نفوس بعض القراء من ناقصي الثقافة، والمحقونين بجرعات زائدة من الحقد ضد شخصيات أو أحزاب بعينها. ولا سيما وقد ملأ الحقد قلوبهم من وجود صدام حسين وحزب البعث واقعاً ثورياً رائداً في حياة الأمة العربية التي أدمى تاريخها سلسلة من هزائم النظام العربي الرسمي.
نحن نخشى ليس ممن يخالفوننا الرأي، لأننا نعترف بالرأي الآخر ونحترمه، لكننا نخاف من ناقصي «ثقافة وإيمان». فناقص الثقافة هو من ليس موضوعياً لأنه يحشر نفسه في «باب العالمين بالأمر»، أما الحقيقة فهي أنه قرأ ما يفي بغرض ادِّعائه بالمعرفة من عناوين عامة لا يستطيع الدفاع بالتفصيل عنها. ولهذا يلجأ إلى التزوير، واستغفال العقول الساذجة والسطحية وهي –للأسف الشديد- كثيرة ومنتشرة هنا أو هناك. أما ناقصو الإيمان فهم من الذين ينظرون إلى القضايا الكبرى من خلال موقفهم المسبق من هذا الشخص أو ذاك، أو من خلال هذا الحزب أو ذاك.
فإذا كان الأنترنت هو صوت من لا صوت لهم، أو لمن هم من الممنوعين أن يكون لهم صوت، فقد أخذ بعض المنتحلين صفة الكتابة أو الصحافة، وممن لا يمتلكون القدرة على ممارسة هذا الدور، يتسللون إلى صفحات الأنترنت، ليعمموا ثقافتهم السطحية على من لا يرون الثقافة إلاَّ بعين الهوى والحقد. ويمكننا أن نطلق عليهم تسمية «كُتَّاب الشنطة»، أو«كُتَّاب الكشة»، على مكيال «تجار الشنطة» باللهجة المصرية، أو «تجار الكشة» باللهجة اللبنانية. ونحن لا ننتقص من قيمة عمل هؤلاء التجار لأنهم من الذين يريدون أن يعتاشوا من تجارتهم (طبعاً هذا شرف لهم لأنهم يجهدون من أجل تأمين لقمة العيش بدلاً من التسكع). ولكن الفرق بينهم وبين «كتاب الشنطة أو الكشة» أن الأخيرين يجمعون كل أنواع «الخردة الثقافية» القديمة، والصدئة، والتي تجاوزتها ظروف العصر، من أجل تلميعها وتسويقها، فينخدع الزبائن بلمعانها، ويتلقفونها كمادة سهلة لا تُتعب جهاز عقولهم، ولكنها سهلة الهضم على عقولهم الرخوة التي يتعبها التفتيش عن ثقافة تحترم نفسها، بمنتجيها ومستهلكيها.
ومن الأمثلة على ذلك:
يكرر مهند صلاحات (وهو يدَّعي أنه كاتب وصحافي من فلسطين، ويكشف بعض مؤيديه أنه موجود في الأردن)، في إحدى مقالاته التي نشرها موقع «دنيا الوطن»، اتهامات حول الرئيس صدام حسين. اتهامات أصبحت وراء اهتمام حتى إعلام المخابرات الأميركية التي ابتكرتها وروَّجت لها قبل احتلال العراق، وكانت واثقة من أن ترويجها سينطلي على عقول السُذَّج، من أصحاب الهوى، وعلى الحاقدين من أصحاب الأهواء الإيديولوجية. ويأتي مهند صلاحات على إعادة التذكير بها، وإضافة ما صوَّرت له ثقافته القاصرة جداً ما يحلو له من تحليلات عجز الكومبيوتر الأميركي عن ابتكارها. تحليلات لا علاقة لها بالمنطق السليم، وهي –بوضعيتها التي جاءت بها- تدل إما على غفلة صاحبها أو آتية من منطلق استغفاله لعقل القارئ.
وموجز ما جاء في مقالته الطويلة جداً (التي قرأناها بجلد وصبر كان دافعه أن نعرف أي رقم يأتي هذا الكاتب في تعداد أهل الكهف، لأنه يحسب أنه اكتشف شيئاً لم يكتشفه أحد قبله، بينما سبقه الكثيرون في «علك» تلك المعلومات، ولكنهم ملّوا منها بعد أن استهلكت بعض الثقة في مصداقية ما كانوا يروِّجون له، إما خدمة لأهوائهم الشخصية أو خدمة للإعلام الأميركي الخبيث):
ينطلق مهند صلاحات في كتابة مقاله من حقدين:
الأول: حقد إيديولوجي ضد كل ما هو قومي عربي. والدليل على ذلك تقزيم خطوة التأميم التاريخي لقناة السويس التي قام بها الرئيس العربي الراحل جمال عبد الناصر. ووضعها في مصاف الخطوات المشبوهة، والتي يوحي وكأنها تمَّت بأوامر أميركية قائلاً عنها: «استطاعت أمريكا عبر عبد الناصر أن تخرج النفوذ البريطاني الفرنسي وسيطرتهم عبر شركاتهم على قناة السويس تحت مسمى تأميم القناة».
الثاني: حقد نابع من منظار ماركسي سابق تجاوزه الكثيرون من الماركسيين، وهو يرتبط بتاريخية الصراع بين حزب البعث (الذي يقود المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأميركي)، والحزب الشيوعي العراقي (الذي شارك القوات الأميركية في الإعداد لغزو العراق واحتلاله، وهو يشارك الاحتلال الأميركي في إضفاء شرعية عراقية عليه). ومن أجل ذلك لم يفوِّت مهند صلاحات الإشادة بالحزب الشيوعي العراقي الذي كان حليفاً لعبد الكريم قاسم في العام 1958م. وحول ذلك يقول: «وفي العراق أخذت أمريكا تعزز مكانة رجلها المخلص صدام حسين الذي جاءت به بعد قتل الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم الموالي للسوفييت والذي اعتبرته من اشد أعدائها». وهنا لن نحاسب مهند صلاحات على خطئه التاريخي الفادح، ومضمونه أن صدام حسين لم يأت خلفاً لعبد الكريم قاسم. وهذا الخطأ يبرهن عليه مهند بنفسه بفرية وكذبة من بنات هواه الإيديولوجي عندما ينسب بداية اتصال الأميركيين بصدام حسين إلى فترة وجوده في القاهرة قائلاً: «إن إرتباط صدام بأميركا بدأت حين عاش في القاهرة بضع سنوات في أواسط الستينيات». بينما حصل الانقلاب ضد عبد الكريم قاسم في العام 1963م، واستولى عبد السلام عارف ومن بعده أخوه عبد الرحمن على السلطة في العراق. كما أننا نذكِِّّر مهند صلاحات بأن ثورة 14 تموز من العام 1958م قد تشارك في تفجيرها حزب البعث والحزب الشيوعي. وهذا ما يكفي للرد عليه بأن عبد الكريم قاسم لم يكن من أشد أعداء أميركا، بل حزب البعث هو أشد أولئك الأعداء (فهو يقود مقاومة ضد الاستعمار منذ تأسيسه، مروراً بثورة 14 تموز 1958م، وحتى الآن)، والحزب الشيوعي (لكنه –للأسف- تراجع بعضه عن استراتيجية قتال الاستعمار وركب القطار الأميركي)، باستثناء الشيوعيين العراقيين الشرفاء (من تنظيم الكادر) الذين ظلوا أمينين لخندق مقاومة الاستعمار. ومن غير الصعوبة أن تتصل بهم أو تتابع نشاطاتهم ومواقفهم في موقع (الكادر) على الأنترنت.
ينطلق مهند صلاحات من أكذوبة، تسخر من ضحالتها حتى المخابرات الأميركية، وفيها يقول: «صدام حسين آل مجيد قد حمل وبكل جدارة بطاقة معلقة على صدره تقول بأن هذا الشخص هو مجرم دولي... بدعم الولايات المتحدة الأميركية».
أما كيف أظهر صدام حسين ولاءه للأميركيين كما تتصورها مخيلة مهند صلاحات، فانظروا إلى تلك الافتراءات التي يقدمها للقارئ وكأنها من الحقائق. وهنا يقول صلاحات ما يلي:
-حصل صراع بين «دول الاستعمار القديم(بريطانيا وفرنسا)» و«الاستعمار الجديد (أميركا)». وكانت أميركا «تسيطر حتى عام 1970م على 90% من الاحتياطي العالمي للنفط». لذلك «أوعزت دول أوروبا وعلى رأسهم لندن إلى رجالها والحكومات الموالية لها من حكام الدول المنتجة للنفط بتأميم شركات النفط في بلادهم». «وقد برزت سيطرة الموالين لبريطانيا على سوق النفط بعد عمليات التأميم». و«رفعت الدول المصدرة للنفط التي كانت لا تزال تخضع لسيطرة سياسية بريطانية وفرنسية في ذلك الوقت، وعلى رأسهم فيصل ملك السعودية، شعار سلاح النفط... وأخذوا يتحكمون في أسعار النفط ، فرفعوها إلى مستويات أوجعت كافة الدول المستوردة للنفط».
ولينظر القارئ، من خلال ما كتبه صلاحات حول النفط بشكل يثير السخرية من تقديمه معلومات لا علاقة لها سوى بتخيلات يسخر منها العقل السليم. ونسأل القارئ: هل فعلاً طلبت بريطانيا من الدول العربية المنتجة تأميم النفط؟ وكيف حصل ذلك؟ وأين؟ ومتى؟ ومن استجاب من الدول المعنية لتلك الدعوة؟ وهل تلك الدول كانت تقف إلى جانب الثورة ضد مصالح أميركا؟ وهل كانت تلك الدول طليعية وتقف ضد الاستعمار الأميركي؟
وهل فعلاً كان الملك فيصل من الحاشية البريطانية؟ وهل لا يعلم أن مشاركته في قرار مؤتمر القمة العربية بحجب النفط عن الدول التي تساند العدو الصهيوني كان ضد إرادة كل الدول الأجنبية، بريطانية وفرنسية وأميركية؟ ألا يعلم أن ذلك القرار لم يكن له سابقة نظامية عربية جديرة بالاحترام، ولم يحصل ما يشبهه فيما بعد؟ ألا يعلم مهند أن قراراً أميركياً هو الذي اغتال الملك فيصل ليس لأنه بريطاني الهوى، بل لأنه شارك بصياغة قرار القمة العربية بعد حرب العام 1973، بينما نشأ النظام السعودي –ولا يزال- على أعلى درجات التنسيق والتعاون مع الأميركيين؟
وجواباً على ذلك ابتكر صلاحات كذبة أن تلك الدول المنتجة للنفط قد قامت بتأميم ثرواتها النفطية؟؟!!. ولن نقول بأكثر من أن الأحكام القائمة على أكاذيب تاريخية وسياسية واضحة هي أحكام كاذبة. لقد تخيَّل صلاحات مقدمات كاذبة، في موضوع تأميم النفط، ليبني عليها أحكاماً وفريات في مواقع لاحقة من مقالته.
وهنا لا بدَّ من أن نوضح للقارئ حقيقة قضية تأميم النفط. ففي المشرق العربي كان العراق، بقيادة حزب البعث، هو البلد الوحيد الذي قام بتأميم الثروة النفطية الوطنية، في حزيران من العام 1972م، من بين أيدي ثلاث شركات أجنبية: فرنسية وبريطانية وأميركية. وهذا السبب أُضيف إلى جملة أسباب أخرى لتسعير حالة العداء الرأسمالي ضد العراق. وإذا كان العراق قد استجاب في خطوة تأميم النفط، لإرادة خارجية كما يدَّعي مهند صلاحات، فهو يكون قد استجاب لرغبة بريطانية فرنسية في التأميم. وهنا هل يمكن للعراق أن يكون «عميلاً» لبريطانيا يستجيب لرغباتها بينما صنَّفت مخيلة مهند صلاحات الرئيس صدام حسين في دائرة العمالة لأميركا منذ أواسط الستينيات؟
وهنا هل يجوز أن يكون تعليقنا على أكاذيب مهند ومحاولة استغفال عقل القارئ إلاَّ أنه مثال في الغفلة والبعد عن حرفة الأذكياء في تقديم المعلومة، واستكمالها بتحليل مشبوه لا صلة له بالمنطق: معلومة كاذبة لا بدَّ من أن تُنتج تحليلاً قاصراً، بل مشبوهاً.
يستكمل مهند فرياته وتشويه الحقائق بأسلوب شبيه بأسلوب «حكايات ألف ليلة وليلة» وهو ينسج «حكاية أميركا مع شيوخ النفط». وما على القارئ إلاَّ أن يلاحظ «ثورية أولئك الشيوخ» الذين نسب إليهم مهند فضل تأميم نفط لم يقوموا به. تلك «الثورية» التي دفعت بأميركا، نفاذاً لصبرها، إذ لم يطل الوقت –كما يتخيَّل مهند أو يتوهم- «حتى شرعت أميركا في وضع خططها لاستعادة السيطرة... بشن حملة دعائية عالمية لاقت نجاحاً كبيراً لدى جميع الدول المستوردة للنفط التي ذاقت مرارة ارتفاع الأسعار . وأبرز ملامح هذه الدعاية تصوير شيوخ النفط بالجهلة البدائيين». «وفي الخفاء أخذت واشنطن تعمل على الإطاحة برجال بريطانيا وأوروبا وإحلال أنظمة موالية لها». ولم يقل لنا مهند صلاحات من هم المشايخ الذين أسقطتهم أميركا، ومن هم الذين عيَّنتهم كبدائل للمشايخ «الثوريين»!!!
ولأن الأميركيين محتاجون إلى ركائز عربية –كما هي غزيرة مخيلة مهند في تزويج التناقضات في أحكامه ومعلوماته- : «أخذت أمريكا تعزز مكانة رجلها المخلص صدام حسين الذي جاءت به بعد قتل الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم الموالي للسوفييت والذي اعتبرته من اشد أعدائها»!!!ولكن كيف نفَّذ صدام حسين دوره؟ يقول مهنَّد:
أولاً: «جعلته يتولى أمر إنهاء التمرد الكردي الذي كان يتزعمه الملاّ مصطفى البرزاني في شمال العراق». ولكن مهند أخفى حقيقة أهداف التمرد. وهو يريد أن يستغفل القارئ عندما يصور وكأن التمرد الكردي كان يصب ضد المصالح الأميركية، وكأنها لم تكن تقف من ورائه. وأخفى هوية الجهات التي تقف وراءه. ولكي يكون القارئ على بيِّنة من الأمر حول تلك الحقائق، نقول: إن أهداف التمرد في شمال العراق، الذي قاده البرازاني، كانت تصب في مصلحة أطراف ثلاثة، وهي:
-نظام شاه إيران، ولا يخفى على أحد مدى عمالته لأميركا، حيث كان أحد أقوى مؤسسي «حلف بغداد» الذي أسقطته ثورة الرابع عشر من تموز من العام 1958م في العراق.
-العدو الصهيوني الذي كان يدعم تلك الحالة الانفصالية في شمال العراق لتشكل له موطئ قدم يستند إليها في تنفيذ استراتيجيته التلمودية. وما يؤكد تاريخية تلك العلاقة –بين الصهيونية والبرازاني- الكم الكبير من الوثائق، نصوص اتفاقات وصوراً تجمع زعماء التمرد الكردي مع مسؤولين صهاينة، التي انكشف النقاب عنها. وما على مهند إلاَّ العودة إلى نص المقابلة التلفزيونية في قناة «الجزيرة» التي أجرتها مع الدكتور نوري المرادي (من قياديي تنظيم الكادر المنفصل عن الحزب الشيوعي العراق). وما يثير اهتمامنا في إخفاء تلك العلاقة من قبل مهنَّد هو أنه كيف يطلب الأميركيون من عميل لهم تنفيذ مهمة لا تصب في مصلحة العدو الصهيوني؟ ولن نقول لمهند إلاَّ أنه من المعيب أن تزور الحقائق من أجل مهمة غير شريفة. وهل كان الأميركيون –فعلاً- ضد التمرد الكردي؟ وهل كان من له مصلحة في ذلك التمرد أكثر من المشروع الأميركي؟
-العدو الأميركي: ولأن علاقة استراتيجية تربط بين النظامين: نظام الاستعمار الأميركي، ونظام الاستيطان الصهيوني، يكون من الغباء أن نقول بأن إنهاء التمرد الكردي في شمال العراق جاء لمصلحة أميركا. أما الحقيقة فهي: لأن التمرد الكردي في شمال العراق يصب في مصلحة أميركا والصهيونية، ويشكل عامل تمزيق للأرض الوطنية العراقية قام صدام حسين بمحاربة ذلك التمرد.
ثانياً: يقول مهند إن الإدارة الأميركية قامت «بإشعال الثورة الإيرانية عام 1978م ، مستغلة في ذلك شعبية الخميني». وتلك فرية كبرى. إذ ليس صحيحاً أن أميركا هي التي أشعلت الثورة الإيرانية. فالثورة اشتعلت بأدوات إيرانية شعبية قادها رجال الدين الإيرانيين بقيادة الخميني. ولما استفحل أمر الثورة، وعندما وجدت أميركا أنه لا أمل بإنقاذ عميلها «شاه إيران» من ثورة الشارع الإيراني، لجأت إلى أسلوب ديماغوجي في محاولة لاحتواء نتائج الثورة الجديدة. ووجدت فيما بعد أنه يمكن الاستفادة من واقع الحال في إيران لأنها بدلاً من أن تكون صديقة للعرب وعوناً لهم في الصراع ضد الاحتلال الاستيطاني الصهيوني وأطماع الإمبريالية الأميركية، دعت –تحت قيادة الخميني- إلى تصدير الثورة الإسلامية إلى الوطن العربي مروراً بالعراق كجار في الجغرافيا، وكحاضن للعتبات الشيعية المقدسة. وتلك كانت من أهم أسباب الحرب العراقية – الإيرانية التي لم يستجب النظام الجديد في إيران لكل دعوات العراق في إيقافها. ولما ظهر استحالة تنفيذ الحلم الخميني وافق المذكور على قرار مجلس الأمن (598) واصفاً موافقته بأنها كمن يتجرَّع السم.
ويتحفنا مهند صلاحات بمعلومات، عالية الأهمية، ومن علوها لم نسمع أحداً قبله، ولن نسمع من بعده، من يروي حكاية العلاقة بين ثلاثة أنظمة لن يستطيع جمع استراتيجياتها أي «شيطان» أو أي «ساحر» في الدنيا: السعودية والعراق وإيران.
أول علامات الاستغراب ما عبَّر عنه مهند بإيحاءاته قائلاً: «وبذلك سيطرت الولايات المتحدة على أهم ثلاث دول في منطقة الخليج : السعودية والعراق وإيران» .
أما ثانية تلك العلامات، فإنه «لم يبق عليها (أي الإدارة الأميركية) سوى الهيمنة على ما تبقى من دويلات الخليج». فهل ترى يا سيدي القارئ أنه لم يبق خارج القفص الأميركي سوى دويلات خليجية لا حول لها ولا قوة؟. وليس لمشايخها أية استراتيجية فكرية أو إيديولوجية تدفعها للتمرد على إرادة أميركا كأكبردولة عظمى في العالم؟ إن من يقف ضد الإدارة الأميركية ويقول لا في وجهها لهو من الذين نضعهم تاجاً على رؤوسنا. ومن غريب الأمور أن يقف مهند صلاحات مخالفاً كل وقائع الأمور ومواقف كل الأحزاب والتنظيمات، وحقائق التاريخ، ليقول لنا: إن مشايخ محميات ودويلات النفط هم الثوريون الوحيدون الذين استعصوا على الإرادة الأميركية.
أما ثالثة علامات الاستغراب، ولنقل علامات التزوير، أن أميركا كانت عاجزة عن احتواء مشايخ النفط، فجمعت جهود ثلاث دول، لا يمكن جمعها بقدرة ساحر. من أجل هدف واحد، هدف واحد لا غير. وهذا الهدف هو تخويف مشايخ وأمراء تلك الدول. طبعاً تخويفهم من خلال تدمير بلدين (العراق وإيران)، والسبب أن القوة الأميركية عاجزة عن تخويفهم.
لقد سبك مهند، برؤية مسرحية في غاية السذاجة، كل ما حصل في المنطقة من حروب ومآسي بشكل لا نحكم عليه إلاَّ أنه مستوى عال من السذاجة التي يتميز بها الكاتب والصحفي «الفلسطيني» مهند صلاحات، على الشكل التالي:
لم يبق في صفوف الثورة في هذه الأمة –كما يوحي نص مهند- إلاَّ عدة من مشايخ النفط متمرداً على الإرادة الأميركية. وكان على الإدارة الأميركية –حسب مهند أيضاً- أن توظف عملاء لها بحجم العراق، وأن تفجِّر ثورة شعبية في إيران. وأن تدفع بهما إلى تمثيل مسرحية حربية استمرت في عروضها ثمان من السنين. ودفع بها الطرفان مئات المليارت من الخسائر المادية، والملايين من القتلى والمعاقين، وبلغ عدد الأسرى بين الطرفين مئات الآلاف. ولم تكن معارك الفاو، أكبر معارك تلك الحرب –حسبما فبركته مخيلة مهند- إلاَّ تمثيلية يستخدم فيها الإيرانيون ألعاباً نارية قوامها صورايخ بعيدة المدى، كمثل صاروخ «سيلك وورم». واقتضت حبكة المسرحية من العراق أن يخلي «فقط» شبه الجزيرة تلك ليقوم الممثل الإيراني بإطلاق الصواريخ منها على الكويت من أجل تخويف «ثوارها» من «المشايخ والأمراء» المتمردين على الإرادة الأميركية!!!
لقد كلَّف الفصل من مسرحية تخويف الكويت انطلاقاً من شبه جزيرة «الفاو»، التي لعب فيها الممثلان، العراقي والكويتي، كما رسمته مخيلة كاتب المسرحية الغريبة، خسائر بشرية ومادية جسيمة.
لنتابع أيها القارئ الكريم حبكة المسرحية، كما جاءت في مقال مهند صلاحات:
يقول مهند صلاحات: «ورأت أميركا أن الطريقة المثلى للهيمنة على هؤلاء الحكام هي تخويفهم ودفعهم للارتماء في أحضانها لحمايتهم. ووضعت لتحقيق هذا الهدف عدة خطط». «وكانت أولى هذه الخطط الإيعاز لإيران». «وبالفعل قام أنصار الخميني في بعض هذه الدول بتحركات نشطة أزعجت الحكام (وخاصة في الكويت)، ولكن هؤلاء الحكام سرعان ما سيطروا على الوضع ، وأوقفوا التحركات الإيرانية داخل دولهم عند حدها, وكان من الطبيعي أن لا تدفعهم هذه التحركات في النهاية لطلب الحماية الأمريكية».
يتابع مهند: «بعد ذلك إصطدمت أمريكا بدخول الاتحاد السوفيتي لأفغانستان عام 1979م». «ونشط عملاء أميركا وغيرهم في المنطقة في إرسال (المجاهدين) إلى باكستان ، للعبور منها إلى أفغانستان، والمشاركة في التصدي للشيوعيين».
«وأخذ المسؤولون الأميركيون يتوافدون على دول الخليج ، مهولّين من الخطر الشيوعي ، وعارضين على هـذه الدول الحماية الأميركية. غير أن دويلات الخليج ، وحكامها لم تنطلِ عليهم هذه الحيلة ، ورفضوا الاستجابة لواشنطن في البداية. وهنا تفتق ذهن المخططين الأميركيين عن إشعال الحرب بين العراق وإيران على نحو يجعل الرعب يدب في قلوب حكام الخليج». «أما بقايا الاوروبيين من العرب في المنطقة فقد اضطروا للوقوف إلى جانب العراق بالمال وأحياناً بالرجال حتى لا ينهار ما اعتبروه خندقهم الأمامي في وجه الخطر الإيراني أو بعبارة أخرى الأمريكي».
لاحظ، هنا، أيها القارئ الكريم، أن «الثوار» من «مشايخ الكويت وأمرائها» كانوا مثالاً للثوار وأنموذجاً يمكن احتذاؤه وتدريسه في الكليات العسكرية. وتتأكد من ذلك وأنت تتابع حبكة المسرحية بإطار فني يثير الإعجاب، وحولها جاء في مقال مهند ما يلي: «صحيح أن الكويت كان يتملكها الخوف كلما كانت إيران تحقق مكاسب عسكرية في منطقة البصرة، ولكن هذا الخوف لم يدفعها لطلب الحماية الأميركية»، بل ظلَّت صامدة في وجه الغطرسة الأميركي.
فإذا كنا نفهم، عزيزي القارئ، أن يُوجَد في العالم نوعاً «سوبرمانياً» من الثوار، كمثل «ثوار الكويت». إلاَّ أننا لم نستطع أن نفهم «لماذا اكتفت الكويت بمد العراق بالأموال اللازمة لشراء السلاح». إن المستهدف من الحرب العراقية – الإيرانية هو تخويف الكويت بواسطة عميلين أميركيين: العراق وإيران. ونسأل مهند، رحمة بعقولنا: هل أن يمد «ثوار الكويت»، المتمردون على أميركا، يد المساعدة إلى من ينفِّذ المشروع الأميركي هو أمر يصدقه من في رأسه عقل بشري؟
يتابع مهند: «من باب التضييق على دول الخليج بوجه عام حتى لا تقع دول الخليج بالفخ الأمريكي، والكويت بوجه خاص، أوعزت أميركا لصدام بتوسيع نطاق الحرب، ومدّها إلى ميـاه الخليج». وكانت النتيجة –كما يصفها مهند صلاحات: « وهنا اشتدت مخاوف دول الخليج، بما فيها الكويت، مما جعلها تقبل برفع الأعلام الأميركية وغيرها على السفن التجارية المتجهة لموانئها ، وخاصة ناقلات النفط والغاز».
لقد بدأ الحديد «الكويتي» يلين تحت مطارق أميركا، لكنه بقي يتلون، وهذا –كما «يبهلن» علينا مهند صلاحات- لا يكفي. ولهذا كان من الواجب على الإدارة الأميركية، يتابع صلاحات: و«لزيادة مخاوف الكويت لعلها تستسلم, وتمثل هذا الترتيب بقيام صدام بتسليم شبه جزيرة الفاو لإيران في عملية عسكرية سريعة استغرقت ليلة واحدة فقط, وكان هدف أميركا من ذلك منح إيران منصة لإطلاق صواريخها الصينية من نوع سيلكوورم على الكويت». «والشيء الوحيد الذي استفادته من الفاو هو ضرب الكويت بالصواريخ، وإثارة ذعر حكامها وأهلها». «ولإخفاء صدام حقيقة أنه سلّم الفاو ، بادر بإعدام كبار ضباط الوحدات العراقية التي كانت مرابطة في الفاو بتهمة التقصير والخيانة».
وعلى قاعدة أن الطرق الدائم «يفك اللحام»، وعلى طريقة ممارسة الضغط الدائم الذي تمارسه الإدارة الأميركية، أو الذي مارسته في الضغط على «مشايخ وأمراء دول الخليج»، في استعصائهم ضد الإرادة الأميركية. ولما لم ينفع أسلوب «الألعاب النارية» التي قامت بها إيران انطلاقاً من شبه جزيرة «الفاو» التي قام العراق بتسليمها للإيرانيين كما يريد أن يستغفلنا مهند بتخريفاته. يتابع مهند (كاتب مسرحية) «الحرب العراقية - الإيرانية» واصفاً الأسلوب الأميركي الجديد، قائلاً: «ومرة أخرى توافد المسؤولون الأميركيون على الكويت يعرضون الحماية». «غير أن أمير الكويت عرض على أميركا بدلاً من ذلك إقامة جزيرة صناعية في البحر».
غريب أمر أولئك «الثوار» في الكويت، المتمردين على إرادة أميركا. كم يستأهلون الإعجاب والتقدير. لقد صمدوا في معركة الممانعة مع أميركا إلى آخر الحدود. لقد دمَّرت أميركا بلدين يصل تعداد سكانهما إلى ما يقرب من خمسة وسبعين مليوناً من البشر من أجل تمثيل «مسرحية تخويف أمراء الخليج ومشايخه»، ودفََّّعت ميزانية البلدين مئات المليارات من الدولارات. وعلى الرغم من ذلك فشلت أميركا في تحقيق غرضها. لكن الدولة الكبرى في العالم لم تيأس. ولهذا السبب –كما جاء عند كاتب المسرحية الذي يستغفل عقولنا- يتابع معجباً بالصبر الذي يتحلى به المسؤولون الأميركيون. ولهذا –يقول مهند- «وبعد أن فشلت أميركا في تحقيق هدفها من خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية. أخذت ترتب الأمور لإنهاء الحرب قبل موت الخميني لأنه قبل انتهائها لن يجرؤ خليفته على إنهائها قبل تحقيق الهدف الذي حدده الخميني لها، ألا وهو إسقاط نظام صدام، وإقامة (جمهورية إسلامية) في العراق». «وبالفعل رتّب رافسنجاني الأمور، فسحب قوّاته من الفاو ومن منطقة (جزر مجنون) لتحتلها القوات العراقية بهجوم خاطف خلال أقل من يومين، وأخذت القوات العراقية تتوغل في الأراضي الإيرانية، وكأنه لا يوجد مدافعون عن هذه الأراضي, ورفع رافسنجاني تقريراً عن هذا الوضع للخميني، مما جعله يعلن إنهاء الحرب بطريقة دراماتيكية». « وهكذا انتهت الحرب، وظهر صدام بمظهر البطل المنتصر».
برافو يا مهند. والله لقد أجدت فن الكذب واستغفال العقول.
برافو لكل من صدَّق كلامك. حتى من أولئك الذي يدَّعون فن الكتابة.
إنها والله لنهاية ذكية لمسرحية يمكن أن تكون مخصصة ل«المغفلين».
قل لنا، بربك، كيف يتعاون العراق وإيران ثمان سنوات في مسرحية حربية، يتبادلان فيها أدوار تخويف «الثوار» من «أمراء النفط في الكويت ومشايخهم»، وهم من المفترض –كما يتبادر لمخيلتك- أن يدفعوا أمراء الكويت للخضوع إلى الإرادة الأميركية، وفي الوقت ذاته يعمل الخميني لإسقاط حليفه النظام في العراق؟
واعجباً. حرب واحدة، استمر عرضها لمدة ثمان من السنين، لم تنجح في زحزحة «ليوث الكويت من الأمراء ومشايخ النفط» عن موقفهم العدائي من الأميركيين. ولم يرف لهم جفن من خوف أو من فزع. والله لقد زرع مهند صلاحات الذهول في عقولنا من كثرة إعجابنا ب«ثورية الأمراء ومشايخ النفط في الكويت على الأخص». لكن ابتكارات الأميركيين في بلوغ هدفهم لم يزرع اليأس في قلوبهم. لهذا، ولما فشلت أميركا في تخويف الكويت، يتابع مهند: كانت خطتها الأخيرة «لتحقيق هدفها في الهيمنة على منطقة الخليج، بل والشرق الأوسط بأسره، هي دفع العراق لاحتلال الكويت».
وأخيراً، وفي اليوم السابع من كتابة مسرحيته، يرتاح مهند صلاحات، ويريح المتابع قائلاً: «وبعملية الكويت، ورضوخ حكامها، ومعهم حكام باقي دويلات الخليج، للهيمنة الأميركية، صارت لأميركا الكلمة الفصل، كما سيطرت على نفط الخليج كله، بدءاً من إيران وانتهاء بالإمارات العربية المتحدة، مروراً بكل من العراق، والكويت، والسعودية، والبحرين، وقطر».
لقد جعل مهند صلاحات من الكل راضخين للإرادة الأميركية. ولكن مسرحيته لم تنته بعد. فالشك الأميركي مبرر عنده. فإذا كانت كل دول النفط قد رضخت، وعلى طريقته في الجدلية المادية والتاريخية التي استخدمها وللأسف في التزوير وخداع الساذجين، رأى الأميركيون بحسهم الحذر أن المرحلة الجديدة ستخضع لقوانين صراع الأضداد مرة أخرى. وفي «قفشاته» الديالكتيكية تلك يتابع وصف استراتيجية الإدارة الأميركية، بما يلي:
« ولضمان استمرار سيطرتها على هذه المنطقة، فإن واشنطن تبنّت نظرية (الاحتـواء المزدوج), وظاهر هذه النظرية أنها لحماية دول الخليج من الخطرين: العراقي والإيراني. ولكن الحقيقة هي الاستعانة بالعراق وإيران في تمكين سيطرتها على باقي دول الخليج, ولعب صدام في هذا الإطار دوراً بشعاً آخر، فهو لم يكفّ أثناء حكمه السابق عن مشاكسة فرق التفتيش التي تعمل في العراق، وتتخذ الولايات المتحدة من هذه المشاكسة ذريعة لحشد القوات في منطقة الخليج، بحجة ضرب العراق لتأديبه على مشاكساته, ويدبّ الرعب في هذه الأثناء في دول الخليج نظراً لأنها تخشى أن يطالها رد صدام».
من أين لك هذا يا مهند؟
إنها استنتاجات تستأهل لقاءها أفضل سجن للمجانين. لقد قلت –قبل قليل- إن أميركا سيطرت «على نفط الخليج كله»، وهذا يعني أن كل دول الخليج كما حددتها قبل قليل «بدءاً من إيران وانتهاء بالإمارات العربية المتحدة، مروراً بكل من العراق، والكويت، والسعودية، والبحرين، وقطر» قد أصبحت في السلة الأميركية منذ العام 1991م، أي تاريخ العدوان الثلاثيني على العراق. وتتحفنا، وكأنك مصاب بضعف الذاكرة- بأن أميركا (بعد العدوان الثلاثيني في العام 1991م) راحت تستعين بإيران والعراق من أجل تمكينها من السيطرة «على باقي دول الخليج ». وهل بربك هناك دول أخرى في الخليج على الخارطة نجهلها نحن وتعلم بها أنت؟
إنه جنون يتميَّز به مجانين كتَّاب المسرحيات. ولأنك لن تأتي بتفسير حقيقي لمجريات مرحلة احتلال العراق، ولن نتهمك بجهلها، ولكننا نتهمك بإغفالها حتى لا تسيء إلى من أنت موظف في مصانعه التي تقوم بتعليب «الأفكار» أو مصانع «تشويهها» على طريقة رامسفيلد، «المعلم الأكبر والأول» في الكذب.
لقد دفعتك حاجتك إلى إكمال فصول المسرحية المكلَّف بكتابتها، ولا أستبعد أن يكون «الثوار من أمراء الكويت» هم الذين كلَّفوك بمهمة الكتابة، لتبتكر بقية ل«دول الخليج» غير موجودة من أجل إخراج «مهمة جديدة» وتبرير جديد لمرحلة حصار العراق. وهل نلومك على مقدرتك على «فبركة» الوقائع وتركيبها، مع الكثير من الاعتماد على ذاكرة ضعيفة لبعض القراء الذين أبدوا حماسة في تأييدك؟
لن نلومك لأن هناك من المحقونين حقداً على رموز الأمة وعظمائها من تمر عليهم وسائل الخداع والتزوير. بل ندعوك إلى وقفة من ضمير، لعلَّك تفيء من غيك، وتعود إلى رشدك، وأن يكون مرشدك قول الرسول الكريم «تموت الحرة ولا تأكل بثدييها».
أما عن صدام حسين، فليس بحاجة إلى الدفاع عنه. إذ يكفيه أن يكون أخصامه ممن «أكلوا الكثير الكثير بأثدائهم»، ومن الذين احتضنتهم «سيركات» المخابرات الأميركية والبريطانية والصهيونية.
وأما حزب البعث العربي الاشتراكي الذي أسَّس لأكثر المشاريع النهضوية القومية في العراق، فهو في خندق المواجهة الدائم ضد الاستعمار والصهيونية منذ تأسيسه وحتى الآن. ويكفيه فخراً أنه يصول ويجول على أرض العراق –من شماله إلى جنوبه ومن شرقه وغربه- مطارداً كل جندي محتل، وكل عميل خائن لوطنه.
وأما أنت، فندعوك إلى هجرة تجارة «الخردة» الصدئة، التي تحاول تلميعها لتظهر بضاعة لمّاعة، تخدع بعض السذج والموتورين وما هي إلاَّ تجارة الذين يأكلون ب«أثدائهم» على حساب مصلحة أمتهم.
***

(65): الاتهامات النقالة والهدف تجهيل وطنية المقاومة العراقية وتجاهلها
28/ 12/ 2004م
من أهم أهداف الاحتلال الأميركي أن يضلِّل الرأي العام الأميركي أولاً، والرأي العام العالمي ثانياً، من تصنيع شرعية لاحتلال للعراق.
ولما كان يروِّج –في أثناء الإعداد للعدوان- بأن احتلال العراق سيشكل عملاً رائعاً لدى العراقيين، كما أنه سيكون محل ترحيبهم الواسع بحيث أنهم زرعوا حدائق الورود لقطفها ورشِّها على طلائع قوات الغزو، كان –في ذلك الوقت- واقعاً تحت تأثير التضليل الذي غرسه عملاء أميركا و«إسرائيل» في ذاكرة جورج بوش وزمرته من المحافظين الأميركيين الجدد.
لقد انطلت أكاذيب من كانت تطلق على نفسها اسم (المعارضة العراقية للنظام الوطني في العراق)، على تلك الإدارة. فلم يترك لها مجالاً لأن تخطط لمرحلة الاستقرار بعد الاحتلال. وهذا السبب الذي يتلطى تحت خيمته المحللون الذين يربطون فشل الاحتلال بفشل إدارة جورج بوش في التخطيط لتلك المرحلة.
وإذا كنا من الواثقين بأن المشروع الأميركي في احتلال العراق فاشل مهما كانت الأسباب والذرائع التي يتلطى تحت مظلتها، ولا نرى أن فشله في التخطيط لمرحلة ما بعد الاحتلال هو السبب الوحيد في عجزه عن احتواء مد المقاومة العراقية، بل إن فشله أصبح أكيداً منذ خطط للاحتلال، فالاحتلال هو لا شرعي بكل المقاييس. وهو احتلال غير عملي منذ أن مارس العراقيون حقهم المشروع ضده، ومنعه جنوده من الاستقرار على الأرض. وجل ما نقوله هو أن فشل مشروع الاحتلال حالة أكيدة لأن من رفض إملاءات المشروع الاستعماري الأميركي كان يعد لحرب تحرير شعبية لا طاقة له على مواجهتها سواء أعد لمرحلة الاستقرار أم لم يعد، لأن النظام الوطني في العراق كان واثقاً أنه يمثِّل إرادة الشعب العراقي وليس العكس. وكان واثقاً أن تشخيص ما كانت تسمي نفسها (معارضة عراقية) كان باطلاً بالشكل والمضمون.
لما حصل الاحتلال، وانكشف الغطاء عن وجود مقاومة عراقية تحسس الأميركيون وطأتها وضخامة تحديها لاحتلاله، فأخذ يحس بوطأة خطئه، وليس بين يديه ما يبرر الأسباب التي غزا العراق من أجلها. فراح يختلق الأساليب والذرائع لتغطية فشله.
وكان من أهم تلك الذرائع هي البرهان على أن المقاومة العراقية ليست وطنية الأهداف والوسائل. ومن خلال رصدنا لبعض تلك الذرائع والاشاعات التي كان يطلقها ولا يزال، بحيث كانت مشوبة بالارتباك، وكان ينتقل بها من اتهام هذا العامل أو ذاك. أما الجامع المشترك بينها فهو الايحاء للرأي العام في أميركا، أو تضليله بأن المقاومة التي تجري ضد قواته في العراق، هي إرهاب وافد من الخارج. ولا يخفي ادِّعاءاته بالتضليل التي يمارسها بأن الشعب العراقي ممتنٌّ له، ويدين له بالجميل لأنه خلَّصه من النظام السابق. ولكي يحظى احتلال العراق بقبول الرأي العام الأميركي والعالمي، مارست إدارة الشر الأميركية أسلوب الاتهامات «النقالة» التي تجهد من أجل تصوير عمل المقاومة العراقية بأنه عمل «إرهابي» آتِ من الخارج. أي أن اتجاهات الإعلام الأميركي المعادي كانت تريد أن تنفي عن المقاومة العراقية عمقها الوطني من خلال تكثير الاتهامات للخارج العراقي. لتبدو المقاومة وكأنها عمل ثأري يقوم به كل ما هو خارجي ضد قوات الاحتلال. ولهذا قمنا بمحاولة لرصد اتجاهات تلك الاتهامات.
أولاً: ابتدأ إعلام إدارة الشر في أميركا بوصف العمليات الفدائية في العراق، بأنها من صنع «فلول نظام صدام حسين»، بحيث أن عامل اليأس هو دافعها لاستعادة نظام خسرته، لذا تقوم بعملياتها العسكرية ضد قوات الاحتلال بدافع مصلحي.
ثانياً: ربط إعلام الاحتلال بين عمليات المقاومة وقرار حل الجيش العراقي (القرار الذي أعلنه بول بريمر المعزول). فوصف القائمين بتلك العمليات أنها من صنع من فقدوا مصدر عيشهم. وصوَّرهم وكأنهم يقاتلون من أجل لقمة عيشهم. التي –إذا ما تأمَّنت- تشكل دافعاً يوقف المقاومون عملياتهم في حال غيابه.
ثالثاً: ربطوا ما بين المقاومين وغياب الخدمات من ماء وكهرباء، وكأن عودة المياه في خراطيم المنازل، وعودة التيار الكهربائي إلى الأسلاك، نقطة البداية في الابتعاد عن الإعداد للعمليات العسكرية وتنفيذها.
يجمع تلك الإشاعات رابط أساسي وهو تصوير المقاومة وكأنها ردود أفعال سطحية لها علاقة بكل شيء مادي باستثناء أنها مبدأ من مبادئ شرعة حقوق الإنسان والدول في مقاومة القوى التي تحتل الأرض الوطنية.
طبعاً ليس هناك في قاموس الرأسماليين، وخاصة نخبة النخبة من بينهم والأكثر تطرفاً، ما يعبِّر عن حس وطني أو كرامة وطنية. فالرأسمال يجتاز الحدود القومية والوطنية ليستقر في أي مكان من العالم ليُشبِع جشعه ضمن شروط الأمن والاستقرار، بحيث يبيع مالك الرأسمال كل حس وطني أو كرامة وطنية ليلتحق بأكثر المواطن أمناً وأماناً لحقيبته التي يحمل فيها شيكاته وأسهمه.
ولأن ربط المقاومة بدوافع محض مادية وخدماتية لم تقنع أحداً. راحت آلة الإعلام الأميركي تبتكر أوصافاً تعلم أنها تستثير حفيظة الأميركي بشكل خاص والرأي العام العالمي بشكل عام، وهي العمل على وصف المقاومة العراقية بالإرهاب القادم من خارج العراق. ولم تجد أفضل من إعادة ربطها بصورة ينظر إليها الأميركي خاصة، والرأي العام العالمي عامة، بحذر وحقد، ولم تكن تلك إلا صورة تنظيم القاعدة وصورة بن لاذن.
وبمثل هذا الابتكار راحت أبواق الإعلام الأميركية تربط ما بين المقاومة العراقية وما تسميه (تعسفاً) «إرهاب القاعدة» أو «الإرهاب الأصولي الإسلامي»، فابتكرت صورة الزرقاوي. وقد اقتات إعلام الاحتلال كثيراً من تلك الصورة في التحريض ضد المقاومة وتغييب هويتها الحقيقية. وكان ابتكارها ذاك يستفيد من جانبين من جوانب الصورة المبتكرة، وهي أن الزرقاوي –وتنظيمه- ليس عراقياً أولاً، وهو يرتبط بالإيديولوجيا مع تنظيم القاعدة وبن لاذن ثانياً.
ومن المظاهر المكشوفة التي تدل على لاواقعية الظاهرة الزرقاوية هي أن الإعلام الأميركي قد أوكل إلى تلك الصورة الوهمية الكثير من المهمات التي يعجز آلالاف المقاتلين عن القيام بها. ومن أجل الدلالة وليس الحصر، كانت عمليات الذبح والخطف وآلاف العمليات العسكرية في الشهر الواحد، والانتقال من مدينة إلى أخرى من مدن العراق: من البصرة جنوباً إلى الموصل وكركوك شمالاً، كانت –كما يصورها إعلام الاحتلال- من صنع الظاهرة الزرقاوية!!!
وكي لا ننسى، فقد حصرت وسائل الإعلام تلك، مكان الزرقاوي في الفلوجة، ولأنها هي التي صنعت تلك الخدعة فقد قامت بتهريب الزرقاوي إعلامياً من الفلوجة إلى خارجها بعد معارك شهر تشرين الثاني من العام 2004م، وهي بذلك كانت تريد أن تبرر جرائمها الإنسانية في تلك المدينة العظيمة، وكأن تلك الجرائم جاءت ثمناً مبرراً كان على سكانها أن يدفعوه لأنهم حموا أبا مصعب الزرقاوي. ولهذا كان يريد إعلام قوات الاحتلال أن يوحي للرأي العام بأن ما قام به لهو عمل مبرر ومشروع ما دام جيش الاحتلال يلاحق «إرهاب الزرقاوي».
وربما كانت مخيلة الماسكين بمسارات الإعلام، وتوجيهه، تمهد لنقل الزرقاوي –إعلامياً- إلى مدن عراقية أخرى، من أجل تكرار المجازر التي ارتكبتها في الفلوجة ليظهر السبب وكأنه ملاحقة للإرهاب.
أما المرحلة الراهنة من استراتيجية «الاتهامات النقالة» الهادفة إلى تجهيل وطنية المقاومة العراقية، فهي تلك التي ابتدأت منذ أقل من شهر من الآن، وهي مرحلة ما بعد اليأس الأميركي من السيطرة على الفلوجة، فقد أخذت تتناول دول الجوار الجغرافي للعراق، ويأتي على رأسها سورية.
بشكل متزامن مع استصدار قرار مجلس الأمن (1559) الهادف إلى إرغام سوريا على تقديم تسهيلات لحصار المقاومة العراقية، كثمن للسكوت عن بقائها في لبنان، راحت الكثير من الأبواق الإعلامية تمهِّد لدفع سوريا إلى اتخاذ ما يتعارض مع المصلحة القومية.
لقد أفلست الابتكارات الإعلامية الأميركية من استخدام ذرائع المرحلتين الأولى والثانية، أي تجهيل وطنية المقاومة العراقية بغلاف من ردود فعل ضد فقدان الخدمات والأمن، أو تجهيلها من خلال إعلانات ألصقت عليها صور الزرقاوي (الغير عراقي والمرتبط بتنظيم القاعدة). وبعد إفلاسها راحت تنفِّذ المرحلة الثالثة التي تميَّزت باتهامات راحت توزعها على دول الجوار الجغرافي للعراق. وكان أبرزها الاتهامات الموجَّهة إلى سوريا. فتطوَّع من أجل بث تلك الإشاعات كل الأجهزة الإدارية والأمنية في النجف، وهي بحكم عمالتها للاحتلال، راحت توزِّع أخباراً تحت مسميات «اعترافات» لمن تدعي أنهم ضالعون في عمليات أمنية في النجف وكربلاء.
إن إدارة الاحتلال الأميركي للعراق، في مواجهة الاستحقاق الانتخابي، تعمل على تغطية فشلها المسبق، على قاعدة لا شرعيتها أولاً، وعلى قاعدة تبرير النتائج التي لا شك بأنها تمثِّل تزويراً لا مثيل له في كل أنواع الديموقراطيات وأصنافها. وهي بتلك الاتهامات إنما تريد أن تضرب أكثر من عصفور بحجر واحد.
يأتي العصفور الأول ذو علاقة بالضغط السياسي على سوريا بعد مسرحية استصدار القرار 1559 المرتبط بالوجود السوري في لبنان.
أما العصفور الثاني، فهو حالة تلبيس مفتعلة لقميص هوية المقاومة العراقية، بأنها لا تزال مقاومة آتية من خارج حدود الوطنية العراقية. وكأن الإقليم العربي الجغرافي للعراق هو الذي يعمل على الضد من إرادة العراقيين.
أما العصفور الثالث فهو الإيحاء باستمرار أن وجود الاحتلال، سواء كان بلباس أميركي أم بريطاني أم بولندي أم كوري أم ياباني... هو الوجود الشرعي الوحيد الذي يمثل الإرادة العراقية.
فتصوير وجود حالة إسلامية تقف إلى جانب المقاومة العراقية وكأنها تغريب للعراق عن عمق ثقافته، أو تصوير وجود حالة عربية تقف إلى جانب المقاومة وكأن سلخ للعراق عن محيطه العربي، أو سلخ للعروبة عن العراق. ولأن العراق يرتبط مع عمقه الإسلامي والعربي، كحقيقة واقعية ومصيرية، أصبحت هي القاعدة الشاذة، بالمفهوم الاستعماري، فهي تريد أن توحي بأن المقاومة هي حالة ليست شرعية من جهة، وتريد من جهة أخرى أن تستغفلنا بأن الوجود الاستعماري -مدعوماً بشلل من العملاء العراقيين- هي الحالة الشرعية الوحيدة.
بمثل تلك الوسائل والأساليب يعمل الاستعمار الأميركي الاحتلالي على تزوير كل وقائع التاريخ والروابط المصيرية بين العراقيين وحلفائهم من العمق الإسلامي التحرري والعمق القومي العربي التحرري أيضاً.
وإذا كنا نشخِّص الآن طبيعة المرحلة الثالثة من اختلاق الاتهامات التي تبترها مؤسسات الشركات الكبرى الأميركية نرى أنها ليست إلاَّ أداة ووسائل الغرض منها سلب المقاومة العراقية وسلخها عن العمق العربي ما هي إلا بالونات للتخويف والتهويل على كل رابطة قومية تجذب المجاهدين والمناضلين للقيام بواجبهم ضد الاحتلال على أرض العراق.
وإذا كان من واجب على القوميين والإسلاميين –في هذا الظرف بالذات- أن يؤدوه فهو دعم المقاومة العراقية بكل الإمكانيات: مقاتلين وأسلحة وأموال. وإن النداء الذين يمكننا أن نسهم في إطلاقه هو أن لا ينساقوا بالعكس من ذلك لكي لا يسمحوا بأن ينطلي الكذب والتزوير على عقولنا. فلا شرعية يمكن أن تكون بغاية من الوضوح أكثر من أن الواجب القومي والديني الإنساني هو الموقف الشرعي الوحيد على قاعدة رفد المقاومة العراقية بكل الإمكانيات.
وعلى العكس مما يقوم بتزويره الاحتلال الأميركي، مدعوماً من عملائه، أن يقوم بتجهيل دور العراقيين -بعثيين وإسلاميين وقوميين وشيوعيين من شمال العراق وجنوبه، شرقه وغربه- في قيادة المقاومة العراقية. وكل الروافد الداعمة، من إسلامية تحررية وقومية عربية، لا تلغي ولن تلغي وطنية المقاومة العراقية وحقها المشروع في تحرير الأرض من دنس الاحتلال وعملائه، من عراقيين ودوليين.
ولا بد، أخيراً، من أن نسخر من برنامج الإدارة الأميركية الإعلامي الذي يريد أن يستغفلنا من جديد موحياً بأن تهديداته لسوريا هي نصيحة مجانية لوجه محبة تلك الإدارة للديموقراطية في أن تسود في لبنان. ولهذا يحاول جورج بوش أن يوحي –من خلال حميته ومحبته المفاجئة للشعب اللبناني- أن عيون الديموقراطية في لبنان تستأهل التضحية الأميركية من أجلها.
ولن يكون جوابنا أكثر من أننا لن نُلدَغ من جحر مرتين. لقد لدغتنا الإدارة الأميركية في المرة الأولى عندما ادَّعت –كذباً وزوراً- أن احتلالها العراق لم يكن إلاَّ من أجل عيون الديموقراطية فيه؟؟!!
فليخرج الساحر الأميركي من أرضنا أولاً، لأنه عندنا هو «الخارج» الوحيد. أما غيره ممن يساعدون المقاومة العراقية –كواجب ديني أو قومي- فهم من أهل البيت. ومشاركتهم للمقاومة العراقية هي مشاركة شرعية وواجبة في كل المقاييس.
***

(66): حوارية حول مقال: فشل الاحتلال الامريكي وراء التهاب اسعار النفط
2/ 9/ 2004 حسن خليل غريب
خلافاً لكل التفسيرات التي أعلنها الاختصاصيون، السياسيون والاقتصاديون، لظاهرة الارتفاع الجنوني لأسعار النفط، سنغامر من موقع ثقافتنا العامة بوضع تفسير لما يجري على أرض الواقع النفطي. واستناداً إليه نرى أن ظاهرة ارتفاع أسعار النفط ليست ذات علاقة بمشكلة كثرة الطلب عليه لأسباب سياحية تتعلق بموسم السياحة في الصيف فالشتاء يمثل حاجة أكبر.
أو نتيجة لأحداث أمنية تحصل هنا أو هناك على أرض العراق، لأن غياب الأمن في العراق حصل منذ أكثر من عام.
أو له علاقة بمنع تصدير النفط العراقي بشكل كامل أو جزئي، لأن السعودية لوحدها كفيلة بسد ذلك العجز.
وليست ذات علاقة بتخويف أميركي من أجل إرغام الدول الكبرى لمساعدته على إنهاء بؤرة الاستنزاف التي حفرتها المقاومة العراقية في مواجهته بحيث أخذت تدميه. لأن الدول الكبرى الممانعة لاحتلال العراق تعرف أن ارتفاع أسعار النفط ووصوله إلى المستوى الذي وصل إليه لا علاقة له بالأمن الضائع في العراق. واستتباعاً تعرف أن إسهامها في مساعدة الأميركيين على احتواء المقاومة العراقية لن يحل مشكلة ارتفاع الأسعار.
أما السبب الذي نفترض أنه يقف وراء تلك الظاهرة هو حالة إفلاس من نجاح المشروع الأميركي في احتلال العراق. وتلك الحالة قد تأكَّدت منها القوى المافياوية التي تشكل العمود الرابع في المشروع الأميركي المتطرف لغزو العالم. وحول ذلك يمكننا رصد الافتراض على الشكل التالي:
هناك مؤشرات على أن إدارة بوش هي جزء من الحركة السيناركية »تحالف القوى الدولية المالية والمصرفية«. تلك القوى تسيّرها إيديولوجيا الربح حتى على قاعدة الأساليب العنيفة للفاشيين الجدد في إيطاليا وإسبانيا وأمريكا اللاتينية التي كانت تدير عمليات »الإرهاب الأعمى« و»استراتيجية التوتر« منذ أواخر الستينيات من القرن العشرين وحتى بداية الثمانينات في إيطاليا.
ستجد في مثل هذا التحالف مصرفيين وراء الفاعلين الحقيقيين الذين يديرون عمليات الإرهاب بالتعاون مع أجهزة استخبارات رسمية، تستخدم »استراتيجية التوتر«، التي أرهبت إيطاليا في السابق. إن القوى المالية والمصرفية (السيناركية) هي التي وضعت هتلر وموسوليني في سدة الحكم ثم خرجت من الحرب العالمية الثانية دون أضرار تذكر لتسيطر من جديد على مجرى السياسات الغربية. إذ كان يكفيها أنها نجحت في الحصول على أكبر ما يمكن من الأرباح التي تجنيها من اندلاع الحروب.
إن تلك المافيات تسيِّر قوى اليمين وغيرها من وراء الكواليس لخدمة أغراضها. وأحياناً تظهر في أساليب خلق حالة توتر وهلع بين شعوب أوروبا وأميركا لتسلبها، طواعيةً، حقوقها تحت ضغط تخويفها من حالات إرهاب غير منظورة.
ولأن تلك الأوساط المافياوية كانت تطمع من دعمها ومساهمتها في تنفيذ المشروع الأميركي في تحصيل أرباح استراتيجية إذا ما نجح، ولكنه إن سقط لن تأسف كثيراً عليه لأنها تكون –من خلال تكتيكاتها في النهب والسرقة- قد نالت الكثير من الأرباح. وما يُنقل من أسرار عن سرقات هائلة من خلال أشخاص يديرون دفة الاحتلال على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية لهو دليل وبرهان على أن التحالف المذكور قد بدأ استغلاله للاحتلال منذ اللحظات الأولى.
ولأن تلك المافيات قد استشعرت رائحة هزيمة المشروع، وربما تدل تقديراتها أن الاحتلال لن يطول فقد راحت تشعل سوق النفط تحت وسائل وأساليب شتى لترفع أسعاره فتحقق من خلاله الفوائد التالية:
1-تعويض الخسائر التي تلحق بها من جراء منع المقاومة العراقية قوات الاحتلال من إنتاج كميات النفط العراقي الكافية لتمويل فاتورة الحرب. ولما خفَّ الانتاج ضاعفت المافيات سعر البرميل لتصبح عائدات النفط موازية للمستوى الذي كانت تخطط للحصول عليها في الحالات الطبيعية.
2-حتى تعلن الإدارات الأميركية فشلها في العراق، وإلى أن تعد العدة للخروج، تستغل المافيات المساحة الزمنية الفاصلة للمزيد من استغلال النفط بزيادة أسعاره. وهل الشركات المنتجة والمصدرة والناقلة والمسيطرة على البورصة إلاَّ تابعة لتلك المافيات؟
3-تصيب الإدارة الأميركية الحالية –كونها تشكل جزءًا من تلك المافيات- أكثر من عصفور بحجر رفع سعر النفط. فهي تستطيع أن تلجم الانحدار الذي تهوي إليه الميزانية الأميركية بالاستفادة من فارق أسعار الإنتاج الأميركي من النفط. وهي تضاعف عائدات النفط العراقي لتمويل فاتورة الحرب وموجبات الإنفاق المحلي في العراق. وبالتالي يستفيد أعضاؤها –كشركاء مع المافيات العالمية- من تكديس الأرباح الهائلة لمصالحهم الخاصة.
4-تقاسم الأرباح الفائضة من سياسة الارتفاع الراهن مع الدول النفطية الموالية للسياسة الأميركية، وإجبارها على الإسهام في تمويل نفقات الحرب على العراق وثمن احتلاله. وقد جنت تلك الأنظمة عشرات المليارات من سياسة افتعال رفع الأسعار في فترة قصيرة. وهذا ما يحول دون انتكاسة مالية في خزانة أميركا بما تعنيه إثارة معارضة المكلَّف الأميركي الذي يدفع فاتورة لحرب لا تدر عليه سوى دفع ضريبة الدم والمال.
بمثل هذه الفرضية نعتقد أن أسعار النفط سوف تزداد في الارتفاع لأهداف مافيوية عالمية وأهداف النخب من الأميركيين الذين جمعهم مشروع أصحاب القرن الأميركي الجديد. فهم إذا فشلوا في إنجاح مشروعهم الاستراتيجي الخبيث في احتلال العرق، ومن خلاله احتلال العالم، فهم لن يحصدوا الفشل من غزواتهم وحروبهم لأن جيوبهم تمتلئ فالتخطيط الذي يؤمن مصالحهم جاهز وجائز.
26/ 8/ 2004م
ردود على المقال:
هدى محمد: 3/ 9/ 2004
هناك شخص له عقل راجح ودراية واضحة، نصحني بالاستزادة في القراءات الاقتصادية، لان محرك السياسة هو الاقتصاد في عالمنا هذا، ومنه أنقل الوصية للأخرين، واشكره على الملأ، كي تعم الفائدة.
بالنسبة للمقال، عندي اسئلة قد تكون بديهية للبعض، لكنني لن ادعي المعرفة، ولعل مدير الدورية او كنعان أو أحد الاخوة الكرام يجيبني:
-فمنها ان المستفيد من رفع اسعار النفط العصابات الاقتصادية المافيوية، المسيطرة، وأن ادارة بوش بعضها. السؤال من الذي يدفع الخسارة؟
- هل يعني هذا الكلام ،أن مهاجمة المقاومة للأنابيب وتعطيل عملية سرقة النفط العراقي ولو قليلا، لا تضر أمريكا بل تنفعها؟!
* لو كان للعرب عزم ومبدأ (غير موجود طبعا) فكيف يستطيعون التأثير باستخدام النفط؟
حسن خليل غريب/ 4/ 9/ 2004
هدى محمد وأسعار البترول
الأخت هدى
كنت من المتطلعين الى أن يكون مضمون المقال حوارياً لأنني ألمحت الى ذلك في مطلعه حينما اعتبرت أنني أقوم بمغامرة تفسير ظاهرة التهاب أسعار النفط من خارج الاختصاص بالموضوع الاقتصادي.
قبل أن أنشر مقالي اطلعت على مقال في موقع التجديد العربي للدكتور يوسف مكي يتناول فيه الموضوع من وجهة نظر اقتصادية علمية. لذا ترددت في نشر مقالي المذكور وكتبت الى الدكتور مكي عن ترددي بعد اطلاعي على مقاله. وأرسلت له نص مقالي لتقييمه قبل إقرار نشره على شرط أن ينشره في حالة واحدة وهي إذا وجد فيه زاوية ما يمكن أن تفيد القارئ. فقام الدكتور مكي –مشكوراً- بنشر مقالي في موقع التجديد العربي.
إن تلك الخطوة شجَّعتني على نشر مقالي في مواقع أخرى لعلَّ فيه ما يفيد.
تلك البداية كانت توضيحاً لما جاء في رد الأخت هدى من أن الرأي الاقتصادي هو الذي يصوِّب اتجاهات البحث في هذا المجال. وعلى كل حال أرى أن الحوار حول جوانب الظاهرة قد يكون ممتعاً خاصة لمن ليس لديهم إلمام كافٍ حول أصول تحليل ظاهرة اقتصادية كالنفط. على أساس أنه يمكن النظر اليها من زوايا سياسية. تلك الزوايا هي بغاية من الأهمية خاصة في هذا الظرف التاريخي الذي يتكالب فيه جهد أكثر من قوة للسيطرة على النفط، أو على الأقل تأمين مصلحة في استمرارية تدفقه لكل الأسواق العالمية.
هناك عدة مسائل في رد الأخت هدى، على الرغم من أنه رداً موجزاً، أقسمها الى مستويات ثلاثة:
1-المستوى المتفق عليه.
2-المستوى الذي ألاحظ أن فيه التباساً بين نص المقال وفهم الأخت هدى.
3-المستوى الذي علينا أن نتحاور من أجل تقريب وجهات النظر فيه.
أما حول ما هو متفق عليه فأؤكد على ما يلي:
أ-إن دعوة الأخت هدى من أجل إعطاء عجين معالجة الشأن الاقتصادي الى الاقتصاديين هو مثال أؤيده تماماً. ولذلك اعتبرت أن مقالي هو مغامرة.
ب-هناك عجز عربي فعلي عن استثمار سلعة النفط كموقع يمثل ليس أكبر قوة اقتصادية تحرك العالم فحسب، بل هي أكبر قوة سياسية أيضاً. ولأننا لم نحسن استخدامها بما يوازي تأثيرها الكبير على الاقتصاد العالمي ورسم سياسته الاستراتيجية ظلَّت الأمة العربية قابعة في أضعف مواقعها.
وهنا أضيف، ولأن نظام حزب البعث في العراق حاول أن يستفيد من النفط لوضعه في موقعه الصحيح كانت مؤامرة الاحتلال الأميركي للعراق ملحة للنظام الرأسمالي العالمي بشكل عام، وللمشروع الأميركي الصهيوني بشكل خاص.
أما حول مستوى بعض الالتباسات التي حصلت بين النص الأساسي وتفسير الأخت هدى فلست أدري ما هو السبب. فهل جاء في النص ما يوحي بأن هدف المقاومة الاستراتيجي في ضرب وسائل نقل النفط العراقي لمنع الاحتلال من الاستفادة منه فيه فائدة للاحتلال؟
فإذا كان النص فيه ما يثير الالتباس للوصول الى هذه النتيجة فأنا أعتذر عن مسؤوليتي في الصياغة، وهنا أرجو من الأخت هدى أن تساعدني في الإشارة الى الجزء المقصود في النص لأقوم بالتعديل فيه مما يجعله متوافقاً مع رؤيتها بأن ليس هناك أية استفادة للاحتلال من هدف المقاومة الاستراتيجي فحسب، بل هو تعطيل للهدف الأكثر أولوية للاحتلال أيضاً. وإذا كانت إدارة بوش ترى أنها وقعت في مأزق فليس لسبب إلا لأنها فشلت في تأمين حماية تلك الأنابيب.
وهنا ذكرت أنها من أجل أن تعوِّض نقص العائدات في إنتاج النفط قامت بمضاعفة الأسعار لتحصل على مردود يوازي ما كانت حاسبة له فيما لو استطاعت أن تنتج من الآبار العراقية طاقتها القصوى.
أما حول المسائل غير المتفق عليها مع الأخت هدى، فهو الشق الحاصل حول دور المافيات العالمية وعلاقتها مع إدارة جورج بوش، فأقول:
لست من المفتعلين لوجود علاقة بين المافيات الاقتصادية العالمية وإدارة جورج بوش، وإنما الذي كشف عن خطورة تلك العلاقة هو سياسي ومفكر أميركي يُدعى (ليندون لاروش). وفي أبحاثه المتعددة يكشف اللثام عن وجود تنظيم مافياوي عالمي تأسس قبل الحرب العالمية الثانية وحقَّق استفادات كثيرة وكبيرة من تلك الحرب. كان مؤيداً لكل من هتلر وموسوليني، وعندما انقلبت نتائج الحرب ضدهما وهُزما في الحرب لم تتعرَّض مصالح ذلك التنظيم بل على العكس خرج بأرباح خيالية، واستطاع أن يستفيد من نصر الحلفاء ويستمر متغلغلاً في شتى الإدارات الرأسمالية.
ويكشف ليندون لاروش عن أن هناك علاقة وثيقة بينه وبين الإدارة الأميركية.
وأدعو القراء، كما أدعو الأخت هدى الى الاطلاع على بعض تفصيلات هذا الجانب في كتابي الجديد (المقاومة الوطنية العراقية: الإمبراطورية الأميركية بداية النهاية). وفي الكتاب يوجد موقع (ليندون لاروش) الذي نشر فيه كل ما له علاقة بهذا الجانب.
إن في الاطلاع حول تفصيلات هذا الجانب ما يفسر مواقف زعماء إيطاليا وأوستراليا بشكل خاص من العدوان على العراق ومحاباة أميركا في احتلال العراق، ومن ذلك الرعيل كان أثنار رئيس وزراء إسبانيا السابق.
لقد سألت بعض المتخصصين في الاقتصاد، قبل أن استند الى معلومات ليندون لاروش في صياغة الفصل الأول من كتابي (تصنيع الحلم الأميركي)، لكن من سألتهم كانت معلوماتهم غامضة وغير مفيدة، ولأنني كنت مقتنعاً بمنطقية ما أثاره (ليندون لاروش) أعتمدت أبحاثه كمرجع موثوق.
والجانب الآخر الذي أريد أن ألفت النظر إليه، هو أن الاقتصاد هو محرك أساسي للتاريخ، وهي إحدى المقولات الماركسية، ومع قناعتي بهذا الجانب إلا أنني أود لفت النظر الى أن الاقتصاد ليس المحرك الوحيد للتاريخ، بل هو عامل من عوامل عدة على الرغم أنه من أهمها.
أخيراً أرجو أن أكون قد أوضحت بعض جوانب الملاحظات التي أضاءت عليه مشكورة الأخت هدى.
كما أرجو من بعض الأخوة الذين يتابعون دورية العراق، ممن لديهم الاختصاص في حقل الاقتصادي أن يتدخلوا في توضيح أو تصويب ما أكتب عنه مما له علاقة بموضوع النفط.
محرر دورية العراق: 4/ 9/ 2004
اخي العزيز حسن غريب
يخيل الي انك لم تشف غليل الاخت هدى ومازالت الاسئلة التي تراودها تلح عليها . انا مثلك ليس الاقتصاد اختصاصي ولن استطع ان اكتب مقالة اقتصادية وربما كل الذي استطيع ان افعله ان اكتب رؤوس اقلام واسأل بضعة اسئلة قد تفتح مجالا للنقاش.
ما فهمته من مقالتك ان ارتفاع اسعار النفط مؤشر على فشل الاحتلال ولو كانت اسعار النفط قد انخفضت لكانت مؤشرا على نجاح المشروع الامريكي في العراق . وان المافيات التي لاشك لدينا الان بعلاقتها بالادارة الامريكية خاصة الاخيرة تتربح من النصر والهزيمة وفي كل الاوضاع والاحوال . ولن ننسى ان الصناعيين الكبار في الولايات المتحدة كانوا يتعاملون مع هتلر بعلم حكومتهم وكانوا يمدونه بالتكنولوجيا اللازمة لاسلحته وطائراته وسبل الاتصال في حين كان جيشهم يحاربه !! وكلنا نذكر ما فعلته الولايات المتحدة من دعم الطرفين العراقي والايراني ابان الحرب بينهما ، ليس فقط لانهاك الدولتين وانما ايضا لانعاش الاقتصاد الامريكي.
ونعرف ايضا ان كل مناطق حروب امريكا في العالم ومناطق القلاقل ايضا التي تشارك في تغذيتها امريكا هي مناطق الطاقة والنفط .
في مقالتك لم تذكر (الاوبك) وكيف ساهمت امريكا وعملاؤها (في دول الخليج) في القضاء على هذه المنظمة التي كان من المفروض ان تضبط الانتاج والاسعار للدول المنتجة للنفط .
لم تذكر ان النفط هو السلعة الوحيدة (واهم السلع اطلاقا ) الذي ظل خارج نظام السوق الحرة الذي تدعو اليها امريكا بالقنابل او بالحصارات او بالترغيب . فكان سعره لا يتناسب مع طلب الاسواق . وحين كانت الاسعار ترتفع كانت السعودية والكويت يسرعان في فتح صنابيرهما وتجاوز الحصص المعينة لهما من الاوبيك من اجل اغراق السوق وخفض السعر ، من اجل سواد عيون الامريكان والمحافظة على رفاهية الشعب الامريكي في حين ان خفض السعر لم يكن في صالحنا نحن المنتجين ولا في صالح شعوبنا ، خاصة اذا تذكرنا ان السعودية خرجت من حرب الخليج على وشك الافلاس.
والان للاجابة على سؤال هدى : حول اعمال المقاومة وما اذا كان تخريب الانابيب وعرقلة الانتاج يصب في مصلحة امريكا . طبعا لا . لقد عولت امريكا على ان تمول احتلالها للعراق وتمول سرقتها للعراق وعقود شركاتها من نفط العراق . وقد تقدمت مرة ومرتين وثلاث الى الكونغرس للموافقة على صرف مبالغ لم تكن في الحسبان وفي كل مرة يزداد اللغط في الولايات المتحدة ويتساءل المراقبون اين ذهبت الاموال ؟ لأن الكونغرس لا يمنح بسهولة بسبب وجود لجان ممثلة للشعب الامريكي تراقب صرف الاموال . وهكذا اضطر بوش الى مد يده الى اموال العراق المجمدة واموال صندوق العراق الذي كان تحت اشراف الامم المتحدة وصار تحت اشراف امريكا . . وهنا ايضا حدث لغط في الامم المتحدة وبين الدول حول اين ذهبت الفلوس وفي اي اوجه صرفت خاصة وان الشعب العراقي لا يجد اي تحسن في الخدمات المقدمة إليه.
يستطيع المرء ان يتخيل تأثير كل هذا على الانتخابات الرئاسية الامريكية . من ناحية اخرى ارتفاع اسعار النفط قد يفيد في ان تضع الشركات النفطية العملاقة المزيد من الملايين في كروشها ولكن ارتفاع الاسعار يؤثر على المستهلك اي المواطن العادي في امريكا واوربا وفي العالم . وبطبيعة الحال سيؤثر ذلك على اسعار بقية الصناعات مما يجعل المواطن العادي لا يستطيع ان يشتري كما كان يفعل سابقا وما يؤدي ذلك من حدوث كساد واغلاق مصانع وبطالة عمال.
ومن ناحية اخرى قد تجد امريكا ان ارتفاع الاسعار سيكون في مصلحة الدول المنتجة في ومعظمها في الخليج العربي او في اماكن غير موالية لامريكا مثل فنزويلا وما يتبعه من انتعاش احوال هذه الدول مما يجعلها خارج طوق الحصار الامريكي الذي يسعى الى خنقها اقتصاديا اذا لم يكن بشكل آخر من اشكال العنف
اذن القصد ان تعطيل استفادة امريكا من نفط العراق هو افشال لمشروعها الاستعماري.
لا ادري هل وفقت في عرض افكاري ؟
***
هدى محمد 5/ 9/ 2004
أستاذي الفاضل السيد حسن خليل غريب
(العفو ) منك ،لم اقصد في مداخلتي مغالطتك، وإن كان يحق للقراء فعل ذلك مع الكتاب، فموقعي لا يسمح بذلك ولا أرغب ذلك، فانتم الاساتذة وأنا التلميذ، وعلى أني اقرا في كل شيء،إلا ان قراءاتي في الاقتصاد ضحلة، واحتاج الاستزادة. فمداخلتي كانت حديث التلميذ يسأل اساتذته، وليس يجادلهم.
إقتباس: (أ-إن دعوة الأخت هدى من أجل إعطاء عجين معالجة الشأن الاقتصادي الى الاقتصاديين هو مثال أؤيده تماماً. ولذلك اعتبرت أن مقالي هو مغامرة).
وجاء ايضا
- إقتباس:تصيب الإدارة الأميركية الحالية –كونها تشكل جزءًا من تلك المافيات- أكثر من عصفور بحجر رفع سعر النفط. فهي تستطيع أن تلجم الانحدار الذي تهوي إليه الميزانية الأميركية بالاستفادة من فارق أسعار الإنتاج الأميركي من النفط. وهي تضاعف عائدات النفط العراقي لتمويل فاتورة الحرب وموجبات الإنفاق المحلي في العراق. وبالتالي يستفيد أعضاؤها –كشركاء مع المافيات العالمية- من تكديس الأرباح الهائلة لمصالحهم الخاصة.
انا لا اغالطك يا استاذنا، احتراما لك اولا ثم لانني لست عارفة في هذه الامور ،حتى أناقش فيها. انما اتسال تساؤل الجاهل الذي يريد ازالة جهلة في موضوع ما.
وقد فهمت فهما مغلوطا حينها، مما أثار حيرتي فسألتكم،(امريكا تستفيد من زيادة السعر، بالاستفادة من فارق اسعار الانتاج، لتسدد خسائرها. والسبب الظاهري في زيادة اسعار النفط هو ضرب الانابيب العراقية)) ومن هنا جاء تساؤلي التالي: هل يعني هذا الكلام ،أن مهاجمة المقاومة للأنابيب وتعطيل عملية سرقة النفط العراقي ولو قليلا، لا تضر أمريكا بل تنفعها؟!
والسيد مدير الدورية أجابني وقال: قطعا كلا، ثم شرح، مشكورا.
فلا لبس في كلامك يا سيد حسن غريب، انما الرؤية ، من ناحيتي لم تكن واضحة، فسألت، ولا أرى عيبا في السؤال ،إنما كل العيب في ادعاء المعرفة
إقتباس: أما حول المسائل غير المتفق عليها مع الأخت هدى، فهو الشق الحاصل حول دور المافيات العالمية وعلاقتها مع إدارة جورج بوش، فأقول:
لست من المفتعلين لوجود علاقة بين المافيات الاقتصادية العالمية وإدارة جورج بوش، وإنما الذي كشف عن خطورة تلك العلاقة هو سياسي ومفكر أميركي يُدعى (ليندون لاروش).
قسمت اسئلتي البريئة إلى 3 اقسام خطيرة يا سيدي.
انا لم أشك للحظة أن إدارة بوش لها علاقات مع المافيات الاقتصادية العالمية، ولو قيل لي ادارة بوش متحالفة مع الشيطان، لما انكرت ذلك، ثم ان لاروش شخصية فكرية احترمها جدا، لمبدئيته وصدقه ودفاعه عن قضايا لا ناقلة له فيها ولا جمل، ودفعه لضريبة ذلك.
وأحب أن أقول لك أم مقالتك أعتبرها ناجحة، فأسلوبها سهل وتعالج قضية خطيرة ، وهي مناسبة كما قلت لنا سلفا ، لايصال المعلومة لم لا خبرة لهم.واشكرك على مقالتك وكل جهودك الأخرى.
بالنسبة لمدير الدورية: هل كنت مدرسا يا سيدي?
إقتباس: لا ادري هل وفقت في عرض افكاري ؟
أجل وفقت
لكما جزيل الشكر.
***
كنعان: 5/ 9/ 2004
لو سمح لي الإخوة، فالأمر كما افهمه أنا حدث بسبب أمور إقتصادية، وأخرى سياسية وهي بإختصار التالي:
1) حالة "القلق" من كمية النفط المعروض في السوق. فقد تكون كميات النفط المعروضة أكثر من المطلوبة، ولكن وجود حالة "القلق" من قبل المستثمرين والبورصات تجاه الأمر، يدفع بالأسعار للتبدل اليومي، وهو غالبا زيادة إيجابية في السعر.
2) بخلاف السعودية، لا توجد دول كثيرة يمكنها ضخ كميات يومية قادرة على لجم الأسعار، والسعودية ونتيجة الهجمات أو "مخاطر من هجمات جديدة" على منشأتها النفطية، أصبحت تقلق المستثمرين أكثر مما تطمئنهم.
3) بترول العراق خارج الخدمة فعليا، فإنتاج العراق الحالي أقل بقليل من نصف إنتاج العراق عام 2002، وحتى لو كان ضعف الإنتاج السابق فما كان ليخفظ من الأسعار نتيجة إنعدام الطمأنينة في هذا السوق، مع وجود المقاومة العراقية وسياستها من تعطيل التصدير.
وكما قرأنا على صفحات الدورية سابقا، العراق يكلف أمريكا نفط تستورده من دول الخليج، بينما كان المفترض من الغزو هو ان يمول العراق إحتياجات أمريكا!
4) لو تناسينا كل العوامل السابقة، يبقى لدينا عامل مهم وهو أن النفط هو الحالة الخام من المواد البترولية المستخدمة، ويجب تكريره وتصفيته وتحوليه إلى وقود بنزين وديزل ليتم إستخدامه.
والتقارير الإقتصادية تؤكد على ان قدرة مصافي النفط في الدول المستهلكة هي مستنفذة بالفعل ووصلت لأعلى سقفها.
فحتى لو تم عرض المزيد من النفط في السوق، فلن يتم الإستفادة منه كمشتقات لعدم وجود ما يكفي من المنشأت التصفوية.
5) النهضة الصناعية في الصين ودول آسيا، تتطلب ضخ المزيد من النفط إلى تلك الأسواق، في حين أوقفت فيه الولايات المتحدة بيع نفط الآسكا لتلك السوق، وتحويل النفط إلى السوق الأمريكية المحلية.
6) النفط هو عبارة عن سلعة ناضبة غير متجددة، فكل يوم يمضي، يقل فيه مخزون النفط بمقدار ما تم إستخدامه.
فلا عجب إذا أن تزداد أسعار سلعة تنضب وتختفي بالتدريج من على وجه الأرض.
والآن تعقيب بسيط على مقال الأستاذ حسن خليل -لو سمح لي- بشأن إرتفاع الأسعار وتدخل المافيا النفطية. لست مقتنعا تماما بنقطة أن شركات النفط هي من تحدد السعر فرتفعه وتخفظه وقتما تريد وكيفما يحلو لها.
نحن لا نتحدث عن سلعة محتكرة من قبل مافيا، بل نتحدث عن سلعة لا تملك جهة واحدة (حكومية أو أهلية) حق السيطرة على سعرها.
وإما القول بأن تلك الجهات "الأوساط المافياوية" إستفادت من إرتفاع الاسعار، فهذا حق ولا يمكنني الجدال به، ولكن أيضا إستفادت الحكومات الغربية هي الأخرى من إرتفاع الاسعار عن طريق تحصيل الضرائب المفروضة على سلعة النفط، فمثلا معظم دول اوروبا تفرض ضرائب تصل إلى 70% من ثمن البرميل، في حين أن الضريبة الأمريكية تتجاوز 25%.
الآن إلى تساؤلات الأخت هدى:
• من الذي يدفع الخسارة؟
• - المواطن الغربي والمواطن العربي.
• فالمواطن الغربي ملزم بدفع الفروقات في اسعار النفط على شكل ضرائب وبدل إستخدام.
• أما المواطن العربي، فلا يحصل على المقابل المادي العادل (في حدود 80 دولار للبرميل) مقابل التخلي عن سلعة إستراتيجية يمنحها للمنافسين.
• هل يعني هذا الكلام، أن مهاجمة المقاومة للأنابيب وتعطيل عملية سرقة النفط العراقي ولو قليلا، لا تضر أمريكا بل تنفعها؟!
• بل العكس، الإستفادة هنا من زيادة الأسعار إستفادة مقيدة بحدود زمنية ستنتهي قريبا مع الإنخفاظ المتوقع في المخزون العالمي من النفط. ساعتها ستبدأ الشركات في تكبد خسائرها المهولة، نتيجة خروج مصادر النفط عن التحكم، وعدم ملء ما يفرغ من البراميل.
الأمر اشبه بتاجر في الصحراء يبع قربة ماء (سعرها لا يتجاوز الدرهمان) بألف درهم، ولكنه وبعد أن يبيعها، لن يحصل على غيرها.
• لو كان للعرب عزم ومبدأ (غير موجود طبعا) فكيف يستطيعون التأثير باستخدام النفط؟
• أفضل طريقة، تسيس الإنتاج.
• من يساند العرب وقضاياهم، يحصل على المقابل من النفط. من لا يساند العرب وقضاياهم، يحصل على العداء.
***
جدعان أبو مغضب: 5/ 9/ 2004
سادخل بمداخلة قصيرة جدا مع المعذرة من الجميع :
اولا :انا معجب بمنطق وعقل الاخت هدى محمد ! . ورقي حوارها ، وموضوعيتها ، واهتماماتها الثقافية الهادفة ، وتتبعها للقضايا الفكرية واقتناعها بنصيحة : الفهم الاقتصادي يبلور الوعي السياسي ويكشف العهر السياسي العسكري الهمجي على مر التاريخ البشري ، وليس في اقذر ترسانة عسكرية أميركية وحسب وما ألت اليه من صناعات وتكنلوجيا عسكريتين لم ترق اليه اية تكنلوجيا وصناعة اخرى في التارخ الصناعي . ومعذرة ان استطرت : ان الشعوب في نضالها ستثبت لمنظري الإمبريالية أن الهمجية العسكرية وترسانتها وتفوقها التكنلوجي ما هو الا " نمر من ورق "
لك يا اخت كل المحبة والاحترام وان تكون هذه الميزات النموذجية مثلا وقدوة .
ثانيا :السبب حرب الشعب طويلة الأمد ! :
ارتفاع أسعار البترول هو نتيجة للتخبط الأميركي في المستنقع العراقي وعدم تقدير الإدارة السياسية العسكرية إن الحرب ليست حربا خاطفة بل هي حرب شعب طويلة الأمد وهذا لم يكن في حسبانهم . مما يضع المافيات البترولية والشبكات المصرفية الدولية والمؤسسات التجارية والصناعية العملاقة في مأزق مصيري لتمويل مثل هذه الحرب التي قد تتسع مساحاتها الجغرافية وسيطول أمدها ولا بد لهم من تغطية نفقاتها ..
كانت قد تعهدت الدول الصناعية بما فيها الأميركية والسعودية والخليج والكويت لتمويل هذه الحرب الخاطفة القذرة . ولم تنتهي الحرب كما أعلن عنها بوش في مارس 2003 م .مما يستوجب ابتزاز ضرائب غير مباشرة على المستهلك من جهة ورفع سقف مداخيل استثنائية للدول المنتجة للبترول والممولة للحرب وهذه الأخيرة تعتبرها أيضا حربها ومصيرية .
مطالب بوش لموافقة الكونغرس على مخصصات تتلوها مطالب ومطالب ما يجعل حربه في حقيقتها غير العهر الإعلامي والتصريحات السياسية الكاذبة وتبعات الحرب
المفاجآت العراقية الكبيرة في تفويت الفرص على مخططاتهم في لبننة العراق والسقف الاستراتيجي للمقاومة ذات الطابع القومي والإسلامي الجهادي في آن عدم قدرتهم على تحقيق الأمن وما تمنى به خطوط النفط من إفشال تمويل الحرب أو بعضها من عائدات النفط العراقي كما كانت تحلم من جهة وقدرة المقاومة على المبادرة والتصعيد المستمر من جهة أخرى ، مما يزيد القلق في السوق النفطية العالمية مما يستوجب التخزين الاحتياطي ( لأكثر من ستة أشهر وما يتبعه من كلفة ) خاصة بعد نجاح الرئيس الفنزويلي الذي يخافونه( مع انه سيكون المستفيد الحقيقي ) ، لأنه غير السعودية ودول الإنتاج النفطي في منطقة الاحداث الساخنة ، وتوقع مفاجآت أو إنفجارات شعبية ! ( ليست ليبيا بكافية لضمانات مستقبلية لحاجات السوق مهما رفعت من قدراتها الإنتاجية )
ماذا يترتب على هذه السياسة او حالة ارتفاع الاسعار النفطية ؟؟!! :
إن الأمر ليس خيارا ! ! . إن الحرب تفرض واقعا لا بد منه . وستفاجئنا بسياسات غير عادية في حوض البحر الأبيض المتوسط وخاصة على شواطئه الشرقية .
سترتفع الأسعار وستهبط القدرة الاستهلاكية ويتبعها ارتفاع في أجور اليد العاملة يتبعها ارتفاع أسعار وبوتيرة جدلية مضطردة مما يمكن تفسيره إن الحرب ستدخل كل بيت في القارات الخمس . أن أكثر البلدان القابلة للانفجار هي: أوربا وأميركا الشمالية نفسها.
***
حسن خليل غريب (6/ 9/ 2004)
حوارية حول أسعار النفط
سادتي من أسهموا في حوارية »ارتفاع أسعار النفط« شكراً لكم فقد جعلتم مني فرداً من أسرة تعيش علاقات حميمة غير معقَّدة وتعمل من أجل أن يكون هناك تصالح بين طرفيْ النقد على الطريقة التقليدية.
إسمحوا لي أن أتناول، من موقعي الجديد بينكم، بعض نتائج الحوار الحميم –على الرغم من قصره- وكما توصَّلت إليه من خلال وجهة نظري. وهنا أحب أن أوزَّعه إلى قسمين: الأول حول نتائج ما له علاقة بالموضوع مباشرة. أما الثاني فهو ما له علاقة بأهمية الحوارية الأسرية أي بين من يحسبون أنفسهم من أسرة واحدة، وأصحاب قضية واحدة.
أما حول القسم الأول، فأودُّ أن أعترف أنني أتحمل مسؤولية بعض الغموض في التعبير عن فكرتي:
جاء في عنوان المقال –وفي متن المقال أيضاً- مصطلح »ارتفاع« وكان الصواب –للتعبير عن فكرتي الرئيسية- أن أستخدم مصطلح »رفع«. والفرق بين المصطلحين هو أن الأول يعبِّر عن آلية اقتصادية علمية تخضع لشروط محددة في انخفاض سعر السلعة أو ارتفاعها. تلك الشروط –كما يراها الاقتصادي- ذات علاقة بالعرض والطلب. العرض له علاقة بالمنتج. والمنتج لسلعة النفط ليس واحداً سيداً مستقلاً. وإذا كان النفط سلعة تنتجها أكثرية عربية إلاَّ أنها غير خاضعة لسيادة منتجها، والأصح أن نقول مالكها، لأن الإنتاج غير خاضع لسيادة عربية. فالسيادة على الإنتاج هو كل شيء إلاَّ أن يكون عربياً. فهو باختصار تحالف الشركات الأجنبية، ويأتي على رأسها الشركات الأميركية. ومن أهم أهداف الشركات الأميركية أن تسيطر على السوق النفطي العالمي من أجل السيطرة على قرار العالم السياسي والاقتصادي. وهنا تحوَّلت سلعة النفط، باليد الأميركية، إلى سلعة سياسية، والأسباب أن من يتحكَّم بالنفط يتحكَّم بقرار الحرب والسياسة.
واستناداً إليه لم تعد مسألة تسعير النفط تخضع للشروط الاقتصادية بل تخضع أيضاً للشروط السياسية. ولأن الأمر كذلك لم يعد مصطلح »ارتفاع« يلبي الحاجة لتوضيح فكرتي بل يعطي عكس النتيجة المرجوَّة. فالشركات الأميركية، صاحبة القرار السياسي في الإدارة الأميركية معطوفة على موقعها كشريك في منظومة المافيات العالمية، هي التي قامت برفع أسعار النفط في الأسواق العالمية لأغراض ذات علاقة بنتائج الحرب الدائرة اليوم على أرض العراق بين المقاومة والاحتلال. لذا أصبح من الضروري، بما له علاقة بفكرتي الأساسية من وراء المقال، أن أستخدم مصطلح »رفع« بدل مصطلح »ارتفاع«.
ولأن الإدارة الأميركية معطوفة على المافيات الاقتصادية الدولية استشعرت أن مشروعها الاستراتيجي في العراق أصبح على قاب قوسين أو أدنى من الفشل، وكي لا تحول مفاجأة الانسحاب المحتملة من العراق دون خروجهم من »المولد بدون حمص« استعجلت قرارها للاستفادة القصوى من فرصة الاحتلال لكي تسرق بكل طاقاتها من جيب المكلَّف العالمي، فقامت برفع الأسعار متذرَّعة بأكثر من سبب له علاقة بشروط العرض والطلب كقاعدة اقتصادية ثابتة، وبالأسباب الأمنية في العراق التي تعطِّل فيها المقاومة العراقية إنتاج النفط بمعدلاته العادية لكي توحي بأن النقص في الإنتاج هو أحد أسباب ارتفاع الأسعار.
ولا تمنع تلك الخطة أن تستفيد بعض الدول المناهضة للأميركيين من بعض عائدات »رفع الأسعار«، لأن المستفيد الأكبر هو الشركات الأميركية وحلفائها من المافيات العالمية، كسماسرة وأصحاب شركات البورصة…
على جميع الحالات، لم يكن مقالي مستنداً إلى معلومات بأكثر منه محاولة للتفسير والاحتمالات والفرضيات، وما هو قائم على التفسير والاستنتاج معرَّض لأن يخطئ أو أن يصيب. لذا تقع مسؤولية توليد هذا الالتباس على عاتقي، وأتحملها لوحدي مقدماً اعتذاري من القارئ. ومقدماً شكري للأخت هدى أولاً ولكل من مدير دورية العراق ومن الأخوين كنعان وجدعان أبو مغضب.
أما حول ما له علاقة بأهمية الحوارية الأسرية أي بين من يحسبون أنفسهم من أسرة واحدة، وأصحاب قضية واحدة. فأود أن أقول ما يلي:
من خلال تلك الحوارية شعرت كأنني أجلس إلى طاولة واحدة بين من يجمعهم هم واحد، الذي هو هم أمتنا العربية، كما هو هم العالم بأسره، لكي نتعاون على تشخيص ظاهرة ذات علاقة بهمنا المشترك. ويعود الفضل في ذلك للأخت هدى محمد.
وهنا فليسمح لي كل من شارك في الحوارية الأسرية أن أشكرهم على مداخلاتهم القيمة وعلى مستواهم الناضج في الحوار وليأذنوا لي –كلما سمحت ظروفي- أن أشاركهم في حواريات أخرى حول مواضيع أخرى.
أما من الأخت هدى فأطلب العذر إذا كان ردي قد أوحى لها بأنني أضعها في كفة غير كفة التقدير والاحترام لموقعها القومي. وخلاف وضعها في دائرة الإخلاص والصدق ووعي مهمتها القومية وإدراك دورها الكبير، وإدراكنا لهذا الدور، يأتي خارج كل الاستنتاجات باستثناء الاعتراف لها بالمحبة والتقدير.
أما حول موقعها الحميم في ورشة لا ترى إلاَّ مصلحة المعرفة الواعية فأريد أن أعيد التأكيد حول ما أشارت إليه في كل ما كتبت، عبر رؤيتها الناضجة لأسس المعرفة، وأود أن أتوجَّه إليها بتوضيح رؤيتي حول ذلك:
إن اكتساب المعرفة، من المهد إلى اللحد، عملية مستمرة لا تتوقف عند حدود. بمثل هذا المعنى كلنا تلاميذ. ومن أرقى أسس اكتساب المعرفة هو السؤال، فمن ليس لديه سؤال حول مسألة ما لا يحق له أن يدَّعي معرفته بها. أما الوحيد الذي لا يجد سؤالاً حول مسألة فهو إما جاهل بها أو أنه مدَّع بالإحاطة بكل جوانبها. ومن لا يطرح سؤالاً –أقله- على نفسه فلا يستطيع الإجابة ولا يملكها. وهنا لا ننسى أن سقراط كان يعمل على توليد المعرفة عند تلاميذه بالسؤال وليس بالجواب. ومن هنا أخذ السؤال الفلسفي يحتل أهميته، فالسؤال الفلسفي سبق كل النظريات التي تولَّدت عنه.
استناداً إليه يا سيدتي بالقدر الذي أحترم فيه تواضعك، أشعر أنني مكبَّل بالكثير من الانزعاج بتقليدية العلاقة بين الأستاذ والتلميذ. هناك علاقة تقليدية بين مفهوميْ »الأستذة« و»التلمذة« بحيث يكون فيه الإنسان صفحة بيضاء أولاً، وبحاجة إلى التعرف على ما لا يعرف ثانياً، تولد العلاقة بين منتج المعرفة ومستهلكها، بين »الأستاذ« و»التلميذ«. لكن ما إن تتكوَّن مدارك المرء وينتقل من موقع »مستهلك للمعرفة« إلى مساهم في »إنتاجها« تتغيَّر معادلة العلاقة، فتتحول من متلق ومستهلك إلى مشارك في الإنتاج. وهنا أودُّ أن أسأل:
إذا كانت هدى محمد قد انتقلت من مقاعد الدراسة إلى حقل الإنتاج الشعري، هل تبقى علاقتها مع بعض المشاركين الآخرين في إنتاج الثقافة، أو الفكر، علاقة تقليدية؟
هدى محمد تنتج الشعر. وحسن غريب، أو غيره ممن ليسوا شعراء، لا يجيدون الإنتاج في ذلك الحقل. هنا تصبح هدى متميزة بإنتاجها. فمن يكون –هنا- الأستاذ ومن يكون التلميذ؟
حتى لا يحصل حتى الالتباس اللفظي من حيث التراتبية في المعرفة بين من هو التلميذ ومن هو الأستاذ.
أرى –من جانبي- أنه عندما ينتقل إثنان إلى موقع المشارك في الإنتاج –كل في حقله- يصبحا متكافئين ولا يجوز إطلاق أوصاف طبقية –حتى ولو معرفية- للتمييز بينهما. فالعلاقة التي أراها مناسبة أكثر هو أن المشاركين في الإنتاج المعرفي يصح إطلاق صفة التكامل بينهم.
أنت يا سيدتي مشاركة في الإنتاج في حقل ليس بميسور للآلالف من المثقفين أو منتجي الثقافة، فأنت لست تلميذة لأحد بل مشاركة ومتكاملة مع الآخرين ممن يجيدون الإنتاج في حقولهم. فاسمحي لي أن أستبدل موقعك من تلميذة إلى زميلة أو أخت أو شريكة في أسرة دورية العراق. فأنت وكل من تتبادلون الحوار على صفحات الدورية –برعاية من وعي وصبر مديرها- أسرة متكافئة متضامنة واعية لأكثر واجباتها الإعلامية تجاه الأبطال الذين يخوضون أشرف معارك التاريخ العالمي على أرض العراق.
نحن بحاجة إليك يا هدى، بحاجة إلى الخنساء العربية التي تعبرين عنها في عصرنا الحديث. بحاجة إلى من تصور لنا بالكلمة الجميلة، التي تستشعر مستقبلنا، نضالات أبطالنا وبطلاتنا. ونحن بحاجة إلى أن لا ندع شعراءنا، وتحتضن دورية العراق عدداً منهم، إلاَّ الضمير الواعي الذي يصرخ ويؤذن لدعوة النائمين والخاضعين والراكعين وضعفاء النفوس إلى الكفاح والجهاد والمقاومة وقتال العدو أينما كان وبأية وسيلة تلحق الضرر به بغض النظر عن حجمه أو مساحته.
وأخيراً كل الشكر لأعضاء الأسرة، وبالأخص منهم مدير الموقع لتقديمه صفحات موقعه لنا، التي أسهمت في ورشة حوارية ودودة حول مقالي المذكور.
***

(68): مقالات حوارية مع الدكتور موسى الحسيني
جانب رئيس تحرير جريدة القدس العربي الأستاذ عبد الباري عطوان المحترم
تحية طيبة
يكون مقدار العتب على مقدار الثقة، فعتبنا على جريدة القدس العربي على مقدار ثقتنا بها.
لقد انطبعت في ذاكرتنا أهمية الدور الإعلامي الذي لعبته جريدتكم الغراء في مساندة القضايا القومية، وعلى رأسها القضيتين الفلسطينية والعراقية. ولم ننس أن القدس العربي نشرت أول بيان صادر عن قيادة المقاومة والتحرير في العراق، بتاريخ 24/ 4/ 2003م، البيان الذي أعاد الثقة والفرح إلى قلوبنا وكان نافذة النور التي تراكمت فأصبحت شمساً ساطعة في هذه المرحلة.
كانت أهمية النشر والتعميم على صفحات جريدتكم، في ظل تطبيق الأكثرية الساحقة من وسائل الإعلام كل تعليمات أصحاب المشروع الأميركي الخبيث في الحصار الإعلامي على العراق. فأصبحت الجريدة محطاً لأنظارنا من أجل متابعة أعمال المقاومة العراقية.
لم تكن صفحات الجريدة مفتوحة للقضية العراقية، بما تعنيه كقضية يقاوم أبناؤها قوات الاحتلال الأميركي، بل كان ضمير عبد الباري عطوان وقلمه منفتحان بحرارة لاحتضانها.
سيدي العزيز
لقد أنعشت رسالة الجريدة الأمل في قلوب القوميين الصادقين الذي انغلقت في وجه أقلامهم كل وسائل الإعلام العربية، ولم يبق إلاَّ القليل القليل ممن يستعدون لتطبيق حرية الرأي، فانغلقت كل صحيفة على نفسها لتمارس حريتها وحدها في الكتابة، وأقفلت أبوابها على الآخرين.
جميل استئثاركم بفضل الدفاع عن الحق، والأجمل منه أن تفسح للآخرين دوراً في الدفاع أيضاً. ولقد مارست جريدة القدس العربي هذا الاستئثار، ولسنا ندري لماذا يستأثر الأستاذ عبد الباري عطوان، صوت الشرفاء الذين لا منبر لهم، بفضيلة احتكار الدفاع عن الحق، وأقفل في وجهنا بوابته ولم يدعنا نسانده ونساعده في مهمته الشريفة.
سيدي العزيز
لقد وعدتني، منذ أواخر شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 2003م، بتعريف عن كتاب قمت بتأليفه ونشره تحت عنوان »المقاومة الوطنية العراقية: معركة الحسم ضد الأمركة«، كما وعدتني بنشر مقال أرسلته إليكم. وانتظرت لكل لم يحصل شيء. وحاولت أن أرسل بعض المقالات الأخرى، وكانت النتيجة واحدة.
تساءلت مع بعض الأصدقاء الذين كانوا ينتظرون نجاح مهمتي في النشر على صفحات جريدتكم، ونحن ننتظر حتى الآن. لقد فسَّر أحد الذين يشدهم خط الجريدة القومي بإحجامكم عن نشر مقالات لأسماء محددة لأسباب الضغوط الشديدة التي تتعرَّضون لها، حيث إن بعض الأسماء تشكل إحراجاً لكم أنتم بغنى عنه. إن التفسير يبدو منطقياً لو أن عبد الباري عطوان أعلن تقاعده عن مساندة المقاومة العراقية، أو لكان قد نزل تحت سقف موقفه المبدأي السابق، لكننا لم نر لا هذا ولا ذاك. فثبات عبد الباري عطوان على سقف موقفه السابق هو دليل على أنه لا يشعر بالإحراج في الإعلان عن موقفه ولا تعنيه أصوات النعيب والنعي بكثير أو قليل.
سيدي العزيز
لأن ثقتنا بخط جريدتكم، وجرأة مواقفكم، لم تضعف، ستجدنا أننا لن نعلن اليأس من مطالبتكم في حق الصادقين على الصادقين في مواقفهم القومية بالإسهام في الدفاع عن تلك القضايا، خاصة وأننا لم نجد خيارات أخرى في مساندة المقاومة العراقية والفلسطينية أو مشاركتهما غير قلمنا وموقفنا.
لقد نشرت القدس العربي، منذ 24/ 4/ 2004م، دراسة للدكتور موسى الحسيني. ولأننا وجدنا فيها ما يوجب التوضيح والنقد، قمنا بإعداد رد عليها. ونرى من حقنا بالثقة بكم أن تنشروا الرد حول تلك الدراسة.
ولن نتوقف بمطالبتكم عند هذا الحد فحسب، بل لدينا كل الثقة بأن تفسحوا في المجال أمام إسهامات قومية في الكتابة حول القضايا التي تقفون في موقع الدفاع الثابت عنها.
مع الاحترام والتقدير
حسن خليل غريب (باحث وكاتب من لبنان) في 13/ 5/ 2004م

وهذا نص للرد: ردٌّ على دراسة الدكتور موسى الحسيني
10/ 5/ 2004م حسن خليل غريب - لبنان
نشر الدكتور موسى الحسيني (من مواليد الناصرية في العراق في العام 1950م)، في جريدة القدس العربي، دراسة تحت عنوان »المقاومة العراقية والإرهاب الأمريكي المضاد «. توزَّعت الدراسة على أربع حلقات متتالية نُشرت الأولى بتاريخ 24/ 4/ 2004م.
جاءت الحلقة الأولى كمدخل للدراسة، وعادة يعبِّر مدخل البيت –إلى حد كبير- عن محتوياته في الداخل، ولكن ما وجدناه بالمنهج العام للدراسة مخالف للقاعدة العامة. ففيها ما لا ينبئ عن محتوياته. وكذلك وجدنا في الخاتمة –أيضاً- ما ليس له علاقة ترابط مع المحتويات. فأتت المقدمات والخاتمة في واد ومحتويات الدراسة في واد آخر. ففي الوقت الذي أرى فيه نفسي نافراً من المدخل والمخرج، أجدها منجذبة –بحماس- للمحتويات. إن مجرد هذا الانطباع النافر والمنجذب معاً أوقفني أمام تساؤل حول تلك الإشكالية وقادني إلى رد نقدي من خلال زوايا غير تلك التي كان من الممكن أن أبدأ بها كالعادة في مناقشة قضايا محددة تترابط فيها المقدمات مع المحتويات مع النتائج. ولنبدأ في مناقشة الدراسة من مدخلها.
كان العنوان مما يلفت النظر إليه ويدل على اهتمامٍ مشكور بالمقاومة الوطنية العراقية من قبل عربي، وبالأخص إذا كان مواطناً عراقياً. والشكر آتٍ –في زمن القحل العربي- من أن التشتت الفكري والضياع السياسي وهلامية الموقف لها السيادة المطلقة على ذهنية ومنهجية ومزاجية أكثرية المثقفين العرب الليبراليين. ولا يفوتنا –هنا أيضاً- أن نخص بالذكر الذين يتحصنون وراء شعارات إسلامية سياسية تستقطب إليها عواطف الجماهير الطيبة. وبتعاون التشتت: الليبرالي والإسلامي في التبشير بمواقف هلامية حول المقاومة الوطنية العراقية والقضية العراقية، يزيد الرؤية الجماهيرية ضياعاً وتشتتاً. ولأن بعض الخطاب الديني، خاصة وأنه مبني، كما تسميها الحركات السياسية الإسلامية، على »التكليف الشرعي«، ولأن التكليف الشرعي هو الحكم القائم على ادِّعاء النطق باسم الله والرسول، تزيد أزمة الجماهير الوجدانية تعمقاً في الضياع.
يتعاون »التكليف الديموقراطي« الذي تدَّعي أوساط المثقفين العلمانيين أنها رائدته وقائدته، مع »التكليف الشرعي« الذي تدَّعي أوساط الحركات السياسية الإسلامية أنها ماسكة مفاتيحه، على تشتيت ثقافة الجماهير الطيبة فترميها لقمة سائغة للحيرة والارتباك في الموقف، فيتمزقها الغضب من رؤية حالة الضعف والاستكانة وقلة المناعة في جسد الأمة، ولا ترى في الخطاب ما يعيد الثقة إلى نفسها. وبهذا يرزح الموقف الغائب المرتبك في زوايا الثقافة الشعبية تحت مطرقة من يحملون أوسمة الثقافة على صدورهم وسندانها. فيسهم »أمراء الديكتاتورية الثقافية« –بقصد أو عن غير قصد- في تفريغ الكثير من الخواء الثقافي الموضوعي على أكتاف الجماهير الطيبة الصادقة.
لم تكن المقدمة المدخل –في ردنا- إلاَّ ضرورة وتحصيناً للكاشفين على محتويات بيوت يجهلون محتوياتها، وليس المقصود بالتحصين المناعي الثقافي إلاَّ اتقاءً للإصابة بفيروس ثقافي من هنا أو هناك.
وإذا عدنا إلى مناقشة المدخل الذي قدَّم فيه الدكتور الحسيني لدراسته عن المقاومة العراقية لوجدنا أن البداية تبدأ بمغالطات فاقعة عندما يضيف إلى »اللاعبين« في العراق –كما يحلو له أن يسميهم- لاعباً »هلامياً غير واضح الهوية والملامح«، وكأن العراق ملعب وليس ساحة حرب تنفرز فيه القوى إلى معسكرين لا ثالث لهما: الاحتلال وعملاؤه من جهة، والمقاومين للاحتلال من جهة أخرى.
وهو بتقديمه يحاول أن يقوم -لأسباب منهجية في الكتابة - بتجهيل الإرهابي الذي يقوم بأعمال تخريبية »تحصد الأبرياء بالمئات «، وعن غير قصد يبدو الكاتب كأنه يضيِّع حقيقة الإرهاب –التي يجب نسبتها من دون تردد إلى الاحتلال وعملائه- بين »اللاعبين«: الاحتلال والمقاومة. والنتيجة هنا ثابتة لأن الاحتلال –بحكم تعريفه وواقعه ونتائجه- هو إرهاب بحد ذاته، وكل ما يفرز عنه وما ينتج من مآسٍ اجتماعية وقانونية وصحية وضحايا في الأرواح هو إرهاب ببرهان ومن دون برهان.
يبدأ الكاتب مقدمته ببث المزيد من الإيحاءات المسبقة لتيار سياسي يبدو أن الحسيني كان على علاقة سابقة معه، ويظهر من دراسته أنه انفصل عنه لأسباب تتناقض مع رؤية الحسيني النظرية والمبدأية، من أجل تثبيت القاسم السياسي الذي كان يجمعه مع ذلك التيار، ويتلخص بالموقف المعادي » لنظام حزب البعث وصدام حسين«.
لا تنفصل تلك الإيحاءات عما يسميها البعض ترددات »الاسطوانة المشروخة«، وهي ليست بعيدة على الإطلاق عن إعداد علماء النفس والاجتماع التابعين للمؤسسات الفكرية والسياسية والإعلامية للشركات الأميركية الكبرى. وهنا نحيل القارئ إلى المصطلحات التالية التي زيَّن بها الحسيني مدخله:
1-ينسب الجرائم التي كانت تقوم بها –كما يدَّعي- أجهزة المخابرات السابقة إلى سلوك لا أهداف له إلاَّ »كجزء من عمليات الأمن الوقائي، وإرهاب العراقيين، ليمتنعوا عن معارضتهم للنظام.«
2-الإيحاء بأن رأس النظام السابق مجرد مريض نفسي يمارس سادية لا لشيء إلاَّ للترويح عن تلك العقد، وكأنه لم يكن لديه أي هم آخر يقع على كتفيه إلاَّ ممارسة ساديته النفسية على الآخرين من البشر من دون أي سبب.
وأراد الكاتب أن يفهمنا بأن صدام حسين كان مجرد مريض نفسي يستأثر بالمواصفات التالية:
-»انفراده بالسلطة، وتولي منصب رئاسة الجمهورية، بمجزرة ضد قيادات الحزب«، »سادية النظام ورغبته في القتل لغرض القتل«، و»يفتعل المؤامرات الوهمية«، و»يضع صدام نفسه في موقف المتمرد على التوجهات الأمريكية في المنطقة«، و»إمكانات العراق التي لو صادف وقوعها بأيدي وطنية حريصة على المصلحة الوطنية للعراق، ستتهيأ لها فرصاً للعب أدوار سياسية مميزة في الوطن العربي لخدمة المصالح القومية العربية«، و»عنجهية صدام حسين«، و»الطريقة التي مورست بها الحرب (الأميركية) تشير إلى حقد دفين على الدولة العراقية ومواطنيها، وليس على النظام أو رموزه«.
هكذا كان صدام حسين و»رموز نظامه« عند الكاتب مجرد مرضى نفسيين متعطشين للدم، وكأنهم أنموذج ل»دراكولا« عربي. فبمقدمته يكون قد أراح القارئ من عبء انتظار نتائج بحثه. ومنها كنت أود أن لا أتابع قراءة الدراسة لأنها أنموذج ل »الإسطوانة المشروخة« التي تعودنا سماعها من كل وسائل الإعلام التي تسيطر عليها أجهزة المخابرات الأميركية بقصد القيام ب»غسل دماغ« المواطن العربي، وإقناع المواطن الغربي بأن ما قاموا به ليس احتلالاً بل هي مهمة إنسانية أنجزتها الإدارة الأميركية عندما خلَّصت الشعب العراقي المسكين من سلالة ال»دراكولا« »البعثية« التي يقودها مهووس نفسي يُدعى »صدام حسين«، وتكون الإدارة الاستعمارية بترسيخ مثل تلك الصورة، والتي يساعدها –للأسف- على ترويجها بقصد أو بدون قصد ممن ينتسبون إلى سلالة المثقفين والديموقراطيين من بعض المثقفين العراقيين والعرب الذين راحوا ضحية بعض من سمتهم أجهزة الإعلام المعادية ب»المعارضة العراقية«، فإذا ببعض أولئك المثقفين المخلصين والصادقين لوطنيتهم، كمثل الدكتور موسى الحسيني (كاتب الدراسة)، يُحبَطون عندما تفاجأوا بأن أولئك الدعاة من »المعارضة« يمتطون الدبابة الأميركية ويقبضون بالدولار الأميركي ويأتمرون بأوامر بول بريمر، ويبيعون كل المبادئ والقيم التي كانوا يغشون بها كثيراً من الوطنيين الصادقين من العراقيين بشكل خاص. وربما هذا التمزق الذي يعاني منه الدكتور الحسيني في منهجه الذي سلكه في كتابة دراسته تعود أسبابه إلى العامل الذي قمنا بالإضاءة عليه أعلاه.
وتظهر أولى ملامح التمزق بين السياسي العملي والنظري المبدأي عند الكاتب في نهاية مقدمته عندما يقوم بتذكيرنا بأهداف الاحتلال، والتي هي التالية:
-»نية أمريكا لإعادة العراق إلى العصر الحجري«. وهذا يعني –كما هو الواقع- أن في العراق ما يمكن تخريبه وتهديمه، مما هو ليس موجوداً في أي بلد عربي آخر. فما هو موجود في العراق جرى تهديمه لأنه يشكل خطورة على مصالح القائم بالتهديم. وهنا لا نستطع إلاَّ أن نحكم بأن شيئاً جديداً في العراق تأكَّدت الإدارة الأميركية أنه يشكل خطراً على أمنها ومصالحها. ونحن نترك لنباهة الشرائح المثقفة، والتي لا تريد أن تجادل إلاَّ على قاعدة منطق »عنزة ولو طارت«، أن يقولوا لنا ما هو ذلك الشيء الجديد.
إن هذا الشيء الجديد، هو قبل كل شيء لا علاقة له بديموقراطية يتميز بها صدام حسين و»رموز نظامه« أو بديكتاتورية يذبح بها من يشاء، فهذا أبعد الهموم عن مخططات أصحاب »القرن الأميركي الجديد«، لأنهم يحمون أكثر الديكتاتوريات في العالم، واللبيب من الكتَّاب والقراء من الإشارة يعرفون.
فالشيء المطلوب تدميره في العراق هو العامل أو العوامل التي تقف حجر عثرة في وجه المصالح الأميركية، وأسباب توليد تلك العوامل ليست الشعب العراقي (مع الاعتذار من وطنية وبطولة وتضحيات الشعب العظيم في العراق) بل الإيديولوجية التي اعتنقها شعبنا العظيم في العراق ذات المضامين التحررية من الاستعمار، ثقافية واقتصادية وصناعية وعسكرية. أما تلك الإيديولوجيا فهي تلك التي اعتنق مبادئها صدام حسين و»رموز نظامه« وراح يطبقها في العراق طوال خمسة وثلاثين عاماً، بدءًا من العام 1968م، في الوقت الذي كان ما زال فيه الدكتور الحسيني يافعاً على مقاعد الدراسة الثانوية. وهل استطاع بريمر أن يخفي مخطط »اجتثاث البعث من المجتمع العراقي«؟
فإذا كان سادي ورجل يهوى »القتل للقتل« قد أخاف المشروع الإمبريالي بهكذا إيديولوجيا فأهلاً به وسهلاً. أو يعلم المثقفون الليبراليون الجدد أن المشروع الأميركي عمل ويعمل على إعادة عقارب التاريخ الحضاري الفكري إلى ما قبل التاريخ، وقد بدأ بمؤامرة تحطيم الاتحاد السوفياتي ومحاربة الشيوعية كخصم أساسي للرأسمالية، وبعد أن نجح فيه وانكشف غطاء حماية حركات التحرر في العالم بدأ الاستعمار في تحطيمها وتدميرها وإعادة الإيديولوجيات التحررية إلى عصر ما قبل التاريخ. ويأتي على رأسها –في هذه المرحلة- العراق بسبب من امتلاكه تلك الإيديولوجيا. وإن الكلام عن ذلك يطول ويعرض.
-»الدعوة لحروب أهلية، وتقسيم العراق لدويلات صغيرة«: وهل اكتشف الكاتب هذه المسألة قبل »خراب البصرة« أم بعده؟ فإذا كان قبل خرابها فهو مُدان بدون أدنى شك، لأنه كان يعلم أهداف الإدارة الأميركية الخبيثة ولم يرفع صوته، ولأنه لم يدع العراقيين المعارضين للعودة إلى العراق –كما رجعت بعض القوى العراقية الشريفة المعارضة- إلى وطنها قبل العدوان لتدرأ التقسيم عن العراق وتفتيته. وإذا كان قد عرف ذلك »بعد خرابها« يعني ذلك –أيضاً- أن للنظام السابق حسنة واحدة على الأقل (على الرغم من ساديته!!) هو أن العراق كان موحَّداً، وأن تلك السادية كانت تحافظ على وحدة العراق، فجاء الآن من يهددها، ويعمل على تفتيتها ليس على الورق بل على الأرض.
-»إن إثارة النعرات الطائفية… مشروع صهيوني قديم «: حسناً أن الكاتب يعي تلك الحقيقة. وهنا نسأله: وهل كان في موقف النظام من الصهيونية ما يجافي الحقيقة؟ وهل إنتاج السلاح العراقي العربي الاستراتيجي، ومنه مفاعل تموز الذي قصفته الطائرات الصهيونية في العام 1980م، ما يستدعي اتهام النظام العراقي بالسادية؟ وهل مساعدة العراق –بسخاء- للقوى الوطنية اللبنانية في العام 1975م لمنع تقسيم لبنان، له علاقة بسادية النظام؟ وهنا نسأل: هل إعدام الذي يتعامل مع العدو الصهيوني (الذي يريد أن يبقينا ضعافاً ومفتتين) هو عمل أخلاقي أم عمل سادي؟ وهل كل من كان يتعاون مع أي نظام آخر يريد تفتيت العراق إلاَّ خائن لوحدة العراق؟
لن نعود إلى أزمنة تاريخية بعيدة بل إلى الواقع الراهن في العراق، ونسأل: كم ممن كانوا يطلقون على أنفسهم تسمية المعارضة، وهم من القابعين الآن على كراسي »مجلس الحكم العميل« تحت إمرة بريمر، كم واحد منهم (ممن كان يدَّعي أنه هارب من نظام صدام حسين »الذي يهوى القتل للقتل«) له علاقة بالموساد »الإسرائيلي« ؟
وكم من واحد قابع على كراسي »مجلس الحكم العميل« تحت إمرة بريمر كان يتعاون مع النظام الإيراني الذي كان –ولا يزال- يريد العراق مفتتاً وليس موحداً. بل يريد أن يحصل على حصته المذهبية من الشعب العراقي؟
فهل لم يكن عدد من الذين أعدمهم النظام السابق إلاَّ متورطاً في مؤامرة لتفتيت العراق؟ وهل لم يكن الكثيرون منهم إلاَّ هارباً من أجل تلك التهمة: المؤامرة على وحدة العراق أرضاً وشعباً؟
إذا كان هذا هو حال بعض المذهبيين والقوميين والشيوعيين والعلمانيين، فهل بعض العراقيين من الأكراد الانفصاليين أفضل حالاً؟ ألا يستأهل أحد منهم الإعدام على ما تقترفه يداه الآن؟ وهل لا يعلم أحد ما هو تاريخهم وعلاقتهم السابقة مع الصهيونية والاستعمار ونظام الشاه في السابق، ومع النظام الإيراني اللاحق؟
أحسب أنك قرأت تصريحات جلال الطالباني الذي أقرَّ فيها أنه هو الذي احتلَّ حلبجة وسلَّمها بعد خمسة أيام للجيش الإيراني؟ والباقي يمكنك من العودة للاطلاع عليه إلى مصادرها وهي كثيرة.
فإذا كان تفتيت العراق مشروعاً صهيونياً، فهو مشروع أميركي أيضاً، وهو مشروع إيراني سابق ولاحق أيضاً.
-»إن وحدة المصلحة الأمريكية ـ الاسرائيلية، في واحد من أهم مفاصلها، تأتي من الرغبة المشتركة بمنع ظهور أية قوة عربية يمكن أن تشكل محور استقطاب عربي… والعراق من أهمها«: أو لا تدري يا عزيزي أن أهم الخطوط الاستراتيجية الأميركية مرسومة قبل احتلال العراق –أي منذ أمَّم النظام في العراق الثروة النفطية في العام 1972م- وازداد الحضور العراقي في المخطط الأميركي الخبيث كلما تراكمت خطوات رفض النظام للمصالح الأميركية؟
طبعاً كان العراق، تحت قيادة حزب البعث وصدام حسين، على رأس الاستهدافات الأميركية الصهيونية لمنعه من أن يكون محور استقطاب عربي. ولكن للاستقطابية عوامل وشروط، ومن أهمها أنه يدعو إلى مقاومة الاستعمار والصهيونية والعمل على تحديث البُنية العربية الحضارية والسير بها إلى مصاف الدول المتقدمة صناعياً وعسكرياً وسياسياً، وتلك العوامل والشروط كانت متوفرة في صدام حسين »ورموز نظامه«. وهنا نسأل لماذا لم تتوفَّر تلك العوامل والشروط في غير نظام حزب البعث؟ ففي نظامه ما يخيف المشروع الأميركي الصهيوني. وهل هذا نابع عن سادية وصلف ودموية ورغبة في القتل للقتل؟
ويتابع الكاتب سرد ثوابته الفكرية والسياسية، وهي ليست أقل من ديكتاتورية مقنَّعة، ليرشدنا ويفهمنا أن المقاومة العراقية، منسلخة عن أية مقدمات وإعداد سابقين، وكأنها انطلقت بفعل عصا سحرية، وكأن قانون »العلة والمعلول«، و»قانون السببية« قد فاتهما قطار المعرفة الزمني. وإذا كانت المقاومة –عند الكاتب- قد برزت عند العراقيين »ونشأت كرد فعل طبيعي ضد الاحتلال، كتوجه وطني يعبر عن قوة الرغبة في الدفاع عن المصلحة الوطنية العراقية«، فإن صدام حسين ورموز نظامه –كما نستنتج من مبررات الموسوي- مفطورون على السادية النفسية فهم كانوا من غير طينة العراقيين.
طبعاً إن الرغبة عند العراقيين طبيعية في الدفاع عن المصلحة الوطنية العراقية. لكن المثير للتساؤل هو التالي: عندما رفض صدام حسين الإملاءات الأميركية –قبل الحرب وبعد الاحتلال- هل كان رفضه عبارة عن سادية نفسية؟ وهل كان الرفض إلاَّ نابعاً عن إيمان »صدام حسين ورموز نظامه« بقدسية الدفاع عن المصلحة الوطنية العراقية؟ وهل كانت بعيدة عن الارتباط في قدسية الدفاع عن المصلحة القومية العربية؟
وهل كان المشروع الأميركي مؤسساً بهدف محاربة سادية »صدام حسين ورموز نظامه«؟ ألم يُلفت موقف صدام حسين و»رموز نظامه« -الرافض والمقاوم للحرب والاحتلال- أفهام المصرِّين على تفريغ بعض إزعاجاتهم الذاتية المرتبطة بالتعصب الإيديولوجي السابقة التي يصعب عليهم –نفسياً- التخلص منها؟
وكأن الكاتب أنهى مرافعته وأوصلنا إلى النتيجة التي يريد أن يوصلنا إليها من خلال إيحاءاته من دون أن نتابع قراءة الحلقات الثلاث الباقية. فماذا يا تُرى سنجد في محتويات تلك الحلقات. فلنتابع ونرى.
يقسم الموسوي دراسته موقفه من القضيتين الفكريتين التاليتين: »المقاومة العراقية.. الخصائص والمميزات«. و»الشرعية والعدالة.. بين الاحتلال والمقاومة«.
أما بالنسبة للموضوع الأول، فلا نستطيع إلاَّ أن نرفع تحية تقدير للدكتور الحسيني للجهد النظري السليم الذي بذله من أجل تحديد تعريف المقاومة وأهدافها بشكل عام، وهو مما يدخل في فكر المقاومة الشعبية كقيمة نضالية عليا. وينطبق تقديرنا الإيجابي على تحديد الحسيني لخصائص المقاومة العراقية، ونرى من المفيد أن نختصر بعض تلك الجوانب لتعميم الفائدة على من فاتته قراءة دراسة الدكتور الحسيني:
-»فالحرب التي قيل عنها إنها حرب تحرير العراق، ما هي في حقيقتها إلا حرب تحرير إسرائيل من الهم العراقي الذي يشكل تهديداً دائماً لها على اختلاف أنظمة الحكم المختلفة التي تناوبت على السلطة في العراق«. وهنا لا يستثني الحسيني –كما هو واضح من العبارة- »صدام حسين ورموز نظامه«، وهذا –بلا شك- حكم موضوعي مشكور. وهي شهادة لهما بأنهما لم يكونا سادييْن بالمطلق.
-»إن العراق يمتلك الحق الكامل مثله مثل الولايات المتحدة لامتلاك مثل هذه الأسلحة«، أي أسلحة الدفاع الاستراتيجي. وهنا يقف الحسيني وقفة موضوعية أخرى بتأييده حق امتلاك العراق أسلحة الدفاع الشامل. ولكن العراق –في ظل نظام صدام حسين- لم يدافع عن حقه هذا فحسب، بل راح يعمل –بالفعل على امتلاكها. (من مفاعل تموز، إلى الصواريخ البعيدة المدى… إلى…). أما الذي آمن بهذا الحق وراح يضعه على سكة التنفيذ، ومن أجلهما أثار حفيظة الاستعمار والصهيونية، فهو »صدام حسين ورموز نظامه«. وهنا ليس التفصيل بذي فائدة لأن العدو والصديق يعرف تلك الحقائق، ولا يستطيع أن ينكرها.
-إن المقاومة العراقية – في مواجهة العدوان قبل احتلال العراق وبعده- كما يرى الكاتب »هي شكل من أشكال الحرب العادلة«. وهي فضيلة موضوعية ثالثة نسجلها للدكتور الحسيني. وهذا ما آمن به »صدام حسين ورموز نظامه« منذ أن انطلقت إشارة التهديد الأولى من المخطط الأميركي الصهيوني. فعدالة الحقوق العراقية والعربية في مواجهة مخطط العدوان كان المحور المركزي لاستراتيجية صدام حسين ورموز نظامه، منذ تأميم النفط والمشاركة الفاعلة في حرب تشرين 1973م، ورفض اتفاقية كامب ديفيد، واستراتيجية الدعوة لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر… هي التي كانت أهم أشكال الحرب العادلة التي لم يكن يقودها »رئيس سادي، يهوى القتل للقتل« بل »رئيس ونظام يعيان تماماً أهدافهما الاستراتيجية« في العدالة الوطنية والقومية والإنسانية.
أما إذا كان الكاتب يقصد ما له علاقة بالمقاومة الشعبية المسلحة الدائرة بمقدرة وفعالية مميزين، فسيأتي توضيح دور »صدام حسين ورموز نظامه« لاحقاً في هذا الرد.
-إن تعريف المقاوم –عند الدكتور الحسيني- جاء بصيغة أجمل ما يمكن التعبير عنه. كما جاء تعريفه لعملاء الاحتلال بالعمق والوعي الذي لا يسعنا إلاَّ أن ننظر إليه بتقدير عالٍ: »تلك المصالح التي يدافع عنها المقاومون بحياتهم، وهي أغلي ما يمكن أن يقدمه الإنسان من تضحيات في سبيلها، مقابل بعض العراقيين الذي باعوا هذه المصالح الوطنية مقابل بعض الامتيازات المادية والوظيفية«. وهو يبدي أساه الشديد من رؤية »القوى السياسية الرئيسية التي كانت تشكل الإطار الأساسي للمعارضة العراقية (المجلس الاسلامي، حزب الدعوة، الحزب الإسلامي العراقي،الحزب الشيوعي)، وهي تغمض عيونها عن هذا القمع والاستهتار بقيم العدل والحرية والديمقراطية، وكيف ترتضي لنفسها ومبادئها أن تتحول إلى مجرد غطاء محلي لتنفيذ سياسة ومخططات الشيطان الأكبر، والإمبريالية«. وهنا لا بُدَّ من أن نلوم نباهة الدكتور الحسيني، وهو العميق الثقافة ويقرأ بشكل جيد الخفايا النفسية، كيف لم يكتشف طوال تجربته مع أولئك »المعارضين« من أنهم غاطسون في العمالة، وإن ما كانوا يظهرونه له ليس إلاَّ الوجه الخادع الذي درَّبتهم على الظهور به، بشكل جيد، أجهزة المخابرات. ويبدو أنه لم يكن قد اكتسب خبرة سياسية إلاَّ ما أظهره له أولئك وغشُّوه بالشعارات الوطنية مستغلين قلة خبرته وهذا السبب الذي يؤكد فيه على أن ما دفعهم للمعارضة لم يكن أكثر من مواجهة نظام قمعي، لم يستطع الكاتب أن يعبر عنه بأكثر من العناوين العامة التي صاغتها أجهزة المخابرات الأميركية وراح الجميع يقومون بتردادها على طريقة »إكذب ثم إكذب حتى تصدق نفسك«.
قال صدام حسين، ومارس على أرض الواقع، وكان يعد نفسه شهيداً بالفعل، ونعى فلذتيْ كبده –بعد استشهادهما في معركة ضارية مع قوات الاحتلال الأميركي-كما يمكن أن ينعى أي عراقي آخر… وطلَّق حياة الرئاسة والقصور –في الوقت الذي كان يمكنه أن يحتفظ بها كلها كما يفعل كثير من الأمراء والملوك- لو رضخ للإملاءات الأميركية والصهيونية. فهو باع كل متاع الدنيا –بالاشتراك مع رموز نظامه- من أجل المحافظة على استقلالية القرار الوطني والقومي، وفضلوا على كل المتاع خندق المقاومة والثورة، وحياة الأسر وتكاليفه الشخصية الباهظة الثمن، من أجل أن تبقى مصالح الوطن بأيدٍ وطنية وللمصلحة الوطنية. فهل تلك الصفات تصب في دائرة السادية وحب القتل للقتل؟؟!!
نحن لن نردح بالذين خانوا وطنهم مقابل بعض الامتيازات الوظيفية (وليس أكثر من ذلك) لأن الدكتور الحسيني بوعيه السليم لواقع أولئك، قد أعفانا من التوضيح، فهو يصف أقذر تلك التجارب: »كما حصل في تجارب السماسرة الذين حاولوا أو استفادوا فعلياً من تجربة المعارضة العراقية للنظام السابق«.
ويصب في دائرة وعي دور المقاومة وشرعيتها، والانتصار للمقاومين من دون تردد ما جاء عند الدكتور الحسيني، وحوله يقول: »إن كون المقاومة تمثل السلطة الشرعية الوحيدة في العراق اليوم، حقيقة لا نطلقها جزافاً ولا نقولها خضوعاً لنزعات عاطفية تدفعنا لاشعورياً للوقوف مع أو ضد هذا الطرف أو ذاك. بل هي حقيقة موضوعية أقرها جميع دارسي المفاهيم والقيم الأخلاقية، ومعنى الثورة والثوريين«.
-يجيد الدكتور الحسيني في تحديد خصائص المقاومة العراقية بما يلي: »تقدم المقاومة العراقية نموذجاً فريداً في تاريخ حروب التحرير الشعبية والمقاومات الوطنية، ما يجعلها خالدة على مر العصور بمفرداتها وميزاتها التالية: بسرعة وقوة انطلاقها. بدأت أولى عملياتها بعد ثلاثة أسابيع فقط من سقوط بغداد، وهي فترة قياسية مقارنة بانطلاقة أية تجربة مقاومة أخرى«. بالإضافة إلى أنها تبدو يتيمة مجرَّدة من أي دعم، و »التي تنكر لها وتبرأ منها حتى الأشقاء العرب والمسلمين«. بينما توفَّر لكل ثورات العالم »وجود دولة أو مجموعة دول أجنبية لدعم حركة المقاومة، ومدها بالسلاح، والعون المادي، وضمان قواعد خلفية، وأماكن ملاذ آمن، كشرط أساسي من شروط ظهور واستمرار المقاومة«.
يبدأ الحسيني في الرد على مقدماته بنفسه. فحول ما سمَّاه »افتعال صدام حسين للمؤامرات«، ومحبة القتل للقتل، ومع معرفة الدكتور الحسيني أن الإعدامات التي حصلت، علناً وليس سراً (لأن نظام البعث كان يعلنها في وقتها)، بحق هذا أو ذاك، إنما كان سببها كثرة المؤامرات والمتآمرين، بدءًا من شاه إيران مروراً بنظام الثورة الإسلامية وانتهاء بالمخابرات الأميركية والصهيونية، وقد دلَّت أوضاع العديد ممن كانوا ينسبون أنفسهم للمعارضة العراقية أنهم عملاء وجواسيس للخارج، وقد أصدر الحسيني حكمه عليهم -من دون أن يدري- وذلك استناداً إلى ما جاء في مرافعته النظرية (وهي بلا شك مبدأية وقانونية وشرعية) عندما قال: إن »الالتزام بالاستقلال وسيادة الدولة كأساس لكل الالتزامات الوطنية للأفراد أو الجماعات لا تقبل أي التواءات على المفهوم يمكن أن يمارسها هذا الطرف أو ذاك لتبرير مواقفه الخيانية أو النفعية أو تلك المثيرة للريبة«. كما أقرَّ بأن الأمن الوطني للدولة هو من أولوياتها، وواجب عليها أن تقوم به »تحت أي ظرف وبكل ما يتطلبه هذا الدعم من إمكانات وتضحيات… وإن الحفاظ على المصلحة الوطنية والأمن الوطني هي نفسها الأسس التي حاولت إدارة بوش أن تصنع منها التبريرات المناسبة لتسويغ العدوان علي العراق«.
وحول ذلك لا يخفى على الدكتور الحسيني بمواقفه النبيلة من المقاومة العراقية، حتى ولا على غيره ممن يدينون المقاومة ويعملون على محاربتها والقضاء عليها، أن المروِّجين لما يسمونها جرائم قام نظام البعث بها هم أجداد وآباء وأخوة الكثيرين ممن اكتشفهم الجميع –بعد فوات الأوان- أنهم كانوا من الجواسيس والمتآمرين على أمن الدولة العراقية وسيادتها بالتعاون مع شتى أنواع المخابرات الأجنبية.
فمن وقع في مستنقع الخيانة، الآن كما في السابق، هو مدان ويستحق الحكم عليه بالقوانين ذات العلاقة بأمن الدولة الوطنية. وليس ما فعله نظام البعث بخارج عن المألوف وإنما ينطبق على الشرائع القيمية التي تطبقها كل الدول التي تحترم سيادتها، ولم تخرج الولايات المتحدة الأميركية عن السياق ذاته، فهي قامت بالحرب ضد العراق –كما يقول الحسيني بنفسه- تحت ذريعة الحفاظ على سيادتها وعلى أمنها الوطني بحيث روَّجت أن نظام البعث هو الذي يهدد ذلك الأمن.
يتابع الحسيني عرض الأسس، التي بناء عليها يحكم على هذا المواطن بالخيانة الوطنية أو الدفاع عن السيادة الوطنية، فيقول:
-»المواطن الصالح، مهما كان موقعه الاجتماعي أو السياسي ملزم قانوناً بعدم الإخلال بأساسيات المصلحة الوطنية والأمن الوطني، وبعكسه يتعرض للمحاسبة القانونية«. أما السلوكات التي تؤدي إلى الإدانة بالخيانة، فهي –كما يعددها الحسيني: »تقديم معلومات لدولة أو منظمة في حالة حرب أو تخطط لحرب أو عدوان على البلد. و تقديم أي شكل من أشكال المساعدة لقوات دولة في حالة حرب مع البلد.، التعاون مع قوات محتلة«. و»الخيانة واحدة.. ولا تقبل تفسيراً ولا تتحمل تبريراً. والموقف الوطني واحد… ولا يبرره معارضة حكم دكتاتوري«.
ولكي لا تشكِّل بعض الأخطاء –كما نرى- التي كانت تُرتَكب من قبل أجهزة النظام قاعدة لمحاكمة النظام بأكمله، فيضيع الوجه الإيجابي ويُمحى، ويتحول النظام فيه إلى كتلة من السادية، كان يمكن للمعارضة العراقية الصادقة أن تعمل –كما يرى الحسيني ونؤيده في رؤيته- من أجل المصلحة الوطنية على قاعدة أن »تظهر التزاماً بالمصلحة الوطنية، بشكل أفضل مما يحققه النظام القائم«. أما الذي حصل –كما أثبت الواقع- فهو العكس تماماً حيث خرجت فيه قوى وأحزاب من الوطنيين إلى خارج العراق بذريعة حفظ حياتها وحريتها، وهذا ما عمَّق الخلاف بينها وبين النظام الحاكم، خاصة وأن شرائح واسعة من بينها تغطت برداء المعارضة العريض، وراحت تمارس الخيانة بأقذع صورها مع أجهزة المخابرات الخارجية. ولا يفوت اللبيب إمكانية تحديد الكثير منها. وقد عددها الدكتور الحسيني في دراسته.
ومن الأكاذيب الكبرى، التي حاول البعض استغفالنا بنشرها، هي أن عدد المعارضين العراقيين المهاجرين إلى الخارج بلغ خمسة ملايين معارض!! وهذا ما يثير الدهشة والاستغراب، وهو ما يدفع إلى التساؤل التالي: إذا كان هذا هو عدد المعارضين فعلاً، وهم من الذين هاجروا أو طلبوا اللجوء السياسي خوفاً من »نزعة القتل للقتل« الذي –كما يحسب الحسيني- أن نظام البعث في العراق كان يتميز بها، فهل بمقدور قوة على الأرض أن تقوم بقتل كل أولئك المعارضين؟ وإذا كان النظام سيقوم بسجن خمسة ملايين معارض هل بإمكانه أن يوفر السجون الكافية لحبسهم فيها؟!! وإذا كان هذا هو عدد المعارضين، أي ما يشكل 50% من عدد العراقيين البالغين الواعين الذين لديهم الكره الكافي لنظام البعث، وعجزوا عن قلب النظام على رؤوس أصحابه، فهم بلا شك ممن لا يستأهلون الحرية. وإذا كانت بضع من فلول »نظام البعث« قد أوقعت قوات الغزو الأميركي في أكبر مأزق في تاريخها، فهل لا يكفي خمسة ملايين من المعارضين لوضع »النظام السابق« في مأزق أكبر بكثير من المأزق الأميركي؟!!
إتقوا الله يا ناس، وتكلموا »كلام المجانين« حتى يستطيع »عاقل« أن يصدِّق!!!
إن المعارض الصادق، الذي لا يريد أن يمارس اللعبة الديموقراطية على جثة وطنه، قد بان واضحاً. وهو لما حان وقت العدوان على العراق، أخذت بعض القوى الوطنية من المعارضين يراجعون حساباتهم، وحضر وفد من بعض تنظيماتهم إلى العراق، في تشرين الثاني من العام 2002م، ووقعوا فيه على اتفاق بعد أن خرجوا من الاجتماعات المشتركة مع السلطة العراقية متوافقين على عدد من المبادئ التي تنظم العلاقة بين المعارضة والنظام. ويكون أولئك قد سلكوا طريق المعارضة الشرعي والمعترف به، ونالوا الاحترام والتأييد من الشرفاء من غير القوى المعارضة التي تلوَّثت بالعمالة والتجسس للأجنبي. ويمكن للدكتور الحسيني أن يتأكد من تلك الوقائع من الأوساط المعنية والتي هي غير مجهولة لديه.
وهنا لا بُدَّ من تعليل أسباب تعميق الهوة بين نظام البعث والمعارضة العراقية، وهي الأسباب التي نحسب أنها قادت النظام إلى الوقوع في أخطاء تجاوزت الحق الديموقراطي للمعارضة الوطنية، والمقصود بها تلك التي تغلِّب أولوية المصلحة الوطنية والأمن الوطني على ما عداها من المهمات الأخرى، هو أن خروج معظم القوى ذات التأثير الفاعل إلى الخارج، وهناك ضاعت الخطوط والحواجز بين المعارضين الوطنيين والمعارضين الجواسيس، فأصبح من الصعب –إذا لم يكن من المستحيل- أن تفرز أجهزة المخابرات العراقية التابعة للنظام بين الوطني والجاسوس، واستمرت حالة الضياع تلك إلى أن أصبح الفرز واضحاً بعد الاتفاق بين النظام والبعض من قوى المعارضة والتي أشرنا إليها أعلاه.
وإذا كان لدى البعض أمثلة معاكسة فإنما بأتي في إطار التفاصيل وليس في الإطار العام، ومتى تم التوافق على الإطار العام يمكن السيطرة على الأخطاء التفصيلية على قاعدة الحوار الإيجابي البعيد عن التوتر والاستفزاز وإثارة المخاوف في جو متلبد مملوء بالمؤامرات التي ثبت أنها ليست وهمية –كما وصفها الدكتور الحسيني- بل كانت أكثر من حقيقية وأكثر من مخيفة على الأمن الوطني والسيادة الوطنية.
يمهِّد الدكتور الحسيني –في معرض كلامه عن أساليب الاحتلال لمواجهة المقاومة- لوصف تأثير الحرب النفسية، قائلاً: »تلجأ سلطات الاحتلال عادة، لمجموعة من العمليات العسكرية المدعومة بحملة دعاية ممنهجة ومنظمة لتشويه المفاهيم والحقائق الجارية على الارض، وبما يندرج تحت مفهوم الحرب النفسية وعملية غسيل الدماغ«. وهو إذ يشير إلى معالجة دورها السلبي في أثناء الاحتلال، فهو يكون قد نظر إلى نصف المخطط النفسي الإعلامي الخاص بمرحلة ما بعد الاحتلال، ولكنه يغفل نصف المخطط الخاص بمرحلة ما قبل الحرب والاحتلال. وحول ذلك سنعمل على استكمال النقص، فنشير إلى أنه جاء في إحدى توصيات أصحاب المشروع الأميركي –كما أوردته جريدة القدس العربي (أواسط تموز / يوليو 2003م)- ما يلي: »من الضروري أن تركز أجهزة الإعلام، وخاصة الفضائيات وكُتّاب المقالات والتعليقات، على الموبقات والجرائم التي ارتكبها نظام صدام حسين، بشكل يومي، وتكرار التعليق على المقابر الجماعية وضحايا الأسلحة الكيماوية، وعلى أحداث القتل والاعدامات والتحكم الفردي بمقدرات العراق، دون نسيان الحديث عن القصور الفخمة والبذخ والاسراف، وذلك من أجل صرف النظر عن الاحتلال الأميركي«.
لم يكن الإعلام الأميركي –المبرمج مسبقاً- موجهاً إلى غسل أدمغة العراقيين من أجل خلق فجوة بينهم وبين المقاومة فحسب، بل غسل أدمغتهم من القناعة بأي فائدة أو جدوى من النظام السابق أيضاً، ولذلك عمل على تكبير صورة الأخطاء العادية، واختلاق أسباب وصور لم تكن في ذاكرة العراقي الذي يعيش في العراق أبداً، فالعراقي –بشكل عام- لم يكن على علاقة عداء مع نظامه الحاكم و إلاَّ لما وزَّع النظام ملايين البنادق على الشعب (وتقدر قوات الاحتلال أن عددها بلغ الخمسين مليون قطعة سلاح، أي أن ذلك يعني أن لكل عراقي ثلاث قطع من السلاح).
أما النصف الثاني من مخطط الحرب النفسية، أي لما هو مخطط له بعد الاحتلال، فنحن لا نستطيع إلاَّ أن نثمِّن العمق الذي عالج فيه الحسيني هذا الجانب. ولكن نشير إلى أنه يقلل أحياناً من عمق تحليله بإشاراته الواضحة إلى ما يسميه النظام القمعي لصدام حسين –من حين إلى آخر بطريقة لا توحي بالترابط المنطقي بين الفكرة التي يركِّز عليها وبين الإيحاءات المذكورة- وهي عبارات واضحة الخلفية الإيديولوجية أو الموقف الشخصي.
أما حول موضوع المقاومة، التي يحسب الدكتور الحسيني أنها نشأت من لا شيء، أي بقوة سحرية خفية، وهي محاولة –يسلكها الكثير ممن عندهم غرض أو وطر إيديولوجي- لتجهيل ما هو واضح ومعروف حول الإعداد لها قبل العدوان والاحتلال بسنين طويلة. وموضوع التجهيل مقصود به إغفال أي دور لصدام حسين وحزب البعث. وقد تمسَّك البعض، ومنهم الدكتور الحسيني، في إغفال دور صدام حسين وحزب البعث بسبب أن العراقيين سينفضُّون من حول المقاومة إذا عرفوا أنها تنتسب إلى البعثيين. وهو استغفال وليس غفلة، فلأكثر من طرف مصلحة في تجهيل المعلوم بنسبة المقاومة إلى حزب البعث، أي بمعنى الإعداد لها منذ زمن طويل بالتربية الفكرية والإيديولوجية والتدريب والتسليح…
إن كلامنا حول هذا الجانب، وكما هو راسخ في قناعة البعثيين العراقيين من خلال بيانات قيادة قطر العراق (التي بلغت –حتى الآن- خمسة وأربعين بياناً سياسياً عدا المنهج السياسي الاستراتيجي) أنهم يريدون بناء تجربة جبهوية مقاتلة أنموذجية تضم كل العراقيين، بأحزابهم وتنظيماتهم وقواهم وأفرادهم، علمانيين وقوميين وإسلاميين، عرباً وكرداً وأشوريين… سنة وشيعة، وعلى قاعدة دحر الاحتلال كما قال الرئيس صدام حسين في رسالته الأولى بتاريخ 28 / 4 / 2003م يخاطب العراقيين قائلاً: »انسوا كل شيء، وقاوموا الاحتلال، فالخطيئة تبدأ عندما تكون هناك أولويات غير المحتل وطرده«. ويقول في رسالته، بتاريخ 7/ 5/ 2003م: »وحين يكون هناك وقت ومكان لمراجعة التجربة (أي تجربة حزب البعث قبل احتلال العراق) سنفعل بروح ديمقراطية لا تخضع لأجنبي أو صهيوني«.
وهذا ما يؤيده الدكتور الحسيني، وهو في الوقت الذي يظهر فيه رأيه السلبي بنظام حزب البعث، يجيب بنفسه عن ضرورة الابتعاد عن كل ما يعيق هدف التحرير، قائلاَ: »فلا هدف يمكن أن يرتقي فوق هدف التحرير وتحقيق الاستقلال الكامل، وآي خلافات أخرى ستصبح ثانوية جداً أمام التحرير وهي متروكة للغد الحر الكفيل بحلها ضمن أطر سياسية وطنية مستقلة«.
لو كلَّف الدكتور الحسيني نفسه بالقليل من العناء، وهو الذي لا تخفى على القارئ كفاءته الأكاديمية، لقام بالبحث -على قاعدة »السببية«- عن تأصيل أشرف ظاهرة للمقاومة يعرفها التاريخ العالمي (وهو يعتز بها من خلال دراسته) ومعرفة مقدماتها وواقعها، لأن نتائج باهرة –كما أكدت نضالات المقاومة العراقية- لا يمكن إلاَّ أن تكون ذات مقدمات لا تقل إتقاناً عن نتائجها. أما الخلل في ابتعاده عن البحث، أو فلنقل تجنبه الخوض فيه، ليس أبعد من ضعف نفسي هو الأدرى بأسسه وأسبابه. وطمعاً منا بإخلاصه وصدقيته وحماسه لنضالات شعبه العراقي، وشعبنا نحن الذي نعتز به، أن يعطي موضوعياً القليل من جهده ليرى نفسه أنه قد وجد نفسه كبيراً وكبيراً جداً بأن هناك إيديولوجيا تحررية نضالية قادها حزب عراقي بأعماق قومية عربية علَّقت على صدورنا، وعلى صدر الدكتور الحسيني، وسام ريادة الثورة العالمية المعاصرة ضد أقذر مشروع أمبريالي تقوده إدارة جورج بوش الصغير معبراً عن كل أنواع التطرف القومي والديني والطبقي.
إن نظرة موضوعية تجعل الدكتور الحسيني يبتعد حتى عن »تصوير المقاومة على أنها مجموعة من الموالين للنظام السابق، أو مجموعة من المرتزقة الذين ينتقمون من قوات الاحتلال بسبب فقدانهم لامتيازاتهم التي كان ينعمون بها أبان العهد السابق«، إلى الإيمان بأن هؤلاء ليسوا قلة تحابي شخصاً فرداً، ولا هذا الشخص الفرد هو فردي بل هو ينطق باسم رسالة للتحرر والانعتاق ووضع نفسه –بروحه ونضاله وآلامه- في خدمة مجتمعه العراقي وأمته العربية. وإن أولئك ليسوا قلة تدافع عن امتيازاتها، بل هم كثرة تؤمن برسالة سامية لا تقل –على الإطلاق- عن رؤية الحسيني النظرية بسموها وقيمتها.
وإذا كان الحسيني يرفض أن يجرد الاحتلال »المقاومة (العراقية) من صفتها الوطنية، ومثلها الأخلاقية العليا، وإيمانها بالعدالة والاستقلال والإنسانية«، ضنَّاً بالقيم الإنسانية السامية فنحن ندعو الحسيني بدورنا، ورحمة بتلك القيم، أن لا يجرد الظواهر والقضايا العظيمة ويفصلها عن صانعيها. فالمقاومة الوطنية العراقية هي من صنع حزب البعث تحت قيادة صدام حسين وليس غيره على الإطلاق. لا نقول هذا من أي منطلق تعصبي لأنني –وليعلم الدكتور الحسيني- أن أحكامنا تلك مبنية وموثقة على أسس أكاديمية صارمة، وإذا أراد الاطلاع والتوضيح فيمكنه الحصول على عنواني البريدي لنكون على اتصال مباشر، وإذا أراد متابعة الحوار العلني فأحسب أنه سينتج الكثير من الفائدة لمصلحة حفظ حقوق القيم الإنسانية من جانب، وحقوق العاملين في حقلها من جانب آخر. فتأييدك للقيم العليا وتجاهلك للذين يخدمون في رحابها ومعابدها والمدافعين عنها والحاملين لواءها يشوبه النقص ويكون موسوماً بالظلم واللاعدالة. فالوطنية –كقيمة إنسانية- ليست منفصلة عن العاملين من أجل تكريسها، ومقاومة الاحتلال –كقيمة عليا- ليست معنى منفصلاً عن المقاومين. وإذا كان من فضيلة للوطنية أو للمقاومة فهي لا تنفصل عن فضيلة الوطنيين والمقاومين. وكل هؤلاء ليسوا رموزاً مجردين، بل هم من لحم ودم وعظم. وإذا جردت القضية عن صانعيها فكأنك تجرد القيمة العليا عن قيمتها. فليس من العدالة أن تنسب العدل إلى غير أهله، وليس من الفضيلة أن تنسب الوطنية إلى غير أشخاص بشر، ولا أن تنسب المقاومة إلى غير أبطال يضحون ويتعبون ويقدمون، يتألمون ويُجرحون، ويُسجنون ويستشهدون. فمن هم أولئك البشر، أريد جواباً ينبع من الضمير؟
إن تجريد حركات المقاومة من سماتها الوطنية –يقول الحسيني- و»نسبتها لتجمعات أو عصابات أجنبية، يمثل منهجاً استعمارياً عاماً، لا تختص وتنفرد به حملات التضليل الأمريكية فقط«. ونحن نقول حبذا لو تابع استنتاجاته حول المقاومة العراقية على القاعدة المنطقية ذاتها التي يدعو الاستعمار إلى التحلي بها، لكان وفَّر على نفسه وعلينا عبء الإشارة إلى هذه الثغرة ولفت الانتباه إليها. لأنه هو نفسه جرَّدها من أية هوية لها صفة عملية وواقعية. وحصل هذا التجهيل من دون ما يبرره. لا يكفي أن ننسب المقاومة إلى محبة العراقيين وعشقهم لها، لأنها ليست بحاجة إلى إيمان ومحبة فحسب، وإنما هي بحاجة إلى عدد من النخبة من الرجال ومواصفات أخرى من التدريب، وإمكانيات فعلية من التسليح المناسب. فلانطلاق المقاومة –إذاً- شروط لا يمكنها أن تصبح مقاومة فعلية إلا إذا كانت تلك الشروط متوفرة. وللسرعة في انطلاقتها شروط أخرى يأتي على رأسها الاعداد المسبق، ولما انطلقت المقاومة الشعبية العرقية السرية في العاشر من نيسان من العام 2003م، أي لم يكن هناك مسافة زمنية بين انتهاء الحرب النظامية وبداية الحرب الشعبية، لا يمكن أن يكون هذا الانتقال السريع جداً إلاَّ بناء لإعداد مسبق سبق الاحتلال بسنوات عديدة. وإذا كانت المعارضة الوطنية مهاجرة في الخارج، وإذا كانت التنظيمات الإسلامية لم يكن لها تصورات سابقة عن تلك المقاومة (وهي قد اعترفت بذلك)، فلا شك بأن هناك من كان يضع احتمالات الاحتلال، ومقتنع بأهمية الحرب الشعبية كبديل للحرب النظامية، فراح يعد إمكانيات حرب طويلة الأمد (خاصة وقد أثبتت الوقائع أن الرجال المدربين هم بعشرات الآلاف، والسلاح المناسب للحرب الشعبية كان معداً بالكميات الكبيرة، وهو موزَّع على آلاف المستودعات الصغيرة المنتشرة في كل مناطق العراق…).
لم يكن الذي أعدَّ كل تلك المستلزمات هو من النكرات، أو الذي من الممكن أن يثير مخاوف أحد –إلاَّ ما تقتضيه الإيحاءات غير الموضوعية- وهو لن يكون إلاَّ كما قال أحد المعارضين السابقين للنظام البعثي: مهما كانت هوية الذي أعدَّ للمقاومة العراقية وهوية من يقودها لأن الشعب العراقي والشعب العربي سيبقى مديناً له لقرون عديدة قادمة.
وبالإجمال، من اللا موضوعية ومن اللا عدالة، بل ومن الظلم الفاحش، أن يتم تجهيل تلك الجهة تحت أية ذريعة كانت. وهل علينا أن نقولها بالسر وبصوت خافت أن الذي أعدها وقادها هو حزب البعث العربي الاشتراكي بقيادة صدام حسين؟
لا والله يقتضي الجميل علينا، وكي لا تغيب جرأة الاعتراف، أو الشجاعة الأدبية بالاعتراف أن نعلن بالفم الملآن أن صدام حسين هو ذلك القائد، وأن حزب البعث هو صاحب تلك الرسالة. وهل على الشعوب الأخرى أن تكون أكثر منا عرفاناً بجميل قادتها التاريخيين، وأن تكون الشعوب الأخرى أكثر نبلاً منا؟
لماذا أصبح لينين القائد التاريخي للثورة البلشفية والجنرال جياب رمزاً للثورة الفيتنامية، وفيدال كاسترو رمزاً للثورة الكوبية، وتشي غيفارا رمزاُ لثورة أميركا الجنوبية، وماو تسي تونغ رمزاً للثورة الصينية، وغاندي ثوراً للثورة الهندية…. فهل كل شعوب الأرض من النبلاء والعارفين للجميل، بينما نحن نكون من ناكري الجميل وتجريد معارك الحق عن أصحابها، والمجردين لأبطالنا في حقهم من الرمزية، ونمارس ذلك بناء لسادية هذا أو ذاك من ال3رضى بالفصام النفسي، الذين يريدون أن يفصلواً تعسفياً بين القضايا الكبرى وصانعيها؟
من المؤسف أن الدكتور الحسيني، بعد أن ينتهي من القسم النظري الذي يستهلك الجزء الأكبر، ينهي دراسته بخاتمة بعيدة كل البعد عن القسم النظري، وكأن هناك انفصام واضح بين رؤية الحسيني النظرية ورؤيته العملية. وهنا، وبقصد التلوين في ردنا على دراسته نشير –في موقع هجومه على الخداع في شعارات الاحتلال ومحاولته إظهار نفسه بأنه نجح في إتمام إنجازات باهرة في العراق- إلى أن الحسيني لا ينسى –بعد أن أثبت كفاءته النظرية السليمة- أنه قد عاد لممارسة حالة الانفصام بين النظري والعملي عنده من خلال تذكيرنا (وبفكاهة لم نكن من الذين يستسيغونها عند أصحاب الذوق النظري السليم) بأن هناك تشابهاً بين خداع الاحتلال ونظام »صدام حسين« وهو يعبِّر عنه قائلاً: »وهو تقدم لا يختلف كثيراً عن الإنجازات التقدمية التي ظل يرددها صدام حسين وطيلة 35 سنة في كونه علَّم العراقيين أن يلبسوا النعال (نوع من الأحذية الخفيفة) «.
فإذا كانت تلك هي الموضوعية عند أصحاب النظر السليم، فكيف يكون الأمر عندما من أصيبوا بالعمى النظري، ويعجزون عن رؤية العمل بأعين سليمة من الحول.
من المؤسف أن يتحول آلاف العلماء الذين أعدَّهم العراق في عهد صدام حسين، الذين تفخر بهم الأمة، إلى حذاء عند سليمي النظر. ومن المؤسف أن العملاء يقومون بتصفية العلماء بشتى الوسائل والسبل المادية بينما يقوم آخرون بتصفيتهم المعنوية.
وهل مفاعل تموز الذي أقلق الصهيونية ولم يغف لها جفن إلاَّ بعد أن قصفته وقامت بتدمير أجزاء كبيرة منه؟ وهل مئات الجامعات ومراكز الأبحاث التي نهبها العملاء وصدَّروا تجهيزاتها إلى إيران هي من نوع النعال؟
وهل كل البنى التحتية، التي مثَّلت ثورة نوعية في نقل العراق من عصر التخلف والفقر إلى مستوى الدول المتقدمة؟ وهل خريجو الجامعات من شتى صنوف الاختصاص والذين يُعدون بمئات الآلاف هم من صنف تعلم لبس النعال؟
وهل الدكتور الحسيني، وعشرات الآلاف غيره، الذين تغطوا تحت رداء المعارضة، قد تعلموا خارج الجامعات العراقية؟
ماذا نقول بالرد حول اختزال الدكتور الحسيني لكل المتغيرات التقدمية التي حصلت في العراق في نكتة لم تضحكنا ولكنها زرعت الخنجر في قلوبنا بأن تُنتهك الحقيقة وتسام بشتى أنواع التزوير؟
لقد سمعت أحد الكتَّاب العرب يقول بأنه قد صاغ مجلَّدين بكاملهما لوصف إنجازات المشروع النهضوي القومي العربي في العراق منذ ثورة تموز في العام 1968م، ولم يكتمل مشروع بحثه حتى الآن. فيا لشدة تعاسة ذلك الباحث العربي الكريم عندما سيرى جهده البحثي قد ضاع سدى، لأنه كان غافلاً ولم يكتشف أن أحد الباحثين العراقيين قد لخَّص تلك الإنجازات بسطر واحد تحت عنوان أن المشروع النهضوي العربي ليس أكثر من أن صدام حسين ظل يفتخر »طيلة 35 سنة في كونه علَّم العراقيين أن يلبسوا النعال «. وأسفاه عليك يا صدام حسين كم كنت تعاني من حول خصومك وتعاميهم عن الحقيقة وكرههم لها. وأسفاه عليك أيها الباحث العربي الكبير فقد كتبت آلاف الصفحات عن ذلك المشروع، والذي قلت –كنتائج وصلت إليها- بأن المشروع الأميركي لم يكن له غاية من احتلال العراق إلاَّ القضاء على المشروع الذي بناه صدام حسين. وهل أتى الأميركيون إلى العراق طمعاً بإعادة »عصر تعليم العراقيين لبس النعال« إلى ما قبل العصري الصناعي؟ وهل تستأهل عدة نعال أن يبذل الأميركيون من أجلها أن يصرفوا مئات المليارات من الدولارات للقضاء عليها؟
أيتها الحقيقة إصفحي عنا، ونقبل قدميك ونعتذر إليك عن إساءات البعض من قومنا التي طعنتك في الصميم.
يبدو أن الدكتور الحسيني خفيف الظل يلتقط النقاط المجهرية التي يستخدمها رسَّام الكاريكاتير. فإذا كان هذا الأسلوب هو للترويح عن النفس إلاَّ أنه لا يتناسب مع عمق ثقافة الدكتور الحسيني وإطلالته الوطنية الصادقة نظرياً والفاشلة عملياً.
ولولا بعض ما أثار إعجابنا في البعد النظري عند الحسيني ووضوح هذا البعد لوجهنا أكثر من اللوم إليه ضد ما أنهى به دراسته، ومن دون تعليق عليها نلفت النظر إلى المقارنات التي يقوم بها بين أفعال الاحتلال وأفعال نظام البعث، وحول ذلك يقول:
-» لو وضعنا توقيع صدام حسين عليها بدلاً من توقيع بريمر« .
-»هي أعنف، وأشد قسوة مقارنة بعمليات المداهمة التي كانت تنفذها أجهزة أمن النظام السابق«.
-»ينتهكونها الآن بشكل لا يختلف، إن لم يكن أشد قسوة وعنفاً مما كان يمارسها النظام الدكتاتوري السابق«.
-»فهي تبرئ بشكــــل واضح كل ممارسات النظام السابق... وصدام حسين كان يمارس نفس الأساليب للقضاء علي المعارضة، «.
-»ما هو مرفوض من الممارسات القمعية لصدام أو غيرها، مرفوض أيضاً عندما تعتمدها قوى الاحتلال أو غيرها«.
-»إن سلطة الاحتلال غير معنية عملياً بالانتقام من صدام ومؤيديه، بالعكس انها توفر الحماية لصدام … وهو يمتلك الحق في استعادة قصوره وأرصدته المالية. ويغادر للعيش في اي بلد مقابل تقديم تعهد شرف بعدم الوقوف ضد الامريكان. «
-»صدام ليس موضوعاً لحقد وانتقام سلطة الاحتلال، بل هو العراق وشعبه، وقمع صدام واضطهاده لشعبه كان غطاء لخداع العراقيين، أدى وظيفته، وانتهى«.
إن بعض نماذج ما أنهى به الدكتور الحسيني هجومه الظالم، ولن نقول الهجوم الظالم الغشيم، فلو كان الأمر كذلك لغفرنا له لأنه لا يعلم ماذا يفعل، فتسقط ساعتئذ أحكام الحد عليه ويُمنح الأسباب التخفيفية لأن ظلمه صادر عن »غشيم«، بل هو ليس كذلك، لأنه يعلم ماذا يفعل، ولهذا لا نطلب من أبينا أن يغفر له لأنه يعلم ماذا يفعل.
وأخيراً، ومما يدخل في باب نقدنا، نستحلف الدكتور الحسيني بالله إذا كان سيبقى ثابتاً على قناعته التي يدِّونها في دراسته عندما يقول: »وفي أي دولة من دول العالم، فإن المتمسكين بالمصلحة الوطنية والمدافعين عنها هم المؤهلون عرفاً وشرعاً لمسك القوة أو الحكم في البلد، لا أولئك الذين يغلبون مصالحهم أو مصالح دولة أخرى عليها. «
فهل المقاومون هم من المدافعين عن المصلحة الوطنية؟ يقول الحسيني: نعم، لأنهم يضحون بأغلى ما لديهم من أجل تلك المصلحة.
وهل يبقى ثابتاً على قوله النظري: بأن الذي يقاوم هو الذي يحكم البلد؟ نعم هو يقر بذلك، وقد سجَّله باسمه، ولا مفر من التهرب. وهنا نلقي عليه اليمين بأن يبقى ثابتاً على قوله. ولن نسامحه –على الإطلاق- إذا لم يبايع صدام حسين وحزب البعث أولاً، لأن الوقائع التي لا شك فيها تؤكد على أنهم لا يقاومون فحسب، بل إنهم أعدوا لتلك المقاومة كل أساب نجاحها. وإذا كان الحسيني يطلب مهلة لكي يطمئن قلبه فله تلك المهلة. وإذا كان للحزب الحصة الكبرى في الدفاع عن المصلحة الوطنية، وله الحصة الكبرى في مقاومة الاحتلال، لا يعني ذلك أن ليس للآخرين دور، بل لكثير من الفصائل: القومية والعلمانية والإسلامية والشيوعية سهم أو أكثر في ممارسة الجهد العسكري أو السياسي أو الإعلامي مما يمنحهم الحق –أيضاً- في المشاركة بالحكم، وهو حق لهم بامتياز نالوه بكفاءة وشرف وتضحية.
في بعض نتائج البحث العامة:
ما يلفت النظر في دراسة الكاتب أنه يضع القارئ في حيرة من تحديد موقفه بشكل واضح، فتراه في مقدمة الدراسة وفي نهايتها يتسِّم منهجه بالهجومية والعدائية ضد نظام البعث في العراق على قاعدة عناوين عريضة وفضفاضة، فإذا به من خلال متن البحث يظهر كباحث يستوعب الأسس المبدأية والنظرية حول القضايا السياسية ذات العلاقة بمقاومة الاحتلال. وهو يطرحها بشكل لافت لسعة ثقافته وعمقها وموضوعيتها.
إن التجاذب عند الدكتور الحسيني بين منهجين: سياسي وفكري حول قضية واحدة يجعل القارئ عاجزاً عن التقاط الترابط بين المنهجين. فما هو سياسي يتَّسم بالانحياز وردات الفعل الإيديولوجية، وما هو فكري يتَّسم بالموضوعية والترابط المنطقي. وتبدأ المشكلة عند القارئ عندما يحاول أن يربط بين المنهجين ليحدد الموقف الحقيقي للكاتب، فلا يُوفَّق بل تتجاذبه نتائج متناقضة ومتفاوتة في المعالجة، ويلمس كأن الكاتب يهرب من العبء الإيديولوجي للتخفيف من حدته ووضوحه وتعصبه إلى الاحتماء بموضوعية ثقافته النظرية.
إن ما نلاحظه عند الكاتب يدل على وجود أزمة ثقافية عامة عند معظم المثقفين العرب، ومن خلال تجربتنا نعبِّر عن تلك الأزمة بإشكالية عامة ونظرية هي حالة الانفصال أو الفصل التعسفي بين القضايا الفكرية والسياسية الكبرى وصانعيها السياسيين.
فكانت لنا فرصة من خلال تقييم ونقد الدراسة التي أعدَّها الدكتور موسى الحسيني لكي نبحث عن تلك الإشكالية وتحديد أصولها وتفسير انتشارها بين معظم المثقفين العرب، وبالتالي الخروج بجملة من الاقتراحات التي قد تفيد في معالجة منهج معرفي يتبيَّن فيه وجه الخطأ.
إن تاريخ ميلاد الكاتب لا يوحي بأنه اكتسب تجربة سياسية معمَّقة، وقد تكون نشأته في بيئة بعيدة عن المدن قد أبعدته عن العمل السياسي، أو الحزبي، خاصة وأن الفترة الزمنية الدراسة التي أوصلته إلى حيازة الدكتوراه تكون قد استهلكت معظم أوقاته، وما أن استقرَّت أوضاعه الدراسية حتى أخذ يعايش عدة من الأزمات التي كان يواجهها نظام حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق.
إن مرحلة السبعينيات، وهي المرحلة التي نحسب أن وعي الكاتب السياسي أخذ يشق طريقه فيها نحو التكوين، كانت تشكل –بالنسبة للنظام- مرحلة التراكم في المسؤوليات ومواجهة المؤامرات الخارجية، ومن أكثرها لفتاً للنظر الحرب العراقية الإيرانية بما أفرزته من تيارات دينية سياسية عراقية بشكل خاص، مترافقة مع مرحلة استنهاض تلك الحركات في الوطن العربي بشكل عام. وبها، وبعد أن انسحب الشيوعيون من الجبهة الوطنية في العراق، ومن بعد أن قوي تيار المعارضة الكردية للنظام متغذية من الحرب العراقية الإيرانية ومستقوية بالخارج الإيراني، كلها عوامل أدَّت إلى اعتزال كل أنواع المعارضات عن دورها الشرعي المتعارف عليه في التجارب العالمية. وأخذت تشق طريقاً جديداً من حيث الهجرة إلى الخارج الإقليمي أولاً، ومن ثم انتشارها إلى المحيط الخارجي الأجنبي ثانياً. وبمثل ذلك التطور استغلت المخابرات الأجنبية (أميركية وبريطانية وصهيونية وإيرانية) تفشي تلك الظاهرة، واستخدمتها من أجل تصفية الحسابات مع نظام حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق.
لا يتَّضح من خلال المعالجات التي يقدمها الكاتب أية هوية سياسية ينتسب إليها. وإنما نستنتج –من خلال ما تتضمنه دراسته من بعض الإشارات إلى أنه فعلاً لا ينتسب إلى أية هوية سوى أنه وجد نفسه في بيئة عراقية معارضة تمتلك الشعارات العامة الفضفاضة. فانفعل بها، وصدَّقها من دون تعمق أو إثبات، فانخرط –منبهراً بتلك الشعارات- في خندق المعارضة للنظام. وابتدأت رحلة المحاباة والمجاملة عنده، وراح يراهن على أن زملاءه المعارضين سوف لن ينسوه في عراق سيتسلمون قيادته. وبعد أن حصل الاحتلال، ظناً منه أنه سيترك العراق للعراقيين أخذ يكشف عن أهدافه الحقيقية في البقاء والنية في حكم العراق مباشرة، فأخذت آماله تتقلص وأحلامه تضمر، وازدادت التوترات عنده كلما طال زمن تحقيق الحلم. فإذا بزملائه من المعارضين (قوميين وشيوعيين وإسلاميين) ينخرطون في ورشة مساعدة الاحتلال في البقاء لقاء وضعهم في وظائف إدارية يأتمرون بأوامر بول بريمر، ولما ظهر أنهم تناسوا زملاءهم من الموعودين بدخول جنة التغيير بعد قلب »نظام حزب البعث وصدام حسين«، وجد الدكتور الحسيني أن زملاءه قد خذلوه بلا وطنيتهم عندما انخرطوا في ورشة تدعيم الاحتلال ومساعدته، فعتب عليهم. وظهر إحباطه بشكل عتب عليهم على الرغم من أنه كان من المتشددين نظرياً –من خلال دراسته- ضد الذين يتعاونون مع الاحتلال ويقفون ضد المقاومة.
وعلى كل حال، فقد أتيحت لنا الفرصة لرد نقدي حول بعض النماذج من المعارضين العراقيين الذين – على الرغم من تميزهم بالحس الوطني- ظلوا على تمسكهم بأسباب العداء لنظام حزب البعث السياسي. ونحن نتوقَّع لمثل أولئك الذين ظلوا ثابتين على مواقفهم من نظام اتهموه بكل الاتهامات بينما كان على كرسي الحكم، ولم يأخذوا المتغيرات الجديدة ومن أهمها وجود الحزب في خندق المقاومة ليعدِّلوا من مواقفهم منه أو يبدِّلوا، سيجدون أنفسهم في مرحلة ما بعد التحرير في أزمة جديدة ولا أحسب أنهم قد أعطوها الاهتمام الكافي في حساباتهم. ونحن نرى –حرصاً على أمثال الكثيرين من الصادقين في وطنيتهم ممن برهنوا على صدق توجهاتهم الوطنية الاستراتيجية- أن يفتشوا عن أسباب عدائهم السابقة بكل موضوعية وفي سياقاتها الظرفية وأمكنتها، وأن يروا الحزب من خلال المتغيرات الجديدة بعين الارتياح النفسي بما يؤهلهم نفسياً للعمل مع كل العراقيين جنباً إلى جنب، لبناء عراق جديد متحرر من هموم تأثيرات المشروع الأميركي الصهيوني، وتجارب الماضي.
***
د. موسى الحسيني 18/ 6/ 2004م
- في البدء أشكر الأستاذ الفاضل حسن خليل غريب على ما أبداه من ملاحظات طيبة ، تجعل الإنسان يحمد الله على مثل هذه الشهادة رغم انه لا يمكن إغفال توجهات اللا إستحسان الواردة في الرد ، فهو يستحسن كثيراً من الأمور التي سماها نظرية . وهذا إطراء على موقف وطني من معارض بشدة لبعض الاطروحات. لذلك سيكون من عوامل الاعتزاز والشعور بالرضى والارتياح .واشكره على تكرمه بالاستعداد لإعطائي عنوان بريده الإلكتروني لمتابعة الحوار بشكل خاص، لكني أميل أكثر لقبول عرضه الثاني بأن يكون الحوار عاماً ومفتوحاً على صفحات دورية العراق ، فالحوار يجري حول قضية وطنية عامة . فما نعيشه من محنة لا تخصنا وحدنا نحن المتحاورين، ولا تخص أيضاً جيلنا أو الأجيال المتعايشة حالياً على ارض الوطن ، بل سيكون لها إفرازاتها وتأثيراتها التي ستمتد عبر التاريخ لتحدد هوية الأجيال القادمة ، فنحن أمام محنة أن نكون أو لا نكون ليس فقط كعراقيين بل كعرب على امتداد الرقعة الجغرافية الموسومة بأرض العروبة . وأرجو أن يشارك جميع قراء بوابة دورية العراق في هذا الحوار ، مع الأمل أن يكون رائدنا الحرص على المصلحة الوطنية والأمن الوطني، وهذين المصطلحين ليسا شعارين بل مفهومين علميين سياسيين ، هما عند فقهاء السياسة الدولية العماد في تقييم جميع السياسات المحلية والدولية بالنسبة للأفراد والجماعات والدول .
- وأرجو أن يتسع صدر الأخ المشرف على الدورية لجميع الآراء ما يتعارض أو ينسجم مع تصوراته السياسية، فالحوار في هذه المحنة مسؤولية وطنية ، وما دام الغاية منها البحث عن قناعات مشتركة لأطراف تقف في نفس الخندق لكنها تختلف في النظرة للأمور علينا أن نحتمل حتى ما يستثيرنا عاطفيا.
- مع هذا لا أميل لان يجري الحوار بهذه العجالة مخافة أن تؤثر فينا الانفعالات في محنة نحن أحوج ما نكون فيها للعقل والتعامل الموضوعي المجرد من الأهواء والاعتبارات الشخصية .إضافة إلى أنى واقع تحت ضغط انشغالات خاصة لأسبوع أو للأيام العشرة القادمة . خاصة وأني بطئ في التعامل مع مفاتيح الكومبيوتر .
على أنى أود الإشارة لملاحظتين إحداهما عامة والأخرى خاصة :
الأولى : إن اصطلاح " لاعب " هو اصطلاح علمي مستخدم في كل الأدبيات العلمية المختصة بفقه العلاقات الدولية، ويعني العنصر الفاعل ، أو أحد طرفي المعادلة المؤثرة في موضوع أو واقعة سياسية معينة. كما يستخدم اصطلاح " لعبة " للدلالة على واقعة سياسية كبرى، وغالبا ما يستخدم مصطلح لاعب لوصف الدول الكبرى أو الجماعات المؤثرة مباشرة في حدث سياسي ما . فبدل أن نقول هذا الطرف المؤثر في القضية العراقية أو هذا الصانع للحدث في واقعة ما نستطيع استخدام مصطلح لاعب . لذلك فان استخدامي للمصطلح ليس تقليلا من أهمية الحدث بل توصيف للأطراف المشتركة في الحدث آو الصانعة للحدث .
ثانيا : بقدر ما أن الأستاذ الفاضل آثار غروري واعتزازي بالتزاماتي الوطنية إلا انه عاد فصورني في النهاية بصورتين غريبتين ، الصورة الأولى استوحاها بشكل غريب من تاريخ ومكان ميلادي . وبنى عليها حكمه في كوني لم اكتسب تجربة سياسية مع اعتقاد آني عشت في بيئة بعيدة عن المدن . ولا ادري كيف يخفى على الأخ دور مدينة الناصرية واسهاماتها الفاعلة في تشكيل حزب البعث نفسه ، إذا كان حزب البعث هو المعيار الوحيد للتحضر والتخلف، وتأتى الناصرية الثانية بعد بغداد مباشرة في تعداد أعضاء الحزب قبل ثورة 14تموز 1958، والمرحوم الشهيد فؤاد الركابي كان له الدور الأكبر في بناء فرع الحزب في العراق ، وعبد الله الركابي ( عضو القيادة القطرية في حينها ) كان أحد قادة محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم عام 1959 ، يومها كان صدام حسين مجرد عضو منفذ صغير في الحزب . واعتقد أن معاذ عبد الرحيم كان أيضاً عضو قيادة قطرية قبل 14 تموز 1958 ، وكان حازم جواد أحد القادة المهمين في تنفيذ حركة شباط 1963، واعتقد حسب فهمي لتاريخ الحركة القومية في العراق كان فؤاد الركابي مؤسس أول حركة ناصرية في العراق ، ولشباب الناصرية دور مميز في تأسيس الحزب الشيوعي أيضاً . والرئيس الفعلي لحركة الضباط الأحرار هو ناجي طالب ، وكان محمد حسين الحبيب من أهم عناصر هذه الحركة ، وهذا يعني آني ابن بيئة تغلي بالوعي السياسي .
ورغم كرهي للحديث عن نفسي أود أن اعرف نفسي للأخ حسن وبقية القراء ، واعتقد آن هذا حق طبيعي لإزالة اللبس الوارد في رد الأستاذ حسن . أنا من مواليد مدينة الخضر من عائلة تنحدر أصلاً من الناصرية قضيت دراستي الابتدائية في الخضر دون آن انقطع عن أجدادي لأبويَّ في الناصرية ، ثم أكملت الثانوية في الناصرية ، والخامس الإعدادي في بغداد في الثانوية الجعفرية . ولم اكن مقطوعا عن بغداد لان آبي كان يرسلني كل عام للتقوية في الصيف في المعهد الوطني في شارع الرشيد – السنك- ، لأقضي صيفي في بغداد منذ عام 1964 . كان والدي رجل دين ابن لأحد صغار الإقطاعيين ، عنده مكتبة خاصة اعتقد أنها اكبر مكتبة ليس في الخضر بل حتى في الناصرية أو السماوة ، تضم مختلف الاختصاصات من أمهات كتب التاريخ كالطبري والكامل حتى راس المال لماركس مرورا بطه حسين والعقاد وبنت الشاطئ وسلامة موسى . علمني منذ الصغر أن لا ألمس كتاباً قبل أن اغسل يدي. عادة لا زلت أمارسها مهما كان الكتاب ، وتشجيعا لي على القراءة عمل لي اشتراكا بمجلة العربي منذ صيف 1959 حيث لازلت طالبا في الصف الخامس الابتدائي. كان والدي بمثابة شيخ دين وقبيلة والحاكم المطلق في المدينة وما حولها وجاورها وفجأة جاء المد الشيوعي ، لينتقم من آبى من خلالي ، لذلك أوصاني أن لا أذكر اسمه عندما انتقلت للمتوسطة عام 1961 - 1962 اتقاء لشر الشيوعيين. واستغربت عندما جاءني الطالب راجي موسى الحصونة ( تركته برتبة لواء أو عميد شرطة في عام 1978 – مديرا لشعبة الجنسية ) وقال عرفنا انك ابن السيد وبعثني إليك حزب البعث لتنظم لنا ، سألته ببراءة الطفولة ماذا يعني البعث وماذا يعني أن النظم لكم ، قال بما أقنعني في حينها بدلا من أن نترك الشيوعيين يعتدون علينا نوحد جهودنا لنمنعهم من ذلك . اقتنعت جدا بهذه الحجة ، وكنت من الطلاب النشطاء في الحزب ادفع الدرهم والمئة فلس دون تردد من مصروفي الخاص ، بعد حركة 1963، وبسبب نشاطي في الحزب واستئناس مسؤوليني بشجاعتي ، عينت مسؤولا للجنة الحرس القومي في متوسطة الناصرية ، كان اصغر أعضاء اللجنة الخمسة يكبرني بثلاث سنوات على الأقل .ولا ادري أهي حالة وعي مبكر أو تأثراً بالأصدقاء أغاضني موقف الحزب من الوحدة وتردده في إنجازها لذلك أخذت بيان ما يعرف في حينها بالقيادة الثورية لحزب البعث ، والتي تشكلت في حينها من قبل المرحوم الشهيد فؤاد الركابي وعبد الله الريماوي ، ووزعته في المدرسة ومنطقة السيف في الناصرية ، مما أثار استياء الحزب مني ففصلت بمحكمة حزبية شكلت في حينها من كل من رسول حامد ، عبد الأمير هاشم ، كريم السيد خلف ، ومنذ ذلك الحين وأنا ملتزم بخط المرحوم فؤاد مع تغير الأسماء التي استخدمها ، حركة الوحدويين الاشتراكيين ، الحركة الاشتراكية .ثم ساهمت مع بعض الأصدقاء ببناء الحزب الاشتراكي العربي الموحد بقيادة المعلم فؤاد الركابي وهو بالسجن ، وكنت قد تخرجت من الكلية العسكرية دورة 48 ، برتبة ملازم ، عند اكتشاف أمر التنظيم في صيف 1971 هربت في أواسط شهر أيلول إلي سوريا مع زوجتي واحد عناصر التنظيم مسؤول مدينة بلد الأخ بادع عبد علي ، وصدر بحقي في حينها حكمين بالإعدام الأول من محكمة آمن الثورة والآخر من المحكمة العسكرية الخامسة .
في سوريا اكتشفت آمرين : الأول : إن المعارضة من الخارج عمل عبثي مفتوح لتدخل مخابرات البلد المضيف، والثاني : إن بعض المعارضين أو من وضعوا في قيادة المعارضة كانوا محكومين بدوافع الحرمانات المختلفة ووجدوا في المعارضة في الخارج ما يشبع عقد الحرمان هذه ، وهم أبعد ما يكونوا عملياً عن الحرص على مصالح البلد وأمنه ، لذلك اعتزلت المعارضة لأخدم متطوعاً في صفوف الثورة الفلسطينية ولمدة 12 عاماً. كثيراً ما كنت اترك دراستي لالتحق بالمقاتلين في لبنان لمواجهة الاحتلال الصهيوني . وإذا كتبت لي السلامة ولم استشهد لسوء الحظ ليس لهرب من الموت بل فرصة الشهادة لم تأتي ، والأعمار بيد الله .
بالعودة لوجودي في سوريا بعد قضية ناظم كزار في 1973 صدر أمر عفو عن المعارضين المقيمين في دمشق ، مشروطا بسجن أقرب أقربائهم عند عدم عودتهم خلال شهر، وكان السجن من نصيب أحد إخواني ولمدة 10 اشهر، حتى اضطررت للعودة ، خاصة وقد فقدت الثقة بقيادة المعارضة في سوريا ، لكن الغرابة هو آن يتم احتجازي ومن نقطة حصيبة ، ويطلق سراحي في اليوم التالي في الرمادي ، تم توقيفي ثانية بعد ثلاثة أيام ولمدة حوالي الشهرين في الشعبة الثانية في الأمن العام ثم تم تحويلي للاستخبارات العسكرية ، حيث تم إخلاء سبيلي استنادا لقرار العفو الصادر من مجلس قيادة الثورة ، ونسبت لوظيفة مدنية . واللجنة التي حققت معي في الاستخبارات كانت تضم كلاً من الملازم الأول سعد خضير العبيدي ( أصبح معارضا بعد أن أحيل للتقاعد عام 1993 ) والنقيب وفيق السامرائي (عارض بعد أن أحيل للتقاعد عام 1992) والتهمة التآمر على الحزب والثورة . من اغرب المفارقات أن اختلف ثانية مع الرجلين اعتبارا من بداية وصولهما للخارج ، كانا على استعداد للتعاون مع الشيطان للخلاص من صدام حسين كما يدعيان هما ومن معهما من الضباط وكنت مع بعض الوطنين ندعو لان ينحصر الخلاف بحدوده الوطنية والابتعاد عن السماح لأي تدخل أجنبي ، كانا من دعاة الحصار والحرب وكنت أول من كتب ضد الحرب والحصار ، ومنذ بداياته في عام 1992 ، وفي سلسة من المقالات نشرت في جريدة السفير في حينها بعناوين مختلفة " ملاحظات على مؤتمر المعارضة العراقية في فينا" ، " المناطق الآمنة ، المعارضة والمصالح الأميركية " ، " المصلحة الوطنية وأعراس الذل للمعارضة العراقية " ، " الموقف القومي من المحنة العراقية " وغيرها ، جمعت في كتاب تم توزيعه بشكل محدود تحت عنوان " العراق بين النظام والمعارضة " عام 1994. وعندما عقدت مجموعة من الضباط مؤتمرهم في لندن بين 12 – 14 / 7 / 2002 ، وكنت من المدعوين ، لكني لم اكتف برفض الدعوة وعدم الحضور بل كتبت كراسا بعنوان " العسكر والسياسة في العراق " ناقشت فيه تهافت أطروحات المؤتمرين وتناقضها مع المصلحة الوطنية العراقية، مما يعني أنها تندرج تحت باب الخيانة الوطنية ( ولا مانع من إرساله لدورية العراق لنشره إذا وافق الأستاذ مدير الدورية على ذلك لأنه تعرض للحصار وتم توزيعه بشكل محدود لخوف أصحاب دور النشر من توزيعه ) ، قبل ذلك كنت قد تصديت للمشروع الطائفي الذي يدعو لتقسيم العراق لدول طائفية ونشرت عام 2000 ، كتاب "ساطع الحصري والخطاب الطائفي الجديد " والذي تعرض لنفس عملية الحصار حتى إن متعهد التوزيع لم يوزع منه غير 60 نسخة ، إلا أن أحد دور النشر الأردنية عادت فاشترت منه 200 نسخة ، ويقال إن أحد المطابع في بغداد عادت طباعته ومتوفر الآن في شارع المتنبي . ومنذ 2001 ومن خلال محطات التلفزيون المستقلة والاي. إن أن ، وابو ظبي توقفت عن تسميتهم بالمعارضة بل بالمناوئة أو المعارضة المصنعة ، باعتبار أن المعارضة تعني اتجاهاً سياسياً يفترض أن ينافس النظام على الحرص على المصلحة الوطنية ، أما خيانة المصلحة الوطنية فتجعلنا نعتبرهم أي شئ آخر كعصابات مرتزقة مثلا . وتدخلت دول ودفعت الملايين كما علمت لأمنع من الخروج على المستقلة ، وارتقت المستقلة من محطة بإمكانات محدودة إلى واحدة من أغنى المحطات . والحديث طويل إلا إن عراقيي الخارج يعرفون جيدا مواقفي اكثر ممن في الداخل على ما يبدو ، سيفا مسلطا للدفاع عن بلدي وآنا أميز دائما بين البلد والنظام . لذلك كان حكم السيد حسن خليل عن عدم وضوح هويتي دليل على عدم اطلاع أو سوء متابعته لما كان ولا يزال يجري من معارك وطنية لاشك أنها سببت لنا كثيرا من المتاعب ، مع أننا لم نكن نفكر الاستفادة من النظام يوما بأي شكل كان ولم نرجو من أحد المكافأة بقدر ما أن الأمر الذي يدفعنا هو إيماننا بوطننا وحق شعبنا في اختيار طريقه للعيش الحر الكريم . مدفوعين إلى ذلك بكل الاستعداد بالتضحية بكل ما نملك دفاعا عن كرامة البلد واستقلاله .
آما حكمه باني يمكن آن أكون ممن نستهم المعارضة المصنعة أو لم تف بوعودها معهم ، للآسف هو حكم لا يدل على رجاحة في فهم الأمور ، وهو الذي كان يتغنى قبل سطور عما اسماه بمعالجاتي النظرية ،فأنا بحكم دراستي وتواجدي اعرف كل المنافذ احسن من غيري وبدقة وخبرة وآنا خريج الجامعات البريطانية بفرعي علم النفس الاجتماعي والعلاقات الدولية وعضو في كثير من المعاهد البحثية ، وافهم اللعبة وأجيد لعبها لو كان للمصالح الخاصة حسابات عندي ، ولم احتاج لشيء لأكون لاعبا ثانويا ينتظر فتات الخيانة وسقط المتاع ، وهذا هو الأمر الثاني الذي وددت الإشارة إليه .
اغرب ما في الموضوع ، وحول كتابي " المرجعية الشيعية والسياسة في العراق " ( أتمنى لو بادرت دورية العراق لنشره – وهو عبارة عن كراس صغير أو جزء من كتاب – وقد نشر في جريدة القدس أيضاً بحلقتين يوم 12 / 4 / 2004 ) ، وكتاب " المقاومة العراقية والإرهاب الأميركي المضاد " ، قُوبلا من قبل جماعة المتهافتين والعملاء المرتبطين بالأجنبي من المرتزقة ، بشتى الاتهامات بل والشتائم ، وآنا فرح لذلك لأمرين الأول أن شتائمهم شرف – على أساس أن ذم الناقص دلالة على الكمال - ، ولأنهم لم يجدوا فيَّ من النقائص ليشهروا بها فراحوا يلفقون التهم ، والأغرب ان بعض مؤيدي المقاومة وأنصارها لم يرتح لطرحي ، وهذا دليل على استقلالية الخط الوطني الذي انتهجه . وجاء مقال السيد حسن دليلا على ذلك ، ولا أمتلك إلا أن اشكره ، مع التأكيد لكل مقاوم على ما ذكرته ولأكثر من مرة وسمعه الملايين من مشاهدي محطة الاي . ان . ان ، انحني إجلالاً لكل مقاوم واقبل يده بشرف وفخر ، ومهما كانت ذنوبه التي يمكن أن يكون مارسها في عهد النظام السابق غفر الله وشعبه له ذلك ، ولم اقل ذلك ترضية للسيد حسن خليل أو من انتقدوا كتابي بل هو تعبير عن إيمان كنت قد جزمت به قبل اكثر من ستة اشهر من نشر كتابي وحتى قبل أن تبدأ أحداث الفلوجة والانتفاضة الصدرية المباركة .
-في خضم كل هذا الصخب الذي رافق حياتي أكملت دراستي في الجامعة المستنصرية عام1979، قسم التربية وعلم النفس وكنت الأول على دورتي ، أهَّلني معدلي العالي لدخول اشهر كلية في جامعة لندن للعلوم السياسية والاقتصادية، لأحصل على دبلوم اختصاص بعلم النفس الاجتماعي 1983 ، ثم على الدكتوراه فلسفة في الدراسات الدولية من جامعة سالفورد عام 1989. ولا زلت افخر أنى ملازم متقاعد .احمل شهادة البكالوريوس بالعلوم العسكرية من الكلية العسكرية العراقية .
هذا ما يهمني شخصيا وسنرد إن شاء الله حول ما له علاقة بالموضوع في محاولة للتجرد من الذات.

رد ثان على مقالات الدكتور موسى الحسيني
سيدي العزيز
نحن اتفقنا على الحوار، وحتى لا نكون كالساعي إلى الهيجاء بدون سلاح، لن تكتمل شروط الحوار من دون سماح إدارة دورية العراق بفتح أبوابها لاحتضانه.
سيدي رئيس تحرير دورية العراق
أشكرك أولاً لأنك أتحت الفرصة لنشر بدايات حوار بين مواطنين عربيين حول القضية العراقية، شاغلة العالم من أقصاه إلى أقصاه. فبنتائج الصراع الدائر على أرض العراق تتحدد معالم تاريخ جديد للنظام العالمي بأسره، كما تتحدد معالم تاريخ جديد لواقع صراع الأمة العربية مع الاستعمار والصهيونية.
وإنني ثانياً لي ثقة كبيرة، وأنا لا أعرفك شخصياً وبالإسم، بأنك من خلال قيادتك للموقع اخترت طريق الحوار الموضوعي أمام المتحاورين حول القضايا العربية. ولا شك بأنك تتميز بكفاءة القراءة والكتابة من خلال المراسلات السريعة التي تدور بيننا من آنٍ لآخر.
وثالثاً، وكي لا أدعك أمام أمر واقع في فرض طاولة حوارية مع الدكتور الحسيني، أرجو أن تدرس المسألة من كل جوانبها قبل اتخاذ القرار النهائي.
وبناء عليه، واستباقاً للقرار، أرجو السماح بنشر ردٍّ حول توضيحات الدكتور الحسيني حول تحديد بعض آليات الحوار القادم.
في 19/ 6/ 2004م حسن خليل غريب

سيدي الدكتور موسى الحسيني
أولاً: أنا متفق معك أن يكون حوارنا معلناً على شرط أن يتَّسع صدر الموقع. وأنا أنتظر إذن السماح بذلك.
ثانياً: في الاتفاق حول بعض ما واجهنا أو سيواجهنا من التباسات في بعض التعابير أو المصطلحات: قد يلتبس بعضها عند كلينا، فأرى من الضروري أن نقوم بتوضيحها كلٌّ في وقته.
ثالثاً: كنت من غير الملحين على إدخال التجارب الشخصية في ميدان الحوار، لأن لكلينا حرمة في شؤونه الشخصية. ولكن ما جاء من تفصيلات عن تجربتك الذاتية ما لفت نظري إلى أهمية هذا العامل في حوارنا، خاصة وأنك تصوِّر نفسك ضحية لديكتاتورية النظام السابق. ومن العدالة، قبل إصدار الحكم، أن يسمع الحَكَم دفاع الضحية عن نفسها. كما أن من حقه أن يوجِّه الأسئلة ويضع الفروض للتأكد من مصداقية الشهادات والوقائع.
يا سيدي، إن أنموذج حوارنا، قد يضع بعض الضوابط في رؤية العلاقة بين النظام السابق والمعارضة بمعزل عن الأحكام العامة التي تهدف إلى الإثارة أكثر من أنها تهدف إلى الوصول للحقيقة. فتأتي بعض تجارب بعض من يعلنون أنهم ضحايا الديكتاتورية أنموذجاً عادلاً وموضوعياً في تحديد الأحكام قبل اتخاذها بحق المتهم.
من المفهوم، سياسياً وإيديولوجيا، وهذه سمة من سمات خطابنا اللا موضوعي أن ترفع من تفترض نفسها ضحية شتى الاتهامات الفضفاضة والأحكام العامة ضد من تتهمه، ومن الخطاب السائد أن يدافع المدافعون عن المتهم بوسائل فضفاضة ودفاعات عامة قبل سماع أسباب الضحية.
فلنتخذ من حالة الدكتور موسى الحسيني أنموذجاً، وأحسب أن آلاف الحالات شبيهة بها، فنكون بحوارنا حول الأنموذج الذي تمثِّله كمن يعالج آلاف الحالات المشابهة، ونستطيع بالتالي أن نقترب أكثر فأكثر نحو النظر بموضوعية إلى تعميم الحالة الخاصة.
لذلك أرى من واجبي أن أوضح أن التباساً قد حصل في فهمك لي من خلال قولي إنك عندما اتَّخذت دور المعارض »لم تكن قد اكتسبت خبرة سياسية« لم يكن المقياس عندي أهمية البيئة السياسية التي عشت فيها، وللناصرية في قلبي محبة لمعرفتي ببعض سكانها، وبعض تاريخها. وحول هذا الجانب سأدافع عن قناعتي بما يلي:
لم يكن المكان الجغرافي أو البيئة السياسية أو التجربة الحزبية الخاصة، بل كان العمر هو المقياس عني عندما أطلقت حكمي على تجربتك. لقد وُلدت يا سيدي في العام 1950م. وتابعت دراستك المتوسطة في العام 1962، وتخرجت كملازم في العام 1971م. أي كان عمرك في أوائل العشرينات. وفي خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة جداً، هذا إذا تجاهلنا مدى اكتسابك ثقافة معمَّقة، سياسية وفكرية، أو من حيث خوض تجربة نضالية ميدانية تكسبك خبرة الإحاطة بما يدور في قطرك أو في الأمة العربية من مشاكل أو إشكاليات، فنتساءل: أوَ لا تلاحظ أن خللاً ما سيحيط بحكمك على قضايا كثيرة وشائكة سواء على مستوى تنظيمك الذي انتسبت إليه مبكراً جداً، أو على مستوى النظام السياسي الذي كان يحكم العراق قبل الاحتلال؟
أنت كنت في العام 1963م ابن أربع عشرة سنة واستطعت أن تكتشف خطأ موقف حزب البعث من الوحدة، وانحزت إلى تيار فؤاد الركابي وأنت لم تبلغ بعد سن المراهقة، وفُصلت من الحزب بطريقة قانونية. وعلى الرغم من ذلك انتظمت في تنظيم سري مناهض للحزب الحاكم، وتابعت دراستك في الكلية العسكرية وتخرجت منها. وهربت إلى سوريا وحُكم عليك بالإعدام مرتين، ثم عدت إلى العراق وعمرك ثلاث وعشرون عاماً، وصدر عفو بحقك وتابعت دراستك في العراق حتى العام 1979م، ومنه نلت منحة دراسية من الدولة العراقية التي يحكمها حزب البعث الذي كنت مناوئاً له ومحكوماً عليك بالإعدام مرتين.
لا أشكك بروايتك، وأعتبرها صادقة مائة بالمائة، ولكن لا بُدَّ من الوقوف عند عدد من الاستنتاجات المثيرة للاستغراب:
1-إذا كانت بوادر الوعي السياسي عندك مبكَّرة، كما أراها من خلال وصفك، فهذه ظاهرة تدعو إلى الاعتزاز. فتى لا يتجاوز سن المراهقة يصدر أحكاماً حول مواقف سياسية وتنظيمية في غاية الأهمية والخطورة. وهي اتهام حزب عريق في أنه كان مخطئاً في موقفه من الوحدة العربية، وهو لا يستطيع أن يلم بحد أدنى من الثقافة السياسية القومية الوحدوية، والأمر على هذا المنوال نقول: حتى كل الدراسات الأبحاث التي تناولت أسباب فشل ميثاق 17 نيسان من العام 1963م بين العراق وسوريا ومصر لم تتوصَّل إلى معرفة الطرف الذي أعاق تطبيق ذلك الاتفاق. أما أنت، وفي العمر الذي أنت فيه، فتمثل ظاهرة فريدة من نوعها، في الوعي المبكر أولاً وفي قراءة أسرار وخفايا الصراعات السياسية ثانياً.
2-لقد فُصلت من الحزب في العام 1963م نتيجة انحيازك لتكتل حزبي داخلي، وهذا من أبسط قواعد العلاقات الحزبية، وعليك أن تطلع على النظام الداخلي للحزب الذي ينص على أن من يخالف أسسه وقواعده يتم التحقيق معه وتتخذ العقوبة المناسبة. فإذا ارتأت اللجنة التي حققت معك اتخاذ هذا الإجراء فما هو وجه الغرابة بذلك؟ فالحزب ليس نادٍ، بل هو خاضع لنظرية محددة على الحزبيين بمجرد انتمائهم للحزب عليهم أن يلتزموا بالقوانين التي ربطوا انتسابهم للحزب على أساسها. وهل لك الحق باستنكار ما تقوم به قيادة مكلَّفة بمراقبة احترام أنظمتها الداخلية؟
يا سيدي الدكتور، ألم أقل لك إن تجربتك السياسية كانت متواضعة، ويبدو أن تجربتك التنظيمية متواضعة أيضاً، ولا تخلو معرفتك لأسس الأمن الوطني من التواضع، وإلا كان يجب عليك، وأنت خرِّيج للكلية العسكرية، أن تعرف القوانين التي يُحاكم على أساسها الجنود والضباط، قبل أن تنتسب للجهاز العسكري، وقوانينه صارمة في كل قوانين الدول المتقدمة منها والمتخلفة.
لا يمكن، والحال هكذا، أن يستمر الحوار بشكل موضوعي إذا كان لكل منا قوانين خاصة به، تبتعد عن المكاييل والقوانين العامة. وأخشى أن تكون كل حالات المعارضة الشبيهة بحالتك، ممن لهم مقاييسهم العائمة والغائمة والمغرقة بخصوصياتها، والتي يريدون أن يحاسبوا النظام السياسي على أساسها.
آنت يا سيدي ممن تخصصوا بعلم النفس الاجتماعي، فهل مرَّ معك أن هناك قاعدة من قواعد العلاقات الاجتماعية تنبني على أسس أن لكل فرد ملتزم بمجتمع قوانينه وقواعده الاجتماعية التي تلبي رغباته الخاصة، ويعتمدها مقياساً موضوعياً لمحاسبة كل العلاقات الاجتماعية على أساسها؟
وما ينطبق على أسس العقد الاجتماعي كناظم لعلاقات الأفراد، وكصاهر لثقافة موحدة بينهم، ينطبق أيضاً على العقد السياسي بينهم. قد تشوب العقد السياسي أو التنظيمي أو الاجتماعي الكثير من الثغرات، ولكن هذا لا يبرر أن يكون لكل مواطن مفهومه الخاص لكل تلك العقود، ويريد على أساسها أن يلزم الآخرين: الحزب أو السلطة أو المجتمع، على أن يطبقوا في محاكمته قواعده الخاصة.
قد تثبت التجربة والنقد قصور تلك العقود عن حل إشكاليات العلاقة بين الفرد والمجتمع. لكن هذا لا يبرر الهروب منها بإلقاء المسؤولية على نظام أو تجمع أو حزب واتهامهم بمحالفة الديموقراطية وحرمان الفرد من حريته.
يا سيدي إن قواعد وأسس العلاقات الاجتماعية والسياسية والتنظيمية تقوم على نوع من المركزية، ويسميها البعض ديكتاتورية، ولكن ما العمل؟ وما هو الحل؟
الحل هو عزلة الفرد عن المجتمع وابتعاده عنه إلى جزيرة نائية، كما فعل ابن طفيل بأنموذجه الفلسفي. وهناك –كما أرى- لن تخلو علاقة المنعزل مع نفسه من أسس تضبط له سلوكاته. فهو سيضع أسس حماية أمنه من الحيوانات الضارية، فلا يستطيع أن ينام كيفما يشاء وأينما يشاء. وهو لا يستطيع أن يأكل ما يريد وكل ما يريد والكمية التي يريدها، بل إن نوع الطعام وكمية وجوده ونوعه هي ديكتاتورية تمارسها الطبيعة والأحياء الموجودين فيها على الإنسان.
أنت يا سيدي تريد أن تجعل من نفسك ضحية كل القوانين والأشخاص لأنهم لا يطبقون قوانينك ومفاهيمك الخاصة. أوَ لست تمارس الديكتاتورية بأحكامك؟
أنا لا ألوم ناقص الثقافة، خاصة بالعلوم الإنسانية، ويأتي في مقدمتها علم الاجتماع ومن أِشد فروعه أهمية في معرفة أسس وطبيعة ومفاهيم العلاقات البشرية هو علم النفس الاجتماعي، بل تكون ملامتي أشد لمن هو في الموقع الذي عليه أن يكون مرشداً ميدانياً للآخرين. وإنني أصارحك أن من مهماتي في الإرشاد التنظيمي الحزبي أنني أدافع عن اقتراح اقتنعت به هو أن تكون مادة علم النفس الاجتماعي من بين المواد الأساسية التي تدخل في مناهج التثقيف الحزبي. ولقد ارتحت لما اكتشفته من خلال ردك أنك من المتخصصين في هذا المجال، ولقد شعرت بالطمع في الاستفادة منك في هذا الميدان.
3-لقد صدر بحقك حكمان بالإعدام وأنت لا زلت ملازماً في العشرين من عمرك، فهل الذي أصدر الحكم بالإعدام هو هاوٍ لمثل تلك الأحكام أم أن هناك ما يبرر ذلك؟ ألست منتمٍ إلى تنظيم محظور؟ أو لست خريجاً لمؤسسة عسكرية لها قوانينها (ولتكن جائرة تلك القوانين) التي التزمت بها عندما انتسبت للكلية الحربية؟
4-فإذا صدر عفو عن محكوم عليه بالإعدام مرتين، فأين مكان الديكتاتورية في مثل هذه الحالة؟ لم يصدر عفو بحقك فحسب، بل تمَّ تنسيبك لوظيفة مدنية أيضاً. وقُبلت في الجامعة المستنصرية التي تخرجت منها في العام 1979م، ونلت من الدولة العراقية التي يحكمها حزب البعث منحة دراسية في لندن.
في خلال ثمان سنوات أو أقل: يصدر حكمان بالإعدام، ويصدر عفوان عنهما، ويستعيد المعفو عنه كل حقوقه المدنية فيتم تنسيبه إلى وظيفة يعيش من راتبها، ثم يقبل في جامعة ينهي بها دراسته الجامعية، وينال فوق هذا كله منحة للتخصص في الخارج… أو لا تلفت هذه القصة النظر والاهتمام والاستغراب؟
هل واقع هذه القصة هي مظاهر ديكتاتورية نغَّصت عليك حياتك يا سيدي الدكتور؟
فإذا كان الأمر كذلك، فلنقارن حال الديكتاتورية التي تعاني أنت منها، مح حال الديموقراطية التي ننعم فيها بلبنان. فأقول بداية: إن عشرات آلاف الفقراء في لبنان –مثلاً- يحسدونك على ما تمتعت به من سيئات الديكتاتورية، وإليك الأسباب:
إن المحكوم عليه بجناية في لبنان يُحرم من بعض حقوقه المدنية لمدد تتفاوت حسب الجرم الذي ارتكبه.
لم يكن متيسراً لفقراء لبنان أن ينتسبوا إلى الكلية الحربية في السابق،
ولم يكن أي فقير في لبنان يستطيع أن ينال وظيفة بسهولة.
ولم يكن أي فقير في لبنان يستطيع أن ينتسب إلى جامعة ليتابع دراسته الجامعية إلاَّ بقطع النفس. ولولا الفرص التي أتاحتها بعض الدول الاشتراكية سابقاً، وبعض الدول العربية، وكان أكثرها تميزاً الجامعات العراقية باهتمام ورعاية واحتضان ممن تسميه النظام الديكتاتوري، لما رأينا الطفرة النوعية العلمية الأكاديمية في لبنان التي وصلت إليها الطبقات الفقيرة في لبنان.
أما التخصص في خارج لبنان فهو غير متاح على الإطلاق، وأما في الداخل فهو يتميز بصعوبة بالغة إلاَّ للمحظوظين.
فهل تدري يا عزيزي، وأنا ما زلت مصراً على احترام عمق ثقافتك الأكاديمية، أنك تدفعنا للمطالبة بأن يحكمنا ديكتاتور يؤمن لنا كل تلك المزايا التي نالها مغضوب عليه مثلك، فكيف يكون وضع من كان مرضياً عنه؟!!
5-واسمح لي أن أكرر عبارتك واستعيدها في كل مرة أتكلم فيها عن حالة الانفصام بين النظرية والعمل لأناشدك بضميرك: هل يستأهل النظام الذي تصفه بالديكتاتورية، أو رأس ذلك النظام بأنه كان يمنن العراقيين بأنه علَّمهم لبس النعال؟؟!! وهل قدَّم إليك منحة دراسية إلى لندن لسبب انتمائك إلى تنظيم معارض أم بسبب تفوقك بالدراسة؟ وهل قدَّم تلك المنحة إليك بسبب انتماء عائلي أو مذهبي أو جغرافي؟؟ أم أنه قدَّمها –كما قدَّمها لعشرات الآلاف غيرك استناداً إلى الكفاءة والأهلية الشخصية؟
قبل أن تلتحق أنت بجامعات لندن، وكان هذا معسوراً عليك لولا قوانين اتخذها النظام الديكتاتوري للتأسيس لمشروع عربي نهضوي، كان قد سبقك في الاختصاص آلاف العلماء العراقيين والاختصاصيين من شتى الصنوف والاختصاصات. أم هل مفاعل تموز النووي كان (نوعاً من تعليم لبس النعال للعراقيين)؟
لم يدفع أحد من مسؤولي النظام من ثروة أبيه، بل خطوة تأميم النفط كانت الخطوة الجبَّارة التي نقلت العراق (بلد النفط والثروات الهائلة) من دولة معسورة إلى دولة ميسورة، وكان الانتقال هو من نعم الديكتاتورية. وهنا أسألك، وأسأل ضمائر كل المعارضين من العراقيين الوطنيين (وأنتم أدرى بشعاب مكة): كم هو عدد مسؤولي النظام الديكتاتوري ومن هم من الذين يملك شقة واحدة في بلاد خارج العراق؟ وهل اكتشفت كل أجهزة السي آي إيه أن هناك أرصدة شخصية لمسؤول واحد منهم أو لأحد أبنائه؟ قولوا لنا يا أصحاب الضمائر الوطنية واقعة واحدة تقنعنا نحن غير العراقيين بالشعارات الفضفاضة والوهمية التي ملأت كل الآفاق حتى أصبحت الأذهان الساذجة والبسيطة تعتقد بأن كل ما يُقال عن نظام حزب البعث حقيقة.
فهل تريد أن تعرف شيئاً عن نعم الديموقراطية في لبنان؟
هل تعلم يا عزيزي بأن لنا حرية القول دون حرية الفعل والتغيير؟
هل تعلم بأن الصحافة في لبنان يحتكرها أصحاب الرساميل والأرصدة المالية؟
هل تعلم أن الصحافة في لبنان مملوكة لمثقفين ميسورين يمارسون ديكتاتوريتهم على ذوقهم؟ ويحجبون نعم الديموقراطية في إبداء الرأي على كل من يعارضهم الرأي أو المصلحة؟
هل تعلم أن نظامنا الديموقراطي في لبنان ينعم بوجود 27 (نعم سبعة وعشرين مليارديراً) بعضهم وزراء في الحكومة وبعضهم أعضاء في مجلس النواب؟ أما المتسترين فالله أعلم كم عددهم؟
هل تعلم أن الديموقراطية في لبنان تنتج، على قاعدة العددية في الأصوات، أركان النظام ذاته، منذ أن نال لبنان الاستقلال في العام 1943م؟
هل تعلم أن الديموقراطية في لبنان لا تستطيع أن تؤمن فرص عمل لأهم شريحة في المجتمع من الاختصاصيين في شتى الحقول؟
لا يتَّسع مقال أو دراسة أو رد أو حتى مجلدات لاستيعاب نعم الديموقراطية في لبنان. وأرجو اعتبارها تنفيس عن احتقان تاريخي غضباً من نعم الديموقراطية عندنا.
قل لنا يا سيدي كم هي آثام الديكتاتورية عندكم في العراق؟
كانت الطبقة الوسطى في العراق هي من أهم معالم نجاح النظام فيه. والتنمية على شتى الصُعُد تلف العراق من شماله إلى جنوبه. يكفي أن العراق قد أنتج صاروخاً انفجر على أبواب تل أبيب. فهل يمكنك أن تسمي لنا نظاماً عربياً واحداً يمتاز بالديموقراطية قد وجَّه الصاروخ الثاني إلى أبواب الاحتلال الصهيوني.
تعال يا سيدي نتبادل المعلومات والخبرات والرأي فنحن كلانا معنيان بشؤون الأمة على قاعدة إنتاج آليات نقدية تحظى بالثقة والعلمية. وعلى قاعدتها لن نبرر أخطاء وقع فيها نظام حزب البعث أو غيره. على شرط أن نحاكم تلك الأخطاء في زمانها ومكانها وظروفها وأن نضع بدائلها الواقعية من دون تعصب وإغراق في السلبية، أو تعصب أو إغراق في الإيجابية. لعلَّنا نمهِّد الطريق ونسهم في التأسيس لرؤية جبهوية ديموقراطية تحكم عراق ما بعد انتصار المقاومة. وهو انتصار محقق غير خاضع للتخمين. فأنا أرى أن الأفق واضح يسير باتجاه النصر، فتكونوا –أنتم يا أحباءنا في العراق تحت قيادة المقاومة الوطنية المسلَّحة- قيادة لنا في كل معارك التحرر الوطنية القائمة الآن، وفي المستقبل، من المحيط إلى الخليج.
يداً بيد، وباحتضان ومساعدة من إدارة موقع دورية العراق، هيا بنا يا سيدي الدكتور لنسهم في كشف الغطاء عن الحقيقة.
رد ثالث على الدكتور موسى الحسيني
25/ 6/ 2003م
عندما ابتدأت بنقد دراسة منشورة للدكتور موسى الحسيني في جريدة (القدس العربي)، ومن بعدها في عدد من مواقع الأنترنت، كانت دورية العراق من ضمنها. لم يتبادر إلى ذهني –على الإطلاق- أن أخوض في نقاش له علاقة بمسائل شخصية عنده، وأنا أجهلها بالأساس.
أما قصتنا في الخوض فيها، فسامح الله الدكتور الحسيني فقد أوقع نفسه وأوقعني معه في متاهاتها، ويبدو أنه مصرٌّ على تحميلي المسؤولية على الرغم من أنه أعاد تكرارها في رده الثاني. وأخشى أن يعود إليها في أي رد قادم. والتزاماً بالوعد لن أتطرق إليها في ردي هذا على الرغم من عدد من الملاحظات، أعفاني مدير دورية العراق –مشكوراً- من بعض جوانبها.
لم أقرأ الدكتور الحسيني من زوايا شخصية إلاَّ بما له علاقة بتفسير مواقفه مستنداً فيها إلى ما عرفته من مواقع داخل نصه الأساسي.
لقد قرأت نصاً (دراسته الأولى) واستعنت بمحاكمة النص من أجل رد التهم التي أحسب أنه وجَّهها بغير وجه حق لنظام حزب البعث. لكنني لم أقرأ تاريخاً شخصياً للدكتور وكنت لا أريد أن أقرأ تاريخيته الخاصة لولا أن استعان بها وكشف بنفسه عنها لتبرير اتهاماته الظالمة.
وأعود واعتذر إذا كان هناك في ردي ما يسيء إليه شخصياً. كما أرجو منه أن ينقطع شخصياً عن إدخال العامل الذاتي في تقييمه لتجربة كبيرة ومترامية الأطراف بحجم الصراع الذي يخوضه شعب العراق ضد أعتى مشروع عالمي وأشده خطراً على البشرية. لأنه بمثل هذا الإدخال لن يقدِّم أو يؤخر من وجهة نظري في نقد نصه الأول لكن إلى الحدود التي يرى فيها أنه كان من المبالغين في إسقاط تجربة خاصة، ولو كانت مؤلمة، من أجل إصدار حكم نهائي على تجربة حكم البعث العامة للعراق.
ففي إسقاط آلام التجارب الخاصة على التجارب العامة يؤدي إلى الوقوع في التعسف بالأحكام، لأن هناك عشرات الآلاف من الذين نظروا إلى تجربة حكم البعث في العراق من مناظيرهم الذاتية فظلموا أنفسهم وظلموا بلدهم وظلموا من حسبوه متهماً فحكموا عليه من دون محاكمته.
يا عزيزي، لا أخفيك سراً أنني كنت –سابقاً- أنظر إلى مسألتين اثنتين من منظار ألغيت استخدامه –في هذه المرحلة- بعد انكشاف كثير من الأمور التي كانت النظرة إليها تتم في أجواء غائمة بل ومجهولة في كثير من جوانبها، والمسألتان هما:
-لم يكن إحساسي يتحمل أية رؤية سلبية تجاه أي عراقي، لمحبة خاصة للعراقيين الذين لم يتوانوا يوماً ما عن سماع صرخة عربي أينما كان. في فلسطين وسوريا ولبنان ومصر…
-كانت رؤيتي لاتهامات المعارضة العراقية ضد الرئيس صدام حسين وحزب البعث مشوبة بالتساؤل، ولم أشعر يوماً أن الحكم على تلك الاتهامات يجب أن يكون سلبياً بالمطلق، بل كان التروي في الحكم هو المعيار.
ولكن… وهذه اللاكن طويلة، وسوف أختصرها بمقدار ما أستطيع:
من بعد الحصار الظالم في العام 1991م، ومن بعد تكاثر نشاط التيارات المعارضة في الخارج، وبعد أن أخذت علاقاتها تظهر إلى العلن. ومن بعد ما انكشف الكثير من الستائر عن تلك العلاقات، وعن الأدوار المرسومة لها في المخطط الأميركي الصهيوني، وعن ضلوع تلك التيارات في تدعيم الاحتلال وتمكينه من الاستقرار في العراق. لكل تلك الأسباب أخذ مني الحذر كل مأخذ ودفع بي إلى أن أكون أميل إلى اتخاذ جانب السلبية في الحكم على تلك المعارضة من الجانب الإيجابي.
ولولا ما ظهر من مواقف سليمة تميَّزت بها تيارات معارضة أخرى حينما انحازت إلى الوطن والدفاع عن الكرامة الوطنية لكنت قد أُصبت بانفجار نفسي من شدة حنقي على معارضة اختارت طريق خيانة أمن وطنها وسيادته وسلامة أراضيه تحت ذريعة الديكتاتورية وبالأسباب والوجوه العامة والغائمة كما جاءت تماماً في دراسة الدكتور الحسيني.
وهنا لا يمكنني إلاَّ أن أرفع تحيتي واحترامي لسلامة الطريق الذي اختارته تلك التيارات وأراني شديد الإلحاح للوقوف إلى جانب اعتراضاتها وحقوقها في ممارسة دورها الوطني في ظل نظام سياسي وطني يحترم الخيارات السياسية والمطلبية لكل تنوعات وتعدديات المجتمع العراقي.
وبالعودة إلى الاتهام بالديكتاتورية فقد كانت أسباب الدكتور الحسيني التي ساقها في اتهاماته واهية وجاءت حكماً تعسفياً بدون مضامين موضوعية أو مضامين مفهومة كمثل عبارته عن تعليم صدام حسين لبس النعال للعراقيين. وما جاء من تشبيه من هنا وهناك يربط فيها وكأن ما يصدر عن الاحتلال يجد له الشبيه في ما كان يصدر عن نظام حزب البعث بقيادة صدام حسين.
لقد كنت موضوعياً في نقدي أيها العزيز، أعطيتك حقك من التقييم الإيجابي حول ما جاء في تحليلك للمقاومة العراقية، ولم أقصِّر في نقدي لما وجدته من ثغرات كثيرة في الجوانب الأخرى، خاصة منها تلك التي افتتحت بها دراستك أو ختمتها بها.
لم أنسبك يا عزيزي إلى أحد الصنفين من النقاد على طريقة إما أبيض أو أسود، فأعطيتك ما تستحقه من ثناء حول جانب، ووجدت من حقي أن أبدي رأياً سلبياً في الجانب الآخر. ولهذا كنت تمثَّل رأيين: الانحياز إلى المقاومة من جهة، وانتزاع كل فضل لقائدها من جهة أخرى، ومنه كان حكمي عليك بممارسة الازدواجية في الموقف.
أنا لا أسمح لنفسي بأن أصادر رأيك وأمنع عنك حرية نقد من تشاء، فالله سبحانه وتعالى هو الكامل الوحيد. ولكن من حقي أن ألفت نظرك إلى تعسف في الأحكام تمارسه على غيرك من دون أن تسمع دفاعه عن نفسه، فكنت أنت الخصم والحكم معاً.
خصمك قسم منه في الأسر، وقسم منه في الخندق المقاوم، وقسم آخر يعاني من التهجير والجوع والتخفي. فمن الظلم أن تقتنص تلك الفرصة لاحتلال قاعة المحكمة بكاملها.
أنا حريص يا عزيزي، كحرصك الذي أنوِّه به من أن تخدش كلمة مني أو منك قد تكون غير مقصودة أن تجرح مقاوم أو تستفزه، فتعمِّق جراحاً يكون قد أصيب بها. ولكن على هذا الحرص أن يكون واقعياً وعملياً. وهو ما لم تلتزم أنت به عندما وصفت الغالبية العظمى من المقاومين، وهم حكماً ينتمون إلى حزب البعث، أو ممن ينظرون إلى الرئيس صدام حسين بالمحبة والاحترام، بالديكتاتورية والعبثية في أثناء إدارتهم النظام السياسي في العراق.
تعال بنا أيها الصديق العزيز، ورابطنا الأساس الحرص على المقاومة، لنقدِّم اعتذاراً مشتركاً لكل مقاوم نكون قد أسأنا إليه –بشكل مباشر أو غير مباشر- ويأتي على رأسهم الرئيس صدام حسين كقائد للمقاومة. وللبعثيين قياديين في المقاومة أو مناضلين في زواياهم النضالية.
وهنا أيها العزيز المقاوم بكلمتك، تعال بنا لنتقاسم المسؤولية في الحقل الذي يمكننا المشاركة فيه، لكي نواجه بعض المناهج التي تلعب دور مقاومة المقاومة. أو تسوق وسائل التخريب على المقاومة.
في ملتي واعتقادي ليس من الديموقراطية في شيء أن نوازن بين العدو والصديق حتى ذلك الذي لا يجمعنا رابط موحَّد في الرؤية السياسية معه. وتنتشر على الساحة الثقافية العربية نماذج منهم.
لا يتورَّع تيار يحسب نفسه أنه ولي أمر المثقفين الليبراليين العرب عن ابتكار شرائع وقواعد في المنطق والنقد لم يعرفه تاريخ الفكر البشري سوى مع السفسطائيين السالفي الذكر، الذين حسبنا أنهم رحلوا برحيل مدرستهم اليونانية، فإذا بنا نراهم يولدون في مقاهي حَمَلَة »البايب« من الذين يتسامرون على أرصفة المقاهي في هذا الشارع العربي أو ذاك. ويعلنون من شوارع »هايد باركهم« ما لا يمكن فهمه أو هضمه إلاَّ أنه يصب في دائرة تعويق بعض ظواهر الصحة في الحركة العربية الثورية. ومن أهم مظاهرها في هذه المرحلة التشكيك بهوية المقاومة العراقية، وبنتائج نضالاتها. يتم كل ذلك بأن ينصِّب حملة »البايب« من اليساريين المشبعين بالتعصب الإيديولوجي أنفسهم أساتذة في التنظير والثورة وصنع أنواع من المقاومة على أمزجتهم…
من مميزات السفسطائيين العرب أنهم يربطون مواقف التأييد لهذه القيمة الإنسانية أو تلك بروابط المحبة أو الكره لهذا الشخص أو ذاك، أو لهذا الحزب أو ذاك. فالقيمة الإنسانية العليا ليست قيمة بحد ذاتها –في مصطلح السفسطائيين- إلاَّ بمقدار ارتباطها بمن ينظرون إليه بعين الحب. فيا ويل القيمة الإنسانية العليا إذا قام بممارستها من ينظرون إليه بعين الكراهية والبغضاء. فإذا أتى العدل ممن لا يحبون فهو ليس عدلاً إنسانياً بل هو عدل موبوء. فلا يتورَّع هؤلاء من شتم العدل إذا لم ينظروا بعين الحب لممارسه.
وعلى مثل تلك القاعدة ابتكروا مكيالاً منطقياً جديداً يقول مضمونه: قبل أن نؤيد عملاً مقاوماً علينا أن نعرف هوية المقاوم. فتناسوا المقاومة كقيمة إنسانية وربطوا تأييدهم لها بهوية ممارسها. فأصبح الممارس (المتغير) هو الفاصل بين تأييد المقاومة (الثابت) أو رفضها. وهذا مَسْخٌ لقواعد المنطق المتعارف عليه في قياس النتائج حسب قربها أو بعدها من هذه القيمة العليا أو تلك. ولهذا رفضوا المقاومة العراقية لأنها تنتسب إلى صدام حسين وحزب البعث.
فلا هم أحبُّوا حزب البعث، ولا هم نظروا –في أية لحظة- بعين الحب لصدام حسين. فأصبح الرفض المطلق لهما ديناً وديدناً. رفضوهما وهما في السلطة تحت حجة ممارستهما الديكتاتورية، وهم ليسوا على استعداد لأن يصدقوا أنهما يقودان المقاومة العراقية، بل يستكثرون عليهما أن يكونوا في شرف الأسر، أو شرف الشهادة، أو شرف القتال ضد قوات الاحتلال الأميركي الصهيوني.
إن نظرة تعصبية تملأ قلوبهم لهي على استعداد لأن تختلق كل وسائل الدعاية ضد حزب البعث والرئيس صدام حسين وهما في السلطة، وتختلق كل الذرائع ومكاييل المنطق المستغرَب من أجل منع أية إيجابية لهما حتى ولو اختاروا الشهادة في سبيل الوطن.
إن منطقاً كهذا، لا شك بأنه ينتمي إلى الجهل القائم على الغرور المعرفي، والتعصب الإيديولوجي، مما نسمح لأنفسنا أن نطلق عليه منطق »عنزة ولو طارت«.
وقام البعض منهم، أي السفسطائيون، ولكي لا يرتكبوا الإثم بعدم تأييد المقاومة العراقية، بتجهيل هوية المقاومة (بمعنى الذي أعدَّ لها ومارسها منذ اللحظات الأولى لوقوع فعل الاحتلال، واستمر في أدائها حتى تحقيق أهدافها كاملة) لأنهم على قاعدة النظر إليها –كقيمة عليا- لا يريدون أن يظهروا بمظهر المتناقض، فراحوا يروِّجون نسبتها إلى هذه الجهة أو تلك، ولكن باستثناء حزب البعث!!!
في رسالة الرئيس صدام حسين، قائد المقاومة العراقية، بتاريخ 17/ 9/ 2003م، وجَّه نداء إلى أبناء الأمة العربية، سواء من الوسط الرسمي أو الشعبي، قائلاً: »إن العراق جزء حي من أمته فليتذكر بقدر همته ونيته قبل أن تفوت على الفعل فرصته، ومن لا يستطيع فيكفينا منه الدعاء الصادق، ومن لا يستطيع أي موقف إيجابي فليكف الله شره عنا وحسبنا الله ونعم الوكيل«.
يتذكَّر الأخ الدكتور أنني لم أكن موافقاً على متن دراسته عن المقاومة فحسب، بل قلت إنني لا أستطيع أن آتي بمثل دقة التعبير الذي أتى به الدكتور الحسيني أيضاً. فليعفنا الدكتور من هذه المسألة التي أصبحت في دائرة الاتفاق التام. والعودة للتذكير بها لا يمكن أن يزيد إيجابية الاتفاق سنتمتراً واحداً.
نحن متفقان يا عزيزي، إذاً، حول مسألتين:
الأولى: حول أهمية المقاومة العراقية وواجب دعمها بشتى السبل. وأكرر: لو فصلت متن دراستك عن مقدمتها وخاتمتها وعن بعض الإشارات (التي جاءت كجمل اعتراضية، والتي وجدت شخصياً أنها جاءت في غير مواقعها) لنصحت بأن تعمم تلك الدراسة على شتى المنابر الثقافية والحزبية التي تؤيد المقاومة العراقية.
الثانية: حول الموقف من عملاء الاحتلال: نحن متفقان حول مسألتين:
-الرفض الكلي لما قامت به تنظيمات وحركات وقوى وأشخاص بالتعاون مع أصحاب المشروع العدواني على العراق، تحضيراً وإعداداً ومشاركة، قبل الاحتلال وبعده. وعلينا أن نقوم بمحاكمتهم حسب قواعد الأمن الوطني والسيادة الوطنية.
-الرفض الكلي لكل عمالة حصلت بعد الاحتلال تسهل استقراره في العراق.
نحن لا نتناقض من حيث المبدأ في التمييز بين الضلالة والخيانة. ولكن التمييز بينهما دقيق جداً، نحتاج للتمييز بينهما إلى شفرة جرَّاح ماهر. والسبب أن لا نصيب ضالاً بتهمة خائن، ولكن على ألاَّ نسمح لخائن بالتسلل من جديد إلى جسم الوطن.
أما الجوانب التي نحن لم نتَّفق من حولها فهي اثنتان:
الأولى إجراء محاكمة عادلة وموضوعية لنظام حزب البعث وللرئيس صدام حسين.
أما الثانية فهي إشكالية تجهيل هوية المقاومة العراقية.
حول الأولى، أرى من الواجب، بعد الكشف الواضح عن طبيعة الخطاب المعارض السابق، أن نغيِّر نحن أيضاً آليات الخطاب النقدي للرئيس صدام حسين، ولنظام حزب البعث. ونحن إذا توصلنا إلى آلية جديدة –بعد أن انكشفت حقائق كثيرة كانت مستورة سابقاً حول المعارضة العراقية- نستطيع أن نقدِّم بحوارنا حول هذا الجانب الكثير الكثير للحركة النقدية السياسية العربية على مستوى أدوات المعرفة ومستوى النتائج النظرية السياسية لتحديد أسس سليمة للعلاقة بين المعارضة والنظام الحاكم.
أما حول الثانية: فترانا نختلف حول مسألة التجهيل اللاحق بهوية المقاومة العراقية:لم يقم الدكتور الحسيني بتوضيح منهجه عندما قام بفصل تعسفي بين المقاومة (كعمل نظري وميداني رائع) وحزب البعث (كصانع للمقاومة إعداداً فكرياً وعسكرياً وممارسة نضالية).
لا يكفي الهروب، نصحاً بالابتعاد عن الفئوية، أن نعطي أوصافاً عامة للمقاومة. فالدكتور صاحب تجربة نضالية في صفوف المقاومة الفلسطينية، وهو لم يخفٍ انتماءه لأحد فصائلها. فإذا كان الإعلان عن الهوية عملاً فئوياً، يحق لنا أن نتساءل: هل كل تنظيم فلسطيني أعلن عن هويته هو فئوي؟ وهل كل تنظيم لبناني مارس المقاومة ضد العدو الصهيوني وأعلن عن هويته هو فئوي؟
فإذا كان من حق كل التنظيمات المقاوِمة أن تعلن عن هويتها، فهل يجوز لغير حزب البعث ما يجوز لغيره؟
وهل الدكتور، وما يمثل من منهج في تجهيل هوية المقاومة العراقية، يشك بدور حزب البعث، بقيادة الرئيس صدام حسين، في الإعداد للمقاومة منذ سنوات؟ فإذا كان يشك أو يشكك، فهل يريحه أن يسود منطق الاحتلال في نسبة المقاومة تارة للقاعدة وتارة أخرى للزرقاوي وطوراً لفلول من هنا أو هناك وطوراً آخر بنسبتها إلى إرهابيين قادمين من خارج العراق؟ وإذا كان لدى الدكتور معلومات لا نملكها فمن واجبه –على الأقل رداً على التشويه المعادي- أن يعلنها.

رد رابع على د. موسى الحسيني
(لم يُنشر الرد بناء على اتفاق إنهاء الحوار)
عزيزي الدكتور الحسيني
بداية أعترف بأننا أرهقنا كاهل القارئ الكريم بكثير من المواضيع التي لا تضيف إلى مخزونه المعرفي أكثر من حواديث تمَّ التقاطها بشكل عشوائي من هنا أو هناك، ورحت يا عزيزي الدكتور تبني أحكاماً عليها تتميَّز بالكثير من التعصب خاصة وأنك قد اتخذت أحكامك بشكل متسرِّع، ورحت تنبش حكاية من هنا، وحكاية من هناك لتدعيم صحة أحكامك.
حتى ادِّعاؤك بمقارنة ثلاث محاولات لمشاريع نهضوية عربية جاء في منتهى التعسف والقصور في التقييم، سواء بانتقاء ما يخدم أحكامك أو بالتركيز على ما هو شكلي فيها على حساب الجوهري، وكأنني بك تريد أن تستخلص من دروس تجربة محمد علي باشا والرئيس الراحل عبد الناصر الجزء السطحي منها، وهو ما يتعلَّق بعملهما من أجل توفير بعض السلع الاستهلاكية للمواطن لتصل إلى تسجيل قصور في مشروع حزب البعث في العراق، المشروع النهضوي العربي الذي يهدف إلى استبدال مجتمع مستهلك بمجتمع منتج على شتى الصعد، أي من مشروع نهضوي قومي شامل (لم يستوعب جوانبه مجلدان كاملان من المعلومات الموثقة) لينحدر به إلى مستوى مشروع لتصنيع »الطماطة والبطاطا«. وكأن حقك الديموقراطي في تقزيم مشروع كبير ببعض جوانب الاستهلاك العادي، يعطيك صفة إرغامنا على التصديق أن المشاريع النهضوية تقوم على الأساس الذي تتصوره أنت.
أنت يا عزيزي تغوى التقاط الحواديث الشخصية والتاريخية (وهنا أترك جانب استخدامك للتاريخ بالشكل السطحي الذي تستخدمه إلى المهتمين بفلسفة التاريخ)، وتهواها، لاستخدامها من دون سياق منطقي لتوظيفها في مصلحة أحكامك التي أصدرتها قبل أن تتمعَّن بالأسباب والوقائع. كما تغوى التقاط جمل منفصلة عن سياقها العام أيضاً. وهذا ديدن المتعصب لرأيه. ومن موقعك الكاره لصدام حسين تزيِّن أسبابك العدائية بكل ما في جعبتك من أوصاف وأسباب، ولا تتورع عن اختلاق ما تريد لدعم الجانب السوداوي من الصورة لتضفي تعتيماً أكثر عليه. وإليك بعض الأمثلة التي تطلق فيها العنان للدفاع بشكل سطحي عن هذا، وإغراق ذاك باللوم والاتهام:
»الغنى المفرط للعراق مقابل الشحة في مصر «، و»تجربة صدام لا تخلو من خلل كبير«، و»نفكر بالصاروخ والقنبلة النووية ونستورد معجون الطماطة «، و»ولا يمكن ان نتهم عبد الناصر بالدكتاتورية «، و»ولم يمارس عبد الناصر القسوة والقمع ضد خصومة بالمستوى الذي مورست فيه بالعراق «، و»في العراق كانت النزعات الدكتاتورية من القوة والشدة «، و»توفرت فرصة للتطور النهضوي الشامل للعراق بشكل لم يتوفر لغيره من الدول العربية «، و»وصلت التطلعات الديكتاتورية عند الرئيس حدا تجاوز الحدود «، »ان هذه مجرد أمثلة للأخطاء القاتلة«، و»ورغم الجروح العميقة التي خلفها النظام «، و»تتحول الشدة إلى منهج عام وقمع حتى من يتفوه بكلمة استياء واحدة «.
لقد تأكد لنا هيمنة ديكتاتورية الإيديولوجيا في اتهاماتك من خلال ما تلصقه من دفاعات عن هذا وذاك (كمثل امتداحك لكل التيارات الوطنية العراقية باستثناء حزب البعث فيقول: »والقوى الوطنية التي ليس هناك من غبار أو حتى نقطة سوداء صغيرة يمكن ان تشوه مواقفها الوطنية «، و»والأسماء كثيرة للجماعات والأفراد ، مع آني أستطيع ان اجزم أن لا أحد من هذه الأطراف استفاد أو فكر في الاستفادة من النظام«)، (وكمثل امتداحك لأخلاقيات شكري القوتلي »لغياب شخصية تمتلك روحية شكري القوتلي في التضحية بالموقع الشخصي من اجل هدف سامي عام «، وردحك بأخلاقيات البعثيين الذين انتهكوا »الثوابت الأخلاقية والوطنية «). ومن تقريع لهذا وذاك، بسياقات عصبوية وليست بسياقات تحكيمية.
تستند في تقييمك للمشاريع النهضوية الثلاثة، وكأنها جزر منفصلة عن بعضها البعض، وكأنها لم تأت في سياقات تاريخية ذات علاقة باستمرارية تاريخية للتغيير التي تمر بها المجتمعات. إن رؤية التاريخ من هكذا منظار تستخدمه يستند إلى منطق البتر والإلغاء للمحطة التاريخية التي لا تلائم مزاجك أو إيديولوجيتك. ولم تقف على الإطلاق عند قوانين التطور والارتقاء التي تضع تلك المشاريع الثلاثة في سياق مترابط يستفيد اللاحق من إيجابيات السابق ويلغي سلبياته. ولذلك قلَّما تجد مشروعاً مبتوراً عن الآخر ليصلح أن نقارن بينها بغاية اختيار أحدها ورفض الآخر، فالمشاريع الثلاثة هي إنتاج لبيئة اجتماعية وفكرية وسياسية تتراكم فيها الأسس المعرفية لتنتج أسساً أخرى تخدم تطور البناء المعرفي للمجتمع العربي.
بعد أن تستحسن مزايا المشروعين (محمد علي باشا وجمال عبد الناصر)، وبعد أن تجرِّد مشروع البعث النهضوي من كل مزاياه وأهميته، تعود إلى الاعتراف بمزاياه مفتعلاً القول بأن »التوجهات النهضوية رغم ما بها من أخطاء كانت هي السبب الحقيقي للعدوان على العراق ، ونظام صدام حسين كجزء منه – وليس العكس«. وكأنك تندم على اعترافك بأهمية المشروع، (الذي أثار خوف الاستعمار ليس لأنه كان فاشلاً بل لأنه كان ناجحاً)، تستعيد سيرتك الأولى بممارسة هواية تجريده من أكثر ثيابه التي تظهر نجاحاته، وتلبسه ثوب الفشل من جديد، فتقول:
-»كانت إحدى الأخطاء التي حارب بها صدام مشروعه النهضوي بتسليمه بأيدي مجموعة من الجهلة عديمي الخبرات «. أنظر يا عزيزي الدكتور إلى مواقع التناقض التي تنزلق إليها من دون دراية وتبصر. وهل يمكن أن ينجح الجهَلَة في بناء مشروع كمثل المشروع الذي عرَّض العراق للعدوان عليه؟؟!!
-أو بتسليم الأمور إلى أجهزة تركض وراء تأمين مصالحها الخاصة، فتقوم بفبركة معلومات عن خطر موهوم لترفع من رصيدها أمام الرئيس »فهي معنية بخلق الأزمات بشكل دائم لتحتفظ بدورها وامتيازاتها ، من هنا يتم تضخيم حجم المخاطر أو تلجأ هذه الأجهزة أحياناً لاختلاقها إن لم تكن موجودة«.
كان من الممكن أن تجد يا عزيزي من يصدق كلامك لو لم تكشف بنفسك حجم المخاطر التي كان يتعرَّض لها الأمن الوطني والسيادة الوطنية العراقية من كثرة تيارات المعارضة العراقية التي علَّبتها أجهزة المخابرات الأجنبية. أو أنه لا يكفيك أن ترى كل أولئك الذين قدموا على دبابات الاحتلال وتسلَّموا ولاية أمر التطبيق الديموقراطي في عراق ما تحت الاحتلال؟! وهل اعترافات علاوي وغيره ممن تعرف الكثير عنهم كانت تضخيماً لما كانت تقوم به بتكليف من أجهزة المخابرات الصفراء والسوداء والحمراء؟! أكفنا شرَّك يا رجل والله نعم الوكيل.
تعتمد على روايات تعترف بنفسك أنها ضعيفة كما يرد في متن نصك »ولا أزعم أني أعرف أدق تفاصيلها «، أو »كما تسربت بعض المعلومات السرية «، أو »ولا نستبعد صحة الرواية «، كروايات منسوبة لبعض البعثيين السابقين أو مما أتحفتنا به عن دور الملك حسين في كشف مؤامرة من هنا أو من هناك.
يظهر من ادعاءات الحسيني أنه مخزن لتجميع الإخباريات التي يعتقد أنها ترقى إلى مستوى المعلومات الموثوقة، وكأنه إما هاو لجمع الإخباريات أو أنه رئيس لجهاز أمني تفوق إمكانياته إمكانيات جهاز رسمي. ويبني أحكامه عليها، وهو يظهر أنه واثق من عدالة حكمه. إن إمكانياته الكبيرة في جمع المعلومات الغث منها والسمين، وبناء أحكامه عليها، يختزل في نفسه أدواراً كثيرة لآخرين: فحرصه على الديموقراطية في العلاقات الداخلية لحزب البعث تظهر وكأنه أكثر حرصاً من البعثيين أنفسهم. وهو يشق أمامنا أنموذجاً جديداً للديموقراطية وفريداً في الوقت ذاته. وكأنه يدعو كل الأحزاب أن تستعين في إدارة شؤونها الداخلية بمراقبين من الخارج. وعليها أن تأخذ بنصائحهم. و إلاَّ يصبحون متهمين بالديكتاتورية.
يصوغ الدكتور الحسيني مبادئه بما يتلائم مع مزاجه الإيديولوجي وبما يتلاءم مع مذمة ما لا يهواه من الإيديولوجيات الأخرى. ومن مستغرَب الأمور أن كل المقاومين يستشهدون من أجل مبدأ وطني سامي إلاَّ البعثيين –عنده- فلا يستشهدون إلاَّ في سبيل العودة إلى السلطة. ويعود السبب عنده إلى عاملين لم يكتشفهما واحد غيره حتى من المغالين أكثر منه في كراهية البعث وكراهية صدام حسين، وهما:
-خيانة قيادات البعث: ويحمِّلها »مسؤولية ما حصل من انتهاكات للثوابت الأخلاقية والوطنية «. و»خيانة قيادات الحزب لهذه الشعارات (أي الشعارات الوطنية)«. و»إن أحداً لم ينهك حزب البعث أو يحبط تجاربه غير قياداته«.
-انحطاط أخلاقية البعثيين الوطنية: »إن البعث لم يستطع ان يسمو بأعضائه لمستوى من الرقي بالالتزامات الوطنية «. ويستطرد الحسيني مرتاح الضمير في مظالمه اللا أخلاقية ليردح بالبعثيين قائلاً: »لذلك نعتقد أن ما يميز البعثي المشارك بالمقاومة الآن عن ذلك البعثي الذي انقلب على نفسه هو ليس مستوى الإعداد أو الدرجة الحزبية بل يعود لعوامل أخلاقية وتربوية لا علاقة للحزب بها«.
لقد أرسلك الشيطان لتعلِّم البعثيين أسس الأخلاق والوطنية. ما أقوله لك ليس أكثر من أنك مدفوع من جماعات تعلم مخاطر اتهاماتك فقامت بتشجيعك لترويج تلك الاتهامات على لسانك، فهي على الرغم من أنها حاقدة على البعث إلاَّ أنها لا تريد أن تسجِّل باسمها أنها تنحدر إلى ما دون سقف الأخلاق، وقامت بتشجيعك لتسجيلها باسمك. يمكنك أن تخلع ثوب الأكاديمية لأن الاتهامات العشوائية ليست من سماتها.
الدكتور الحسيني هو كابن بطوطة السائح بين التنظيمات لا ينتمي إلى تنظيم إلاَّ وتراه خارجاً منه، فحركته الدائمة من تنظيم إلى آخر لا تؤهله لأن يعمِّق معرفته عن تنظيم فتبقى تقييماته سطحية لأنها تلامس ظواهر الأمور، وساذجة في أكثر الأحيان لأنها تلاحق الخبرية الفردية أكثر من النقد الموضوعي للقضايا الاستراتيجية، ومزاجية لأنها تستند إلى رؤية ذاتية وتجربة خاصة.
والدكتور الحسيني رائد لمشروع غريب من نوعه تقوم أسسه على مبادئ الطماطة والبطاطا ولبس النعال…
فكل من لا يعترف للبعثيين بما يستأهلون من صفات المناضلين، الذين قاموا بتضحيات كبرى في سبيل الوطنية فهو جاحد ومأفون، ومكانه في أية زاوية إلاَّ في زاوية الوطنية والأخلاق الثورية. أنت يا عزيزي الدكتور تنعم براتبك ومخصصاتك التي تتقاضاها في مكان عملك بعيداً عن نار العذاب والملاحقة والأسر، مرتاح لتوزيع الاتهامات العشوائية التي لم يسبقك إليها بوش وبلير وشارون وبول بريمر الذي حرق البعثيون أصابعه فراح إلى بلاده ليرتاح ويداوي جروحه التي لن تلتئم.
والتزاماً منا بما قاله صدام حسين رائد الأخلاق وقائده، رائد النضال وقائده. ولكي لا نخرج عن جادة الهدوء ونبتعد عن الانفعال، يكفي أن نعيد ما خاطب به أمثالك بهدوئه وصلابته الثورية المعهودة: » ومن لا يستطيع أي موقف إيجابي فليكف الله شره عنا وحسبنا الله ونعم الوكيل«.
أما دفاعك عن بعض تيارات المعارضة العراقية التي –نؤكد نحن أيضاً أنها- أثبتت أصالتها الوطنية فلا أعتقد أنه يرضيها إلحاحك على محاكمة حزب البعث أو محاكمة صدام حسين. أو دعوته إلى إجراءات نقدية، بعضها من صلاحيات مؤتمرات الحزب الداخلية والتي لا يستطيع أن يتجاوزها أحد حتى ولو أجرتها بعض التنظيمات القطرية المنضوية لقيادة قومية واحدة مع التنظيم العراقي. وبعضها الآخر له علاقات بين قيادة البعث في القطر العراقي والتنظيمات والتيارات الحزبية العراقية التي تقف في صف المعارضة، حيث إن هذه العملية توجب حضور الطرفين على طاولة واحدة، وما الإصرار من قبل الدكتور الحسيني على نصب تلك الطاولات إلاَّ ابتعاد عن الواقع و إلاَّ إصرار على إجراء المستحيل. و إلاَّ فليقل لنا –في هذه المرحلة بالذات- في أي خندق يمكن أن تُعقَد طاولات الحوار؟
وحول هذا الجانب، ولأننا رصدنا نصوص معظم تلك الأطراف إن لم يكن كلها، فلم نجد واحداً منها ممن يقتنع بإلحاح الدكتور الحسيني على المحاسبة والمساءلة والحوار. ولم نجد واحداً منها من ينسب كل الحق إلى جانبه، أو يعمل على تحميل مسؤولية كل الأخطاء لقيادة حزب البعث. إنما الحقيقة التي تؤمن بها كل تلك الأطراف هي أن معركة تحرير العراق من الاحتلال لها الأولوية المطلقة، كما أن لا معنى للعمل من أجل الديموقراطية في ظله.
ولهذا، ولكي لا نطيل بالكلام عن الاتجاه الوطني المعارض سابقاً، سنقتطع الفقرات ذات العلاقة بهذا الجانب من كتابنا الجديد الصادر في بيروت تحت عنوان »المقاومة الوطنية العراقية: الإمبراطورية الأميركية بداية النهاية«.
ولأجل النظر إلى التيارات العراقية المعارضة سابقاً لنظام حزب البعث، نرى أن خرائطها ومواقفها قد تغيَّرت وتبدَّلت قبل الاحتلال بقليل واتَّخذت أشكالاً متمايزة ورسمت لنفسها أهدافاً أخرى ووسائل أخرى. ولأننا رصدنا تلك المتغيرات فيمكننا تقسيمها إلى الأصناف التالية:
الأول: الصنف الذي حسم مواقفه إلى جانب الاحتلال بشكل كلي.
الثاني: الصنف الذي حسم مواقفه إلى جانب المقاومة بشكل كلي ومن دون شروط مسبقة، مستأخراً كل الخلافات السابقة إلى وقتها وظرفها المناسبين.
الثالث: الصنف الذي رفض الاحتلال لكنه شرط رفضه بمحاكمة لما يحسبه ديكتاتورية نظام حزب البعث وصدام حسين.
وإذا كنا متفقين على رفض سلوكات الصنف الأول وإدانتها، ومحاربة أهدافها ووضعها في دائرة الاحتلال ذاته. وإذا كنا –من جانبنا- نعتقد أن مواقف الصنف الثاني يتميز بحس ومسؤولية وطنية سليمة، ومن جانبك لا ترى أن موقفها من العلاقة مع نظام حزب البعث سليمة، والدليل على ذلك انحيازك إلى صفوف الصنف الثالث، أرى أنك يا عزيزي تدخل دائرة التيار الثالث من صنوف المعارضة العراقية السابقة. ومن هنا يجب أن يكون مربط خيل حوارنا.
يا عزيزي الدكتور موسى، ليست تجربتي في الحوار معك جديدة بل هي تجربة قديمة حتى قبل أن أتعرَّف إليك من خلال ما أطلقت عليه اسم كتاب عن المقاومة العراقية. لقد تعرَّفت إليك من خلال منهج معارض شعاره »لا للاحتلال، لا للديكتاتورية«. وهذا التيار/ المنهج يضم في صفوفه كل بقايا الشيوعيين والماركسيين والمثقفين الليبراليين الذين لم يقدروا على تجاوز مرحلة التنافس بين أطراف قوى الثورة العربية على قيادة تلك الثورة. وملفاتهم مليئة بما لذَّ لهم وطاب من الاتهامات ضد حزب البعث سواء كان في السلطة أو في خنادق الثورة.
فإذا كان بعض فلول الماركسيين من الذين يُحقِّرون كل أساس معرفي لا يأخذ الفلسفة الماركسية بكاملها منهجاً لهم في الحياة وهم أسسوا لطبقة مثقفة تمتاز بالغرور والعنجهية، لم يتورعوا عن تصنيف المقاومة العراقية في دائرة المقاومة التي »تُفتِّت الوطن« ليس لسبب إلاَّ لأنها تمتاز بقيادتها البعثية، ولأن البعث أصغر من أن يقتنعوا حتى بإيجابياته، قادهم الغرور المعرفي الماركسي إلى التساؤل عن هوية المقاومة العراقية قائلين: »قبل أن نحدد موقفنا من المقاومة العراقية علينا أن نعرف من يقاتل أولاً«.
أما بعض التنظيمات الشيوعية، ومنها الحزب الشيوعي اللبناني –باستثناء قلة من أعضائه- ينظر إلى المقاومة العراقية من منظار قيادتها القومية عامة والبعثية خاصة، على قاعدة مرحلة التنافس سابقاً حول قيادة حركة التحرر العربية. وهم لم يستطيعوا أن يتخلَّصوا من آثام تلك العقدة. وهي من الأخطاء التي عمل حزب البعث العربي الاشتراكي منذ الثمانينات من القرن الماضي على التخلص منها لخطورتها على مجرى حركة الحركة العربية الثورية. ومن يريد متابعة وقائع هذا الموقف النقدي للحزب أن يعود إلى خطابات ونداءات مؤسس الحزب المرحوم ميشيل عفلق.
وأما حول مواقف المثقفين الليبراليين العرب، فهم لا يرون خلاصاً للأمة العربية إلاَّ من خلال التقليد للفكر الغربي بجوهره وشكلياته في آنٍ معاً. وإذا دعوا للتغيير في البنية المعرفية العربية فلن تتجاوز علاجاتهم نقل البنى المعرفية الغربية مع بعض التعديل الشكلي الذي يتناول شكل التوقيع. إن هذه الشريحة من المثقفين لا تبتعد كثيراً عن الارتباط مع المؤسسات الثقافية الغربية الرأسمالية بشتى الوسائل والسُبُل.
وأخيراً عزيزي الدكتور موسى، لا أخفيك سراً أن المحاورة معك، كانت محاورة مع تيار الصنف الثالث من المعارضة العراقية سابقاً. وهي لا تخلو من الارتباط مع المثقفين العرب، الذين يدَّعون الانتساب إلى تيار المثقفين الليبراليين، وهم يمثلون منهجاً يستند إلى المقدار الذي يسجلون فيه رسائل حب للديموقراطية، كنزعة (موديل) يزينون بشكلها صحونهم الثقافية لأنها تظهر فيها بشكل أجمل، وهم يعتمدون على الشكل أكثر من الجوهر.
وهم يصرون على المساواة بين النضال ضد الاحتلال (هذا إذا كانوا من الصادقين) والنضال من أجل الديموقراطية (التي يعلمون أنه لا مكان لها في ظل الاحتلال). كما يريدون من وراء شعاراتهم أن يحاكموا النزعات الديكتاتورية عند حزب البعث وصدام حسين (على الرغم من معرفتهم أن قيادة الحزب وعلى رأسها صدام حسين أسرى في معتقلات الاحتلال).
إن بسط طاولات حوار مع المنهج الذي تمثل يا عزيزي الدكتور هو نوع من المماحكة قد تسيء إلى المناضلين الحقيقيين، فأرجو المعذرة من وصف الحوار بأنه عقيم، كما أنه مماثل للحوار بين نظام حزب البعث وإدارة جورج بوش قبل الحرب والاحتلال. بحيث كان نظام الحزب في العراق يقدِّم كل البراهين للأمم المتحدة بأنه أصبح خالٍ من أسلحة الدمار الشامل، بينما كانت إدارة بوش تصر على وجودها، فكان منطق بوش يستند إلى قاعدة »عنزة ولو طارت«، لأنه لم يكن يهمه أن يقتنع بمقدار ما كان مصراً على احتلال العراق بسبب أو بدون سبب. وإن الحوار مع المثقفين الليبراليين، أو أولئك المنتمين إلى نزعات إيديولوجية اتَّخذت أحكاماً بالإعدام على تجربة حزب البعث في العراق سواءٌ أكانت مصيبة أم كانت خاطئة، لأنهم مصرون على أحكامهم حتى ولو حضر أرسطو للنقاش معهم حاملاً معه مربَّعه المنطقي بشحمه ولحمه.
دورية العراق 25/11/2004

(68): التهديدات الأميركية ضد العراق: الأسباب والأهداف
مقال لمجلة الوفاق العربي تونس 6/ 9/ 2004

ما هي التأثيرات السلبية للتهديدات الأميركية ضد العراق على الواقع العربي والدولي؟
لماذا التهديدات وإلى أين؟
يدور السجال الراهن حول التهديدات الأميركية الموجَّهة ضد العراق على قاعدة هل تنفِّذ أميركا تهديداتها أم لا تنفذها؟ هل تملك مبررات أم لا؟ هل تحصل على موافقة دولية، أم هي عاجزة عن الحصول عليها؟ هل تحصل على موافقة عربية أم أن العرب يرفضون ضرب فرد من أفراد الأسرة العربية؟ وهل تأخذ على محمل الجد تأثيرات الغضب الشعبي العربي ضد مخططاتها أم أنها تراها هامشية؟ وأولاً، وأخيراً ما هي الأسباب التي دفعت أميركا، ولا تزال تدفعها، إلى وضع العراق في دائرة الضوء الأولى من اهتماماتها؟
تقتضي معالجة تلك الأسئلة حيزاً واسعاً، لأن اختزال المسألة بالتساؤل هل تنفذ أميركا تهديداتها أم لا تنفذها هو تجاوز الأسباب الحقيقية والقفز من فوقها.
إن التهديد بضرب العراق أو غيره من دول العالم، وعلى الأخص دول المشرق العربي، ابتدأ منذ اللحظة التي رسمت فيها الأمبريالية الحديثة خرائط سايكس بيكو، وأعطت للصهيونية وعداً بإنشاء وطن قومي لهم على أرض فلسطين العربية.
ولما ورثت أميركا تركة الأمبريالية الأوروبية الحديثة، وتحوَّلت منذ لحظة التسلم والتسليم إلى أمبريالية أميركية معاصرة، استمر المخطط الأصلي المرسوم. وعنوانه المحافظة على خرائط التقسيم من جهة، والمحافظة على الحاجز الصهيوني المزروع في قلب المنطقة العربية.
كان من بوادر التمرد على إرادة التقسيم الإمبريالية هو ظهور إرادة الوحدة العربية التي قادتها حركات قومية متعددة، وكان من أهمها فكر حزب البعث العربي الاشتراكي. وكان في القلب من إرادة التوحيد العربي استعادة الحق العربي على أرض فلسطين الذي لن يتم من دون اقتلاع الحاجز الصهيوني من جذوره.
لم يكن المشروع الوحدوي العربي، منذ بداية الخمسينات، يمتلك أسلحة الدمار الشامل. ومع ذلك كان يتعرَّض إلى نقمة أمبريالية، تمظهرت بالتآمر على الوحدة السورية المصرية، وإجهاض تأثيرات حزب البعث في سوريا، وإحراز انتصار على العرب في حرب حزيران / يونيو من العام 1967م، والتخطيط إجهاض تأثير حركة المقاومة الفلسطينية بأكثر من أداة وتحت كل الذرائع.
ولما خُيِّل للأمبريالية الأميركية أنها قد بدأت تجني ثمار تآمرها، من خلال جرَّ أنور السادات إلى قاعات تسوية الصراع العربي – الصهيوني وكواليسها، كانت عوائق كثيرة لا تزال تبدي مظاهر المقاومة ضد مخططاتها وتعمل على إعاقتها، وكان على رأس مواقع تلك العوائق يقف العراق رافضاً وداعماً للرافضين، مستنداً إلى عمق فكري سياسي وحدوي عربي، فأصبح العراق منذ تلك اللحظة على رأس أولويات الاستهدافات الأمبريالية الصهيونية.
أصبح العراق، بما يمتلك من عمق فكري ونضالي وحدوي عربي، مُهدَّداً بالقوة، وتحوَّل إلى العدو الذي يحمل الرقم واحد.
لم يكن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، نووية ولا بيولوجية ولا كيماوية، بل كان يمتلك مشروعاً نهضوياً وحدوياً قومياً عربياً، وكان كل عنصر من عناصر المشروع يشكل تهديداً للمخططات الإمبريالية والصهيونية، فكان عرضة للتهديد الدائم، لأن عناصر المشروع كانت تُعدُّ –بالحسابات الأمبريالية- أسلحة فتَّاكة شاملة.
الآن، وفي هذه اللحظة بالذات، دمَّرت المؤامرة الإمبريالية كل مظاهر الأسلحة النوعية التي صنَّعها العراق. والأميركيون متأكدون من ذلك، فلماذا الإصرار على أن العراق ما زال يمتلك تلك الأسلحة؟
إن الأسلحة، بالمنظار الأميركي، وهم على حق، هو ذلك المشروع الوحدوي العربي على صعيد الفكر، ويصبح أكثر خطورة إذا تحوَّل إلى إرادة سياسية تعمل على تطبيقه، وتزداد الخطورة عندما يمتلك المشروع الفكري السياسي أدوات النهضة الحضارية، من تأسيس للبُنى البشرية التي تملك العقل المخطط على شتى الصُعُد ومن أهمها التخطيط والبناء والإنتاج للأسلحة الاستراتيجية، التي بها يدافع العرب عن أنفسهم في عالم مزروع بشتى أنواع الأسلحة، التي يمتلك الأميركيون والصهاينة كل نوع من أنواعها وبكميات أكثر مما يمتلكه العالم أجمع.
إن التهديدات بالعدوان على العراق ليس إلاَّ ذرّاً للرماد في العيون، لأن العدوان حاصل، والعراق لا يتعرَّض للتهديدات بل هو يتعرَّض للعدوان بالفعل. نحن نتلهَّى بالتخمين حول مدى إمكانية أن ينفِّذ الأميركيون تهديداتهم، أي هل يعتدون أم لا؟ بينما الواقع أن العدوان حاصل ومستمر: أوَ ليس الحصار عدواناً؟ أوَ ليس برنامج النفط مقابل الغذاء عدواناً؟ أوَ ليست الوصاية على ثروات العراق وأمواله عدواناً؟ أوَ ليست المطالبة بتغيير النظام عدواناً؟
دُمِّرت أسلحة العراق المادية، وهذا لا يكفي، فالأدمغة التي خططت وأنتجت السلاح هي المطلوبة.
دّمِّرت أسلحة العراق، وهذا لا يكفي، فرأس المشروع الوحدوي الحضاري العربي هو المطلوب.
استسلمت إرادات الأنظمة العربية أمام إرادة السيد الأميركي، وهذا لا يكفي، فرأس النظام العربي الوحدوي كاملاً هو المطلوب، ولن يكتمل مخطط الاستسلام إلاَّ باستسلام آخر مظاهر الرفض العربي، وهو ما يمثله العراق في هذه المرحلة.
ليس على العرب أن يغرقوا في التخمينات والمراهنات، ولا يهنأ الذين لا يتعرضون للتهديد بأنهم بمعزل عن العدوان لأن العدوان عليهم انقضى عهده وتوصَّل إلى نتائجه النهائية عندما باعوا مقدرات شعوبهم الوحدوية وقبضوا ثمنها عدداً من الليرات الفضية، من جيوب بعض أشقائهم العرب. وعليهم أن لا يهنأوا طويلاً لأنه إذا قُضيَ على الإرادة العراقية –كآخر حصن من حصون الرفض العربي- سوف ينتقل السيد الإمبريالي بالقضاء على الحلم الوحدوي العربي بالتوغل إلى مزيد من التفتيت من داخل الكيانات القطرية العربية، فيصبح المشروع الوحدوي العربي حلماً وحاجة خلفية، لأننا سوف نتلهّى بإعادة الوحدة إلى الكيانات القطرية.
استناداً إلى كل ذلك، ندعو إلى اعتبار الدفاع عن العراق وحمايته واجباً عربياً ملحاً، وعلينا ا، ننتقل من مرحلة رفع شعارات التضامن مع العراق إلى واقع المشاركة في معركته التي يخوضها ليس في وجه الإمبريالية والصهيونية، بل من أجل أن لا يموت المشروع الوحدوي العربي، ومن أجل لا يحيا مشروع التفتيتي في الأجسام القطرية، وحينذاك لا ينفع تقريع ولا ندم.
ضُرِب العراق من أجل امتلاكه أسلحة الدمار الشامل. وضُرِب من اجل سعيه الحثيث لامتلاك ناصية التكنولوجيا. وكان من المفروض –بالمنطق الإمبريالي- أن يُضرَب لأنه امتلك –أساساً- الفكر القومي العربي، رافعاً شعارات حزب البعث العربي الاشتراكي في الوحدة والحرية والاشتراكية.
ماذا تعني ملكية العراق لمثل تلك الأسلحة؟
العمل من أجل الوحدة القومية هي الجريمة الكبرى، لأن الدعوة إلى الوحدة دعوة إلى سلوك الطريق الحضاري: الفكري والعلمي.
تراكمت الجرائم التي يرتكبها العراق بحق الإمبريالية، ومن أهم تلك الجرائم: اعتناقه للفكر القومي الوحدوي مخالفاً بذلك وصايا سايكس وبيكو. وعمله من أجل فلسطين متمرداً بذلك على وعد بلفور.
وصايا الإمبريالية وقراراتها بتمزيق الأمة هو المدخل الأساسي لإبقاء التخلف سيداً للموقف، وهي المقياس الذي تكيل الإمبريالية مواقفها من الحركات والقوى والأحزاب والأنظمة على أساسه. فكيف يكون الأمر إذا تلازمت مخالفة تلك الوصايا والقرارات مع النضال العملي ضدها؟
منذ الخمسينات، عملت الإمبريالية بسعي حثيث ومتواصل لإسقاط الأنظمة التي ترفع شعارات الوحدة، وكان ما يقلقها –أشد القلق- تلك المنطلقات الفكرية والسياسية التي انتهجها حزب البعث العربي الاشتراكي. ولم يكن حزب البعث –في تلك المراحل- يمتلك أو يعمل من أجل امتلاك أسلحة نووية أو بيولوجية أو كيماوية.
كان السلاح الذي يشكل هاجساً للإمبريالية هو السلاح الفكري الوحدوي. ولم تستطع الإمبريالية –على الرغم من سعيها الحثيث ومؤامراتها المتواصلة- أن تفل نصل ذلك السلاح. وعملت كل الوسائل واتَّبعت كل السبل: حرب حزيران / يونيو في العام 1967م، وأخضعت نظام السادات في مصر لعملية غسل سياسي أيديولوجي نفسي فأخرجته من تحالف الصراع مع الصهيونية، وحاولت تكبيل المقاومة الفلسطينية وجرَّها إلى مستنقع التسوية، فقامت بحروب متواصلة ضدها، ولكنها لم تحقق الغرض. طوَّقت بكل ما تستطيع الحركة العربية الثورية، على الصعيدين القطري والقومي، ولكنها لم تفلح في مسحها. وحاولت أن تُضعف نظام حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، كآخر وأهم حصن من حصون الرفض الفكري لمخططات الإمبريالية، ولم تنجح.
تستهدف الإمبريالية، أولاً وقبل أي شيء آخر، دكَّ الحصون الوحدوية الفكرية، وتستهدف منع أي كان من امتلاك الحد الأدنى من وسائل الاستمرار. لماذا؟
إذا عرفت ماذا تريد الإمبريالية أن تحققه تستطيع أن تحدد وسائلها وأهدافها.
بنت الإمبريالية، القديمة والمعاصرة، أحلامها على أساس الهيمنة على مقدرات الشعوب الضعيفة كوسيلة من وسائل تحصين نفسها بالقوة من جهة، والمحافظة على ضعف الشعوب من جهة أخرى.
لقد أمَّنت وسائل قوَّتها، وفي المقابل عليها أن تحافظ على جرثومة الضعف في جسد الشعوب الضعيفة. ومن أجل هذا السبب كانت استراتيجيتها تنبني على أساس منع أية أمصال تعمل من أجل مكافحة جراثيم الضعف، فقوَّتها تتضاعف إذا ما حافظت على قوَّتها من جهة وعلى استمرار الضعف عند الشعوب من جهة أخرى.
ضُرب العراق، وحُوصِر، وصُودِرَت أمواله، ووُضِعت وصاية دولية على أمواله. ودُمِّرت أسلحته برضى وتآمر من الأنظمة الضعيفة والهزيلة، واستمرَّت جوقة مطالبة العراق، من قبل الأنظمة الضعيفة بتدمير كل أسلحته. وكأن مطالبتها هو مصدر فخر لها. ولم تكتفِ تلك الأنظمة بما دُمِّر من أسلحة كان يمتلكها العراق بل استمرت تطالب بمصادرة الأدمغة العربية التي صنَّعتها، وبالمخططات النظرية التي وضعتها. فهم يخشون من الأسلحة، ولكن خشيتهم الأكبر هي من امتلاك الدماغ الذي يخطط لها ويُصنِّعها.
فإذا كانت مصلحة الإمبريالية أن تُبقي الأمم ضعيفة، فأين تكمن مصلحة الأمم الضعيفة؟ فهل تكمن بالإصرار على المحافظة على ضعفها؟ يا للعار!!!
أسلحة العراق الفكرية والمادية، سواء كانت الثروة المادية أم الثروة الفكرية، ليست ملكاً للعراق لوحده، بل هي ملك للأمة العربية في كل مكان وزمان.
الدفاع عن إمكانيات العراق دفاع عن جزء من إمكانيات الأمة، كما إظهار الحرص على إمكانيات أي قطر عربي هو حرص على إمكانيات الأمة العربية مجتمعة.
لماذا تقف، حتى الأنظمة العربية، ضد العراق؟ لماذا تُطالب تلك الأنظمة العراق بتطبيق قرارات هيئة الأمم المتحدة، ولا تطالب »إسرائيل«؟
تخشى الأنظمة الضعيفة أن تهتَّز الأرض تحتها، لأنها تعرف أن عروشها مصنوعة من الخشب الإمبريالي. لكنها لو استندت إلى خشب شعوبها لكانت أقوى وأكثر رسوخاً.
إن استهداف العراق، وسوف يبقى مستهدفاً، سواء بالعدوان أو التهديد باللجوء إليه، ما دام رافضاً أن يبني عرشه من خشب إمبريالي، بما يعنيه من رهن إرادته وحريته السياسية، وبما يعنيه من رهن لثرواته للهيمنة الإمبريالية، وبما يعنيه من البقاء في موقع التابع، وفي موقع المستهلك، وفي موقع من ينتظر من يفكر عنه وبمستقبله.
إن العدوان المستمر على العراق، بما فيها قرارات مجلس الأمن، حتى ما يطلقون عليه زوراً، القرارات الإنسانية، هو عدوان على حرية شعوب الأرض بشكل عام، وعلى الشعب العربي بأكمله بشكل خاص. فهو مصادرة واضحة ووقحة لحق الشعوب في الحرية الفكرية والسياسية والاقتصادية.
لقد أثبتت طبيعة العدوانية الإمبريالية أنها عدوان ضد كل شعوب الأرض التي لا ترضى أن تبقى في موقع التابع. فالدفاع عن العراق، أو في أضعف الإيمان رفض السياسة الإمبريالية، هو دفاع عن القيم الإنسانية لكل الشعوب.
فإذا كانت الأنظمة خانعة خاشعة خاضعة أمام السيد الإمبريالي، فأين تقع مصالح الشعوب في الخنوع؟
الأنظمة تؤمن الاستمرارية لمصالحها. وتبقى الشعوب في موقع المستنزَف من أنظمتها التي تستنزفها مصالح الإمبريالية. فهي مُستنزَفة على أي حال، فهي لن تخسر شيئاً إذا وقفت إلى جانب من يمثِّل مصالحها ويطالب بها ويقف متحدياً القوة التي تستنزفها، ليس عند الشعوب ما تخسره في الوقوف على الحياد. بل الوقوف إلى جانب من يعبِّر عن مصالحها هو الموقف الحق والأصيل، وهو أضعف الإيمان.
لن نطالب الأنظمة بأن تكون الحياد أيضاً، ولن نتمنى على أي نظام أن يتوسَّط لدى المعتدين لمنع العدوان المستمر على العراق، مع العلم أن الاعتداء مستمر بشتى الأشكال والوسائل، وليس العدوان هو فقط ما ننتظره من عملية عسكرية، نتوهم أنها إذا لم تحصل أن ليس هناك عدوان. نحن لا نطالب أن نمنع الضربة العسكرية المرتقبة وكأن أميركا قد اختزلت العدوان وحاولت أن توحي لنا أنها لا تمارس العدوان في كل لحظة، فنحن نعتبر أن العدوان حاصل ما دامت إرادة العراق مكبَّلَة وما دام الحصار مفروضاً عليه، وما دامت لجان التفتيش تقوم بدورها. أليس من العار أن نطالب من العراق أن ينزع أسلحته حتى إذا وًجِدت؟
أليس من العار، في ظل عالم تمتلك فيه عشرات الدول أسلحة من نوع وبأية كمية، أن نعتبر أن العراق هو المخطئ الوحيد في ظل عالم يسوده السلام، في ظل عالم ينتزع السلاح من على سطح الكرة الأرضية. أوَ ليس من العار على العرب، بشكل خاص، والمسلمين بشكل عام، أن تكون مطالبتهم للعراق بالتقيد بالقرارات الدولية هو مطلب حق؟
نحن لا ندعو العراق، أن يتخلَّص من أية أسلحة، هذا إذا كان يمتلكها بالفعل، بل علينا أن نطالبه بامتلاك تلك الأسلحة كجزء من موجبات الدفاع عن نفسه وعن غيره من العرب في ظل عالم مملوء بكل أنواع الأسلحة، ولن نقول على رأسهم ترسانة العدو الصهيوني النووية والجرثومية والبيولوجبة!!!
فليقل لنا الحريصون على الشرعية الدولية: هل هم مقتنعون أن المنطق الإمبريالي هو النظام الذي يمكن أن يحقق العدالة والمساواة بين دول العالم؟



(69): ندوة التضامن مع علماء العراق
أيلول 2004
من أهم هموم المثقفين والمفكرين العرب هو تأسيس حركة نقدية تطول الأسس التي يتصورون أنهم بها يبنون أعمدة صلبة لثقافة عربية يواجهون بها متغيرات العصر. من أهم الأسس التي على الثقافة العربية المعاصرة أن تنبي عليها، تطول كل ما له علاقة بالفكر العربي والعقل العربي والخطاب العربي.
أما أهداف الحركة النقدية العربية المعاصرة فهي أن يتوجَّه الفكر والعقل العربيين إلى اكتساب علوم العصر في شتى حقولها ومجالاتها، وهي خطوة ضرورية لملاقاة التطور المعرفي الهائل في عصرنا، ومن أهمها الانتقال إلى مجال العلوم التكنولوجية. ومن شروط الانتقال السليم أن يتم توظيف المعرفة المعاصرة في خدمة مصالح الأمة العربية. فمقاييس العصر، إذاً، هو أن ننتقل إلى عصر الإنتاج الذاتي وبه يتحول مجتمعنا العربي من مستهلك إلى منتج.
في العراق، القطر العربي الشقيق، نشهد انتقالاً مشرفاً للعقل العربي في بناء الأنموذج النظري والتطبيقي للثقافة العربية المعاصرة. لقد أثار إعجابنا عدد ونوعية العلماء العراقيين. كما أثار اهتمامنا وانتباهنا كثرة المنجزات التي قاموا بتحقيقها.
لقد شدَّتنا التهويلات الأميركية على العراق إلى متابعة شاشات التلفزيون التي رافقت أعمال فرق التفتيش الدولية فيه، فشاهدنا ما لم يكن الكثيرون يصدقون أنه قد انتقل إلى العصر الصناعي، مستفيداً من الثورة التكنولوجية المعاصرة. وما كنا لنصدق لولا أن شاهدنا تلك المنجزات بأم العين.
من خلال تلك المتابعة ظهرت أمامنا أهداف التحالف الأميركي – الصهيوني واضحة لا لبس فيها ومن أهمها السيطرة على ثرواتنا كهدف مباشر أولاً، ومنع العراق من الانتقال إلى عصر المعرفة التكنولوجية وتطبيقاتها ثانياً. فعندما عرفنا عدد العلماء العراقيين ولمسنا حجم إنتاجهم الفعلي عرفنا عمق مؤامرة ذلك التحالف ولمسنا شدة إلحاحه وفقدانه الصبر من أجل منع العراق، والأمة العربية بكاملها، من الانتقال إلى العصر المعرفي، النظري، والأشد منه خطراً الانتقال إلى العصر المعرفي التطبيقي.
حقق العراق، من خلال علمائه، تلك القفزة العلمية التي كنا نريدها، على أن تكون مبنية على التكامل بين رسالة العالم في اكتساب الثقافة النظرية أولاً، وتوظيف تلك المعرفة من أجل مصلحة مجتمعه الوطني والقومي ثانياً.
لما أبى العالم العراقي إلاَّ أن يوظِّف ملكته العلمية إلاَّ في صالح أمته، أصبحنا لا نتعجب إذا وجدنا أن المؤامرة، من خلال لجان التفتيش، قد انصبَّت على محاولة إهانة العلماء العراقيين وإذلالهم، كخطوة تمهيدية لشل فعالياتهم.
لكن العلماء بدورهم، بإبائهم المعروف، في الدفاع عن كرامتهم وكرامة وطنهم وأمتهم، وقفوا بما يشرِّف في وجه لجان التفتيش، لجان التجسس على العقل العربي والقيام بمحاولاتهم لإهانته وممارسة الإرهاب عليه.
أيها الحضور الكرام، أنتم الذين تمثلون طليعة هذه الأمة، بفكركم وثقافتكم ووعيكم ورسالتكم المعرفية، نتوجه إليكم بأن تنظروا إلى واقع الأمور بموضوعية وتجرد بعيداً عن أي غرض أو هوى، ونضع أمامكم تساؤلاً طالما حاول بعض أصحاب الوطر أن يمرروه تحت ستار دعوة الخداع الأميركية – الصهيونية في إعطاء الأولوية في معركة العرب اليوم، إلى تغيير الوجه السياسي للنظام، من خلال طرح مسألة الديموقراطية في العراق. والتساؤلات التي نضعها أمامكم هي التالية:
1-كيف نفهم علاقة المثقف مع النظام السياسي، (أي العلاقات الديموقراطية على مستوى الوطن الواحد).
2-العلاقات الدولية، (أي العلاقات الديموقراطية بين الدول).
أما على صعيد المسألة الأولى، فنتساءل: هل يطمح المثقفون العرب من أي نظام سياسي عربي، في عصر التحدي الإمبريالي التكنولوجي، أكثر من أن يعمل بجدية لبناء العقل العربي الذي يتجاوب مع متغيرات العصر؟ وهل يطمحون إلى أكثر من اكتساب العلوم النظرية المجردة أولاً، وتوظيفها في خدمة الأمة العربية ثانياً؟
أوَ ليس من الديموقراطية في شيء أن تُشيَّد علاقة جدلية بين النظام السياسي، وبين أنموذج المثقف العربي المالك للمعرفة والموظفها في مصلحة وطنه وأمته؟
وهنا نقول إن الأنموذج العلمي العراقي، بمواصفاته التي ذكرنا، لم ينبن من دون تخطيط النظام السياسي لآفاقه ووظائفه التي أثارت حفيظة التحالف الأميركي – الصهيوني
أما المسألة الثانية، فهي أن نميِّز بين ديموقراطية الرأسمال الأمبريالي، الذي لا يعترف بأية حقوق للآخرين إلاَّ إذا صبَّت في مصلحة جشعه واستغلاله، وبين ديموقراطية الدول الأخرى صاحبة الحق في توظيف كل أنواع المعرفة لمصلحة أوطانها.
بعيداً عن اللهجات الديبلوماسية ومفاوضاتها، على المثقفين العرب الذين ينظرون إلى مصالح أوطانهم أن يعيروا ما يُسمى »ديموقراطية العلاقات الدولية« اهتماماً موضوعياً. ومن خلالها نرى أن من أهم أسس تلك الديموقراطية أن ندافع عن حقنا في امتلاك كل ما يؤمن لنا حماية مصالحها والدفاع عنها.
وهنا، كيف علينا أن لا نشعر باعتزاز عندما نمتلك من أنواع السلاح الذي يحقق تلك الحماية ويحفظ لنا مستوى عالٍ من الأداء في الدفاع عنها؟ وهنا لا يسعنا إلاَّ أن نقول بأن لنا كل الحق بامتلاك السلاح.
ولتذهب الديبلوماسية إلى أين تشاء. ونحن لسنا مع ديبلوماسية تكرِّس منطق اللاديموقراطية في العلاقات الدولية. ونحن لن نكون الديبلوماسيين الوحيدين في عالم تقوم فيه الديبلوماسية على الرضوخ لمنطق الأقوى. أما منطقنا نحن فهو إما أن تكون العلاقات الدولية قائمة على ديموقراطية حقيقية وإما لا تكون.
ومن المؤسف جداً أن تقع كثرة من وسائل الثقافة والإعلام العربية، أفراداً ومؤسسات، في فخ منطق الديكتاتورية الإمبريالية التي لا تستطيع أن تنظر إلى الديموقراطية إلاَّ من منظار الهيمنة والاحتكار. ومن خلال منطقها هذا توزع الشهادات في الديموقراطية والديكتاتورية على هذا أو ذاك من الأنظمة السياسية في العالم بشكل عام، وفي منطقتنا العربية بشكل خاص.
وكي لا تتلهى قوى الإعلام بالتسابق حول تحميل العراق هذا الجانب من المسؤولية أو ذاك، داعية إلى نزع الذرائع التي يتلطى بها التحالف الأميركي - الصهيوني . على العرب كل العرب أن لا يقفوا على الحياد في الصراع الدائر تحت ستار هش من الديبلوماسية، فحسب، بل عليهم أيضاً أن يقفوا إلى جانب العراق، بعلمائه ونظامه وشعبه، للدعوة إلى بناء نظام عربي عصري منتج من جانب؛ أما من جانب آخر فهو الدعوة إلى بناء أنظومة دولية تعترف بحق كل الشعوب بالعيش الكريم، وامتلاك وسائل القوة للدفاع عن تلك الحقوق. وإذا لم يكن هذا فالدعوة إلى نزع كل وسائل الهجوم والدفاع من كل الدول بدون استثناء.
والسلام عليكم وشكراً لاستماعكم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق