بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 22 يناير 2010

مقالات العام 2005 (2)

(18): عوامل القوة والضعف في الاستراتيجية الأميركية باحتلالها العراق
(دراسة قُدِّمت للسفارة الكوبية بناء لطلبها)
إذا كنا ننظر إلى عوامل القوة من زاوية الإمكانيات المادية والعسكرية فمن السذاجة أن نحسب بأن هناك قوة تضاهي قوة الولايات المتحدة الأميركية أو تقترب من حدودها أو التفكير بامتلاك ما يوازيها في المدى المنظور. لذلك نرى أن الانخراط في مشاريع الإعداد للحصول على ذلك التوازن لهو ضرب من الوهم. خاصة وأن أمامنا مثال لم يمض عليه حين من الزمن لكي ننساه أو لا نأخذه بعين الاعتبار. وليس هناك أوضح من مثال مرحلة التنافس الاستراتيجي التي انخرطت فيها منظومة الدول الاشتراكية المعروفة بالاتحاد السوفياتي سابقاً في سباق التسلح مع الولايات المتحدة الأميركية، وهي بلغت أوجها في أواخر الستينيات من القرن الماضي. فلم تكن نتائج التنافس إلاَّ إغراق الاتحاد السوفياتي بالكثير من الأعباء المادية التي عجز عن تحملها وبانت مظاهر عجزه منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي مما أجبر الاتحاد –في تلك المرحلة- إلى الخضوع لمنطق الحرب الباردة، أي إدارة الصراع بين القوتين الأعظم على طريقة الحروب بالواسطة، إلى أن بلغت مرحلة حرب النجوم مداياتها القصوى، مما اضطر الاتحاد السوفياتي إلى التراجعات المنظمة فبلغت مدياتها القصوى في أوائل التسعينيات حين انهارت منظومة الدول الاشتراكية وتفسَّخت وانفتحت أبواب دولة «الستار الحديدي» أمام الغزو الرأسمالي الأميركي كما انفتحت أسواقه أمام زحف «اقتصاديات السوق» الأميركية.
إن استخدام مقاييس القوى العسكرية كآليات نكيل بها نتائج الصراع ضد أقوى قوة رأسمالية في العالم يشكل عائقاً مأساوياً وسودادوياً أمام الشعوب التي ترمي إلى التحرر والاستقلالية، تلك الشعوب التي تريد أن تسهم في بناء عالم تعيش فيه بأمان واطمئنان. تطمئن فيها إلى حماية سيادتها على قرارها السياسي المستقل كما تطمئن على سيادتها الوطنية، أرضاً وثروات طبيعية. وعلى حماية حدودها الوطنية من الغزو والعدوان.
فهل ما طرحه أرباب الإيديولوجيا الإمبراطورية الأميركية حول نهاية التاريخ المتمثل بسيادة «ديموقراطية رأس المال» يشكل الحقيقة النهائية التي على الشعوب أن تخضع لها وتلتزم بها؟
وهل تشكل تلك الدعوات نهاية لصراع الشعوب المضطهدة ضد مضطهديها والمهيمنين على قراراها وسيادتها وثرواتها؟
وهل تلك الدعوات إلاَّ لزرع الإحباط في نفوس تلك الشعب في حماية حقوقها فتستسلم إلى منطق «الحق للأقوى»؟
وهل تلك الدعوات إلاَّ انتصار لمرحلة إلغاء القيم الإنسانية من قاموس المعرفة الإنساني، ومن خلالها تتحول كل نظريات السعادة والمجتمع السعيد إلى استسلام للضعفاء أمام إرادة الأقوياء؟
تلك أسئلة لن تلقى جواباً يحمل اليقين والتفاؤل أمام مليارات البشر الطامحة إلى نيل حقوقها في مجتمع عالمي إذا ظلت آليات التفكير السابقة سائدة. فما هو الحل؟
ليست آليات قياس صراع التناقضات التقليدية إلاَّ مثاراً للمزيد من التشاؤم واليأس. والحل يكمن في تغيير تلك الآليات. وحول ذلك سنحاول –من خلال دراسة الأنموذج العراقي في الصراع كآخر تجربة تخوضها قوى التحرر في العالم- أن نلقي الضوء حول ما نراه تجديداً في تلك الآليات.
أولى النتائج التي نستخلصها، في محاولة لتحديد عوامل القوة في الاستراتيجية الأميركية، لا ينعزل عن أن أميركا قد بنت أسس التفوق المادية والعسكرية بما يجعلها أهم العوامل التي من غير الممكن توفيرها لأية دولة في العالم. وإذا كانت تلك البنى قد أمنَّت لها وسائل القوة المطلقة فلا يعني هذا اعتزالاً عن مواجهتها، وتجميد قوانين صراع المتناقضات، لأن في الاستسلام لها إنهاء لحركة التاريخ، وهو استجابة لأوهام الإيديولوجيا الأميركية التي تعمل لإنهائها عند حدود إيديولوجيتها.
بداية، نرى أن الآلة العسكرية النظامية لن تحكم الحجر والبشر إلاَّ من خلال بناء أنظمة سياسية وأمنية تساعدها على الإمساك بإرادة الشعوب. فالآلة العسكرية القوية تحمل عوامل ضعفها أيضاً. فالآلة العسكرية المتطورة –في مقاييس الحروب النظامية- تنتصر على آلة أخرى أقل تطوراً على شرط أن تكون ظاهرة للعيان. أما الآلة العسكرية مهما بلغت من التطور، فلن تصمد في مواجهة غير مباشرة يقوم بها بشري يظهر فجأة مع آلة خفيفة تخترق دفاعات الآلة المتطورة ثم يختفي.
لا نقصد بالآلة الأقل تطوراً الجزء المادي فيها فحسب، وإنما التكامل بينه وبين الجزء الثقافي هو ما نقصده. فالبنية الثقافية تشمل الإعداد الفكري والإيديولوجي والنفسي للإنسان حول قيم إنسانية ووطنية على قاعدة أن الحياة بغياب تلك القيم لن تكون مجدية في جانبيها المادي والروحي معاً. ومن جملة تلك القيم «رفض الاحتلال» و«مقاومته» لأنه يتناقض مع حرية الشعوب وإرادتها في العيش بكرامة. ولأن آليات الدفاع عن تلك القيم لا يخضع لعوامل الصراع المادية، بل يخضع أولاً إلى مدى اندماج الثقافة التحررية في نفس الإنسان، وقناعته بإمكانياته، مما يدفعه إلى ابتكار الكثير من الوسائل الهادفة للدفاع عن قيمه. فالحافز للدفاع، قبل أي شيء آخر، هو ثقافي نفسي لا بدَّ من أن يتصِّف بدرجة عالية من الإيمان بقضيته. وبإعطاء عامل التكوين الثقافي أهميته، تبدأ عوامل القوة التي تتميز بها الآلة العسكرية، كعامل قوة للجيش المحتل، بالانحدار نحو نقاط الضعف.
إن إرادة المقاوم «الشبح»، مستخدماً السلاح الشخصي (وقد يكون أقل الأسلحة نوعية تكنولوجية)، هي آلية جديدة تستخدمها الشعوب الضعيفة في مواجهة عوامل القوة الإمبريالية. وحيث إنها أثبتت نجاحها في الكثير من ثورات العالم، ومنها ثورة كوبا وفييتنام والجزائر ولبنان وفلسطين، وأخيراً –وليس آخراً-العراق، فهي تمثل تلك الآليات الجديدة التي يمكن إدخالها في إعادة التوازن العسكري الاستراتيجي بين القوي والضعيف. وهذا العامل بدوره يمكن دراسته من خلال آخر تجربة في الصراع بين الشعوب القوية بآلتها العسكرية والشعوب التي لا تمتلكها والتي لا تستطيع أن تمتلكها إلاَّ إذا كانت لها إمكانيات الولايات المتحدة الأميركية.
إن التجربة الماثلة أمامنا، هي تلك التي يخوضها العراقيون الآن في مواجهة الاحتلال الأميركي منذ نيسان من العام 2003م. وتلك التجربة تتميز بما لم تمتاز به الثورات التي سبقتها، ومن أهمها: التطور الهائل الذي أحرزته القوات العسكرية الأميركية والذي كان غائباً في التجارب الأخرى ومنها الحرب في فييتنام من جهة، والحصار الملفت للنظر الذي تواجهه المقاومة العراقية من جهة أخرى. أما تلك المميزات والعوامل فلم تلعب أي دور مؤثر في فعالية تلك المقاومة التي أعطت نتائج سريعة وكبيرة وملموسة في إيقاع عوامل القوة الأميركية في مأزق لم تستطع إخفاءه.
إذا كان مأزق الولايات المتحدة الأميركية قد ظهر في أوضح صورة له في العراق إلاَّ أنه لا ينفصل على الإطلاق عن مضمون المشروع الإمبراطوري الأميركي وروحه، باتجاهاته وأهدافه، بوسائله وأساليبه.
ولهذا نرى أن نطل على عوامل الضعف فيه كمشروع نظري إيديولوجي أولاً، وبالتالي على تلك العوامل التطبيقية ثانياً. كما نرى أن أفضل إطلالة وأوضحها هو النظر إليها من زاوية العدوان على العراق واحتلاله.
طبيعة المشروع الأميركي الراهن واتجاهاته:
لا خلاف حول أن الإيديولوجيا الأميركية هي إيديولوجيا الرأسمالية، فقد لعبت في تكوين تلك الإيديولوجيا عوامل «إيديولوجيا الغزو الاستيطاني» الذي نفَّذته النخب الاقتصادية الأوروبية منذ القرن الخامس عشر عندما قامت بغزو القارة الأميركية. ولأن تلك الطبقة احتكرت المؤسسة السياسية منذ تلك الفترة، فقد طبعت إيديولوجيا السلطة السياسية بطابعها وحكمت أميركا على منوالها، وتلك الإيديولوجيا –بحكم التطور التاريخي- ظلَّت محكومة بإيديولوجيا رأس المال من جهة، ومطبوعة بإيديولوجيا الغزو لتوسيع مساحة أكبر لاحتكارات الشركات من جهة أخرى. فالبناء السياسي والاقتصادي الراهن هو وليد إيديولوجيا تجربة غزو الرجل الأبيض الأوروبي للقارة الأميركية. فإيديولوجيا الغزو –طمعاً بالاستيلاء على أرض جديدة ذات ثروات طبيعية- وجدت ضالتها في تجربة تكوين الولايات المتحدة الأميركية. وعلى طريقة احتلال الأرض وبناء مؤسساتها السياسية والاقتصادية كانت الإيديولوجيا الأميركية أعلى قمم الرأسمالية في العالم. ومن بناء تلك القوة أخذت الولايات المتحدة الأميركية تحتل مركز الصدارة في قيادة العالم الرأسمالي منذ الحرب العالمية الأولى. وبفعل تراكم عوامل الضعف في بنى الرأسمالية الأوروبية –التي هي أكثر عراقة وأعمق تاريخية- ازدادت عوامل تأثير القرار الأميركي في نسج وتكوين الإيديولوجيا الرأسمالية المعاصرة. لذا أخذت، شيئاً فشيئاً وخطوة خطوة تمد شباكها في العالم وتصطاد كل القوى الكبرى وتضعها في سلتها، لذا –ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية- أصبحت الولايات المتحدة الأميركية تمثل رائدة للرأسمالية العالمية.
وهنا، يجب أن لا تخدعنا طبيعة الديموقراطية في الولايات المتحدة الأميركية من خلال وجود حزبين. فالحزبان لا ينتميان إلى إيديولوجيات متناقضة بالجوهر، بل تجمعهما إيديولوجيا الرأسمالية، وإذا أنتجت تغييراً فلن يبتعد عن التناوب في رئاسة الإدارة السياسية وليس في المضمون الإيديولوجي. إذن، لا خلاف حول أن الحزبين الرئيسيين –الديموقراطي والجمهوري- هما المعبران عن الإيديولوجيا الرأسمالية الأميركية، فكل منهما يهدف إلى احتواء العالم وتوظيفه لخدمة الرأسمال الأميركي، وما تناوب السلطة بينهما إلاَّ مظهر من مظاهر التناقض بين تيارات الرأسمال العالمي. كما أننا نرى في داخل الإيديولوجيا الرأسمالية تناقضاتها الخاصة. فالدول الرأسمالية تعزز عوامل قوتها الذاتية من أجل التسابق على الأسواق الاقتصادية، ثروات طبيعية ومستهلكين للسلع. وتلك هي التناقضات التي يُعوَّل عليها في اختراق الجدار الرأسمالي فتشكل عوامل الضعف الأولى أمام الخارج. ويبدو أن تنازل دول نادي المنظومة الرأسمالية لقائدها الأميركي عائد إلى موازين القوى العسكرية الاستراتيجية، ففي ميدان التسابق بينها لا يمكن لأحد في تلك الدول من يستطيع المزاحمة والانتصار في الصراع بين مصالح تلك الدول.
وهنا يمكننا أن نرصد مظهرين من مظاهر التناقض في داخل التحالفات الرأسمالية، ونحن نتطرق إليها لأنها تخدمنا في تحديد أكثر وضوحاً لمظاهر الضعف في المشروع الأميركي:
المظهر الأول: واقع التناقض بين تحالف أصحاب الشركات الأميركية، ويظهر من خلال الجدل الواسع بين إيديولوجيا الأمة الأميركية القوية والإمبراطورية الأميركية القوية.
في داخل كل تجمع رأسمالي، على القاعدة الوطنية أو تشكلات الدولة الرأسمالية المحصورة الحدود الدولية، تناقضات بين أصحاب المصالح الرأسماليين، ففي داخل الكارتلات الرأسمالية الوطنية الأميركية حالات من التناقض ذات السمات الخاصة تعمل فيها المؤسسات الكبرى على احتواء المؤسسات الصغرى والهيمنة عليها. تلك الحالة برزت في أوضح صورها في العقود الأخيرة من تاريخ الولايات المتحدة الأميركية. والمتابع لطبيعة الجدل الدائر في داخل البيت الثقافي والمعرفي الأميركي يرى أن هناك بذوراً من التناقضات حول استراتيجيتين:
الأولى وتتمحور حول بناء الأمة الأميركية القوية التي عليها أن تعمل على احتواء العالم ومصادر ثرواته من خلال اللعبة التقليدية في لعبة التنافس الحر بين الشركات الأميركية نفسها، أو التنافس بين تلك الشركات من جهة والشركات في دول العالم غير الأميركية من جهة أخرى.
أما الثانية، وهي التي تمثلها إيديولوجيا أصحاب «القرن الأميركي الجديد»، فتتجه نحو تأسيس الإمبراطورية الأميركية حسب قواعد الغزو العسكري والاحتواء القسري. تلك الاستراتيجية التي أخذت تعد نفسها وتحضِّر الأجواء لتنفيذ إيديولوجيتها منذ هزيمة الولايات المتحدة الأميركية في الحرب الفييتنامية في العام 1973م. وهي تلك الطبقة نفسها التي كانت وراء غزو فييتنام، وحمَّلت فشلها إلى الحركة اليسارية العالمية بالتعاون مع حركة يسارية أميركية كانت ناشطة في تلك المرحلة، لذا تضمَّنت إيديولوجيا أصحاب الحلم الإمبراطوري حقداً خاصاً على حركة التحرر العالمية من جهة واستخدمت كل الوسائل من أجل اجتثاثها من المجتمع الأميركي من جهة أخرى.
لم تكن معركة الانتخابات بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي في العام 2000م إلاَّ أحد مظاهر الشبق اليميني الأميركي للوصول إلى رئاسة الإدارة الأميركية لأنها اعتبرت أن مرحلة التمهيد لمشروعها الإمبراطوري قد اكتملت، ولم يبق أمامها إلاَّ أن تبدأ بالتنفيذ. فكانت إدارة جورج بوش هي تلك الفرصة المتاحة لتصدير أميركا إمبراطورة على العالم بقوة الآلة العسكرية وقوة الإيديولوجيا التي اكتمل نضجها واكتملت عوامل إنجاحها.
المظهر الثاني: خارجي وهو حالة التفسخ الواضح بين منظومة دول النادي الرأسمالي:
وما حالة الافتراق الواضح في المواقف حول غزو العراق بين بعض دول أوروبا والإدارة الأميركية إلاَّ أكثر الأسباب وضوحاً. فإذا كان تيار المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأميركية يعمل على احتواء الشركات الأميركية الأقل حجماً من الشركات التي تدعمه وتؤيده، فكم يكون الأمر واضحاً أمامنا في تشخيص طبيعة العلاقة بين تلك الشركات مع شركات دول العالم الرأسمالي الأخرى؟
ولما لم يكن في مشروع المحافظين الأميركيين الجد ما يمكن إخفاؤه، شعرت منظومة الدول الرأسمالية بالمخاوف على مصالحها. وكان من أكثرها انتباهاً واهتماماً ومتابعة وممانعة هي فرنسا وألمانيا. ولذلك كانت أهم مظاهر ممانعتها وضوحاً في القضية العراقية. لكن إدارة المحافظين الأميركيين الجدد لم تأخذ عوائق الممانعة الأوروبية على محمل الجد، بل كانت عازمة على تنفيذ مشروعها معتمدة على إمكانياتها الذاتية. لكن محاولتها –قبل احتلال العراق- كانت تهدف إلى الحصول على غطاء شرعي أممي فقط، فأما الإمكانيات العسكرية والمادية فلم تكن مما يعيقها فهي تمتلكها بما يحقق لها النجاح في مراحل الاحتلال الأولى، أما بعدها فقد خدعت نفسها وخدعت العالم بأن الاحتلال لن يكون إلاَّ نزهة من بعدها تعود إلى محاسبة الذين امتنعوا عن تغطية عدوانها ومساءلتهم. كما أن الثروة النفطية في العراق ستكون ملك يديها وتعوض من عائداتها ما دفعته من نفقات الغزو الأولى ومن بعدها لا يمكنها تعداد الفوائد التي ستجنيها على شتى الصعد، وهي وإن كانت الفوائد الاقتصادية الأكثر جذباً لشهية الرأسمالية الأميركية إلاَّ أن لها فوائد سياسية وعسكرية وأمنية كثيرة، ليس أقلها تحقيقاً لإمبراطورية أميركية تحكم العالم مباشرة وليس بشكل غير مباشر.
لقد راهنت إدارة «القرن الأميركي الجديد»، أو إدارة المحافظين اليمينيين الأميركيين الجدد على عامل السرعة في احتلال العراق لوضع الخصمين الداخلي والدولي أمام حقائق الأمر الواقع. لذا استعجلت تنفيذ المشروع الموضوع منذ ما قبل العدوان والاحتلال بأعوام عديدة ضاربة بعرض الحائط كل النصائح والتحذيرات التي تواجهت بها. لكن عامل السرعة في احتلال سريع حقق نجاحات سريعة بالفعل. أما تركيز أسس الاحتلال وتأمين موجبات ترسيخه، أمن القوات العسكرية وبناء مؤسسات سياسية وعسكرية وأمنية، فمُنيت بالفشل الذريع. ولم يكن السبب إلاَّ العامل التي طالما تمَّ إغفاله من المخطط الأميركي الذي استند إلى آليات تقليدية في موازين القوى، وهو ليس إلاَّ استخدام مقاييس الحرب النظامية التي تعتمد على تفوق الآلة العسكرية, وإن عامل الإعاقة للمشروع الكبير لم يكن أكثر من إيمان بقيم السيادة والكرامة الوطنية مستنداً إلى أضعف الأدوات العسكرية وهو السلاح الذي يقع حمله تحت طاقة الفرد الواحد أو المجموعة المحدودة العدد من الرجال. ومنها أخذت عوامل الضعف في المشروع الأميركي تتوالى وتصبح أكثر وضوحاً. وسنعمل على تحديد بعضها، ولعلَّ يقوم آخرون بتحديد ما فاتنا منها.

أولاً:على صعيد بنية أعضاء التحالف العدواني:
تحمل تلك البنية عامل استثارة العداء من أطراف ودول وأحزاب وأديان متعددة المشارب والإيديولوجيات. ويكفي أن نستعرض تياراته ليكون واضحاً كم يجمع ضده من المخاوف والعداوات. وتلك النتيجة التي نسجلها الآن لم يكن أطرافه ينظرون إلى تحالفهم إلاَّ أنه من عوامل قوته، لكن الأمر الواقع يدل على أن استقطابه لحجم العداوات هو من عوامل ضعفه وليس من عوامل قوته. فأطراف التحالف هي:
-اليمين الأميركي المتطرف المعبأ بإيديولوجيا العرق والنخب الاقتصادية الأكثر قوة في رأسماله.
-اليمين المسيحي المتطرف الذي يقود انقلاباً على الأسس العلمانية كبديل للدول الدينية التي تعيد عقارب الساعة إلى البدايات الأولى للتاريخ. وهو العودة إلى أكثر عوامل الصراع بين الإثنيات الدينية التي تؤمن بأن إيديولوجيتها تشق طريق الخلاص للبشر في الآخرة.
-الصهيونية العالمية التي طُردت من العالم إلى المنطقة العربية للتخلص من هيمنة أخطبوطها الاقتصادي.
-هيمنة وتأثير المافيات العالمية التي تؤمن بقيمة واحدة وهو تحقيق الأرباح السريعة بمعزل عن نتائج الحروب التي تباركها وتعمل على تفجيرها.

ثانياً: عوامل الضعف الظاهرة في القوى العراقية الداخلية المشاركة في العدوان على العراق واحتلاله، وهي تلك القوى نفسها التي كانت تطلق على نفسها سابقاً اسم «المعارضة العراقية»:
من سمات تلك القوى أن التباعد في رؤيتها ومصالحها وأطماعها أقوى من التلاقي بين أهدافها. وكان من أكبر خطاياها أنها استقوت بأجهزة المخابرات الرأسمالية، فسقطت شرعيتها في تمثيل الشعب العراقي لأنها أسقطت -في تعاملها مع مخابرات أجنبية- نفسها بتهمة الخيانة العظمى، كما أنها أسقطت قيمة «السيادة الوطنية». فهي مُدانة بتهمتين: قانونية حول تهمة الخيانة العظمى، وهو جرم تعاقب عليه كل القوانين وبكل المقاييس. وأخلاقية – قانونية من خلال إسهمامها في إسقاط السيادة الوطنية العراقية بين أيدي الاحتلال الأجنبي.
لم يسفر الاحتلال عن محو الدولة الوطنية العراقية فقط، وعن انهيار العقد الاجتماعي القديم، الذي قام عليه مجتمعها. فالتخريب لم يتوقف عند حدود انهيار ومحو الدولة كناظم للعلاقات الداخلية، ولا في تحطيم أجهزتها الرقابية وأنماط وأدوات سيطرتها، وإنما تجاوزت ذلك كله إلى إحداث تخلخل بنيوي في أسس التعايش التاريخي بين الطوائف والمذاهب والجماعات والإثنيات. وشقّ الاحتلال فجوة إدارية ووجدانية وسياسيّة، أخذت تفصل شيئاً فشيئاً بين مكوّنات المجتمع نفسه، وعزلته حتى عن الإدارة المُنّصبة من قوات الاحتلال ومجلس الحكم المؤقت وحكومته ذات التركيبة العرقية والطائفية، التي تم تلفيقها كبديل رمزي عن الدولة القديمة. جماهيرية ممزقة، من حيت تنوع وربما تناقض مرجعياتها السياسية والدينية، ومن حيث مستوى ودرجة التنافسات المحمومة بين قادتها. كما تفتقد البلاد إلى السلطة المركزية وتتوزعها ولاءات شخصية ومذهبية وسياسية ومصالح يصعب إلى حد بعيد التوفيق بينها.
لذلك، ولأسباب تتعلق بتسهيل مهمة السيطرة على العراق من خلال تفتيت أي عقد وطني جامع بين شتى الإثنيات، تقوم قوات الاحتلال بتأجيج بذور الفتنة الطائفية بين المذاهب والأعراق في البلاد باعتمادها لمبدأ المحاصصة الطائفية في المواقع السياسية والوظائف العامة، وسماحها بانتشار الميليشيات المسلحة في غياب القانون والنظام. وعملت على زرع عوامل الاحتقان العرقي والطائفي من خلال إصدار «القانون المؤقت»، الذي وقَّع عليه «مجلس الحكم الانتقالي» في العراق، في 8 آذار 2004م.
مع تقادم الزمن، تستعجل إدارة الاحتلال –بتسهيل واستسلام من قبل «دمى الاحتلال»- تحقيق مكاسب سياسية من خلال تشريع قوانين وقرارات وتعاميم مفصَّلة على قياس مصالحها الاقتصادية والسياسية والأمنية والعسكرية؛ إلاَّ أن تلك التدابير لن تحقق الأمن للشعب العراقي. وبدورها، سوف تساعد على تراكم النقمة الشعبية في وجه الاحتلال، وخاصة على صعيد القوى السياسية والدينية والشعبية التي تدعم –بشكل أو بآخر- أو التي تعطي فرصة من المراهنة على ممثليها في مجلس الحكم ليستنفذوا –كما يدَّعون- وسائلهم السلمية مع سلطات الاحتلال.
ولما لم يكن قد مرَّ زمن طويل إلاَّ وأخذت تلك العوامل تتفجَّر في وجه الاحتلال، حتى ولو كانت تلك الاعتراضات ذات استهدافات مذهبية أو عرقية، إلاَّ أنها تشكل بؤراً موضوعية لتعميق الشرخ بين عملاء الاحتلال. وسيرون أنفسهم في مأزق شبيه بمأزق الاحتلال ذاته، لأن القاعدة التي شُكِّلت على أساسها التركيبة الحاكمة ]المحكومة[ تحمل تناقضاتها الحادة في ذاتها.
ومن جانب آخر، بالإضافة إلى عجز عملاء الاحتلال عن إعادة الأمن والحياة الطبيعية إلى الشعب العراقي، لم يستطع عملاء الاحتلال أن يؤمنوا الحماية لها فهم أعجز من أن يحموا أنفسهم.

ثالثاً: عوامل الضعف في آليات تنفيذ مشروع الاحتلال ميدانياً:
1-التضليل والخداع: فلسفة إعلامية في خدمة المخطط السياسي – العسكري.
يقوم الإعلام المساند لقوات الاحتلال على قاعدة من الكذب، بتشويه الحقائق على قاعدة بث أكاذيب صغيرة، فيؤدي تراكمها إلى تكبير الكذبة فتبدو وكأنها حقيقة موضوعية. ومن جملة الأساليب أن ينسب الإعلام كل السلبيات ويحمِّلها للخصم الذي يريد الإيقاع به. وقد كشفت بعض وسائل الإعلام الأجنبية تلك الأكاذيب الصغيرة.. وبالإضافة إلى ذلك اتَّخذت الإدارة قرارات وقوانين تحدد فيها الممنوعات على وسائل الإعلام:
أ-قرار منع وسائل الإعلام من استخدام تعبير «مقاومة» لأنها تُعَدُّ تحريضاً على الإرهاب: ويذكر أن مجلس الحكم أنشأ لجنة وطنية لوسائل الإعلام مهمتها وضع ضوابط لعملها في العراق لتكبيلها فيما يخص عمليات المقاومة ضد الاحتلال. ووُزِّعت عليهم ما أسمته «مدونة سلوك للعمل في وسائل الأعلام»، وطلب منهم توقيعها طوعاً، وحثت المدونة وسائل الإعلام على عدم استخدام عبارات، من نوع (الجهاد) و(المقاومة).
وفرضت على وسائل الإعلام رقابة صارمة، فهي قد زرعت رقيباً أمريكياً في مكتب كل فضائية في بغداد، وأن الفضائيات لا تجرؤ على بث أي خبر لا يوافق عليه الرقيب، مع أن عاملين فيها يؤكدون أن عشرات الأخبار، وخاصة المتعلقة منها بالمقاومة، يتم منعها، مع وجود تهديدات واضحة لإدارات تلك الفضائيات، أو ممثليها في العراق.
ب-التعتيم على خسائرها، خوفاً من إثارة الرأي العام الأميركي: يلعب الإعلام دوراً مؤثراً في الشارع. وما حصل في فييتنام أعطى درساً، للذين يخططون ويشرفون على إعلام الإدارة الأميركية، أن يفرضوا حصاراً شديداً على وسائل الإعلام العاملة في العراق لمنع تسريب الصور التي تؤثر في تكوين الرأي العام أكثر من الخبر.
اتَّخذت الإدارة قرارات تمنع فيها وسائل الإعلام من نقل صور القتلى أو إعلان أعدادهم. كما تمنعها من الدخول إلى الأماكن التي تستقبل جثثهم قبل تسليمهم لأهلهم تحت حجة أخلاقية توجب على السلطات الأميركية أن تبلِّغ هي بنفسها نبأ وفاة الجندي لأهله.
ولهذا السبب خبَّأ جورج بوش رأسه في الرمال، كمثل النعامة، وتعامى عن رؤية أو سماع أخبار القتلى الأميركيين أو رؤية نعوشهم. ويبدو أن إدارته هي التي أرادت ذلك، ماحية تأثير صور الجنود الأميركيين القتلى وأخبارهم على الرأي العام الأميركي. فرسمت خطة إعلامية جديدة لمنع تناقل الأخبار ذات العلاقة بالمعركة الدائرة في العراق.
ومارس كل من جورج بوش، وواليه على العراق بول بريمر تلك الأساليب، وادّعى الأول أن وسائل الإعلام لا تنقل إلاَّ الصورة السلبية عن العراق، أما الثاني فهو يردد أن التقدم هناك -على شتى الصُعُد- يسير بصورة طبيعية إن لم تكن بصورة فذَّة تستأهل التقدير والامتنان.
كما حذت إدارة البتاغون حذو رئيس الولايات المتحدة ولجأت إلى التزوير من أجل تصوير الوضع الأمني في العراق بأنه آمن، والحياة الهانئة فيه مزدهرة.
ج-التعتيم على عدد العمليات ونتائجها، والتركيز على كل ما له علاقة بالخسائر البشرية بين العراقيين من جراء بعض العمليات الفدائية، للتحريض ضد المقاومة.
د-تضليل الرأي العام الأميركي، والكونغرس، ومجلس الشيوخ بمعلومات كاذبة عن الواقع الفعلي في العراق: ذكرت صحيفة (فيلادلفيا انكوايرر) الأميركية أن سياسيين بارزين من صناع السياسة الأميركية أعربوا عن ضيقهم وتبرمهم من عدم إيصال صورة أكثر واقعية للرئيس الأميركي مقارنة بالصورة المتفائلة التي يرسمونها، مثل ديك تشيني ورامسفيلد وغيرهم ممن يعتبرون من الصقور المتشددين في واشنطن.
ولكي تتخلَّص من مضايقات الإعلام، قدَّمت وزارة الدفاع الأمريكية خدمة إخبارية تركز على قواتها في العراق وأفغانستان، وتنفرد بتصوير الغارات على معاقل المقاومة، وجهود إعادة الإعمار فيهما. وأرجعت صحف أمريكية تلك الخطوة إلى أن المسئولين الأمريكيين يشتكون من أن وسائل الإعلام التي تبث أخباراً عن العراق تركز على الأحداث الكارثية فيه مثل تفجيرات السيارات المفخخة ومقتل الجنود، بينما لا تبدي كثيراً من الاهتمام بجهود الولايات المتحدة لإعادة البناء.
ومن أجل حجب الحقائق عن الرأي العام: عراقياً وعربياً ودولياً وأميركياً، عادت القوات الأميركية إلى ممارسة عملية رقابة صارمة على وسائل الإعلام العاملة في العراق. وهي من أجل توصيل الصورة الوردية في العراق، اتَّخذت جملة من الإجراءات، ومن أهمها:
أولها: عودة المتحدثين العسكريين للظهور على أجهزة الأعلام بعد أن كانت قد أوقفتها عندما خُيِّل لها أن الحرب قد انتهت في الأول من أيار من العام 2003م، للإدلاء ببيانات حول العمليات، وبضرورة ممارسة حرب نفسية مباشرة ضد المتلقين للأخبار. ولحجب حقائق أعداد القتلى الأميركيين، وضرورة توفير مادة إعلامية، تنقل إلى الداخل الأمريكي.
وثانيها :تصاعد الهجوم الرسمي الأمريكي على القنوات الفضائية العربية، وكثرة عمليات القبض على الصحفيين، ومنع المصورين من التصوير –وبعض الأحيان قتلهم- ونزع الأشرطة من كاميراتهم بعد التصوير .. إلخ.
وثالثها : بدء الولايات المتحدة إبرام تعاقدات لتوريد مواد إعلامية مجانية يومية للقنوات الفضائية والصحف، تتناول أوجه الحياة العادية في العراق، من تشكيل أجهزة شرطة وتوصيل الكهرباء والمياه ....ومباريات كرة القدم ، وأوضاع التعليم ونوادي الإنترنت وانتشار استخدام الهاتف المحمول… من أجل تصوير الوضع على أنه يسير نحو الأحسن، والهدف هو التقليل من شأن ما يجري في العراق من مقاومة وعمليات وقتلى وجرحى أمريكان وتدمير لآليات...
ورابعها: وكتدبير استراتيجي للإمساك بالإعلام وتوجيهه بما يخدم المشروع الأميركي اتَّخذت الإدارة الأميركية قراراً بتأسيس وسائل تلفزيونية وإذاعية تشرف عليها بشكل مباشر، ومن خلال تلزيمها إلى القطاع الأميركي الخاص، لكي تستطيع منافسة وسائل الإعلام العربية التي تتعاطف –بشكل أو بآخر- مع المقاومة العراقية.
هـ-فإذا كان التعتيم الإعلامي يعالج مشكلة الرأي العام الأميركي، فإن ما يجري حقيقة على أرض الواقع في ميدان النزاع بين المقاومة وجنود الاحتلال مباشرة لا يمكن معالجته بالتعتيم، بل تصل تأثيراته مباشرة إلى الجندي. ومن جراء معاناته المباشرة، تنامت ظاهرة امتناع الجنود عن تجديد عقودهم، وهذا ما لم تستطع قيادة الاحتلال أن تخفيه. وقد كشفت إحصائيات وزارة الدفاع الأمريكية عن وجود ارتفاع ملحوظ في أعداد الجنود الأمريكيين الذين يتركون الخدمة العسكرية. ولهذا السبب طالب جون أبو زيد قائد القوات الأمريكية في العراق وأفغانستان، من الجنود المغادرين عدم الهروب من الجيش، وقال لهم: رجاءً لا تتركوا الجيش نحن في حاجة لكم ولتجربتكم القتالية في الحرب على الإرهاب. زاعماً أنه لم يدل بهذه التصريحات خوفاً من حالة نزوح جماعي ولكن من أجل توجيه الشكر لهم والاستفادة من تجربتهم على حد قوله.
إلاَّ أن أساليب الكذب قصيرة، فكانت تلك الوسائل عرضة للكشف من أوساط سياسية في داخل الإدارة ذاتها، فتواتر الأنباء عن عمليات المقاومة العراقية ونتائجها في إيقاع خسائر بين القوات الأميركية، جعل بعض أعضاء الإدارة الأميركية يضعون أيديهم على وسائل التعتيم والتضليل، وطالبوا إدارتهم بتقديم تقارير غير مضللة.
لكن من المشكوك فيه أن تنجح تلك الخطة للأسباب التالية:
-إن عمليات المقاومة العراقية تجري وسط أماكن مزدحمة بالسكان الأمر الذي يعني ضعف القدرة على إنكارها أو إخفاء الخسائر الناتجة عنها.
-إن الصراع الأمريكي الأوروبي على العراق، ليس صراعاً داخل أروقة مجلس الأمن، وإنما هو صراع على الأرض في العراق في مجال الإعلام.
-أن الولايات المتحدة، يصعب عليها التمادي في عمليات منع وكالات الأنباء والصحف والفضائيات من نقل الأحداث سواء لأسباب فنية أو لأسباب سياسية.
-تتعمَّد قوات الاحتلال قتل المراسلين الصحفيين إذا حصلوا على صور وتقارير من مكان الأحداث، أو تقوم بتحطيم الكاميرات أو بإتلاف الأفلام.
على الرغم من كل التعتيم الذي تمارسه الإدارة الأميركية، لا يرى الإعلام الأميركي أن الصورة وردية، وأخذ يكشف حقيقة الوضع ومأساويته بالنسبة للجنود الأميركيين. ‏وبعد مرور عام على الاحتلال، يرى أن قوات الاحتلال الأمريكية ما زالت غارقة في بحر من الدماء وفي صراع غير محسوم.
وتبقى هناك معلومات لا تستطيع حذاقة الإعلام الأميركي أن تخفيها، ويكون تسريبها محرجاً للإدارة الأميركية، ومصدراً لتكوين رأي عام أميركي رافض للحرب، وتتعالى دعوات أهالي الجنود إلى إظهار الغضب ضد الإدارة، والطلب منها إعادة أبنائهم إلى أرض الوطن.

2-الجندي الأميركي -آلة النصر الأساسية- بدون قضية طبقية أو وطنية
إن التصنيع الآلي لمشروع أصحاب «القرن الأميركي الجديد»، لم يلحظ دوراً للجندي الأميركي أكثر من أنه عامل يتقاضى أجراً من رب عمله. وأن هذا الأجر مغر بما لا يقاس مع الأجر الذي كان يمكنه أن يحصل عليه من المصنع الذي يعمل فيه.
وإذا كانت مقاييس الأمور عند الجندي، بمثل ذلك، فهو قد وُعِد بأنه سيؤدي مهمته بأشهر قليلة ثم يعود إلى بلاده بطلاً وطنياً يروي قصصه في الحرب. ولكن لما رأى أن الأجر العالي هو الثمن لحياته، أو على الأقل ثمن عين أو رجل أو يد… اقتنع بأن الواقع هو غير الوهم الذي زُرع في نفسه. وبهذا شعر أنه يقاتل من أجل قضية هي ليست قضيته. فهو لا يقاتل غازٍ قام باحتلال جزء من الولايات المتحدة الأميركية، وهو لا يقاتل عدواً سطا على ثروته الوطنية، وهو لا يقاتل من أجل الإنسانية عدواً يقتل الطفل والمرأة والعجوز. لقد وجد الجندي الأميركي نفسه قاتلاً يمارس قتل الأطفال والنساء والعجزة، ويهدم بيوتاً على رؤوس ساكنيها.
لم يجد أن الحرب ضد العراق نزهة، أو عمل وطني أو إنساني، ولكن وجد أن مافيات الإدارة الأميركية تهتم بحماية آبار النفط أكثر من حماية المؤسسات الإنسانية، وجد أن رجال الأعمال الأميركيين يعقدون الصفقات، ويمارسون النهب المنظم، ويعتنون بأمنهم الخاص وأمن شركاتهم، كما يتسابقون على الحظوة بعقد من هنا وعقد من هناك، وتدور بينهم صراعات وانتقادات، ويتهم بعضهم قيادة قوات الاحتلال بانحيازها إلى شركة من دون أخرى، لذا يطالبون القيادة بأن تشملهم برعايتها من أجل الحصول على عقد أو التزام، ولا يخشون من انعدام الأمن في العراق إلاَّ من زاوية أمن استثماراتهم أكثر مما يهمهم أمن جنودهم.
وكثيراً ما وجَّه أصحاب المصالح انتقاداً صريحاً لقوات الاحتلال بعجزهم عن فرض الأمن الذي يسمح لرساميلهم بالتدفق إلى العراق. ووجد أن سماسرة عراقيين لا يهمهم أكثر من أن يمهدوا للصفقات أمام المافيات، ولا يهمهم إلاَّ أن يطول بقاؤهم إلى أقصى حد لينالوا حصصهم من السرقات على شتى المستويات.
وبالإجمال وجد الجندي الأميركي نفسه من دون قضية وطنية أو طبقية أو إنسانية أو أخلاقية أو قانونية، وهو مكشوف بدون أي غطاء دولي أو ديني. فلهذا لما وجد نفسه غارقاً في متاهة غير واضح باب الخروج منها، إلاَّ ما قيل له بأن بوابة العودة إلى الوطن تمر من بغداد. وهذا هو في بغداد باقٍ معرَّض للقتل أو التشويه الجسدي أو اللوثة النفسية. وللخروج من هذا الجحيم ما عليه إلاَّ أن يبذل كل ما عنده من قوة لإنجاز مهمة أخذ يشعر –أخيراً- أنها قذرة. ومن أجل ذلك تحوَّلت كل طاقته إلى التعامى عن ممارسة الرعب والقتل العشوائي، واستخدام الشدة المفرطة، لأنه يتوهَّم أنه ينجز مهمته بسرعة في القضاء على المقاومة العراقية، لأن التعليمات السابقة «طريق العودة إلى الوطن والعائلة» تمر من بغداد، إلى تعليمات أخرى تقول: «إن طريق العودة إلى الوطن تمر من بوابة القضاء على المقاومة العراقية».
لم يدفع الجندي الأميركي بعد إعلان جورج بوش انتهاء الأعمال الحربية في العراق –في أول أيار/ مايو من العام 2003م- من حياته وإنما أخذ يدفع الثمن من أخلاقه وإنسانيته ومعنوياته وأعصابه. وإن الثمن النفسي عنده هو أثمن ما يمكنه أن يحافظ عليه، وتمظهر في أكثر سلوكاته على الأرض: بشراً وحجراً، السبب الذي دفع ببعض المؤسسات الإنسانية الأميركي إلى إدانته في تقاريرها عن واقع جنود قوات الاحتلال في العراق وسلوكاتهم اللا أخلاقية.
نتيجة الضيق –بشتى مظاهره وأسبابه- اندفع الجندي الأميركي في العراق إلى إظهار رفضه للعمل الذي يقوم به في عدة وسائل وأساليب، ومنها: الهروب من ساحة الميدان إلى الدول المجاورة للعراق، أو رفض عودته بعد قضاء بعضهم إجازته في بلاده، أو اللجوء إلى الانتحار كأحد أقصى وسائل الضيق. مع العلم أنه بمقارنة نتائج حرب فييتنام مع نتائج الحرب في العراق، وجد بعض المطلعين الأميركيين أن «الشيء المميز في حرب العراق والذي لا يتشابه مع حرب فيتنام البتة، هو النسبة العالية لحالات الانتحار بين الجنود في العراق، وهذا بالتأكيد يتنافى مع التقارير التي تدعى ارتفاع الروح المعنوية في العراق».
3-بين نفط العراق ودم الجنود الأميركيين.
يستفرد أعضاء إدارة المحافظين الجدد بعقود الإعمار بحصر تلزيمها إلى الشركات التي هم أعضاء مؤسسيين أو إداريين أو مستفيدين منها لمنافع شخصية وليست لأهداف وطنية أميركية. وبها غرق أكثر المسؤولين في الصفقات التجارية المشبوهة التي تأتي على حساب شركات تجارية وصناعية أميركية أخرى أولاً، وعلى حساب المكلَّف الأميركي ثانياً.
ويبدو أن السياسة الخارجية لإدارة بوش تملى من قبل الشركات. فإصدار الأمر التنفيذي رقم 13303 الذي يعطي حصانة قانونية لشركات النفط الأمريكية التي تعمل في العراق، وفي الوقت الذي يفترض فيه أن الجنود الأمريكيين ذهبوا إلى العراق لفرض القانون والنظام، يضع بوش شركات النفط الأمريكية فوق القانون.
تقول الوثائق التي تجمعت لدى عدد من أعضاء الكونغرس الأمريكي أنَّ كلاً من ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي ودونالد رامسفيلد وزير الدفاع، وجورج بوش الأب وغيرهم قد قاموا بتنظيم عملية سرقة ونهب منظمة لبترول العراق عن طريق شركاتهم العاملة في هذا المجال. وإنَّ بول بريمر الحاكم الأمريكي يشرف بنفسه على الصفقات وإجراءات نقل البترول العراقي في سرِّية مطلقة. وإنَّ الأهداف والمصالح الشـخصية كانت الدافع الوحيد وراء اِتخاذ إدارة بوش قرار شَــنَّ الحرب ضد العراق –على حسب التقرير الذي نشرت جريدة (الأسبوع) المصرية جانباً منه- فإنَّ تحالف النهب والسرقة المكون من ديك تشيني ورامسفيلد وجورج بوش الأب وبول بريمر وآخرين كان قد بدأَ بالفعل يسرق وينهب ويهرب البترول بعد اليوم الثالث لسقوط بغداد، وإنَّ ديك تشيني قد أنهى ترتيبات السيطرة على البترول العراقي قيل بدء العدوان، وإنَّ ثلاث شركات أمريكية للبترول تحتكر البترول العراقي، وتقوم بنقله إلى مختلف دول العالم. والذي يقود هذه العملية هي هاليبيرتون الأمريكية للخدمات النفطية التي تخضع لإشراف ديك تشيني الذي دخل في إطار اِتحاد مع شركة جديدة أسَسَّها جورج بوش الأب أطلق عليها اِسم (الخدمات الأمريكية المتحدة للنفط)، وإنَّ هناك عمولات دُفِعَت لوزير الدفاع رامسفيلد الذي يساهم مساهمة كبيرة في شركة البترول الصافية التي دخلت بدورها طرفاً في عملية النهب.
رابعاً: عوامل الضعف في استراتيجية مشروع الاحتلال:
1-مظاهر الفشل في اتخاذ القرار السياسي
إن حجم المخاطرة السياسية كان هائلاً وواضحاً، كما جاء في أحد التقارير الأميركية، ومسؤولو الإدارة لا بدّ وأن صدّقوا، ليس فقط بأنّ الحرب كانت ضرورية لكن أيضاً، بأن الاحتلال الناجح لن يتطلّب تدبيراً أكثر مما أعدوه. وستمضي سنوات قبل أن يفهم الأميركيون، بالكامل، كيف أقنع أناس –يدَّعون أنهم أذكياء- أنفسهم بما حدث. ويعيد التقرير الأسباب إلى ثلاثة عوامل ستكون أجزاء مهمة من التفسير:
الأول: غطرسة وخيلاء دونالد رامسفيلد. فقد كان في قمة تأثيره خلال التخطيط للحرب.
الثاني: انتصار الإدارة في الانتخابات الرئاسية: ففي السنوات الخمس والعشرون الماضية ومنذ تتويج رونالد ريغان، غيّر المحافظون من مواقفهم بشكل كامل ولكنهم لا يعترفون بذلك. فوصول ريغان للحكم أنهى نصف قرن من هيمنة الديموقراطيين في واشنطن. كان هناك رئيس ديمقراطي واحد منذ ريغان، وطبيعي سيكون هناك آخرون. لكن هذا هو الاستثناء عند الجمهوريين، أما القاعدة فهي تواجدهم الآن في القيادة. ولهذا أعمتهم عودتهم إليها –وهم من الحرس القديم من الجمهوريين، من الذين ترعرعوا في الستّينيات والسبعينيات، والذين هم الآن في قيادة الإدارة- عن استيعاب وصولهم. ولهذا ظلوا يتصرفون وكأنّ الليبراليين ما زالوا في مقعد القيادة. وتسكنهم مهمتهم الأساسية في «مقاومة الأفكار التحرّرية الحمقاء».
الثالث: طبيعة الرئيس نفسها: فالقيادة توازن بين القيام بالاختيارات الكبيرة وإدراك للتفاصيل. وجورج دبليو بوش عنده تفضيل واضح للاختيارات الكبيرة فقط. «لكن قلة اهتمامه بالتفاصيل المهمّة قد تكون نقطة ضعفه القاتلة».
كانت فرق العمل في وزارة الخارجية التي تعد خطة ما بعد الحرب في العراق تشكك في جدواها. وبسبب إهمال التحذيرات، أضاعت الإدارة السمعة الأمريكية والثروة والأرواح.
ومن جملة مظاهر فشل التخطيط السياسي للإدارة الأميركية كانت حالة الفوضى والفلتان الأمني التي ظهرت بعد الاستيلاء على بغداد مباشرة. ومنها قادت الأصوات الأميركية، سواء من أوساط المعارضة أم من أعضاء الإدارة ذاتها، حملة تشهير بعجز الإدارة التي خططت للحرب عن رؤية الأمور التفصيلية التي قد لا تجعلها تحقق الأهداف السياسية.
اعترف (دوغلاس فايث)Douglas Feith، يشغل منصب سكرتير بمكتب السياسة بوزارة الدفاع، أي في المرتبة الثانية مباشرة بعد وزير الدفاع الأمريكي «دونالد رامسفيلد» ونائبه «بول وولفوويتز»، بإخفاق الإدارة الأمريكية للتخطيط الملائم لما بعد سقوط بغداد، ويؤمن بأن ما حصل كان خطأ، للأسباب التالية: محدودية قراءة المستقبل بالنسبة لرامسفيلد، الذي يكره منطق التخمينات كراهيته للموت، فأهم إستراتيجية يتبعها هي «الغموض أو اللا مؤكد» وهذه الإستراتيجية تعني أننا لابد أن نكون مستعدين للتعامل مع أي وضعية تنجم عقب انتهاء الحرب من دون التخطيط لها مسبقاً.
إن المحافظين الجدد في الإدارة الأميركية، مثل نائب الرئيس ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، ونائبه بول ووليفووتز، وريشارد بيرل العضو السابق في المجلس الأعلى لسياسات البنتاجون، لم يكونوا يملكون تصوراً دقيقاً وواضحاً لفترة ما بعد سقوط النظام في العراق، بحيث بدت تصوراتهم السابقة عن أوضاع ما بعد انتهاء الحرب داخل العراق، مجرد أوهام، وإن «النقص في التحضيرات السياسية من قبل وزارة الدفاع الأمريكية، بدت واضحة للعيان حال وصول القوات الأمريكية مشارف العاصمة العراقية أو تطويقها».
2-مظاهر الفشل العسكري
مستخدماً أسلوب المراوغة والكذب والتحدي الفارغ، صوَّر بوش أن أهداف أميركا من الحرب على العراق تمثِّل المبادئ الإنسانية بنشر الديموقراطية- أولاً، ومستعيناً بتاريخ الولايات المتحدة الوطني بتحرير العالم من أنظمة يعتبرها ديكتاتورية ثانياً، وإصرار أميركا على تحقيق تلك الأهداف في العراق يمنعها من الهرب لأنها ستنتصر في النهاية ثالثاً.
تبدَّدت أوهام الإدارة الأميركية بمقدرتها العسكرية المطلقة، لأنه لم يمض وقت طويل بين إعلانها النصر في الحرب وبين بروز أعمال المقاومة العراقية بقوة قلبت الطاولة في وجه القوة العسكرية رأساً على عقب، اضطُرَّ معها الرئيس الأميركي إلى الاعتراف بأن ما يدور على أرض العراق ليست إلاَّ حرباً حقيقية. وقد أكَّدت تصريحات الجنود الأميركيين في العراق على مصداقية تصريح رئيسهم. ولا يتركه ديك تشيني، نائبه، وحيداً في ممارسة الكذب، فيأتي بمبررات على قاعدة أن الحرب الوقائية في العراق ليست إلاَّ لتوفير أرواح أكثر داخل أميركا.
نتيجة لذلك فقد تدنَّى أداء الجندي الأميركي إلى أقل مستوياته بعد اكتشافه أن الحرب لم تكن خاطفة وسهلة، وكان يحلم بأن العراقيين سوف يستقبلونه بعد انتهائها السريع بالورود والقبلات. فلما استفاق من حلمه وجد نفسه مرفوضاً شعبياً وأن الحرب لم تنته، وأصبح موعد عودته إلى بلاده في موقع المجهول أو المؤجل إلى ما لا نهاية. ذلك السبب أجبر البنتاغون إلى ابتكار العديد من الصيغ، وكان من أهمها ضبط التأفف والاعتراض الذي أخذ يتنامى بين الجنود باتخاذ تدابير جديدة من خلال تقديم إغراءات بعد أن فشل تهديد القائد الأعلى جون أبي زيد بإنزال أشد العقوبات بحق الجنود المتأففين. أما آخر ابتكارات وزير الدفاع الأميركي فقد تمحورت حول تقديم بعض الإغراءات للجنود، ومنها الوسائل المادية والحوافز المعنوية لمواجهة احتمالات الهروب الجماعي من الجيش بعد انتهاء مدد العقود معهم.
و على الرغم من ذلك، فقد ظهرت بعض حالات رفض الجنود الذين يذهبون بإجازات من العودة إلى العراق: على الرغم من نفي الإدارة الأميركية حصول انهيارات معنوية بين صفوف الجنود الأميركيين في العراق، وأنهم لن يجددوا عقودهم من أجل السبب ذاته، أكَّد الجنود أنهم «لا يريدون العودة إلى المهمة الطويلة والصعبة في العراق».
3-استمرار الاحتلال الأميركي للعراق: حالة استنزاف بشرية ومادية داخلية:
تعاني الولايات المتحدة داخلياً -بعد مرور أقل من سنة على احتلالها للعراق- من أزمتين:
الأولى: بدأت أعباء احتلال العراق في استنزاف قدرة الجيش الأمريكي والحد من قدرته على نشر قوات قتالية مدربة في مختلف أنحاء العالم.
الثانية: تدهور صناعة النفط العراقية بما لا يمكن التعويل عليه كثيراً في «إعادة الإعمار».
لذا وجدت الإدارة الأميركية نفسها مُلْزَمَةً بأن تقدِّم إجابات واضحة للرأي العام الأميركي حول الأزمتين، وهما: أعداد القتلى وتكاليف الحرب المالية الباهظة.
أ-الأعباء البشرية:
إن احتلال العراق سيربك -على المدى الطويل- حياة الآلاف من أسر العسكريين؛ وسيتعرض نظام الاحتياط المعمول به في الجيش لخطر شديد، إضافة إلى أن ذلك سيحد من النزعة العالمية في السياسة الخارجية الأمريكية. لذا فإن هذه المعادلة الصعبة تعد إحدى العواقب الوخيمة لخوض الولايات المتحدة للحرب على العراق بطريقة منفردة، وذلك إضافة إلى القتلى والجرحى الذين يتساقطون يومياً هناك، وتردد دول أخرى بشأن المساعدة في المجهودات الأمريكية، ناهيك عما لحق من إضرار بسمعة الولايات المتحدة كزعامة مسئولة .لا يمكن –مع استمرار المقاومة- توقع إمكانية تخفيض حجم القوات الأمريكية العاملة في العراق إلى أقل من 100 ألف جندي. وإذا لم يتم تغيير نظام إحلال وتبديل القوات وتكليف قوات من وحدات أخرى، فإن الجيش الأميركي سيعانى من مشاكل في حشد القوات اللازمة.
أما حول أعداد القتلى، فإنه يثير حفيظة الأميركيين؛ وهو إن كان يقلق الرأي العام الأميركي –في هذه المرحلة- يصبح تقديم جواب عنه أكثر صعوبة في المستقبل أمام تطور أعمال المقاومة العراقية بالشكل النوعي الذي يعني إيقاع خسائر أكبر في أرواح الجنود الأميركيين.
على الرغم من تجاهل تقوم به الإدارة الحالية أو تجهيل (لأهداف تكتيكية)، نرى أن المقاومة العراقية قد تجاوزت مرحلة الخطر في القضاء عليها. وهذا يضع الاستراتيجية الأميركية أمام مأزق اختيار صعب بين البقاء في العراق ودفع أثمان لا يعرف أحد متى تنتهي، وهي ستفرض الانسحاب من العراق، وهو حل أسوأ من البقاء، لكنه يوفِّر الخسائر المؤكدة.
ب-الأعباء المالية:
في الأول من أغسطس من العام 2002م، استمعت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ لرأي الخبراء حول مرحلة «ما بعد الحرب في العراق». وقد قال بايدن (ديموقراطي ورئيس اللجنة) بأنّ التهديد من أسلحة الدمار الشامل قد يجبره على التصويت لصالح الحرب. لكنّه كان قلقاً من الغزو دون دعم كامل من الحلفاء، فأميركا قد نتحمل –لوحدها- فاتورة حرب بـ 70 مليار أو 80 مليار دولار، وقد تضطر إلى إبقاء القوات الأمريكية لفترة زمنية طويلة.
أما في 27 مارس، وبعد ثمانية أيام من المعركة، سأل أعضاء لجنة الاعتمادات التابعة لمجلس النّواب بول ولفويتز عن رقم تكاليف الحرب، فأجاب: مهما كانت هذه التكاليف، فإن نفط العراق سيبقيها دوماً في أدنى مستوى. هناك الكثير من المال لدفع تلك التكاليف. وليس من الضروري أن يكون دافع الضرائب الأمريكي ممول هذه الحملة، فنحن نتعامل مع بلاد تستطيع تمويل إعمار نفسها حقاً، وبشكل سريع نسبياً.
لم تكن حسابات ولفويتز صحيحة، ففي أيلول/ سبتمبر 2003م، بدأ الرّئيس بوش العمل على طلب اعتماد إضافي بـ 87 مليار دولار للعمليات في العراق .وبالفعل كان الكونغرس قد أقرَّ مبلغ 87 مليار دولار لتمويل عاجل لنفقات الحرب في العراق وأفغانستان، وإن القسم الأكبر منها سيذهب إلى أوجه الأنفاق على الوجود العسكري الأمريكي في البلدين.
أما حول تقليص النفقات المالية التي يدفعها المكلَّف الأميركي وتشكل لديه عامل إثارة آخر، فلا يظهر في الأفق القريب ما يدل على أنها سوف تجد حلاً مع تركيز المقاومة العراقية على استهداف أنابيب النفط لمنع الاحتلال من الاستفادة من ريع تصديره. هذا مع العلم أن الحرب على العراق كانت مكلِفَةً جداً، وهي مرشَّحة لتزايد أعبائها الاقتصادية بمئات المليارات من الدولارات التي ستدفعها الخزانة الأمريكية.
وحول ذلك، كشف مسئولون حكوميون أمريكيون، أن التقديرات المتفائلة التي أصدرتها إدارة الرئيس بوش، في أوائل العام 2003م، (بأنه سيتم تمويل الجانب الأكبر من عمليات إعادة البناء في العراق من خلال الثروة البترولية لتلك الدولة، وليس من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين)، تناقضت -إلى حد بعيد- مع التقييم المتشائم الذي صدر –في خريف العام 2003م- من قبل فريق حكومي جرى تشكيله سراً لدراسة أوضاع صناعة البترول العراقية.

4-مظاهر الفشل في تجميع الرأي العام الأميركي لتأييد مغامرتها في العراق:
يزداد الضغط على الرئيس الأمريكي كلما ازداد عدد الأمريكيين الذين يطالبون بانسحاب القوات الأمريكية من العراق. وعلى الرغم من أن الأقلية منهم يتظاهرون في الشوارع وينددون بالحرب، إلا أن عددهم يزداد مع كل يوم يسقط فيه جنود أميركيون على أرض العراق.
لن تخدع تصريحات أعضاء إدارة جورج بوش الأميركيين، من أن الوضع في العراق وردي، وأن الجنود الأميركيين لن يتركوا العراق تحت ضغط المقاومة، ولأن تلك التصريحات لن تخدع الرأي العام الأميركي، يجد بعض الأميركيين –اليوم- مناسبة للمقارنة بين حرب فيتنام وحرب العراق، بالقول: هناك وجود تشابه كبير في مضمون تصريحات (روبرت ماكنمارا) وزير الدفاع الأمريكي، خلال حرب فيتنام، وتصريحات وزير الدفاع الحالي (دونالد رامسفلد).
فهل الوضع في العراق أشد خطورة عما كان عليه في فيتنام؟
نعم بل أسوأ بكثير من حرب فيتنام التي انتهت بانتصار الولايات المتحدة لكنه كان نصراً متوقعاً في نهاية مشوار دامٍ طويل؛ لكن الولايات المتحدة خرجت مثقلة بالجراح من تلك الحرب على الرغم من أن الجنود الأمريكيين لم يخسروا معركة واحدة لكن معظمهم عاد بأعصاب محطمة إلى بلده وهذا ما سيواجهه الجنود الأمريكيون في العراق. هناك فارق في المقارنة بين حرب فيتنام وحرب العراق. لأول مرة منذ انفرادها بلقب القوة العظمى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي لم تظهر الولايات المتحدة قوة عظمى في حرب العراق وإنما قوة كبيرة على عكازين.
مع ظهور شبح الحرب الطويلة الأمد في العراق، ظهرت مؤشرات عديدة حول رفض الحرب من قبل قطاعات أمريكية رسمية وشعبية واسعة، ومن أهم مظاهرها:
-التظاهرات التي خرجت بالآلاف في واشنطن ولوس أنجلوس للمطالبة بالانسحاب ولتوجيه تهمة الكذب والتلاعب لبوش وفريقه الحاكم.
-الجدل المتصاعد داخل الطبقة السياسية الأمريكية حول أسلحة الدمار الشامل، وحول التقارير المزورة التي استخدمتها الإدارة في تضليل الرأي العام لكسبه إلى جانب الحرب.
يعيد ويسلي كلارك، القائد السابق لحلف شمال الأطلسي، أسباب فشل الإدارة الأميركية في احتواء العراق بعد انتهاء الحرب النظامية إلى جملة من العوامل، ومن أهمها: أن الإدارة أعدَّت بشكل جيد للحرب العسكرية ولكنها قصَّرت في إعداد رؤية واضحة لمرحلة ما بعد انتهائها، أي كل ما له علاقة بموجبات الاحتلال من مهام أمنية واجتماعية واقتصادية. ولأنها لم تهتم بها –استناداً إلى منهج بوش وإدارته في التفكير- أخذت تعاني من المأزق الذي وقعت فيه نتيجة غياب التخطيط الدقيق. وإذا كان كلارك يحصر تلك الأسباب بعوامل محض مادية، إلاَّ أنه تناسى أن للشعور الوطني تأثيراً كبيراً كان على إدارة بوش أن تأخذه على محمل الجد.
إن استطلاعات الرأي العام الأميركي، تبيَّن تراجع نسب التأييد لرئيس الإدارة، وتدل على أن الأميركيين، الذين انبهروا بإعلان انتصار أميركا في الأول من أيار من العام 2003م، اكتشفوا مدى الكذب في الخطاب الرسمي بعد ظهور المقاومة العراقية. وكان الأميركيون من الممكن أن يتناسوا أخطاء الإدارة فيما لو ثبت أن النصر كان حقيقياً، وكان من الممكن أن ترتفع نسبة تأييده. ولكن هذا يدل، أيضاً، على أزمة أخلاقية تعاني منها أكثرية الأميركيين، فهم اعترضوا على بوش لأنه لم ينتصر، ولتكن تلك الحرب ظالمة، فهم لم يعترضوا على مبادئ العدوان ولكن اعترضوا على نتائجه. وعلى الرغم من كل ذلك، فقد حققت المقاومة العراقية إنجازاً كبيراً عندما حرمت إدارة جورج بوش من تثبيت نتائج الانتصار العسكري النظامي وحوَّلتها إلى هزيمة سياسية. وأياً تكن الأسباب والنتائج فقد حوَّلت المقاومة وقائع الأمور إلى مأزق أمام تلك الإدارة، ولعبت، ولا تزال تلعب، دور الناخب في صناديق الاقتراع الأميركي بامتياز. ولهذا فإن أزمة مماثلة للتجربة الفييتنامية قد تقلب كل المقاييس عند الرأي العام الأميركي، فهو وإن كان في الموقع الذي يبرر فيه للإدارة أخطاءها، إلاَّ أنه عندما يدفع دماً ومالاً من دون أن ينال ما يعوِّضها، تبدأ أزمة الثقة مع الإدارة السياسية.
كانت البداية في أن الرأي العام الأميركي، على المستويين: الشعبي والسياسي، أخذ يكتشف أساليب الخداع والكذب، فتضاءلت نسبة تأييد الأميركيين للحرب إلى أدنى مستوى في تاريخ استطلاعات الرأي حول هذا الموضوع، فبلغت نسبة، الذين لا يؤيدون الحرب، لأنه لا يوجد ما يبررها، 53%. وهذا انحدار كبير عن نسبة 89% من الذين كانوا يؤيدون بوش.

5-على الإدارة أن تدفع ثمناً لممارساتها اللا أخلاقية:
ومن الجرائم اللاأخلاقية التي أخذت تدفع ببعض الأميركيين إلى الإشارة إليها هي ارتكاب جرائم حرب، على الأقل في جانب استخدام الأسلحة التي تحمل إشعاعات نووية، وهي لا تشكل خطراً على العراق وحده، بل ستنتقل تأثيراته السلبية إلى الولايات المتحدة نفسها:
جميع الرصاص الأمريكي –تقريباً- من قذائف الدبابات والقنابل الغبية والقنابل الذكية إلى صواريخ كروز، وكل شئ آخر تمت هندسته، تحتوي على الكثير من اليورانيوم. لقد استعمل الجيش الأميركي ما مقداره أربعة ملايين رطل من اليورانيوم في العراق. وعندما يضرب رصاص اليورانيوم أو الصواريخ أو القنابل شيئاً ما فإنه ينفجر مولداً في الحال ذرات دقيقة جداُ بحيث لا يمكن رؤيتها. وعندما يستنشق شخص هذه الذرات حتى ولو بكميات قليلة جداً فإن ذلك يعني كما لو أنه يتعرض للأشعة في كل ساعة. ولا يمكن إزالة اليورانيوم من الجسم فإنه ليس له أي علاج وسيبقى عملياً في الجسم إلى الأبد.
فكم قنبلة نووية بحجم القنبلة النووية التي ألقيت على ناجازاكي يمكن أن تنشر أربعة ملايين رطل من اليورانيوم ؟ الجواب هو 250,000 قنبلة نووية. الوحيدون في تأريخ هذا العالم الذين شنوا حرباً نووية بهذا الشكل هم الأمريكان. والجيش الأمريكي يعلم تمام العلم ما هي أعراض التسمم بالإشعاع. تبدأ الأعراض بالتهاب الحلق المزعج جداً وتنتهي بالموت المؤلم لكون المصاب يطبخ من داخله. ويتساءل الكاتب الأميركي ساخراً: لماذا يكرهوننا ويزدروننا هكذا!
إن تأثير القتل غير المميز بأسلحة. سيكون غبار اليورانيوم في أجساد القوات الأميركية نفسها، وهي التي ستعود إلى بلادها، مع مصادر إشعاعهم الداخلي كحطب للحروب، الحروب النووية الأمريكية في القرن الحادي والعشرين.
وإذا كانت الجرائم البشعة التي ارتكبتها إدارة الاحتلال في سجن أبي غريب من أكبر جرائم الاحتلال وحشية، بحق الأسرى العراقيين والأسيرات العراقيات، فهي من أكثر الجرائم اللا أخلاقية بشاعة التي هزَّت ضمير قطاع واسع من الأميركيين. وسيكون لها تداعيات شديدة الـتأثير على مستقبل الاحتلال. وستزيد في كشف خطورة المشروع الأميركي ليس على العالم فحسب، بل على وحدة نسيج المجتمع الأميركي أيضاً.
بداية تعالت الأصوات الأميركية مطالبة باستقالة إدارة الرئيس جورج بوش، وعدم حل الأمور بتقديم كبش فداء عنها. فالإدارة كلها ضالعة في الخطأ. فهذا جورج بوش «ضلل الشعب الأميركي وخدعه»، ونائبه ديك تشيني يمارس ضغوطاً على المخابرات المركزية، ويصر على «أن العراق كان يملك أسلحة دمار شامل»، وأن جورج تينيت، المحمي من جورج بوش شخصياً، قد «انتهت صلاحيته»، فيجب إقالته، وإقالة وزير العدل (جون اشكروفت) الذي هو الأب الروحي لقوانين محاربة الإرهاب والحد من الحريات المدنية.
وبعد انكشاف الستار عن الجرائم بحق الأسرى العراقيين، ازدادت لائحة المسؤولين الأميركيين المطلوب استقالتهم، وهي سوف تزداد يوماً عن يوم، لأن الإدارة الحالية تعمل بكل الوسائل لضرب المقاومة العراقية، وتشديد الحصار حول أية ظاهرة عراقية ترفض الاحتلال، تقديراً منها أن عليها أن تصل إلى أبواب الانتخابات مرتاحة لنيل الأصوات الكافية لإعادة التجديد لمشروع الأميركيين المتطرفين الجدد. إن هذا الهدف والإلحاح كافيان لأن يغرقا قيادة الاحتلال بأخطاء أخرى، قد لا تكون أقل بشاعة مما سبقها، وهذا ما سيضاعف عدد المطلوب إقالتهم من المسؤولية.
شنت الإدارة حربها بطريقة تفتقر إلى الأمانة كما يقول إدوارد كينيدي- أفقدتها حلفاءها الأساسيين، وأجَّجت غضب الرأي العام العالمي، وصبت علينا –براكين إضافية من الكراهية وجعلت الحرب على الإرهاب أكثر صعوبة والنصر فيها أبعد مما كان.
إضافة إلى اتهام الإدارة بالكذب، وهو تشكيك أخلاقي بنزاهتها، تتالت الأسئلة عند الأميركيين حول جدوى البقاء في العراق، ففي نهاية العام 2003م يتساءل الأميركي: هل تستحق نتائج الحرب دماء جنودنا المحاربين؟ وهل أصبحنا أكثر أمناً بعد غزو الأراضي العراقية؟
تشير الإثباتات إلى أن إدارة بوش لم تستطع إثبات ذرائعها التي على أساسها غزت العراق. فطالب الكونجرس كلاً من رامسفيلد وباول وولفويتز وتومي فرانكس بتشكيل لجنة تقصي حقائق تقوم ببحث عملية غزو العراق. وهل تم التخطيط لها جيداً؟
وفي إشارة إلى اتهام الإدارة بأخلاقيتها، اشترطت بعض المطالبات الأميركية على أية لجنة يتم تكليفها أن تعمل بعيداً عن الأكاذيب.
وبالإجمال فقد راح المشروع الأميركي يفتِّش عن سلاح عراقي غير موجود فدفع الغرب إلى اتخاذ عقوبات ضد العراق أودت بحياة مئات الآلاف من العراقيين، وراح يمطرهم بقنابل المدفعية ذات الرؤوس المحتوية على اليورانيوم المنضب، مما ضاعف من انتشار مرض السرطان بنسبة مخزية. ولا شك أن بوش وبلير –يقول أحد الصحفيين البريطانيين- يستحقان أن يسقطا في الانتخابات بسب حربهما الاحتيالية والمخالفة للقانون.

6-المقاومة العراقية تدق أبواب الولايات المتحدة الأميركية
فيما تواجه الولايات المتحدة المزيد من الصعوبات في العراق، تزداد شراسة الصقور الأميركيين في مهاجمة المشككين. فهم يتهمون المشككين بفقدان الصلة بما يجري. ويقولون إن هذا هو سبب الصعوبة التي تعاني منها الولايات المتحدة. وفي نهاية المطاف، ليس العراقيون، بل رسل التشكيك، هم الذين يقال إنهم يؤذون مصالح الولايات المتحدة.
ما يحصل على الساحة السياسية الأميركية، بعد تنامي تأثير المقاومة العراقية، هو حرب ثانية تواجهها إدارة صقور «القرن الأميركي الجديد». والسبب أن الفشل الذي لحق بقوات الغزو الأميركي من خلال عجزها عن الإمساك بالساحة العراقية عسكرياً فتح الأبواب واسعة أمام حالة الاعتراض بين صفوف الحزب الديموقراطي، الذين، وإن كانت أهدافهم انتخابية، فإنهم يخوضون –بلا شك- حرب استنزاف سياسية ضد إدارة جورج بوش. وقد نقلت الصحافة الأميركية خاصة والصحافة الغربية عامة كثيراً من وجوه تلك الحرب. وقد شارك العديد من الكُتَّاب الأميركيين في خوض حرب هدفها كشف أكاذيب الرئيس بوش بالذات، ومن أهم معالمها ما يلي:
-الكذب الذي مارسته الإدارة بكل ما له علاقة بذرائع الحرب.
-الكذب في نقل صورة الواقع الميداني، خاصة بكل ما له علاقة بحجم الخسائر بين الجنود الأميركيين.
-ليست معارضة السياسيين الأميركيين هي التي تمارس حرب استنزاف داخلية ضد الإدارة الحالية، بل دخلت المعارضة الشعبية ميدان الاستنزاف بمشاركة فاعلة من أهالي الجنود.
-دخول بعض الأوساط الدينية في أميركا (كمثل القس جيسي جاكسون) في معركة الاستنزاف الداخلي للإدارة الأميركية، على خلفية الحرب ضد العراق. وترى أن المأزق الحقيقي يكمن في اتخاذ قرار الحرب من جانب واحد من دون موافقة دولية، ولم تكن بطلب من العراقيين أنفسهم، وهي وضعت الإدارة الأميركية في مأزق التفاضل بين البقاء في حالة استنزاف دائم، أو الخروج والانسحاب وإن الأمرين أحلاهما مر.
وبهذا يكون الاحتلال الأميركي قد انقلب «من دور الغازي الانتصاري إلى موقع المتهم، ومن قبل مؤسسات دولته بالذات».
وصلت الولايات المتحدة ، بعد تنامي المقاومة العراقية، إلى مأزق مزدوج: فمن جهة، لن يعني بقاء الاحتلال غير استمرار وتكاثر الأيام الرهيبة التي تحدث عنها رامسفيلد، وما ينجم عن ذلك من انحسار شعبية الإدارة الحاكمة وصولاً إلى خسارة الانتخابات. ومن جهة أخرى، سيفضي الانسحاب إلى النتيجة نفسها. وفي الحالتين ستكون تداعيات ذلك وخيمة جداً على الداخل الأمريكي وعلى مواقع الولايات المتحدة في التركيبة الدولية.
تدور حرب الاستنزاف في الأوساط السياسية والعسكرية والأمنية في إدارة المحافظين الجدد، وفي أوساط الحزب الجمهوري الحاكم، حول مسألتين –من خلالهما يتقرر مصير الاحتلال الأميركي للعراق، وهما:
الأولى: مكابرة الرئيس بوش في توصيف الوضع في العراق «نصمد في العراق... سننهي عملنا ولن ننسحب» على أنه انتصار لأميركا ولحماية أمنها الوطني. وفي المقابل يصف المعترضون، المقرَّبون من الإدارة، ذلك الوصف بأنه كذب وخداع وشعوذة.
الثانية: إن الهم الأساسي لإدارة بوش هو تجميد الوضع في العراق، على قاعدة أن لا تنتشر رائحة الهزيمة فتزكم أنوف الرأي العام الأميركي، لأن فيه خسارة إدارته في الانتخابات. وفي المقابل يفتِّش المعترضون عن أقصر طريق وأفضله لإخراج أميركا من نفق الهزيمة.
7- احتلال العراق والانقسام العامودي في المجتمع الأميركي
بين مؤيد لبقاء الولايات المتحدة الأميركية جمهورية قوية في علاقاتها مع حلفائها وبنيتها الاقتصادية الداخلية، وجانح نحو استكمال الحلم الإمبراطوري حتى ولو بتصدير القتل والغزو الثقافي للإيديولوجيا الإمبراطورية، بدأت مظاهر الاحتراب الداخلي الأميركي تشق طريقها إلى العلن، وبها انتقلت من حالة الاحتراب مع الخارج على قاعدة «الحلقة المفرغة من العنف والعنف المضاد»، لكي « تمتد إلى الصراعات العديدة التي تتشكل داخل بنية الإمبراطورية الأمريكية ولا تجد لها حلولاً».
إن جملة المتغيرات التي فرضتها الصدمة العراقية، من خلال ولادة المقاومة العراقية بشكل فاجأ المعترضين الأميركيين على الحرب قبل أن يفاجئ إدارة المتطرفين الجدد، سوف تفرض معادلة جديدة على العلاقات الداخلية بين شتى القوى السياسية الأميركية، بحيث يقف المكلَّف الأميركي بضرائب الدم والمال إلى جانب الخروج من سلسلة الحروب المتواصلة التي تشنها إداراته السياسية، الديموقراطية والجمهورية، ضد الخارج. وستفرض القاعدة الشعبية الأساسية في دفع التضحيات بالمال والروح، بعد أن تتراجع صورة «رامبو» الأميركي من مخيلتها، «رامبو» الذي يخرج من كل المعارك التي يخوضها من دون أن تسيل منه قطرة دم، أو من دون أن يلحق بثوبه لوثة من الغبار. وعندما ستظهر صورة «رامبو» الملوَّث بالدماء، أو المنقول إلى بلاده في نعش مغطى بالعلم الأميركي، أو القائلين عنه «رامبو الذي انتحر على أرض العراق من خوف أو من عقدة ذنب أو يأساً من عودته إلى وطنه»، أو الذي يسير على عكازين، أو تجرُّه زوجته بعربة المشلولين، أو الذي يزوره أولاده في مستشفى للأمراض العصبية أو العقلية، عندها فقط ستغيب صورة الفرد الأميركي الذي يتحمس إلى الذهاب خارج الولايات المتحدة الأميركية ليقاتل شبح الإرهاب، قبل أن يتسلَّل إلى غرفة نومه كما يكذب عليه رئيس إدارة بلاده وجميع أعضاء تلك الإدارة. لكنه لن يجده لأنه وهم اخترعته براعة إعلام إدارة المتطرفين الأميركيين الجدد

خامساً: عوامل الضعف في بناء علاقات دولية قائمة على الخداع:
1-الكذب والتمويه منهج الإدارة الأميركية مع حلفائها
أثار مضمون المشروع الأميركي وأهدافه مخاوف حلفاء أميركا، من أعضاء نادي الدول الرأسمالية. فهو بما تميَّز به من رعونة واستعجال مسبوكين بعنجهية وغرور لا مثيل لهما: سطوة القوة وسطوة المضمون الإلهي للرسالة، جعله يتعاطى باستخفاف بأعضاء النادي، وهذا ما أثار حفيظتهم وأصروا على التفتيش عن عالم متعدد الأقطاب، فوجدوا ضالتهم –من دون إعلان- في نتائج أعمال المقاومة العراقية. فهم بعد أن اهتزوا من نتائج الحرب النظامية، وراحوا يتوسلون إعادة العلاقات مع أميركا –خوفاً من استثناء شركاتهم من عقود ما سُمِّي «إعمار العراق» إذا بهم -وبعد أقل من شهر من إعلان بوش انتهاء العمليات العسكرية في العراق- يتماسكون ويستعيدون خطاب ممانعتهم للحرب ضد العراق من بعد أن ثبت لديهم مدى تأثير تلك المقاومة على منع الاحتلال الأميركي من تحقيق أهدافه. وبدورها راحت الإدارة الأميركية، مكتشفة تسرعها وحماقتها بمعاداة حلفائها، تتوسَّل مساعدتهم المادية والعسكرية.
2-كشف أكاذيب الإدارة في الذرائع التي مهَّدت للحرب:
ما إن وطأت قدما بوش أرض البيت الأبيض حتى كان مطلوباً منه أن ينفِّذ مخططاً كان أصحاب «القرن الأميركي الجديد» قد أعدوا له قبل سنوات، ووضعوا تفاصيله انتظاراً لوصول رئيس يبصم على تنفيذه. فكان جورج بوش هو المنقذ المخلِّص. ولما كان المخططون مستعجلين على تنفيذ المشروع، في عهد رئيس مطواع ومخدَّر نفسياً ومعبَّأ دينياً إلى حدود اللوثة، والسبب هو أنهم قد لا يحصلون على فرصة أخرى، كان الرئيس الجديد منذ أول خطواته في البيت الأبيض حريصاً على تنفيذه استناداً إلى اختلاق أكاذيب وذرائع كانت معدَّة سلفاً ليفتتح بها عهده.
ففي 26 آب أغسطس 2002، قال نائب الرئيس ديك تشيني «ليس هنالك شك في أن صدام حسين يملك أسلحة دمار شامل، ويحضّر لاستخدامها ضد الولايات المتحدة».
-دور أجهزة المخابرات الصهيونية: أكد تقرير نشر في مركز جافي «الإسرائيلي» للأبحاث التابع لجامعة تل أبيب أن إسرائيل كانت شريكا كاملاًً مع نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير في اختراع صورة استخباراتية كاذبة لأسلحة الدمار الشامل المزعومة في العراق. وقال التقرير الذي نشرته صحيفة «EIR» الأمريكية إن حملة تشويه المعلومات قامت بها الحكومات الثلاث بتنسيق تام لتبرير غزو العراق. وقال كاتب التقرير الجنرال الاحتياط شلومر برون لـ«BBC» في 4 ديسمبر إن إسرائيل لم تكن فقط شريكاً كاملا... في تطوير صورة مزيفة، ولكنها أيضا عززت في قناعة الأمريكيين والبريطانيين بأن الأسلحة كانت موجودة. لو أن الاستخبارات الإسرائيلية قالت إن العراق لم يكن يملك تلك الإمكانات وأنه لم تكن هناك تهديدات حقيقية، فإن ذلك كان سيكون له بعض الأثر.
وعلى هذا السبيل سارت الإدارة الأميركية بقيادة جورج بوش، الذي كان منقاداً لها بدوره، وأمسكت باسطوانة وجود أسلحة دمار شامل في العراق. وشارك في تقديم المعلومات بعض أوساط ما كان يُسمّى بالمعارضة العراقية، وقدَّم معلومات للمخابرات الأميركية كل من: أحمد الجلبي، وأياد علاوي، وعبد العزيز الحكيم.
حمَّل بوش (جماعة المؤتمر الوطني) المسئولية عن أي التباس في هذه الرؤية، والمثير أن احمد الجلبي لم يجد حرجاً في الاعتراف بجريمته بل قال إنه غير مهتم بأية اتهامات توجه إليه طالما أن الهدف من هذه المعلومات قد تحقق مبدياً استعداده ليكون كبش فداء للرئيس!! والأكثر إثارة أن المخابرات الأمريكية مازالت إلى اليوم تتعامل مع الجلبي بهدف تزويدها بمعلومات عن المقاومة العراقية . أما المقابل المعلن فهو 340 ألف دولاراً شهرياً. وقد أكَّدت أكثر من جهة أجنبية تلك الواقعة. وأهم الشهادات تسرَّبت من داخل البيت الأميركي، بل ومن داخل بيت إدارة المحافظين الأميركيين المتطرفين الجدد.
تعلم إدارة بوش أن ذرائعها لشن العدوان على العراق كانت واهية من الأساس. ولأنها كانت تعتمد على أن النصر العسكري يغفر لها كذبها. ولما منعت المقاومة العراقية تحقيقه، دبَّ الإرباك بين الصقور، فراحوا يهربون إلى الأمام بإصرارهم على خلق التبريرات. ومن وسائل الكذب الجديدة أن رأسها تراجع عن تصريحات سابقة تقول بأن أسلحة الدمار الشامل العراقية تهدد أمن العالم خلال خمسة وأربعين دقيقة، إلى القول بأن صدام حسين كان لديه «الطموح والقدرة لاستخدام أسلحة دمار شامل، حتى لو لم يُعثر على أسلحة».
وأخيراً، وبعد تكليف فريق أميركي للتفتيش قدَّم رئيسه (دايفيد كاي) استقالته بعد أن أكَّد أنه لم يحصل على أية إثباتات تدل على أن العراق يمتلك تلك الأسلحة. وكان لتصريحات كاي حول الأسلحة وقع الصاعقة على البيت الأبيض، فشكَّلت له إحراجات واسعة قد يدفع بعض أهم أعضائها الثمن.
ولم تمر أساليب الخداع إلاَّ وقد وجدت من يكتشفها من الأميركيين من الحزبين الجمهوري والديموقراطي، وهناك نماذج كثيرة من تصريحات ومواقف كاشفي تلك الأساليب. وقد أثار الكذب استنكاراً واسعاً في أوساط الشعب الأميركي، فاندفع الديموقراطيون (المنافسون للجمهوريين في الانتخابات الأميركية) إلى المزيد من التحريض ضد إدارة صقور «القرن الأميركي الجديد».
بعد أشهر قليلة اندفعت وكالات الأنباء الأمريكية لكشف أخطاء إدارة بوش التي وقع فيها قبل الحرب على العراق، وكانت التحليلات والمعلومات تنتشر على صفحات الكثير من الصحف تحت عناوين تتهم بوش وإدارته بالخداع. والإشارة إلى تلك العناوين ما يغني عن التفصيل في قضية أصبحت أكثر من واضحة لدى الجميع: «لم تكن ترسانة العراق موجودة إلا على الورق». و«تصاعد الضغط للتحقيق في عمل الاستخبارات في فترة ما قبل الحرب»، و«ما هو الخطأ الذي وقع؟»، وكشفت المعلومات عن إنشاء البنتاغون وحدة استخبارات خاصة به، للبحث عن معلومات تدعم ادعاءات الإدارة بشأن الحرب على العراق.
3- إستمرار الاحتلال الأميركي للعراق استنزاف لعلاقات أميركا الدولية
على الرغم من أن البعض قد يحسب أن أصحاب مشروع «القرن الأميركي الجديد» يضربون عرض الحائط بكل آراء حلفائهم في المنظومة الرأسمالية وبكل مظاهر الغضب في الرأي العام العالمي، وهم لا ينتظرون أن يستمعوا إلى نصيحة أو احتجاج، نقول: إن هذا صحيح فيما لو لم تتعرَّض الإدارة إلى مشاكل ومآزق تعجز عن إيجاد حلول لها تضطرها لطلب المعونة منهم، ولكن أن تتعرَّض إلى تلك المآزق فإنها ستفتح أذنيها لتصغي صاغرة.
ولأن الإدارة وضعت نفسها أمام العديد من المآزق في «الرمال العراقية»، وأثبتت الوقائع السابقة أنها تشعر بحاجة إلى مساعدة أصدقائها من الدول الكبرى في المنظومة الرأسمالية وطلبت منهم علناً تلك المساعدة. وهي لا تستطيع أن تعتمد على مجموعة من الدول الضعيفة من الذين تأمرهم فيطيعوا، لأنهم –أصلاً- لا يملكون الإمكانيات المطلوبة. ولأن الدول الكبرى تعرف موقع إمكانياتها الحقيقية أصبحت كمثل من عرف الحاجة إليه «فتدلَّلاَ».
ولأن تلك الدول لا تريد –على المدى الاستراتيجي- أن ينجح مشروع المتطرفين الأميركيين لخطورته الاستراتيجية على مصالحهم السياسية والاقتصادية في العالم، بل يرفضون –أصلاً وفصلاً- ذلك المشروع، ويعملون من أجل ترسيخ مشروع بديل يقوم على قاعدة حماية النظام الرأسمالي لكن من دون هيمنة أحادية القطبية العالمية، بل أن تضمن حمايته بواسطة تعددية قطبية تسمح ببقاء توازن في العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية.
بعد أن تجاوزت الإدارة الأميركية، بكثير من الصلف والغرور، دور المجتمع الدولي. ولما شعرت أنها أصبحت شبه معزولة في حربها ضد العراق. ولما شعرت بثقل المأزق الذي وقعت فيه أمام شدة نشاط المقاومة العراقية، تراجعت عن صلفها السابق، وراحت تتوسَّل إلى دول العالم لكي تساندها. وكانت وسائلها تسير على خطين: خط العودة إلى هيئة الأمم المتحدة، وخط الضغط على بعض الدول الضعيفة، أو تلك المرتبطة مع المشروع الأميركي بمصالح اقتصادية.
أما حول الخط الأول، فهو التمويه على أهدافها، لأنها لا تريد من الأمم المتحدة إلاَّ أن تكون ستاراً سياسياً واقياً لأهدافها الحقيقية لأنها لا تريدها أكثر من صورة شكلية. فتاريخياً، وعملياً، كانت الأمم المتحدة، ولا تزال، وفي كل سلوكها السابق وخصوصاً خلال الحصار متساوقة مع الموقف الإنجلو صهيوني تجاه العراق، حتى وصلت الحال إلى تسليم الأمم المتحدة لكل ما لديها من أسرار عن العراق إلى أمريكا. وهي تريد أن تتدخل لتوفير تغطية له، وتريد أن تنقذ أمريكا. ففي العراق سيكون دور الأمم لا أكثر من مشرف على لجان ستدرس إمكانية حدوث انتخابات أم لا. أما الاحتلال، وبشكله الواقعي أو السيادي، فسيبقى لقوات الاحتلال. وستلعب دوراً مخدراً من شأنه أن يطيل أمده.
ولهذا السبب أعلنت قيادة المقاومة موقفها الواضح في كشف التواطؤ الذي تمارسه المنظمة الدولية بأوامر من الولايات المتحدة الأميركية. ورفضت أن يكون لها دور في العراق، لأن أي وجه من وجوه المساعدة التي قد تقوم بها الهيئة الأممية لن يكون إلاَّ تواطؤاً، فهي لم تتمتع «بالمصداقية والحياد على الإطلاق طيلة تواجدها وعملها التفتيشي على أرض العراق بحثاً عن أسلحة التدمير الشامل». وكان موظفوها «غير محصنين من التعامل أو الخدمة التجسسية لصالح الولايات المتحدة وغيرها».
ومما يذكر أن فضيحة التجسس على الأمين العام قد فتحت الباب أمام فضيحة ثانية تتعلق بتعرض هواتف مفتشي الأمم المتحدة في العراق لرقابة دائمة من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا، حيث أعلن ريتشارد باتلر رئيس لجنة التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل العراقية السابق أنه كان هدفاً لشبكة تجسس خلال قيامه بمهماته فيما بين العامين 1997 و1999 وقال:إن هواتفه كانت مراقبة على الدوام خلال مهمته في رئاسة وفد التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل العراقية موضحاً أن المراقبة كانت تتم من قبل جواسيس دول كبري، وأضاف على الأقل هنالك أربع دول كبري أعضاء في مجلس الأمن كانت تتنصت على كل محادثاتي.
من جهته اكتفي الأمين العام للأمم المتحدة بالقول إن المعلومات المخابراتية الخاطئة قد تسببت في أضرار يحتاج إصلاحها إلى وقت طويل دون أن يشير إلى حق المجتمع الدولي في معاقبة الذين خدعوه بتلك المعلومات، وهو موقف لا يختلف كثيراً عن موقفه من الفضيحة التي كشفتها الوزيرة البريطانية السابقة المستقيلة كلير شورت حين قالت: إن حكومة بلادها كانت تتجسس عليه بشكل منتظم، إذ اكتفي عنان بمطالبة لندن بالكف عن هذه الأساليب !!.
وابتدأت تداعيات خداع المجتمع الدولي تظهر تباعاً. فقد أعلن ثاباتيرو، رئيس الحكومة الإسبانية الجديد، تحديه لـجورج بوش حيث قال: إنه لن ينصاع لمطالب الرئيس الأمريكي بأن تقف القوات الإسبانية جنبًا إلى جنب مع قوات الاحتلال الأمريكي في العراق. وقال إنه سيعلن عن استدعاء 1300 عسكري أسباني منتشرين في العراق منذ صيف 2003، بعد تسلم مجلس النواب الجديد مهامه ، وقال: إن حرب العراق كانت كارثة، والاحتلال كارثة. وهذا ما نفَّذه بالفعل ابتداءً من 20/ 4/ 2004م.
ولحق به وزير الدفاع في دولة هندوراس الذي صرَّح بأن حكومة بلاده قررت سحب قواتها العسكرية الموجودة بالعراق والبالغ قوامها370 جنديًا يعملون تحت القيادة الأسبانية التي تعمل بدورها تحت القيادة البولندية في محافظات العراق الجنوبية والوسطى.
كما صرَّح وزير الخارجية الكرواتي أن بلاده تراجعت عن إرسال قوات إلى العراق والتوقيع على اتفاق مع واشنطن يعفي الجنود الأمريكيين من المثول أمام المحكمة الجنائية الدولية.
وعلى الصعيد نفسه أعلنت كوريا الجنوبية أنها ستؤخر إرسال قواتها إلى العراق إلى آخر حزيران/ يونيو بدلاً من نيسان/ أبريل. وإلى أنها تفضل إرسالها إلى أحد المناطق الجنوبية بعد اتضاح استمرار تدهور الموقف الأمني بمدينة كركوك الشمالية وهو ما كانت الولايات المتحدة تصر على استخدام القوات الكورية في العمليات الأمنية هناك.
وفى استراليا، حدد زعيم حزب العمل الأسترالي، إذا ما فاز الحزب في الانتخابات الاتحادية العامة ،أنه سوف يعيد تلك القوات إلى الوطن بحلول أعياد الميلاد.
بعض الغربيين، ومنهم من مواطني التحالف الأميركي – البريطاني، لم يجدوا أي سبب يبرر الاحتلال، كمثل الاتهام الذي وجَّهه عضو بارز في مجلس اللوردات البريطاني للمدعي العام غولد سميث بأنه قام بالبحث عن تفسير قانوني بأي ثمن لتبرير الحرب علي العراق أو بعبارة اللورد »قحط قاع البرميل القانوني بحثاً عن تفسير». ولأن قرار الحرب على العراق واحتلاله كان من دون غطاء قانوني أو شرعي، خاص أو عام، وُصِف العمل الذي تشاركت فيه بريطانيا وأميركا بأنه «سطو مسلَّح».
لكل تلك الأسباب، ستتعرض تحالفات الولايات المتحدة الأميركية الدولية والإقليمية إلى شروخ و تصدعات و انهيارات يصعب على أي محلل تصورها و تقديرها من الآن؛ ولكنها بلا شك ستكون فادحة. ولم تتردد بعض الأصوات الداخلية الأميركية عن الكشف عن مصير أميركا من دون تحالفات دولية، أو عن مصيرها وهي تتفرَّد في قيادة العالم بعيداً عن أية مساندة دولية، السبب الذي يساعد على الدعوة إلى التعددية القطبية:
تلك هي مادلين أولبرايت، وزيرة سابقة للخارجية الأميركية، وممن لا مكان في قلبها حباً بنظام حزب البعث في العراق، وممن لهم علاقات وثيقة مع العدو الصهيوني، تتوجَّه بالنقد –المشوب بالخوف- من مستوى الأداء السيئ التي هي عليه إدارة المحافظين الأميركيين المتطرفين الجدد. وهي تستند –في مخاوفها إلى أن الشعب الأميركي لن يستطيع أن يتحمَّل مشاهد التوابيت الجديدة التي تصل إلى أميركا كل يوم، والخوف الأشد هو أن تلك التوابيت تصل من دون أي أفق منظور للحد من وصولها من جهة، ولأن أميركا لا تقبض ثمنها «سنتاً واحداً» من جهة أخرى. وإذا كان على أميركا –أمبراطورية الرأسمالية في العالم- أن تقوم بمغامرات حربية مجزية ومن دون ثمن، عليها أن تحصِّن حروبها بدائرة من القطبية الرأسمالية المتعددة.
فإذا كان المشروع الإمبراطوري الأميركي يقوم على (عقيدة الولايات المتحدة بلاد الرب المختارة)، فهذا لا يترك مكاناً لحلفاء الولايات المتحدة الأميركية في تلك العقيدة لأنهم ليسوا أميركيين، ولن يترك مكاناً أيضاً لبقية دول العالم الممثلة في الهيئة العامة للأمم المتحدة. تلك الإيديولوجيا جامحة بلا شك، وهي لن تتعايش مع غيرها من الإيديولوجيات الأخرى، حتى تلك التي يأتي تصنيفها في نادي الدول الرأسمالية، فكيف يكون الأمر –في مثل تلك الحال- مع الدول الأخرى المفترَض أن تكون هدفاً لابتزاز الولايات المتحدة الأميركية وهيمنتها؟
فإذا كانت الولايات المتحدة تضغط على الدول الفقيرة، أو التي تحتاج إلى إعادة جدولة ديونها، فإن تشكل حلف دولي تقوده أوروبا أصبح أمراً ميسوراً أكثر من أي وقت مضى، وهو بدوره يشكل تهديداً يكبح جموح الحلم الإمبراطوري. وبهذا «يمكن لاتحاد أوروبي عملاق أن يجني ثمار تجنب محاكاة الإمبراطورية الأمريكية ويدعم منظمة الأمم المتحدة».
فإذا كان جموح المتطرفين الأميركيين الجدد لا يرى ولا يسمع أي شيء خارج ذاته، لأنه لم ييأس من إمكانية نجاح مشروعه، وهو يتابع ما يعتبره لعبة النجاح حتى آخر أشواطها في العراق، فإنما يحدوه أمل بتحقيق نصر ما –حتى لو كان محدوداً- ليجدد انتعاش الحالة الأميركية الداخلية، إلاَّ أن عوامل الصراع الداخلي الأميركي ستدفع بالطرف المعارض إلى تلقف الرسائل الأوروبية بجدية واهتمام. وبالتالي إن العامل الأوروبي، بما يمكن أن يولِّد من متغيرات على صعيد العلاقات الدولية –خاصة على صعيد المنظمة الدولية- سيكون لاعباً داخلياً مؤثراً في السياسة الداخلية الأميركية، بمعنى أن يكون معانداً ضد مشروع الأميركيين المتطرفين، ومسانداً للمعتدلين من الحركات والأحزاب والقوى الأميركية، أو بتشبيه أقرب للواقع من الممانعين للمشروع الذي تنقاد إليه إدارة الرئيس جورج بوش الإبن.
أما الحقيقة فهي أن غرق الأميركيين في العراق سيؤدي إلى حصول أزمة في الطاقات المالية للإدارة الأميركية. إن «إصلاح العراق سوف يستهلك أغلب الطاقات المتاحة للإدارة الأمريكية على مدى العام 2004م، والذي سيكون التركيز خلاله منصباً على احتواء الأزمات الأخرى وبناء إجماع دولي أكثر صلابة بشأن الردود الصحيحة على الكثير من التحديات الأمنية».
وبالإجمال، شنت أميركا حربها بطريقة تفتقر إلى الأمانة أفقدتها حلفاءها الأساسيين، وأجّجت غضب الرأي العام العالمي، وصبت براكين من الكراهية وجعلت الحرب على الإرهاب أكثر صعوبة والنصر فيها أبعد مما كان.
4-مظاهر الفشل في علاقاتها الدولية
تبيَّن عمق الإشكالية التي تفصل بين دول النادي الرأسمالي، بحيث أوصلت السلوكات الأميركية، حبل الود مع حلفائها إلى حافة القطيعة. وتعمل تلك الدول على استنفاد وسائل اللعبة الديبلوماسية مع أميركا. ولم تتوقَّف ممانعة الدول الصديقة لأميركا عند حدود روسيا وألمانيا وفرنسا، بل أخذت هواجس الخوف من الابتلاع الأميركي تراود حليفتها بريطانيا. وكي لا تقطع بريطانيا حبال العلاقات الأوروبية فتظهر معزولة، ابتدأت تميز نفسها عن أميركا حتى ولو بالشكل. وهذا مصدر قلق للإدارة الأميركية، التي وإن استطاعت أن تجر بالقوة البعض إلى متاهات مشاريعها المتفردة، فقد أصرَّ أصدقاؤها التقليديون على منعها، حتى ولو بالوسائل الديبلوماسية، عن الاستمرار في الانفراد والتفرد بحكم العالم.
لم تنج الإدارة الأميركية من حلفائها الذين أسعفوها بالجنود بل راح بعضهم يشكك في صدق ذرائعها التي ضللتهم بها لخوض الحرب، ويشكك بمصداقية إعلامها الذي يصوِّر الاحتلال إعماراً. وسارعت أكثر من دولة إلى اتخاذ قرار بسحب قواتها من العراق، بل ودعت الأميركيين والبريطانيين إلى القيام بذلك، كمثل ما حصل في أسبانيا. أما بعض الدول الأخرى فأعلنت استياءها من تضليل الإدارة الأميركية، وقد تكون تلك التصريحات مقدمة لانسحاب أو مقدمة للامتناع عن المشاركة، كمثل الموقف البولندي، والإيطالي، والكوري الجنوبي.
فمعظم قوات تحالف الدول الأربعين الذي تحدث عنه وزير الدفاع الأمريكي، إما قررت الخروج من المدن الواقعة تحت سيطرتها. أو التمترس في قواعدها بعيداً عن المدن. وبدون غطاء دولي للغزو فأمريكا لا تستطيع حشد قوات دول أخرى ربطت مشاركتها للقوات الأميركية في العراق بقرار من مجلس الأمن، مثل تركيا والباكستان وفرنسا وألمانيا.
إن أي فشل تمنى به السياسة الأمريكية ، سوف لن يقتصر أثره على إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش، وإنما سيدفع ثمنه، أيضاً، جميع حلفاء الولايات المتحدة.
***

(19): لم تسقط بغداد فقد ارتفعت فوق هاماتنا
وأنا أخاطب في هذا اليوم المجيد المناضلين والمناضلات، والمجاهدين والمجاهدات، والصامدين والصامدات، والصابرين والصابرات، أشعر بكل جوارحي معنى أن يكون الإنسان خاضعاً لمحتل آثم قاتل لص مجرم جاء ليسلب الكرامة قبل أن يسرق الثروات.
في مثل هذه اللحظة أخاطبهم بأن ما يكابدونه لن يعادل ثمن لحظة واحدة يشعر فيها العراقي والماجدة العراقية بالمهانة والإذلال تحت وصاية محتل لص وجبان، وتحت وصاية خائن ذليل خاضع لنزواته وأحلامه على حساب كرامته وشرفه.
فأن تكون الحياة كريمة وإلاَّ فلا أسفاً عليها. ذلك هو دليل المنافحين في العراق عن حريتهم وكرامتهم وسيادتهم.
في اليوم العاشر من نيسان انتقل العراقي من خندق الشرك الأميركي في المواجهات النظامية إلى خندق قوته في حرب الشعب.
وفي اليوم العاشر نزل الشعب العراقي بلحمه الحي إلى خندق المقتلة المشرَّفة بين صفوف الذين تجرأوا على العراق العظيم.
وفي اليوم العاشر راحت زنود العراقيين تكسر الأيدي التي تطاولت على هامة العراق.
وفي اليوم العاشر اتَّحدت زنود الجيش العراقي مع زنود العراقيين الذين بقيت في قلوبهم وضمائرهم ذرة من كرامة. ففيه اتحد الشعب مع الجيش الباسل، مع فدائيي صدام، مع الحرس الجمهوري، ليسطروا لنا أسفاراً في البطولة والتحدي.
في اليوم العاشر ارتفعت هامات العراقيين وقد ظنَّ المحتلون والعملاء أنهم سلبوا الكرامة من ضمائرهم، والشجاعة من قلوبهم، وتوهموا أنهم بعد أن أسقطوا تمثال رمز المقاومة في ساحة الفردوس، أن بغداد استسلمت.
لم تسقط بغداد فقد ارتفعت فوق هاماتنا،
لم تسقط بغداد بل ارتفعت فوق هامات الأقزام، الاحتلال الأميركي وعملائه الخونة، وراحت تدوسهم تحت أقدامها.
لم تسقط بغداد، ولم يسقط العراق، بل الخونة هم الذين ازدادوا سقوطاً في مستنقع الخيانة.
لم تسقط بغداد، بل انتصرت في بطولات العراقيين من أم قصر إلى أربيل.
بغداد يا رمز العراق والعروبة، نخاطب من خلالك كل المدن والقرى والسهوب التي لم تسمح ليد آثمة أن تمتد إليها إلاَّ وتخرج مكسورة، ولكل قدم تطأ ترابها المقدس إلاَّ وتخرج مبتورة.
بغداد يا رمز العراق والعروبة، نخاطب من خلالك كل المقاومين الأبطال في العراق وفي أمتنا العربية. أبطال يصنعون للأمة أكاليل الغار من قصب الأهوار، ومما تُنبته السهول حول دجلة والفرات. أو مما تنبته سهول بيسان في أرض فلسطين المحتلة. أو مما تنبته جبال حرمون في لبنان.
في اليوم العاشر من نيسان أثبتت أمتنا أنها لن تخضع ولن تركع. بل ستسمو وترتفع. وهي ستكسر اليد التي تتطاول فوق قامتها. فهي لن تقبِّل يد من يفوقها قوة، فقوتها بكرامتها، ويا ويل من يمس كرامة العرب.
وأخاطب في هذا اليوم كل العرب، أخاطبهم قائلاً: إن أنموذج المقاومة في العراق أنموذج مشرِّف لتاريخنا، وأسطورة احتوت سرعة الهجوم الأميركي المجرم ولجمت اندفاعته الهائلة وحطمت أحلامه، فاستفيدوا من نتائجها، وقدموا لها ما يتوجبه عليكم الواجب القومي لتدرأوا الخطر القادم إليكم قبل وصوله إلى عقر دوركم.
***

(20): وجهات نظر في ورشة حوار ديموقراطي:
«كُتَّاب المقاومة العراقية» يتسجالون حول تحديد يوم لانطلاقة المقاومة العراقية
28/ 4/ 2005م
لقد أثار السجال الدائر حول تحديد انطلاقة المقاومة الوطنية العراقية عندي هواجس ومخاوف كتلك التي تناقضت حوله شتى التنظيمات اللبنانية فيما له علاقة بتحديد انطلاقة المقاومة الوطنية اللبنانية في الربع الأخير من العام 1982م وامتدَّ إلى العام 1983م، و لا يزال التناقض جارياً حتى الآن. إذ لا تزال مختلف التنظيمات اللبنانية غير متفقة حول تحديد يوم الانطلاقة الأول. إذ يحتفل كل تنظيم بيوم يختلف عن اليوم الذي يحتفل به الآخر.
لقد لعبت الأهواء الإيديولوجية، للتنظيمات اللبنانية التي شاركت في مقاومة العدو الصهيوني، دوراً أساسياً في ذلك الاختلاف. وقد تحرر الجنوب، وكل ينسب إلى نفسه جزءًا من الفضل في ذلك، وهو محق بلا شك، فالجميع أسهموا بقسط أو بآخر. وإذا كانت المقاومة الإسلامية، التي ليست هي تنظيم آخر غير حزب الله، قد قطفت الإعلام واختطفت الأضواء، فلأنها استكملت المراحل الأخيرة من تاريخ المقاومة اللبنانية لأسباب ليس من المفيد إعادة التذكير بها، لأنها ستفتح سجالاً لا نجد فيه كلبنانيين فائدة في الوقت الذي يتحضَّر فيه الواعون لمقاومة الاستدارة الأميركية من العراق إلى لبنان وسوريا. وهي متروكة للتاريخ لكي يُنصف الجميع. وعليه أن ينصفهم. لكن تلك الثغرة لا تدع أحداً إلاَّ وهو معتز بشهادة كل الذين ارتفعت هاماتهم على الأرض التي تحررت أياً تكن هوياتهم الإيديولوجية، السياسية والدينية.
وإذا كان على من يمهِّدون لتأريخ حدث كبير، كمثل حدث المقاومة العراقية العملاقة، لا يمكن أن يخضعوا كل التفاصيل التي يعتمدها المؤرخ لغربال التقييم. وطبعاً لن ينتظر تسارع الأحداث نتائج عمل الأكاديميين ويعطيهم الفرصة الكافية لكي يأخذوا وقتهم الكامل في التدقيق والتمحيص والنقد. هذا بالإضافة إلى الاستحالة في جمع كل الوثائق والشهادات المطلوبة.
ولأننا نعرف أهمية التعبئة، وشد الهمم الذي يستوجبه علينا نضال المقاتلين في الخنادق. وهو بدون أدنى شك واجب على الإعلام الداعم والمشارك أن يمارسه. وإن تحديد يوم يحتفل به كل المقاومين وكل الداعمين والمؤيدين هو أمر يستوجبه الإعلام المقاوم من أجل تكريم المقاتلين أولاً، وتحريض الشعب العراقي لبذل المزيد من الانخراط في صفوف المقاومة ثانياً، ومن أجل الكشف عن حقائق ما يعتِّم عليه الإعلام المعادي ثالثاً، ولإثبات شرعية المقاومة ضد الاحتلال رابعاً.
ولأننا نعرف أن كل الذين انخرطوا في السجال حريصون على المقاومة العراقية، ندعوهم إلى حرص مقابل، هو أن لا يقعوا في المحاذير التي وقع فيها المقاومون اللبنانيون.
وبما يتوجبه عليَّ احترام كل المنخرطين في ورشة الإعلام المقاوم، وأقول بكل صراحة إن كل المتابعين لهذا الإعلام –حتى بأسماء المنخرطين فيه تنظيمات وأفراد- بدأوا يُصابون بالصدمة من مظاهر السجال واعتبروها بداية غير صحية. لكن هذا لم يقلل من شدة احترامهم لجميع الذين أبدوا وجهات نظرهم، إلاَّ أنهم يخشون من استمرارها.
ولكي لا يبقى الالتباس حاصلاً في أذهان من كتب، كما في أذهان من قرأ، وجدت نفسي معنياً بتقديم وجهة نظر، آملاً أن تجد عند أصحاب القرار مكاناً. كما آمل أن يتم حسم الموضوع لمنع حدوث السجال مرة أخرى. فيذهب من بعده كل الكُتَّاب المنخرطين فيه لممارسة دورهم الإعلامي الذي كشف تزوير الإدارة الأميركية، وبه نفخر، وبواسطته يرفدون المقاومة الباسلة في ظل تعتيم إعلامي خبيث، كبير وواسع.
ولعلَّ الجميع بكتاباتهم يجعلون طلقة المقاتل مسموعة لدى الآذان الصماء التي تجهل مدى تأثير الزنود العراقية السمر، وكل من شاركها أو قد يشاركها من العرب والمسلمين، وطلقات بنادقهم وأصوات عبواتهم الناسفة التي تصدِّر جثث الجنود والضباط المعتدين إلى مرؤوسيهم النائمين على وسادات من الحرير يحسبون كم حصَّلوا ويحصِّلون من ثروات عدوانهم على العراق. ولكن الأرق يلازمهم من محاكمات سوف تُقام لهم في محاكم مجرمي الحرب.
أما فيما يتعلَّق بوجهة نظري الشخصية، فأوردها بعد استعراض مكثَّف لشتى وجهات النظر. راجياً أن يعتبر كل من أسهم بالسجال الدائر أن ما أسهم فيه لا تعدو كونها وجهة نظر حتى تتحوَّل إلى قرار يحدد يوماً رمزياً للاحتفال بانطلاقة المقاومة العراقية:
1-وجهة نظر الكاتبة إيمان السعدون: تقول إنه في الحادي عشر من نيسان (ابريل) انطلقت المقاومة العراقية معلنة بداية اندحار المشروع الاستعماري الأمريكي، ومسجلة ولادة أسرع مقاومة وطنية لاحتلال أجنبي في التاريخ. لذا تقترح أن تقوم جماهير شعبنا في العراق وأبناء امتنا العربية في الاحتفال في يوم الحادي عشر من نيسان (ابريل) من كل عام عيداً وطنياً وقومياً تحيي فيه وتحتفل ببطولات شباب الأمة وشاباتها من أبطال المقاومة العراقية.
2-وجهة نظر الدكتور محمد العبيدي: يقول إن المقاومة العراقية انطلقت من منطقة الأعظمية في بغداد، الأعظمية التي أصبحت تعرف بعاصمة المقاومة في بغداد. ويستند في ذلك إلى شهادات من كانوا حاضرين التجمع الذي جرى عند ساحة الإمام الأعظم (أبو حنيفة) يوم 9/4/ 2003م، حين أمرهم السيد الرئيس بحمل بالسلاح لمواجهة الغزاة. وقد تصدى أبناء الأعظمية الأبطال للغزاة عند منطقة شارع المغرب التي تبعد حولي كيلومترين من ساحة الإمام الأعظم مساء يوم 9/4. وللتأريخ –يقول الدكتور العبيدي- فقد قتل في تلك المعركة أول (علج) أمريكي مجرم في بغداد على أيدي المقاومة الشعبية. وبذلك استحقت هذه المدينة اسم عاصمة المقاومة في بغداد. هذا وقد اعتقلت قوات الاحتلال يومها عدداً من الأبطال بينهم المناضل أحمد عادل العزاوي، الذي لا زال معتقلاً لغاية هذا اليوم ولا يُعرف مصيره.
يستطرد الدكتور العبيدي قائلاً: لدينا العشرات من الشهود على أن المقاومة الباسلة قد بدأت في يوم 9/4/ 2003م، وفي منطقة الأعظمية بالذات، وهي بذلك تكون امتداداً للمعركة التي كان يخوضها الجيش العراقي، والتي انتهت باحتلال بغداد. ويشير إلى أن مقبرة الإمام الأعظم فيها جانب لشهداء ذلك اليوم العظيم من تأريخ المقاومة.

3-وجهة نظر الأستاذ ماجد مكي الجميل: في العاشر من نيسان/أبريل 2003 لقي رئيس العرفاء (تيري دبليو. همنغواي Terry W. Hemingway) مصرعه في أحد شوارع بغداد عندما انفجرت سيارة ملغومة قرب عربة القتال المدرعة برادلي التي كان يستقلها. وفي العاشر من نيسان أيضاً لقي العريف (جيفري بوهر Jeffery E. Bohr) مصرعه في شمال بغداد عند تعرضه لنيران أسلحة رشاشة. هذا ما تنبؤنا به البيانات الصحفية لوزارة الدفاع الأمريكية حول مقتل جنودها على أرض العراق (البيان الصحفي رقم 234/03 بتاريخ 12 أبريل 2003 بالنسبة لهمنغواي، على سبيل المثال).
4-وجهة نظر الأستاذ طلعت الرشيدي: دعا إلى الاحتفال بيوم المقاومة في التاسع من نيسان ليكون متصلا من غير فاصل مع نضال شعبنا وهكذا يكون العراقيون مستمرين بجهادهم من غير توقف .
5-وجهة نظر المحرر في «دورية العراق»: يثور الجدل حالياً حول ما إذا كان بدء انطلاقة المقاومة العراقية الباسلة يوم 10 نيسان أو بعد ذلك . و لا ندري لماذا يحدد تاريخ انطلاقة المقاومة بعد احتلال بغداد ، وكما نعرف أن جيش الاحتلال شق طريقه من الجنوب وقد صادف في طريقه الطويل ليس الجيش العراقي وحده وإنما أنواعاً من المقاومة الشعبية نذكر بعضها :
-أعلنت وكالة الأنباء العراقية الرسمية مساء الجمعة 4-4-2003 أن الانفجار الذي استهدف حاجزاً للقوات الأمريكية بالعراق، وأدى إلى مقتل ثلاثة جنود أمريكيين هو عملية استشهادية قامت بها امرأتان عراقيتان: الفدائية نور الشمري، والفدائية وداد الدليمي. ونفذ ضابط عراقي يدعى (علي جعفر موسى حمادي النعماني) عملية استشهادية السبت 29-3-2003. وفي رأينا إذا أردنا تأريخ المقاومة الشعبية فلنعتبر يوم 4/4/2003 يوم الشهيدتين العراقيتين الفدائيتين وداد ونور هي بداية.
6-وجهة نظر الأستاذ محمد البغدادي: إن يوم انطلاق المقاومة هو يوم التاسع من نيسان عام 2003 وهو يوم متواصل مع بقية أيام كفاح الشعب العراقي ضد العدوان الأميركي المستمر على بلدنا منذ العام 1991. ويسوق الأستاذ البغدادي الأدلة ذاتها التي أشرنا إليها في وجهة نظر الدكتور العبيدي. لكنه يستطرد قائلاً: وتمييزاً عما زعم الاحتلال أنه«يوم التحرير»، الأمر الذي سيخدم الآلة الإعلامية للعدو المحتل، ولأن فيه تجنٍ على التاريخ والتضحيات والدماء، يدعو الأستاذ البغدادي إلى اعتبار 9/ 4، يوماً لانطلاقة المقاومة.
7-وجهة نظر استناداً لشهادة الملازم الأول خالد السلطاني من فريق حماية الرئيس صدام حسين: يوم التاسع من نيسان/ إبريل أي يوم الإعلان عن احتلال بغداد، وقتها كانت الأعظمية تعيش مشهدا مختلفا. غير أننا شعرنا في ذلك اليوم، وقد اقتربت الساعة من الخامسة مساء، أن الموضوع مختلف. ويعتقد السلطاني أن الأعظمية التي تعد معقلا تاريخيا لحزب البعث التي يقطنها بغداديون أصلاء هي التي دفعت بالرئيس إلى اختيارها ليقدم منها أول رسالة للمقاومة الشعبية. في ذلك اليوم قال الرئيس للمواطنين الذين تحلقوا حوله في الجامع، اليوم بدأت معركتنا الحقيقية مع الأعداء، هذه المعركة نحن الذين سنحدد مسارها، ويبدو أنه كان واثقا من كلامه، بدليل الانطلاقة السريعة للمقاومة العراقية. الرئيس صدام حسين شارك المقاتلين العراقيين والمجاهدين العرب بشكل فاعل في معركة نفق الشرطة يوم الخميس في العاشر من نيسان/ إبريل/ 2003م.
إن الرئيس صدام حسين كان فخوراً بالصمود البطولي لمدينة أم قصر وحاميتها، ولمدن الجنوب التي قال الأعداء أن أهلها سيستقبلونهم بالورود، فكان استقبالهم بالبنادق والرصاص، وكان يتحدث طويلا مع معاونيه وقادته العسكريين عن ضرورة الاستفادة من درس أم قصر في الصمود.
8-الامام الخالصي يدعو للمشاركة في المظاهرات للتنديد بالاحتلال بمناسبة مرور سنتين على احتلال العراق في يوم التاسع من نيسان عام2005.
9-حسب وثائق «موقع الكادر»: 10 أبريل سجَّل مقتل ضابط بريطاني في البصرة برصاص قناص.
10-حسب وثائق «نداء المقاومة»: منذ الأيام الأولى لتدنيس قوات الغزو الأمريكي- البريطاني بغداد وبقية المدن العراقية ، بدأت عمليات المقاومة الشعبية البطولية ضد الغزاة المحتلين.
11-وجهة نظر«أبو أوس»، كما وردت في متن نص الأستاذ صلاح المختار حول الموضوع نفسه: هناك جنديان أمريكيان قُتِلا يوم العاشر من نيسان 2003، الأول بواسطة سيّارة مفخخة والثاني خلال مصادمات مع عناصر عراقية مسلحة... من هذا المنطلق يرجِّح الأستاذ أن يكونً العاشر من نيسان يوماً لانطلاق المقاومة... فهناك، على الأقل، دليل مادي ملموس على وجود مقاومة يوم العاشر من نيسان...
وعليه، يتابع الأستاذ أبو أوس، لو تم الاحتفال بيوم الحادي عشر من نيسان يوماً لانطلاقة المقاومة كيف سيتم الرد على سؤال بسيط جداً : «تحتفلون في يوم الحادي عشر من نيسان بانطلاقة المقاومة ... إذاً من قتل الجنديين الأمريكيين يوم العاشر من نيسان؟..».
12-وجهة نظر الأستاذ صلاح المختار: يعلِّل وجهة نظره استناداً إلى الاجتماع المهم لقيادة قطر العراق في مدينة الدور يوم 11 نيسان من العام 2003م، وفيه –يقول- اتَّخذت القيادة قرار خوض حرب الشعب، كما أن قيادة الحزب قد هيّأت واستعدت وأعدت الشعب لخوض حرب التحرير الشعبية منذ وقت طويل قبل بدء الغزو...
ويستطرد قائلاً: وجود هجمات على قوات الاحتلال يوم10/4/2003 صحيح تماماً، وكذلك يوم 9/4 بالذات قد شهد معارك نوعية للمقاومة في خمسة مناطق من بغداد على الأقل، من بينها معركة الاعظمية التي كانت تدور رحاها بقيادة الرئيس صدام حسين، في نفس وقت إسقاط القوات الأمريكية لتمثال الرئيس في ساحة الفردوس. وكانت هناك –أيضاً- عمليات حرب عصابات منذ بدأ الغزو يوم 20/3/2003 إلى جانب الحرب النظامية.
على الرغم من ذلك، يستطرد الأستاذ المختار، فإن حرب العصابات أو حرب الشعب ، كستراتيجية رسمية وأساسية ، كان بعد اجتماع الدور التاريخي يوم 11/4 ، حيث صدرت الأوامر لكافة التشكيلات القتالية ، الحزبية والعسكرية بان تنفذ الخطة (ب) كما أُطلق عليها عالمياً.
13-تحديد يوم الانطلاقة كما ورد في بيانات حزب البعث: هناك التباس حصل في تحديد يوم الانطلاقة في بيانين متتابعين:
-جاء في بيان قيادة قطر العرق، بتاريخ 19/ 3/ 2005م، ما يلي: «إن يوم التاسع من نيسان 2003 قد شكل بداية التقابل القتالي مع الولايات المتحدة تأسيساً على مفهوم نضالي ثوري للبعث، حيث بدأت صفحة جديدة ومهمة في المنازلة، تتميز بأنها الصفحة المدبرة والمصممة مسبقاً، ووفقاً لمنظور وتشخيص قيادة الحزب والدولة وفي المقدمة الرفيق الأمين العام رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة... عندما لا نستطيع تجنب العدوان علينا فإننا سنقاتل، وللقتال صفحاته، وصفحة حرب الشعب والمقاومة الشعبية المسلحة هي الصفحة البعثية باقتدار».
-كما جاء في بيان قيادة قطر العرق، بتاريخ 3/ 4/ 2005م، ما يلي: «لقد كان يوم التاسع من نيسان 2003 يوماً حالك الظلام إلا أن فجر العاشر منه بدد كل ذلك الظلام فكانت الانطلاقة المنظمة لأقوى أسرع وأعظم مقاومة شهدتها حركات التحرر للشعوب في العالم وكان ذلك اليوم بمثابة الإجابة على تساؤل ماذا بعد الاحتلال؟».
بعد أن استعرضنا مجمل وجهات النظر التي حصلنا عليها، سندلي بوجهة نظرنا التالية:
إن تحديد يوم محدد لانطلاقة المقاومة هو رمز نضالي أكثر منه رمزاً سياسياً أو تاريخياً. ولكنه يستفيد من الوقائع السياسية والتاريخية ليكون أقرب إلى الدقة.
إن يوم الانطلاقة الرمزي لهو تكريم لكل الشهداء، والمناضلين، الذين ارتفعوا بهاماتهم فوقنا جميعاً عندما صدّوا العدوان قبل احتلال بغداد أو بعده. بداية من أول إطلاقة وجهها المناضلون في أم قصر وانتهاءً بآخر يوم يتم فيه تحرير العراق.
وبعد أن أثبتت الحرب النظامية لا جدواها منذ احتلال فلسطين في العام 1948م، من دون أن ننسى أي شهيد ارتفع بهامته وهو يقاتل في صفوف أي جيش نظامي عربي. ولأن علينا أن نحتفل بانطلاقة عصر المقاومة الشعبية في العراق، وهذا ما يستوجب تحديد يوم رمزي لانطلاقتها، ولأن ذلك اليوم مرتبط بالتوقيت الذي استكملت فيه المواجهة النظامية أغراضها ودورها. نرى أن هناك ضرورة لتحديد تاريخ لهذا اليوم الرمزي.
وبعد أن عدنا إلى الوثائق المنشورة، أي تلك التي توفَّرت لدينا حتى الآن. نقترح على قيادة المقاومة في العراق أن تفصل بهذه المسألة وتعلن أمام كل المؤيدين والمشاركين والداعمين يوماً يحتفلون به. وتسهيلاً لاتخاذ ما تراه مناسباً. نضع بين أيديها أول وثيقة أُعلنت، وبها تم تبشير الرأي العام بولادة المقاومة، وطمأنت النفوس بوجود القائد صدام حسين حياً، وأعلنت أنه سيتوجه برسالة إلى الأمة.
تلك الوثيقة هي البيان الأول الذي وجَّهته قيادة المقاومة والتحرير بتاريخ 22/ 4/ 2003م. وفيه أعلنت أن أول عملياتها في المقاومة الشعبية قد ابتدأت بتاريخ العاشر من نيسان من العام 2003م. وفي بيانها الثالث، بتاريخ 29/ 4/ 2003م، مهَّدت لأول رسالة سيتوجه بها الرئيس صدام حسين للأمة:
وجاء في البيان الأول: منذ يوم 10/ 4/ 2003 ورجال ونساء المقاومة والتحرير يخوضون عمليات قتالية ما بين الهجوم الخاطف والعمليات الاستشهادية.
كما بشَّر البيان الذي نشرته جريدة القدس العربي، بتاريخ 29/ 4/ 2004م، بأن الرئيس صدام حسين لا يزال حياً، وهذا نص العبارة: « وللمعلومات فان الرئيس صدام حسين لم يقتل، وما زال على قيد الحياة وسيوجه خلال 72 ساعة رسالة لأبناء العراق والأمة». وتصديقاً لما ورد في البيان، فقد وجَّه الرئيس رسالته المنتظرة، والتي أرِّخت في 28/ 4/ 2003م.
وجهة نظر:
بتاريخ شهر أيلول/ سبتمبر من العام 2003م، وبتلقائية الباحث مستنداً إلى الوثائق المتوفرة في ذلك الوقت، سجَّلت في الفصل السادس من كتاب «المقاومة الوطنية العراقية: معركة الحسم ضد الأمركة»، الذي وجد طريقه للنشر في تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2003م، ما يلي: «احتفل الغزاة بإسقاط تمثال الأمين العام للحزب في ساحة الفردوس في بغداد، في التاسع من نيسان من العام 2003م، إعلاناً منهم بانتهاء الحرب، وكأنهم بذلك يؤكدون أن حزب البعث انتهى بانتهاء سلطته السياسية في الحكم... وفي غمرة الفوضى العارمة، التي أشاعتها قوات الاحتلال وسمحت بها، بالتعاون مع عملائها. وما كاد الإعلام الأميركي، إعلام الغزاة الذين لا يريدون ما ينغِّص عليهم انتصارهم العسكري النظامي، يعلن انتصار القوات الأميركية في العراق، حتى كانت في الجهة الأخرى ترتفع زنود الأبطال العراقيين، بقيادة الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي، منذ العاشر من نيسان من العام 2003م».
وكنت قد اعتمدت على أول وثيقة أعلنتها «قيادة المقاومة والتحرير»، والتي نشرتها جريدة القدس العربي، بتاريخ 22/ 4/ 2003م، وفيها جاء إعلان واضح لا لبس فيه: «منذ يوم 10/ 4/ 2003 ورجال ونساء المقاومة والتحرير يخوضون عمليات قتالية ما بين الهجوم الخاطف والعمليات الاستشهادية». ومن أجل النظر إلى الوثيقة بعين النقد للتأكد من صحة ما ورد فيها، وشرعية الذي أصدرها، لاعتمادها في التأريخ الصحيح، نبيَّن الوقائع التالية:
أولاً: وردت في بيان قيادة المقاومة والتحرير بتاريخ 29/ 4/ 2003م، العبارة التالية: «ولا بد من توضيح أن القيادة (أي قيادة المقاومة والتحرير) ليست امتداداً للحكومة العراقية التي لا نشك في وطنيتها وإن كنا نختلف معها في إهمالها الخطوات الجادة للتحول نحو الديمقراطية... واليوم اتضحت للرئيس صدام حسين الحقيقة، فقد اكتشف أن من كان يعارض الديمقراطية في العراق من المسؤولين الحكوميين هم أول من هرب من ساحة القتال».
وجاء في رسالة الرئيس صدام، بتاريخ 28/ 4/ 2003م، دعوة إلى العراقيين قائلاً: «انسوا كل شيء، وقاوموا الاحتلال، فالخطيئة تبدأ عندما تكون هناك أولويات غير المحتل وطرده». يتابع الرئيس صدام حسين، في رسالته الثانية، بتاريخ 7/ 5/ 2003م: »وحين يكون هناك وقت ومكان لمراجعة التجربة (أي تجربة حزب البعث قبل احتلال العراق) سنفعل بروح ديمقراطية لا تخضع لأجنبي أو صهيوني«.
ثانياً: كما بشَّر البيان الذي نشرته جريدة القدس العربي، بتاريخ 29/ 4/ 2004م، بأن الرئيس صدام حسين لا يزال حياً، وهذا نص العبارة: « وللمعلومات فان الرئيس صدام حسين لم يقتل، وما زال على قيد الحياة وسيوجه خلال 72 ساعة رسالة لأبناء العراق والأمة». وتصديقاً لما ورد في البيان، فقد وجَّه الرئيس رسالته المنتظرة، والتي أرِّخت في 28/ 4/ 2003م.
إن تلك الإشارات المُثْبَتة بالنص تؤكد علاقة الرئيس صدام حسين بـ«قيادة المقاومة والتحرير». كما تؤكد -بشكل غير مباشر- أن تلك القيادة لن تكون شيئاً آخر غير القيادة التي التقت في مؤتمر الدور الذي كشف عنه الأستاذ المختار. ولارتباط «قيادة المقاومة والتحرير» مع الرئيس صدام ينفي إمكانية أن تكون للمقاومة قيادتان: تلك التي أعلنت البيان الأول، بتاريخ 22/ 4/ 2003م. وتلك التي اجتمعت في الدور بتاريخ 11/ 4/ 2003م. وقد تكون أهداف المؤتمر هو وضع آلية للتنسيق بين شتى البعثيين المكلفين بمهمات يتكامل بعضها مع البعض الآخر. ولأن المهمات الموكلة إلى العسكريين هي غير تلك الموكلة للسياسيين، ولأن العمل العسكري لن ينتظر بياناً سياسياً لينطلق، ولهذا فقد سبق العمل العسكري البيان السياسي، وهذا ما قد يفسِّره صدور البيان السياسي الأول عن قيادة قطر العراق، بتاريخ العاشر من حزيران/ يونيو من العام 2003م.
وعلى أية حال، فإن الاحتفال بيوم انطلاقة المقاومة مظهر احتفالي نضالي، تشارك فيه كل القوى المؤيدة للمقاومة التي لا تستطيع المشاركة بالعمل العسكري من أجل تكريم المقاومة بمناضليها وشهدائها. لهذا نعتبر تحديد يوم واحد ثابت من كل عام أمراً ضرورياً.
ولأنه يوم رمزي، ولا علاقة له بإيديولوجية غير «إيديولوجية المقاومة الشعبية»، يستطيع أي تنظيم أن يكرِّم مناضليه وشهداءه فيه. وفي توحيد المناسبة أكثر من مغزى توحيدي، نفسي ومعنوي، يشمل المقاتلين والشهداء والمناطق والأطياف.
كما يمكننا، من أجل تحديد يوم انطلاقة المقاومة في العراق، أن نجمع ما بين عامليْ التاريخ والتأثير القيادي. ولأن قيادة البعث كانت قائدة مخططة ومنفِّذة، لا يمكن إلاَّ أن نضع حصيلة وجهات النظر بين يديها، ونطالبها بإعلان يوم وطني وقومي، وفي تقديرنا أنه سيكون يوماً عالمياً لكل حركات التحرر في العالم، ليقوم الجميع –وفي وقت واحد- برفع أصواتهم لدعم المقاومة في العراق.
***

(21): نشر للديموقراطية في العراق أم نشر للصهيونية فيه؟
6/ 5/ 2005م
كشف الأستاذ صلاح المختار في مقالة نشرها، بتاريخ 26/ 12/ 2004م، عن جملة من الوساطات، التي قام بها أكثر من طرف عربي أو أجنبي مكلَّف من الإدارة الأميركية، مع الرئيس صدام حسين. وكان محور تلك الوساطات الطلب منه تغيير موقفه من «إسرائيل».
وبناء على تلك المعلومات سنسهم، مع من كتب حول حصة الصهيونية في العراق، بالتركيز على ثلاث مسائل:
الأولى: الأطماع التوراتية اليهودية في أرض بابل، «أرض الفرات»، كحدود للدولة اليهودية. ولتأمين عمق جيو استراتيجي للدولة التي اغتصبت أرض فلسطين.
الثانية: الوقائع الميدانية، والدور الميداني للعدو الصهيوني في العراق.
الثالثة: كشف زيف الغطاء الديموقراطي الذي يتظلل به أعضاء إدارة مشروع بناء إمبراطورية أميركية في العالم، ويقف على رأسهم جورج بوش، رئيس تلك الإدارة، وكاسحة ألغامها.

الأولى: الأطماع التوراتية اليهودية في أرض بابل، «أرض الفرات»، كحدود للدولة اليهودية:
عندما تعثَّر المشروع الصهيوني التوراتي بفعل الرفض الفلسطيني ومقاومته له، أخَّر تنفيذ الحلم وأعاقه، لكنه لم يلغه. فاستمر الحلم حيَّاً لارتباطه بالمشروع الأمبريالي الذي له مصلحة في وجود الدولة الصهيونية كأهم عراقيل توحيد الوطن العربي. فأطلَّ المشروع التوراتي –في هذه الرحلة- من خلال مشروع أصحاب «القرن الأميركي الجديد». فطالما أن لهؤلاء حلماً في بناء امبرطورية عالمية، ولتحقيق الحلم وضرورة استمراره على أصحابه أن يضمنوا وجود مرتكزات ثابتة، فلم يجدوا أفضل من الصهيونية حليفاً ومرتكزاً، لذا كانت الصهيونية –ولا تزال وسوف تستمر- ذلك الحليف الثابت لارتباطه مصلحياً وتوراتياً بالمشروع الأميركي. فكانت الصهيونية شريكاً رابعاً للمشروع الأميركي إضافة إلى التيار المسيحي اليميني المتشدد والمافيات العالمية.
لكل تلك الأسباب كان العشرون من آذار من العام 2003م، بداية العدوان الأميركي على العراق، كأنه إضاءة لشعلة انطلاق تنفيذ المشروع التوراتي الصهيوني. وإذا ما قُدِّر النجاح للمشروع سيكون التاريخ المذكور بداية جديدة للسنة العبرية. ومرادفاً للسادس من أكتوبر الميلادي، الذي يعني بداية السنة العبرية.
الثانية: الوقائع الميدانية، والدور الميداني للعدو الصهيوني في العراق:
لم تتوفَّر معلومات كافية عن الدور الصهيوني في مشروع العدوان على العراق، وبعد احتلاله إلاَّ بعد أشهر قليلة من الاحتلال. وقد بدأت المعلومات والتقارير ذات العلاقة تتسرَّب منذ أواخر العام 2003م. وأخذت تتكاثر وتتراكم، ولا تزال تتكشَّف جوانب كثيرة ومثيرة، عن الأطماع الصهيونية في العراق. وأكثرها دلالة هو أن لاحتلال العراق زوايا استراتيجية في المشروع الصهيوني، ولأن الوجود الصهيوني أصبح ماثلاً بوضوح على الأرض العراقية، فلن تترك الصهيونية تلك الفرصة التاريخية من دون أن تبذل كل الإمكانيات والجهود والتضحيات من أجل نجاح الاحتلال الأميركي والعمل على تثبيته. فالتحالف الأميركي – الصهيوني حول تلك المسألة تحالف استراتيجي ومصيري من أجل هدفين استراتيجيين: الإمبراطورية الأميركية، والدولة التوراتية اليهودية.
باختصار، لقد شاركت الصهيونية العالمية، وربيبتها الدولة الصهيونية على أرض فلسطين المحتلة، في التخطيط وتوفير كل المتطلبات اللوجستية والإعلامية والعسكرية للعدوان على العراق. كما كان للدولة الصهيونية عملاءها ممن سموا أنفسهم، سابقاً، «المعارضة العراقية» (راجع كتابنا الثاني عن المقاومة العراقية). وكان أوضحهم تاريخية هم زعامات كردية معروفة. ولم يعترض التغلغل الصهيوني إلى العراق أية عوائق لأن طرق الوصول كانت معبَّدة وسالكة.
فإلى جانب الاتفاق الاستراتيجي الذي عقدته الدولة الصهيونية مع أطراف كردية، وبرعاية وضمانات أميركية، لبناء دولة صهيونية كردية في شمال العراق (يمكن القارئ مراجعة تفاصيلها في كتابنا الثاني عن المقاومة العراقية)، فقد لعب الصهاينة أكثر من دور في تخريب البنى العلمية والحضارية في العراق، وكان من أهمها اغتيال البنية العلمية البشرية من خلال اغتيال عدد من العلماء العراقيين وتهجير أكثرهم إلى خارج العراق. إلى سرقة المتاحف والمنشآت النووية وتجهيزات المختبرات العسكرية والعلمية بالتكافل والتضامن مع الإيرانيين.

الثالثة: كشف زيف الغطاء الديموقراطي عن إدارة مشروع بناء إمبراطورية أميركية في العالم، ويقف على رأسهم جورج بوش، رئيس تلك الإدارة، وكاسحة ألغامها.
لم تخرج الأهداف الصهيونية في العراق عن سياق إعادة مجد «الدولة التوراتية»، وهي أهداف معادلة في القيمة لأهداف المشروع الأميركي في السيطرة على الثروة البترولية العربية، بل أكثرها أهمية لأن الثروة النفطية مؤهلة للنضوب، بينما بناء «الدولة التوراتية» هو مشروع دائم يرتبط –حسب العقيدة اليهودية- بأوامر إلهية في تيسير بناء دولة دائمة ل«شعب الله المختار».
وبمثل الكشف عن حقيقة الأطماع الأميركية والصهيونية، تتعرَّى الأسباب المعلنة عن أهداف العدوان والاحتلال عن ورقة التوت الأخيرة. كما أنها تكشف للمغفَّلين الذي انطلت عليهم ادِّعاءات إدارة الشر الأميركية، وانكشف القناع عن «الدموع الكاذبة»، في حدقتيْ جورج بوش، حزناً على «الديموقراطية التي كانت منحورة في العراق» كما يدَّعي.
ولمن فاتته الحقائق، عن جهل أو تجهيل أو تجاهل، عن أهداف الاحتلال الأميركي للعراق، من مغفَّلين وأصحاب وطر أو هوى أو ضعاف أمام بريق الدولار والليبرالية الأميركية، عليهم أن يروا -قبل سقوط بيزنطية بالكامل- أن نشر المبادئ الصهيونية في العراق، وتوسيع رقعة الدولة الصهيونية في فلسطين المحتلة، إنما هي لب الأهداف الحقيقية، أما شعارات الديموقراطية فهي قشور لخداع المغفلين وليس غيرهم.
لقد انتزعت الصهيونية أرض فلسطين بعد مجازر كبرى سجَّلها التاريخ بأحرف من العار ضد العائدين إلى أرض الميعاد، وهي تقع في نقطة وسط بين «النيل» و«الفرات». وقد ذلَّلت «النيل»، أو أذلَّته، بـ«اتفاقية كمب ديفيد» مع أنور السادات، الذي اغتيل ودُفن في مقابر الخالدين من «الخونة». وهي انتقلت إلى أرض «الفرات» على دبابات أميركية تحمل أعلام «ديموقراطية القتل»، ورفعت علمها المتميز على روابي «كردستان العراق» بالتنسيق والاتفاق، بالانسجام والتكامل، مع عميلين تاريخيين (الطالباني والبارازاني) يخدعان الأكراد ويعدانهم بدولة كردية، لم يمكنهما الحصول عليها إلاَّ إذا رفعت علم الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة جنباً إلى جنب العلم الكردي. وتسللت تلك الأمنية تحت مظلة «الفيدرالية». وباركتها كل القوى المذهبية في العراق واهمة أنها ستهنأ بفيدرالياتها الخاصة.
وهكذا يتسلل الحلم الصهيوني إلى العراق على دبابة أميركية تحمل علم «الديموقراطية» لتضليل المغفلين والسذَّج من الانفصاليين العرقيين والانفصاليين المذهبيين.
***

(22): وسائل الاحتيال الأميركي لتشريع بقاء الاحتلال في العراق:
أساليب «الحرباء القانونية» هي سيدة الموقف
8/ 5/ 2005م
تعدَّدت وسائل تمويه المشروع الأميركي وتعدَّدت ألوانه، ووقع القانونيون الأميركيون في بلبلة وحيرة حول ابتكار وسائل لإضفاء الشرعية القانونية لبقاء الاحتلال في العراق أطول مدة ممكنة. ولعلَّنا من خلال رصدنا لتاريخية الوسائل المستندة إلى نصائح أولئك القانونيين التابعين لمراكز الأبحاث في الشركات الأميركية الكبرى ما يجعل البلبلة في النصائح واضحة، وما يُظهر الارتباك الكبير في مواقف الإدارة الأميركية التي تسير «خبط عشواء»، وهي ما إن تنتقل من خطوة إلى أخرى فلا تجد إلاَّ الكثير من الثغرات، فأصبحت وسائلها مثل ثوب مهلهل ما أن ترقعه في مكان الفتق حتى ينفتق من مكان آخر.

أولاً: لون الخداع «الحربائي» الأول:
تمويه احتلال العراق تحت شعار «تحريره ونشر الديموقراطية فيه»:
بداية، قبل بدء غزو العراق واحتلاله، اتخذت قمة جزر الآزور الثلاثية بين جورج بوش، الرئيس الأميركي، وطوني بلير، رئيس الحكومة البريطانية، وأزنار، رئيس الحكومة الإسبانية، قرار الحرب ضد العراق. فطالما أنه لم يحصل على شرعية دولية كاملة، فليحصل عليها كيفما كان. وهو اتخذ قراره بالعدوان حتى لو اتَّبع شرعية الغاب التي ينفرد بها من بين كل الدول.
حينذاك دعا جورج بوش حليفيه إلى تلك القمة بعد أن أفلس من جرِّ مجلس الأمن إلى إصدار قرار أممي يغطي عدوانه على العراق. وقد هدَّد، بالطبع لأن القوة هي التي تحدد للحق مبادئه، بأن يسعى لتأسيس هيئة أممية تكون بديلة للهيئات السابقة، وهذا واضح بأن تلك الهيئات أخذت تشكل عائقاً أمام أطماعه.
لقد غزا الأميركيون العراق واحتلوه من دون أي غطاء قانوني. ولم يكن جورج بوش يعير اهتماماً للقانون الدولي، وعندما سأله أحد الصحافيين عما إذا كان قد احتاط للجانب القانوني كغطاء للحرب، أجاب: «لا يهمني ما يقوله رجل القانون الدولي.. إننا سوف نركل قفا أحدهم».
أما السبب وراء استهتار الإدارة الأميركية بالقانون الدولي، فأيديولوجي لأن الرأسمالية الأميركية –في مفهوم اليمين الأميركي المتطرف، الذي يمثله جورج بوش- ترى أن القانون الدولي، إذا لم يستجب إلى مصالحها فهو مرفوض، فمصلحة الأميركيين المتطرفين هي المقياس التي يقيسون عليها القوانين الدولية والإنسانية.
ثانياً: مرحلة تلوين العدوان بألوان «الاحتلال» كمنفذ، يهرب فيه من محاسبة القانون الدولي، ويشرَّع من خلاله اتفاقيات مُلزمة:
مغروراً بسرعة انتصاره في الحرب النظامية. ومغروراً بأنه سيضع العالم كله، وعلى رأسهم معارضيه في شن الحرب على العراق، أمام حقائق القوة كما أمام حقائق جغرافية تفرضها القوة العسكرية الأميركية، شنَّ الحرب على العراق واحتلَّه. فعربد على العالم واستشاط غضباً، وهدَّد وتوعَّد. ولتحويل النصر النظامي العسكري إلى كسب سياسي واقتصادي استحضر من دباباته عملاءه من العراقيين، الذين أتى بهم ليشكلوا له الغطاء القانوني. فانصاع العالم لرغبة الإمبراطور الأميركي، الذي له الحق وحده بأن يحتال على القانون الدولي، وأن يستبيح كل شرائع السيادة الوطنية التي ضمنتها القوانين الأممية. فهلَّلت دول العالم الذليلة لنصاعة البياض التي تتحلى بها «ديموقراطية فرعون/ نيرون/ قيصر/ رامبو/ إمبراطور العالم/ جورج بوش»، وأعلنوا معه نجاح معركة «تحرير العراق»!!.
بعد أن نامت الإدارة الأميركية على حرير أوهامها في النصر العسكري النظامي، ابتدأت مرحلة تأمين طلاء كل مظهر للعدوان والغزو بألوان شرعية دولية، فلجأت إلى مجلس الأمن، وحصلت منه على القرار 1483 في 22 أيار/ مايو 2003 م. وهذا القرار –يقول الدكتور عبد الحق العاني-: أغفل تعمداً الإشارة إلى غزو العراق وهو خرق لميثاق الأمم المتحدة، وأسبغ شرعية على بيانات لعملاء أميركا واعتبرها حكومة شرعية (كإشارة إلى بيان الناصرية وغيره في مراحل الاحتلال الأولى)، وبذلك يكون قد نزع شرعية الحكومة السابقة. بينما «ليس له الحق في نزع سيادة دولة عضو في الأمم المتحدة ... نتيجة حرب عدوانية عليها، وليس لمجلس الأمن سلطة سحب الاعتراف بالحكومة العراقية القائمة».
ويرى الدكتور كمال سيد قادر أن بريطانيا وأمريكا اعترفتا رسمياً حسب قرار مجلس الأمن 1483 بوضعهما القانوني في العراق كمحتلين. ومنذ، تلك اللحظة، ولما ألغتا صفة الغزو، بتواطؤ من مجلس الأمن الدولي، بدأت مرحلة التوسل الأميركي من أجل طلي مشروعها بلون آخر. فنقلته من لون اسمه «تحرير العراق» إلى لون أسمته «الاحتلال العسكري». وهنا تبتدئ مرحلة تمويه «المشروع الأميركي» الثانية.
ثالثاً: مرحلة تمويه تشريع «حكومة عراقية»، كطرف ثاني مخوَّل بتوقيع اتفاقيات ملزمة:
ففي أوائل تموز/ يوليو من العام 2003م، عيَّنت إدارة الاحتلال ما أسمته «مجلس الحكم الانتقالي»، وجمعت فيه كل عملائها القادمين على دباباتها، أو ب«بوسطات» إيرانية. ولما انتهت من ذلك، أرغمت مجلس الأمن الدولي على الاعتراف بشرعيته. فأصدر القرار 1500 في14 آب/ أغسطس 2003م، وفيه رحَّب بتشكيل مجلس الحكم دون تحديد الصفة القانونية التي تم بموجبها تشكيل المجلس أو سلطة تشكيله، وهو بهذا متفق مع موقفه اللاقانوني في القرار 1483.

رابعاً: مرحلة تمويه الاحتلال بلون الجيش الصديق، فتحوَّل اللون من لون «جيش الاحتلال» إلى لون «القوة المتعددة الجنسيات»:
وكي تنفلت الإدارة الأميركية من كل تهمة يوجهها لها القانون الدولي بصفتها دولة محتلة مُلزَمة بضوابط وقوانين وشرائع ترتبها عليها اتفاقيات جنيف، كانت حريصة على تغيير لونها من قوة احتلال إلى قوة صديقة. فأصدر مجلس الأمن الدولي القرار 1511 في 16 تشرين الأول/ أكتوبر 2003م. وفيه اعتبر أن «مجلس الحكم الانتقالي»، ووزراءه، هم الأجهزة الرئيسة للإدارة المؤقتة العراقية، وكذلك الإذن بتشكيل قوة «متعددة الجنسيات» لصيانة الأمن والاستقرار في العراق، لكن –كما يرى الدكتور العاني- دون تحديد الآلية التي تتم بموجبها تشكيل مثل تلك القوة.
وما كان ناقصاً في القرار المذكور، جاء القرار 1546 في 8 حزيران/ يونيو 2004م، حول هذا الجانب ليستكمله. يقول الدكتور كمال سيد قادر: كانت كل من الإدارة الأميركية، والحكومة البريطانية، قد طالبتا مجلس الأمن بتغيير وضعهما القانوني من «قوات محتلة» إلى «قوات متعددة الجنسيات» تساعد على ضبط الأمن في العراق.

خامساً: مرحلة استكمال مسرحية تمويه العدوان الأميركي، وتمويه الطرف العراقي كطرف ثاني، استعداداً للحصول على اتفاقيات تستجيب لمصلحة «مشروع الأميركيين المتطرفين الجدد»:
صحيح أن القرار الرقم 1546، الصادر عن مجلس الأمن الدولي، ألزم الإدارة الأميركية بنقل «السيادة المزعومة» للعراقيين: بدءًا من الثلاثين من حزيران/ يونيو العام 2004م، مروراً بإجراء انتخابات تشريعية في الثلاثين من كانون الثاني/ يناير من العام 2005م، وصولاً إلى تشكيل «حكومة عراقية» منتخبة في كانون الأول/ ديسمبر من العام 2005م، إلاَّ أن واقع التواطؤ الدولي مع مخططات «إدارة جورج بوش» واضح بما لا لبس فيه.
لكن التواطؤ لم يكن من دون إبقاء أفخاخ في نصوص قرارات مجلس الأمن، يرى الدكتور عبد الحق العاني: لقد ألزم القرار 1483 قوات الاحتلال بالقانون الدولي، وهذا ما «يفتح الباب أمام الطرف المعتدى عليه أن يطعن بالحرب والاحتلال بجملته مستنداً إلى قرار مجلس الأمن نفسه».
سادساً: ممحاة المقاومة العراقية كفيلة بتعطيل كل ألوان الخداع والتمويه القانوني الأميركي والأممي:
ومن جهة أخرى، نرى أن مسرحية التمويه والخداع التي يقوم بتمثيلها، والتوقيع عليها، طرفان متعاقدان ناقصا الشرعية القانونية: الإدارة الأميركية، وعملائها على شتى ألوانهم، لن يكونا الطرفان الوحيدان اللذان يتفرَّدا بتحديد مصير العراق. فهناك العامل الحاسم في تحديد مصيره، هو الإيمان باستعادة سيادة العراق، الذي يملأ قلوب العراقيين الأحرار. هم حاملو لواء المقاومة حتى التحرير. هذا الطرف سوف لن يسمح بأن تكون كل الاتفاقيات التي وقَّعها عملاء ال «سي آي إيه» حيَّة وصالحة للتطبيق، إذ سوف يحملها جيش جورج بوش، وتابعه الذليل طوني بلير. كما ستجعل كل القوى الدولية الأكثر ذلاً من بلير، يحملون أوراق تلك الاتفاقيات للاحتفاظ بها في ملفات التاريخ كإدانة لهم عندما يقدمهم الضمير العالمي إلى المحاكمة أمام «المحكمة الجنائية الدولية». وتلك هي النتيجة التي يعلنها كل القانونيين، مروراً بمستشاري الإدارة الأميركية والحكومة البريطانية، وهم الذين أخذوا يتهافتون على غسل أيديهم من «دم الصدِّيق».
أما العودة إلى الملف المعني بجرائم الحرب التي يرتكبها أكثر الأنظمة قذارة في العالم بحق الشعب العراقي، يجعلنا نُذهل بجسامة الجرائم والكمية الهائلة منها المنشورة في شتى وسائل الإعلام، مما يدفعنا إلى التحضير لهذا الملف، كخطوة استباقية لموعد التحرير لكي يكون جاهزاً لتستخدمه حكومة المقاومة والتحرير في الاقتصاص من الجناة الآثمين.
فبوركت مطارق المقاومة العراقية، فعلى وقعها سيقع جورج بوش، وطوني بلير، وبارلسكوني، وهيوارد... وغيرهم في قبضة العدالة الدولية، لينالوا جزاء ما خدعوا شعوبهم به. وما اقترفته أيديهم من جرائم بشعة في العراق، وغير العراق. ولن يكون أمام مجرمي التاريخ إلاَّ أن يُعلَّقوا على المشانق، وأن يُمنعوا، هم وأولادهم، من التلذذ بالثروات التي كدَّسوها على حساب دماء العراقيين وأعراضهم.
أما هل يستفيق زعماء النظام العربي الرسمي على وقع أصوات الماجدات العراقيات، وهن يستغثن؟ وعلى أصوات أطفال العراق الذين يُهانون كل يوم؟
فلا نحسب أن لديهم آذان تسمع، لكن إلى أين سيهربون من آثام مذلَّة لحقت بهم، وهي لن تُمحى بل يجب أن تُبتر. أما الجواب فهو عند الشعب العربي، الذي لا نظن إلاَّ أنه يتحرق شوقاً للانتفاض والثورة ضد أولياء الأمر فيه، ويجعلهم عبرة لكل آثم ذليل.
***

(23): صدام حسين كبير رغماً عن أنوفهم: لكن أين الكرامة العربية؟
في 20/ 5/ 2005
مرة أخرى تظهر قذارة الوحش الأميركي. والوحش غرائزياً مجرد من الوظيفة الأخلاقية. أما من يدَّعي الأخلاق من البشر ويمارس عدوانيته، عن سابق تصور وتصميم، فهو أكثر وحشية من الوحش، وأكثر حيوانية من الحيوان. وتلك هي وظيفة جورج بوش التي يعبَّر فيها عن إيديولوجيا إدارته كلها.
من المحزن المبكي، إلى المحزن الذي يثير السخرية فينا، هو أن إدارة «الوحوش الأميركية» تريدنا أن نصدق أن ما يرشح عن جرائمها الفظيعة في العراق، وغيره، لا يخرج عن كونه تصرفات فردية لهذا العريف أو ذاك، لهذه «العاهرة» أو تلك، لذلك الضابط أو تلك «الفالتة»، فيحاكمهم صورياً ضحكاً على «ذقوننا». ويحكم عليهم ب«الغنى الأبدي».
فهو يحاكمهم من فوق الطاولة، ويُغدق عليهم من تحتها بمئات آلاف الدولارات. فترسخ في ذاكرتنا صورة سجن بعضهم، وتغيب عنها أنهم يُكافأون تشجيعاً لجرائمهم في إلحاق الأذى الشديد بالشعب العراقي وإهانته. وإرغام المعتقلين في سجونه، على الاعتراف، تحت شتى صنوف الإذلال النفسي والجسدي والمعنوي.
تبَّاً لعلماء، الإدارة السياسية وإدارة الشركات، من الذين روَّضوهم في الاجتماع والنفس والسياسة والقانون، وجعلوهم آلة تضخ لهم كل أنواع النصائح التي يُظهرون فيه حيوانيتهم ووحشيتهم بثوب إنساني ديموقراطي.
بالأمس انكشفت جرائمهم في سجن أبو غريب، فحاكموا أفراداً أقروا بأنهم كانوا ينفذون أوامر مسؤوليهم الكبار. والبارحة دنَّسوا القرآن الكريم واعتذروا وحمَّلوا الوزر أحد الجنود. واليوم يبثُّون صور الرئيس صدام حسين وهو في سجنه، واستنكرت «وزارة العدوان الأميركية» تسريب الصور، وكأنها «خيال في الصحراء» لا سلطة لها على سلوك جنودها، أو كأن سلطة المخابرات المركزية التي دوَّخت العالم عاجزة عن حفظ سلامة رئيس للجمهورية في أسره.
من نشر تلك الصور، التي ألبسوا مسؤولية تسريبها لأحد الحراس، يحاول جورج بوش و«عصاباته» التأثير على معنويات المقاومة العراقية. كما يقصدون أن يدجِّنوا الشعب العربي على إطاعة الأوامر من خلال دفعهم للقبول، جرعة جرعة، بعبودية قراصنة القرن الواحد والعشرين. القراصنة الذين كانوا يقيدون أيدي وأرجل العبيد الذين كانوا يصدرونهم إلى أميركا القرن الثامن عشر ليكونوا في خدمة أسيادهم البيض.
تلك الصورالشنيعة التي تبثها شاشات التلفزة عن وسائل تدجين العبيد، يحاولون اليوم تقليدها ليدبوا الرعب والخوف في قلوب أصحاب النفوس الضعيفة. وببثهم صور الرئيس العراقي في ثيابه الداخلية، أو وهو يغسل بنطاله بنفسه، وكأنه تهديداً موجهاً إلى كل رئيس عربي ليوحوا له أنهم يستطيعون، إذا ما رفض أوامرهم، أن يسقطوه ليلقى مصير الرئيس صدام حسين.
وهي رسالة تهديد ووعيد للذين يفكرون في التمرد على أوامر رئيس «حيوانات الغابة الأميركية ووحوشها».
لكن صدام حسين سيظل كبيراً حتى وهو قابع في سجنه. سيظل كبيراً حتى وهو في الثياب الداخلية، وسيظل كبيراً حتى وهو يغسل بنطاله بنفسه. كما ظل كبيراً عندما صوَّروه في أيام أسره الأولى.
صدام حسين مرَّغ أنوفهم بصلابته وصموده ودفاعه عن كرامة الأمة. فخاب فألهم وارتبكت حسابات «كومبيوتراتهم». أرادوا أن يقايضوه ويساوموه، كمساومة التاجر حول سلعة، ولم يفهموا أن الكرامة الوطنية ليست بسلعة يمكنهم المساومة عليها مع من وضع «الكرامة» في كفة وكل «مغريات» الدنيا المادية في الكفة الأخرى، فاختار بينهما كفة «الكرامة» ورفض الكفة الأخرى.
لو كان في أدمغتهم ذرة من تعقل وفهم لكانوا وضعوا لعدوانيتهم، ووحشيتهم، وحيوانيتهم، حسابات أخرى. ولو تمعنوا بالأسباب التي دفعت صدام حسين ليقول: لا لأميركا، قبل العدوان والاحتلال، لكانوا أيقنوا أنه لن يقبل ما رفضه حينذاك. ولما رفض مساومتهم، وكل المخلصين الصادقين الذين يعرفون عنفوانه وحبه للتضحية بكل شيء من أجل كرامة أمته، كانوا ينتظرون منه صد وزير «بنتاغون العدوان الأميركي». لم يستطيعوا الإمساك بنبض الكرامة العربية التي تملأ عقل صدام حسين وضميره، كما تملأ عقول العراقيين وضمائرهم. فرجال عصابات الإدارة الأميركية يفكرون كالآلة، فاقدو الشعور والضمير. ومن يراجع بدقة الكيفية التي أسسوا فيها إيديولوجيتهم لن يستغرب ما يقومون به.
أيها السيد الرئيس،
نقولها بصوت مدوٍ. أنت السجَّان وهم السجناء. لقد أثارت أعصابهم برودة عقلك. وألحقت الذل بهم عندما أتوا يستجدونك بوقف المقاومة فقمت بتحقيرهم. وأخرجت وزير «عدوانهم» ذليلاً مكسور الخاطر، فجعلتنا نحزن على منظره الكريه البائس لأنه كان يراهن على الإيقاع بك ليساوم على حريتك الشخصية مقابل أن يسجنوا أمتك، فلطمته برفضك، فأضمر لك الحقد، وهو مخزون عنده منذ وقت طويل.
أما كيف يرد لك الصاع؟ فنصحه علماؤه برد الصاع صاعين. فتصرَّف بخسة ونذالة، وهذا شأنه وشأن كل أفراد «إدارة الوحوش» التي ينتمي إليها. والخسة والنذالة لا يمكن أن يغض القانون الدولي، ولا اتفاقيات جنيف، ولا «المحكمة الجنائية الدولية»، الطرف عنها. فهو، ورئيسه، وكل مزرعة «الحيوانات» في الإدارة، لن يسلموا من عقابها مهما طال الزمن أو قصر. فهم لن يسلموا من العقاب المؤجَّل، مهما احتالوا وخدعوا وغشوا في القانون الأميركي الخاص، أو مهما حاولوا أن يُؤخِّروا محاكمتهم، كمجرمين سواءٌ أكانوا كباراً أم كانوا صغارا. وإذا كانوا يؤجلون الحكم عليهم فهم سيقعون في قبضة العدالة مهما طال الزمن.
أيها السيد الرئيس
أنت صدام حسين وكفاك فخراً بهذا الاسم. تحوَّل اسمك إلى مصدر للخوف والرعب الذي يؤرق جفون جورج بوش، كما يؤرق «غابة الحيوانات» في إدارته.
إنهم يحاولون إذلالنا، من نشر الصور التي نشروها وليس إذلاك. فأنت برهنت بما فيه الكفاية عن عزة النفس والكبرياء التي نحسدك عليها.
أما نحن أيها السيد الرئيس فأذلاء لأننا قد أضعنا بوصلة الكرامة. فنحن لا نطلب من أنظمتنا الرسمية، بكل ما تتميز به من جبن وخذلان، أن يرفعوا صوتهم لأنه قد صُودر من عهد بعيد. وإنما أن ينظر الكثيرون منهم إلى مصيرهم من خلال النظر إلى الصور التي وزَّعتها وزارة «العدوان» الأميركية. فالنظر من تلك الزاوية، كما نحسب، قد يدفعهم إلى الخجل من أن تنشر إدارة العدوان الأميركية صورهم. ونحن نرى أنهم إذا ما استمروا بمرحلة عدم الشعور بالخجل سيكونون في القريب العاجل على مرمى كاميرات رامسفيلد لتنشر صور كل زعيم عربي يخرج عن «بيت الطاعة الأميركي» على شاشات التلفزة.
قد تكون النتيجة قريبة، هذا إذا لم تكن صورهم جاهزة في أرشيف وكالة المخابرات العدوانية المركزية التي يرأسها «نيغروبونتي» الآن مكافأة له على نجاحه في فنون الإخراج الإجرامي. ومن لا يعلم ذلك، فلن يلزمه الكثير من الجهد للحصول على ما يريد من معلومات عن تاريخه الأسود.
أيها السيد الرئيس
نبشرك أنك لست وحدك. وأن شعب العراق ليس وحده. وأنت تعلم ذلك على الرغم من وجودك في الأسر. إن الضمير العالمي، هذا إذا حذفنا من فقدوه ممن تربوا على أيدي المافيا العالمية من رؤساء الحكومات والدول، لا يزال حياً. وضمير الشعب العربي، على الرغم من كبته، فهو يعتبرك المدافع عن كرامة العرب وحاميها. ولن يطول الانتظار. ونحن على الطريق سائرون.
وعلى الرغم من ذلك فلن نستطيع أن نكبت صرختنا: آن للكرامة العربية أن تقول لا للشذوذ الأميركي. وإلى أن تسمع الآذان الصماء نداء الواجب القومي والإنساني، نحيي في أبطال المقاومة العراقية، أبطال الكرامة والحرية، ونلعن كل خائن لوطنه، كما نلعن كل يد آثمة تسهم في احتلال العراق أو تسكت عن احتلاله. وإن يوم حساب «الوحوش الأميركية الكاسرة»، وثعالب الأمة وخونتها، لقريب.
***
(24): إبراهيم الجعفري يرتكب جريمة الجرائم في تاريخ العراق
2/ 6/ 2005
بعد مرور أربعة أشهر، وبعد مخاض عسير، وضع جورج بوش اللمسات الأخيرة على مسرحية الانتخابات العراقية التي نظمتها أجهزة الـ«سي آي إيه» في الثلاثين من كانون الثاني من العام 2005.
وبعد مخاض عسير آخر، بين أخذ ورد، بين جدال وخصام، وبين تهديد وتهديد، كاد العملاء يبطشون ببعضهم، وهم مصدِّقون أنهم مارسوا الديموقراطية المزعومة، وصدَّقوا أنهم حازوا على ثقة الشعب العراقي، وحلموا أنهم حازوا على حقوقهم، فراحوا يقتتلون حول من يركب على هذا الكرسي أو ذاك. ولما طال الانتظار من دون أن يتفقوا برضاهم، أتى إليهم رامسفيلد مقرِّعاً تارة ومهدداً تارة أخرى. وأعطاهم كلمة السر ووزَّع عليهم الخوازيق. وقال لهم إنكم «تعرفون ما عليكم أن تفعلوا». وركب طائرته وعاد إلى بلاده.
ولحقت به كوندوليزا لتسجل اسمها في سجل الذين غامروا بزيارة للعراق، حتى لا يفوتها قطار هوليوود، لعلَّ أحد المخرجين الكبار يُعد لإنتاج فيلم يمثله «رامبوات» الإدارة الأميركية. ولعلَّها وزعت التهديدات باسم وزارتها على عبيدها ممن ينتسبون زوراً إلى العراق. وقد وزَّعت ابتساماتها على الخصيان ممن وكَّلهم رئيسها المحبوب لسرقة أموال العراق وإرادته.
لم يكن حماس الإدارة وحرصها على إعلان نتائج مسرحية الانتخابات صادراً عن رغبة في تعيين «الواجهات التي تتلطى وراءها»، لأنها دخلت منذ غزو العراق، وهي معروفة، وكل منها يعرف دوره، ويعرف حدوده. فقد حفظنه قبل الغزو بسنوات عديدة. بل كان حماس «إدارة العدوان الأميركية» صادراً من حرصها على ترتيب شكل البيت العراقي بعد الانتخابات المزعومة، وقبل الاستحقاق الأممي في حزيران/ يونيو ، أي قبل النظر في التجديد لقوات الاحتلال كما نص القرار 1483.
ولما طالت لعبة عملائها من العراقيين، وخوفاً من أن يداهمها الاستحقاق الأممي قبل أن تقطف نتائج الانتخابات الحقيقية التي أجرتها في كانون الثاني من العام 2005، لوَّحت بالعصا التي يعرف عملاؤها لسعتها. ويعرفون أن جورج بوش لن يتورَّع عن استبدالهم بمن هو أسرع منهم استجابة للأوامر. فركَّبوا الحكومة بما تيسَّر من العصي والخصيان. وبعد إعلان تشكيلتهم، التي هي على تلك الشاكلة، بادر ابراهيم الجعفري إلى إعلان نتائج الانتخابات في الخامس والعشرين من أيار 2005، فلم تكن النتيجة إلاَّ تقديم طلب إلى مجلس الأمن، يتمنى فيه على المجلس أن يجدد لـ«لقوات الأميركية الصديقة» فترة أخرى للبقاء في العراق!!
ألم يكن الهدف الأول والأخير من الانتخابات في العراق غير الإعلان عن هذا الطلب؟
تعامى شذاذ الآفاق عن أن نتائج الانتخابات كانت معروفة قبل الغزو والعدوان والاحتلال، وهم لم يكن عندهم خشية من أن يفوزوا، ولا كيف يفوزون. أسماؤهم مكتوبة في «لوح البيت الأسود المحفوظ» منذ أن تلقى الخصيان تدريباتهم في كواليس الـ«سي آي إيه». ذلك التعامي هو الذي جعلهم يظنون أنفسهم رجالاً. وتناسوا أن الهدف الأميركي لم يكن أكثر من أن يقوم الخصيان ممن باركهم جورج بوش بالإعلان عن عشقهم لصداقة «مجانين البيت الأبيض»، وللبرهان على ذلك العشق يمر عبر الطلب ببقاء قوات الاحتلال في العراق. وكان الطلب «متعففاً وخجولاً» كأنه صادراً عمن «يتعففن وهن خجولات». فخصيان آخر «سلطان زمانه» لن يستطيعوا أن يسعدوا بليلة واحدة من دون «ليلى الأميركية»، سواءٌ أكانت كوندوليزا أم كان رامسفيلد.
وحيث إن خصيان «السلطان الأميركي» قد برَّأوا ذمتهم بتقديم الطلب إلى «كوفي» فليس عليه إلاَّ أن يبصم على تجديد آخر لاحتلال غير شرعي بكل المقاييس. فلم يتأخر درس الطلب، إذ كان المجلس جاهزاً لـ«البصم»، فجدد لها ثمانية أشهر تنتهي في شباط/ فبراير من العام 2006.
ألم يدر هؤلاء وأولئك أن «إدارة العدوان الأميركية» كانت ستعتمد على «خيالات مجلس الحكم المؤقت» في إضفاء شرعية قانونية دولية على وجودها في العراق؟ وللمنخدعين بهم نقول:
منذ أن وطأت أقدام المحتل الأميركي أرض العراق كانت «إدارة العدوان الأميركية» قد أعدَّت سيناريوهات مستقبله. ومن المفيد أن نعيد رسم تلك السيناريوهات من أجل أن نحدد تحديداً دقيقاً موقع «حكومة ابراهيم الجعفري» من تلك الصورة. لكي نحدد الدور الذي تؤديه في جريمة ذبح العراق، التي على أساسها نرصد ماذا حقق الاحتلال الأميركي من أهدافه.
ولكي تصبح صورة البدائل، التي وضعها بعد تعثر مرحلته العسكرية، واضحة أمام أعين «الأغبياء» من الذين يلحسون المبرد ويلعقون دمهم. ومثلهم في ذلك مثل القط الغبي الذي غرق في لعق الدم الذي يسيل على المبرد بغزارة من دون أن يعرف أن ما يلعق ليس كسباً، بل خسارة ما بعدها خسارة، فدمه سوف ينزف كله فيموت من دون أن يدري ما هو السبب.
وإذا كنا لن نحسب «ابراهيم الجعفري»، بمن يمثل، أو بمن يخدع ، «غبياً». وهو ليس بغبي لأنه يعرف ما ترتكبه يداه. بل جاء على دبابة أميركية وهو يحفظ الدرس الذي عليه أن يتلوه من دون إنقاص بأي حرف فيه أو أية زيادة.
ركب ابراهيم الجعفري «سفينة النجاة الشيعية في العراق» وراح، على وقع موسيقى «إعادة حقوق شيعية كانت مسلوبة» يعزف على وتر قذر وخطر. ويصوِّر نفسه أنه «إبراهام لنكولن» عصره ومصره. فهو «إبراهام العراق» الذي سيطرد الاحتلال الأميركي بالعمل السياسي، والحنكة السياسية.
ففي نغماته ما يدغدغ عواطف الطيبين من المخدوعين، وفيها ما يجعل المتواطئين يرقصون فرحاً بأن أمامهم الكثير من الدم الذي سيلعقونه ويتلذذون به، وقد وعدهم أن «المن والسلوى» في العراق سيكون من نصيبهم عندما شارك في غزو بلده، وعندما شارك في ذبح المقاومين، وعندما أوغل في سرقة ما سُرق ليضعه في جيوب «لصوص الإدارة الأميركية». ووعدهم أنهم عندما يمانعون مقاومة الاحتلال، فسوف تستقيم الأمور وتنفتح الأبواب أمام ما حملته «إدارة اللصوص الأميركية» من خير وديموقراطية.
فأما المخدوعين فسيجدون أنفسهم في عداد الأموات بعد أن يلعقوا من دم وعود الجعفري الذي هو دمهم. وأما المتواطئين فسيجدون أنفسهم خدماً وحشماً للشركات الأميركية الكبرى التي تعمل لرهن العراق، بشعبه وثرواته، لعشرات السنين.
حكومة الجعفري مرحلة، أو حلقة، من مراحل أو حلقات المخطط الأميركي لشرعنة الاحتلال. فإذا كانت أصول المرحلة العسكرية وفصولها أصبحت واضحة شديدة الوضوح أمامنا، فإن ما يكتنفه الغموض هو ما أعدَّته «إدارة الوحوش الأميركية»، أو نفَّذته –حتى الآن- من أصول مرحلة «العدوان الاقتصادي» وفصوله.
إن أصول «العدوان الاقتصادي» هو السيطرة، بشكل كامل، على ثروات العراق، وعلى كمِّ أفواه الشعب العراقي وتدريبها على أن تستهلك فقط لا غير. وكان من المفترض أن يكون التاسع من نيسان من العام 2003 نهاية المرحلة العدوانية العسكرية وبداية مرحلة قطف ثمارها لمصلحة «أصول العدوان الاقتصادي». ولمثل تلك المصلحة اعتبرت «إدارة الشر الأميركية» أن الفصل العسكري قد أدى أغراضه واكتمل. فدعا جورج بوش، في الأول من أيار من العام 2003، جيوشه لكي تستريح من أجل أن يستكمل سياسيو الاقتصاد ركوب «دبابة الشركات الأميركية الكبرى»، ولكي يقودوا معركة احتلال العراق اقتصادياً. فانتهى دور سانشيز، كقائد لمرحلة «العدوان العسكري»، وجاء دور الحاكم الأميركي غارنر فلم تبقيه الشركات الكبرى أكثر من أسبوعين لأن خبرته أمنية عسكرية وليست اقتصادية، واستبدلته بـ«بول بريمر» صاحب الباع الطويل بالاحتيال في مجال الاقتصاد.
لم ينته مشروع بريمر عندما استبدلته «إدارة العدوان»، في الثلاثين من حزيران/ يونيو 2004، بـ«نيغروبونتي» الخبير في «الجريمة الأمنية». ولكنه خلافاً لذلك رحل «بريمر» بعد أن وضع الأصول السياسية لاقتصاد الشركات الأميركية في العراق، ولم يكن ينقصها لتكتمل إلاَّ إنهاء المقاومة العراقية كشرط أساسي وضروري لكي تدخل الرساميل الجبانة إلى العراق في ظروف أمنية مناسبة.
لقد وضع بريمر أسس «التحويل السياسي والاقتصادي» للعراق، وصاغ كل القوانين والتشريعات التي تستجيب لمصالح الشركات الكبرى. كما عيَّن في إدارات الدولة العراقية، سواءٌ أكان على صعيد الباصمين سياسياً على كل القرارات والقوانين والتشريعات ممن أتى بهم على دباباته، أم على صعيد الخبراء في سرقة الثروات، أو كما يُقال «سارقو الكحل من العين»، أو «من إذا صافحته عليك أن تعد أصابعك بعد مصافحته».
كان من المرسوم في مرحلتيْ العدوان، العسكري والاقتصادي، أن يستسلم العراق. وتُلغى مؤسساته السياسية والتشريعية، أي أن يتم إسقاط كل شرعية للنظام السياسي السابق، واستبداله بنظام آخر يبصم على شرعية الاحتلال وكل إفرازاته كخطوة أساسية لاستصدار قوانين وتشريعات تحمي مصلحة الشركات الأميركية، لتسلك استراتيجية ارتهان العراق من دون الاصطدام مع القانون الدولي في المستقبل.
وللوصول إلى تلك الاستراتيجية اشترك في التواطؤ والعدوان والتخطيط ثلاث قوى، وهي:
-إدارة «العدوان الأميركية»، ممثَّلة بـ«بول بريمر».
-الغطاء العراقي، ممثلاً بمن أعدته أجهزة الـ«سي آي إيه» من العراقيين كأعضاء «مجلس الحكم المؤقت»، أو «حكومة أياد علاوي»، وآخراً وليس أخيراً «حكومة ابراهيم الجعفري».
-الغطاء الأممي، ممثلاً بـ«كوفي أنان»، كقشرة شرعية دولية، وبمن تقودهم «المافيا الدولية» من رؤساء دول وحكومات.
أولاً: ماذا أعدَّ «بول بريمر»؟
كان الهدف الرئيسي، الذي ينفِّذه بول برير، هو تحويل اقتصاد العراق إلى «اقتصاد السوق»، ولهذا اتَّخذ جملة من القرارات الخطيرة، ومن أهمها:
-في أيار 2003: طرد مئات الآلاف من الموظفين، وإلغاء الضرائب والرسوم الجمركية، وأعلن أن البلاد مفتوحة لـ«البزنس».
-في حزيران: خصخصة 200 شركة تابعة للقطاع العام كانت تلبي حاجة العراق للكثير من السلع.
-في أيلول: من أجل تشجيع المستثمرين، أصدر القرارات التالية:
1-القرار 37: تخفيض نسبة الضرائب من 40% إلى 15%.
2-القرار 39: سمح للشركات الأجنبية بتملك 100% من الأصول العراقية ماعدا قطاع الموارد الطبيعية. ويمكن للمستثمرين أن يأخذوا كامل الأرباح إلى خارج العراق، ولن تفرض ضرائب على أرباحهم . وبموجبه يمكن أن يوقعوا عقوداً يمكن أن تستمر لأربعين سنة.
3- أما القرار 40: فقد سهَّل للبنوك الأجنبية بالاستثمار في العراق تحت الشروط نفسها.
وقد وصفت جريدة الايكونومست العراق تحت حكم بريمر بأنه «حلم الرأسمالي». ومدح دونالد رامسفيلد إصلاحاته باعتبارها «من أفضل قوانين الضرائب والاستثمار المستنيرة والمشجعة في العالم الحر»( ).
تناسى من وضع أفضل أصول تشريعية لتحويل اقتصاد العراق إلى «اقتصاد السوق»، ومادحيها، أن القانون الدولي يمنع سلطات الاحتلال من أن تغير في القوانين والتشريعات التي كانت سارية المفعول قبل الاحتلال. السبب الذي دفع بريمر إلى التفتيش عن حل لا يمكن أن يكون موجوداً إلاَّ في هيئة العملاء من العراقيين. أي بإيجاد حكومة يُسبغ عليها «لصوص إدارة جورج بوش» الشرعية لكي تشرِّع –بدورها- قرارات بول بريمر،وبذلك تكتمل الفرحة بالجمع بين أفضل أصول تشريعية تخدم شبق رأسمالهم وأقذر سلطة تتواطأ على وطنها لتشريع لصوصية جماعة جورج بوش.
ثانياً: ماذا عن دور الغطاء العراقي؟
لكي يسبغ بريمر شرعية على قراراته كان لا بدَّ من أن يوفر الغطاء العراقي، بتعيين «حكومة شرعية»، ونص دستور مؤقت. ولهذا السبب كانت إدارة العدوان الأميركية ملحة على تسليم السلطة إلى العراقيين، بمسرحية ما سمتها «نقل السلطة إلى العراقيين» في 30 حزيران/ يونيو من العام 2004. وهذا ما قامت بتغطيته المؤسسات الأممية بواسطة القرار (1546) الصادر عن مجلس الأمن الدولي، بتاريخ 8/ 6/ 2004.
أما الشرط الثاني فكان بصورة إقرار «دستور مؤقت»، سبق مسرحية «نقل السيادة» بشهرين.
وبهما حسب بريمر أنه أحكم الخناق على العراق بحصوله على «الحكومة المؤقتة» و«الدستور المؤقت». وللمزيد من تشديده دسَّ بريمر المادة 26 في الدستور التي تنص على أنه في خلال فترة الحكومة المؤقتة : «تطبق القوانين واللوائح والأنظمة والتوجيهات التي أصدرتها سلطة الائتلاف المؤقتة». على ألا تتغير إلا بعد إجراء انتخابات عامة.
فإذا كان بريمر قد حصل على ضمان مؤقت لقوانينه ولوائحه وأنظمته وتوجيهاته التي أصدرها والتي حمَّلها حكومة «أياد علاوي»، لم تكن إلاَّ تطمينات مرحلية من أجل جذب المستثمرين إلى العراق.
أما الضمان الاستراتيجي فهو الإتيان بحكومة «منتخبة»، وهنا جاء التواطؤ الأممي الآخر الذي تضمنه قرار مجلس الأمن (1546)، الذي أجاز أن تُجرى انتخابات تشريعية تحت سلطة قوات الاحتلال، وتواطؤه أتى من تغيير صفة «قوات الاحتلال» عنها وإعطائها اسماً آخر «القوات المتعددة الجنسيات» بما يُفهم منه أنها قوات تابعة للأمم المتحدة. وبمثل تلك الصفة تستطيع قوات الاحتلال الأميركي أن تجري انتخابات تكون واضحة النتائج قبل إجرائها. والأهم من ذلك أن تكون النتائج على مقياس المهمات التي عليها تنفيذها. ولن يجلس على كراسي «السلطة التشريعية»، و«السلطة التنفيذية» إلاَّ الذين أتى بهم الاحتلال الأميركي، أصلاً، لكي يكونوا من المطواعين الباصمين. وكانت «إدارة اللصوص الأميركية» حريصة على أن تسرِّع في إجراء انتخابات شكلية من أجل ألاَّ يسابقها الزمن في إقرار سلة القوانين والقرارات والتوجيهات التي وضعها بول بريمر.
وبالفعل مثَّلت الإدارة الأميركية مع القوى الدمى العراقيين مسرحية الانتخابات، ولكن بعض التأخير الذي رافق عملية تشكيل المؤسسات الرسمية، رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة الهيئة التشريعية، لم يكن مرده إلاَّ لخلافات سادت صفوف العملاء بتقسيم جبنة المواقع فيما بينهم. حسمتها زيارة رامسفيلد إلى العراق، وساندته زيارة غوندوليزا أيضاً. وعلى كل حال فقد أصبح مبرراً لـ«إدارة اللصوص الأميركية» أن يطلبوا من الدمى، برئاسة ابراهيم الجعفري، بقاء قوات الاحتلال الأميركي في العراق لأسباب أمنية. وكان مجلس الأمن جاهزاً لإصدار قرار أممي ليكمِّل مهمته في التواطؤ على العراق. فجدَّد لقوات الاحتلال، التي كان قد مسخها بدون وجه شرعي، وحوَّلها من قوات احتلال إلى قوات «متعددة الجنسيات»، ومن قوة غزت العراق من دون غطاء شرعي دولي إلى قوات «حفظ السلام» في العراق.
إن وظيفة ما تُسمى بـ«حكومة ابراهيم الجعفري» ذات شقين:
الأول: اعتبار القوات الأميركية الغازية قوات صديقة موجودة في العراق من أجل مهمة إنسانية.
أما الثاني، وهو الأشد خطورة، وهو كما يُقال «فيه مربط الفرس»، فهو استكمال خطوات تزوير مؤسسات عراقية شرعية (صياغة دستور دائم، وانتخاب حكومة جديدة) من أجل إقرار خطة بريمر وإعطائها الشرعية. وفيها ارتهان للعراق، بشعبه وثرواته، لمدة أربعين عاماً على الأقل.
ومن يتابع نشاط المؤسسات المالية الأميركية، ومنها المؤسسات المالية الصهيونية، التي تعمل من أجل إعطاء القروض المالية للعراق على أن يشكل نفط العراق «سندات ائتمان»، لتسديد القروض. ولمن يجهل تلك الحقيقة فنعرض أمامه الجزء اليسير منها بالتالي:
تستطيع الوزارات العراقية أن تقترض بلايين الدولارات من اجل استيراد ما تحتاجه من معدات من الخارج. ولكن مقابل رهن عائدات النفط العراقي من خلال بنك يديره بنك جي بي مورجان تشيس في نيويورك. أعلن حسين الازري، مدير بنك التجارة العراقي، الذي يديره «بنك مورجان تشيس» في مدينة الكويت أن البنك استطاع أن يحصل على 4ر2 بليون دولار بشكل ضمانات استيراد للتجارة بين العراق والشركات والحكومات الأجنبية. وقال ديفد شافيرن مسؤول كبير في البنك الأمريكي للتصدير والاستيراد في اجتماع عقدته شركة اكويتي انترناشيونال لتشجيع الاستثمار في العراق: «سوف تستخدم عوائد النفط هذه من أجل دعم خطابات الائتمان لبنك التجارة العراقي. وسوف نضمن أن خطابات الائتمان هذه سوف تكون للمصدرين الأمريكيين»( ).
سيعلم كم هي قذرة مهمة «ابراهيم الجعفري». وسيعلم المغفَّلون الذي يقومون بتأييده وتشجيعه، وكيل المديح له، بأية سكين ينحرون العراق، وبأية سكين ينحرون حقوقهم التي حسبوا أنهم كانوا محرومين منها،ولكن ذلك لم يكن إلاَّ تزويراً لواقع الأمور التي زيَّنها لهم حلفاء «الشيطان الأكبر».
فإذا كانت المقاومة العراقية قد منعت «عصابة البيت الأبيض»، لأكثر من سنتين، من السرقة الكبرى، فإنها ستحول دون أن يبقى الاحتلال الأميركي ليرتهن العراق، وشعب العراق. وعلى المقاومة العراقية يقع الرهان الأكبر والأساسي، وهي جديرة بأن يراهن عليها العراقيون في تخليصها من الاحتلال وعملائه وقذاراتهم.
تناسوا جميعاً، سواءٌ أكانت «ليلى الأميركية»، أم الخصيان الذين لن يستطيعوا نيل وطرهم منها، أم كان «كوفي» المخصي الآخر بتهمة «السرقة من صندوق النفط مقابل الغذاء»، أن القرار الشرعي مأخوذ بطرد الاحتلال وعملائه، وتقديم «كوفي» إلى المحكمة الجنائية الدولية لأنه يغطي على أكبر الجرائم في التاريخ بدلاً من أن يكون الأمين العام والضمير المراقب من أجل حماية القوانين الدولية من الكذب والخداع. أما «إدارة الإجرام الأميركي» فلن تنجو من أحكام القانون الدولي، وأحكام اتفاقيات جنيف، بما ارتكبته من جرائم لا تُحصى. أما العملاء من العراقيين فلن يكونوا بمنجى من الحكم عليهم بتهمة الخيانة العظمى، خاصة وأن «حكومة ابراهيم الجعفري» قد توَّجت خيانتها بـ«جريمة الجرائم» حينما غطَّت على الاحتلال جريمته الكبرى.
لقد اتَّخذت المقاومة العراقية القرار الحاسم منذ انطلاقتها الأولى، وحددت أهدافها الاستراتيجية في «في منهجها الاستراتيجي السياسي»، واعتبرت فيه الاحتلال وعملائه أهدافاً مباشرة لبنادقها، كما اعتبرت أي تواطؤ أممي معهما هدفاً مباشراً من أهدافها.
لذا نحكم على أن كل ما نرى ونسمع ليس إلاَّ لعباً في الوقت الضائع..
***

(25): جورج بوش يمثل أمام محكمة دينونة الشعب الأميركي
كخطوة للمحاكمة أمام دينونة «المحكمة الجنائية الدولية»
28/ 6/ 2005
أقتل بدم بارد حتى تظهر الجريمة بثياب شرعية ومعترف بها، ولكن عليك أن تنتظر اليوم الذي ينكشف فيه خداعك. فتظهر جريمتك كاملة الأركان وسوف يعلن «المحكمون» أنك مذنب.
أيها الحملان الوديعان، جورج وطوني، لقد تراكمت كرة ثلج جرائمكما في العراق. وأخذ ضمير «المحكمين» الذين طالما سقتم لهم أسباب عدوانكما على العراق بثياب «العدالة» و«الديموقراطية»، و«الحضارة»، يستفيق. وراحت أساليب التضليل والخداع تنكشف تباعاً. فما عليكما إلاَّ أن تراجعا نتائج استقصاءات الرأي التي تعلنها مؤسسات كانت تعلن لكما، منذ سنوات قليلة، أنكما تغزوان العراق حرصاً منكما على مصلحة البشرية.
لم تكن الضرورة الشعبية في أميركا تستدعي الاهتمام بنتائج احتلال العراق لو لم تكبِّر المقاومة العراقية فاتورة القتلى بين جنود الاحتلال، ولو لم ترغم الإدارة الأميركية على دفع فاتورة مالية ضخمة أوقعت ميزانية الولايات المتحدة الأميركية في أكبر عجز عرفته في تاريخها.
بديلاً عن الورود لـ«لمحررين» كان الرصاص الذي يرغمهم إلى العودة إلى ديارهم ملفوفين بورود علم بلادهم، حاملين أحذيتهم لتأخذ مكانها في حدائق البيت الأبيض. وبديلاً عن استثمار ثروات العراق لصالح الأميركيين كان العجز الكبير في ميزانيته حيث ذهبت أموال المكلف الأميركي إلى جيوب «دهاقنة» البيت الأبيض وجيوب شركاتهم الكبرى.
ولما أخذ المستور ينكشف أمام الشعب الأميركي اقتربت ساعة الدينونة الشعبية لتبدأ محاكمة جورج بوش وأركان إدارته. وهي البداية والمدخل لمحاكمة أكبر وأشمل سوف تعقدها «المحكمة الجنائية الدولية» لتطالب بتعويض كل ما اقترفته أيدي المجرمين الكبار والصغار من جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية في العراق. وإذا لم يكن هذا المقال يتسع للكلام عن عناوينها فلن نستطيع إلاَّ الإشارة إلى أن الملف هو أكبر بكثير مما نظن. وأفظع بكثير مما نتصور.
لم يكن بالعسير على المراقب الذي يتابع وقائع الصراع بين المقاومة العراقية «معسكر الخير والشرعية» والإدارة الأميركية «معسكر الشر والجريمة»، والذي يعرف قوانين الصراع بين «إرادة المقاومة الشعبية» و«إرادة الاحتلال والاغتصاب»، إلاَّ أن يعرف نتائجه مهما طال الزمن أو قصر. وهذا الوقت هو أوان القطاف الذي أخذت المقاومة فيه تفرض واقع إحالة جورج بوش أمام محكمة الدينونة الشعبية الأميركية. وجورج بوش، كقارئ لتاريخ بلاده في فييتنام، يعرف أن ملامح هزيمتها ابتدأت منذ أن نصب الشعب الأميركي محاكم الدينونة الشعبية لسلفه الرئيس «ريتشارد نيكسون». وللتذكير فقط، نستعيد ذكر أهم ما قام عليه المشروع اليميني الأميركي المتطرف في العام 1973، أي عام «إعلان الهزيمة الأميركية في فييتنام».
قال أريك لوران،الكاتب الأميركي في كتابه «عالم بوش السري»: قبل أن تستفحل ظاهرة اليسار الأميركي، الذي نشأ على وقع حرب فييتنام ونتائجها، خاصة وكان له التأثير البالغ –بمساعدة من الشارع العالمي- في إخراج مشروع الهيمنة الأميركية مهزوماً من تلك الحرب. وعلى وقع تلك التأثيرات، راح كارتل الشركات الصناعية الكبرى، مستعيناً بمراكز الدراسات التابعة لها، يرسم مخططاً جديداً يتَّسم بالنفس الطويل كي تأتي خطواته مضمونة التحقق. وهذا ما أشار إليه لويس باول بمذكرته إلى الأمة الأميركية ناطقاً باسم غرفة التجارة الوطنية؛ وفيها يحذِّر من خطر الشيوعيين واليساريين وغيرهم من الثوريين الذين يسعون إلى تدمير النظام الأميركي الاقتصادي والسياسي. ودعا ليس إلى استعادة السلطة التي اهتزَّت بعد حرب فييتنام، بل إلى تعزيز سيطرة مستديمة على »السياسة والمجتمع الأميركي«، من خلال إنشاء »منظمات يتم التخطيط لأهدافها، ولتنفيذ هذه الأهداف بتناغم مع أعمال تمتد لعدة سنوات تدعمها آليات تمويل تتطلَّب جهوداً متضافرة«. على أن توظِّف الباحثين والصحف والكتب والمقالات والرسائل النقدية لتصويب الخلل الناتج من حرم الجامعات. وبها تشن الحرب ضد الثقافة المضادة.
وعلى الرغم من أن مفكري ومخططي المشروع الأميركي، الذين انتدبوا جورج بوش لتنفيذه في هذه المرحلة، توهموا أنهم قاموا بـ«اجتثاث الفكر الأميركي المعارض» إذا به يظهر، بعد إعلان موته، في نتائج استطلاعات الرأي التي تنشرها وسائل الإعلام الأميركية.
وعلى الرغم من أن بعض المعترضين على استمرار الاحتلال هم من الذين أيدوا الحرب والعدوان، إذا بهم يترأسون نواة الاعتراض والمطالبة بالانسحاب من العراق.
وإذا بالجنود الذين ذهبوا إلى العراق طمعاً بالاستفادة من ثرواته يعودون إلى بلادهم إما ملفوفون بالعلم الأميركي، أو يجرهم رفاقهم وأهلهم على عربات المعوقين، أو ممن يخضعون إلى علاجات نفسية نتيجة إصاباتهم بـ«لوثة تأنيب للضمير». وإذا بآخرين منهم يسهمون في كشف الغطاء عن أقذر الجرائم التي يرتكبها قادتهم. وإذا بالقادة يكشفون عن أن الجريمة في العراق ذات عمق إيديولوجي له خصائص النظام الرأسمالي الأميركي. وباختصار أخذت نواة الثلج تصبح كرة تكبر يوماً أكثر من اليوم الذي سبقه. وإذا بملامح الهزيمة تبدأ بالظهور بوضوح في تصريحات القادة الأميركيين، كما تظهر في تصريحات عملائهم كابراهيم الجعفري وأياد علاوي.
وفي تلك الحالة راحت إدارة جورج بوش تسابق الزمن الذي تعلن فيها هزيمتها في العراق لكي تستطيع لملمة ما يمكن أن تعوّض فيه خسارتها.
لقد بدأت فعلاً مرحلة إحالة إدارة جورج بوش إلى محكمة الدينونة الشعبية الأميركية، وراحت تعد حساباتها على أساس تراكمها واستمرارها، وكانت المفاجأة الأولى لكل أركانها تتمثل في أنها لم تستطع «إعدام الضمير الشعبي الأميركي»، سواءٌ أكان ضمير الشارع أم كان ضمير قادة الرأي في المؤسسة الرأسمالية، ديموقراطية كانت أم جمهورية، ومن أهم ملامحها جلسات الاستجواب التي أُخضِع لها دونالد رامسفيلد أمام الكونغرس. وعندما طالبوه بالاستقالة، والاستقالة هي إعلان لفشل المشروع بأكمله، لم يكن في وسعه ما يردُّ به أكثر من أن رئيسه لم يوافق على استقالته، وحتماً لن يوافق لأنه لا يريد أن يعلن «موت مشروعه المجنون ودفنه»، فهو يريد أن يطيل بعمر إدارته لكي يداوي ما يرى أنه يمكن مداواته قبل إعلان الفشل الذريع.
لقد اعترف روَّاد المشروع اليميني الخبيث بإفلاسهم، وتباروا، كلٌّ من وقعه بالاعتراف:
دونالد رامسفيلد توقَّع للمقاومة أن تستمر اثنتيْ عشرة سنة أخرى. وجون أبي زيد اعترف أن المقاومة وتأثيراتها تتصاعد. والعميل ابراهيم الجعفري اعترف بأن العملية السياسية التي يبنيها سليمة وكفؤة ولا ينقصها إلاَّ عامل الأمن المناسب. وطوني بلير يدعو إلى مشاركة المسلحين في العملية السياسية كضمان لنجاح العملية السياسية. وتتعالى في بريطانيا أصوات من داخل الإدارة الإنكليزية إلى أن العام 2006 سيكون العام الحاسم في اتخاذ قرارات حاسمة لكنها مؤلمة. وإن طوني بلير سيتخذ قراراً حاسماً، على لسان خدمه وحشمه، حتى لو كان شبيهاً بـ«من يتجرع السم»، وهذا ما سبقه إليه «خميني إيران» في العام 1988.
كلها مقدمات لعملية سياسية يستكملها جورج بوش وإدارته، وباستكمالها قد تكون بداية «إعلان الهزيمة». أما السيناريو المرسوم، كما نتصور أنه يجري، فهو كالتالي:
-الخطوة الأولى: لقد تواطأ مجلس الأمن الدولي، في القرار 1546/ تاريخ 8/ 6/ 2004، بإلغاء صفة الاحتلال عن التواجد الأميركي – البريطاني في العراق، كمقدمة لعملية سياسية تدفع بها إدارة جورج بوش إلى تشريع قيام حكومة عراقية تضمن توقيعها لاتفاقيات سياسية وعسكرية واقتصادية تكون ملزمة لأية حكومة عراقية تأتي في المستقبل سواءٌ أكانت حكومة موالية للاحتلال أم كانت «حكومة تحرير العراق من الاحتلال». ومن أجل ذلك، أجرت إدارة الاحتلال –بتوطؤ من المؤسسة الأممية- انتخابات كانون الثاني/ يناير 2005. وكانت نتائجها تشكيل حكومة ابراهيم الجعفري التي كانت مهمتها إطالة عمر الاحتلال عندما طلبت من مجلس الأمن تمديد مهمة ما سمته «القوات المتعددة الجنسيات» في العراق، وهذا ما حصل في أوائل شهر حزيران/ يونيو 2005.
-الخطوة الثانية: إلحاح الإدارة الأميركية على صياغة دستور للعراق في أواسط صيف العام الحالي (2005)، وهي تستخدم كل وسائل التزوير والاحتيال والابتزاز لتظهره وكأنه يمثل كل أطياف الشعب العراقي من خلال ترهيب السنة وترغيبهم في الانضمام إلى اللجنة العميلة التي ستقوم بصياغته. ولأن النتائج معروفة ومضمونة فلن نقف كثيراً أمام السيناريو الذي يتم تنفيذه.
-الخطوة الثالثة: تشكيل حكومة عراقية جديدة في كانون الأول/ ديسمبر 2005، تعترف بها المؤسسة الأممية، وتعتبرها شرعية لتخفي معايبها وتواطؤها وعمالتها للاحتلال، وعلى أساس ذلك تقوم بتوقيع ما تريده الإدارة الأميركية من معاهدات واتفاقيات تعتبرها ملزمة لأي نظام سياسي سيخلفها بعد الانسحاب الأميركي من العراقي.
-الخطوة الرابعة: إن الاعتراف بشرعية حكومة كانون الأول يؤدي إلى الاعتراف بالقوة الأمنية (شرطة وحرس وطني وأجهزة مخابرات...)، التي يعمل الاحتلال على تدريبها وتأهيلها لسد الفراغ الأمني الذي سيخلق نتيجة انسحاب قوات الاحتلال إلى قواعد عسكرية بعيدة عن المدن والقرى العراقية. وهذا يقتضي دعوة دول العالم للاعتراف بشرعيتها، وما يستتبع ذلك من طلب مساعدة عسكرية دولية لحمايتها، أو مساعدتها على حفظ الأمن في العراق.
-الخطوة الخامسة: ستعمل قوات الاحتلال كل جهدها، في فسحة الأشهر الثمانية التي أعطاها مجلس الأمن، من أجل استخدام كل وسائل الإجرام السياسي والعسكري والجنائي، للقضاء على المقاومة العراقية (لعل وعسى تنقلب الطاولة رأساً على عقب). وإذا لم تنجح «الطلقة الأخيرة» في جعبة إدارة جورج بوش، فستكون القواعد الأميركية البعيدة عن المدن حلاً مرحلياً تستخدمه إدارة الاحتلال في محاولة منها لحماية الحكومة العميلة الجديدة، التي لا نحسب أنها ستكون من غير الوجوه التي صدقت الوعد وحافظت على العهد،، ومساندة القوات (التي غلَفتها بقشرة شرعية واهية).
-الخطوة السادسة: وعلى الرغم من أننا نستنتج أن قيادة المقاومة قد أعدَّت لهذا الاحتمال عدَّة مواجهته (قصف التجمعات الكبيرة بالمدفعية والصواريخ، وقطع خطوط الإمداد عنها...) فإن قرار «الاعتراف بالهزيمة الأميركية في العراق جاهز»، ولن تتأخر الإدارة عن إعلانه. والسبب أن ذراع المقاومة العراقية قد بدأت تشق طريقاً لها في الشارع الأميركي، الذي سوف يشق طريقاً أوسع لـ«حركة الضمير العالمي»، وليس ببعيد أن يكون «الضمير العربي» قد بلغ نقطة الانفجار الحاسم متمرداً على قمع الأنظمة الرسمية المتواطئة مع الاحتلال الأميركي.
ستة أشهر أو أكثر بقليل تفصلنا عن الاستحقاق الأخير الذي ستواجهه إدارة جورج بوش، أما طوني بلير فلن ينتظر إعلان الهزيمة من فم جورج بوش، لأنه على قاب قوسين أو أدنى من الصراخ في معركة عض الأصابع مع المقاومة العراقية.
-الخطوة السابعة: لن نذكِّر العملاء الذين أسهموا في ذبح بلدهم، وهم الآن يتوسلون كسب شرعية زائفة من احتلال زائف «لا يرى وجه الله إلاَّ من خلال نقطة بترول»، سوى بمصير عملائه في سايغون. وللأسف سيهرب هؤلاء بالغنائم التي اقتطعوها من فم العراقيين ودمائهم وجلودهم ليلوذوا بالسلامة، كما لاذ أشبهاهم عملاء أنطوان لحد، فنحن نخاطب كل الذين خُدعوا بهم وبوعودهم ليعودوا إلى رشدهم. كما نخاطب كل الذين سوَّغوا لهم جريمتهم بـ«الفتوى الدينية» ليروا كم استغلوا اسم الله ليلحقوا الأذى، كل الأذى، بشرفهم وأعراضهم وأرضهم.
-الخطوة الثامنة: إذا كان ضغط دينونة الشعب الأميركي سيدفع بإدارة جورج بوش إلى الانسحاب من العراق لوقف سيل الخسائر التي يدفعها الشعب من دم أبنائه ومن ماله، فإن دينونة الضمير العالمي (القانون الدولي، حقوق الإنسان، اتفاقيات جنيف، القانون الإنساني الدولي، اتفاقيات المؤسسات الأممية وشرائعها، المحكمة الجنائية الدولية، محاكم مجرمي الحرب الدولية...) لن ترضى إلاَّ بمحاكمة مجرمي الحرب في أميركا وبريطانيا. وعلى كل منهم أن يتحسس رقبته منذ الآن. فملفاتهم الاتهامية جاهزة وحاضرة. وإن غداً أيها المجرمون لناظره قريب.
***


(26): إبراهيم بوش الجعفري أميركي أكثر من طوني بلير
13/ 7/ 2004
إبراهيم الجعفري خلاسي الهوية أميركي الهوى.
وطوني بلير بريطاني الهوية أميركي الهوى.
وجورج بوش أميركي الهوية «قرصان عالمي» الهوى.
ورابعهما كوفي أنان إفريقي الهوية «متعدد الجنسية» في الهوى.
كل من «القطط السمان» الأربعة يشاركون في نحر الضمير الوطني والإنساني والطبقي والدولي. ويجمعهم خدمة الرأسمال العالمي، وينحر كل منهم الشعب أو الشريحة أو الطبقة أو المؤسسة لتقديمها «ذبيحة الفداء» أمام هياكل القراصنة الدوليين.
فإذا كان من غير الممكن أن نتجاهل دور التواطؤ الذي يقوم به كوفي عنان، الأمين العام للأمم المتحدة، كلما تحدثنا عن العراق، فلن نعطيه في هذا المقال حيزاً كبيراً إلاَّ بما يخدم البرهان على دوره.
لقد نقل المذكور وظيفته الأساسية، كضمير أممي يسهر على تطبيق الشرائع الدولية والإنسانية، إلى دور التابع للذين فقدوا الضمير، والمنفذ والمخرج لرغباتهم. إبن إفريقيا المظلومة تاريخياً على أيدي أجداد جورج بوش وإيديولوجيتهم في الوحشية والاستعمار الاستيطاني، جعل من نفسه مطية للأحفاد. ووضع نفسه في موقع الخائن لقضية القارة التي ينتسب إليها. لقاء ثلاثين من الفضة قبضها يوضاص عنان من جورج بوش لبيع قضايا قارته وشعوبها. وكل من يبيع قضيته يسهل عليه بيع قضايا الآخرين.
تحول من موقعه الحامي لحقوق إلى «حرامي» لتلك الحقوق. وتحول إلى بوق للعولمة الأميركية. وحوَّل معه دور مجلس الأمن الدولي إلى مجلس لـ«الأمن الأميركي»، أو لمجلس أمن لـ«جورج بوش». والأسوأ من كل ذلك انحدر من موقع الضمير المنبه والمحذر إلى دور «البكَّاء» أو دور «الندَّاب» الذي يقوم بواجب التعزية لأهل الذين يريد جورج بوش أن يقوم بواجبه الاجتماعي تجاههم.
أما من هم يستأهلون التنديد بمن هو سبب مآسيهم فخرجت من دائرة وظيفة كوفي عنان. وهنا لا يمكن إلاَّ التنديد به بشدة لأنه غير ساكت عن محنة العرق فحسب، وإنما يتواطأ أيضاً. ولو كان صمته هو الأسلوب الوحيد الذي يستخدمه في تجاهل القضية العراقية لكان الحكم عليه أقل وطأة. وإنما تجاهل مآسي العراق والعراقيين يأتي من تواطؤ موصوف، وعن سابق عمد وإصرار، فهي الجريمة الكفيلة وحدها لكي تحيله إلى «المحكمة الجنائية الدولية»، أما ملف الاتهام فجاهز في نصوص قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة بالعراق، وفيها لدليل الأكثر وضوحاً على ما تقترفه يدا كوفي عنان.
أما الوجه الآخر، فله علاقة بمن يحملون الهوية العراقية، ولكنهم يحملون هوى كل هوية باستثناء الهوى العراقي. فمن يسبح في بحر الخيانة لن تعيقه السواقي. ومن شارك في ذبح ما يدَّعي أنه وطنه مع الغازي، والمحتل، الأميركي لن يخجل من إشهار هويته على العلن.
يا ناس، تسرِّب إدارة جورج، وتتوسل مفاوضاً واحداً يعطيها النزر القليل من العراق لتبيع به إبراهيم الجعفري وأطنابه من «طبقة الخونة»، فينبري «سيادته» ويقول: إن خروج «القوات المتعددة الجنسية» لن يتم إلاَّ بقرار من «الحكومة العراقية». السيد يحدد أهدافه، والعبد يرفض!! والله مهمةٌ ديموقراطية العبيد تلك!!
يا ناس، يسرِّب طوني بلير وثيقة تشير إلى أن قراراً وشيكاً سيصدر بتخفيف القوات البريطانية والأميركية إلى النصف، قبل منتصف العام 2006، فترفع «سيادته» صوتها آمرة (!!!!): إن خروج تلك القوات لن يتم من دون «أمر» من «حكومته».
أي إبراهيم هو هذا؟ أنعمة من الله أرسلها إلى العراقيين ليقول، ليس لطوني بلير فحسب، بل لبوش أيضاً الكلمة الناهية الآمرة : «لا». «لا لخروج قواتكم». «لا قرار انسحاب» من دون «أمر من حكومتي». ألا يستحق هذا «القاعميل» إلاَّ أن يضعه العراقيون في موقعه المناسب في المستقبل القريب؟
جاء جورج بوش إلى العراق منتشياً بالنصر حتى قبل أن ينجز احتلاله العسكري، حاملاً سلاح «إبراهيم الجعفري» و«إخوته»، «أخواته» الذين، واللواتي، خدعوه بسهولة الدخول، وكانت جريمتهم أنهم لم ينصحوه بطريقة الخروج.
دخل جورج بوش إلى العراق وهو عازم على ألاَّ يخرج منه، فوجد ما لا يرضيه، بل ما يدميه ويدمي جسد أجداده، ويضرجهم بالدماء والموت، ويحشرهم أمام أبواب جهنم، فراح يتدافع مع أركان إدارته وقادته العسكريين وجنوده ويتسابقون طلباً للنجاة.
وكي لا يخدش «عنجهية» صانعي مشروع «القرن الأميركي الجديد» راح يتوسل طريقة للخروج لا تصل إلى حدود «إعلان الهزيمة»، وهو ما أخذ يمهد له باستجداء وسيط مفاوض من هنا أو هناك، وسبقه طوني بلير، هذا إذا لم يكن بالتنسيق معه، إلى تسريب وثيقة التمهيد للخروج من العراق «بشرف». ولم يتجاوز تعليق رامسفيلد عليها إلاَّ القول بأن هذا الأمر لن يتم بقرار أحادي بل يجب أن يتم التشاور فيه بين «الحليفين».
أجل فهما غطسا في مستنقع العراق معاً، وبقفزة «مجهولة» واحدة، وإذا أرادا أن يتخلصا منه، فسيتم الأمر بالتفاهم والتنسيق. وتلك من طرق الإخراج التي ستحجب «عار الهزيمة» عن الشريكين. الحجب لا يعني على الإطلاق أنها لن تكون هزيمة، بل ستكون هزيمة وأية هزيمة. هزيمة سيقول عنها الأميركيون فيما بعدها: رحم الله جونسون فقد كان خطؤه في فييتنام أقل إيلاماً من خطأ جورج بوش في العراق.
دخل جورج بوش العراق، وهو مرغم الآن على أن يخرج منه، أما ابراهيم بوش الجعفري فهو كأنه خارج «زمانه ومكانه». نقول هذا عن حسن نية لتخفيف شدة ألم المسكين ابراهيم بوش من ثقل «الخازوق» الذي يركب عليه. أما الحقيقة فهي أن ما قاله لم تكن أكثر من أوامر تبلَّغ بها من سيده، وهو الذي أنعم عليه بالهوية الأميركية وحضَّر له ما يكفيه غائلة المستقبل، وأجاز له أن يقول كلمة «لا»، فقالها المسكين وهو غير مصدق نفسه أنه يستطيع أن يتفوَّه بها، لأن الكومبيوتر الأميركي قد ألغاها من قاموس عبيده.
فيا إبراهيم المسكين، لقد حلمت أن تكون «رئيساً لحكومة» حتى ولو كان بالشكل. والشكل قد هدَّمته زنود المقاومة العراقية. وإذا ضاع الشكل فلن يكون ذا أثر سلبي على مستقبلك فوراءك وأمامك ثروات كبيرة احتفظ بها لصالحك سيدك جورج بوش. تلك الثروات لن يدعك أيتام العراق تهنأ بها لأن لعنتهم ستلاحقك وتلاحق أبناءك من بعدك، وهم لن ينسوا كل «اللصوص» ممن حملوا هوية العراق الذي سرقوا قوتهم وصحتهم ومدرستهم، وسرقوا الحياة من آباءهم وأمهاتهم وإخوتهم وأخواتهم.
فإذا كان الشعب العراقي لن يأسف عليك، ولن يأسف على أي خازوق تركب عليه، بل يريد أن يضعك فوق كل خوازيق الدنيا، إنما سيرثي حال الطيبين ممن انخدعوا بوعودك التي انتخبوك على أساسها. ألم تعدهم بأن تطالب بانسحاب «القوات المتعددة الجنسية» من العراق؟ ألم تعدهم باستقرار الأمن؟ ألم تعدهم بالوظيفة؟ ألم تعدهم بلقمة العيش وحبة الدواء والكتاب؟
لم تستطع أيها المعين رئيساً بأمر من جورج بوش، أن تفعل شيئاً أكثر من فتح أبواب جحيم أمام الشباب العراقيين للانتساب إلى أحد أجهزة العمالة من مخبرين ورجال شرطة يسرقون الكحل من عيون ماجدات العراق، و«حرس وطني» يقتلون أبناء وطنهم الشرفاء، ويلاحقونهم من هنا أو هناك، ليرجعوا النوم الهادئ إلى جفون جنود الاحتلال. ولم يقتصر الأمر عند ذلك، بل أسهمت وباركت قيام «ميليشيات الطائفية السياسية» لكي تكون عنواناً للسيادة، فلاغت بدم البشر، وسرقت الحجر، وقلعت الشجر، وشوهت وحدة النسيج الاجتماعي العراقي الذي لم يتلوَّث يوماً بآثام التفتيت المذهبي.
بحر الجريمة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الأميركي، التي تأمر ببقائها في العرق، واسع وواسع جداً، وهو أكبر من أن يُحصى يا إبراهيم بوش. وعندما تبدأ جهود تأليف تفاصيلها وعناوينها الكبرى سيجد العالم أن ما ارتكبته قوات الاحتلال، التي أنت عميل من عملائها، أكبر مما كنا نتصور.
لن نطلب منك أن ترتدع، لأنك سددت أذنيك بأكثر من مادة القطن، ووضعت على عينيك مادة تحجب عنها منظر التدمير والتخريب والمآسي والتعذيب والقتل ونهب بنى العراق التحتية.(واللائحة تطول بما يستثير مشاعر المتابع وتدفعه إلى اتخاذ أقسى الأحكام بحقك وحق كل أطنابك، والمستقبل كفيل بالكشف عنها).
فيا إبراهيم، لماذا أنت أميركي أكثر من طوني بلير؟
ذاك، تحت ضغط شريحة واسعة من الشعب البريطاني وإحساسهم بلسعات الضمير، بدأ يعرف أن وجوده في العراق لن يدوم، وهو يخطط لخروج لا تنضح منها «رائحة الهزيمة». وهو السبب الذي دفعه لتسريب الوثيقة الآنفة الذكر. فهل تريد أن تزايد عليه لتكتسب ثقة جورج بوش؟ ولماذا تريد أن تمنع الهزيمة عن «القراصنة»؟ فالعدو بدأ يفقد أرجله، وهو لا يستطيع أن يقف عليها، ويعمل من أجل الهروب، فما هو السبب الذي يدفعك إلى تركيب «أرجل من قصب» لمجرم مهزوم؟
لن أخاطبك يا إبراهيم دبليو بوش، فضميرك قد مات، هذا إذا كنت تمتلك شيئاً منه. بل أخاطب الطيبين من العراقيين الذين خدعتهم وعودك. وأقول لهم: إن العدو يحضر نفسه للهروب. فلماذا لا يسهمون بإلقاء ولو حجر واحد على جنوده؟ أأطفال الحجارة في فلسطين أكثر شجاعة وأكثر وطنية منكم؟
نحن نعرف أن أطفال العراق وأبطاله، كانوا يساهمون في كل معركة تخوضها الأمة العربية، والتاريخ شاهد، فليس هم أقدر على مقاومته على أرض العراق فحسب، بل هم جديرون أيضاً. واسألوا أصحاب الهمة والنخوة والبطولة في المقاومة العراقية. أطلقوا العنان لأطفالكم على الأقل، لأنهم سيتجاوزونكم، وسترون منهم الأفعال التي ستدهشكم.
ليس فيمن قمتم باختيارهم عن طيبة، كابراهيم الجعفري، رجاء فهم قد تعلموا الدروس في الخديعة في مطابخ المخابرات الأميركية والبريطانية والإيرانية. وهم يعملون على حرق كل مصالحكم ليضيئوا «شموعهم الخاصة». وما عليكم إلاَّ أن ترفعوا راية المقاومة ضد الاحتلال وعملائه، اليوم قبل الغد، فسجلوا أسماءكم في سجل السفر الخالد الذي تسطره مقاومتكم لتاريخ العالم بأسره. وستكون المقاومة العراقية هي ذلك الرائد فاحتضنوه، واحموه، وشاركوه، وحافظوا عليه كمحافظتكم على مستقبل العراق وسيادته وكرامته.
***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق