بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 19 يناير 2010

أبحاث ومقالات قبل العام 2003 (4)

في ذكرى رحيل مؤسس البعث:
عفلق والبعد الإيماني طريق ثالث بين التعصب الديني والإلحاد
في ذكرى رحيل القائد المؤسس المرحوم أحمد ميشيل عفلق، لا يفوت البعثيون أن يقفوا أمامها وقفة إجلال وإكبار، ولا بد لهم من أن يستذكروا ما أسهم به الفقيد الراحل من تراث نضالي وفكري، يتصف بالغزارة والعمق والفعالية.
ملأت حياته وفعاليته حياة الحزب بالغنى الفكري والنضالي، بالمقدار الذي أصبح البعثيون معنيين بمتابعة دراسة تراثه ليظل نبراساً يهتدون به في حياتهم النضالية والفكرية. وهنا، وللفرادة التي تميَّز به البعد الإيماني في فكره ونضاله وسلوكه، كان لا بُدَّ من أن نضيء حول هذا الجانب في محاولة منا لدراسة مضامينه بكثير من الدقة والموضوعية، خاصة أنه أعلن «إسلامه» في وصيته الأخيرة التي تركها. ولأن ذلك الإعلان ترك تأثيرات متباينة من ردود الفعل هنا أو هناك، رأينا من الواجب البعثي أن نضيء حول ذلك البعد.
التبست عند الكثيرين من غير البعثيين معاني إعلان إسلام مؤسس البعث، إذ أحدث الإعلان إحباطاً عند العلمانيين، وقُوبل بعدم اكتراث من الإسلاميين، وجل ما استنتجوه كان إصدار نعوة بموت الفكر القومي تدليلاً على فشل أي مشروع آخر غير مشروعهم. وأثار الخوف عند المسيحيين فاستعادوا ذكريات أهل الذمة بعدما حسبوا أن العروبة والإسلام شيء واحد كما كان الحال سائداً في عهد الأتراك العثمانيين.
توضيحاً ورداً على كل ما حصل، كيف ننظر إلى البعد الإيماني عند مؤسس حزبنا؟
استناداً إلى كتاباته الأولى، قبل العام 1943م، ملأت مسألة التخلف التي تعيش فيها الأمة العربية قلبه حزناً وألماً، وازداد ألمه أكثر بعد أن تيقَّن من الضعف النضالي الذي يعاني منه من هم في موقع المسؤولية؛ فعبَّر عفلق عن نقمته على النخب العربية، حركات وأحزاب، لأنها كانت تقيس قوانين الصراع بين الأمة وأعدائها بمقياس توازن القوى، فكانت تصل إلى نتائج تدل على استحالة المواجهة بينهما، فعاشوا في يأس وزرعوا الإحباط في نفوس الأجيال الشابة الجديدة.
في نطاق البدائل، كانت من أولى مهمات مؤسس البعث أن يحفر طريقاً نضالياً يتجاوز مقاييس حسابات موازين القوى. فوجد مثاله المبدئى في مواصفات البطولة. ومن أهم مميزاتها أنها تضع، إلى جانب الحسابات، صفات التضحية عاملاً شديد التأثير في توليد الحوافز أمام من يريدون قيادة الثورة نحو التغيير. ولهذا السبب وجد أنه من الضروري أن يكون المشروع الثوري واضحاً في أهدافه، ويستحق العمل من أجله، لكن على أن لا يقف الثوريون عند فوائده المادية بل في تنمية معاني الحياة السامية في نفوس أبناء أمتهم التي هي أكبر من سد جوع الجائع، لأن سد الجوع لن يخلق الأبطال بل إن معرفة قيم الحياة السامية هي بداية جدية لتطوير سبل المعرفة التي تؤدي إلى العمل من أجل سد جوع الجائعين.
كان حب المثل الإنسانية العليا تمثل نقطة البداية في البعد الإيماني عند مؤسس البعث، فأراد أن تكون قوميته العربية ذات أبعاد إنسانية أيضاً، وإذا لم تكن غير ذلك فسوف يتحول الوطن والأمة إلى مجرد حقل يُنتج الغلال ومصنع ينتج البضائع. فتزول معالمه إذا ما ضاع الحقل أو تهدَّم المصنع.
أخذت البطولة دورها في مشروع عفلق الفكري، وكانت قد أصبحت ثابتاً من ثوابته الفكرية، والبطولة تتميَّز بمواصفات روحية، من أهمها عامل التضحية ليس القائم على غير حسابات مادية من الربح والخسارة فحسب، وإنما قائم على الإيمان بعدالة قضايا الأمة أيضاً.
حتى العام 1943م كان مؤسس البعث يبحث عن أنموذج البطل فوجده في الرسول العربي، فكان أنموذجاً عربياً مكتمل الصفات، وكانت أغراضه عربية بواقعها وطبيعة مشاكلها وأصول حلولها، عربية بلغتها وأرضها وفكرها.
منذ العام 1943م، اكتملت ثوابت عفلق الفكرية، بأركانها الثلاثة: محبته للإنسانية بشكلها المتكامل، قيماً وشعوباً؛ ومحبته للقومية العربية بحرارة تصل إلى درجة الغليان القصوى؛ وطريقه النضالي المسلَّح بمواصفات البطولة التي تضع التضحية على رأس مواصفاتها. ولما كانت تجربة الرسول العربي، في العشرين سنة الأولى من عمرها الفعلي، تحمل هماً إنسانياً عاماً، وهماً عربياً خاصاً، وتدعو إلى التضحية والصبر والنضال من أجل التغيير، وجد مؤسس البعث ضالته العملية في بدء العمل من أجل التغيير معجباً ومحتذياً تجربة الرسول العربي القائمة على الإيمان بقضية أمته العربية، لأن «الإسلام كان حركة عربية، وكان معناه: تجدد العروبة وتكاملها».
وفي خطابه المعروف «في ذكرى الرسول العربي»، يرسم مؤسس البعث أولى معالم فهمه لثورة الإسلام، فيرى أن الإسلام اكتسب قوته في القرن العشرين بعد أن بُعث بمظهر جديد هو القومية العربية. واكتسب الإسلام معنى خاصاً دعا عفلق القوميين إلى اكتشافه. فكيف يرى عفلق ذلك المعنى الخاص؟
يمكن للباحث أن يُجمِّع من خلال كتابات المؤسس ما يساعده على إيضاح ذلك المعنى الخاص، ومن أهم أسسه، التي يشير إليها مؤسس البعث أنه يرفض «المعنى العتيق» للإسلام القائم على الغيبية والمذهبية. لكنه يقبل الإسلام الذي اكتسب جوانبه الثورية، بمعنى إصراره على التغيير دون حساب لحجم التضحيات. ويركز على ثورة الإسلام في خلال حياة الرسول. أما ما حققه العرب، فيما بعد، من انتصارات وفتوحات فكانت من وهج الثورة الأم التي قادها.
يؤكد في خطابه، في العام 1943م، على الجانب الروحي في الإسلام الذي كان يغذي عامل الإيمان في نفس العربي، فيقتحم الصعاب ويقدم التضحيات.
ثبَّت مؤسس البعث قيمتين أساسيتين في ثورة الإسلام، وهما: الإيمان بالله، والشعور القومي العربي. ومن هنا تكوَّنت لديه قناعة بأن الإسلام كان ثورة عربية، ومن خلالها دعا العرب إلى الأخذ من الإسلام بكل ما أعان محمد العربي على القيام بثورته، فوجد أن عامل الإيمان بالله هو الذي أعطى زخماً واندفاعة للثورة الإسلامية.
من الواضح، منذ أن أعلن عفلق رؤيته لعلاقة العروبة بالإسلام، أنه أعطى للإسلام رؤية خاصة لا علاقة لها بالتعصب الديني، وإنما أراد إن يكون متعصباً للإيمان بالروح وبالله، وبما يعطيه هذا الإيمان من حوافز تجعل الإنسان بعيداً عن حسابات الربح والخسارة بمعناها المادي إلى حسابات الربح والخسارة بمعناها الروحي.
فمن مجمل منهجه المعرفي نكتشف أن ما كان يستند إليه البعد الإيماني في فكر مؤسس البعث ثابتان، وهما: الإيمان بالله إيماناً معللاً، والإيمان بالشعور القومي العربي من دون أي تعليل أو برهان.
وإذا تتبّعنا كتاباته وأحاديثه وخطاباته التي يتمظهر من خلالها البعد الإيماني وصولاً إلى وصيته التي أذيعت بعد وفاته في العام 1989م، لا نجد فيها ما هو متغيِّر عن كل ما رسمه من ثوابت سابقة. لكن ما نجده من المتغيرات لا يتجاوز، على الإطلاق، بعضاً من العبارات التي لا يستطيع أن يُطلق شحنات وجدانية يختزنها إلاَّ بمثلها. ومن أشهرها نقتطع البعض منها، وهي: «العروبة جسد، روحها الإسلام»، و«وُلِد الإسلام في أرض العروبة ولكنه أصبح أباها»… ولأنها لا تصمد كثيراً أمام النقد العلمي، لأنها تخضع لتأويلات وتفسيرات متعددة، أغرت الكثيرين من الذين أرادوا أن يستندوا إليها في جرَّ حزب البعث العربي الاشتراكي نحو الدائرة الدينية على حساب العروبة والقومية.
تناسى الذين وقعوا أسرى إغراء تلك العبارات بأنها لا توحي بأي موقف علمي واضح، ففصلوها عن البنيان الفكري الثابت لمؤسس البعث، فدعوا البعثيين لأن يتابعوا خطى مؤسس البعث إلى الأخذ بالإسلام كاملاً. وهم إنما وقعوا بمثل تلك الإغراءات لأنهم فصلوها عن الثوابت الفكرية لمؤسس البعث ولفكر حزب البعث أيضاً.
ومن أهم تلك الثوابت، نذكر بعضها لضرورة البرهان، ومن أهمها:
إن العروبة ثابت أما الدين فمتغير، وإذا كان مؤسس البعث قد أعطى للإسلام أرجحية في تطور واقع العروبة، إلاَّ أنه لا يعني أنه يعمل من أجل بناء دولة دينية. وهو لو أعطى للدين موقعه كثابت في فكر البعث لكان من الواجب أن يلغي اعترافه بحرية الاعتقاد الديني للعرب. فلو انتمى العربي إلى أي دين يؤمن به، فهذا لن يلغي أن يبقى عربياً. أما لو اختار العربي غير العروبة فهو سبب كاف لأن يفقد هويته العربية. فتغيير الدين، إذاً، لا يلغي الهوية القومية. وهذا ما يؤكد على أن القومية ثابت في فكر مؤسس البعث، كما هو ثابت في فكر الحزب الذي أسسه. أما الدين فهو متغير له علاقة باتجاهات القناعات الروحية الغيبية لكل عربي.
فلو غيَّر مؤسس البعث دينه فهو إنما يمارس حقه في حرية الاعتقاد، وهذا ما لا يجب أن يصيب العلمانيين بالإحباط لأنهم هم أنفسهم يدافعون عن حرية الاعتقاد الديني. وهو لا يجب أن يدفع الإسلاميين إلى إصدار نعوة بموت الفكر القومي، كذريعة يدعون فيها إلى صلاحية الفكر الديني على قاعدة التعصب والانحياز إلى جانب دين دون الآخر. وليس على المسيحيين أن يخافوا من ذلك الإعلان، لأن بناء التشريع القومي يحفظ لهم حقوقهم كاملة في الاعتقاد الديني من جهة ويحفظ لهم حقوقهم السياسية على قدم المساواة مع كل الأديان الأخرى من جهة أخرى.
ولكي نفهم البُعد الإيماني، الذي كان مميزاً لفكر مؤسس البعث، لا بُدَّ من أن نستذكر معاني ودلالات ما يحصل في كل من العراق وفلسطين ولبنان.
ففي العراق أعطى البعث، بقيادة الرئيس صدام حسين، أنموذجاً واضحاً عن البعد الإيماني الذي أرساه عفلق. فلو كانت حسابات البعث في العراق تستند إلى حسابات موازين القوى لكان على العراق أن يتراجع عن معركته ضد أميركا والصهيونية أعتى قوى الإمبريالية الحديثة.
وما يحصل في فلسطين، التي يتحدى فيها الحجر ترسانة الأسلحة الصهيونية، لا علاقة له أيضاً بحسابات موازين القوى. وما حصل في لبنان، الذي حقق نصراً على ترسانة الصهيونية، لا علاقة له أيضاً بحساب موازين القوى.
ثلاثة تجارب عربية معاصرة، يقوم بأودها بشر لا يمتلكون من موازين القوى إلاَّ الشيء اليسير، وعلى الرغم من كل ذلك فهم يحققون النصر أو يسير بعضهم على طريقه. فلا بد من أن نتساءل: ما هي العوامل التي تلعب دوراً في تحريض هؤلاء العرب على خوض معركة لا تتكافأ فيها القوى؟
ليس هناك من عامل إلاَّ عامل الإيمان بعدالة القضايا التي يقاتل من أجلها العراقيون والفلسطينيون واللبنانيون. ولما آمنوا بقضاياهم استبعدوا كل حسابات العقل الرياضي، وانتصر عندهم الإيمان. ولكن يجب أن لا يتبادر إلى الذهن فوراً أن للإيمان جانب واحد هو الإيمان بدين بعينه أو بمذهب بعينه، لأن الذين يقاتلون على تلك الساحات ليسوا من المحسوبين على هذا الدين أو ذاك، أو هذا المذهب أو ذاك، بل يجمع جميع المؤمنين بعدالة قضاياهم فمحضوها الحب فطلبوا الموت من أجل انتصارها. فمهما تعددت الأبعاد الإيمانية بالدين أو بالمذاهب، يبقى الإيمان بالقضية القومية أو الوطنية جامعاً لكل المناضلين.

النص الحرفي للبحث
البعد الإيماني في فكر مؤسس البعث
أولاً: مقدمات نظرية حول العلاقة بين المنهجين المعرفيين الإيماني والعقلي.
1- تعريف المفهوم الإيماني ومساحة التمايز بينه وبين العقل.
2- العلاقة بين الإيمان والعقل.
3- الإيمان الروحي بالمنهج المعرفي.
‏ثانياً: واقع البينة الفكرية والسياسية في الوطن العربي وتأثيراتها على تكوين ‏منهج عفلق المعرفي.
‏ثالثاً: تحديد ملامح المنهج المعرفي عند ميشيل عفلق.
1- البعد الإيماني عند مؤسس البعث من خلال كتاباته الأدبية.
2- علاقة بعد المنهج الإيماني عند عفلق بالإسلام:
أ- الإسلام حركة ثورية عربية ذات خصائص عربية وذات عمق إنساني.
‏ب- الإسلام عام وخالد، لكنه ليس شاملاً وليس جامداً.
ج- تأثيرات قوة الإسلام الروحية في العرب، في المرحلة الراهنة، وزخمها.
3- حدود العلاقة بين العروبة والإسلام في فكر مؤسس البعث.
‏رابعاً: المقاربة بين منهج عفلق الإيماني وقضايا الأمة العربية الراهنة.
‏خامساً: خاتمة البحث
‏***
كثيراً ما التبست، في أذهان الكثيرين، مسألة إعلان أعظم مؤسس البعث بعد وفاته. ‏وسرت التفسيرات والتأويلات شتى السبل. ‏والكل يريد ان يعرف الأهداف ‏من وراء ذلك الإعلان.
‏وبوضوح أكثر أحبط الإعلان أمال العلمانيين، ‏ولم يأخذ الإسلاميون الموضوع على محمل الجد، وجنحوا بتفسيراتهم إلى نعى الفكر القومي، ‏الذي كأنه أعلن إفلاسه بعد إعلان إسلام مؤسس البعث. ‏وشعر المسيحيون بالأسى، وعادت إلى ‏أذهانهم صورة ارتباط هوية العرب بالإسلام، وكأن العروبة للمسلمين وحدهم، ‏وعادت صورة الماضي العثماني إلى أذهانهم عندما كان العرف السائد لا يميز ‏آنذاك بين العربي والمسلم.
دفعنا ذلك اللبس إلى ان نتتبع الإشكالية في هذه الندوة لكي نقدم حافزاً أمام ‏الباحثين ليولوا هذه المسألة الاهتمام الكافي ويبذلوا من اجلها الجهود التي تزيل كل لبس لحق بالبعد الإيماني عند المرحوم احمد ميشيل عفلق مؤسس حزب ‏البعث العربي الاشتراكي.
أولاً: مقدمات نظرية حول العلاقة بين المنهجين المعرفين الإيماني والعقلي.
1- تعريف المفهوم الإيماني ومساحة التمايز بينه وبين العقل.
‏الإيمان هو (التصديق بالقلب.. والعقل) ومن معانيه (تسليم النفس بالشيء تسليماً راسخاً لا تقل قوته من الناحية الذاتية عن قوة اليقين. ‏والفرق بينه وبين اليقين، ان اليقين مستند إلى أسباب موضوعة، في حين ان الإيمان مبني على أسباب شخصية ذاتية)( ) .
‏أما الإيمان في الشرح فهو (الخضوع والقبول للشريعة، ولما أتى به النبي)( ).
2- العلاقة بين الإيمان والعقل
‏يرجع مصطلح العقل: (إلى وقار الإنسان وهيبته)، وهى هيبة محمودة للإنسان في كلامه وسلوكه. ‏ويراد به ما يكتسبه الإنسان بالتجارب من الأحكام الكلية. ‏وهو قوة تدرك صفات الأشياء من حسنها وقبحها، وكمالها ونقصها.
أما الفلاسفة فيرون ان العقل (جوهر بسيط مدرك للأشياء بحقائقها). وهو قوة النفس التي بها يحصل تصور المعاني، وتأليف القضايا والأقيسة. والفرق بينه وبين الحس ان العقل يستطيع ان يجرد الصورة عن المادة، وتدرك المعاني الكلية كالعلة والمعلول، والغاية والوسيلة... ‏وهو (قوة الإصابة في الحكم)، أي تمييز الحق من الباطل ..‏وهو لا يلقي، على الإطلاق، شيئاً على انه حق، ما لم يتبين ببداهة العقل انه كذلك. ‏وهو مجموع المبادئ القبلية المنظمة للمعرفة كمبدأ عد‏م التناقض ... ‏وهو قوة طبيعية للنفس متهيئة لتحصيل المعرفة العلمية، وهذه المعرفة مختلفة عن المعرفة الدينية المستندة إلى الوحي والإيمان( ). فالعقلي هو المنطقي والنظري. والحياة العقلية في علم النفس مقابلة للحياة الانفعالية أو الوجدانية. ‏والقيم العقلية مقابلة للقيم الأخلاقية أو الفنية( ).
3- علاقة الإيمان الروحي بالمنهج المعرفي
‏ليست إشكالية الاشتباك بين مناهج المعرفة جديدة، بل هي مسألة قديمة قدم ‏تاريخ بدء العمل فيها فيعود إلى العصور التي بدأ فيها العقل الإنساني يلعب دوره في مواجهة الوجه الميتافيزيقي للمعرفة، أي منذ أخذ العقل النقدي يأخذ دوره في نقد الفكر الديني. فعرف أولى محاولاته الجدية على أيدي المفكرين المسلمين والعرب، وانتقل حتى بلغ ذروته في مرحلة بناء العقل الفلسفي الأوربي، الذي بدأ يشق طريقه لينتقل من عصر الإيمان ويتخذ طريقه نحو النضج منذ العصر ‏الوسيط في القرن الخامس عشر الميلادي، ‏وبه انشغل الفكر الفلسفي بمرحلة التوفيق بين العقل والنقل، بين منهج الإيمان ومنهج الفكر العلمي. ‏وانعتق الفكر الأ‏وروبي في عصر النهضة من قيود مقولات الفكر القديم، ‏إلى ان وصل في عصر التنوير إلى مرحلة بناء أنسقة فلسفية متكاملة، واستخدام المناهج العلمية في البحث( ).
‏ولان الا‏يمان كان يعني، تقليدياً، ‏انه مختص بالدين، أي بالمسائل الميتافيزيقية، والعقل كان يعني، أيضاً، الفكر الفلسفي، سنستعرض بإيجاز ما هو المقصود بهذين المصطلحين:
‏كان النساك المسيحيون يرون ان تسويغ العقيدة بحجج العقل، ان هو إلا إسراف غير مفيد لوقت ثمين، فمن الأفضل ان يبحث، ‏عند تأمل الكتاب المقدس، عن غذاء أخلاقي معنوي يغذي الروح( ). ‏وحول هذه المسألة يقول القديس أغسطين: (لست أسعى للفهم لكي اعتقد، بل ان اعتقد لكي أفهم)( ).
‏ولما اشتد الضغط الفلسفي على نقد الكنيسة والفكر الديني، ‏وجد بعض اللاهوتيين أنفسهم يخوضون غمار الدفاع عن الإيمان الديني بأسلحة العقل نفسه. ‏وكان من أهم أولئك المدافعين توماس الاكويني، ‏الذي كأنه يقلد طريقة الأشعري والغزالي في الرد على الفلسفة تحت شعار الرد على الفلاسفة بأسلحتهم( ). ‏فيكون الاكويني قد رفع العقل فوق الإرادة والفهم فوق الحب( )؛ ولهذا السبب عده مرسوم للبابا يوحنا الحادي والعشرين خارجاً على الدين( ).
‏كان الفكر الإسلامي، بعد ان انتقل الفكر الفلسفي اليوناني إلى العربية، ومع انتشار موجة إعطاء العقل حقه في البرهان في مسائل المعتقدات الإسلامية، خاض النقليون الإسلاميون صراعات ضد موجة التفلسف الجديدة، ذلك الصراع الذي قاد الغزالي إلى الدفاع عن الإيمان الديني باستخدام أسلحة الفلاسفة. ‏وعمل على أساس ان يضع قواعد للبعد الإيماني في مواجهة العقل فتوصل إلى نتائج دفعته إلى الدفاع عن الحدس الصوفي كطريق إيماني بديل للعقل.
‏لم تتوقف صراعات تحديد مناهج المعرفة، بين العقل الفلسفي والإيمان الديني، عند حدود عصر معين، ‏بل تواصلت إلى القرن العشرين الميلادي، وتوصل بعض فلاسفة الغرب إلى وضع قواعد جديدة في الحدس لكي يبرهنوا من خلالها على ارجحية البعد الإيماني في صياغة مناهج معرفية تسهم في إنتاج معارف جديدة للبشرية وان تكون موثقة النتائج أكثر من جمود البرهان العقلي والمنطقي فكان برغسون، الفيلسوف الفرنسي، من أهم من مثَّل ذلك التيار.
‏عمل برغسون على وضع أسس للحدس يدافع بواسطتها عن منهج المعرفة الإ‏يمانية كبديل للمعرفة البرهانية القائمة على العقل. وهنا رأى برغسون ضالته ‏المنهجية في البطل والبطولة. ‏فعد البطل مثالاً للمتميزين منهم، أولئك الذين يصلون إلى أهدافهم في المعرفة الإنسانية من خلال مبادئ الأخلاق المؤسسة على الوعي؛ فيرى ان كل أخلاق بطولية لا يمكن ان تنال كفايتها بواسطة العقل، لأنه وحساباته –غالباً – ما يوقعان الأخلاق في المنفعة المباشرة أو غير المباشرة. اما أخلاق البطولة فلا يمكن ان تصدر إلا عن حالة روحية تعيش جواً انفعالياً يعيشه الفرد المتميز، ويسري في نفوس الناس سريان النار في الهشيم.
‏لا يمكن -كما نحسب- لمنهج معرفي واحد ان يحتكر حقيقة الوصول إلى المعرفة عن طريقه وحده. ‏لان هذا الادعاء يقود إلى تحويل الإنسان إلى كتلة واضحة سهلة الفهم غير معقدة. ‏بينما المخلوق البشري هو عبارة عن موجود مركب لم تستطع كل المناهج المعرفية السابقة ان تحدده تحديداً دقيقاً. ‏وقد وقعت المناهج المعرفية، سواء كانت ذات أبعاد إيمانية أم إبعاد برهانية عقلية، في التعسف عندما ادعت ان منهجاً معرفياً واحداً يستطيع ان يضع للكائن البشري تفسيراً من خلال تناوله من جانب واحد: سواء كان الجانب مادياً أم روحياً.
‏من ضحايا تلك الادعاءات وقعت الماركسية، كإحدى أهم الفلسفات المادية، فريسة من فرائسها عندما أقامت هيكلها المعرفي على أساس جانب وحيد هو الجانب المادي. ووقعت الادعاءات الدينية فريسة أخرى عندها حسبت ان الجانب الإيماني الروحي هو الهيكل المعرفي وحيد الجانب الذي يستطيع ان يفسر كينونة الإنسان.
‏لابد من ان نعترف للمنهجين: المادي والروحي، بدوريهما المتكاملين في تكوين مناهج معرفية تساعد الإنسان، ذلك الكائن المركب، على اكتساب المعارف ‏الضرورية التي تساعده على تخطيط وسائل الوصول إلى سعادته في جانبيها: المادي والروحي.

‏ثانياً: واقع البيئة الفكرية والسياسية في الوطن العربي
وتأثيراتها في تكوين منهج عفلق المعرفي
بما لا يقبل الشك، للفكر علاقة وثيقة مع البيئة الفكرية والسياسية والاجتماعية التي يولد فيها. ويكتسب أسسه من خلال نقد ما هو قائم أولاً، ومن خلال وضع أسس معرفية جديدة تجهد من أجل وضع حلول لتغيير الواقع المعاش ثانياً.
‏عاش عفلق في بيئة سياسية واجتماعية وفكرية عامرة بالمشاكل من شتى الأنواع من جهة، وفي بينة فكرية تسودها اتجاهات فكرية متناقضة ومتباعدة ومتصارعة من جهة أخرى.
أما البيئة الاجتماعية فكانت وليدة عصور تركية طويلة من التخلف الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، ومن الإلحاق السياسي بنظام عثماني لم تكن له علاقة ‏بمعاني الإنسانية ولم يكن يهتم بمصلحة الرعايا التابعين له. ‏ولما انهار بنيانه كان ورثته من الاستعماريين الغربيين الذين كانوا يفتشون عن أسواق لمنتجاتهم. فلم يكن تغيير الأنظمة السياسية يهتم بمصالح المواطنين، بل كان يسير من استغلال إلى استغلال، ومن سيئ إلى أسوأ.
‏في تلك المرحلة لم تكن طبقات الشعب، سواء منها النخبوية أم الشعبية تمتلك مشروعاً نهضوياًَ، أو جزءاً من مشروع لكي تواجه بواسطته متغيرات المرحلة الجديدة فانقسمت النخب العربية إلى تيارات فكرية وسياسية ثلاث، وهي: التيار الإسلامي الذي كان يعمل من اجل إعادة الخلافة الإسلامية على قاعدة (لا يصلح الخلف إلا بما صلح به السلف). ‏وتيار ماركسي منبهر بالفلسفة الماركسية، خاصة في ما له علاقة بالاشتراكية القائمة على صراع الطبقات، وعززت عوامل الانبهار إفرازات الماركسية السياسية في روسيا بعد ان استولى الحزب الشيوعي على السلطة فيها. ‏وكانت التيارات القومية العربية تجهد من اجل وضع نظريات تعتبر ضرورية في أن تكون للعرب نظرية قومية ترشدهم إلى معالجة ما هم مصابون به من علل وأمراض، لكن تلك التيارات كانت تحاول ان تقلد نظريات أوروبا في القومية.
‏واجه عفلق، في مراحل وعيه المبكرة، سلفيتين: دينية إسلامية تعمل لإعادة التاريخ إلى الوراء، وسلفية ماركسية تعمل من اجل نقل مناهج معرفية وسياسية وضعها فلاسفة غربيون تلائم أمراض الغرب. وواجه نظريات في القومية العربية تعيش في أبراجها النظرية النخبوية، وحسب أن تلك النظيرات لن تستطيع ان تحفر في أسس التغيير ما لم تتحول إلى نظريات تشترك في تطبيقها قاعد‏ة واسعة من البنى البشرية العربية التحتية.
‏لقد أسهمت البيئة الفكرية والسياسية في بناء منهج عفلق المعرفي، وعمقته، من خلال قيامه بنقد المنهجين الفكريين: الإسلامي السلفي والماركسي المادي. وان كانت لم تصدر عنه أية دراسات متكاملة عن هذين المؤثرين، اللذين أسهما في انحيازه إلى منهجه المعرفي الذي تميز به، إلا ان الباحث المتابع يجد نقده لآرائهما موزعة هنا وهناك في كتاباته وخطبه وأحاديثه في مختلف مراحل حياته.
‏فقد أخذ على الماركسية جمودها النظري، ومنهجها الغريب عن البيئة العربية، وعلميتها التي استندت إلى وقائع غربية متميزة عن الواقع العربي، وجفافها الذي لا يتوافق مع حرارة الروح والإيمان، واخذ على الإسلاميين أنهم جمدوا تعاليم الإسلام ولم يطوروها وحولوا الطاقة الثورية التي للإسلام إلى طقوس وتعاليم لها علاقة بالغيب والسطحية، فأخذوا من الإسلام الطقس والعبادة ‏السطحية وأهملوا الجانب الروحي الثوري فيه. ‏وأخذ على النظريات القومية السابقة لنظريته أنها أسرت القومية في أبراج النخبة ولم تجهد نفسها لتحويلها إلى نظرية تظهر مصلحة الجماهير المسحوقة في العمل لأجلها.
ولأنه لا يمكن لأية نظرية ان تكون عملية وصالحة إذا لم تقترن بطاقة روحية فاعلة نزرع الحوافز عند الجماهير الواسعة للعمل من اجلها، أولاً، وترتبط بمصلحة اكبر قاعدة شعبية ثانياً.
‏ولأن الإسلام كان مثالاً تاريخياً بارزاً في التاريخ العربي، وكان يتميز بطاقة روحية كبيرة أصاب نجاحاً كبيراً في عملية التغير في البنى الفكرية والحضارية العربية، ولان الإسلام يعد ثقافة أوسع القطاعات الشعبية العربية، أصبح يمتلك شرطين أساسيين في قيادة الصراع ضد عوامل التخلف وقوى الاستغلال وهما: طاقة الاسلام الروحية ونجاحه الثوري في التاريخ من جهة، وهو ثقافة أساسية للجماهير التي يعتمد عليها في رفد الثورة الجديدة المعاصرة من جهة أخرى.
هذه الأسباب مجتمعة أسهمت في بناء المنهج المعرفي الإيماني عند عفلق. وقد اشتركت عوامل عدة في بناء المنهج المعرفي عند عفلق:
‏-الأول: منهجه في الرؤية الفلسفية الإنسانية القائم على القاعدة الإيمانية.
-الثاني: نقده المنهج الإيماني الساذج والسطحي عند الإسلاميين.
- الثالث: نقده المنهج المادي عند الماركسيين.
‏-الرابع: حاجته في التغيير إلى عوامل لابد من ان تتوفر في الثورة التي يدعو إليها، وهي قوة روحية تمتلك حرارة الإيمان وعمق التجربة وخصوصيتها، فكان الإسلام هو تلك القوة الروحية التي أثبتت جدارتها وخصوصيتها في التاريخ العربي.

‏ثالثاً: تحديد ملامح المنهج المعرفي عند ميشيل عفلق
إن اكتشاف المنهج المعرفي عند أية شخصية لها دور بارز على صعيد الإسهام في إغناء المعرفة الإنسانية مسألة ضرورية، لان دراستها ومعرفة أصولها وتأثيراتها ذات فائدة كبرى على صعيد تطوير مناهجنا المعرفية، وتأتي أهميتها، بشكل خاص، إذا كان منهج معرفي ما قد أسهم بشكل ايجابي في تطوير وتغيير الأوضاع الفاسدة التي يعانيها المجتمع البشري، بشكل عام، أو التي يعانيها شعب ما من الشعوب بشكل خاص.
‏ولان لمؤسس البعث تأثير عميق في دورة الحياة العربية المعاصرة فكان لا بد من ان نبحث عن أصول منهجه المعرفي الذي من خلال استخدامه اثر تأثيراً عميقاً في مجرى حياة الحزب الذي أسسه بشكل خاص، وفي مجرى حياة الأمة العربية بشكل عام. ولعلنا من خلال تأصيلنا لمنهجه المعرفي نستطيع ان نجد ‏تفسيرات واضحة للإشكالية التي أثارها إعلان انتمائه روحياً إلى الدين الإسلامي.
‏بداية، عدنا إلى كتابات مؤسس البعث الأولى لعلنا، من خلالها، نصل إلى ‏ما يساعدنا على التأصيل. ‏لكننا نرى أيضاً ان ما كان بالإمكان ان يسهم في عملية البحث هو العودة إلى البدايات الشخصية في حياته الخاصة، وكذلك العودة إلى معرفة البيئة الفكرية والسياسية التي لا شك في أنها أدت دوراً تأسيسياً في بناء ‏منهجه المعرفي. ‏ولأننا نلمح مسحة واضحة من الروح والوجدانية في كل زوايا ‏أثاره وكتاباته، ‏كان لابد لنا من ان نتتبع تلك المسحات الواضحة من خلال نماذج من كتاباته في مراحل زمنية متفاوتة.
1- البعد الإيماني عند مؤسس البعث من خلال كتاباته الأدبية:
‏لان مؤسس البعث بدأ حياته في كتابات عدها بعضهم بالكتابات الأدبية كان لابد من ان نعود إليها لكي نتتبع ماله علاقة في تحديد منهجه المعرفي. ‏ولو عدنا إلى ما نشره في مراحل مبكرة من حياته لوجدنا ما يلي:
نشعر في كتابات مؤسس البعث الأولى بموقفه السلبي من العقل والعقلاء والمنطق والمناطقة وإذا ما حاولنا أن نتلمس أسباب هذا الموقف لوجدنا ان مصطلحاته (العقل) و(العقلاء)، (الحكمة) و(الحكماء) مرتبطة بالمعاني التالية: الضعف، كما يستخدمه العقلاء، أصبح (عقلا)؟ والجبانة أصبحت (حكمة)، ومن مواصفات (العقل) ان (تزن كل حركة تهم بها حتى تقتلها في صدرك. ‏وبذلك فقد (العقلاء) في مصطلح مؤسس البعث (حرارة الدم، وتعطلت فيهم حوافز الحياة)( ). ‏تلك النتائج كانت ظلالاً لأفعال وممارسات تصدر عن (عقلاء) ذلك العصر و(حكمائه). ‏تلك الظلال ظهرت في مقالات عفلق على شكل ان الجدل والإقناع هما (حيلة العاجزين)، واختيارهم (الهدوء على النضال)( ).
‏لم يقف عفلق موقف الناقد للنخبة في المرحلة التي يكتب عنها، بل تصور ان البديل (لعقلائها) و(حكمائها) موجود في المثال الأعلى، الذي هو (البطل الذي لا يحب الحياة فحسب بل يحترمها، ‏ولا يشتم القدر بل يحاربه، ولا يخاف الفشل بل يرى فيه سر بطولته.. مرتلا نشيد الظفر)( ).
‏أستند المنهج الفكري لمؤسس البعث، في كتاباته الأولى، إلى الإيمان بقضية الأمة العربية، وأحس بحدسه ان تلك القضية عادلة، ولم ينتظر أن يترجم حديه إلى يقين ‏عقلي، بل وجد في انتظار الوصول إليه مضيعة للوقت. ‏فكان يكفيه انه آمن بتلك القضية وبعدالتها من دون أي برهان عقلي أو منطقي، لأنه لا يجوز للمتألم ان يبرهن علي ألمه بأي برهان عقلي أو منطقي لان الأ‏لم هو برهان أكثر من كاف. ‏زرعت معرفته الإيمانية لقضية أمته في نفسه حباً لتلك القضية، ‏ولم ‏يجد حلاً إلا في ان تكون حرارة الإيمان بها عالية لتصل إلى درجة الغليان القصوى، ولهذا وقف من (عقلاء) المرحلة و(حكمائها) موقفاً سلبياً لأنهم حاولوا ان يبرهنوا على وجود الألم، بينما المتألم ليس بحاجة إلى الإتيان ببرهان ليبرهن من خلاله عن ألمه.
قد يكون فهمه لقضيته، من خلال منهجه المعرفي صائباً ودليل صوابيته أنه استقطب كثيراً من الأنصار والمؤيدين، وهذا مؤشر على نوعية البيئة الفكرية التي كان عنصر الشباب يحياها في الثلاثينات من القرن العشرين.
‏لم تكن الأجيال الشابة تفتقد الإحساس بعدالة قضيتها، وإنما كانت تنتظر من يقودها إلى العمل من اجلها. ‏والعمل من اجل قضية يحتاج إلى وقود روحي يؤجج حرارة الإيمان بها. ولما كان عفلق قد اطلع على تجارب الأوربيين في مراحل تحررهم، واكتنز رصيداً ثقافياً كبيراً من كتابات فلاسفتهم وثورييهم، فتأثر بها وعمل على مقاربتها من خصوصيات الواقع العربي، فنشأت لديه وسائل منهجية معرفية اختبرها من خلال كتاباته الأدبية في الثلاثينات من القرن العشرين، ولما أصاب تأثيرها نجاحاً بين الشباب، خاصة وانه كان من الذين مارسوا مهنة التعليم في الصفوف الثانوية، خطا عفلق خطواته الأولى في صياغة معالم ثورة عربية جديدة.
لهذا نجده في مقالة (ثروة الحياة) يفتش عن السبب الذي يحول بين الشباب السوري والثورة فيجده كامناً في عجز الحركات والنخب السياسية والفكرية عن الإفصاح عن فكرها بوضوح وبطريقة سهلة على إفهام الشباب، فأين نراه يجد ضالته؟
‏وجد أنه من حق الذين لم يهتدوا إلى الطريق الثوري أن يعرفوا فضائل المشروع الثوري الجديد. ولا تقف مضامين ذلك المشروع عند فوائده المادية إذا ما أصاب النجاح، ولكنه يراه في تنمية الحياة في نفوس الشباب أولاً وقبل أي شيء آخر. فالاشتراكية، مثلاً، كأهم مبادئ العدالة الاقتصادية بين البشر لا يمكن أن تعني تساوي الناس في توزيع الطعام فحسب، فهي، أيضاً – كما يراها مؤسس البعث – ليست واسطة (لإشباع الجياع).. (ولا يهمه) الجائع لمجرد كونه جائعاً، بل للممكنات الموجودة فيه، التي يحول الجوع دون ظهورها ... وينصرف إلى القيام بوظيفته الإنسانية). ‏وإذا سئل عفلق عن تعريفه للاشتراكية فهو لا يراها في نظريات ماركس الجافة، ولكنها (دين الحياة وظفر الحياة على الموت)( ).
يعطي عفلق للروح أهمية كبرى في الوصول إلى المعرفة وللعمق والغني الروحي اثر (غير قليل في تجنب التفكير السياسي والاجتماعي خطر السطحية وخطر الابتعاد عن طبيعة النفس الإنسانية وحقيقة متطلباتها). وان الفاقدين ‏للتراث الروحي يصبحون (عرضة للشطط والخطأ الفظيع في الاتجاهات، لان تفكيرهم يكون مجرداً، ‏رياضياً، وتنطلي عليهم سفسطات المنطق الصوري ‏الجامد).
‏خلقت مطالعات عفلق، عن أصول الفلسفة القومية، في نفسه خميرة أدبية ‏فلسفية، فجاءته الفكرة، من جراء ذلك (على مستوى إنساني لأعلى مستوى قومي خاص) ومن فهمه للإنسانية اكتشف الحقيقة القومية بشكل عام، وبالتالي حقيقة القومية العربية بشكل خاص. ‏وتمثل الحقيقة القومية مكانة مشروعة بين الحقائق الإنسانية الخالدة، التي لا يمكن ان تتعارض مع الاتجاه الإنساني( ).
‏انطلق عفلق بداية من رؤية فلسفية تستند إلى أساس إنساني عام، بحيث أحب ‏الإنسان بعيداً عن جنسه ولونه ودينه. وكانت رؤيته الفلسفية تستند إلى عمق روحي يتميز بالعمق والغنى وهما يجنبان التفكير السياسي والاجتماعي السطحية. ‏فمن شروط منهج المعرفة عنده ان لا تكون جامدة كجمود البرهان ‏المنطقي أو الرياضي.
‏وكأن وصف عفلق للبرهان المنطقي بالجمود جاء لكي يعزز من دور الروح ‏في اكتساب المعرفة أولاً. لكن هذا لا يعنى ان تكون أهداف البرهان المنطقي ‏والعقلي محبة في التجريد فقط لكن وصفهما بالسفسطة ليس حكماً دقيقاً. لان من أهداف الوصول إلى اكتشاف المعارف الإنسانية الجديدة. وإذا كنا ننقد عفلق حول إعطائه وجهاً واحداً لمناهج المعرفة، فان ذلك لا يجعلنا ننكر دور العمق الفلسفي الإيماني في تنمية المعارف الإنسانية، لأن منهج المعرفة الإيمانية وجه من وجوه عديدة تعمل على تنمية المعارف الإنسانية. فهناك قضايا ذات علاقة بالنفس الإنسانية لا يمكن الوصول إليها من خلال معادلات برهانية ورياضية، كما ان هناك قضايا ذات علاقة بالمعادلات العقلية والرياضة لا يمكن الوصول إليها من خلال مناهج المعرفة الإيمانية. ‏ولكي لا تقع في التعسف علينا ان لا نسجن المعرفة في منهج واحد كما فعلت الماركسية عندما أسرت المعرفة بين أسوار المادية فقط. وعلينا أن لا نأسر المعرفة بين أسوار منهج المعرفة الإيمانية لوحده.
2- علاقة بعد المنهج الإيماني عند عفلق بالإسلام.
بدءاً من العام 1943م، حدد عفلق منهجه المعرفي الإيماني مع الإسلام وسنقوم بدراسة تلك العلاقة من خلال نصين أساسيين من نصوصه:
- النص الأول: (في ذكرى الرسول العربي) وهو عنوان الخطاب الذي ألقاه، في العام 1943م، على مدرج جامعة دمشق.
- النص الثاني: ويتمثل بوصيته التي كتبها في العام 1979م. ولأنه توفي بعد ‏كتابتها بتسعة عشر عاماً - ولم يعدل أي حرف من حروفها فإننا نعدها النص الأخير الذي نستند دليلاً في محاولة دراسة البعد الإيماني في فكره.
‏ففي النص الأول، أي في خطابه (في ذكرى الرسول العربي) يحدد مؤسس البعث ثوابت لرؤية الواقع العربي في المرحلة التي كان يناضل فيها، وهي:
‏أ- يشكو العرب من شخصية مجزأة بين القول والعمل من جهة، والتناقض بين الماضي المجيد والحاضر المعيب من جهة أخرى. ومن اجل إزالة التناقض على العرب ان يعيدوا الشخصية العربية إلى وحدتها من خلال اتحاد (الصلاة مع العقل النير) مع الساعد المفتول. ولأن العرب ينتسبون إلى أمة مجيدة عليهم ان يصلوا بين التاريخ الحديث والتاريخ المجيد.
‏وهنا نرى من اللازم ان نعرف كيف يحدد مؤسس البعث اتحاد الصلاة مع العقل النير مع الساعد المفتول من جهة، وكيف يعرف التاريخ المجيد من جهة أخرى.
‏يقول مؤسس البعث (ظللنا زمناً طويلاً نعيش في جو ثقيل خانق، لأنه كاذب، خلاف بين الفكر والعمل، وبين اللسان والقلب)( ). ولأنه يمر في نص الخطاب تعبيران، يبدو من ظاهريهما انهما متناقضان وهما: (التاريخ المجيد) مع (الزمن العربي الخانق)؛ مما يدفعنا إلى معرفة من أين ابتدأ التاريخ المجيد وأين انتهى؟ ومتى ابتدأ (الزمن الخانق) وأين انتهى؟
يحدد عفلق التاريخ المجيد، وكما يعبر عنه تماماً في الخطاب نفسه، هو الماضي الذي يسبق زمن التراجع الطويل. وهذا الماضي المجيد هو (حركة الإسلام المتمثلة في حياة الرسول الكريم)( ). وتحديداً، مرحلة (البذور في السنوات العشرين الأولى من البعثة)( ). كانت تلك المرحلة غنية جداً، ولأنها كذلك، فهي ممكنة التجدد (في روحها، لا في شكلها وحروفها)( ). أما ماذا ‏يقصد عفلق بروح التجربة؟ وماذا يقصد بحروفها وشكلها؟
أما حول روح التجربة، فنستنتج من النص انها تتمثل بما يلي:
- إنسانية تفيض على الأمم الأخرى فكراً وعملاً، فتصبح شاملة.
- أخلاقية تربط روح التجربة العملية بالتجربة الأخلاقية النظرية.
- عملية تكون من القوة بحيث تثمر الفتوح والحضارة.
- عربية بأرضها، ولغتها، برسولها، وإتباعها، ونهجها العقلي، وفضائلها، وعيوبها.
- قومية – إنسانية، لكنها ليست شاملة ولا جامدة.
‏ونتساءل: كيف أفاد العرب من روح التجربة؟ ونجد أجوبة عفلق ماثلة في ما يلي:
قبل ان يفتح العرب الأرض ويحكموا الأمم، فتحوا أنفسهم ،وحكموا ذاتهم. ولأنهم فهموا حقيقة الإسلام، كتجربة روحية دافعة للتطور والتغيير، وحقيقة الإسلام هي في منع سيطرة المادة على الروح، والمظهر على الجوهر أولاً؛ وثانياً هي ملحمة يحققها المسلم، بما يقوم به من (تبشير)، وبما يواجهه من (اضطهاد وهجرة وحرب، ونصر وفشل)، إلى أن يصل إلى خواتيم (الظفر النهائي للحق والإيمان)( ).
‏أما حول ما يعنيه من (حروف التجربة وشكله) فنستطيع ان نصل إلى الاستنتاجات التالية:
‏أ-الإسلام حركة ثورية عربية ذات خصائص عربية وذات عمق إنساني:
- أن لا تتم دراسة تجربة الرسول من خلال قراءة السيرة بسطحية، بل من خلال شعور عميق، الشعور الذي يضع البطولة في موقعها الصحيح، هو في تمثلها واكتسابها وتطبيقها. والمهمة ليست عسيرة أو مستحيلة في عصرنا الراهن، لأنها نجحت في تاريخ العرب، وكان رائدها محمد العربي( ).
‏يعطى مؤسس البعث لتجربة الإسلام بقيادة الرسول عمقاً عربياً: فالأرض التي ولد عليها ارض عربية، والمزايا هي مزايا عربية، وبالتالي لنضج العرب كشرط لازم لقبول الرسالة وتبليغها. ‏وأراد الله أن يصل العرب إلى النجاح في التبشير بالرسالة ونشرها بجهدهم، أي ان يكون إيمانهم منبعثاً من نفوسهم. ‏(فالإسلام، إذا كان حركة عربية؛ وكان معناه: تجدد العروبة وتكاملها). ‏كانت لغته عربية، وفهمه للأشياء كان بمنظار العقل العربي، والفضائل التي عززها كانت عربية، والعيوب التي حاربها كانت عيوباً عربية. ‏فكان المسلم في ذلك الحين، عربياً لكنه كان (العربي الجديد والمتطور والمتكامل). فكان الإسلام (يمثل وثبة العروبة إلى الوحدة و‏القوة والرقي)، ورسالته إنما كانت (خلق إنسانية عربية)( ).
ولأن يقظة العرب القومية ارتبطت برسالة دينية، ولأن تلك الرسالة ذات آفاق إنسانية، فلن يتحول العرب إلى قومية متعصبة. ولن يستطيعوا أداء واجبهم الإنساني إلا إذا كانوا أمة قوية( ).
ب- الإسلام عام وخالد، لكنه ليس شاملاً وليس جامداً:
‏يرى مؤسس البعث أن (الإسلام عام وخالد، ولكن عموميته لا تعني انه يتسع، ‏في وقت واحد، لشتى المعاني والاتجاهات). ‏ولا يعني خلوده أنه جامد لا يطرأ عليه تغيير، فهو (نسبي لزمان ومكان معينين). فلا يمكن للإسلام أن يكون (جراباً يسع كل شيء، ومعملاً ينتج شتى المركبات والأدوية)، بل من الممكن، ‏عندما نمنع أي تغيير فيه ان نفقده مميزاته الحية، ونتركه لكي يكون فريسة ‏لدعاة الظلم وأرباب الحكم الجائر( ).
ج- تأثيرات قوة الإسلام الروحية على العرب، في المرحلة الراهنة، وزخمها؟
‏يرى عفلق كيفية جديدة للإفادة من زخم الإسلام في الصراع الذي تخوضه الأمة العربية في المرحلة الراهنة، على الشكل التالي:
- توجيه (كل الجهود إلى تقوية العرب ... وان تحصر هذه الجهود في نطاق القومية العربية)( ). ‏لان الغرب عندها اخذ يخاف من الإسلام، فلأنه بعث بمظهر جديد، هو القومية العربية، ولهذا السبب نراه يوجه كل أسلحته ضدها. ‏يفعل ذلك في الوقت الذي يصادق فيه الشكل (العتيق للإسلام) الذي يقتصر علي (العبادة السطحية والمعاني العامة الباهتة) فعلى القوميين ان يبعثوا في الإسلام (معني خاصاً) إذا أرادوا ان يبقي للأمة العربية سبباً وجيهاً للبقاء( ).
- لذلك السبب يعلق عفلق كل الاهتمام (على الشعور القومي العميق الواعي، كونه أصلاً) ولان آلام العروبة، اليوم، عادت إلى أرض العرب، (فما أحراها بأن تبعث فينا، ثورة مطهرة مقومة كالتي حمل الإسلام لواءها)( ).
‏- ولان القومية العربية هي الأصل، يرى عفلق، كردة فعل ضد النظريات المستوردة من الخارج (المدفوعة بالحقد على العروبة) أن العرب بحاجة إلى المؤمنين بالله، لأن العرب، اليوم هم بحاجة إلى الإيمان به. لكنه إيمان ليس مشروطاً بالعبادات التقليدية كالصلاة والصوم. فيكون الإيمان بالله بغير تقليد، فهو (الإيمان بالحق، وبضرورة ظفر الحق، وبضرورة السعي كيما يظفر الحق)( ).
وبالعودة إلى النص الأخير، وصية مؤسس البعث التي كتبها قبل وفاته، نرى أنه قد أكد معظم ثوابته الإيمانية على الشكل التالي:
1- دعوة الماركسيين إلى إعادة النظر من مواقف الفكر الماركسي التقليدي من القومية.
2- جلاء الوجه الايجابي المبدع من قضية الدين. فالدين عند مؤسس البعث تراث عظيم للأمة العربية. ويدعو إلى تفهم الإسلام الحقيقي، وإعطاء الثورة العربية وجهها الإنساني.
3- ‏يعلن أن انتماءه إلى الإسلام كان عاطفياً من دون أي معنى ديني غيبي. ويرى ان الإسلام هو دعوة للعروبة والنضال.
4- يعلل إيمانه بالله، منذ كلمته في ذكرى الرسول العربي، في العام 1943م. ويستند تعليله إلى أن المناضل الصادق لا يمكن ان يستغني عن الإيمان به.

3- حدود العلاقة بين العروبة والإسلام في فكر مؤسس البعث:
‏ما بين مرحلتي النصين، أي منذ العام 1943م حتى العام 1979م نظرياً، والعام 1988م، عملياً، لم نجد أن مؤسس البعث قد أضاف إلى ثوابته شيئاً من التطوير أو الإضافات.
‏كانت تلك العبارات المفصولة عن مجمل كتابات مؤسس البعث، وعن مجمل ‏تراث الحزب، تغري بتفسيرات تكون أحياناً متناقضة ومتباينة ونحن نحذر كل من يريد ان يقوم بتفسير تلك العبارات، بعيداً عن البنيان الفكري العام لمنهج فكر المؤسس وفكر الحزب، من انه سيقع في خطأ منهجي يؤدي به للوصول إلى نتائج لابد من ان تكون خاطئة. ‏ونحن نرى ان تلك العبارات جاءت لتعبر عن الشحنة الوجدانية الكبيرة التي كانت تميز منهجه المعرفي، وإذا أخضعناه لمبضع البرهان العقلي أو المنطقي فسوف نجد فيها ثغرات من أهمها انها تغري قراءها وتقودهم إلى متاهات التفسيرات والتأويلات المتناقضة.
‏ولكي لا يقع القارئ بمطبات تأويل بعض أقوال مؤسس الحزب وتفسيرها عليه ان يربطها بمصدرين متلازمين ومتكاملين: أحاديثه ومقالاته وخطبه من جانب، ونصوص مؤتمرات الحزب وتعاميمه وتحليلاته من جانب أخر. ‏وان كان المصدر الأول هو ما يمثل وجهة نظره المباشرة، فالمصدر الثاني هو من المصادر التي ‏تمثل الأساس الذي أسهم في صياغته.
‏فمنعا للخلط وتزويج مالا يمكن تزويجه مع موقف مؤسس البعث من العلاقة ‏بين العروبة والإسلام لابد من ان نلفت النظر إلى الثوابت التالية:
‏1- يمثل الدين الجانب الروحي في تكوين الإنسان: فهو تعبير صادق عن إنسانيته( )؛ والإنسان (فرد حر وجد لغاية سامية في هذه الحياة.. ‏لا يكفيه ولا يغنيه ان يأكل ويشبع)( ). ‏لكن هذا الجانب لا يعنى ان تكون أخطاء واجتهادات رجال الدين وشطحاتهم المذهبية المتعصبة هو ما يمثل موقف عفلق من الدين، لأنه يعطي للمعنى الروحي الثوري مكانة مهمة في حياة البشر. فأخطاء رجال الدين، ومعنى الدين الخاص جعلا عفلق لا يقر ردات الفعل ضد حالات الجمود التي فرضها رجال الدين على الدين، ورفض لأن يقابل العربي التشويه بردة فعل تتجه نحو الإلحاد( ).
2- كان عفلق يخوض صراعاً بين المادة والروح بأكثر منه صراعاً بين الإسلام والدعوات المادية والإلحادية. ومن جهة أخرى كان يخوض صراعاً نفسياً مريراً نتيجة ما كان يراه من تخلف تعانيه الأمة العربية في العصر الحديث. ‏وعندما تكامل اقتناعه بالتفاعل التاريخي والروحي بين العروبة والإسلام أختار الإسلام كطريق روحي حدد من خلاله منهجه المعرفي في الدين. فلم يكن اختياره الإسلام كمفاضلة بين دين سماوي ودين سماوي أخر، أو بين نظام سياسي علماني ونظام سياسي إسلامي، ولا على أساس ان هذا الخيار الديني له علاقة ‏بالنجاة في الآخرة، فمفاضلته كانت ذات علاقة وثيقة بالحركة الروحية التي أدت دوراً ثورياً ونضالياً في تكوين الأمة العربية( ).
3- اقتنع عفلق بأن الحافز الروحي الذي زرعه الإسلام في نفوس العرب شكل ثورة نقلت عرب شبه الجزيرة العربية من حال إلى حال: من حال التمزق الفكري والسياسي إلى حال الوحدة الفكرية والسياسية، السبب الذي زرع في نفوسهم حوافز قوية في سبيل التوسع وابتكار الحضارة.
‏على الرغم من التغييرات العميقة التي فجرتها الدعوة الإسلامية في حياة عرب شبه الجزيرة العربية، لم يقتنع عفلق ببناء دولة سياسية على أسس دينية إسلامية، ولم يقتنع بأن مثل تلك الدولة هي الحل المنقذ الذي يوحد أبناء الأمة العربية. ولهذا السبب أوضح بما لا لبس فيه ان على العرب ان يتمثلوا من الإسلام تجربته الثورية النضالية، ‏فإذا كان البعث قد أدخل الدين إلى الحياة القومية، إلا انه لم يجعل من مهمته مهمة دينية( ).
4- ‏اقر حزب البعث حق كل عربي بحرية الاعتقاد، وان تكون حرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفن مقدسة، ولا يمكن لأية سلطة ان تنتقصها)( ). ‏وإذا ‏كان من الصحيح ان الدولة الإسلامية تضمن حرية الاعتقاد لجميع رعاياها لكنها لا تضمن مبدأ المساواة في الحقوق السياسية بينهم. ‏اما حزب البعث فقد ضمن المساواة المطلقة أمام القانون، ‏وألزم نفسه بالسعي: (إلى وضع دستور للدولة يكفل للمواطنين العرب المساواة المطلقة أمام القانون، والتعبير بملء الحرية عن إرادتهم)( ).
‏تقتضي هذه المسألة ان نفهم موقع الإسلام في البعد الإيماني عند عفلق. وهنا نتساءل:
‏هل كانت علاقة عفلق الإيمانية مع الإسلام مقدمات أم نتائج؟ وبشكل أوضح: هل انطلق من موازن بين الأديان فأختار الإسلام ديناً له، وبالتالي ديناً لقوميته العربية؟ أي هل آمن بالدين وراح يفتش عن دين يقتنع به فينتمي إليه؟ أم أنه أحب قوميته العربية، ففتش عن أكثر الأديان التي أدت لقوميته خدمات أكثر؟ وهل كان عفلق يرى الإسلام ما يراه رجل الدين المسلم؟
نحسب أن حب عفلق للإسلام كان نتيجة ولم يكن مقدمة فلماذا أحب عفلق الإسلام؟
أحب عفلق الإنسانية ومنها أعلن حبه للقومية العربية لأنها جزء منها، وأعلن حبه للإسلام لأنه جزء من القومية العربية( ). لقد خدم الإسلام القومية العربية بأنه كان من أهم أركان تكوينها( )، لذلك أحب عفلق في الإسلام أسسه الثورية، وليس هناك من ينكر ان ثورة الإسلام، في وقتها، كانت العامل الأساس الذي أحدث متغيرات بالغة الأهمية في حياة العرب، ‏فبفضله حصل متغيران استراتيجيان في حياة عرب شبه الجزيرة العربية، ‏وهما: توحيد الرؤية المعرفية الثقافية، ‏تلك الرؤية التي أسست لوحدة سياسية واجتماعية في حياة القبائل العربية.
‏هل يمثل الإسلام، اليوم، ثورة العرب كما كان يمثلها في أثناء حياة الرسول؟
-تخاف أوربا، اليوم، الإسلام لأنه ارتبط بالقومية العربية. ‏وتصادق (الشكل ‏العتيق للإسلام) وتعاضده.
- اما (الشكل العتيق) فهو الذي يقتصر على (العادة السطحية والمعاني العامة الباهتة).
- أما المعنى الجديد، الذي على القوميين المدافعين عن الإسلام ان يعتنقوه، ‏فهو ان (يبعثوا فيه معنى خاصاً) فما هو المعنى الخاص؟
لا تكفي الإصلاحات لكي تبعث الأمة. فالإصلاحات فرع ونتيجة أما الأصل والسبب فهو (نفسي قبل كل شيء) والعامل النفسي في الإسلام كان مرتبطاً مع الإيمان (بإله واحد)، والإيمان بإله واحد (هو الأصل) و(كل ما يأمر به هذا الاله فهو حق وعدل)، أما التشريع فكان متضمناً في الأصل( )، وهنا يعلل عفلق إيمانه بالله الواحد أولاً وقبل كل شيء، إما التشريع الإسلامي فهو تابع للأصل، و هي من الفروع فالإيمان بالله ثابت، اما التشريعات فهي من المتغيرات.
‏توحي عبارته (كل ما يأمر به هذا الإله فهو حق وعادل) وكأنها اعتراف بقواعد الفقه الإسلامي فكيف ميز عفلق منهجه الفكري عن مناهج الإسلاميين؟
‏يقول عفلق إن (كل ما يأمر به هذا الإله فهو حق وعادل)، هو أصل، وهذا ما يؤمن به الإسلاميون أيضاً، ويقول عفلق في الخطاب ذاته ان الشعور القومي العميق هو أصل، أيضاً، وهنا يكون عفلق كمن يساوي بين الأمر الإلهي وبين الشعور القومي، لكن الإسلاميين يرون ان في الشعور القومي ما يناقض أممية الإسلام. فكيف نستطيع أن نوفق بين المتناقضين عند عفلق؟
‏يرى عفلق ان سبق الإيمان على التشريع هو أصل روحي أعطى للتشريع زخماً من جهة، وأعطى للمسلمين زخماً روحياً زرع فيهم روح الثورة من جهة أخرى، فجاء إيمانهم بالله أصلاً وسبباً وكان التشريع فرعاً ونتيجة. ويرى عفلق، أيضاً أن إيمانه بالشعور القومي، كأصل روحي وكسبب دافع، عليه ان يكون سابقاً للإصلاحات-التشريعات كفرع ونتيجة. وفى هذا الشعور القومي ما ‏يجب ان يعطي زخماً للإصلاحات من جهة وان يزرع روح الثورة في العرب من جهة أخرى.
‏ماذا نفهم من المقارنة بين أصلي - الإيمان بالله والإيمان بالشعور القومي، ‏التي عمل عفلق على استخدامها لكي يحدد بعده الإيماني من ورائها؟
‏لقد استند مؤسس البعث إلى البعد الإيماني الديني في إحداث ثورة في المجتمع العربي، والذي وجد النموذج المثالي في الإسلام لأكثر من سبب، ‏لكي يبرهن على دور الإيمان الأساسي في ثورة العرب القادمة. فوجد أن البعد الإيماني يجب أن يكون، في عصر العرب الراهن، متمثلاً في الشعور ‏القومي. ولذا نراه يقول ويردد في شتى مقالاته وأحاديثه وخطبه عدة من الجمل-التي أصبحت مصطلحات ‏في القاموس البعثي - كمثل (الحب أيها الشباب قبل كل شيء، الحب أولاً، والتعريف يأتي بعده). ‏ان القومية هي (حب قبل كل شيء) وهي (إيمان قبل كل شيء)...
‏ولكي يميز بين (إسلام الإسلاميين) وبين (إسلام القوميين الخاص) يدعوهم إلى ان يبعثوا في الإسلام (معنى خاصاً) فماذا يعني عفلق بالمعنى الخاص للإسلام؟
‏ومن أهم تلك المعاني الخاصة ان يكون إسلاماً قومياً باعثاً للحوافز الثورية والنضالية أمام العرب. وإذا ما حصل تناقض بين المصلحة القومية، كرابط وحيد بين العرب على شتى أديانهم، وبين مصلحة الإسلام، ‏كرابط ديني بين المسلمين، عفلق للمصلحة القومية أولوية مطلقة.
‏ولهذا السبب جاء في كثير من النصوص، سواء عند عفلق أم في نصوص الحزب، ما يدل على ان التمييز بين البعدين: الإيماني الديني، والإيماني القومي مسألة واضحة لا لبس فيها على الإطلاق.
‏فالبعد الإيماني القومي رابط أساسي بين العرب على شتى أديانهم ومعتقداتهم الروحية، أما البعد الإيماني الديني فهو انتماء خاص وشخصي يعترف به مؤسس الحزب ويحترمه من جهة، وتعترف به مقررات الحزب ونصوصه وتحترمه من جهة أخرى.
على الرغم من اعتراف مؤسس الحزب بأن للإسلام تأثير أساسي في تكوين القومية العربية فإنه يبقى فرعاً وتبقى القومية أصلاً. وإذا كان الإسلام ذا أولوية في البعد الإيماني عند مؤسس البعث، فلانه كان ثورة عربية أدت للقومية العربية خدمات جلى، أما إذا عمل الإسلاميون ما يعارض مصلحة الأمة العربية، فلن تبقى المواقف هي ذاتها. وإذا مورست أخطاء ضد القومية العربية باسم الإسلام فلا يتعادل الموقف من أولئك مع الموقف ممن يقدمون الخدمات للقومية العربية من أديان أخرى غير الإسلام. فمصلحة الأمة العربية هي الثابت، وكل ما عداها من المتغيرات.

رابعاً: المقاربة بين منهج عفلق الإيماني وقضايا الأمة العربية الراهنة.
‏في دولة البعث، في بغداد، ‏مكان اختبار أنموذجي لمنهج مؤسس البعث ‏المعرفي والفكري ببعده الإيماني. يقوم العراق، في هذا الظرف بالذات، بقيادته التاريخية وشعبه العربي بتطبيق البعد الإيماني بقوميتهم، من دون أية تفرقة دينية أو مذهبية؛ ففيه يمارس العراقيون إيمانهم الديني بحرية ومن دون تعصب، حتى ولو تعددت الأبعاد الإيمانية الدينية، ولكنهم في المقابل يتوحدون تحت خيمة البعد الإيماني بقوميتهم وبعروبتهم، ‏ويخوضون معارك النضال تحت خيمة قومية واحدة. ‏ففي معارك النضال القطري يتخذ العراق معاني الإيمان القومي نبراساً وهادياً، ومملوءاً بالحب والحرارة بحيث لا تقاس معارك التصدي للعدوان الخارجي بمنطق الربح والخسارة، ‏ومنطق التوازن بالقوى، لان البعد الإيماني ‏لديهم له دور مؤثر في تصديهم لكل أنواع المؤامرات.
‏وبحرارة الحب لقوميتهم يخوضون معارك النضال في كل قطر عربي، سواء بالشعور أم المساندة أم المشاركة، وهذا ما يفسر مبادرات العراق بقيادة الرئيس القائد صدام حسين.
‏وفي الدائرة القومية تخاض على ساحات قطرية أخرى معارك النضال المملوءة ‏بالإيمان بقضاياهم القطرية، ‏ومن الأمثلة الراهنة نذكر ما حصل في لبنان، ‏وما يحصل اليوم في فلسطين.
‏وإذا كنا نعتز بنتائج النضالات التي يفرضها اللبنانيون والفلسطينيون ضد ‏العدو الصهيوني وأربابه الأميركيين، هو مثال واضح على حرارة الإيمان بالقضايا القطرية، وما تلاقيه تلك القضايا من تأييد شعبي قومي عارم هو دليل على ان الإيمان بقضايا العرب مسألة أساسية في الصراع مع أي عدوان خارجي يستهدف تلك القضايا.
‏أو ليست حرارة إيمان الشعب الفلسطيني بقضيته هي التي ألغت كل حسابات التوازن بالقوى، وهو السبب الذي جعل الفلسطيني يقاوم الدبابة والطائرة بالحجر؟ أو ليس إرباك العدو باستخدام الحجر إلا دليل إيمان وحب للقضية الفلسطينية؟ أو ليست مراهنة الشعب العربي على الحجر الفلسطيني تستند إلى حب لقوميتهم وإيمان بها؟
لكن ما يخشى منه، في هذه المرحلة بالذات، هو أن يقود الإيمان ببعده الديني أو المذهبي إلى ضياع البوصلة التي توحد الرؤى. وما نراه من رايات عديدة تتقدم صفوف الجماعات المناضلة إلا دليل خطر على وحدة الصفوف. فمن خلال فهمنا الموضوعي للبعد الإيماني في فكر مؤسس البعث نرى انه من الواجب ان تنصهر مجموعة الأبعاد الإيمانية الدينية والمذهبية في البعد الإيماني القومي، ‏الذي هو الوحيد الذي يؤسس وحدة مناضلة بين شتى التعديات الدينية والمذهبية.
لقد تجاوز العراق، بوعي قيادته وشعبه، تعددية الرايات الإيمانية بمفاهيمها الدينية والمذهبية فرفع راية الإيمان بالقومية والوطنية. بحيث تتحد كل السواعد بغض النظر عن انتماءاتها الإيمانية الدينية في وحدة مقاتلة مناضلة تفوت على كل الأعداء فرصة التلاعب بعواطف المتمذهبين.
‏وهنا لابد من ان نسجل خشيتنا من ان يتحول الإيمان بإبعاده الدينية أو المذهبية، خاصة إذا تحولت إلى مواقع التعصب والانغلاق، إلى حالة من التفسخ والتفتيت إذا لم تكن هناك إرادات وقيادات واعية تمنع أرباب التجمعات الدينية أو المذهبية من الانحدار ‏باتجاه تغليب الأهداف الدينية أو المذهبية على الأهداف القومية أو الوطنية.
‏إن دعوة عفلق إلى وحدة الجماعات على الصعيد الفكري أو وحدة الأقطار على الصعيد السياسي على قاعدة البعد الإيماني لا يخرج على الإطلاق عن البعد الإيماني القومي. اما كل ما له علاقة بالبعد الإيماني الديني أو المذهبي فهو ذو علاقة بالاختيار الشخصي، أي بحرية الاعتقاد الروحي الغيبي القائم على علاقة روحية بعيدة عن روح التعصب التي تنكر على الآخرين حريتهم بالاعتقاد على قاعدة أهل الكفر وأهل الإيمان. وهذا الجانب موضوع أخر، وفى سياق أخر.

خامساً: خاتمة البحث
‏هناك من الإساءة إلى تفسير بعض أقوال عفلق الشيء الكثير إذا ما حاول الباحث ان يقتطع بعض أقواله عن مجمل منهجه الفكري. ونقصد تلك الأقوال التي تحمل شحنات عاطفية ووجدانية كمثل (العروبة جسد، وروحها الإسلام) و(القومية حب قبل كل شيء) فهي إذا ما فصلت عن سياقها الفكري العام فإنما ترتبط فقط، مع منهج عفلق المعرفي أي طريقته في إنتاج المعرفة وإيصالها وهنا لا بد من أن نحمل تلك العبارات إذا ما اقتطعت من سياقها الفكري مسؤولية تضليل كل من يريد أن يدخلها في باب التأويل.
قد يكون اللبس الذي ترسخ في أذهان من أراد أن يتعرف على أصول البعد الإيماني في فكر مؤسس البعث عن طيب نية أو سوئها صادر عن الابتعاد عن معرفة الأصول الفكرية التي استند إليها وعدها من الثوابت التي لم يلغها تأويل من هنا أو تفسير من هناك. وقد يعود سبب هذا اللبس إلى مسألة أخرى ترتبط بالخلط بين منهج مؤسس البعث المعرفي أي طريقة إلى إنتاج المعرفة وتوصيلها وبين منهجه الفكري بثوابته الإنسانية والقومية العربية، فراح بعضهم يربط علاقة العروبة مع الإسلام ربطاً تعسفياً إلى الدرجة التي لم تظهر عند أولئك مسألة التمايز بين (الإسلام) كمحتوى روحي متغير و(العروبة) كمحتوى اجتماعي سياسي ثابت.


المركزية الديموقراطية: نظام للحزب أم نظام للمجتمع؟

I: الأبعاد الفلسفيـة والسياسيـة للحريـــــــة.
ا- البُعد الفلسفي للحرية.
2- البُعد السياسي للحرية (الديمقراطية): أ- الديمقراطية. ب- المركزية.
II: مفهوم الحزب ووظائفــــــــــه.
ا- الحزب مجتمع مصغَّر.
2- الحرية لها بُعد اجتماعي- تنظيمي.
3- الدور الوظيفي للعضو الحزبي يزاوج بين المركزية والديمقراطية.
4- التشريعات التنظيمية تخفف الطغيان المتبادل بين المركزية والديمقراطية.
III: إشكاليات مصدرها التشريعات التنظيميــــــــة.
ا- إشكاليات مصدرها المركزية:
أ- العوامل الموضوعية.
ب- العوامل الذاتية.
ج- ما هي هذه الإشكاليات؟
د- آراء في معالجة هذه الإشكاليات:
(- تجميد النظام الداخلي.
- تأجيل انعقاد المؤتمرات.
- نتائج وآراء.)
2- إشكاليات مصدرها الديمقراطية:
أ- العوامل الموضوعية.
ب- العوامل الذاتيه (- الوضوح النظري. - الممارسة السليمة. - دينامية التفاعل بينهما.).
ج- آراء في معالجة هذه الإشكاليات: (- الانتخابات الحزبية. - النقد والنقد الذاتي. - محاسبة القيادات في المؤتمرات. - خضوع الأقلية لقرار الأكثرية).
3- خاتمة.
***
المركزية الديمقواطية: نظام للحزب أم نظام للمجتمع؟

I: الأبعاد الفلسفية والسياسية للحريـــــــــة.
موضوع الحرية هاجس دائم، يبحث عنه الإنسان، أياً كان عمره، وأياً كان مستواه وموقعه. هذا الموضوع لا يكتسب معناه، ولا يرتسم مشكلة في ذهن الفرد وتساؤلاته سوى في الوقت الذي يلتقى فيه، هذا الفرد، مع الآخرين، وفي الوقت الذي تظهر فيه قضية ما في دائرة التعارض أو التناقض بين حدين: الأنا والآخر.
الفرد المنعزل، عن غيره من الأفراد، في أفكاره وطموحاته وحاجاته، لا يشعر أنه بحاجة إلى أن يطرح السؤال: إلى أي حد يُسمح لي بأن افكر كما يحلو لي، وأن امارس، دون عوائق أو حواجز، ما أعتقد أنه صحيحاً.
الفرد/ الإنسان، يتعلم ويكتسب خبرات وعادات وثقافة المجتمع الذي يعيش فيه ومعه، ويتلقاها بطريقة تفاعلية بينه وبين الآخرين. فالمجتمع يشبع الفرد بثقافته وعاداته الاجتماعية، كما أنه يعلمه الخبرات والمهارات. هذا الاكتساب الذي يناله الفرد من مجتمعه، أو الثقافة التي يتلقاها منه تحمل، في حد ذاتها، قيوداً وحواجز وممنوعات. عندما يصل الفرد/ الإنسان اًلى مرحلة من النضج الاجتماعي والثقافي -والنضج هو مسألة نسبية لا تنفصل عن مستوى الثقافة الخاصة بالمجتمع الذي يعيش فيه- يقوم بدور فاعل، مستنداً إلى كفاءاته الذاتية، حينئذ قد يمتلك المقدرة على تطوير هذه الثقافة. وفيما يضخه الفرد من ابتكاراته الفكرية والثقافية إنما يصبح ملكاً لهذا المجتمع، إذا حاز قناعة لديه.
فالفرد مكبل بالثقافة السائدة في مجتمعه، لأنها في غالب الاحيان تكون ملزمة له، هذا الأمر يضع قيوداً على حريته الشخصية إذا لم تشكل لديه القناعة الكافية بها. لكن هذه القيود قد تولِّد عند الفرد/ الإنسان حافزاً له لكي يضخ في مجتمعه أفكاراً جديدة تعبرِّ عن حريته الشخصية وتفسح له المجال للإسهام في بناء ثقافة هذا المجتمع. لكن قد لا تلقى هذه الإضافات الفكرية قبولاً لدى أفراد المجتمع الآخرين، لكنه إلى الحين الذي يقتنع بها المجتمع ويهضمها ساعتئذ تصبح إضافات جديدة في ثقافة المجتمع العامة.
تحمل الثقافة العامة لأي مجتمع من المجتمعاًت قيوداً للأفراد، وكلما ازدادت الوظائف الاجتماعية أو السياسية أو التقنية لمجتمع ما تزداد هذه القيود لأن هذه الوظائف تحتاج إلى مزيدٍ من الأدوار والتقسيمات والتنظيمات.
لأن الفرد/ الإنسان اًجتماعي بمتطلباته وحاجاته ورغباته، ولأن المجتمع هو الوسط الضروري لكي يمارس الإنسان فيه اًنسانيته، ينبع السؤال - الهاجس: أين نحدد موقع الحرية في دائرة الفرد، وأين نحدد موقعها في دائرة المجتمع؟
عندما يبقى الفرد فرداً، أي عندما لا يعيش في داخل مجتمع ما، تكتسب الحرية بُعداً فلسفياً خالصاً ومفهوماً مجرداً لأن الفرد يمارس نشاطاته دون ضغط أو إكراه، ولأن غيابهما مرتبط بغياب الإنسان اًلآخر، وكأن قيود الأنا مرتبط بوجود الغير.
فهل نستطيع القول، إذاً، وفي سبيل الحصول على الحرية الكلية المجردة، إن الغاء الآخر شرط ضروري لممارسة الحرية، بينما هذا الإلغاء، بحد ذاته، هو عملٌ ضد الحرية. فوجود الآخر هو واقع حتمي وضرورة ماسة:
فأما الوجود هو واقع حتمي، فلأن الإنسان يولد من إنسان آخر.
وأما هو ضرورة ماسة، فلأن الإنسان اًلمولود هو بحاجة إلى مساعدة الوالد.
لذلك فالفرد، كجزء من مجتمع، له رغباته وحاجاته وأفكاره وهذه حقوق شخصية، ولكل فرد آخر له مثل هذه الحقوق. لكن الرغبات والحاجات والأفكار عند الأنا والآخر ليست متجانسة، ولأن الإنسان لا يمكنه تحقيق كل رغباته وحاجاته بنفسه فهو بحاجة إلى الآخرين، فإنه يعمل للاندماج مع الآخرين لتأمين هذه الحاجة باختيار حر، فالحاجة الاجتماعية للإنسان هي حاجة أساسية: الأنا والغير هما ركيزتها، فكيف يتم التوافق والتوفيق بين حرية الأنا وحرية الغير؟
لهذا السبب وُضعت معايير ومقاييس، أو ما نستطيع تسميته حدوداً وحواجز بين حقوق الأفراد لكي يمنع عليها التصادم، وهذا ما نُطلق عليه مفهوم الحقوق العامة، هذه الحقوق لا يمكن أن تستقيم إلا بوجود طرف المعادلة التسووي وهو مفهوم الواجبات.
فالتصادم بين حقوق الأفراد تم ضبطه بوضع مجموعة من القيم القانونية والسياسية والأخلاقية لتقوم بوظائفها في تنظيم حركة التبادل العلائقي بين الأفراد، وأصبحت معادلة التسوية قائمة على نظرية الحقوق والواجبات العامة.
لكن الحقوق الفردية قد تتجاوز الدائرة المرسومة لها، أو لأن الدائرة ليست مرسومة بدقه، فتطغى حينئذ على الحريات العامة، أو قد يحصل العكس، عندئذ تُطرح الإشكالية الأساسية التالية : كيف نؤمِّن التوازن بين الحقوق والواجبات لكي نمنع طغيان حد على الحد الآخر؟
إن مناقشة هذه الإشكالية تتطلب، باعتقادنا، معالجة مسألتين هما: البُعدان الفلسفي والسياسي للحرية.
1- البعد الفلسفي للحريـة
جاء في القاموس الفلسفي، [للدكتور جميل صليبا - صادر عن دار الكتاب اللبناني]، عن الحرية ما يلي: »للحرية معانٍ ثلاث:
- الأول: المعنى العام: الحرية خاصة الموجود، الخالص من القيود، العامل بارادته أو طبيعته.
- الثاني: المعنى السياسي والاجتماعي: وهو قسمان:
أ- الحرية النسبية: فهي الخلوص من القسر والإكراه الاجتماعي، والحر هو الذي يأتمر بما أمر به القانون، ويمتنع عما نهى عنه.
ب- الحرية المطلقة: فهي حق الفرد في الاستقلال عن الجماعة التي انخرط في سلكها. وليس المقصود حصول الاستقلال بالفعل، بل المقصود منها الاقرار بالاستقلال واستحسانه، وتقديره، واعتباره قيمة خلقية مطلقة.
- الثالث: المعنى النفسي والخلقي: فالحرية هي الحد الأقصى لاستقلال الإرادة، العالمة بذاتها، المدركة لغايتها، وإذا كانت الحرية مضادة للهوى والغريزة، دلت على حالة إنسان يحقق بفعله ذاته من جهة ما هي عأقلة وفاضلة. لذلك قال (ليبنيز): إن الله وحده هو الحر الكامل«.
يعتقد المثاليون، كما جاء في الموسوعة الفلسفية (روزنتال + بودين الصادرة عن دار الطليعة في بيروت) إن الحرية والضرورة مفهومان يستبعد كل منهما الآخر بالتبادل، ويعتبرون أن الحرية هي تقرير الروح لمصيرها، وحرية الإرادة وإمكانية التصرف وفق إرادة لا تحددها الظروف الخارجية.
لكن، كما جاء في الموسوعة ذاتها، إن التفسير العلمي للحرية والضرورة يقوم على أساس تفاعلهما وتداخلهما الجدلي، وقد قدم هيغل تصوراً دقيقاً للوحدة الجدلية بينهما إنطلاقاً من مواقف مثالية. يعتقد هيغل أن الضرورة الموضوعية هي أولية بالمعنى المعرفي وأن ارادة الإنسان ووعيه ثانويان مشتقان من الضرورة.
فالضرورة، كما جاء عند هيغل، توجد في الطبيعة والمجتمع على شكل قوانين موضوعية. فالقوانين غير المدركة تكون » عمياء «. ففي بداية تاريخ الإنسان، وكان غير قادر على استكناه أسرار الطبيعة، ظل عبداً للضرورة غير المدرَكَة وكانه غير حر. وكلما ازداد الإنسان عمقاً في إدراك القوانين الموضوعية سواء كانت طبيعية أم اجتماعية أم سياسية كلما ازداد نشاطه حرية ووعياً.
جاء تعريف الحرية في الموسوعة السياسية (التي أسسها د. عبد الوهاب الكيالي والصادرة عن مؤسسة الدراسات العربية- بيروت) كما حدده الفكر الليبرالي الفردي الأوروبي، كما يلي:
الحرية هي أساساً غياب الإكراه والقيود التي يفرضها طرف آخر، فالإنسان حر عندما يكون قادراً على اختيار هدفه وطريقه، وأن يكون في وضع يستطيع معه الاختيار بين احتمالين، وأن لا يكون مرغماً على اختيار ما لا يريد أن يختاره، سواء من خلال خضوعه لإرادة شخص أو دولة أو أية سلطة أخرى، وهذا ما يسمى بالحرية السلبية.
فوجود الحرية مرتبط بثلاثة امور أساسية:
الأول: غياب الإكراه والقيود البشرية.
والثاني: غياب العوامل الطبيعية التي تحول دون تحقيق القرار الحر.
والثالث: امتلاك وسائل القوة الكفيلة بتحقيق الأهداف المختارة إرادياً.
لكن، لكي تكتسب الحرية الفردية مفهومها الصحيح، حرية اختيار الهدف والطريق، أن يكون الاختيار واعياً، فكيف يتحقق الاختيار الواعي؟
يشكل التعليم والثقافة، بتوسيعهما لقدرة الإنسان على الاختيار والقرار، شرطاً أولياً مهماً من شروط ممارسة الحرية، فالمعرفة تطور قدرة الإنسان على الافعال الحرة والتصرف الحر.
فالحرية في بعدها الفلسفي، استناداً إلى ما عددناه من تعريفات، هي حرية مطلقة تتنافر مع مبدأ الضرورة الطبيعية والاجتماعية.
أما الحرية في بعدها الاجتماعي، فهي حرية نسبية، من شروطها الخلاص من القسر والإكراه، لكن، على أن لا تتنافى مع الأعراف والقوانين الاجتماعية السائدة المشروطة بالوعي والمعرفة من قبل الفرد.
أية ثقافة هي المطلوبة للأعراف والقوانين؟ هل هي ثقافة المجتمع السائدة؟ أم هي ثقافة النخبة من الناس؟ وكيف يكون الأمر فيما لو تناقضت مفاهيم المعرفة عند الأفراد، مع الثقافة السائدة؟
ينزع الفرد بالغريزة إلى حرية الفعل، تظهر عند الإنسان منذ ولادته في تصرفاته وحاجاته، كحرية اللعب واختيار الطعام، حريته في ملكيته العامة وأغراضه الخاصة، وتظهر لديه ميول في الاستيلاء على ممتلكات غيره، ومقاومة الميول ذاتها عند أنداده من الأطفال.
حينئذ يبدأ الفرد بالإدراك، أن هناك العديد من الحواجز التي يضعها الآخرون في وجهه، وهي التي تحد من حرية تصرفاته وتمنعه من ممارسة الكثير من الرغبات التي يظن أنها قيوداً أمامه.
فالطفل يشعر حتى في علاقاته مع أمه بمثل هذه الحواجز والروادع، وكلما اتسعت علاقاته مع الآخرين تزداد القيود، وهذه بدورها تراكم العامل الثقافي عنده الذي هو عبارة عن مجموعة من العادات التي يحدد له فيها المجتمع، الصغير أو الكبير، حقوقه ويرسم له واجباته.
كلما كان المجتمع متقدماً، يؤمن للفرد طرائق متقدمة لاكتساب ثقافة مجتمعه، وكلما تقدمت وسائل التعليم وطرائقه تسهم في تطوير ثقافة الفرد وتعمقها، ساعتئذٍ تتراكم العوامل الثقافية التي تؤهل الفرد إلى الوصول للمستوى الذي يصبح فيه قادراً على الاختيار الواعي، أي الاختيار الحر الذي يشبع قناعته الذاتية على أن لا يتخطى دائرة حقوق الآخرين.
يتميز كل مجتمع بثقافته الخاصة، ولأن ليس كل أفراد المجتمع يقتنعون بهذه الثقافة يظهر في داخل كل مجتمع عدد من الرافضين لها، كلياً أو جزئياً. هذا الرفض قد يؤدي إلى إنتاج فكري جديد، فإذا أخذ طريقة في اقناع آخرين بصحته، يشكلون حينئذ تجمعاً ثقافياً متميزاً في داخل مجتمعهم يروِّجون فيه لفكرهم الجديد. فإذا كان الفكر الجديد بمستوى من العمق يجيب فيه على حل مشكلات كثيرة، فإنه يشق طريقاً لكي يأخذ موقعاً في التراث الثقافي للمجتمع بما يُسهم في تطويره أو تغييره.
تصبح الثقافة الجديدة، أكثر جدية، عندما تتحول إلى مشروع سياسي قابل للتنفيذ. وهنا تتحول هذه الثقافة إلى دائرة الالتزام في داخل التجمع البشري الذي يعمل على تحقيقها.
فالثقافة الملتزمة، من هنا، تحمل عنصرين أساسيين لهما علاقة بالبعد الفلسفي للحرية، وهما : حرية اختيار الهدف، وحرية اختيار الوسيلة لتحقيقه.
لكن الثقافة الملتزمة تثير إشكالية حول مفهوم الحرية في بعدها الفلسفي وهي التالية: كيف يستطيع الفرد/ الإنسان اًلملتزم ان يوفق بين مفهوم الحرية الفردية، وبين القيود التي يفرضها التجمع الذي انتسب إليه؟
الحرية الشخصية/ الفردية في اختيار الهدف تحقق ذاتها، لأن الاختيار ما زال في دائرة الفكر، وقد تم دون ضغط أو إكراه. لكن المشكلة تنبع عندما ينتقل الفرد إلى المرحلة الثانية وهي اختيار الوسيلة أو الطريق الذي على أساسه سوف يعمل لترجمة خياره الفكري إلى واقع عملي، فهل يتم هذا الاختيار فردياً أم جماعياً؟
بداية، لا يمكن للفرد أن يحوِّل أفكاره إلى واقع عملي دون الاستعانة بالآخر، لذلك أين يكون موقع حرية الاختيار الفردي إذا اصطدمت بحرية الاختيار عند الآخرين، وكيف يكون الحل إذا انقسم أفراد الجماعة الواحدة حول تحديد وسائل التنفيذ إلى أكثر من فريق؟
الثقافة التي تجمع أفراداً كثيرين، تتحول إلى ثقافة ملتزمة لأنها تحمل إمكانية التطبيق. وللتنفيذ شروط، ومنها: ضرورة امتلاك وسائل القوة الكفيلة بتحقيق الأهداف المختارة جماعياً. فوسائل القوة لها شروط العمل الجماعي، فإذا لم يقتنع فريق أو فرد من الجماعة بوسائل التنفيذ التي أختارها فريق آخر من داخل الجماعة الواحدة، فسوف تتواجه هذه الجماعة بعدد من الاحتمالات منها:
-إما أن ينخرط الفرد أو الفريق في التنفيذ حسب الوسائل التي اختارها الفريق الآخر، وهنا تفتقد حرية الاختيار الإرادي عند هذا الفرد/ الفريق، وهذا ما يتعارض مع البعد الفلسفي للحرية.
-وإما أن يبتعد الفرد/ الفريق عن التجمع لأنه غير مقتنع بالطريق الذي حدده الفريق الآخر ولأن هذا الطريق لا يعبر عن الاختيار الإرادي. وهو إذا ابتعد يكون قد أنقذ حقه في الاختيار الحر.
هذان الاحتمالان، كلاهما، يخلقان الإشكالية التالية: إذا كإذالنهج الثقافي الجديد/ الهدف، قد حاز على القناعة الإرادية الحرة لدى الفرد، فعلى الفرد أن يعمل لتحقيق هذا المنهج. وإذا تخلى عنه فهو قد تخلى عن قناعته الفكرية الحرة.
فلكي لا يختل التوازن بين الحرية الفردية (في اختيار الهدف الفكري) وبين الحرية الفردية ( في اختيار وسيلة تطبيقه)، جاءت نظرية الديمقراطية لكي تجيب على هذه الإشكالية.

2- البعد السياسي – الاجتماعي للحريـــة (الديمقراطية).
جاء في القاموس الفلسفي حول الديمقراطية ما يلي: معنى الديمقراطية سيادة الشعب، وهي نظام سياسي تكون فيه السيادة لجميع المواطنين لا لفرد أو لطبقة واحدة منهم. ولهذا النظام ثلاثة اركان:
الأول: سيادة الشعب.
والثاني: المساواة والعدل.
والثالث: الحرية الفردية والكرامة الإنسانية.
هذه الاركان الثلاثة متكاملة، فلا مساواة بلا حرية، ولا حرية بلا مساواة، ولا سيادة للشعب الا إذا كان افراده أحراراً.
إن كل نظام سياسي يعتبر إرادة الشعب مصدراً لسلطة الحكام هو نظام ديمقراطي، إلا أن إرادة الشعب في الواقع هي إرادة الأغلبية فيه.
فالديمقراطية، إذاً، كما جاء في الموسوعة السياسية، هي نظام سياسي- اجتماعي يقيم العلاقة بين أفراد المجتمع والدولة وفق مبدأي: المساواة بين المواطنين، ومشاركتهم الحرة في وضع التشريعات التي تنظم الحياة العامة.
فإذا كانت الحرية في بعدها الفلسفي هي الإرادة الحرة على بناء مجموعة من الأفكار أو اختيارها اختياراً حراً. وشعور الفرد، بعد اعتناقه لها أو الإسهام في انتاجها، أنه غير مقيد أو مُكرَه باختيارها أو الاعتقاد بها. وإذا كانت هذه العملية الفكرية مرتبطة بتوليد إحساس ذاتي بالسعادة والسرور، فإنما الديمقراطية تبحث عن تجسد هذا الاحساس في صورة العلاقة بين الأنا والآخر، العلاقة التي لن تولد إحساساً بالسعادة إلا إذا حافظت على التوازن، الأقرب للدقة، في تأمين السعادة الذاتية وسعادة الغير.
فالديمقراطية تفتش عن الوضع الأفضل الذي يتحقق فيه البعد الفلسفي للحرية بنتائجها الفكرية والنفسية على الأنا وعلى الآخر. فهي، بهذا المعنى، تفتش عن أفضل إطار سياسي واجتماعي ممكن يستطيع أن ينظم العلاقة بين الأنا والآخر بشكل يطلق إرادة الحرية لدى الفرد ويمنع طغيان إرادة على أخرى.
أ- ا لد يموقرا طيـــــــــة:
مفهوم الديمقراطية يرتبط، إذاً، مع عوامل فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية. وهذه العوامل يفترض وجودها في بناء العلاقات بين الإنسان والآخر.
الفرد هو كيان مستقل بذاته، إنما عدة أفراد يشكلون مجتمعاً تتمايز طبائع أفراده ورغباتهم وحاجاتهم، الفكرية والسياسية والاقتصادية، وكل منهم يشعر أنه يجب أن يعبر عن حريته وأن يمارسها. وحتى لا تتصادم طرائق التعبير والممارسة للحرية الفردية، جاء المفهوم الديمقراطي ليقوم بدور التوفيق بين الحريات الفردية التي بمجرد اصطفافها في اطار مجتمعي، تكتسب صفتها الاجتماعية، ثم صفتها الاقتصادية والسياسية... الخ... ويأتي الدور التوفيقي بين الحريات الفردية الذي يلعبه المفهوم الديمقراطي كتسوية بين حرية الفرد وحرية الآخر ليقدم كل منهما تنازلات للآخر. وكلما كانت التشريعات قادرة على تأمين التوازن والدقة في التنازلات كلما أصبحت المعادلة قابلة للاستمرار. وكلما اختل التوازن يتخلخل البناء الديمقراطي ويصاب بالاهتزاز.
فالمفهوم الديمقراطي في إطاره النظري، هو إقامة تسوية ما بين الأفراد. أما في حالة تطبيقه فتظهر صعوبة في تأمين التسوية العادلة ما بين الحقوق والواجبات الفردية، وهنا تظهر الحاجة المبدأية في أن لا تكون التشريعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ثابتة، وإنما يجب أن تحمل إمكانية الحركة في تطويرها كلما برز الاختلال في التوازن بين الحريات الفردية.
من هذا المنظار، وكي لا تصبح مسألة إعادة التوازن، الهدف المراد تحقيقه من تطوير التشريعات، ميكانيكية مادية تدفع الفرد كي يتسلط للحصول على مكاسب على حساب الآخرين، يأتي المفهوم الأخلاقي رادعاً معنوياً، لكي يلعب دوراً ذاتياً كابحاً ضد الانزلاق في دائرة التسلط الفردي.

ب- ا لمركزيـــــــــــــة:
فالتشريعات كما الرادع الأخلاقي لا يمثلاًن سوى سلطة معنوية ليس لها قوة إقامة الحدود ومنع الحريات الفردية من الطغيان على الحريات العامة. لذلك كان لا بد من سلطات مركزية يتم اختيارها اختياراً حراً من قبل الأفراد، كتعبير عن الحرية الفردية، لكي تمارس قوة الرقابة على تنفيذ التشريعات الديمقراطية.
وقد تتحول مركزية السلطة إلى أداة للتسلط؛ في مثل هذه الحالة، يأتي بناء المؤسسات الديمقراطية، ووسائل ممارسة الحريات السياسة، الحل الممكن للحد من أية محاولة للمركزية بالانحدار تجاه التسلط.
II: مفهوم الحزب ووظائفـه
ا- الحزب مجتمع مصغر:
يتميز الإنسان بالمقدرة على التفكير، وله الحرية في اختيار النظرياًت الفكرية والسياسية.
أما النظرياًت الفكرية والسياسية، فهي إسهامات من الأفراد في إغناء الفكر البشري، ولا تكتسب أهميتها إلا بمقدار استجابتها لحاجات الإنسان، ولا يمكن لها أن تؤمن هذه الحاجات سوى بالعمل على تطبيقها، والتطبيق لا يأخذ طريقه الجدي إلا إذا تضافرت جهود المؤمنين بهذه النظرياًت لترجمتها إلى أهداف واختيار الطريق المناسب لتنفيذها.
إذا خرجت الأفكار من دائرة الفرد إلى دائرة الجماعة تصبح ملكاً عاماً لها؛ وهنا يدخل العقل الفردي، باختياراته الفكرية الحرة دون خضوع أو إكراه، دائرة الجماعة، فيتفاعل معها، ويأخذ منها، ويرفد أهدافها الفكرية بطاقاته الفردية.
2- الحريـــــــة لها بعد اجتماعي
هنا قد يطرح السؤال التالي: إذا دخل عقل الفرد داثرة العقل الجماعي، هل يحصل انتقاص في حريته الفردية؟
حاجة الإنسان اًلأساسية أن يعيش في داخل مجتمع، لكنه لو عاش منعزلاً عن هذا المجتمع لانتقصت إنسانيته، ولا معنى لأن نقول عنه إنه حر أو مقيد. لكن الإنسان حتى لو لم يخضع إلى عوامل الضغط والإكراه البشري، فإنه سوف يخضع لعوامل الضغط والإكراه من جانب الطبيعة سواء كانت مادية أو حيوانية، فهو في مثل هذه الحالة لن يستطيع أن يمارس الاختيار الحر في طرائق مأكله ومنامه لأنه لن يستطيع أن يجبر نظام الطبيعة لأن يسير كما يشتهي هو كفرد.
فالحرية المطلقة هي شأن من شؤون الخالق، وليست من شأن المخلوق، لأن امكانيات المخلوق قاصرة عن تنفيذ كل الأهداف الفكرية التي يؤمن بها. فالحرية الفردية، إذاً، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً مع امتلاك وسائل القوة الكفيلة بتحقيق الأهداف المختارة إرادياً. وحيث إن وسائل القوة الفردية عاجزة عن ذلك، أصبح على الفرد أن يكون عضواً في داخل مجتمع، لأن المجتمع هو الذي يستطيع، بتضافر جهود أعضائه، امتلاك وسائل القوة النسبية التي تحقق الأهداف التي يختارها أعضاؤه مجتمعين أو الأكثرية منهم.
لا ينتقص من قيمة حرية الفرد انتماؤه المشروط إلى مجتمع ما، لأن الحرية الفردية ليست مطلقة، وإنما هي حرية اجتماعية لا فلسفية، فوجودها أو عدم وجودها خارج المجتمع لا قيمة له . فمن هنا كان الإنسان مخلوقاً اجتماعياً يكتسب قيمته من داخل مجتمعه. وتكتسب الحرية، إذاً، معناها الاجتماعي المقيِّد وتبتعد بالمقدار ذاته عن معناها الفلسفي المطلق.
وحيث إن الحرية تكتسب مفهومها من خلال المجتمع، كانت الحرية الفردية وممارستها مفهوم نسبي، تحقق الغاية من وجودها بالقدر الذي يضيِّق هذا المفهوم شقة التناقض أو التعارض بين أفراد المجتمع في خياراتهم الفكرية أو السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية.
فالحرية لا تكتسب مفهومها من خارج المجتمع، والمجتمع لا يكتسب مفهومه الإنساني من خارج دائرة الحرية، فكيف نوفق بين المستوى الذي يرفض وجود الحرية بالمطلق، أي بمفهومها المأورائي النفسي، وبين تجسيدها في حقوق وواجبات محددة؟
إن بحثنا عن هذه المسألة لا يتناول جانبها المتعلق في خاصيات العلاقة بين الفرد والمجتمع الواسع، وإنما على الرغم من ارتباط المسألتين، تتناول العلاقه بين الفرد والحزب السياسي الذي ينتمي إليه.
فالحزب هو تجمع من الأفراد اختاروا أهدافاً فكرية ذات مضامين سياسية واقتصادية واجتماعية، ارتضوا فيما بينهم العمل معاً لتحقيق هذه الأهداف. فتجمُّعهم أصبح يشكِّل، ما اصطلح على تسميته، حزباً. فوظيفة الحزب هو ترجمة الأهداف الفكرية إلى واقع عملي. على الرغم من أن الحزب ليس مجتمعاً واسعاً وإنما هو تجمع لنخب من هذا المجتمع، فهو صورة مصغرة عن المجتمع الذي يطمح لبنائه. فتعريف الحزب، إذاً، هو أنه يمثل أهدافاً فكرية في السياسة والاقتصاد والمجتمع، أولاً، وإنه يشكل قوة لتنفيذ هذه الأهداف ثانياً.
حيث إن الحزب قد تُفرض عليه وسائل السرية في العمل، خاصة عندما يطرح أهدافاً تتناقض مع أهداف السلطات السياسية القائمة، فيلجأ عندئذ إلى بناء نفسه من الداخل بشكل يؤمن له تفويت الفرص على أجهزة السلطات من اكتشاف هيكله التنظيمي البشري وخطط عمله وأساليب حركته.
يصبح، في داخل الحزب، لكل فرد وظيفة، فبانخراطه الحر في الحزب، وفي قيامه بوظيفته يكمل قيام الآخرين بوظائفهم، وأي اختلال في ممارسة وظيفة الفرد ينتج عنه اختلال في وظائف الآخرين. ومن هنا يصبح دور الفرد في داخل الحزب ذو قيمة معنوية وتكتسب وظيفته قيمة مادية، ويصبح التفاعل بين الوظائف كلها عنصراً أساسياً في المحافظة على هيكلية البناء الحزبي الداخلي من جهة وفي تطوير وسائل العمل وارتقائها نحو الأفضل من جهة ثانية.

3- الدور الوظيفي للعضو الحزبي يزاوج بين المركزية والديمقراطية:
داخل هذه الدائرة المجتمعية/ النخبوية التي اصطلح على تسميتها حزباً، والتي حازت على شرط الثقافة والوعي بالأهداف الفكرية ووسائل تنفيذها، كيف يمكن التوليف بين الديمقراطية والمركزية؟
لتنظيم العلاقات بين الأعضاء المنتسبين إليها اتخذت الاحزاب العقائدية التي تتبع النظرية التنظيمية الهرمية التسلسلية، جملة من الاجراءات للتوليف بين الديمقراطية والمركزية. وحزب البعث العربي الاشتراكي كحزب يعتنق هذه النظرية اتخذ لنفسه إطاراً نظرياً ينظم العلاقات الداخلية على قاعدة المركزية الديمقراطية، فإلى ماذا تستند عوامل التوليف بين هذين الحدين في مفهوم الحزب؟
بالنظر إلى كل من هذين الحدين على انفراد، نرى أن التعارض بينهما هو القاعدة النظرية للعلاقة بينهما.
فالديمقراطية إذا لم تستند إلى مفهوم العلاقة بين الأنا والآخر، تقترب إلى حدود المفهوم الفلسفي للحرية والذي لا يرتضى أن يكون خاضعاً لأي إكراه أو قيود أو أية معيقات تحول دون تحقيق الأهداف سواء كان مصدرها إنسانياً أو مادياً.
ولأن الديموقراطية جاءت ذات مضمون سياسي مجتمعي حملت داخل ذاتها قيوداً. كذلك، حملت إمكانية ذاتية لتخفيف هذه القيود إلى الحد الذي لا تنفلت فيه تجاه الفوضى، وأن لا تتكاثر إلى الحد الذي تنحرف فيه اتجاه العبودية.
أما المركزية، فهي نظام فكري قد يجنح باتجاه التنازل عن القرار الذاتي لمصلحة الغير وهو الرضى بالعبودية، أو استخدام القرار الفردي (سواء كان فرداً أو أقلية ضئيلة) الذي يجنح باتجاه تكبيل الغير بإرادة الفرد وقراره. وهو ممارسة الاستعباد على هذا الغير.
سواء استندت المركزية إلى مبدأ الرضا بالعبودية أو مبدأ ممارسة الاستعباد فهي ديكتاتورية بالشكل والمضمون، وهذا بحد ذاته يشكل النقيض للديمقراطية بمضمونها الفلسفي.
وفي محاولة من الحزب صهر هذين الضدين في أتون واحد على قاعدة أن يتنازل كل منهما عن أقصى مضامين التطرف: من فوضوية الديمقراطية ومن ديكتاتورية المركزية، وُضعت تشريعات منصوص عليها في عقد يتوافق عليه الاعضاء الملتزمون حزبياً، وهو ما يعرف بالنظام الداخلي. وسوف نناقش مضامين هذه التشريعات، وبالتالي نخلص من هذه المناقشة لنرى من خلال واقع وتجربة ذاتية كم تستطيع نظرية المركزية الديمقراطية أن توالف بين حدين متناقضين.

4- التشريعات التنظيمية تخفف من الطغيان المتبادل بين المركزية والديمقراطية:
نرى بداية أنه لا بد من إعادة التذكير بمسلمتين اثنتين، لا يمكن بدون التقائهما وتفاعلهما أن يستقيم العمل الحزبي، وهما:
الأولى: وجود أهداف فكرية- إيديولوجية يعتنقها كل فرد من أعضاء الحزب، بوعي وحرية، دون ضغط أو إكراه، وهذا يمثل جانب الحرية الفردية بمفهومها الفلسفي.
الثانية: وجود قناعة بوجوب تحقيق هذه الأهداف. بهذه المسلمة يتحول الفكر من الدائرة النظرية إلى الدائرة العملية/ الاجتماعية، وبها يتحول الفكر من أجل الفكر، إلى الفكر لأجل مصلحة المجتمع. هنا، يتحول مفهوم الحرية، من الفردية إلى الجماعية.
إن تحويل الأهداف الفكرية/ الإيديولوجية، من أهداف نظرية إلى مصالح اجتماعية، يفترض جهوداً تتجاوز إمكانيات الفرد، وهذه الجهود تتوفر في تشكيل الحزب السياسي.
يمكن في داخل الحزب لكل عضو فيه أن يعتنق أهدافه الفكرية/ الإيديولوجية، بحرية ووعي ودوك ضغط أو إكراه. لكن عند البدء بالترجمة العملية لهذه الأهداف قد تتعدد الآراء حول أفضل الوسائل لإنجاح العمل؛ هنا، تتولد الإشكالية الأولى: أي رأيٍ يمكن اختياره الذي على أساسه يمكن التنفيذ العملي؟ هل هذا الاختيار يلزم المعارضين له؟
تتولد الإشكالية من الإلزام الذي هو معنى من معاني الضغط والإكراه، وبمجرد ارتباطه مع قضية الحرية، فإنه يشكل انتقاصأ من مفهومها الفلسفي.
من هذه الإشكالية، ومن نتائجها في إحداث الانتقاص من الحرية الفردية، هل يولد سبب يبرر للمعترض على الرأي المأخوذ به بالانفصال عن الجماعة التي انخرط معها على أساس قناعة مشتركة بالأهداف الفكرية/ الإيديولوجية؟
من الواقع التعددي في وسائل التطبيق، لن تعرف التعارضات بالآراء نهاية معروفة لها. وبحجة المحافظة على قدسية الحرية الفردية، تتوالى عملية الانفصال لأصحاب الرأي الآخر في عملية التطبيق، وهذه دائرة مفتوحة لن تعرف نهاية لها، واستنزافآ دائماً لا يسمح للحزب بأن يضع خطة تنفيذية لأهدافه ويكون متأكداً من إمكانية تطبيقها.
لكي يتم التوفيق بين الاعتناق الحر للأهداف الفكرية، وبين الضرورة الملحة في تطبيقها حتى تحقق الحاجة الإنسانية الكامنة فيها. بمعنى آخر، لكي يتم التوفيق بين الحرية الفردية في اختيار الأهداف، وبين الالزام في ترجمتها كحاجة اجتماعية، جاءت النظرية التنظيمية في المركزية الديمقراطية، بعدد من التشريعات للتوفيق بين الحرية الفردية والالتزام الجماعي، أي بين الحرية بمفهومها الفلسفي المطلق وبين الإلزام بمفهومه الاجتماعي المقيد. وهذه المسألة تدور حول نظرية المركزية الديمقراطية.
القاعدة الأساسية في التقريب بين المركزية، كمفهوم ديكتاتوري، وبين الديمقراطية، كمفهوم للحرية الفردية، تستند إلى عملية التنازل المتبادل للحدود المتباعدة بين دائرتيهما للاحتفاظ بالعناصر المشتركة المتقاربة، بحيث يشمل التنازل من جانب المركزية عن حالة الطغيان والتفرد، ومن جانب الديمقراطية عن حالة الفوضوية، والتخلي عن جزء من حريتها المطلقة لصالح حرية الآخرين.
إن التنازل المتبادل هي عملية إلزام ذاتي لكل من حدَّيْ العملية التنظيمية، وهو التزام مقيَّد، برضى الطرفين، بالضوابط التنظيمية المنصوص عليها في اللوائح والأنظمة الداخلية. ويأتي الالزام الذاتي والالتزام المقيَّد مستنداً، ليس إلى عملية آلية، وإنما إلى حصانة أخلاقية لها علاقة بالطبيعة البشرية للإنسان بما تحتويه هذه الطبيعة من تعقيدات اجتماعية ونفسية، قد تؤثر سلباً أو إيجاباً على حسن تنفيذ العقد الرضائي بين المركزية والديمقراطية.
في إطار العقد الرضائي، تأتي التشريعات/ النظام الداخلي لكي تمنع طغيان المركزية من أن تتحول إلى ديكتاتورية، لتقر للديمقراطية بحق الاختيار الحر للقيادة المركزية في عملية الانتخابات الحزبية، وفي ممارسة نقد القيادة ومحاسبتها في المؤتمرات الحزبية. وفي الجانب الآخر جاءت التشريعات/ النظام الداخلي، ولسبب تسهيل اتخاذ القرارات وتنفيذها، لتنص على حق الأكثرية في إلزام الأقلية بالتقيد بالقرارات المتخذة والاشتراك في التنفيذ.
ولأن الوثائق الحزبية السابقة قد تناولت بالتحديد مضامين وقوانين ونصوص التشريعات التي تنظم العلاقة بين حدَّيْ النظرية التنظيمية، لن ندخل في مسألة تكرار ما كُتب، وإنما سوف نلقي الضوء على هذه النصوص كلما وجدنا أن منهج بحثنا يحتاج إلى ذلك.
إن منهج بحثنا سوف يتناول الإشكاليات التي يثيرها واقع تطبيق التشريعات التنظيمية من وجهة نظر تجريبية، لماذا؟
إن الواقع والتجربة التي مرَّ بهما حزب البعث العربي الاشتراكي، و على الرغم من وجود نصوص واضحة تحدد العلاقة بين المركزية والديمقراطية، يؤشران على وجود مصاعب ومتاعب ونقاط خلل عانى الحزب منها ولا زال وقد لا تنتهي.
لأن الطبيعة البشرية معقدة لأسباب اجتماعية ونفسية، ولأن الحرية، لاسباب ذاتية ونفسية، تجنح باستمرار نحو الفردية، ولأن العقود التشريعية قد لا تُلِمُّ، وهي لن تلم، بكل هذه التعقيدات الاجتماعية والذاتية، سوف تبقى الإشكاليات مستمرة في التوفيق بين الذات والمجموع. لكن، إذا تميزت النظرية التنظيمية بسمة الحركة وتحررت من الجمود فإنها وإن لم تستطع الخلاص من الإشكاليات بشكل كامل، وهي لن تستطيع، فعلى الأقل هي قادرة على مواجهتها بالمعالجة المستمرة للتخفيف من آثارها السلبية.

III: إشكاليات مصدرها التشريعات التنظيميـــــــة
إذا اعتقدنا أن الاختيار الواعي هو شرط أساسي من شروط ممارسة الحرية، والاختيار لن يكون واعياً إلا باكتساب التعليم والثقافة كشرط مهم أولي.
وإذا اعتقدنا، كذلك، أن الثقافة كأساس للمعرفة السائدة في المجتمع الموجود أو المنشود، ليست شرطاً كافياً للأختيار الواعي إذا لم تقترن بالسلوك الأخلاقي ذي المحتوى الاجتماعي.
فالحرية الفردية والاجتماعية، إذاً، لن تتحقق إلا بشرطيْ المعرفة والأخلاق، لذلك نرى بأن واجب الإنسان اًلملتزم في حزب يهتدي بأهداف فكرية/ اجتماعية، أن يكون مثقفاً ومتمرساً بمعرفة مجتمعه المنشود وأخلاقيته.
لكن... نجد أن الواقع، خاصة في مجتمعنا الذي يحبو باتجاه التحرر، لم ينجب حتى الآن الطليعة الملتزمة بالمعرفة والأخلاق والتي تمثل حداً مقبولاً لإحداث الانقلاب المنشود في واقعنا المتخلف. وإذا أُضيف إلى شرطيْ تكوين الإنسان اًلواعي: معرفة وأخلاقاً، وجود التعقيدات النفسية والاجتماعية ذات الطبيعة البشرية، لاستطعنا أن نتصور حجم الإشكاليات التي واجهت، أو تواجه، أو سوف تواجه مسألة التوليف بين حدي النظرية التنظيمية: المركزية والديمقراطية.

ا- إشكاليات مصدرها المركزيـــــــــة:
للمركزية أهمية في حياة الحزب التنظيمية، فهي تلعب دوراً أساسياً في المحافظة على وحدة الحزب تنظيمياً وفكرياً وسياسياً. وهي تستمر في دورها هذا، بجواًنبه الايجابية، دون أية انعكاسات سلبية إذا استطاعت أن تحافظ على مضمون الديمقراطية وممارستها بدون أية عوائق في حياة الحزب الداخلية.
فالمركزية، كمفهوم تنظيمي، تعني سيطرة القيادة العليا على زمام الأمور من جهة وتلزم القيادات الدنيا، كذلك القواعد الحزبية، بقراراتها.
يأتي إلزام القيادات الدنيا بقرارات القيادة العليا، تنازلاًً من الأقلية في داخل الحزب عن جزء من حريتها لصالح الأكثرية فيه. هذا الإلزام/ الواجب، يمركزة السيطرة في يد القيادة العليا كضرورة لتسهيل اتخاذ القرارات والإشراف على تنفيذها.
مع أن القيادة العليا وصلت إلى موقعها بإرادة الأكثرية ومن ضمن مؤتمرات مورست فيها انتخابات حزبية حرة، ومع أن مدة التكليف الديمقراطي للقيادة محدودة بعدد من السنين تحاسب بعذها، أو في أثنائها، داخل هذه المؤتمرات، نرى أن عدداً من العوامل قد تؤثر في منع تطبيق هذه التشريعات التنظيمية، ذات المضامين الديمقراطية، تطبيقاً دقيقاً. وهذه العوامل قد تكون إما موضوعية وإما ذاتية.

أ- العوامل الموضوعية:
تأتي في أولويتها العوامل التالية:
الأول- قد تعلق القيادة القومية النظام الداخلي للحزب، أو جزءاً منه، لظروف يعود تقديرها للقيادة وحدها على أساس مسؤوليتها اللاحقة أمام المؤتمرات الحزبية.
الثاني- قد يتم تأجيل انعقاد المؤتمرات الحزبية لظروف تقدرها، كذلك، القيادة العليا. وهذا يعني منعاً للقاعدة الحزبية من محاسبة القيادات، ومن ممارسة الحق الديمقراطي في إجراء انتخابات حزبية في مواعيدها.
هذان العاملان يبطلان عدداً من التشريعات التنظيمية التي وُضعت لحماية الديمقراطية، حينئذ تتجه الأمور نحو تغليب النهج المركزي.
قد تكون الظروف التي دفعت القيادة العليا إلى اتخاذ إجراءات التجميد موضوعية فعلاً، وقد لا تكون كذلك، فالأمر سيان لأن النتائج على الديمقراطية واحدة، وهي تظهر في تجميدها للحياة الحزبية. وكي لا تتحول الظروف الموضوعية أو غيرها إلى سبب يحول دون ممارسة الحق الديمقراطي، متجاهلة، على الرغم من مشروعيتها، حالة العطاء النضالي المفترض أن يواجه المناضلون، على أساسها، الظروف مهما كانت صعبة، خاصة، إذا طالت مدة استمرارها.
إذا كانت صلاحية تجميد النظام الداخلي، أو جزء منه، مثل تأجيل المؤتمرات الحزبية، مشروعة نظرياً، فإنها تفتقد شرعيتها العملية في الحالة التي تصبح فيها مطلقة وغير محددة بوقت معين، لأنه ومهما كانت الظروف صعبة فإنها ليست أصعب وأكثر سلبية من غياب الحق الديمقراطي في حياة الحزب الداخلية.

ب- العوامل الذاتيـة:
قد يكتسب عدد من الحزبيين قدراً متميزاً من الثقافة والمعرفة، وقدراً متميزاً من السلوكات الأخلاقية، وقد يجتازوا التعقيدات الذاتية إلى حد كبير.
لكن، وحيث إن هؤلاء هم بشر، ولا يمكن لإنسان ما أن يتخلى كلياً، بوعي أو بلا وعي، عن نزعاته وطبائعه وذاتياًته كعوامل إنسانية، تأتي هذه العوامل لتلعب دوراً سلبياً لمن هم في موقع القيادة العليا في تغليب النهج المركزي على النهج الديمقراطي.

ج- ما هي هذه الإشكاليات؟
فالآثار السلبية التي تعكسها العوامل الموضوعية والذاتية، منفردة أو متحدة، على الحياة الديمقراطية في داخل الحزب، لها انعكاسات مؤذية لأنها تمنع تطوير عمل الحزب وانتاجيته على طريق تحقيق الأهداف الفكرية والإيديولوجية.
ولأن القيادة العليا، قد تقدر أن الظروف التي حالت، أو تحول، دون ممارسة الحياة الديمقراطية لا يمكن تجاوزها ، كما تقدر أن القفز فوقها قد يعرض الجهاز الحزبي إلى مخاطر جدية. قد تدفع هذه المخاطر المفترضة القيادة إلى اعتناق معادلة ثابتة: إما أن نعرض الحزب للخطر إذا تم القفز فوق الظروف الصعبة، وإما أن تلجأ إلى تشريع الهيمنة المركزية حتى تزول هذه الظروف مهما طالت. إذ ذاك تصبح هذه المعادلة مبرراً لتمكين المركزية وتعزيزها في حياة الحزب.
لكي لا يقع الحزب أسيراً لهذه المعادلة، ولأنه لا معادلة ثابتة تدل على أن الحفاظ على المركزية هي محافظة على الحزب بالمطلق حتى في الظروف الصعبة، نرى أن هناك إمكانيات كثيرة لتطوير التشريعات التنظيمية بهدف تقصير مدة الاعتماد على المركزية في الظروف الصعبة والعودة إلى المضامين الديمقراطية في حياة الحزب، فسيادة الحياة الديمقراطية هي الغاية والهدف.
لقد شُرِّعت المركزية وأُعطيت صلاحيات محدودة لظروف وأهداف تنظيمية محدودة كذلك؛ وتأتي ضمن هذه الأهداف، إزالة العراقيل التي تحول دون ممارسة صحيحة للديمقراطية في حياة الحزب الداخلية. فلا يجوز، إذاً، أن تصبح المركزية غاية في حد ذاتها، فالديمقراطية هي الهدف والمركزية هي أحد وسائل ممارستها ولا يمكن أن تنوب عنها مهما قست الظروف وصعبت.
لكل تلك الاعتبارات، ولأن الظروف الصعبة في الحياة النضالية للحزب هي القاعدة، ولأن الحالة النضالية هي القاعدة في مواجهة الظروف الصعبة، تصبح هذه الظروف سبباً غير كافٍ، كما لن تكون مبرراً دائماً لتحديد صلاحيات مطلقة وغير محددة بزمان معين تعمل على تكبيل الحياة الديمقراطية . يأتي في أولوية هذه التشريعات كل ما يتناول تجميد النظام الداخلي أو أي جزء منه والذي يكون من نتائجه تغييب المؤسسات الديمقراطية الأساسية، ومن أهمها ما يتعلق بالمؤتمرات الحزبية أو ممارسة الحق الانتخابي الحزبي.

د- آراء في معالجة هذه الإشكاليات؟
في ممارسة الديمقراطية إغناء لمسيرة الحزب، فكرياً ونضالياً وسياسياً، لأنها تحمل التنوع في الآراء والوسائل والأساليب، فالمركزية في ظل ظروف طغيانها تمنع هذا الغنى والتنوع، والبديل لهما هو وقوع الحزب أسيراً لأفكار محددة من أفراد قلائل، ونتيجته الجمود الفكري والنضالي والسياسي.
كان من الممكن ان نطمئن على حياة الحزب، كأن يُوضع في أيدي قلة قليلة من الأفراد الموثوق بغناهم الفكري والنضالي والأخلاقي، فيما لو كانت الحقيقة مطلقة وثابته وليست نسبية. ولأن الحقيقة ليست مطلقة، يأتي إغناء الحياة الداخلية للحزب بقيادات أخرى، ضرورة وواجباً. وحتى لا يخسر الحزب أو يهمل أعضاءه الذين يتميزون بالغنى الفكري والنضالي، نظراً أو تجربة ، إذا لم يجدد لهم مواقعهم القيادية، يمكن المحافظة على هؤلاء بأكثر من طريقة.
إذا كان بالإمكان، أن نطرح بعض البدائل النظرية والعملية لمعالجة هذه الإشكاليات، بعد أن قمنا بتحديدها، فإنما لكي تشكِّل هذه البدائل حافزاً لابتكار أفكار وبدائل أخرى.
الأول- تجميد النظام الداخلي أو جزء منه في ظروف تحددها القيادة القومية.
عندما تقوم القيادة القومية بممارسة صلاحياتها في هذا الاطار، إنما تكون هذه الممارسةمشروطة بمسؤوليتها اللاحقة أمام المؤتمر القومي، فإذا امتدت المهلة الزمنية بين مؤتمرين قوميين أكثر من المدة المحددة في النظام الداخلي، قد تفوت الفرصة المناسبة لمحاسبة القيادة في الوقت المناسب وإصلاح الخطأ الذي قد تقع فيه، إذا وقع، ولن يتم تدارك المخاطر أو منع استفحالها.
غالباً ما يكون تجميد النظام الداخلي، أو أي جزء منه، له علاقة بإصلاح وضع بعض المنظمات القطرية على مسؤولية القيادة اللاحقة. فإذا لم يتم تحديد مدة التجميد وأسبابه، وإذا لم يتم التشريع في إعادة الديمقراطية أمام المؤتمرات القطرية في الوقت المناسب، قد تنتقل القيادة العليا في القطر إلى موقع الإغراق في المركرية، وتصبح سيفاً مصلتاً على الأقلية فيبقى الحزب مستنداً فقط على قاعدة حزبية لا تمتلك الجرأة على ممارسة أي دور نقدي.
أما إذا لم يوجد لمشكلة ما حلاً جاهزاً فإن ذلك لن يلغي وجود هذه المشكلة. وإذا لم يكن هناك من بديل نظري، كتجميد النظام الداخلي أو جزء منه، كتدبير مركزي، فإن ذلك لن يلغي وجود افتئات على الديموقراطية. لكن أن تُترك المشكلة عالقة بدون حل ففيه ما يتعارض مع المنطق، لذا يجب أن يندرج استخدام هذا الحق المركزي من قبل القيادات العليا على قاعدة أبغض الحلال، بحيث لا يتم اللجوء إليه إلا إذا تم استنفاد كل البدائل الأخرى، وإذا كان لا بُدَّ من استخدامه يجب أن يشمل قرار هذا الاستخدام شروطاً مشددة وواضحة، وعلى أن ينتهي مفعول الاستخدام في مدة زمنية قياسية.
الثاني- تأجيل انعقاد المؤتمرات العليا في الفترات المنصوص عليها في النظام الداخلي.
إذا كانت المؤتمرات هي إحدى أهم أشكال الحق الديمقراطي في الحزب، فإن غيابها يشكل غياباً لهذا الحق بمعظم أشكاله ومضامينه، إذ ذاك تصبح المركزية هي القاعدة والديمقراطية هي الاستثناء.
في غياب المؤتمرات الحزبية تظهر الإشكاليات التالية:
* خضوع القيادات العليا للمحاسبة أمام القاعدة الحزبية. فالمحاسبة واجب على القيادات وحق للقواعد، شريطة أن تمارس فقط في داخل المؤتمرات الحزبية، كما ينص النظام الداخلي. لكن في غياب المؤتمرات يصبح الواجب والحق غير ذوات مضمون فعلي.
* يأتي انتخاب القيادات في المؤتمرات الحزبية حق ديمقراطي من حقوق القواعد الحزبية، فإذا غابت المؤتمرات يصبح هذا الحق دون مضمون فعلي، وعن هذه الإشكالية تتفرع السلبيات التالية:
- بقاء القيادات المنتخبة لأكثر من المدة المنصوص عليها في النظام الداخلي مما يؤدي إلى سيطرة المركزية وبالتالي سيطرة الأسلوب الواحد في قيادة الحزب، وغياب تنوع الأساليب النضالية على شتى المستويات، وهذا بدوره يمنع الحزب من تطوير أساليبه ، عندما لا يُغنى بالطاقات الحزبية الجديدة.
-إذن استمرار القيادات العليا في مواقعها لفترات زمنية طويلة، قد يؤدي بفعل طول الزمن إلى شغور في المواقع القيادية لأكثر من سبب، مما يدفع بمشكلات جديدة إلى الواجهة، وهي إما تراكم في المهمات على أعضائها الباقين ومن نتائجه إرهاق فتقصير، وإما اللجوء إلى أسلوب التعيين لملء الشواغر، وهذه الوسيلة تلعب دوراً سلبياً ليس باختيار الأفضل وإنما في صعوبة الاختيار بين عدد من المتكافئين بالمواصفات المطلوبة، كذلك في خلق محاور شخصية إذا استخدم هذا الأجراء من خلفيات ذاتية أو غير واعية، وقد تخلق استياءً من قبل الذين لم يطالهم التعيين. وكل تلك الاجراءات لن تمر من دون آثار سلبية تختلف خطورتها باختلاف وسائل العلاج. لكن كل النتائج سوف لن تكون في مصلحة الحزب الذي يعتمد الديمقراطية هدفاً من أهدافه الأساسية.
فإذا كانت الظروف الصعبة سبباً في منع انعقاد المؤتمرات ومبرراً لاستمرار قيادة الحزب مركزياً بحجة تجاوز الأخطار الأمنية، فإن في هذه الحالة احتمالات واسعة في أن يلحق بالحزب أخطار ناجمة عن غياب الحالة الديمقراطية قد تكون أشد ايلاماً على الحزب من الأخطار الأمنية.

الثالث- بعض الاقتراحات للإسهام في تخفيف الآثار السلبية للمركزية:
للتخفيف من الآثار السلبية التي تتركها المركزية على مسيرة الديمقراطية في حياة الحزب الداخلية يمكن استعراض عدد من الأفكار.
- إذا كان تجميد النظام الداخلي أو أي جزء منه حقاً تمارسه القيادة القومية أحياناً كثيرة بناء لطلب القيادات الرأسية في الأقطار، يمكن أن تستخدم حقها هذا ضمن شروط مشددة وواضحة، على أن لا تتجاوز مدة التجميد أكثر من فترة زمنية قياسية يتم تحديدها في طلب التوصية من القيادات الرأسية، كذلك في القرار الذي يصدر عن القيادة القومية.
- يأتي تأجيل المؤتمرات الحزبية بناء على توصية من القيادات الرأسية في الأقطار بعد موافقة القيادة القومية، كذلك يؤجل انعقاد المؤتمر القومي بناء لقرار من القيادة القومية. ويمكن ممارسة هذا الحق أيضاً لكن بشروط مشددة على أن لا تفوق مدة التأجيل، مثلاً، فترة تتجاوز نصف دورة عادية للمؤتمر المعني، كأن تحل، بعدها، مكان القيادة السابقة هيئة أخرى يكون المؤتمر السابق قد انتخبها أو حدد مواصفاتها أو نالت موافقته، أو يعتبر المؤتمر بعد نهاية المدة منعقد حكماً لممارسة صلاحياته دون العودة إلى القيادة المعنية.
- لغاية ضخ دم جديد، ولافساح المجال أمام طاقات حزبية أخرى تُغني العمل القيادي فى الحزب، على مستوى القيادة الرأسية بشكل خاص، والقيادات الأخرى بشكل عام، أن يعطى حق الترشيح في الانتخابات اللاحقة لأقل من 50 % من أعضاء القيادة السابقين على أن يتم اختيارهم إما في داخل القيادة السابقة أو في داخل المؤتمرات.
وإذا أُعطيت صلاحية الاختيار للمؤتمر، يمكن أن تقسم الانتخابات في داخل المؤتمرات، وفي جلسة انتخابية واحدة، إلى مرحلتين:
الأولى: يقوم المؤتمر باسقاط حق الترشيح لأكثر من 50 % من أعضاء القيادة السابقين، وبطريقة الاقتراع السري.
الثانية: يحق لمن لم يسقط حقهم بالترشيح من أعضاء القيادة السابقين في ترشيح أنفسهم للقيادة الجديدة إذا أرادوا ذلك.
وللاستفادة من الإمكانيات الفكرية أو النضالية لأعضاء القيادات السابقين، لأكثر من دورة حزبية، يمكن إنشاء مجلس استشاري حزبي من هؤلاء بما لا يتجاوز أعضاء القيادة المنتخبة. يقوم هذا المجلس بمساعدة القيادة في تقييم أعمالها وبتقديم الرأي والمشورة في وضع الحزب ونشاطاته، على أن يُستدعى هذا المجلس إلى عقد اجتماعات دورية مع القيادة الرأسية في القطر، أو يتم استدعاؤهم كلما دعت الحاجة لذلك.
أما الأعضاء الباقون، فيمكن أن يسهموا، كل حسب خبراته، في المكاتب الحزبية المتخصصة.
وحتى لا يبقى رأي الأقلية أسيراً في دوائره الضيقه، وكي لا يُنسى، وحتى يشكل حافزاً لاستمرارية الحالة الحوارية في داخل الحزب بقياداته الهرمية وقواعده، يمكن استنباط منبر اعلامي فكري داخلي: قومي وقطري، على أن يكون منبراً دورياً موازياً للمنبر الإعلامي الداخلي الذي يعبر عن رأي الأكثرية، على أن تنشر فيه ما تنتجه الأقلية من مواد ثقافية أو سياسية ، ويكون هذا المنبر حراً يفتح المجال في الردود على الاتجاهات المطروحة للمناقشة.

2- إشكاليات مصدرها الديمقراطيـــــــــة:
أي حزب يختط له طريقاً تنظيمياً استناداً إلى نظرية المركزية الديمقراطية، إنما هو حزب يستخدم المركزية لتنظيم الحالة الديمقراطية في حياته الداخلية والعمل على صيانتها كهدف أساسي لكل الحزبيين. كما تأتي الهيئات القيادية فيه نتيجة اختيار حر للقاعدة الحزبية لكي تقوم بالوظائف الأساسية التالية:
- صيانة الحياة الديمقراطية والمحافظة عليها وتنظيمها.
- قيادة الحزب، سياسياً وفكرياً، في غياب المؤتمرات.
- وجود آلية لاتخاذ القرار في الوقت والظرف المناسبين وتسهيل اتخاذه.
ولأن القرار محصور في أيدي قلة داخل الحزب، فكيف يستطيع، إذاً، صيانة الحياة الديمقراطية فيه؟
يمارس الحزبيون حقهم الديمقراطي من ضمن إطارين أساسيين:
الأول: تحديد استراتيجة الحزب في داخل المؤتمرات، إذ يلعب الحزبيون دورهم كاملاً في النقاش وبالتالي التصويت على خطوط هذه الاستراتيجية وخطط تنفيذها.
الثاني: انتخاب القيادة، التي تعمل على تنفيذ الاستراتيجية، انتخاباً حراً في داخل المؤتمرات. ومع أن القيادة المنتخبه هي التي تمتلك صلاحيات تنفيذ الخطط، لا تتوقف الحياة الديمقراطية عند الإطارين المذكورين وإنما تتابع مهماتها وتمارس الرقابة على القيادة من خلال خطين:
أولهما: يقع في سياق المهمة المستمرة، على قاعدة النقد من خلال الهرم التنظيمي التسلسلي.
أما ثانيهما: فيقع في سياق المهمة المؤجلة، على قاعدة محاسبة القيادة داخل المؤتمرات، حيث تخضع القيادة للمحاسبة، وقد تدفع لقاء تقصيرها أو خروجها عن استراتيجية الحزب ثمن عدم انتخابها، جملة أو أفراداً، لفترة قيادية أخرى.
لكن هل يمكن أن تتم هذه العملية من دون عوائق؟ نعتقد، بعد استقصاء التجارب السابقة الطويلة، أن الإطار النظري، على الرغم من مظاهره المنطقيه، لا يمكن ضمان تطبيقه بحذافيره، والسبب يكمن في عدد من العوامل الموضوعية والذاتية.
أ- العوامل الموضوعية:
ويأتي على رأسها التأخير في انعقاد المؤتمرات. وهذا ما قمنا بالحديث عنه سابقاً. أما فيما يتعلق بمبدأ النقد في سياق العمل المستمر واليومي، قد تستفيد القيادة منه في تقييم أو تقويم سياستها، لكنه على كل حال غير ملزم للقيادة، وليس له التأثير العملي على قراراتها.
ب- العوامل الذاتية:
إذا حسبنا أن العوامل الموضوعية توفر الجو المناسب لممارسة الحياة الديمقراطية في داخل المؤتمرات، فقد تحول دون ممارستها بشكل كاف أو صحيح عدة عوامل ذاتية لإن الممارسة الكافية والصحيحة لها تتطلب شرطين أساسيين، لهما علاقة وثيقة بين القيادة والقاعدة، وهما:
- ان يتميز أعضاء القيادة كأفراد، أو القيادة كمجموعة، بدرجة متقدمة من الوعي الفكري، والتميز بصفات عالية من الأخلاق الثورية، ومن الصفات الشخصية كالتخلص من التعقيدات النفسية والاجتماعية.
- كذلك تتطلب ممارسة الحياة الديمقراطية بشكل موضوعي وكاف وصحيح مواصفات فكرية وأخلاقية وشخصيه متميزة عند القواعد الحزبية.
إذا كان للقيادات دور موجه ومنظم لممارسة الديمقراطية، فإن هذه الممارسة لا تستقيم بشكلٍ كافٍ إذا لم تكن القواعد الحزبية مؤهلة، فكرياً وثورياً، تأهيلاً جيداً. لأنه إذا ما اعترى تأهيل أعضاء الحزب نقص ما، فإنه ينعكس نقصاً على الممارسة الديمقراطية، وهنا، يبرز عدد من الإشكاليات.
قد تصاغ النظرية الديمقراطية بشكل واضح وجلي، وقد تكون نصوص التشريعات جلية كذلك بحيث يتم استيعابها بشكل كاف. لكن الوضوح النظري وإن شكل جانباً مهماً في المسألة الديمقراطية إلا أنه ليس الوحيد، ولكي تستقيم هذه المسألة وتأخذ أبعادها وتنعكس نتائجها الاجتماعية الإيجابية على حياة الحزب، لا بُدَّ من توفر إمكانيات الممارسة السليمة لها. فالوضوح النظري والممارسة السليمة هما حدان أساسيان في هذه المعادلة.
فالإشكاليات، إذاً، اما أن تستمر وإما أن تنحسر تبعاً لاستمرار أو انحسار هذين الحدين: الوضوح النظري والممارسة السليمة، وتأتي دينامية التفاعل بينهما لتشكل مختبراً دائماً يلعب دور المعالج لأي خلل يبرز في العلاقة بينهما.
فالوضوح النظري: يقتضي من أعضاء الحزب استيعاب أهداف الحزب الفكرية والسياسية والاستراتيجية وكيفية تطبيق هذه الأهداف. فالوضوح النظري، إذاً، هو شرط أساسي لممارسة الحق الديمقراطي في النقد والنقد الذاتي، وفي محاسبة القيادة داخل المؤتمرات.
فهل يعقل أن يتوجه عضو ما في نقد القيادة أو محاسبتها، أو في نقد رفاقه أو محاسبتهم على تقصير ما أو خطأ ما، تكون القيادة قد وقعت فيه، أو أي عضو حزبي آخر، إذا كان النقد خالياً من مضمون واضح؟
إذا كان الآخرون، في داخل الحزب، يعملون على تنفيذ مهماتهم الحزبية التي هي الترجمة الفعلية لأهداف الحزب واستراتيجيته، وإذا كان للعضو الحزبي حق النقد والمحاسبة للآخرين، فإن هذا الحق مرتبط بموضوع التنفيذ، هنا يكون الحق موضوعياً ومقبولاً إذا كان العضو الناقد قد امتلك وضوحاً نظرياً لأهداف الحزب واستراتيجيته، ويبتعد عن الموضوعية إذا كان هذا الوضوح غائباً.
فامتلاك الحق، إذاً، يصبح دون معنى إذا لم تكن حدود هذا الحق واضحة، وإلا فالمطالب به قد يتجاوز هذه الحدود فيجد نفسه كما يجده الآخرون قد أصبح في داخل دائرة حقوق الآخرين، وهذا ليس من الديمقراطية في شيء.
جاءت أهداف الحزب، بمبادئه ومقرراته وأنظمته، واحدة واضحة منصوصاً عليها، فوضوحها آتٍ من نصوصها المنشورة والمنتشرة، ووحدتها أتت من توحيد تعميمها كثقافة يتم مناقشتها وشرح مضامينها على مستوى واحد داخل الخلايا الحزبية كافة.
تأتي، إذاً، العلاقة بين الحق الديمقراطي للحزبيين وبين محاسبة القيادة أو انتقادها موضوعية وهادفة لتصب في مصلحة الحزب، كلما كان هذا الحق ملتصقاً بالأهداف الفكرية/ السياسية الموحدة. ويصبح هذا الحق عبثياً كلما جاء بعيداً عن هذه الأهداف، كأن تكون محاسبة القيادة، أو الرفاق الآخرين، مستندة إلى صورة فكرية أو تنظيمية أو سياسية مثالية يكون الناقد قد كونها في ذهنه. ولكي لا تختلط الأمور وتتداخل، وكي لا يكون حق المحاسبة والنقد بدون ضوابط، فإنه يكون مشروعاً وديمقراطياً ويرتقى إلى مستوى الحق إذا كان منسجماً ونابعاً من نصوص ومضامين الأهداف المتفق عليها. وكي لا يفوت الحزب فرصة الاستفادة من الصور الفكرية أو التنظيمية أو السياسية التي كونها عضو أو أعضاء آخرين في داخل الحزب، إنما يكون من حق هؤلاء عرض صورهم الفكرية أو التنظيمية أو السياسية للمناقشة في داخل الحزب، وليس لمحاسبة الآخرين على أساسها. فإذا أخذ بها حسب أصول نظرية المركزية الديمقراطية أصبحت ملكاً للحزب وتشكل حينئذ قاعدة للمحاسبة.
فالوضوح النظري لأهداف الحزب الفكرية والإيديولوجية والتنظيمية والسياسية، والاستراتيجية في تحقيق هذه الأهداف، يمنح الحزبيين حقاً ديمقراطياً كما يصبح هذا الحق واعياً وموضوعياً يحقق الغاية من وجوده، فالحرية لا معنى لها بدون اكتساب الثقافة والمعرفة. ويصبح للحرية الديمقراطية في داخل حياة الحزب قيمة إذا اقترنت بالثقافة الواضحة والمعرفة الناضجة لأهداف الحزب واستراتيجيته.
أما الممارسة السليمة: فتشكل الحد التوأم للوضوح النظري كحدين أساسيين لممارسة الحياة الديمقراطية من داخل الحزب. لكن إذا تميَّز الحزبيون بالمقدرة على اكتساب الثقافة والمعرفة لأهداف الحزب، فإن الثقافة والمعرفة يكتسبان مضامينهما الاجتماعية كلما كان العمل جاداً في سبيل ترجمتهما لصالح المجتمع. كذلك سوف يبقيان ديكوراً يجمِّل بهما الحزبي نفسه إذا عجز عن ترجمتهما افعالاًًواقعية داخل الحزب، ولن تكون الترجمة سليمة إلا باكتساب المقدرة على الممارسة السليمة، ولهذه شروط قد تشوبها بعض التعقيدات لعلاقتها بالمستوى النفسي والاجتماعي والشخصي للعضو الحزبي.
إذا كان الأمر يتعلق بتحديد المواصفات النفسية والاجتماعية والشخصية المطلوب توفرها عند الحزبي، فهذه ليست مسألة شائكة، فالتراث الفكري الإنساني غني في هذا الجانب. لكن الأمر يتعلق بآلية تمكن العضو الحزبي من اكتساب هذه المواصفات. كما أن هذه الآلية ليست وصفة طبية جاهزة، إنما هي معقدة تعقيدات المشاكل التي تستدعي وجودها، ولذلك يجب أن تحمل ضرورة تجددها باستمرار لتواكب خصوصية المشاكل الناشئة.
وعلى الرغم من أن التعقيدات، تلك، تحمل الطابع الفردي والشخصي، فإن طريقة علاجها تحمل ضرورة التفاعل بين العضو الحزبي وبين المؤسسة الحزبية، لأن إزالة هذه التعقيدات تتطلب وقتاً وجهداً في عملية تربوية متواصلة ليست محددة بزمن أو بظرف، والسبب أن الخفايا النفسية والاجتماعية والشخصية للفرد تتوالد بصورة متواصلة تواصل الحياة الدنيا.
إن الخصوصيات التي تحملها المواصفات النفسية والاجتماعية للفرد الحزبي، ليست سلبية تماماً، وإنما تحمل في ذاتها مضامين التجدد والإغناء، لأنه في غيابها يكون التجانس الكلي بين الأفراد هو البديل ومن نتائجه تتحول الذات البشرية إلى آلة جامدة أو معادلة حسابية ثابتة تطبق على كل الأفراد في كل الظروف. من هذه الحقيقة نستند في اعتقادنا إلى أن العلاج يمكن أن يصب جهوده على إزالة التعقيدات وتنمية الخصوصيات الشخصية التي تعزز الغنى والتجدد في حياة الحزب الد اخلية.
دينامية التفاعل بين الوضوح والممارسة السليمة: يتشكل في ثنائي الوضوح النظري والممارسة السليمة حدان متفاعلان، يؤثر أو يتأثر أحدهما بالآخر، فالحد الأول يصبح غير ذي مفهوم عملي إذا لم يقترن بالممارسة، كذلك الممارسة تتخبط عشوائياً إذا لم يقودها الوضوح النظري.
إذا كانت الحالة التفاعلية مفقودة بين هذين الحدين يتولد مبدأ الضرورة والواجب الذي يضع على عاتق النظرية الديمقراطية مهمة التميز بدينامية التطوير المستمر لإبقاء عوامل التفاعل حية ومستمرة. وهذه الدينامية تعمل على أساس تطوير الجانب النظري كلما برز قصور فيه عند التطبيق، ومراقبة السلوك والممارسة كلما برزت فيهما ثغرات تتنافى مع الجانب النظري.
بين التعقيدات النفسية/ الاجتماعية وبين الخصوصيات الفردية/ الذاتية كمنبع للإبداعات، لا يمكن التمييز بسهولة وبدقة. وعلى الرغم من ذلك سوف نحاول تحديد بعض التعقيدات النفسية/ الاجتماعية بمظاهرها السلوكية، التي تعيق الممارسة السليمة للحياة الديمقراطية في داخل الحزب.

ج- آراء في معالجة هذه الإشكاليات:
إن ممارسة الديمقراطية، كمفهوم معقد، تتطلب مواصفات موضوعية تشكل أساساً ضرورياً للمواصفات الذاتية، فالمواصفات الموضوعية، إذاً، ليست سوى الوعي الفكري والسياسي والاستراتيجي لأهداف الحزب الفكرية/ الإيديولوجية/ السياسية. أما المواصفات الذاتية فتأتي في دائرة الأخلاقية الثورية المستندة إلى السوية النفسية الاجتماعية كخصائص شخصيه عند الفرد الحزبي، التي لا يمكن بدونها أن يكتسب صفات الاستقلالية بالرأي، الابتعاد عن الخضوع لأية ضغوط، مبدأ اختيار الأسلم، الترفع عن الخضوع لنزوات العلاقات الخاصة، الامتناع عن ممارسة أسلوب المجاملة على حساب القناعة الموضوعية، الخضوع للخوف، الامتناع عن التكتل...
تأتي المواصفات الشخصية للفرد الحزبي السلبية/ الايجابية لتترك آثاراً سلبية أو إيجابية على نتائج الممارسة الديمقراطية لأهم مباديء المركزية الديمقراطية وهي: الانتخابات الحزبية، النقد والنقد الذاتي، محاسبة القيادات، خضوع الأقلية لقرار الأكثرية.
استزادة في الوضوح، ومواكبة لمبدأ الدينامية، كضرورة لتطوير النظرية التنظيمية وتطبيقاتها العملية، يمكننا القاء بعض الاضواء على تلك المباديء المذكورة بما وفرته التجربة وإعادة النظر على طريق المساهمة بعدد من الأفكار التي تحقق الغاية المرجوة من مبدأ الدينامية الديمقراطية.

الأول: الانتخابات الحزبية:
لأن مصير الحزب بأهدافه الفكرية والإيديولوجية والسياسية مرتهن لسنوات، تفصل بين الدورة الانتخابية والأخرى، بين أيدي قلة من الحزبيين، تأتي الانتخابات الحزبية مفصلاً مهماً بين الدورة والأخرى، فإما أن يكتسب الحزب عدداً من السنوات في سبيل تطويره ودفعه إلى الأمام، وإما أن يخسرها وفيها دفع به إلى الوراء خطوات.
فالخسارة والربح لما لهما من أهمية خاصة في حياة الحزب/ الأمة، في تقدمه أو جموده أو تراجعه، لا يمكن أن ينفصلا عن مستوى الممارسة الديمقراطية بخطئه وصحته.
فإذا كانت المركزية تحمل بذور الانحراف باتجاه الديكتاتورية، فإن الممارسة الديمقراطية، التي تحمل بذور الانحراف باتجاه الفوضوية/ العبثية، تشكل السبب/ العلة. فالإشكاليات التي تصدر عن المركزية يمكن تلافيها أو التقليل منها أو من أثارها السلبية إذا كانت الممارسة الديمقراطية في الانتخابات الحزبية واعية وموضوعية.
الانتخابات في حياة الحزب ليست تقليدية، فإذا وُضعت مقاييس عامة وموضوعية لمواصفات المرشَّحين للقيادة فإنها تقلِّل من احتمالات وصول مَنْ هم غير مؤهَّلين لها. وإنه بالقدر الذي تكون فيه أهداف الحزب/ الأمة واضحة أمام الحزبيين المُنتَخِبين تأتي مقاييس اختيار القيادة المركزية واضحة/ موضوعية كذلك، وتقترب الممارسة الديمقراطية باتجاه الخط السليم أكثر فأكثر.
فمقاييس اختيار القيادة، إذاً، هي مسؤولية مشتركة بين النظرية المركزية، كإحدى وسائل تنظيم وضبط الحياة الديمقراطية، وبين النظرية الديمقراطية ذاتها كإحدى الأهداف الأساسية للحزب/ المجتمع. كيف؟
كما أن القيادة، بمختلف مراتبها الهرمية، مُلزمة بالابتعاد عن ممارسة شتى أساليب الدعاية الانتخابية بخلفيات خاصة، والامتناع عن ممارسة الضغوط، بشتى أصنافها وأشكالها على أعضاء المؤتمرات، وعن استخدام تأثير العلاقات الخاصة لأغراض انتخابية، فإن أعضاء المؤتمرات الحزبية يتحملون المسؤولية ذاتها إذا خضعوا وتقبلوا تلك الممارسات الخاطئة. فالمساعدة فيها أو السكوت عنها يتساويان في ارتكاب الخطأ.
هل يمكن الوصول إلى مستوى مثالي في إجراء انتخابات حزبية بعيدة عن الممارسات التي تتعارض مع الأخلاق الثورية؟
مع وجود تعقيدات نفسية/ اجتماعية على المستوى الفردي، وعلى الرغم من الأهمية التي يوليها الحزب للتخفيف من آثارها، فإنها لن تزول كلياً، إذ تبقى آثارها عالقة، بوعي أو بدون وعي، في التركيبة الشخصية للفرد الحزبي مما يدفعنا إلى التقدير أن المستوى المثالي للانتخابات الحزبية مشكوك بتوفيره.
قد يتسنّى معرفة بعض الثغرات ومعالجتها، أما بعضها الآخر فقد يبقى مستوراً. وحتى يمكن ضمان وضع اليد بشكل مُرضٍ على ما كُشِف منها أو ما بقي مستوراً، لا بُدَّ من أن تلعب الديمقراطية، كأحد طرفي النظرية التنظيمية، مهمة أساسية في كشفها وعلاجها.
وحتى لا يبقى الاطار النظري جانباً وحيداً في علاج هذه الإشكاليات يمكن تقديم بعض الأفكار التي نحسب أنها مفيدة في الجانب العملي.
قد لا تستطيع القيادة المنتخبة معرفة كل الثغرات ووضع حلول في سبيل معالجتها. وقد يعود سبب ذلك لأسباب موضوعية أو لأسباب ذاتية. في مثل هذه الحالة، ولأسباب تتعلق بالاقتراب أكثر باتجاه الموضوعية والتخفيف بقدر ما يمكن من الذاتية في المعالجة، يمكن للنظرية التنظيمية أن تستحدث ما يُسمى بلجنة الطعون، التي يتم انتخابها من مؤتمر الشعبة وما فوق على أن يتمثل فيها بعض الذين لم يفوزوا في الانتخابات. وتكون مهمتها القيام بجمع كل المعلومات عن الثغرات التي حصلت في عملية الانتخابات، وأن تقوم بالتحقيقات اللازمة ودراسة الملف وصياغة النتائج والتوصيات. ثم تُوضع بتصرف لجنة عليا يتم انتخابها أو تشكيلها من المؤتمر الأعلى في القطر، وبدورها تقوم بإعداد ملف عام عن انتخابات القطر، بوقائعه ونتائجه والتوصيات الخاصة به.
قد تُستحدث في النظام الداخلي عقوبة أخرى لها علاقة خاصة بالممارسة غير السليمة للدور الديمقراطي في الانتخابات الحزبية، تنص، مثلاً، على حرمان العضو، الذي أثبتت التحقيقات ضلوعه بممارسة لا ديمقراطية، من حق الانتخاب والترشيح لدورة حزبية واحدة، على أن يتم إعلان العقوبات على الجهاز الحزبي بعد مرور ستة أشهر على انتهاء أعمال المؤتمر الأعلى في القطر. إن تشكيل مثل هذه اللجنة، بمشاركة من الذين لم يفوزوا في الانتخابات الحزبية، ينطوي على مسألتين مهمتين لهما علاقة بالممارسة الديمقراطية:
الأولى: تأمين وسيلة أخرى من وسائل ضبط واحدة من أهم مضامين الحياة الديمقراطية في الحزب وهي الانتخابات الحزبية، بما لها من علاقة أساسية في الحفاظ على الديمقراطية.
في غالب الاحيان تُنسى الثغرات التي تحصل في عملية الانتخاب مع انتهائها، لذلك يأتي مثل هذا التدبير ليخلق جواً نفسياً ضاغطاً على كل من يحاول تجاوز الأسس الديمقراطية بأن هذا التجاوز لن يمر دون اكتشافه حتى بعد نهاية الانتخابات.
الثانية: تأتي مشاركة الأقلية في اللجنة، لتشكل جواً نفسياً مريحاً، بأن التجاوزات إذا حصلت سوف لن يتم التعتيم عليها.

الثاني: النقد والنقد الذاتي:
إن لممارسة هذين المبدأين شروط موضوعية وذاتية، فإذا كانت الشروط الموضوعية سهلة الاكتساب لعلاقتها بالوضوح النظري للأهداف الفكرية والسياسية وللأصول التنظيمية، فإن المواصفات الشخصية، نفسياً واجتماعياً، التي هي ا الشروط الذاتية، لن تكون سهلة الاكتساب. فممارسة النقد والنقد الذاتي يتطلب مستوىً عالًٍ من توفر الشروط الثقافية والنفسية والاجتماعية، وهي قلما تتوفر عند الناقد والمنتقد.
قد يكتسب الإنسان الفرد/ الحزبي الشروط الثقافية، وقد يكتسب شخصية سوية، نفسياً واجتماعياً. لكن إذا لم يعزز التفاعل بين الحدين الثقافي - الشخصي بمستوىً موضوعي يبتعد أكثر ما يمكن عن الذاتية الفردية، ويقترب أكثر من الذاتية الاجتماعية - الجماعية، يتحول مبدأ النقد والنقد الذاتي إلى سلاح قد لا يؤدي الغرض من العمل به.
فمبدأ النقد كما يتطلب إنساناً/ حزبياً/ نقّاداً ذا ممارسة موضوعية، فإنه يتطلب كذلك إنساناً / حزبياً / منتَقَداً تتوفر فيه إمكانية تلقي النقد وقبوله بشكل موضوعي. استناداً إلى ذلك لن يحقق مبدأ النقد أغراضه، كمبدأ اجتماعي غايته التصحيح، إلا إذا امتلك المرسل والمتلقي المواصفات الشخصية السوية، اجتماعياً ونفسياً.
ولمبدأ النقد كذلك ارتباط وثيق بمبدأ النقد الذاتي، وهذا الارتباط لا يمكن توفره عند الإنسان/ الحزبي، إلا في الحالة التي يمارس فيه نقداً ذاتياً من دون عوائق نفسية، أو بمعنى أقرب إلى الواقعية ان يتوفر عند من يمارس النقد الذاتي أقل ما يمكن من العوائق النفسية.
فممارسة النقد، إذاً، تتطلب توفر الوضوح النظري والشخصية السوية نفسياً واجتماعياً، وقدرة على النقد الذاتي، وموضوعية في نقد الآخر بما يتناسب مع الأهداف المتفق عليها ومع المهمات الممكنة التحقيق، زماناً ومكاناً. فصفات النقد أن يكون واعياً، موضوعياً، جريئاً، واضحاً، واقعياً، هادفاً إلى إصلاح الخلل ، بعيداً عن التجريح، مترفعاً عن الغايات الذاتية.
فإذا كانت الصفات الايجابية توفر مناخاً سليماً لممارسة مبدأ النقد، فإن الصفات السلبية تخلق مناخاً معرقلاً ومربكاً وعلاقات داخلية متوترة بين أعضاء الحزب الواحد، إذ في ظل هذه الحالة يأخذ النقد والنقد المضاد منحى تشويه العلاقات الشخصية التي تصل إلى حدود التجريح المتبادل.
استناداً إلى ما سبق، ولأن المواصفات الشخصية النفسية/ الاجتماعية للفرد/ الحزبي تصل إلى درجة من التعقيد لا يمكن علاجها بوصفات جاهزة، قد لا يكفي معها وجود قدر كبير من الوضوح النظري، إذ ذاك يمكن، للتخفيف من سلبيات الجوانب الشخصية، أن تشمل المادة الثقافية، ذات الأهداف التنظيمية، قدراً أو آخر من وسائل المعرفة بعلم النفس الاجتماعي التطبيقي، حيث تسهم هذه الوسائل مترافقة مع العناية والرقابة ذات الأهداف العلاجية من قبل المستويات القيادية أو المؤسسات الحزبية المتخصصة، في التخفيف بقدر كبير من التعقيدات المعيقة للحياة الديمقراطية في داخل الحزب.
فحيث تجد القيادة حاجة، لتعميم الثقافة النفسية الاجتماعية في شتى المستويات، وبخاصة عند القواعد الحزبية، أن تلجأ إلى استحداث مبدأ، تعميم هذه الثقافة ووسائلها التطبيقية كمادة الزامية رديفة للنظرية التنظيمية في المركزية الديمقراطية. وإذا جاءت هذه الثقافة لتصب في دائرة الاهتمام بالجانب الفلسفي/ المعرفي للحرية ببعدها الفلسفي، وبالجانب المعرفي للديمقراطية بمفهومها السياسي/ التنظيمي، يمكن للحزب في مثل هذه الحالة أن يبتعد عن الغرق في مثالية يفترض فيها أن أعضاءه المنتسبين يتميزون بمواصفات غير عادية في النواحي الفكرية النظرية والأخلاقية الثورية والسلوكيات النفسية/ الاجتماعية السوية.

الثالث: محاسبة القيادة في المؤتمرات:
لهذا المبدأ علاقة بكل من الحق الديمقراطي في انتخاب القيادة من جهة وبمبدأ النقد والنقد الذاتي من جهة أخرى.
لسبب من هذه العلاقة يمكننا أن نحصر الكلام حول خصوصيات هذا المبدأ فقط. هذه الخصوصيات لها علاقة في مضامين المحاسبة التي يجب أن لا تقفز فوق ما كان من الممكن أن تنجزه القيادة، في ظرف معيَّن ومكان معيَّن، بقربه عن أهداف الحزب واستراتيجيته أو بعده عنهما، وإلا فقد يتحول النقد إلى مادة للتشهير. وإذا انزلق النقد إلى مستوى غير موضوعي، سوف يتوجس خوفاً، في المستقبل، كل من يرى بنفسه الكفاءة للترشيح إلى موقع قيادي.
فالقيادة في مفهوم الحزب الثوري ليست موقعاً للكسب الخاص، إنما هي تعبير عن إيمانٍ واعٍ بالنظرية المركزية كضرورة وواجب لانتظام حياة الحزب الداخلية، وهي تعبير عن اختيارٍ واعٍ لجماعة مؤمنة بأهداف فكرية هي أهداف أمة بكاملها.
في دائرة هذا المفهوم يأتي الموقع القيادي لكي يحمِّل كل من يصل إليه مسؤوليات وأعباء، منها المنظور ومنها المخفي، مما لا يستطيع أن يتحمَّلها أي إنسان يمتلك مواصفات وإمكانيات وقدرة غير عادية على التحمل والعمل.
فإذا كان مصير الحزب، في تقدمه أو تأخره، ملقىً على عاتق مركزية القرار والإشراف على التنفيذ، فإن المسؤولية في ذلك تتحملها أيضاً مؤسسات الحزب وقياداته الهرمية وقواعده. وأنه بالقدر الذي تتماسك فيه جهود المؤسسة الحزبية، وتتَّحد بكل حلقاتها، يستطيع الحزب بكامله أن يقطف نتائج النجاح ويحصد حقول الفشل.
آخذين بعين الاعتبار التأثير المهم على مسيرة الحزب، نجاحاً أو فشلاً، الذي يحدثه وجود قيادة كفؤة تمتلك القدرة على الرؤية الاستراتيجية الواضحة وعلى التخطيط التكتيكي السليم، كذلك ، قدرتها على خلق تماسك في داخل أجهزة الحزب التنفيذية. لكن إذا حصل خلل ما في إحدى حلقات التسلسل الهرمي فإنه ينعكس سلباً على قدرة الحزب بكامله في الوصول إلى أقرب نقطة من النجاح.
ولكي تبقى محاسبة القيادة، في داخل المؤتمرات، موضوعية وهادفة وفاعلة، وكي لا تكون القيادة مشجباً يعلِّق عليه جميع الذين لم يستطيعوا التحرر من أغراضهم الذاتية، كل اسباب الفشل، يجب أن يُطبَّق هذا المبدأ بشكلٍ هادفٍ وفاعلٍ وموضوعي، ابتداءً من اجتماع الفرقة مروراً بكل المؤتمرات الوسيطة وصولاً إلى أعلى مؤتمر داخل القطر. ولكي تصبح المحاسبة هادفة، على شتى المستويات القيادية أن تُنظِّم تقريراً عاماً شاملاً لكل الأوضاع الحزبية وتقييماً لمستويات الاداء للقاعدة الحزبية والقيادات الوسيطة. فمن هذا التقرير يمكن الانطلاق بالمحاسبة بدءاً من تصحيح أية وقائع أو نتائج. فإذا نوقش التقرير ملياً وأُقِرَّ بصيغته الموضوعية الأخيرة يمكن لمبدأ محاسبة القيادة أن يكون موضوعياً كذلك. هنا، ينصب هذا المبدأ على تقييم مجمل الاداء الحزبي في خلال الفترة التي سبقت انعقاد المؤتمر.
لكن هل يكفي، لحياة ديمقراطية سليمة، أن تنتظر القاعدة الحزبية انعقاد المؤتمر لكي تطبق مبدأ محاسبة القيادة؟
إلى جانب المؤتمرات الحزبية العادية، أقر النظام الداخلي للحزب ضرورة عقد مؤتمرات استثنائية بين دورتين عاديتين تقديراً منه أن الفاصل الزمني بينهما قد يكون طويلاً. وهو يصبح مشكلة أطول إذا لم تنعقد المؤتمرات العادية في مواعيدها، وهذا ما ناقشناه في فصول سابقة، حينذاك تصبح الحياة الديمقراطية في داخل الحزب مشكلة بحد ذاتها.
يأتي النص على عقد مؤتمرات استثنائية، ليس للمحاسبة الشاملة، لأن تنفيذ خطط ما قد لا تكفيه السنوات الفاصلة بين مؤتمرين عاديين، وإنما لتصحيح مسار التنفيذ إذا واجهته عقبات أو أخطاء.
نعتقد أنه لمزيد من الاطمئنان على تنفيذ الخطط الموضوعة يمكن للنظام الداخلي أن يتضمن تشريعات تنظيمية، قد لا تأخذ معنى المحاسبة، لكنها تتضمن المزيد من الحق الديمقراطي لتقييم ما تم تنفيذه.
تأخذ هذه التشريعات وجهها العملي ليس بالدعوة إلى مؤتمرات استثنائية، وهو منصوص عليه في النظام الداخلي، وإنما يطلب من شتى القيادات الدنيا وصولاً إلى مستوى أعضاء اجتماع الفرقة أن يتقدموا بتقارير مكتوبة تتضمن ملاحظاتهم واقتراحاتهم وانتقاداتهم، على أن تُنظم تقارير خاصة على مستوى الفرق، يتم توحيدها على مستوى الشُعب فالفروع... وبالتالي تقوم بدراستها لجنة عليا يشترك في عضويتها ممثلون عن الفروع الحزبية تُوَحَّد فيها خلاصة للملاحظات والاقتراحات والانتقادات وترفقها بملحق للتوصيات. لكن تبقى كل التقارير من شتى المستويات وثائق يمكن للقيادة أو من يشاء منها الاطلاع عليها.
إن اقتراحاً كهذا يبقى بدون مضمون عملي إذا لم يكن منصوصاً عليه ومحدداً بمهل زمنية واضحة، وذلك من أجل أن يحمل معنى الإلزام القابل للتنفيذ من قبل القيادة.

الرابع: خضوع الأقليـــــــة لقرار الأكثريـــــــة:
إذا كان في هذا المبدأ مضامين لصالح المركزية، فإنه في الوقت ذاته يحمل مضموناً ضرورياً يُلزم الأقلية في احترام الحق الديمقراطي للأكثرية. اذن، لهذا المبدأ مضامين ديمقراطية، فنحن معنيون بإلقاء الضوء على هذا الجانب دون غيره في سياق مناقشتنا للمسألة الديمقراطية في حياة الحزب.
إذا مارست الأكثرية حقها الديمقراطي واتخذت قراراتها بناء لقناعاتها فإنه لا يشكل افتئاتاً على الحق الديمقراطي للأقلية، إنما إلزام الأقلية بهذه القرارات يأتي بناء على العقد الرضائي التنظيمي الذي وافق عليه الحزبيون حينما انتسبوا للحزب وأقسموا على احترام أهدافه الفكرية والمحافظة على أصوله التنظيمية.
إن الموافقة الفردية على التنازل عن جزء من الحرية الشخصية لصالح الحرية بمفهومها الاجتماعي/ الحزبي، هي اختيار حر. فالتزام الأقلية برأي الأكثرية والدفاع عنه، إذاً، هو التزام ودفاع عن الاختيار الفردي الحر بحد ذاته.
قد يستمر الالتزام بهذا المبدأ في ظل الظروف العادية لحياة الحزب بغض النظر عن ثغرات قد تظهر هنا أو هناك لأسباب ذاتية شخصية. لكن الالتزام قد لا يستمر على الطريقة ذاتها إذا حالت ظروف ما دون ممارسة الحياة الحزبية العادية.
سواء كانت هذه الظروف قاهرة مانعة من العودة إلى الحياة الحزبية العادية أم لا فإن الضبط والربط للحياة الداخلية في الحزب تتجه إلى مزيد من المركزية خاصة إذا أصاب القيادات المنتخبة مزيد من النزف الداخلي لسبب أو لآخر. ساعتئذ لا يمكن القول إن النظرية التنظيمية في المركزية الديمقراطية تستطيع أن تأخذ بُعدها المنطقي، لإن الوضع التنظيمي في مثل هذه الحالة يتحول إلى نظام رئاسي/ مركزي.
في مثل هذه الظروف، قد تصبح الأكثرية أقلية بالفعل، وهنا تبدأ الإشكالية: هل يبقى مبدأ خضوع الأقلية لرأي الأكثرية صالحاً للعمل به؟
نظرياً، يصبح هذا المبدأ بدون مضمون عملي، ويخرج عن صفته كمبدأ صالح لكل الظروف. ولإعادة الاعتبار إلى مبدأيته، أو في سبيل العمل لأجل استكمال جوانب النقص النظرية فيه يجب الوقوف قليلاً من أجل ذلك.
قد يقول البعض، إن الظروف القاهرة التي قد تكشف عن جوانب الخلل النظرية في هذا المبدأ هي ظروف استثنائية، والاستثناء لا يمكن أن يشكِّل قاعدة أو يطعن بصحة مبدئيتها.
لكن... إذا حاولنا تعريف الظروف التي يناضل الحزب لتحقيق أهدافه في ظلها، لن نستطيع الخروج سوى بنتيجة واحدة، هي أن هذه الظروف قاهرة وصعبة، فالظروف القاهرة والصعبة للحالة النضالية هي قاعدة وليست استثناء، لماذا؟
يواجه الحزب، كما هو معروف، حالتين نضاليتين: حالة النضال الإيجابي وحالة النضال السلبي.
ولأن لهذا المبدأ موقعاً وسطاً بين المركزية وبين الديمقراطية، يمكن العودة إلى بعض وجهات النظر التي قمنا بمعالجتها في مكانها، سابقاً، تحت عنوان الإشكاليات التي مصدرها المركزية.

خاتمــــــة:
أخيراً، وإذا كان المنهج الذي عالجنا فيه مسألة المركزية الديمقراطية قد اختط لنفسه طريق اكتشاف الإشكاليات وليس الإيجابيات ، فلأننا نعتقد أن الإيجابيات، كجانب مهم، قد القيت عليه أضواء كثيرة كاشفة في كثير من أدبيات الحزب، يمكن الرجوع إليها، إذ ذاك يصبح منهجنا مكمِّلاً لما سبقه من مناهج أخرى.
لهذا، وكنتيجة أخيرة يمكن التأكيد عليها بأستمرار، لا بُدَّ من الإشارة إلى أن السلبيات، التي تقف ضد أن تسلك النظرية التنظيمية طريقها السليم، تكون نابعة من السلوكات الذاتية للقياديين في رأس الهرم أو في وسطه وصولاً إلى القواعد الحزبية العاملة.
فالسلوكات السلبية لا يمكن معالجتها بتعزيز الثقافة ومستوى المعرفة فقط، وإنما بتعميق المستوى الأخلاقي الإنساني الثوري، إذ يتفاعل هذان العاملان لاقتلاع أو لتخفيف النزعات الذاتية / الفردية من جهة، وتعزيز مستوى الجرأة الأدبية/ الواعية من جهة أخرى.
فالذي يُسهم في تقوية النزعات الذاتية/ الفردية على المستوى المركزي هو الجنوح الأناني أو الثقة الزائدة بالنفس أو الرغبة في حب السيطرة، ويتولد الضعف الإنساني عند الآخرين من نقص في الثقافة أو عن تعقيدات نفسية/ اجتماعية وما أكثرها في مجتمعاتنا.
فالثقة الزائدة بالنفس عند البعض، وضعفها عند البعض الآخر هما عاملان متوازيان ومتكاملان في انتاج طغيان المركزية وجنوحها نحو الفردية، كما أنهما قد يشكلان معاً عنصر ترهيب ضد المركزية لإضعافها ومنعها من أن تقوم بدورها الموضوعي.
لذلك تشكل عملية التآلف والتكامل بين المركزية والديمقراطية، ضرورة وواجباً، لتأمين حياة حزبية مستقرة ومنتجة بتوفير عاملين موضوعي وذاتي:
- إمتلاكٌ واعٍ للثقافة الفكرية/ التنظيمية.
- وامتلاك لمواصفات أخلاقية/ إنسانية/ ثورية تمنع طغيان الذاتية قوة أو ضعفاً.
***

ملف عن الحزب في لبنان
في معرض تشكيل ملف عن الأحزاب اللبنانية وجَّهت مجلة البيــان، التي تصدر في الإمارات العربية المتحدة، الأسئلة التالية لحزب البعث العربي الاشتراكي

1-لمحة تاريخية عن الحزب: ظروف ما قبل التأسيس، أسباب التأسيس، المؤسس أو المؤسسون، مكان الانطلاقة الأولى، الانتشار: محلياً، عربياً أو عالمياً.
ترافق التفكير في تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي مع محطة تاريخية مفصلية وأساسية في تاريخ الأمة العربية. ففي بداية الثلاثينات من القرن العشرين كانت الأمة العربية تعيش على مفترق طرق مصيري في حياتها. كانت الأمة قد خرجت من كنف الدولة العثمانية بعد سقوطها في الحرب العالمية الأولى.
في المرحلة التركية العثمانية عاشت الأمة تحت وطأة أكثر وقائع الاقتصاد والفكر والاجتماع ظلماً وظلاماً، ولما سقطت الدولة العثمانية انتقلت الأمة العربية إلى مصير مجهول، وخضعت لإرادة القوى الاستعمارية الغربية التي أظهرت مدى تكالبها على اصطياد خيرات الأمة واستغلالها والهيمنة على مقدراتها وإمكانياتها الاقتصادية، فكانت باكورة مظاهر تلك الأهداف تتمظهر من خلال أخطر خريطتين رسمهما الاستعمار الأوروبي، وهما: اتفاقية سايكس – بيكو التي قسمَّت المنطقة إلى أجزاء تمنع عن الأمة وحدتها، ووعد بلفور الذي قضى بإعطاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين. ولأنهما أصبحتا من أكثر الاتفاقيات وضوحاً في عصرنا الراهن، يمكننا أن نتجاوز الكلام عنهما.
كان الفكر القومي العربي يعيش، في تلك المرحلة، في أبراجه النظرية، وفي أوساط النخب، ولم تُرسَم له وسائل التنفيذ. فكان ميشيل عفلق، مؤسس البعث، يعيش أجواء تلك المرحلة: يعرف مشاريع الاستعمار ويعي مدى خطورتها من جهة، وواقع النخب العربية، ومنها واقع المفكرين القوميين، الذين حبسوا أنفسهم في أبراج النظريات ولم ينتقلوا بها إلى واقع النضال من جهة أخرى.
كانت رؤيته لواقع مخططات القوى الخارجية وخطورتها، والتخلف الداخلي وعجزه عن مقاومتها، أكثر المسائل التي أقلقت عقل ووجدان ميشيل عفلق. فكان الحل الذي اهتدى إليه هو أن يسلِّط الإضاءة على خطورة المخططات الخارجية وهيمنتها على مقدرات الأمة العربية من جهة، والعمل من أجل أن يكون للأمة مشروع نضالي لمناهضة تلك المشاريع وإسقاطها من جهة أخرى.
تجلَّت رؤية مؤسس البعث في مسألتين أساسيتين وهما: الوعي النظري للواقع السائد، على أن ينتقل من دائرة النخبة إلى وعي جماهيري عربي، يؤسس للمسألة الثانية وهي خلق جو نضالي يكون حافزاً لأوسع قطاع من الجماهير للانخراط في ورشة نضالية تستفيد من طاقات الأفراد والمجموعات لتصب في دائرة الصراع ضد كل مشاريع الخارج؛ فيكون المشروع القومي الجديد -كما رآه ميشيل عفلق- قد أصاب هدفين في آن واحد، وهما: رؤية نظرية واضحة، ومشروع نضالي يشترك في تنفيذه كل عربي.
أما كيف يمكن الانتقال من النظرية إلى التطبيق؟ هذا ما عفلق إلى تأسيس تجمع من المثقفين القوميين والتبشير بتأسيس حزب مستفيداً من تجارب الأحزاب الحديثة. يستطيع العرب، من خلال ذلك الحزب، أن يستندوا إلى أداة منظمة، التي هي وحدها القادرة على تنظيم وسائل الصراع ضد قوى الاستغلال والنهب الخارجي من جهة، وتكون قادرة على تنظيم صفوفها من أجل قيادة الصراع في وجه قوى الاستغلال والنهب الداخلي من جهة أخرى. وبهذا يكون ميشيل عفلق قد ارتقى بالفكر القومي إلى واقعه العملي النضالي.
على الرغم من أن مرحلة التبشير بالحزب قد استهلكت السنوات الطوال، خاض فيه البعثيون الأوائل تجربة العمل الحزبي المنظم، عقدوا بعد أن أصبحت تجربتهم بمستوى من النضج، في دمشق، مؤتمراً تأسيسياً من 4 -6 نيسان من العام 1947، أعلنوا بعد انتهاء اجتماعاتهم ولادة حزب البعث العربي الاشتراكي في السابع من الشهر ذاته، وكانت شعاراته تتلخص بالوحدة والحرية والاشتراكية.
وبعد إعلان قيام الكيان الصهيوني الغاصب، بدأت ردات الفعل الشعبية الحادة، فكانت الانقلابات العسكرية من مظاهر الاحتجاج. وتتالت الانقلابات العسكرية في سوريا وكان آخرها انقلاب الشيشكلي الذي سقط، في العام 1954م، تحت تأثير الضغط الشعبي الذي قاده حزب البعث. وأسهم الحزب، أيضاً، في صد العدوان الثلاثي على مصر في العام 1956م. وقاد الحزب، عن الجانب السوري، مفاوضات الوحدة مع جمال عبد الناصر، التي تُوِّجت بإعلان الوحدة في العام 1958م. وإيماناً من الحزب بالوحدة قرَّر أن يحلَّ نفسه بناء لما جرى عليه الاتفاق بين القطرين. ونتيجة للتآمر الدولي على دولة الوحدة حصل الانفصال في العام 1961م، فوقف الحزب ضده وضد الذين قاموا به.
واستكمل الحزب سياسته في العمل من أجل الوحدة العربية فكانت من أهم محاولاته، إعلان الاتفاق الوحدوي الثلاثي بين العراق وسوريا ومصر في 17 نيسان من العام 1963م، وميثاق العمل القومي بين القطرين العراقي والسوري في 26-10-1978 .
لن نغوص في الإضاءة على شعارات الحزب، وهي غنية عن التعريف، لأنها أصبحت في مراميها المبدئية والتفصيلية من أسس الثقافة العامة لكل المثقفين العرب.
كان من أهم مميزات حزب البعث العربي الاشتراكي أنه عمل على تحقيق أهدافه الفكرية والسياسية القومية من خلال أطر تنظيمية قومية أيضاً. فهو قد جمع بين الفكر القومي وأداة نضاله التنظيمية؛ فهو حزب قومي بفكره وبتنظيمه أيضاً. والغاية من وراء ذلك، أنه لن يستطيع القيام بمهام قضايا الأمة العربية على المستوى القومي إلاَّ حزب له امتدادات قومية في كل الأقطار العربية. ومن خلاله تُعدُّ قيادة الحزب القومية، التي غالباً ما تضم إليها قياديين من معظم الأقطار العربية، مُوجِّهاً لنشاطات الفروع القطرية؛ وهي تمثل القيادة المركزية التي تلزم بقراراتها كل المنظمات الحزبية القطرية.
استناداً إلى ذلك يكون للحزب امتدادات في معظم الأقطار العربية. وللحزب، في المرحلة الراهنة، قيادة قومية أمينها العام الرئيس صدام حسين، أما أمين سر القيادة القطرية في لبنان فهو الدكتور عبد المجيد الرافعي.

2-أهداف الحزب: المبادئ الفكرية والسياسية (موجزة)، آلية تحقيقها، هل تحققت؟ كيف؟ هل تغيَّرت اليوم عما قبل… لماذا؟ التمويل المادي.
للحزب مبادئ أساسية أعلن عنها في مؤتمرة التأسيسي الأول، تتمثل بالوحدة والحرية والاشتراكية.
أما حول الوحدة، فهي تعبير واضح عن اتجاهات الحزب القومية، فلا قومية عربية بدون الوحدة. فالوحدة هي المضمون السياسي للقومية، ولا معنى للفكر القومي العربي بدون العمل من أجل تحقيق الوحدة العربية. فالوحدة لها أرجحية على الشعارين الآخرين: الحرية والاشتراكية.
إذا تحققت الوحدة فلا بُدَّ لها من تشريعات: ومن أهم التشريعات الأساسية تأتي الحرية بمفاهيمها الإنسانية المطلقة، وبمضمونها الديموقراطي السياسي التطبيقي. أما النظام الاقتصادي المنشود فيعبِّر عنه شعار الاشتراكية. فيكون للفكر القومي ترجمات سياسية يناضل الحزب من أجلها، وهي:
الوحدة أولاً، وتستند إلى الشعور القومي العربي كثابت يُكسب الوحدة مضامينها الفكرية، فالهوية هي قومية، وللقومية مضمون سياسي هي وحدة أقطار الأمة القومية.
أما التشريعات السياسية والاقتصادية للدولة القومية الواحدة فتقوم على أساسين نظريين وهما: الحرية كمضمون فكري فلسفي يجد ترجمة عملية له في النظام الديموقراطي القومي الذي يضمن للمواطنين في دولة الوحدة المساواة المطلقة في الحقوق السياسية. والاشتراكي كمضمون فلسفي يجد ترجمة له في التشريعات الاقتصادية التي تعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية للمواطنين في دولة الوحدة.
ومن المميزات الفكرية الأساسية لحزب البعث الترابط الجدلي بين الوحدة والحرية والاشتراكية، بحيث أنه قل الفكر القومي من المرحلة العاطفية النظرية إلى المرحلة النضالية العملية.
أما آلية تحقيق الشعارات فتستند إلى وسائل النضال المتاحة، والتي تحددها مؤتمرات الحزب القومية ومقررات القيادة القومية. أما إذا كانت لوسائل النضال القطرية خصوصياتها فيأتي دور القيادة القومية ليصوِّب اتجاهات الخصوصيات القطرية بما لا يتعارض مع وسائل النضال على الصعيد القومي. فيكون النضال على الصعيد القومي ذا أثر مهم على صعيد رفد النضال على الصعيد القطري بتصويبات مبدأية قومية من جهة، وعلى صعيد رفد النضالات القطرية بعمق نضالي قومي من جهة أخرى، فيتكامل النضال القطري مع النضال القومي فيعطي كل منهما مناعة مبدئية للآخر، ويرفده بقوة نضالية بشكل مباشر أو غير مباشر.
أما حول السؤال عما إذا كانت الأهداف قد تحققت أم لا؟ فليس على السائل أن يكون مستعجلاً كثيراً لأن تحقيق أهداف الحزب ليست بمثل تلك السهولة والسرعة، سواء من حيث وجود التأثيرات الكبيرة للعوائق الخارجية، أو لتأثيرات العوائق الكبيرة الآتية من الداخل. إن العمل من أجل تحقيق الأهداف تتطلب نضال الأجيال تلو الأجيال، وتستدعي استنفار إمكانيات الأمة بكاملها. ولأن الحزب لا يعيش في أوهام طوباوية لأن التغيير لن يتم بقدرة سحرية بل عبر تواصل الحالات النضالية بحيث يقوم كل جيل بالتقدم خطوة باتجاه التغيير تكون أساساً متيناً يقف عليها الجيل اللاحق، وهكذا دواليك…
ولتوضيح الإجابة أكثر حول هذا السؤال نستبدله بسؤال آخر، وهو: كم حققت الأجيال العربية السابقة من إنجازات على طريق تحقيق الأهداف؟
مع تأكيدنا على أن من طموحاتنا أن نحقق التغيير في أزمنة قياسية، لكن الواقع هو غير ذلك، وعلى الرغم من ذلك، يعتبر حزب البعث أن كل ممارسة نضالية في الأفق القومي هي إنجاز وحدوي، ولذلك تتحقق الوحدة عبر العملية النضالية المستمرة. إن إمكانيات العوائق الخارجية والداخلية كبيرة وكبيرة جداً، وإمكانيات النضال المتاحة ضعيفة. فالمقياس الذي نكيل به مظاهر التغيير هو أن نتساءل: هل حقق النضال العربي عامة، ونضال البعثيين خاصة خطوات ما على صعيد الانتقال من حالة مرفوضة سابقاً إلى حالات أفضل منها؟
على هذا الصعيد نرى، خاصة من موقع النظر الاستراتيجي، أن هناك متغيرات كثيرة حصلت. يكفينا منها أن نقارن بين حالة النضال السابقة، بنوعيتها وكميتها، وبين الحالة النضالية في المرحلة الراهنة. إن مظاهر حركة الصراع في شتى أشكاله تبدو أنها قد حققت قفزات نوعية. ليست تلك القفزات بالبسيطة أو السطحية بل تتميز بالعمق والثبات والفعالية. أو ليست تلك القفزات بارزة على أكثر من ساحة قطرية؟ وهنا نتساءل: أين نضع حالة النضال في لبنان ضد مشاريع الاستعمار والصهيونية؟ وأين نضع حالة المقاومة العراقية في وجه أعتى قوة عسكرية وسياسية إمبريالية؟ وأين نضع حالة النضال المتواصل في فلسطين ضد الكيان الصهيوني كأعتى قوة عسكرية في الشرق الأوسط؟
ليست حالة الركود دليل صحة، بل حالة الحركة النضالية هي دليل الصحة الفعلي. فلا تخشى أننا ندفع خسائر، بل عليك أن تخشى عندما لا تدفعها. فالخسائر هي التضحيات، ومتى اقتنع المناضلون أن من قدرهم أن يبذلوا التضحيات تكون القضية قد سارت على طريقها الصحيح.
بمقارنة الحالة النضالية قبل خمسين سنة بالحالة النضالية في المرحلة الراهنة تنغرس الآمال في نفوسنا أننا قد اقتربنا نحو تحقيق أهدافنا خطوات مهمة وأساسية، وإلى الوقت الذي نمنّي فيه أنفسنا بتحقيق أهدافنا، فإننا نتطلع إلى ما سوف يتمتع به أحفاد أحفادنا من اقتراب أكثر نحو الأهداف الرئيسة.

3-المحطات التاريخيـة: إنقلابات على السلطة، توحد مع حزب أو أحزاب أخرى، إنشقاق عن الحزب، مواقف أخرى: محلياً، عربياً، عالمياً.
بادئ ذي بدء نوضح أن الانقلابية، بمفهوم حزب البعث، لا تعني الانقلابات العسكرية وإنما الانقلاب الجذري والحضاري على كل ما هو فاسد في الوضع العربي.
للحزب تراث تاريخي كبير في الفكر والنضال. ولكي نتمكن من رصدها علينا بمتابعة آلاف بل عشرات الآلاف من الكتب والنشرات والمقررات. وتاريخ الحزب هو تأريخ لمعظم الأقطار العربية. فإذا كان للحزب تأثير في مجرى الحياة الفكرية العربية وفي مجرى السياسة العربية نستطيع أن نؤشر على محطات رئيسة كثيرة قد يكون من أهمها على الصعيد العام ما يلي:
أ-الموقف الفكري القومي والوحدوي الثابت، بحيث حفر فكر الحزب آثاراً عميقة في مجرى واقع الاتجاهات الفكرية لمعظم التيارات الفكرية والسياسية والأحزاب والحركات العربية. ألا يكفي أن تكون شعاراته في الوحدة والحرية والاشتراكية قد أصبحت محور الارتكاز في فكر معظم التيارات الحزبية والحركات السياسية العربية؟ أيمكن لأي تيار حزبي أو سياسي أن يثبَّت أقدامه على الساحة العربية إذا حاول أن يتجاوز تلك الشعارات؟
حاولت أكثر التيارات أن تناضل من أجل شعار واحد أو أكثر من تلك الشعارات، ولكن الذي كان له قصب السبق في التوليف بينها مجتمعة كان لحزب البعث العربي الاشتراكي.
في العام 1952م، حصل اندماج بين حزب البعث والحزب العربي الاشتراكي، فصار اسمه، منذ ذلك التاريخ، حزب البعث العربي الاشتراكي.
تعرَّض حزب البعث العربي الاشتراكي، كسائر الحركات الحزبية والسياسية، لصعوبات تنظيمية جمة، ليس من المفيد أن نحكي عن تفاصيلها، بل يمكن العودة إلى تاريخ الحزب عبر مئات المراجع والمصادر. لكن ما يعنينا أن نقوم بالإضاءة عليه هو أنه من الطبيعي أن تطال المتغيرات الحركات والأحزاب السياسية، فتشهد انشقاقات من هنا أو هناك. لكن من غير الطبيعي أن تدوم حالات الانشقاق في داخل أية حركة ثورية، فالعودة إلى التقييم الموضوعي والتقويم الثوري هو من أهم واجبات تلك الأحزاب والحركات. أما نحن من موقعنا فنرى أن حزب البعث العربي الاشتراكي على الرغم من أنه عانى الكثير في مسيرته التنظيمة يجد نفسه معنياً بإشاعة جو التفاؤل الثوري، لأن أية أزمة لا بُدَّ من أن تجد لها حلولاً. يجد الحزب نفسه مسؤولاً عن أن لا يدع الحالة الشاذة في الحياة الداخلية حالة مستمرة، بل يعمل بشكل جاد وجدي من أجل تقويم ما يحصل في داخله. وما استمرار حزب البعث العربي الاشتراكي لأكثر من نصف قرن إلاَّ دليلاً على حيويته الفكرية والتنظيمية.
ب-دوره الفكري والنضالي والسياسي حول القضية الفلسطينية، ومن أهم أسسها سبقه لوضع قضية فلسطين في قلب القضية القومية من جهة، ووضوح فكره منذ البداية وثباته على موقفه من تحليله لواقع وأهداف الاستعمار والصهيونية من جهة أخرى. أما الجانب العملي حول تلك القضية، فما عليك إلاَّ أن تعود إلى مصادر الحزب لترى كم هي قضية فلسطين مهمة في فكر الحزب ونضاله. لا بُدَّ من أن ترى –مثلاً- كم يولي العراق، الآن، قضية فلسطين من الاهتمام. فهو يعدُّها قضية العراق الأساسية من حيث الدعم المالي والإعلامي والسياسي والنضالي.
ج-أممت دولة الحزب في العراق النفط في العام 1972م، وكان ذلك ترجمة صادقة لنضال الحزب الاشتراكي، وجعل الشعب مالكاً لثروته القومية.
د-خاضت دولة الحزب في العراق حربين: الأولى في حماية الحدود الشرقية للأمة العربية بما عُرفت ب«قادسية صدام». أما الثانية فكانت «أم المعارك» التي قام، من خلالها، بفعل التحدي للإرادة الاستعمارية والصهيونية. واستمر في موقفه الرافض للسياسة والمشاريع الأميركية على الرغم من كل أنواع الحصار التي لم تستح بأنها فرضت التجويع على شعب العراق، وما زالت مستمرة. استمرت في المقابل معركة التحدي العراقي بما أثار إعجاب ودهشة كل الذين كانوا يراهنون على تراجع العراق في معركته تحت ذريعة أنه لن يستطيع الصمود في وجه الآلة الحربية والسياسية الأميركية، فأصبح مثار ذهول وإعجاب الجميع بمن فيهم أخصامه.
هـ-يعمل نظام الحزب في العراق بشكل دؤوب لا يعتوره الكلل من أجل تضامن عربي حقيقي في شتى مجالات الأمن القومي العربي، بما فيها الوقوف في وجه الهجمة الإمبريالية والصهيونية المتواصلة؛ أو في مجال التعاون الاقتصادي بين الأقطار العربية، أو التنسيق مع شتى الحركات السياسية والحزبية والقوى القومية من أجل استنهاض مختلف الإمكانيات القومية والإقليمية والدولية للاستفادة منها في معركة مقاومة الاستعمار والصهيونية.

4-الحزب والحرب اللبنانية: شارك في الحرب أم لا، لماذا؟ فإذا شارك: أين تدرَّبت عناصره؟ ولماذا؟ مكان التدريب.
لا بُدَّ من تبديل بعض المصطلحات في السؤال: لم يشارك الحزب في حرب اسمها «الحرب اللبنانية»، بل خاض معركة دفاعية عن «المقاومة الفلسطينية». وكان سلاحه جاهزاً للتسليم إلى الدولة اللبنانية متى انتهت الهجمة الداخلية عليها.
أما ما كان ذا علاقة مع مهمة حماية حدود لبنان من اعتداءات العدو الصهيوني، فالمسألة كانت مختلفة جداً. كان الحزب، في لبنان، يعمل من أجل توجيه كل البنادق ضد العدو الصهيوني، وتستطيع أن تسمِّيها ما شئت: نضالاً أو مقاومة أو حرباً، لأن موقف الحزب من الكيان الصهيوني يصح أن نسميه حرب وجود لا حرب حدود.
ففي الوقت الذي كان فيه الحزب منخرطاً بكل إمكانياته في معركة الدفاع عن المقاومة الفلسطينية في الداخل، كان يبني –من خلال خطوة نوعية ومبدئية- أول تجربة لبنانية لمقاومة العدو الصهيوني في قرى لبنان الجنوبي.
يعود بناء البواكير الأولى لتلك التجربة إلى أواخر الستينات من القرن العشرين. وقد أثمرت تلك التجربة النضالية الأولى في (1-1-1975 ). في ذلك التاريخ كانت تجربة الحزب في قرية الطيبة الحدودية قد نضجت، السبب الذي استرعى اهتمام العدو الصهيوني فأراد أن يئِد تلك التجربة في مهدها، قبل أن تستفحل وتصبح أنموذجاً يتم تعميمه. قامت قوات «كوماندوس» بتسلل ليلي نحو مكان وجود مجموعة من المجموعات التي تمَّ تأهيلها لذلك الغرض، فحصل اشتباك بين قوات العدو وتلك المجموعة سقط ثلاثة منها شهداء، وهم الشهيد على شرف الدين وولداه. لا بُدَّ من الإشارة إلى أن تلك التجربة قد سبقت الانفجار الداخلي في لبنان بسنوات أما المعركة فقد سبقته بأشهر. وتوالت اعتداءات الصهاينة لتدمير تجارب الحزب التي بناها في أكثر من قرية، فكان الاعتداء الصهيوني الثاني على بلدة كفركلا الحدودية في تموز / يوليو من العام 1975 م، تبعها تسلل آخر في 27 تشرين الثاني / نوفمبر من العام 1975 م، فسقط الشهيد عبد الأمير حلاوي المسؤول الرئيس عن بناء تلك التجارب.
بعد أن أنشأ العدو الصهيوني ما كان يُسمَّى –سابقاً- الشريط الحدودي في العام 1976 م، تابع الحزب نضاله في القتال ضده. وانتقل دور الحزب في القتال ضد العدو بشكل مباشر بعد احتلاله الواسع للأراضي اللبنانية في العام 1982 م. سقط في تلك العمليات للحزب عشرات الشهداء خاضوا مواجهات مباشرة ضد العدو في داخل الأراضي اللبنانية المحتلة. بالإضافة إلى ذلك حاول الحزب أن يلعب دوراً جبهوياً لتوحيد الفصائل المقاتلة، وصاغ من أجل ذلك مشروعاً جبهوياً لم يجد التجاوب من تلك الفصائل إلاَّ بشكل محدود وموضعي. كان من أهم الأهداف من وراء الدعوة إلى العمل الجبهوي تحقيق مسألتين: الأولى منع التشرذم الفئوي، والتسابق الإعلامي بين شتى الفصائل من جهة، وتجميع الطاقات والإمكانيات من خلال عمل مقاوم موحَّد يصبح أكثر فعالية من جهة أخرى.
إن حفظ حقوق الرواد في تجربة المقاومة الوطنية اللبنانية هو واجب وطني قبل أن يكون واجباً حزبياً. ونحن نحاول من خلال استذكار تلك الوقائع أن نصحح ما يحصل من تصارع فئوي حول مكاسب فئوية كنا نتمنى أن يعمل الجميع، وكلهم دفعوا أثماناً من حياة مناضليهم، على صياغة تاريخ موضوعي للمقاومة الوطنية اللبنانية.

5-وضع الحزب بعد الطائف: المشاركة السياسية (نيابة، وزارة، بلديات، طلاب، جمعيات أهلية… غير ذلك).
بعد اتفاق الطائف لم تجدد وزارة الداخلية في لبنان ترخيص الحزب، بل عدَّته حزباً غير مرخص. ولن نعود إلى تحديد الأسباب لأن مردها ليس قراراً داخلياً لبنانياً، بل لعبت عوامل أخرى دوراً في ذلك، وكانت له علاقة وثيقة بالتجاذبات الإقليمية، والموقف من المقاومة الفلسطينية.
أما قبل الطائف فقد كان الحزب ممثَّلاً في المجلس النيابي اللبناني بالدكتور عبد المجيد الرافعي، أمين سر القيادة القطرية في لبنان. ولم يتسنَّ له، بعد اتفاق الطائف، أن يترشَّح للانتخابات النيابية في العام 1992 م، لعدة أسباب، ومنها: وجوده خارج لبنان لأسباب أمنية، وأيضاً لعدم تجديد الترخيص للحزب لممارسة نشاطه، فضلاً عن الظروف السياسية المحيطة بوضع الحزب.
6-نشاط الحزب الحالي: هل استمر الحزب بالزخم المتوقَّع أم انكفأ؟ ولماذا؟ (الظروف مهيَّأة لاستنهاض الأحزاب).
لا نشاط للحزب حالياً لأنه غير مرخصِّ له.
7-الصراعات: مع الأحزاب إذا وُجِدت، مع السلطة، صراعات داخلية… لماذا؟ كيف حصلت؟ نتائجها وكيف؟ (رأي الحزب بمعارضته الداخلية).
إذا كان من غير المفيد أن نستذكر ما يثير الجراح وينكأها، فهذا لا يلغي أن يضع الحزب يده على أسباب عدد من الصراعات التي جرَّت الحزب إلى موقع الدفاع عن وجوده على الساحة اللبنانية. كان من أهم أسباب ما نطلق عليه «الصراعات الهامشية» تداخل المصالح الإقليمية في لبنان، ونرى أنه ليس من الغريب أن يكون الحزب مُستهدَفاً من قبل الأجهزة الاستعمارية والصهيونية، لكن المُستغرَب في الأمر أن تتوجَّه السهام إليه من الذين كانوا منخرطين في معركة الصراع مع تلك الأجهزة.
لا ننكر أن للحزب أهدافاً قومية وهي تعبِّر عن طبيعة تكوينه الفكري والتنظيمي. كان التداخل الفكري والتنظيمي لمنظمة الحزب في لبنان مع عمقه القومي في العراق أثر مهم في تعرُّضه لاستهدافات بعض القوى الحزبية والشعبية في لبنان ذات التداخلات مع أعماق إقليمية وقطرية أخرى.
لا ننكر ما كان من أثر سلبي لتلك الصراعات الجانبية على مجمل مسيرة الحركة القومية والوطنية الثورية في لبنان، فنبتت من جرائها على جوانب تلك الحركة جملة من الافتراقات والآثار السلبية، بحيث أضعفت من زخم الصراع مع القوى المعادية الأساسية. نقول هنا إن كثيراً من الوقت والدم والجهد ضاع من رصيد الإمكانيات التي كان من المفروض أن ترفد الصراع الأساسي، فكاد أن ينحرف إلى أهداف ثانوية لم يستفد منها كل المنخرطين، عن وعي أو من دون وعي، في سلسلة الصراعات الثانوية المفتعلة تلك.
لحزب البعث آفاقه الفكرية القومية والإنسانية لذلك عمل جاهداً في سبيل الخروج من متاهة تلك الصراعات. أما الدرس الذي خرج به من خلال تقييمه لتلك الصراعات فهو دعوته الموجهَّة إلى جميع القوى، سواء كانت لبنانية قطرية أم ذات اتجاهات قومية أم ذات أعماق إقليمية، بنداء المسؤولية التاريخية التي تدعوهم لأن يعوا أن معركة البقاء ضد الامبريالية الأميركية والصهيونية تفرض على كل القوى أن يبتعدوا عن كل صراع فئوي لأنه سوف يكون على حساب الصراع مع العدو الأساسي. يتطلَّب ذلك الصراع لمَّ الشمل القطري والقومي والإقليمي لتقوية صفوف الجبهة المعادية للأمبريالية.
فإن كنا نحجم عن تسمية الأشياء بأسمائها فهو دليل حرص شديد ومصداقية أخلاقية تتميز بحس المسؤولية على شتى مستوياتها، ونخلص بدعوة كل تلك الأطراف، على الرغم من جروح الماضي، إلى الالتفاف الجبهوي الصادق الاستراتيجي للتفرغ من أجل مواجهة جدية لقوى الشر والعدوان القادمة من الخارج، تلك القوى التي لا تميّز بين أهداف هذه القوة أو تلك لأن الكل مُستهدَفون. إن ما نراه اليوم من حركة تتجه نحو حد أدنى من التضامن على المستوى القطري اللبناني والقومي العربي والإقليمي، على الرغم من بطئها، هي حركة باتجاه الخط الصحيح، وهي بداية سليمة على الجميع التقاطها وتعميقها في سبيل المزيد من التلاحم الجبهوي، ذلك التلاحم الذي يحفظ للجميع مصالحهم وأدوارهم في ساحة النضال التي تستوعب طاقات الجميع وإمكاناتهم.

8-الحزب والديموقراطية: مؤتمرات، تعيين، …، الآلية). عدد المؤتمرات وتواريخها… تسمية المسؤول الأول، والقيادة إذا أمكن ذلك.
خصص الحزب لمسألة الحرية مكانها في أهدافه الأساسية الثلاثة (الوحدة والحرية والاشتراكية)، وله فلسفته في الحرية أكَّد عليها في بنائه الفكري وأعطاها حيزاً مهماً في مؤتمراته على شتى مستوياتها القطرية والقومية. ولأن للحزب تراث فكري عمَّقه، ولا يزال، من خلال جهود مفكريه ومن خلال كتاباته ومقررات مؤتمراته، يمكن العودة إلى مصادرها الأساسية وهي كثيرة ومتفرعة وموزعة على الكثير من المراجع المنشورة.
فعلى المستوى العملي التنظيمي يستند الحزب في حياته الداخلية إلى نظام داخلي تلتزم به التنظيمات القطرية، وليس لكل منظمة قطرية نظام داخلي خاص بها، فهي موحَّدة الرؤى التنظيمية كترجمة لرؤى الحزب القومية على شتى الصُعُد، ويستند إليه تنظيم العلاقة بين القيادة القومية المركزية وبين التنظيمات القطرية، وبهذا يتميز حزب البعث العربي الاشتراكي عن سائر أحزاب الحركة العربية الثورية في أنه ترجم فكره القومي إلى واقع تنظيمي قومي من خلال نظامه الداخلي الموحد وبقيادته القومية التي تُلزم بقراراتها التنظيمية والسياسية والفكرية سائر المنظمات القطرية.
أما على صعيد الممارسة الداخلية للحزب فقد قرَّر النظام الداخلي للحزب عقد مؤتمرات دورية تتمثَّل فيها كل المنظمات القطرية مهما بلغ حجمها. تقدَّم القيادة القومية للمؤتمر تقاريرها حول شتى الشؤون القومية على شتى الصعد، ويتم مناقشتها في «المؤتمر القومي»، وبعد أن ينتهي المؤتمر من مناقشة التقارير المعروضة عليه وإقرارها بموافقة الأكثرية عليها يقوم المؤتمر بانتخاب قيادة قومية عن طريق الاقتراع السري، وقد بلغ –حتى الآن- عدد المؤتمرات القومية إثني عشر مؤتمراً نُشِرت نصوصها ويمكن الحصول عليها من المكتبات العامة والخاصة.
أما على المستوى القطري فتلتزم المنظمات القطرية بالنظام الداخلي الموحد، وتطبق الديموقراطية في حياتها الداخلية من خلال عقد مؤتمرات دورية تبدأ من أصغر خلية حزبية وصولاً إلى أعلى مؤتمر وهو المؤتمر القطري، وأعضاؤه يمثلون شتى المنظمات الحزبية في القطر. أما آلية انعقاد المؤتمر فهي ذاتها التي تُطبَّق على الصعيد القومي، من حيث مناقشة التقارير التي تعالج شتى شؤون القطر أو من حيث انتخاب قيادة قطرية تشرف على قيادة القطر، وترتبط مع القيادة القومية بشكل دوري ومستمر. تلعب الأقطار دورها في ما له علاقة بالساحة القومية بحيث ترفع المؤتمرات القطرية توصياتها حول ما له علاقة بالساحة القومية إلى المؤتمر القومي، أو إلى القيادة القومية بين مؤتمرين قوميين.
لا بُدَّ، هنا، من الإشارة إلى أن للقيادة القومية الحق بتعليق النظام الداخلي كله أو أي جزء منه ترى أنه يساعد المنظمات القطرية على اجتياز مراحل تستدعيها الظروف الاستثنائية، ولا يمكن أن يُطبق هذا التعليق إلاَّ بعد تقديم أسباب معلَّلة. هنا لا يمكن إلاَّ القول بأنه يمكن اللجوء إلى تعيين بعض القيادات من دون عقد مؤتمرات قد تحول ظروف قاهرة دون انعقادها.
بلغت المؤتمرات القطرية في لبنان أربعة عشر مؤتمراً، وفي آخر مؤتمر لها انتخبت قيادة قطرية كان الدكتور عبد المجيد الرافعي أميناً لسرها، وما زال حتى الآن يشغل هذا الموقع بالإضافة إلى كونه عضواً في القيادة القومية.
يمكن للمهتم أن يتابع مضامين المؤتمرات القومية من خلال كتاب ضمَّ كل وقائعها ومقرراتها، ونُشرت في مجلد واحد في العام 2002 م. صدرت طبعات أخرى عن دار الطليعة في بيروت تحت سلسلة «نضال البعث»، ضمَّنت بعض أعدادها مواد وافية عن المؤتمرات التسع الأولى.
أما حول مؤتمرات الحزب القطرية في لبنان، فنُشرت وقائع المؤتمرات الإثني عشر الأولى في سلسلة نضال البعث الصادرة عن دار الطليعة في بيروت.

9-رأي الحزب بالمسائل التالية:
أ-بالديموقراطية، وهل يمارسها؟ إذا كان الجواب نعم، كيف؟
أعتقد أن ما جاء في الجواب عن سؤال سابق ما يغني عن الجواب هنا. أما إذا قرأنا ما خلف السؤال، والسؤال الصحفي يرمي دائماً إلى الفضولية في المعرفة؛ وهو غالباً ما يريد أن يبتعد الجواب عن التعميم، لأن الصحفي يهتم بالحصول على تفصيلات.
عرضنا في الجواب السابق للإطار النظري الذي يعمل الحزب على هديه في التطبيق العملي. أما هل يتطابق النظر مع التطبيق، فهذه مسألة أخرى، وهو الأساس الذي يستند إليه الفضول الصحفي. نحن نرى أن بين التطبيق والنظرية مساحة يجب الاهتمام لتستوفي شروطها، تلك الشروط هي التي تملأ الفراغ. تلك المساحة تتطلب شروطاً يجب توفرها، ومن أهمها: أن يتوفر العضو الحزبي القاعدي الذي يفهم النظرية الديموقراطية ويستطيع أن يطبقها من جانب، ووجود القيادي المؤهل نظرياً وعملياً لتطبيق النظرية ومراقبة عوائق تطبيقها وتوجيهها في سبيل إزالة ما يعيق التطبيق العملي. فهل تلك الشروط متوفرة عند الأحزاب التي تعمل على أساس النظرية؟
لن نكون طوباويين، فنحن من خلال تجربتنا نعمل على توفير شروط الحد الأدنى لمقاربة النظرية من التطبيق، ولكن لم تتوفر –حتى الآن- الشروط الواقعية والعملية لتيسير تطبيق النظرية الديمواقراطية بأفضل ما يمكن الحصول عليه. إن التطبيق الديموقراطي ما زال يعاني من ثغرات، لكن هذا لا يمنع من أن بذل الجهد والمحاولات لتأمين الوصول إلى تطبيق أفضل هي مهمة أساسية في حياة الحزب الداخلية. ونحن نرمي من وراء بذل الجهد هو بناء الإنسان الديموقراطي كشرط لازم وضروري لبناء المجتمع العربي الديموقراطي الموحَّد.
فالعلاقة بين الملتزم الحزبي والمسألة الديموقراطية عملية بناء ثقافي وتربوي مستمرة يبذل الحزب جهده لتأمين أفضل الشروط الضرورية لبناء علاقة سليمة بين النظرية والتطبيق.

ب-بالجامعة العربية… الوحدة العربية… ولماذا؟
كحزب قومي نرى في شتى المؤسسات القومية حالة صالحة للتطوير. واستناداً إلى الواقع نجد أن بناء مؤسسات قومية، على شكليتها، أفضل من لا شيء. والارتقاء من الشكلية إلى التأثير العملي بنسبة أو أخرى هو أفضل من الشكلية بالدرجة، ونحن لا نتوهم بأنه يمكننا أن نبني المؤسسات القومية على المقياس الأمثل، لأن النضال من أجل التغيير هي حالة مستمرة ومتواصلة تتطلب الصبر والمتابعة بشكل دؤوب. فجامعة الدول العربية، كمؤسسة قومية، لم تبق ثابتة منذ تأسيسها، فهي قد حققت من المشاريع النظرية الشيء الكثير، أما المشاريع العملية فقامت بمهمات لا بأس بها، بحيث أن ما حققته، وإن لم يكن على مستوى الطموح المنشود فهذا لا يلغي قيمة ما حققته، فهو ليس بالشيء الذي يمكننا أن نتجاهله. ونحن نحدد موقفنا المبدئي من أن وجودها مسألة مقبولة، أما حول قيامها بوظائفها فمسألة أخرى، لأن طموحنا لا يكتمل إلاَّ بإنجاز دولة الوحدة.
أما الموقف من الوحدة العربية، فنعتقد أننا قدمنا موقفنا بما فيه الكفاية من الوضوح في أجوبتنا السابقة. لكن ما نود أن نضيفه في هذا المجال هو تبيان للدور المهم الذي قام به الحزب، تاريخياً، من خطوات ونضالات. بذل الحزب جهوداً كبيرة وصادقة في سبيل قيام دولة الوحدة بين القطرين سوريا ومصر في العام 1958 م، ولا ننسى أيضاً الميثاق الوحدوي الذي وُقِّع في 17 نيسان أبريل من العام 1963 م بين الأقطار الثلاثة: العراق وسوريا ومصر. وإذا ما راجعنا محاضر اجتماعات القمم العربية لوجدنا الإصرار الدؤوب الذي كان الحزب يعمل فيه من أجل طرح مشاريع وحدوية على شتى الصعد السياسية والأمنية والدفاعية والثقافية والاقتصادية.
لم يكن الحزب، فيما له علاقة بالوحدة، مجرد حركة سياسية حزبية بل كان من العاملين من خلال أنظمته السياسية في سبيل الحصول على ما يمكن من مشاريع تصب في سلسلة الأعمال التمهيدية التي تصب في صالح العمل الوحدوي العربي.
أما لماذا يقف الحزب في ساحات التنظير والعمل من أجل الوحدة السياسية أو من أجل إنجاح المؤسسات القومية على شتى المستويات فهو إيمانه بالنظرية القومية العربية كهاد نظري فكرياً وسياسياً واقتصادياً…

ج-بالاحتلال الإسرائيلي، والقضية الفلسطينية، والوجود الفلسطيني في لبنان، ولماذا؟
للحزب، أساساً، نظرية قومية يعمل على هديها في سبيل تحقيق الوحدة القومية. فاستناداً إلى نظريته تلك يعتبر أن العمل من أجل كل قضية وطنية هو تمهيد من أجل الوصول إلى الوحدة القومية. وللحزب موقف خاص ومتميز من المسألة الفلسطينية، فهو منذ تأسيسه أعطى للقضية الفلسطينية بعداً خاصاً ومتميزاً، وعدَّ تلك القضية مسألة قومية قبل كل شيء، لأن الوجود الصهيوني في فلسطين كان وسيلة للسيطرة الإمبريالية على المنطقة العربية برمَّتها. فعندما أعطى وعد بلفور، في العام 1916م، اليهود حقاً ببناء وطن قومي في فلسطين، كان القصد منه الحيلولة دون قيام كيان عربي وحدوي، لذا جاء وعد بلفور مترافقاً وصنواً أساسياً لاتفاقية سايكس بيكو؛ فهما وعد واتفاقية يستهدفان منع الوحدة القومية العربية. فللارتباط الوثيق بين قضية فلسطين مع قضية الوحدة العربية أعطى الحزب لقضية فلسطين موقعاً خاصاً ومتميزاً في فكره وفي نضاله.
لم تكن قضية فلسطين في يوم ما في فكر الحزب ونضاله إلاَّ القلب من القضايا القومية، فمن خلال تحرير فلسطين تستفيد الأمة العربية من مسألتين في غاية الأهمية، وهما: إزالة أهم العوائق التي تحول دون وحدة الأقطار العربية من جانب، والقضاء على مركزية الاستعمار باني أسس الكيان الصهيوني في فلسطين من جانب آخر.
فالأرجحية التي يعطيها الحزب لقضية فلسطين هي أرجحية مطلقة، لأن من يريد أن يكافح الخطر الصهيوني فعليه أن يكافحه انطلاقاً من أرضية الموقف من القضية الفلسطينية باعتبارها قضية ذات بُعدٍ قومي شامل، والذي يرى أن من واجبه أن يناهض الاستعمار فسوف يكون نضاله من دون جدوى إذا لم ينازله على الساحة الفلسطينية التي تشكِّل خط التماس الأساسي بين الأمة العربية والقوى المعادية.
ولأن الحزب يعطي أرجحية للنضال القومي على الساحة الفلسطينية فهو ينظر إلى كل القضايا المتفرعة بعين الاهتمام، ومن أهم القضايا نظرته إلى الوجود الفلسطيني في لبنان. فالوجود الفلسطيني في لبنان هو وجود قومي يتم النظر إليه من خلال منع التفريط بالقضية الفلسطينية، سواء بالاعتراف بحق الفلسطينيين بالنضال من أية ساحة قطرية عربية ومنها الساحة اللبنانية، أو من خلال الحؤول دون توطين الفلسطينيين في أية ساحة عربية، ومنها الساحة اللبنانية، فإعطاء الفلسطينيين حقاً بالتوطين، في لبنان أو في غيره من الأقطار العربية، هو مؤامرة لسلبهم هويتهم الوطنية الفلسطينية، وهذا يعني موتاً للقضية. وفي مواجهة الادِّعاء أنه ليس على لبنان أن يتحمل لوحده وزر القضية الفلسطينية، نرى من منطلق قومي أن ليس للفلسطينيين حق أساسي في دعم العرب ومساندتهم فحسب، بل من حقهم عليهم أن يشاركوهم النضال بشتى الوسائل والأساليب، فقضية فلسطين –كما يرى الحزب- تعني كل العرب بالمقدار الذي يعنيهم مقاومة العدو الصهيوني من جهة ومقاومة الاستعمار العالمي من جهة أخرى.
إذا كان المبدأ واضحاً فتأتي التفصيلات العملية لتتناسب مع الموقف المبدئي. لقد تميَّز الحزب، منذ العام 1948م، في موقفه النظري والعملي من قضية فلسطين. في حينها شارك البعثيون، قيادات وقواعد، الفلسطينيين في قتال الصهاينة انطلاقاً من إيمانهم بأن الحكومات العربية العربية عاجزة عن التحرير، وإن فلسطين لن يحررها إلاَّ الكفاح الشعبي المسلح. شارك الحزب في شتى وسائل النضال من أجل فلسطين، فانخرط في كل المعارك جنباً إلى جنب الفلسطينيين، بدءًا من أول انطلاقة للثورة الفلسطينية في العام 1965 م، مروراً ببناء أول تجربة شعبية لمقاومة العدو الصهيوني في جنوب لبنان، حتى قبل أن يقدم على احتلال أية أرض لبنانية، وصولاً إلى مواقف نظام الحزب في العراق في المرحلة الراهنة وهي التي تتميز بحرارتها ووعيها لمخاطر الاعتداء الإمبريالي الواسع ضد أكثر من ساحة قطرية.

د-بالتيارات الدينية (إسلامية، مسيحية) ولماذا؟
على الرغم من أن الحزب لم يضع تصوراً متكاملاً لنظام قومي علماني، وعلى الرغم من أنه يعطي للدين دوراً روحياً متميزاً في حياته الفكرية، إلاَّ أنه يعارض قيام أنظمة دينية. وموقفه هذا قائم على أن الأنظمة الدينية لن تستطيع أن تحقق وحدة المجتمع والدولة القومية.
يرى حزب البعث العربي الاشتراكي أن الحركات السياسية الإسلامية والمسيحية تعمل على تفتيت وحدة المجتمعات لأنه لديها مسلَّماتها ونصوصها المقدَّسة التي تتعارض وتتناقض مع مسلَّمات الأديان الأخرى ومقدَّساتها. وغالباً ما تكون تلك الحركات على ارتباط مع جهات وقوى دولية ذات أغراض وأوطار تتنافى مع مصالح الدول القومية، فانتماءات الحركات السياسية الدينية لا تشعر بالولاء لدولها القومية بل هناك ما يشدُّها إلى التنسيق والتحالف مع دول تنتسب إلى الدين أو المذهب الذي تدين به تلك الحركات، وهذا ما يجعل من أهدافها الدينية أو المذهبية معبراً تنتقل عليه الأطماع الخارجية إلى التأثير على سياسات الدول الأخرى.
لا يعني هذا أن الحزب يقف الموقف السلبي المطلق من تلك الحركات، بل يعمل من أجل أن يتعاون معها على ما يحقق مصالح الأمة العربية، سواء في معارك الصراع ضد القوى الأجنبية المعادية، أو من خلال العمل على توثيق الروابط القومية بين أبناء الأمة العربية التي يعتقد الحزب أنها تشكل الرابطة الوحيدة بين كل أبناء الدولة القومية.
فلا عداوات دائمة مع الحركات السياسية الدينية ولا صداقات دائمة بل إن العامل الوحيد الذي يدفع تلك العلاقة إلى السلبية أو الإيجابية هو مدى فائدة ذلك التعاون ومدى انعكاسه على مصلحة الأمة العربية، سواء على الصعيد الداخلي من حيث الاعتراف بالمساواة المطلقة بحقوق المواطنية وواجباتها، أو من حيث وقوف تلك الحركات في مواقع الدفاع عن الدولة القومية بمعناها الحديث والمعاصر.

هـ-بالنظام السياسي اللبناني، (قبل الطائف وبعده). وكيف يراه في المستقبل؟
للحزب موقف قومي عام من كل الأنظمة القطرية، فهو لا يقر الاتجاهات القطرية بل ينشد الوحدة القومية، ويكون موقفه من أي نظام قطري متناسباً مع المدى الذي يتفهَّم فيه هذا النظام القطري أو ذاك القضايا القومية العامة والأساسية؛ وللحزب موقف خاص من النظام اللبناني، كنظام يستند إلى أسس الطائفية السياسية.
يرى حزب البعث العربي الاشتراكي أن النظام اللبناني مرَّ في العديد من المتغيرات تجاه القضايا القومية العربية الأساسية. وكمثال حول ذلك، رفض الحزب سياسة عهد الرئيس كميل شمعون في أثناء مرحلة الخمسينات عندما انحاز إلى جانب حلف بغداد الأميركي الأهداف، وشارك في قيادة انتفاضة العام 1958م ضد عهد الرئيس شمعون؛ ووقف، أيضاً، ضد المخطط الذي كان النظام اللبناني يشارك فيه من أجل منع الفلسطينيين عن ممارسة حقهم في استرداد أرضهم الوطنية انطلاقاً من الأرض اللبنانية. كما كان الحزب يدعو لفتح الحدود العربية الأخرى أمامهم من أجل استكمال الطوق المقاوم ضد العدو الصهيوني. ولكن الحزب لم يستطع إلاَّ أن يبدي تأييده وتثمينه للموقف الأخير للنظام اللبناني عندما احتضن العمل المقاوم وقام بمساعدته بشكل جدي وملموس.
فموقف الحزب من النظام اللبناني مرتبط بموقف النظام من القضايا القومية، فيكون سلبياً تجاه أية سلبية تصدر عن النظام، ويكون إيجابياً تجاه أية إيجابية تظهر عنه.
أما فيما له علاقة بالطائفية السياسية فيقف الحزب موقفاً رافضاً لها ويرى أنها من أهم سلبيات النظام اللبناني. للطائفية السياسية سلبياتها الكثيرة فهي تغلِّب الانتماء للطائفة على الانتماء الوطني. يرى الحزب أن المواطن اللبناني يرتبط بالولاء للوطن بالمقدار الذي يعترف له بحقوقه بدون النظر إلى انتمائه الطائفي أو الديني. إن النخب السياسية عند الطوائف تكون المستفيد الأساسي من توزيع الحقوق على القاعدة الطائفية، ومن هذه الدائرة تسيطر النخب على أبناء طوائفها تحت ذريعة الدفاع عن حقوقهم. أما الحزب فيعمل من أجل نظام تُحدَّد فيه الحقوق والواجبات من الزوايا الوطنية وليس من زواياها المذهبية.
وما لا يقبل الجدل في موقف الحزب هو العمل من اجل إصلاحات داخلية لها علاقة بالحركة المطلبية على الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
لم يتغير موقف الحزب من النظام اللبناني، قبل الطائف أو بعده، بحيث أن الاتفاقات ليست هي المكيال الذي يستند إليه موقف الحزب، بل إن المكيال الذي يستخدمه هو المدى الذي يعمل فيه النظام فعلاً من زاوية المصالح القومية العربية أولاً، أما ثانياً، فمن زاوية التشريعات ومدى قربها أو بعدها عن تأمين حقوق كل المواطنين اللبنانيين، ومنهم بشكل خاص الطبقات الفقيرة والعمالية والفلاحية…
أما كيف يرى الحزب تطور أوضاع النظام اللبناني في المستقبل فهو أن أي تغيير يمكن أن يحدث لا يمكن أن يشكل تغييراً أساسياً إذا بقي أسيراً للتجاذبات السياسية الطائفية. فلا يمكن لمتغيرات جذرية أن تحصل إذا لم يتم تغيير أسس الانتماء إلى وطن، وليس إلى دولة تعترف بأسس الانتماء إلى طوائف. ولأن اتفاق الطائف قام على أسس طائفية سياسية فهو لن يلبي موجبات التغيير، فاتفاق الطائف قام على أسس تسوية داخلية فرضتها مصالح القوى العربية والدولية والإقليمية ذات المصالح والأغراض على الأرض اللبنانية، بما فيها وضع المقاومة الفلسطينية.
على العموم، يعمل الحزب في لبنان على تعميق الوعي الشعبي بانتهاج الأساليب الديموقراطية كوسيلة من وسائل التغيير.
ح-بالأحزاب الأخرى، وهل يلتقي معها؟ مع من ولماذا؟
ليس للحزب أي موقف سلبي من العمل مع شتى الأحزاب اللبنانية. أما دوافع اللقاء والحوار مع الجميع وبدون أي استثناء هو مدى وجود شعارات أو مشاريع تتلاقى مع أهدافه.
أما حول الأهداف والمشاريع والشعارات فقد يلتقي الحزب مع هذا أو ذاك من الأحزاب حول هذا المشروع أو ذاك. فهو يقر مبدأ التنسيق حول أهداف محدودة ومرحلية أو حول أهداف أكثر شمولية واستراتيجية. فالأهداف هي المقياس الذي على أساسه يعمل الحزب على التحالف مع الأحزاب اللبنانية.
وإذا كان الحزب يرحِّب بأن تكون الأهداف المتفق عليها ذات اهتمام قومي، فإن له أيضاً أهداف وطنية ذات خصوصية قطرية. فإمكانية اللقاء يمكنها أن تبتدئ بقضية مطلبية على صعيد القرية وتنتهي على صعيد اللقاء حول أية قضية قومية كبرى.
في السبعينات كان لأحزاب الحركة الوطنية اللبنانية تجربة تحالف جبهوي تحت شعار الدفاع عن الثورة الفلسطينية وحمايتها، وشملت في مرحلة من المراحل مشروع إصلاح سياسي مطلبي. لم يتسنَّ لتلك التجربة أن تأخذ أبعادها لأنها وُئدت قبل أن تكتمل، وإذا لم يتسع المجال لتقييمها الآن فإنها جديرة بالتقييم على الرغم من أنها أصبحت في ذمة التاريخ، وهذا لا يمنع على الإطلاق من دراستها بجدية لاستخلاص الدروس للمستقبل. إن دراسة تجربة كهذه لها أهميتها بشكل خاص في هذه المرحلة بالذات، وهي المرحلة التي تعيش فيها الأحزاب اللبنانية أزمة حادة تستدعي مراجعة نقدية شاملة يدرس كل حزب تجربته وعوامل أزمته الخاصة بحيث تؤدي إلى مدخل أساسي ورئيس هو دراسة الأزمة العامة التي تعاني منها الحركة الحزبية اللبنانية بشكل خاص، وأزمة حركة الثورة العربية بشكل عام.

ط-الاقتصادي: (الاشتراكي… الرأسمالي).
من خلال رؤيته للواقع الاجتماعي العربي من خلال سيادة الواقع الطبقي حسم الحزب خياراته في تحديد النظام الاقتصادي إلى جانب النظام الاشتراكي. فالاشتراكية هي الفلسفة الاقتصادية التي رأى الحزب أنها تحقق العدالة الاجتماعية بين طبقات الشعب العربي، لهذا نجد أن الاشتراكية هي إحدى شعارات الحزب الرئيسة (وحدة، حرية، اشتراكية).
صاغ الحزب موقفه من النظام الاقتصادي المنشود للدولة القومية في دستوره منذ العام 1947م، وربط بين شعاراته الثلاث إذ اعتقد بأنها مترابطة متلازمة. يُعد التقدم على صعيد أحدها تقدماً على صعيد الشعار الآخر، وكدلالة نظرية حول ذلك، يرى الحزب ما يلي:
-يرفض الرأسمالية لأنها تخدم مصالح فئة محدودة من فئات الشعب. فهي تلجأ إلى إجبار كل فئات المجتمع العربي من أجل خدمة مصالحها، ولا تتورَّع عن ممارسة كل أنواع استغلال جهد الطبقات الفلاحية والعمالية وسائر الطبقات الفقيرة الأخرى.
-يرفض الرأسمالية لما لها من أهداف استعمارية على الصعيد العالمي؛ وهو يرى أن وجهة الصراع الحالية بين الأمة العربية والاستعمار العالمي هي معركة بين سلطة الرأسمال العالمي ومصالح شعوب الدول النامية ويأتي على رأسها المنطقة العربية.
-يربط الحزب بين مصالح الرأسمالية العربية وبين مصلحة الرأسمال الاستعماري العالمي، يعتقد بأن تحالف رأس المال العربي مع رأس المال العالمي موجَّه أساساً ضد مصالح الطبقات الفقيرة العربية.
-يعتقد الحزب بأن للطبقتين الرأسماليتين العربية والعالمية مصلحة في منع الوحدة القومية على قاعدة وحدة فكرية أولاً ووحدة سياسية واقتصادية ثانياً.
-يرى الحزب أن العمل من أجل الوحدة العربية يصب أساساً في مصلحة الطبقات الفقيرة، ولن يكون صادقاً في النضال من أجلها سوى تلك الطبقات في المجتمع العربي.
-يرى الحزب أن النضال من أجل الوحدة العربية هو نضال ضد الاستعمار الخارجي وحلفائه الطبقيين العرب، فيكتسب النضال الوحدوي العربي أهميته من أنه يعبِر بصراحة ووضوح عن مصالح الطبقات الفقيرة من جانب، ويتنافى مع مصالح الطبقات الغنية من إقطاع ورأسمال.
-كان من مواقف الحزب الرئيسة هي ربط النضال الوحدوي القومي مع النضال الاجتماعي، فكان أول حزب قومي يربط ربطاً جدلياً وواقعياً بين النضالين القومي السياسي والنضال الاجتماعي، وإن مراجعة نقدية لفكر الأحزاب الأممية حول هذا الجانب يؤكد بوضوح أهمية هذا الربط في فكر الحزب منذ بداية تأسيسه.
-يرى الحزب أنه يمكن تحقيق بعض الانجازات الاشتراكية إذا حالت بعض الظروف دون إنجاز الوحدة، وتبدو تلك الإمكانية واضحة من خلال توجه دولة الحزب في القطر العراقي إلى الإسهام في تأسيس عدد من البُنى الصناعية في عدة أقطار عربية كمصر والسودان واليمن…
ولكن الحزب يرى أن الاشتراكية، بمعناها الشامل، يمكن إنجازها بإقامة دولة الوحدة، حيث تتراكم فيها الرساميل لتكون أكثر قدرة على البدء في مرحلة التصنيع الثقيل من جهة، ولتكون السوق العربية سوقاً استهلاكياً لمنتجات المصانع العربية. فلا اشتراكية بدون بناء صناعات ثقيلة، ولا معنى عملي لصناعات ثقيلة بدون تراكم للرأسمال العربي، ولا معنى لتخفيض أسعار السلع من دون إنتاج ضخم، ولا معنى لإنتاج ضخم من دون وجود سوق استهلاكية.
فالشرط الأساسي للتحول نحو النظام الاشتراكي هو العمل الوحدوي العربي، فكل من ينادي بالنظام الاشتراكي عليه أن يناضل من أجل تحقيق الوحدة العربية.

ي-العولمة… منظمة التجارة العالمية… الشراكة الأوروبية… رؤية مغايرة…
بالنسبة للعولمة لا بُدَّ من أن نميِّز بين مستويين منها: الإيجابي الذي يهدف إلى بناء علاقات إنسانية سليمة بين الحضارات البشرية، وهذه ذات علاقة بنشر الإيديولوجية الفكرية العميقة الصلة بالقيم والمُثُل الإنسانية العليا. أما في جانبها السلبي فتظهر من خلال أهدافها الاستعمارية وهي استغلال الاقتصاد الامبريالي لاقتصاديات الدول الأخرى والهيمنة عليها. فالعولمة، كما هي ظاهرة في عصرنا الراهن، ذات علاقة وثيقة بالنظام الرأسمالي العالمي.
يتسم موقف الحزب من الأولى بالإيجابية لما لهذا المصطلح من مضامين إنسانية، فالقومية العربية، كما يفهمها حزب البعث العربي الاشتراكي ويعمل من أجلها، هي ذات اتجاهات وثوابت إنسانية، وقد ثبَّت دستور الحزب وأدبياته ومقررات مؤتمراته تلك المضامين. فإذا انفصلت القومية العربية عن عمقها الإنساني تتقوقع باتجاه التعصب المنغلق تجاه كل ما عداها من القوميات وبذلك تكون فاقدة لذلك العمق.
أما مضامين العولمة باتجاهاتها الراهنة فهي تنطلق من مشروع اقتصادي وثقافي استعماري يعمل من أجل إلحاق كل اقتصاديات العالم به، لتعمل من أجل خدمته. وما مظاهر ومشاريع التكتلات الاقتصادية الحالية، كمثل صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية… سوى وسائل يستخدمها الاستعمار من أجل إلحاق اقتصاديات الدول بالاقتصاد الرأسمالي.
ولما أصبحت وسائل الاتصال والمواصلات واسعة بين دول العالم قاطبة،
ولما أصبح التبادل الاقتصادي العالمي ضرورة لاقتصاديات كل الدول، ومنها اقتصاديات الأمة العربية،
ولما أصبح إخطبوط الشركات العابرة للقارات، وهي شركات قائمة على توحيد إمكانيات دول رأسمال الغرب، قادراً على إخضاع إمكانيات الدول الصغيرة،
أصبح من غير الممكن على العالم العربي أن لا ينخرط في الاقتصاد العالمي، لكنه من الممكن أن يعمل من أجل أن يدرأ هيمنة العولمة الاقتصادية عن نفسه. يواجه العالم العربي صعوبتين في غاية من الأهمية وهما: إما أن يخضع لقوة الاقتصاد الرأسمالي الغربي فيعمل من أجل خدمته، وإما أن يدخل بوابة العولمة من باب تجميع وحدوي لعناصر الاقتصاد العربي فيستطيع الصمود ويحول دون أن يكون تابعاً وخادماً لمصالح الاقتصاد الاستعماري.
يعمل الحزب من أجل إحباط المشاريع الاقتصادية والسياسية والثقافية المعادية بالدعوة إلى بناء مشاريع أخرى تصب في مصلحة الأمة العربية أولاً، وأن تكون تلك المشاريع بالمستوى الذي ينافس المشاريع المعادية ثانياً. فإذا كان المطلوب من الحزب أن يقاوم العولمة بأهدافها ووسائلها الاستعمارية الرأسمالية، فعليه أن يدعو إلى تأسيس مشاريع عربية تكون منافساً حقيقياً للمشاريع المعادية.
لأن العولمة السائدة هي ذات استهدافات استغلالية واحتكارية على الصعيد الاقتصادي فما هو المانع الذي يحول دون العرب والعمل في سبيل تأسيس بُنى اقتصادية عربية من خلال توحيد الطاقات الاقتصادية العربية؟ ففي مواجهة آلة التصنيع الاستعماري على العرب أن يعملوا، على سبيل المثال، لكي يكون لديهم آلة تصنيع عربية، وفي وجه منظمة التجارة العالمية التي تسيطر عليها دول الرأسمال الغربي أن يكون للأمة العربية منظمة تجارة عربية.
لن يكون التأخير في تأسيس بنى للدفاع الاقتصادي العربي الإيجابي في مصلحة الأمة العربية مجتمعة، كما لن يكون في مصلحة كل قطر عربي على حدة. فالوقت الضائع ليس في مصلحة الأمة، والسبب أن موجة العولمة ومنظمة التجارة العالمية تعمل على قدم وساق في إخضاع اقتصاديات الأقطار العربية وتكبيلها في قيود يصبح من الصعب أن تحاول الخلاص منها بسهولة.
كل عام ينقضي من عمر الأمة بدون أن تعمل من أجل الدفاع الإيجابي عن مصالحها في مواجهة المؤسسات الرأسمالية الاستعمارية يزيد من شدة القيد على حركة الأقطار العربية.
وما الحركة ذات الأبعاد الاقتصادية التي تقوم بها دولة الحزب في العراق إلاَّ خطوة في الاتجاه الصحيح، فعلينا أن نكون حريصين على إنجاح ما تحقق من اتفاقات على طريق تعميقها وتطويرها وطرق أبواب أخرى تصب في اتجاهات الدفاع الاقتصادية الإيجابية.

ك-العلمنة: تعريفها، ولماذ؟ وكيف تتحقق؟
لم تكن العلمنة في يوم ما وصفة طبية جاهزة وصالحة لكل أنواع الأمراض. وإذا كانت العلمنة كما يفهما البعض أنها تقود نحو الإلحاد فالحزب يرفضها، لأنها سوف تكون حينذاك متناقضة مع عمقها الديموقراطي الذي لا بُدَّ من أنه يقدِّس حرية الاعتقاد. أما الحزب فلا يعتقد بأن العلمنة هي ذات أبعاد إلحادية. فلو عدنا إلى الأسباب التي دفعت الفكر الغربي إلى التأسيس لعلمنة النظام السياسي الغربي لوجدنا، تأصيلاً للأسباب، أن اتجاهات العلمنة جاءت كردة فعل ضد تسلط الكنيسة الأوروبية على شؤون البشر في الدنيا والآخرة. فكانت مضامين الدعوة إلى العلمنة ذات أبعاد أساسية وهي فصل شؤون الدين عن شؤون الدنيا، لماذا؟
لقد فرضت الكنيسة سيطرتها تحت ستار الإدَّعاء بأنها تحكم بإرادة من الله. فمارست الظلم والاضطهاد والاستغلال الاقتصادي تحت عباءة تلك الإرادة، فما كان أمام المؤمنين بالمسيحية من البسطاء إلاَّ أن يأتمروا بل أن يؤمنوا ويصدقوا ما كانت الكنيسة تنسبه لنفسها.
كان الفضل للعقل الغربي في الكشف عن زيف ذلك الادعاء فجهد من أجل تعميم تلك الثقافة. أخذ العقل الغربي من الكنيسة، بعد عدة قرون، ما ادَّعته لنفسها من حق إلهي في الاستيلاء على السلطة الزمنية. لم يكن يعني منع الكنيسة من مزاولة سلطة الشؤون الزمنية على الإطلاق إحلال عقائد الإلحاد مكان العقائد الإيمانية المسيحية، وهذا ما سُمِّيَ فصل الدين عن الدولة، فأبقى المبدأ العلماني سلطات الإيمان الديني وتهذيب الأخلاق والعبادات من صلاحيات الكنيسة.
فإذا كان هذا التفسير للعلمانية هو الواقعي فإن حزب البعث لا يخرج من خلال مراجعة أدبياته ونصوصه القومية والقطرية ودستوره إلاَّ مؤيداً لهذا التعريف.
دعا الحزب إلى نبذ الإلحاد وأعطى للدين مكانته الروحية التي يستحقها، والتي بدونها لا يتحقق الأمن النفسي للإنسان فيما له علاقة بشؤون ما بعد الموت. أوضح الحزب من جانب آخر أنه لا يعمل من أجل بناء دولة دينية، لأن التشريعات الدينية لا تصلح للحكم في الدولة القومية، ولهذا يدعو في نصوص دستوره إلى صياغة قوانين وتشريعات تحفظ حقوق مواطني الدولة القومية وواجباتهم على قاعدة المساواة المطلقة بينهم من دون النظر إلى معتقداتهم الدينية.
لم يضع الحزب –حتى الآن- تعريفاً نهائياً للعلمانية يُعرف بأنه تعريف خاص بحزب البعث؛ وعلى الرغم من ذلك، وبالعودة إلى نصوصه نستلخص عدداً من المبادئ والتوجيهات التي تصلح لأن تؤسس لمفهوم العلمانية كما يراها. فالحزب، من خلال تمييزه بين وظائف الإيمان الديني ووظائف الدولة الزمنية، خطا خطوة واضحة على طريق وضع تعريف للمفهوم العلماني الذي يعتقد أنه صالح للتطبيق في الدولة القومية العربية.

10-صفة الحزب: لبناني، قومي، أممي، ديني، لماذا؟ وكيف يؤكد ذلك؟
إن صفة حزب البعث العربي الاشتراكي قومية تناضل على الصعيد القطري اللبناني بمنظار قومي عربي يعمل من أجل الوحدة العربية. وإن العودة إلى بعض مضامين الإجابات السابقة يعطي صورة واضحة للإجابة حول هذا السؤال.
وتقبلوا فائق الاحترام
لبنان في 12 تموز / يوليو 2002م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق