بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 22 يناير 2010

مقالات العام 2006 (3)

(27): المشهد العراقي في شهر أيلول 2006
سقوط الاحتلال العسكري يكتمل بسقوطه السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي

إذا كان من قبيل التكرار أن نسرد عوامل سقوط مشروع الاحتلال الأميركي، ومظاهر إسقاط استراتيجية «المحافظين الأميركيين الجدد» من داخل المجتمع الأميركي نفسه، إلاَّ أننا نرى أن عوامل سقوطه الأساسية أصبحت أكثر وضوحاً على الساحة العراقية في هذه المرحلة أكثر من أي وقت آخر. ولهذا سنتناول بالتحليل سقوطه السياسي والاجتماعي على أرض العراق.
بعد سقوطه العسكري: الاحتلال الأميركي يسقط سياسياً
الاحتلال الأميركي في عجلة من أمره بعد أن قطع المسافة التي حددتها له الأسرة الدولية في تطبيق آخر بنود القرار 1546، أي بعد أن تمخَّضت محاولاته عن ولادة فأر سياسي، وهو حجم «حكومة نوري المالكي» الفعلي. وإن العجلة التي يعالج الاحتلال الأميركي مآزقه على نارها ذات علاقة باستحقاقين: الاستحقاق الدولي الذي سهَّل له الخلاص من صفة «الاحتلال» ليعفي إدارة جورج بوش من تبعات مسؤولية الاحتلال حسب نصوص القانون الدولي، أما الاستحقاق الآخر فله علاقة بمصير إدارة «القرن الأميركي الجديد» الذي ستحسمه الانتخابات التشريعية في تشرين الثاني القادم.
فبالنسبة للاستحقاق الأول، أصبحت إدارة جورج بوش وجهاً لوجه أمام الإلحاح غير المنظور لمنظومة الدول الرأسمالية التي أخذ صبرها ينفد خاصة وأنها ساعدت الاحتلال الأميركي طمعاً بحصة لها في كعكة العراق، وقد انتهت الفرصة النظرية المعطاة له، والاحتلال لم يحقق شيئاً يُذكر في مجال استتباب الأمن الذي يعتبر العامل الوحيد الذي يسمح لرأسمال الشركات بالدخول إلى العراق من أجل الاستثمار.
لقد بلغ نفاد الصبر عند تلك الدول درجة لم تمنع جاك شيراك، الرئيس الفرنسي، من إعلان وجوب جدولة الانسحاب الأميركي من العراق. وهو إن لم يحظ بكثير من اهتمام الإعلام لأن الإدارة الأميركية ربما قد ضغطت من أجل التعتيم على ذلك التصريح بسبب ما يجره من إشكاليات ومشاكل في وجه إدارة جورج بوش إلاَّ أنه يعبِّر عن الاتجاهات الرئيسية التي ستكون مدار جدال بين أميركا وأوروبا لاحقاً. وسيان كان الأمر، فالواقع أن فرنسا وغيرها من الدول التي مانعت العدوان الأميركي منحت تلك الإدارة فرصة لعلها خلالها تستطيع ترتيب أمرها في العراق بما يسمح بعدها باستعادة المبادرة ووضعها بين يدي الأمم المتحدة، أي بترتيب دور للدول الأخرى في العراق كضمان لمصالحها فيه.
لقد أخذ الاحتلال فرصته كاملة بذل فيها أقصى جهوده لإنجاح عملية التزوير في تركيب إدارة سياسية عراقية من جهة واستخدام كل وسائل الإرهاب والوحشية للسيطرة على المقاومة العراقية من جهة أخرى، ولكنها لم تنجح في هذه ولا في تلك.
وفي المقابل، بدلاً من أن تقوم حكومة المالكي بسد بعض منافذ عجز الاحتلال فقد أضافت إلى أعبائه عبئاً آخر في مجاليْ تشكيل حكومة كان يحلم بأنها ستكون صافية الولاء له، وعلى أساس ولائها يتم تسليم أمن العراق لقواتها العميلة، إلاَّ أنه تواجه بأطماع شريكه النظام الإيراني، الذي كان «شاطراً» باستغلال المآزق الأميركية، فحصل على حصة مهمة في مقاعد الحكومة العميلة وقراراتها. وعلى قاعدة الخديعة التي مارسها الاحتلال الأميركي مع النظام الإيراني عندما أشركه في احتلال العراق بإعطائه حصة فيه مضمراً أن تكون الاستفادة الإيرانية منها تحت مراقبته وإشرافه، فقد خدعه النظام الإيراني أيضاً عندما طمع بأن تكون حصته تحت سيطرته الإيرانية الكاملة يتصرف بها كما يشاء. أي خدع كل منهما الآخر، ووضع صاحبه أمام مأزقه الخاص. وهذا السبب سيجر تداعيات سلبية أخرى أدَّت، وتؤدي، إلى إضعاف موقعيهما معاً في المستقبل المنظور.
في مثل هذه الحالة التي لم يستطع الاحتلال الأميركي أن يفرض فيها سيطرته العسكرية بشكل مباشر، وفشل في الإمساك بها بالواسطة، تتلخص مظاهر سقوطه السياسي.
الاحتلال الأميركي يسقط اجتماعياً واقتصادياً وأخلاقياً
لعلَّ في الصورة اليومية التي تنقلها بعض وسائل الإعلام، على قلَّتها، ما يغني عن استشراف الاحتمالات السلبية، لأن صورة الوضع في العراق أكثر من مأساوية في شتى جوانب حياة المواطنين المعيشية والأمنية، هذا عدا عن الإيغال في استفزاز مشاعر المواطنين من خلال المسِّ بكراماتهم وأعراضهم.
يمارس كل من الاحتلال الأميركي، والتدخل الإيراني، أسلوب إخضاع الشارع العراقي بقمعه وإهانته لعلَّ تلك الأساليب تخيفه فتُدجِّنه وتُسلس قيادته، وهي لا تخرج عن كونها أساليب من الفاشية تتناسب مع الإيديولوجيا الأميركية التي تقوم على احتقار الشعوب الأخرى واستغلالها لأنها ما خُلقت إلاَّ لخدمة «السيد الأميركي الأبيض»، كما تتناسب مع الإيديولوجيا السياسية الدينية، كاستراتيجية إيرانية، تستند إلى إخضاع كل الإيديولوجيات الأخرى أو استغلالها من أجل «مشروع إلهي» يزعم النظام الإيراني أنه مكلَّفٌ «إلهياً» بالجهاد من أجله.
راح سلوك الإيديولوجيتين، على الصعيدين الفكري والتنفيذي، يستخدم كل الوسائل المتاحة، ومنها القتل على الهوية، على نطاق واسع. ومع أن لكل منهما أدواته وأجهزته المستقلة عن الأخرى، إلاَّ أنهما غالباً ما يقومان بتنفيذ تلك الاستراتيجية بحملات عسكرية وأمنية مشتركة، وتضم إلى قوات الاحتلال الأميركي كل أجهزة السلطة العميلة القمعية، من جيش وشرطة وقوات أمن خاصة (وهي ترتبط بشكل وثيق مع الأجهزة السياسية والأمنية الإيرانية)، بحيث تكون نتائج كل حملة القبض على مئات من العراقيين، وخطف البعض الآخر، وتصفية للعشرات منهم يومياً.
لم تستطع استراتيجية القتل والخطف، حسب الطريقة الأميركية وعملائها وحلفائها، أن تزرع الخوف وأن ترهب العراقيين، وإنما العكس هو الذي حصل ويحصل، وتظهر من خلال اتساع رقعة الرفض الشعبي التي تتفاعل وتزداد حدة بشكل متصاعد مع تصاعد حدة المشكلات الأمنية والمعيشية.
إن ما تشكو منه القوى القادمة من خارج العراق، ممن جمعتهم وحدة المصالح في ذبح العراق وتفتيته وتدميره، هو عجزها عن احتواء الشعب العراقي. وهل يمكن احتواء شعب انتُهكت سيادته وكرامته وعرضه ولقمة عيشه وأمنه، وطالت حياة أطفاله ونسائه؟
في مقابل السقوط الأميركي تحصد المقاومة العراقية زخماً عسكرياً وشعبياً
في قياس الموازنة بين ثنائية «الاحتلال والمقاومة» تأتي حقيقة علمية ومنطقية تدل على أنه كلما ضعف أحد طرفيْ المعادلة يقوى الطرف الآخر. أو أنه كلما عجز طرف منهما عن تحقيق أهدافه تتصدر قوة الطرف الآخر قيادة الساحة والإمساك بها.
لقد أفلس مشروع الاحتلال الأميركي عندما عجز عن الإمساك بأمن العراق، وبالتالي أفلس مشروعه الاقتصادي لأنه لم يستطع أن يوفِّر الأمن العسكري الذي يحميه، ولأنه لم يستطع أن يوفر له الأمن السياسي الذي يغطيه.
تلقائياً انتقلت كرة القوة إلى مشروع المقاومة الوطنية العراقية، وقد أصبحت أكثر وضوحاً في هذه المرحلة أكثر من أية مرحلة أخرى. فقياساً إلى ما نسميه مراحل على المقاومة الوطنية أن تجتازها، فقد حقَّقت المقاومة الآن إجماعاً شعبياً في مناطق، وأخذت تظهر بوضوح في مناطق أخرى كان ممنوعاً ظهورها بالضغط على الإرادة الشعبية بإرهابها أو ممارسة التضليل على قطاعات واسعة منها. وإلى ذلك حققت المقاومة قفزات عسكرية نوعية في أدائها.
1-على الصعيد العسكري:
من حيث الكم، فقد استقر عدد العمليات العسكرية عند سقف شبه ثابت. وهذه الحقيقة تؤكد أن المقاومة لم تفقد من زخمها شيئاً على الرغم من أن مئات العمليات العسكرية الوحشية قد شنَّتها قوات الاحتلال الأميركي، مدعومة بإمكانيات النظام الإيراني، ضد معاقل المقاومة. فهذا يقودنا إلى أن عمل المقاومة العراقية لم يتأثر ولم يُصب بانتكاسة.
وفي المقابل، فقد أخذت وقائع الوضع العسكري للاحتلال تميل إلى انخفاض واضح في أدائها بفعل أكثر من عامل وضغط.
إن هذا الواقع الراهن يقودنا إلى حقيقة لا تخضع للجدل، هي أنه في معركة عض الأصابع أخذ طرف الاحتلال يصرخ، وصراخه يعلو في الشارع الأميركي وفي أروقة البنتاغون والبيت الأبيض ووزارة الخارجية وفي أروقة الكونغرس ومجلس الشيوخ، وكلها تقود إلى نتيجة محققة تحمل عنوان «الخروج من العراق»، الآن قبل الغد، أي أنه على التاجر الشاطر أن يوقف الخسارة إذا لم يستطع أن يحد منها.
كما أن وقائع الأمور تدل، بناء على بيانات تصدر تؤكد استكمال جهوزية ما وضعته المقاومة الوطنية العراقية في منهجها الاستراتيجي، وهو تشكيل «جيش تحرير العراق». وقد صدر عن «القيادة العامة للقوات المسلحة المجاهدة» بيان يعلن هذا الاستكمال، ويعلن أن تبدأ عملية التحرير بدءاً بخطة تحرير العاصمة بغداد، التي أُعدَّ لها أربعة أرتال.
2-على الصعيد الشعبي:
إن مقدمات عجز الاحتلال الأميركي في العراق عن توفير الحماية الأمنية والاجتماعية والمعيشية لشعب العراق، كما تنص الأنظمة الدولية التي تلزم الاحتلال بتوفيرها، لا بدَّ من أن تسبِّب عاملاً إضافياً من عوامل النقمة والاستياء، ودافعاً من أجل الانخراط في صف المقاومة، أو في حدها الأدنى تأييدها والالتفاف حولها ودعمها بشتى الوسائل والسبُل.
منذ أكثر من عامين لمَّحت التقارير الصادرة عن مؤسسات إدارة جورج بوش إلى تصاعد التأييد الشعبي العراقي للمقاومة العراقية، وحذَّرت من تزايد وتيرته. وهي تعلم من دون أدنى شك، أن المحيط الشعبي يشكل الرئة الأساسية التي تتنفس منها المقاومة. وقد يكون من أجل هذا السبب أن قوة الاحتلال بدلاً من أن تهتم بحماية الشعب معيشياً وأمنياً راحت تشنُّ أقذر عمليات الإرهاب ضده. وكلما تصاعدت تلك العمليات كان التأييد الشعبي للمقاومة يزداد، فليس أمام العراقي ما يخسره، وهو قد خسر كل شيء. ومن اللافت أن أطفال العراق قد مهروا بمقاومة الاحتلال الأميركي بواسطة الحجارة. وتشير التقارير إلى أن هؤلاء الأطفال المدربين يساعدون في جر القوات الأميركية إلى كمائن تنصبها المقاومة العراقية. وقد تكاثرت هذه الظاهرة، بالإضافة للرمادي، في شوارع بغداد كتحدٍّ لخطة «نوري المالكي» الأمنية التي أُطلق عليها اسم «معاً إلى الأمام».
بالإضافة إلى تلك العوامل فقد لعبت مسرحية محاكمة الرئيس صدام حسين ورفاقه دوراً إضافياً ونوعياً في تعزيز دوافع نقمة العراقيين، والسبب أن بعض الشعب العراقي الذي لم يكتشف أهميته كرمز أثناء وجوده في السلطة، كما لم يكتشف أهمية الروح الثورية التي تميِّز رفاقه، قد لمسها بشكل جيد ونوعي من خلال مقاومتهم الاحتلال وعملائه وأذنابه من على منبر «المحكمة» المذكورة. ومن خلال مقارنتهم، منفردين ومتحدين، بما يفعله عملاء الاحتلال وخدمه وحشمه بالشعب العراقي، بحيث تأكد أنهم مجموعة من الخونة واللصوص الذين قلبوا مفهوم الدولة ومركزيتها وحولوها إلى زعماء تقود جماعات من المليشيات التي كل همها أن تمعن سرقة من ثروة العراق وإجراماً بأرواح العراقيين ودمهم.
وكان من اللافت أيضاً هو البرقية التي نشرتها جريدة الواشنطن بوست الأميركية، رفعها أكثر من ثلاثماية من زعماء العشائر العراقية يطلبون فيها الإفراج عن الرئيس صدام حسين، الرئيس الشرعي للعراق، لأنه ليس هناك شخصاً غيره أو قوة تعيد للعراق وحدته. ومن بعدها تلاحقت البرقيات المماثلة التي يتواصل إعلانها يومياً وهي موقَّعة من تجمعات عشائرية وقوى سياسية وشخصيات معنوية عراقية. وقد امتدت هذه الظاهرة إلى العشائر العربية فأعلنت عشائر من المغرب والأردن موقفها الداعي للغرض ذاته.
كما أصبح الحزام الشعبي المحيط بالمقاومة أشد تماسكاً وأكثر إفصاحاً عن نفسه عبر مجموعة من رجال الدين الوطنيين في جنوب العراق. تلك المجموعة لم تخف موقفها بل أعلنته في أكثر من مناسبة، وقد ساوت في رفضها الاحتلال الأميركي مع التواجد الإيراني بكل أشكاله وألوانه، وإذا كان هذا يعبِّر عن شيء فإنما يدل بما لا يقبل الشك في أن العراقي يفتخر بانتمائه إلى عروبته. وما مظاهر الالتصاق والاستقواء بالوجود الإيراني في العراق، بدعم من النظام الإيراني، إلاَّ بدعة ابتكرها بعض النخب من رجال الدين والسياسة والاقتصاد من العراقيين المنتفعين، خاصة وأنهم ضللوا في بداية الاحتلال قطاعات واسعة من أصحاب النوايا الحسنة بأن انحيازهم لمذهبهم سيجلب لهم الخير والمنفعة. وقد ساد الاعتقاد أحياناً أن للتواجد الإيراني عمقاً شعبياً في جنوب العراق إلاَّ أن مظاهر تصاعد الرفض سواءٌ أكان على مستوى المرجعيات الدينية أم على مستوى شارع الجنوب دلَّ بوضوح على أن التواجد الإيراني هو وجود هشٌّ يستقوي بالمظاهر الميليشياوية والمخابراتية وعوامل الإغراء المالية. وإنما الإشارات التي أخذت تتراكم في الآونة الأخيرة تؤكد أن مواقف الأقلية الميليشاوية معزولة، وأنها شوَّهت الانتماء الحقيقي للعراقيين وأظهرته على غير حقيقته.
وقد أسهم في هذا الاعتقاد هو أن الميليشيات الطائفية المذهبية، كحزب الدعوة و«فيلق بدر» والمجلس الأعلى لما يُسمى الثورة الإسلامية في العراق، أعفت الاحتلال الأميركي من مهمة ملاحقة البعثيين والوطنيين والقوميين في جنوب العراق إذ نابت عنه في اغتيالهم وتهجيرهم من مناطقهم. أما الآن وبعد انكشاف الغطاء عن حقيقة أهداف تلك الميليشيات، وبعد تصاعد حدة الرفض الشعبي، أخذت تتنامى أصوات الذين تم اقتلاعهم من مناطقهم، وأخذت أصوات بنادق المقاومة بالتنامي تدريجياً في أكثر من مدينة جنوبية تلاحق الاحتلال وتضيَّق الخناق عليه بعد أن بدت تلك المناطق أكثر أمناً لقواته. وقد شهدت أكثر من مدينة حالات هروب للقوات البريطانية إلى ملاذات تعتبرها أكثر امناً لها.
فهل تكون المرحلة القادمة بداية للمرحلة الأخيرة من مراحل عمل المقاومة الوطنية العراقية، وهي مرحلة التحرير الكامل؟
يكفي أن نشير إلى أن ظروفها قد أصبحت ناضجة ومكتملة. وما لدينا إلاَّ أن نقف بقلوبنا إلى جانب الأبطال الميامين، رجال المقاومة الوطنية العراقية، بشتى فصائلها وتشكيلاتها، وعلى رأسها القوات المسلحة العراقية البطلة التي لم تخذل الشعب العراقي، والشعب العربي، في القيام بواجبها.
وما دعمنا بالدعاء إلاَّ أضعف الإيمان، وحبذا لو كان الدعم أكثر من ذلك لكان أفضل وأدسم وأكثر فائدة وتأثيراً.


(28): المقاومة الوطنية العراقية تركِّب لمعاقي الأنظمة الرسمية أرجلاً
8/ 10/ 2006
بالمقدار الذي شعرنا فيه أن زيارة كوندوليزا رايس إلى العراق تضيف إلى ذُلِّنا ذُلاًّ، فقد قرأنا في حركتها وفي تصريحاتها الذّلَ الذي تعاني منه إدارة جورج بوش بعد أن مرَّغت المقاومة الوطنية العراقية أنفها في رمال الصحراء.
لم تتسلَّل كوندوليزا إلى العراق، مرتدية الدرع الواقي من الرصاص، إلاَّ أحد أهم مظاهر الخوف من زنود المقاومين الأبطال، وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل عما آلت إليه حال الإمبراطورية التي أرعبت العالم، وأرعبت قلوب المعاقين في النظام العربي الرسمي. فهي تنزل على أية أرض عربية مختالة تأمر وتنهي، ولكن ما أن تصل أرض الرافدين فتطؤها بسرية تامة، وترتدي درعها الواقي. فهي قد تسلَّلت إلى العراق لترفع من معنويات جنودها، وكيف ترفعها وهي خائفة على روحها؟ تأتي لتركِّب أرجلاً لعملائها وهي بالكاد تمشي على رجليها.
إننا من منظر درع كوندوليزا الواقي نقرأ ما لا يستطيع الخائفون والمرعوبون أن يقرأوه.
على رأس تلك القراءات يدل منظر الدرع الواقي على أن أكبر إمبراطورية في العالم، نقلت سياستها في العراق من استراتيجية الهجوم إلى استراتيجية الدفاع، وانعكست تلك الاستراتيجية على صورة أدائها مع دول العالم، ومنها بالأخص بعض دول النظام العربي الرسمي.
المقاومة الوطنية العراقية أرغمت بوش على التراجع إلى موقع الدفاع
سنكررها، حتى ولو تضايق من لا يحب التكرار، بل ينتقده.
سنكررها لنقول: إنه لولا قوة تأثير المقاومة الوطنية العراقية لشكت المصانع التي تنتج الدروع الواقية من كساد سلعتها. وهي الآن جدَّدت شبابها في العراق، ومصانعها لا تستطيع أن تلبي طلبات قوات الاحتلال في مجال إعادة «تدريع آلياتها» و «جنودها»، و«مرتزقتها»، و«عملائها». وليس ببعيد أن تؤسس شركات إدارة جورج بوش شركات خاصة لتصنيع «حفاظات عسكرية للضباط والجنود»، و«حفاظات لكبار المسؤولين السياسيين»، ونحن لا ننسى «الحفاظ» الذي حصَّن فيه «بول وولفويتز» نفسه في فندق الرشيد قبل سنتين مضتا.
استراتيجية الدفاع الأميركية تظهر في حماية مواقع وجودها في لبنان والعراق
إن الدرع الذي ارتدته كوندوليزا رايس في العراق يعبِّر تمام التعبير عن المتغيرات التي فرضتها المقاومة الوطنية العراقية على إدارة اليمينيين الأميركيين المتطرفين الجدد. وهذا ما عبَّرت عنه في جولتها الأخيرة بدءاً من الأرض الفلسطينية المحتلة انتهاء بأرض كردستان المغتصبة. إنها باختصار استراتيجية الدفاع والتراجع عن العناوين الكبرى المضلِّلة التي غزت تحت ذرائعها بلاد ما بين النهرين. فجاءت بمصطلحات «المعتدلين» في مواجهة «المتطرفين». أي كما نقرأه نحن: «القابلون»، والعاملون في خدمة الإمبراطور الأميركي، في مواجهة «الرافضين» والمقاومين ضده وضد مشاريعه.
يشير بعض المحللين إلى أن للإدارة الأميركية بعض مواقع القوة، أي بعض مواقع الاختراق، في كل من العراق ولبنان، ولأنها تريد المحافظة عليها، على الرغم من أنها مهتزَّة، لجأت إلى بعض الأنظمة العربية المعروفة بولائها للإمبراطور الأميركي، وهم من أصدرت تغييراً بوصفهم بـ«المعتدلين»، من أجل حماية عوامل الاختراق في الساحتين المذكورتين.
كثيرة هي الأسباب التي أوجبت على وزيرة الخارجية الأميركية أن تدخل إلى عدد من دول النظام العربي الرسمي بزهو وثقة لتأمر وتنهي، وان تتسلَّل إلى العراق «مدرَّعة» و«ناصحة». ومن أهم ما يمكننا أن نتوقَّف عنده ظاهرة جديدة استطعنا أن نقرأها من موقعها «المدرَّع»، و«الناصح» في العراق، هو أن في البدائل التي وضعتها الإدارة الأميركية بعد أن انتهكت المقاومة العراقية حرمتها وقوتها وعجرفتها، أن تعمل على التقليل من خسائرها في العراق، بالعمل على تحصين مصالحها في المنطقة عامة، وفي الوطن العربي خاصة.
الفراغ الذي سيتركه الانسحاب الأميركي في العراق من أهم هواجس دول الجوار
كنا قد أشرنا في مقالة سابقة، نشرتها بعض مواقع «الأنترنت» تحت عنوان «حروب الاستتباع»، والبعض الآخر تحت عنوان«هل القادسية الثالثة قريبة؟»، وفي تلك المقالة حسبنا أن حروباً ستتفرَّع عن العدوان الأميركي على العراق بعد هزيمة الاحتلال، منها حروب داخلية بين الميليشيات العميلة من جهة وشعب العراق الوطني بقيادة المقاومة الوطنية العراقية من جهة أخرى. وحرب بين فيدرالية كردستان والدول المحيطة بها جغرافياً. وحرب ثالثة بين ميليشيات فيدرالية الجنوب من جهة وكل الوطنيين العراقيين مدعومين بدول الجوار العربي من جهة أخرى.
لا شك بأن تقسيم العراق مطلب أميركي وإيراني، وإن كانت لكل منهما أهدافه ومراميه. ولا شك أيضاً بأن تقسيم العراق فيه الضرر الأكبر لدول الجوار الجغرافي للعراق، لأنه سيُولِّد تقسيمات أخرى فيها. والأمرُّ هو أن معظم تلك الدول تدين بالولاء للإدارة الأميركية.
عندما ساعدت تلك الأنظمة العدوان على العراق فإنما كان يحدوها أمل في أن الاحتلال الأميركي سيضبط الوضع فيه مما يشكل حماية أمنية وسياسية وعسكرية لها. ولكن النتائج كانت بعيدة عن حساباتها عندما وقع الاحتلال في مأزق لا ترى تلك الأنظمة نهايته إلاَّ بهزيمة أميركية محقَّقة، ومن بعدها ستبدأ رحلة آلام طويلة لها، ليس أقلها خلق دولة كردية تنعكس بشكل خطير على بنية الدول التي يشكل الأكراد نسبة لا يُستهان بها من جهة، ووصول النظام الإيراني، بما يشكل من تهديد إيديولوجي لبنية الأنظمة المجاورة لجنوب العراق، من جهة أخرى.
تلك حسابات الأنظمة، على الرغم من عمق ارتباطها مع الولايات المتحدة الأميركية، لا يمكنها أن تدير لها ظهرها، فهي ذات علاقة مصيرية بوجودها كدول وأنظمة، وهي إنما تحالفت مع أميركا من أجل ضمان استمرارها ووجودها، أما إذا كانت تلك الضمانات غير ذات جدوى، فلا يجوز حتى للعبد أن يثور على سيده، وهذا ما هو حاصل الآن.
لقد جرَّبت أنظمة مصر والخليج والأردن أن تحل مشكلة الفيدرالية في العراق على قاعدة إحداث توازن قوى مذهبية، دعم للسُنَّة في العراق لمواجهة الدعم الإيراني للشيعة، على أن تبقى الخيمة الأميركية ضابطة للعبة السياسية والعسكرية والأمنية، ولكن مع خروج الاحتلال المؤكَّد من العراق، ستنفلت الحبال على غاربها، وستبقى تلك الأنظمة عارية عن أية حماية في وجه القوة الإيرانية التي ستكون اللاعب الأقوى على الساحة العراقية ومنها ستشكل الضاغط الأهم على إحداث متغيرات جغرافية وإيديولوجية وسياسية في معظم دول وأنظمة الخليج العربي، وكذلك في تركيا.
الأنظمة الموالية تقايض الإدارة الأميركية: وحدة العراق مقابل حماية عملائها
المخاوف من حروب الاستتباع التي ستعقب الاحتلال الأميركي للعراق أرغمت الهاربين من نارها إلى تحذير الإدارة الأميركية من نتائج ما سوف يتركه الفراغ الأمني والسياسي والعسكري الأميركي في العراق بعد الانسحاب منه. وحذَّرتها من المتاعب القادمة التي ستهبُّ على المنطقة كلها.
قد يتفاجأ البعض من سماع لغة جديدة، ويستغرب أن يلعب التابع دور «المحذِّر» لـ«سيده»، ولكن لصبر العبد حدوداً تبدأ منذ اللحظة التي يرى في أمر ما نهاية لحياته، ويسمع السيد للعبد إذا رأى خطراً ما تهدد سلطته وأملاكه. ومن قبيل البديهة أن يرى كلاهما الخطر الداهم على كل منهما. وهذا ما يمكن استنتاجه من مجريات الوقائع ومتغيراتها على الساحة العراقية.
لقد رتَّبت الإدارة الأميركية استراتيجيتها القادمة على ضوء متاعبها في العراق، بينما شريكاها، الإيراني والكردي، يظهر أنهما لم يريا المتاعب التي سيواجهانها بعد الانسحاب الأميركي، ويتصرَّفان على أساس أنها ستدوم لهما على الرغم من أنهما تأكدا من أنها لم تدم للأميركي قبلهما. بينما دول الجوار الجغرافي للعراق تحسَّست الخطر الحقيقي، وراحت تحدس بالخطر القادم لذا حذَّرت إدارة جورج بوش من المخاطر القادمة.
ولأن التاجر الشاطر يوقف الخسائر التي يدفعها في مشروع فاشل، رسمت إدارة بوش استراتيجيتها البديلة بعد فشل استراتيجيتها في العراق على قاعدة المحافظة على ما تبقى منها في المنطقة فاختارت استراتيجية الدفاع عنها وضمان استمرارها بعد خروجها مرغمة من العراق، وفي كل استراتيجية قديمة كانت أم جديدة فقد وزَّعت الإدارة أدواراً على حلفائها من الأنظمة، ومن تلك الأدوار حماية ما تراهن على بقائه في العراق من بُنى سياسية وأمنية قامت بتركيبها خلافاً لقوانين الطبيعة والسياسة والشرائع والقيم من جهة، وحماية ما بنته في لبنان من بُنى سياسية واقتصادية بعد أن فشلت عن توسيعها وضخ المزيد من أسباب بقائها وعوامله في لبنان من جهة أخرى.
أما من أجل أن توفِّر الإدارة على حلفائها من الأنظمة مقداراً من القوة للقيام بدور الحماية، فهي إقفال أبواب العاصفة التي ستهب من البوابة العراقية بعد الانسحاب الأميركي. وأبواب العاصفة قادمة مما زرعته إدارة بوش من أسباب التفتيت الطائفي والعرقي وثبَّتته في دستور عراقي هش كانت تراهن على أنها ستمسك بالعراق بواسطته. ولكن مراهناتها باءت بالفشل، فكان الأكراد والنظام الإيراني أكثر شطارة ومهارة منها، فعمل الطرفان على تثبيت حصتهما وحمايتها بكل أشكال الحماية والتحصين.
وما لم تستفد منه إدارة بوش، بغرورها ووحشيتها، لم يقف عند حدود الفشل بل إنها قدَّمت على طبق من فضة صحناً عرقياً ومذهبياً لحلفائها في العراق، وتجد نفسها أنها ستخرج من وليمة العراق من دون حبات قليلة من «الحمص». وليس هذا فحسب وإنما ستترك حلفاءها عرضة لأن يشكلوا الوليمة القادمة لمشاريع الإيديولوجيتين المذهبية والعرقية في جنوب العراق وشماله لتنال من كل دول الجوار الجغرافي وتُغرقها بصراعات كانت بغنى عن مواجهتها لولا العدوان الأميركي على العراق.
ومن هنا لا نستغرب أن تجول كوندوليزا في المنطقة لتثبيت أسس استراتيجية إدارة بوش الجديدة عند الأقطاب من حلفائها من جهة، وأن تتسلَّل «مدرَّعة» إلى العراق، لتحذِّر «جواد الملكي» وتنصح «مسعود البرزاني» من جهة أخرى.
رايس في العراق تعلن موت الاحتلال وتدعو عملاءها لاختيار طريقة موتهم
في خلال اجتماعها مع عملاء أميركا في المنطقة الخضراء، لم تتحدث كوندوليزا رايس كثيرا خلال الاجتماعات، بل استمعت إليهم، وحضتهم على حل مشكلاتهم بأنفسهم.
لم تأت وزيرة الخارجية الأميركية إلى العراق مهدِّدة معربدة هذه المرة، بل أتت ناصحة عملاءها بجملة من التعليمات التي تحمل في باطنها التهديد بتركهم «يقلعون شوكهم بأيديهم» خاصة وأنهم أصبحوا رهائن خيانتهم لبلدهم، فلا هم قادرون على الهرب لأن الأبواب مقفلة بوجوههم بتعليمات من آمرهم السيد الأميركي، وهم ليسوا قادرين على الصمود من دون حماية سيدهم. فأين المفر؟
أمامهم فرصة يتدبَّرون فيها أمر إعادة الأمن إلى العراق، هذا ما هدد به الكونجرس الأميركي باتخاذ قرارات حاسمة وجريئة بعد ثلاثة أشهر من بينها سحب القوات. أما السبب فهو أن جيش الإمبراطورية الأميركية، كما اعترف قادة عسكريون أميركيون بأنه بعد خمس سنوات من الحروب بات مجهداً. وفعلاً أصبح حال جيش الإمبراطورية يُرثى له.
وفي مثل هذه الحال، ولما أصبح مستحيلاً أن يُعيد جورج بوش الحيوية إلى جنوده، وهم من الذين أرسلهم إلى القتال والنصر، فوقعوا في مصائد القتل والعودة جثثاً إلى وطنهم، تشيعهم تظاهرات مئات الآلاف في 200 مدينة من الولايات المتحدة لإعلان مناهضتهم لسياسات الرئيس جورج بوش. ولهذا أرغمت مساعدة المتحدث باسم البيت الابيض (دانا بيرينو) على القول: إن الرئيس بوش أكد أن الولايات المتحدة صبورة، وفي إمكان العراق أن يعوِّل على شراكتها مادامت الحكومة في بغداد تتخذ القرارات الصعبة الضرورية لقيام عراق موحد وديمقراطي وسلمي.
فيا فخرك أيها «المالكي» فأنت مطلوب منك، بميليشياتك وشلة الحرامية، متبوعين بشلة الخونة، ممن لا يستطيعون التجول في شوارع بغداد خوفاً على أرواحهم المرصودة من مقاومي العراق الأشاوس، فيا فخركم أصبحتم بديلاً مطلوباً منه معالجة ملفات ناءت تحت حملها إدارة جورج بوش مع مئات الآلاف من الجنود والمرتزقة المدرعين، وعلى رأسهم وزيرة خارجيتهم التي أعيى السفر قدميها النحيلتين.
نحن لن نقولها من قبيل التعبئة، بل نقولها من قبيل الواقعية، أن المالكي، وشلته لن يفعل شيئاً إلاَّ التمهيد لهرب مبكر مع ما نهبوه من ثروات العراق إلى أي مكان يستقبله مع مسروقاته لتعزيز اقتصاد البلد المضيف.
يعزز هذا الاعتقاد رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الامريكي السيناتور الجمهوري جون وارنر الحليف القوي لبوش الذي كان قد رسم صورة سوداء لما يجري في العراق، بعد زيارة تقويمية للاوضاع في البلد المحتل. وهو الذي قال أيضاً: إن حكومة بغداد عاجزة عن قطع التزام قوي بنزع اسلحة الميليشيات وإعادة بناء العراق. وأشار إلى أن الجيش الامريكي يؤدي واجبه بقدر المستطاع، وحذر بالقول «إذا لم تستطع الحكومة العراقية خلال 3 أشهر قادمة انجاز تقدم على جبهة وقف العنف الطائفي وإعادة البناء، فإن الكونجرس سيكون مضطراً بعدها لاتخاذ قرارات صارمة وجريئة»، لكنه لم يذكر تفاصيل واكتفى بالقول إن كل الخيارات ممكنة، ومن بينها انسحاب القوات الامريكية.

وزيرة الخارجية، استجابة لضغوط حلفائها، تنصح الأكراد بالوحدة
واستباقاً لحروب الاستتباع التي ستلي الانسحاب الأميركي من العراق، خاصة بعد أن أسالت «الفيدرالية» لعاب التقسيميين في شمال العراق وجنوبه، وهي العامل الأخطر على دول الجوار الجغرافي للعراق، حملت وزيرة الخارجية الأميركية نصيحة للأكراد بالعودة إلى رشدهم من أجل المحافظة على وحدة العراق.
ليست تلك النصيحة مما تلقى قناعة عند الإدارة الأميركية وهي التي جاءت بمشروعها التقسيمي إلى المنطقة، على قاعدة «نيو اتفاقية سايكس بيكو»، بل لأنها فشلت في توفير شروط حمايتها لتلك الاتفاقية بوضعها تحت مظلتها المباشرة، ولما أصبحت مرغمة على الخروج من العراق، كانت مرغمة أيضاً على الدعوة إلى وحدة العراق استجابة لمصالح حلفائها «المعتدلين» بإعفائهم من خوض حروب الاستتباع المقدر لها أن تندلع في العراق لتشمل الأنظمة «المعتدلة»، حسب المصطلح الأميركي الجديد، وتحرق أصابعها التي وقَّعت على حرب العدوان وقدمت كل التسهيلات لها. وإن إدارة جورج بوش تقدم على دعوة الأكراد إلى عدم الانسلاخ عن العراق الموحد، وهو ما لم نتعوده من خطابها الاستراتيجي الداعي إلى تقسيم جديد في المنطقة والوطن العربي، إنما يأتي وهماً جديداً تحسب أنها به قد تحمي بواسطة «المعتدلين» ما بقي لها من أوراق ضاغطة في كل من العراق ولبنان.
لقد كشف وزير الداخلية البريطاني السابق دايفيد بلانكيت، أن ادارة جورج بوش كانت على وشك «تفكيك العراق وتقسيمه» لكن تدخلاً بريطانياً مع ديك تشيني ووزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفيلد منع تفتيت البلد، لكنه لم يستطع وقف تفكيك الهياكل الأمنية والعسكرية والادارية السابقة وتسريح كل الموظفين في الدولة للتخلص من عناصر حزب البعث فيها.
إن الجواب على التساؤل القائل: «ماذا عدا مما بدا»، كتغيير في الخطاب الأميركي الاستراتيجي، هو صوت «المعتدلين» الخائف من نتائج حروب الاستتباع، الذي وصل إلى آذان «السيد الأميركي» فاستجاب له. وبهذا تكون المقاومة الوطنية العراقية قد أرغمت من ليس لهم صوت أن يرفعوه، ومن لا يمتلك قدمين أن يقف. فلعلَّ أرباب الأنظمة العربية الرسمية يشعرون بأنهم يستطيعون أن يتوازنوا في مواقفهم وعلاقاتهم مع الولايات المتحدة الأميركية، وأن يعيدوا للصوت العربي بعض صيحاته واعتراضاته، وللأرجل العربية أن تتوقف عن الاهتزاز والارتجاف في حضرة الإمبراطور الأميركي، خاصة وأن إيمانويل تود، أحد المفكرين الأميركيين، قال: »أميركا ليست تلك القوة العظمى، ولا يمكنها في المرحلة الراهنة أن تُرهب سوى الدول الضعيفة، وإذا أصرَّت على أن تثبت قوَّتها الهائلة، فإنها لن تفلح أكثر من أن تكشف للعالم عن عجزها«.

(29): فصائل المقاومة العربية: أفكار في التمايز والتكامل والتوحَّد
21/ 10/ 2006
تمهيد وأمنية
يحدونا إلى البحث، والكتابة، عن واقع التنسيق بين المقاومات الثلاث، في فلسطين ولبنان والعراق، هموم التجارب السلبية بين أطراف حركة التحرر العربي السابقة. حيث كان من أهم نتائجها أن البديل لوحدتها، في مواجهة وحدة المشروع المعادي، كانت الفرقة والتفسخ، وهو ما نلاحظه من واقع مأساوي تعاني منه تلك الحركات من دون استثناء.
ليس ما سنقوم بتقديمه من أفكار إلاَّ إسهام في ورشة حوارية ابتدأت في أعقاب العدوان الصهيوني، في الثاني عشر من تموز من العام 2006، على لبنان، ومنه سُلِّطت الأضواء على أهمية استراتيجية الكفاح الشعبي المسلَّح وتأثيرها على إحراق أصابع الاستعمار الأميركي في العراق، وإحراق أصابع ربيبته الصهيونية في فلسطين ولبنان. ولهذا نأمل متابعة الحوار حول هذه الظاهرة المضيئة في ليل هزيمتنا العربية، وهو ما يقوم بمتابعته عدد من المثقفين والسياسيين العرب، وأكثر من حركة حزبية أو سياسية على طول مساحة الوطن العربي.
تمايز حركات المقاومة العربية
تتمايز حركات المقاومة الشعبية الوطنية، بسقوفها الاستراتيجية الفكرية من خلال مدى قربها أو بعدها عن السقف الاستراتيجي القومي، وهذا لا يعني أن نزول بعضها تحت هذا السقف أنها لا تصب في مصلحته، إنما حيث إنها تقاوم أعداء الأمة الاستراتيجيين، حتى ولو كانت في ظرف ومكان محدوديْن، فنتائجها ستصب في المصلحة الاستراتيجية العليا طالما أنها تعمل على إنهاك أولئك الأعداء. أما الصورة الأفضل، والأمل المرتجى، فهي أن تكون لكل فصائل حركة المقاومة العربية أفقها الاستراتيجي القومي لأنها بمثل هذا الأفق تصبح أكثر إنتاجاً ثورياً وأقربه إلى النصر.
أما وأن القاعدة الأساسية هي في أن تكون مقاومة الاستعمار والصهيونية قومية شمولية، لأن المستهدف هو الأمة كلها، وليس بعض أقطارها فحسب، فمن المنطقي والواقعي أيضاً أن تستند كل المقاومات الظاهرة في بعض أقطار الأمة إلى استراتيجية ذات آفاق قومية فتتكامل أدوارها وتصبح أكثر تأثيراً.
ولأن واقع تأثير مقاومة فلسطين ولبنان والعراق موجود بقوة الأمر الواقع، وينعكس سلباً على مخطط الصهيونية والإمبريالية، إلاَّ أنه ليس مبنياً على تخطيط نظري استراتيجي، ولا بناءً على اتفاق جبهوي قومي مُعلَن. وفي هذا ما يُهدِّد النتائج التي تنجزها هذه المقاومة أو تلك بالتآكل حينما تعتبر أن ما أنجزته ضمن مساحتها الجغرافية المحدودة هي نهاية المطاف، حينئذٍ تسترخي هذه أو تلك متناسية أن نجاحاتها مهدَّدة بالذوبان في مراحل لاحقة.
تدور على أرض الوطن العربي الآن ثلاث معارك ضد الاستعمار والصهيونية في كل من لبنان وفلسطين والعراق، وإن كان يجمعها سقف أسلوب سياسي وعسكري واحد، أي بكونها تُخاض ضد الثنائي (الاستعمار والصهيونية) بأسلوب الكفاح الشعبي المسلَّح، إلاَّ أنها تتمايز بسقوف استراتيجية سياسية وعسكرية ونضالية تطبع بعضها بالطابع المرحلي، وبعضها الآخر بالطابع الاستراتيجي، وفي واقع الأمر فهي لا تستند إلى سقف استراتيجي فكري واحد.
التكامل بين المقاومات الثلاث حاجة قومية
ولأن الاستراتيجية الفكرية تشكل البوصلة لأية استراتيجية سياسية أو عسكرية، ولأن واقع القوى المقاومة الثلاث تضع ثقلها، كل منها في موقعها الميداني وضمن حدودها الفكرية في مواجهة الثنائي المعادي المذكور، فهي أيضاً تفتقد عامل التنسيق المباشر.
إن غياب التنسيق بين قوى عربية تقاوم مشروعاً واحداً برأسين لهو من الظواهر التي علينا أن نبحث عن أسبابها، ونتقدَّم بتفسير لها، لأنه بغير البحث عن أجوبة لتفسير هذا الغياب ستبقى تلك الظواهر من الإشكاليات، التي سنقضي العمر كله في رفع علامات الاستهجان والاستغراب كلما اكتشفنا وجودها، وستبقى حركة التحرر العربية تائهة بين المقاومات الثلاث، مشيدة بهذه أو منتقصة من قيمة تلك، أو محيِّدة نفسها عن مظاهر الاختلافات بين المقاومات الثلاث، أو محرجة من اتخاذ موقف موضوعي خوفاً أو مجاملة. بل ستبقى كل مقاومة تنافس الأخرى، أو تنفي تأثيرها في مجريات ساحة المواجهة القومية.
إن تحديد أسباب غياب التنسيق الفعلي المباشر بين تلك المظاهر، سوف تساعد قوى وأحزاب حركات التحرر العربي على تحديد موقف موضوعي، أي الموقف الذي يبغي توحيد الجهد المقاوم والرؤية المقاومة، من أجل مساعدة الفصائل المقاومة على تخطي الحواجز فيما بينها، أي تلك العوائق التي تحول دون إعلان وحدتها، لأنها بغير ذلك ستبقى حركات التحرر وقواها عالقة في دائرة مفرغة، ولن تستطيع القيام بفعل إيجابي من أجل توحيد طاقات الأمة الشعبية، الماثلة في جهد المقاومات الثلاث وجهادها.
إن وجود هذه الإشكالية أصبح أكثر وضوحاً من خلال مواقف تلك الحركات والقوى التي أُعلنت حول أحداث العدوان الصهيوني الهمجي على لبنان، كما رافقت واقع البطولات التي ميَّزت أداء مقاتلي حزب الله في التصدي والمواجهة. حينذاك تلقَّت مقاومة حزب الله تأييداً واسعاً، لبنانياً وعربياً، وهي تستأهل ذلك بالتأكيد، ولكن بعض تلك المواقف غيَّبت وتجاهلت ما تقوم به المقاومة الوطنية العراقية التي تضرب رأس الأفعى الأميركية في العراق. كما أنها اعتبرت أن نتائج المعركة الدائرة في فلسطين ولبنان، وكأنها ستغيِّر وجه تاريخ المنطقة عموماً، وتاريخ الصراع العربي ضد الصهيونية والإمبريالية في الوطن العربي خصوصاً. وبهذا المجال تناست أو أغفلت، بعضها لأسباب مقصودة وبعضها الآخر لسهو غير مقصود، أن ما يُغيٍّر وجه الصراع ليس الانتصار في ساحات محدودة المكان والزمان ضد الصهيونية، أحد طرفيْ ثنائية (الصهيونية والإمبريالية)، بل اعتبار أي انتصار محدود يجب أن يصبَّ في استراتيجية طويلة الأمد تستمر بشتى الأشكال والوسائل حتى اجتثاث آخر معقل مباشر أو غير مباشر للاستعمار والصهيونية على الأرض العربية.

غياب الرؤية القومية سبب يؤدي إلى استراتيجية جزئية عند فصائل المقاومة العربية
كان اللافت في الأمر هو أن بعض تلك القوى ظهرت وكأنها تمارس حالة انفصام في الأحكام الموضوعية، أو المواقف الموضوعية. ونحن نردُّ سبب ذلك إلى مواقف مسبقة، أو إلى تجاهل عن سابق إصرار وتصميم، إذ مارست بعضها ذلك لأسباب قطرية، وبعضها الآخر لأسباب إيديولوجية مُغلقة وتعصبية، وبعضها الثالث لأسباب انعكاسات سلبيات مرحلة التنافس الفئوي السابقة التي طبعت تاريخ العلاقات بين التيارات الفكرية القومية العربية والتيارات الفكرية الأممية بالسلبية والتنافس الفئوي.
إن العوامل اللافتة في هذا الانفصام، هو تجاهل الحقيقة الموضوعية والرزينة التي تنص على أن التكامل بين مقاومة حزب الله والمقاومة الفلسطينية والمقاومة الوطنية العراقية هو الأرضية الأساسية في النضال من أجل مواجهة التحالف المعادي الذي يجمع بين الصهيونية، في فلسطين المغتصبة ولبنان المهدَّد، ومشروع الأمركة في العراق المحتل. فلا يجوز الفصل بينها على الإطلاق لأن في الفصل بينها ما يثير الشبهات والاستهجان.
من أجل العمل على تأسيس رؤية فكرية استراتيجية واحدة، جئنا نسهم ببعض الجهد لعلَّه يصيب الهدف الاستراتيجي في انطلاقة مقاومة عربية، تتمايز كلٌّ من فصائلها بخصوصياتها الذاتية كشرط إنساني وواقعي، وتتلاقى باستراتيجياتها العامة كشرط لتعميمها على المستوى الأشمل، على أن يحتضن تحت سقفه الاستراتيجيات الخاصة للأجزاء التي تقاوم الآن، أو تلك التي ستتشكل في المستقبل من أجل التصدي لأي نية في الغزو أو العدوان أو الاحتلال المباشر، أو الاحتلال المقنَّع، الذي قد يقوم به ثنائي (الاستعمار والصهيونية) متَّحدين في التدخل المباشر أو منفصلين.

نقطة انطلاق التوحُّد الأولى تبدأ في الاتفاق على تحديد ثوابت الصراع
بداية، ومن منطلق التأكيد على ما هو حاصل لا بدَّ من أن نثبِّت سقفين اثنين، وهما:
الأول: إن ثنائية الاستعمار والصهيونية أصبح حلفاً ثابتاً تتلاقى أهدافه الاستراتيجية في العدوان على الوطن العربي، وتتوحَّد جهوده الاستراتيجية في تنفيذه.
الثاني: إن استراتيجية الكفاح الشعبي المسلَّح، الذي وضع حزب البعث العربي الاشتراكي أسسه الفكرية والسياسية، منذ العام 1948، أصبحت استراتيجية العصر العربي الجديد في مواجهة ثنائية الاستعمار والصهيونية.
ومن هذين السقفين نرى أنه لم تتغيَّر استراتيجية التحالف المعادي، في الأهداف والوسائل، وهذا السبب يجعل منه حلفاً قوياً. ولما فشلت وسائل المواجهة التقليدية في كبح جماح ذلك التحالف، ابتكرت العبقرية العربية استراتيجية المواجهة القومية بحيث نقلت قضايا الأمة من أنظمتها الرسمية المتواطئة، التي عجزت أو برَّرت عجزها، إلى أيدي الشعب العربي مباشرة، وهذا ما هو حاصل الآن في المقاومات الثلاث في لبنان وفلسطين والعراق.
نقطة الانطلاق الثانية: تحديد مفاهيم المقاومات الاستراتيجية والفرعية
من مبادئ الحدود الدنيا في دائرة المواجهة بين المشروعين: القومي العربي، ومشروع الأمركة والصهينة، هو اعتبار المواجهة من واجب كل عربي على كامل مساحة الوطن العربي. وتتراوح وسائلها بين المواجهة الاقتصادية والسياسية والثقافية، والمواجهة العسكرية وهي أعلى درجات النضال وأكثرها تأثيراً. واستناداً إليه نرى أنه حيثما يتواجد احتلال عسكري مباشر لا بدَّ من أن تكون المواجهة عسكرية أولاً، وخلاف ذلك تقتصر الوسيلة على أسس المواجهات الأخرى. وتطويراً لتلك الوسيلة، ولأن المواجهة العسكرية أكثر حاجة للدعم والإسناد، على الساحات الوطنية العربية أن تعمل على توفير كل وسائل الدعم السياسي والإعلامي والمادي لفصائل المقاومة العربية أينما وُجدت.
واستطراداً، نرى أنه حيثما حصل احتلال عسكري مباشر لأحد طرفيْ التحالف المعادي، منفرديْن أو متحديْن، فهناك يقع عامل المواجهة الاستراتيجية العسكرية، وحيثما حصل تطبيع استعماري وصهيوني لوضع سياسي أو اقتصادي أو أمني مع أحد الأنظمة، فهناك يقع عامل المواجهة المرحلية سياسياً واقتصادياً وأمنياً.
أما المواجهة العسكرية الاستراتيجية فتتدرَّج بدءًا من مقاومة الطرف الرئيسي في التحالف، أي الاستعمار، وطليعته الولايات المتحدة الأميركية، لأن إضعافه إضعاف للطرف الثانوي وهو الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وإصابة الطرف الرئيسي بمقتل ينعكس تلقائياً، بشكل سلبي، على الطرف الثانوي.
ليست تلك المعادلة، التي قد يحلو للبعض أدلجتها، إلاَّ معادلة علمية وموضوعية أيضاً. وعلى أساسها يمكن استشراف ما يجب أن يكون عندما نضع إشكالية العلاقة بين شتى فصائل المقاومة العربية على طاولة المعالجة، التي تأتي المقاومات العربية الثلاث، في فلسطين ولبنان والعراق، في طليعتها.
وضوح المركزيات في القضايا ثوابت للمشروع القومي في مواجهة العدوان
في معرفة ترتيب الأولويات الاستراتيجية السياسية للمقاومة، في مواجهة أولويات الاستراتيجية المعادية، نرى ما يلي:
1-المركزية الأولى هي قضية فلسطين كونها كانت الهدف المباشر للاستعمار والصهيونية، التي أكَّدتها اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور. ولأنها كانت مبرَّرَة بوضع حاجز جغرافي يحول دون وحدة الأمة العربية السياسية، ولأنها تعبِّر عن موطئ القدم الرئيسي للتواجد الاستعمارى الصهيوني في الوطن العربي، أصبحت مسألة تحرير فلسطين مسألة قومية لها الأولوية المطلقة في النضال العربي. والعرب، في هذا الجانب، مُستهدفون جميعهم، لا يمكن استثناء أحد منهم. ومن بديهيات الأمور أن نرى في المقاومة الوطنية الفلسطينية رأس حربة يجب أن تجمع من حولها الطاقات العربية الشعبية التي من واجبها أن تدعمها وتشاركها...
إن مركزية القضية الفلسطينية في الصراع العربي ضد الصهيونية والإمبريالية آتية من كون تحرير فلسطين يمثِّل تحريراً للأمة من الأطماع الصهيونية، ومن بوابة تحريرها تنفتح أمام الأمة كلها وسائل وحدتها وحريتها واشتراكيتها.
قد يقول البعض، وهم كُثُر، أما آن للفكر القومي أن يتخلَّص من رومانسيته؟
هل نقضي حياتنا كلها ننتظر الوعود الرومانسية لكي يتحقق تحرير فلسطين؟
هل يرى أحفادنا، أو أحفاد أحفادنا، مرحلة تحقيقها؟
كل تلك الأسئلة المطروحة، عن طيب نية أو خبثها، تستند إلى أنه لا يمكن تحقيق النصر على التحالف المذكور لأنه يمتلك القوة العسكرية الهائلة التي لن نستطيع توفير مثيل لها. تلك الذرائع، التي هي علمية من دون شك، تؤسس لحالة انهزامية، كما توفِّر غطاء لتقاعس الأنظمة الرسمية أمام جماهيرها.
وردَّاً على ذلك، ليس لنا أكثر من أن نجيب:
أوَ ليس من المعيب أن يصبح منطق الاغتصاب مفهوماً قيمياً ندافع عنه؟
وهل قضية تحرير فلسطين إلاَّ تحريراً من الاغتصاب الصهيوني؟
وهل الخلل في موازين القوى العسكرية أصبح مكيالاً نقيس به القيم الإنسانية؟
وهل إذا حلَّ مفهوم «الحق للقوة» بديلاً لـ«قوة الحق» سيبقى لنا ما ندافع عنه في وجه الإعصار الرأسمالي: إعصار قوة «الأمركة»، وإعصار قوة «الصهينة»؟
إن الحد الأدنى من نتائج سلوكنا «أسلوب النعامة» هو أننا نتنازل عن حقنا في السيادة الوطنية عندما يأتي دور أرضنا الوطنية في الاغتصاب. كما نتنازل عن حقنا في القرار الوطني المستقل، سياسياً واقتصادياً وأمنياً وثقافياً، تحت ذريعة الحق للأقوى.
إن في التنازل عن القيم الإنسانية، عندما نعترف بحق الآخر في الاغتصاب، عار يدفعنا إلى اعتبار الاحتكار واستعباد الشعوب وسرقتها...و ... من القيم الإنسانية العليا؟!!!
وعلى هذا الأساس نعتبر أن تجريد المقاومة الفلسطينية من عمقها القومي العربي نتيجة حالة التخلي النظامي الرسمي العربي عنها، كما هو واضح الآن بشكل جلي، أو استرخاء الشعب العربي واستسلامه أمام منطق الهروب والاستسلام حسب المنطق القطري، أو إلغاء أهمية هذا العامل من استراتيجية فصائل المقاومة الفلسطينية بحجة اليأس من توفير موجباته، لهو إهمال السلاح الأقوى والأكثر فعالية في معركة تحرير فلسطين.
2-المركزية الثانية هي مواجهة الاستعمار: وللمواجهة وجهان:
-الأول: سياسي واقتصادي وثقافي، عندما يكون الاحتلال سياسياً واقتصادياً وثقافياً، كما هو الحال منذ بداية تكوينه في الوطن العربي.
-الثاني: عسكري عندما يتحول الاستعمار إلى احتلال عسكري مباشر، كما هو حاصل حالياً مع احتلال الولايات المتحدة الأميركية للعراق.
في الحالة الراهنة لمواجهة الاستعمار، وحيث إن الاستعمار هو أعلى درجات الرأسمالية، والاحتلال العسكري يفوقها درجة، تصبح مقاومته عسكرياً أعلى درجات المواجهة.
لما عجزت الصهيونية عن أداء دورها كقاعدة عسكرية متقدمة في الوطن العربي ليس لحماية مصالح الاستعمار بالنيابة عنه فحسب، وإنما ظلَّت بحاجة إليه لحماية أمنها الذاتي أيضاً. ولما كانت مشاريع توفير الأمن للعدو الصهيوني قد تعرقلت من جهة، واستتباعاً ظلَّت تلك المشاريع عاجزة عن توفير أمن النفط من جهة أخرى.
ولما كانت المقاومة العربية في فلسطين تمثل أحد أهم تلك العراقيل على المستوى الشعبي، ويمثل العراق، بقيادته الوطنية، الجانب الرسمي النظامي في مقاومة تلك المشاريع ورفضها، تدخَّلت الإدارة الأميركية بشكل مباشر وقامت باحتلال العراق لاستكمال حلقة توفير الأمنين معاًً حيث إن العراق كان، بمنظور التحالف المعادي، يهدِّد أمن النفط وأمن «إسرائيل».
منذ تحوَّل الاستعمار إلى مظاهره العسكرية، باحتلال العراق، للقيام بما عجز العدو الصهيوني عن القيام به، أصبحت الساحة العراقية، بقيادة المقاومة الوطنية، مركز الثقل الأساس في المواجهة الدائرة الآن، ففي نتائجها لا يتقرر مصير العراق فحسب وإنما يتقرر مصير الوطن العربي، وعلى رأسه قضية فلسطين، أيضاً، وتأتي حماية الإنجازات التي حققتها المقاومة اللبنانية ضمن ما سوف تنتجه المقاومة العراقية. هذا ناهيك عن أن مصير النظام العالمي الجديد سيكون أفضل من دون «قطبية أميركية متفردة» وأكثر أمناً، ولن يتحقق ذلك الآن لا في فلسطين ولا في لبنان، لكنه سيصبح الحلم الذي يتحقق على أرض الواقع بعد أن ينهزم الاحتلال الأميركي في العراق.
لكن، وفي الوقت الذي تنتصر فيه المقاومة الوطنية العراقية، وتنهزم فيه الإدارة الأميركية، لا يعني أن حالة الاسترخاء ستكون الحل الأفضل للشعب العراقي. لأنه لو كانت الحسابات تخضع لتجزئة القضايا القطرية وعزلها عن مفاهيم المصير القومي الواحد لكان يمكن للعراق، بعد التحرير، أن «ينام» على حرير ثروتيه: «النفطية»، و«انتصاره الوطني».
إن هذا يصح عراقياً لو كانت حدود المطامع الصهيونية ستتوقف عند حدود فلسطين الجغرافية، ولو كانت المطامع الإمبريالية ستتوقف عند حدود العراق الجغرافية أيضاً.
ولكنها لن تصح لأن هزيمة الصهيونية والاستعمار في ظرف معين وفي مكان جغرافي معيَّن، سواءٌ أكان في لبنان أم في العراق، لا يعني أنهما ستتجاوزا هزيمتيهما في العراق وفي لبنان، بل سيُعدَّان نفسيهما لجولات أخرى على أساس وسائل بديلة لن تفتقد وجود ملفاتها في أدراج وزارتيْ الدفاع والخارجية في كل من أميركا و«إسرائيل».
على أساس هذه القاعدة، لن يشعر العراق، أو أي قطر عربي آخر، بالاطمئنان إلاَّ بعد اجتثاث مطامع الصهيونية، وكيانها المغتصب في فلسطين المحتلة. ولهذا نرى أن قضية فلسطين ستستعيد مركزيتها الأولوية في سلَّم النضال القومي العربي، وعلى رأسه سلَّم أولويات النضال العراقي، واللبناني، و..و...كل قطر من أقطار الأمة العربية.
إن أولوية النضال المرحلي، الآن، لا يجوز أن تكون أدنى من سقف تحرير العراق، لأننا في تحريره الآن نضرب رأس الأفعى التي توفِّر للعدو الصهيوني كل إمكانيات البقاء وشروطه. ومع بقاء الاحتلال الأميركي في العراق، وهو ما لن يحصل، ستبقى أية انتصارات على العدو الصهيوني في كل من لبنان وفلسطين عرضة للاهتزاز والتآكل طالما أن القوة الأميركية، سبب بقائه وديمومته، لم يُصب بأذى، ونحن لن ننسى أن احتلال العراق يحمل أحد أهم هدفين للاستعمار الأميركي: أمن النفط، وأمن «إسرائيل»، ولا أمن للنفط من دون أمن «إسرائيل». فطالما ظلَّت الساحة العربية مُستباحة أمام القوة الأميركية سيبقى أمن «إسرائيل» محمياً، ومُصاناً من الأذى.
إن هذه النتيجة لا تعني أيضاً، وهو ما لا يجب أن يخفى على اللبيب الذي عليه أن يتفهَّم مقاصدنا في هذا التحليل، أي أننا لا نقصد أن نجمِّد كل نضالاتنا الفرعية حتى يكتمل النصر في العراق، بل العكس هو الصحيح لأنه في كل ثغرة، ومن كل كوة، وعبر كل جبهة، واستناداً إلى كل وسيلة سياسية أو عسكرية، إشغالاً للعدو المشترك، وإنهاكاً له، وهذا بدوره يقدِّم أيضاً أكبر أنواع الدعم للمقاومة الوطنية العراقية، وأكثرها تأثيراً. فمن لا يستطيع القتال على أرض العراق لمساعدة العراقيين على تحرير أرضهم، فإن القتال على أية أرض عربية هو قتال يوازي القتال على أرض العراق. وهذا يشمل كل أنواع المقاومة، سواءٌ أكانت سياسية أم عسكرية...
3-المركزية الثالثة هي جبهة المواجهة في لبنان، وفي فلسطين، والجبهات العربية الأخرى، ضد الاحتلال الصهيوني وضد التواجد الأميركي بشتى أنواعه وأشكاله.
قياساً على ما تقدَّم نعتبر أن القضية اللبنانية، عدواناً واحتلالاً وتهديداً، مرتبطة بالقضية الفلسطينية، كونها تشكل المركزية الاستراتيجية الأولى، إذ أن العدو الصهيوني يعمل لتطبيع الوضع اللبناني، كما فعلها مع مصر والأردن، وتطويعه بشتى الوسائل من أجل تثبيت حزام أمني عربي يحمي حالة اغتصاب فلسطين ويعترف بها. وبعد أن يصبح الكيان محمياً بأيدٍ عربية كان من المفترض أن لا تفعلها، بل العكس هو الأسلم والأصوب، ستمتدُّ أيدي العدو لاستكمال مشروعه الأساس في تحويل الأمة العربية إلى ملحق يأتمر بتعليمات السياسة والاقتصاد التي تخدم مصالح تحالف العدو الصهيوني مع الرأسمالية الأميركية. ولهذا نعتبر، قياساً على معرفتنا بأهداف التحالف المعادي، أن حالة استرخاء لبناني في التقوقع خلف حدود جغرافية، نعتبرها من جانبنا وهمية وهشَّة، لهو استرخاء مرحلي يحمل حقيقة تفجيره عندما يستكمل العدو الصهيوني حزامه الأمني.
ما لم تتوحَّد المركزيات المقاومة، أهدافاً نظرية وعملية، ستبقى انتصاراتها عاجزة عن إحراز النصر الاستراتيجي
لقد سجلت مقاومة حزب الله انتصاراً في دحر العدو الصهيوني في العام 2000، وأعطت الأنظمة الرسمية درساً في تموز من العام 2006، مضمونه أنه يمكن مواجهة ترسانة العدو الصهيوني. لكن في الحالتين، وعلى الرغم من أن الانتصار قد حصل فإنما هو قياساً إلى الثوابت القومية لا يزال يشكل انتصاراً جزئياً، وجزئيته آتية من أن العدو الصهيوني ظلَّ مستوطناً أرض فلسطين، وأطماعه لا تزال حية، وحمايته الأميركية لا تزال متوفِّرة وقائمة، كما أنه لا يزال يهدد الوحدة القومية ويمنعها، ويهدد مباشرة الدول العربية المحاذية لحدود فلسطين الجغرافية. وهنا يبرز التساؤل الأساسي: ماذا لو فرضت مصلحة أنظمة التحالف الرأسمالي، ومنها الولايات المتحدة الأميركية، على العدو الصهيوني أن يقدِّم تنازلاً في تحرير الأسرى اللبنانيين في سجونه من جانب، وانسحب من مزارع شبعا من جانب آخر، خاصة وأن الأمرين يشكلان السقف الأعلى الذي حدَّده حزب الله لأهدافه، فهل يبقى من مبرر لأن يستمر حزب الله في المقاومة؟
إذن، وحيث إن نتائج مقاومة حزب الله لم تُصب في المشروع مقتلاً، وبهذا لا يزال يمثل التهديد المباشر للبنان، تكون مقاومة حزب الله قد حققت إنجازات تكتيكية لا شك بقيمتها العالية، ولكن لو تُرك الواقع على ما هو عليه في ظل محافظة العدو الصهيوني على قوته، فهو لا شك في أنه سيلتف على الانتصارات التكتيكية عبر أكثر من وسيلة وعامل، ومن أهمها: التسلل عبر إرهاب الأنظمة الرسمية العربية، والاستقواء بالدعم غير المحدود للنظام الرأسمالي العالمي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية.
أما على صعيد المقاومة الوطنية الفلسطينية، لو أنها خفَّضت سقف أهدافها إلى ما دون سقف تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، هل يمكننا أن نعتبر حصولها على سلطة حتى ولو كانت بحجم دولة فلسطينية مستقلة وكاملة السيادة على جزء من أرض فلسطين هو الحل الاستراتيجي لقضيتها؟
إنه ما لم تتخلَّ الصهيونية عن استراتيجيتها، وهي لن تتخلى عنها، فستبقى إنجازات المقاومة الفلسطينية هشَّة وعُرضة للتآكل للأسباب ذاتها التي تواجه المقاومة الوطنية اللبنانية.
وفيما يعني المقاومة الوطنية العراقية، التي أوصلت الاحتلال الأميركي إلى نهايات الهزيمة، فستبقى معرَّضة إلى العدوان الاستعماري والصهيوني بشكل أو بآخر حتى بعد إلحاق الهزيمة بالاحتلال الأميركي، وإرغامه على الانسحاب، إذا ظلَّت الاستراتيجيا الاستعمارية والصهيونية من دون تبديل أو تغيير. ولهذا فإن المقاومة الوطنية العراقية، جمعت بين أهدافها الاستراتيجي الوطني، تحرير العراق المحتل، إلى جانب الاستراتيجي القومي، تحرير أرض فلسطين من النهر إلى البحر. وبهذه الاستراتيجية لا تفصل المقاومة العراقية بين مقاومة العدو الصهيوني في فلسطين ولبنان، ومقاومة الإمبريالية الأميركية في العراق المحتل، أو مقاومتهما معاً في أية بقعة أرض في الوطن العربي.
وحول هذا الأمر فقد عبَّر الرئيس صدام حسين، الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي ومؤسس المقاومة الوطنية العراقية وقائدها، عن الأمرين معاً، عندما كان، ولا يزال يتوِّج خطابه، بتحية إلى فلسطين «حرة عربية من النهر إلى البحر»، كما يُرسل من أسره تحية إكبار وإعجاب بمقاومة حزب الله في جنوب لبنان، ويشدُّ على أيدي أمينه العام السيد حسن نصر الله، وفي اطار تعليقه على العدوان الاسرائيلي على لبنان وجَّه الرئيس تحية للشعبين الصامدين في فلسطين ولبنان، «مؤكداً أن كل من يحمل البندقية في مواجهة العدوان الإسرائيلي -الامريكي هو في الصف الوطني، وله علينا حق المساندة والدعم، ..، مطالباً بدعم سوريا ومؤازرتها لأنها قد تتعرض الى العدوان لتظل المعادلة مختلة في المنطقة لصالح العدو الإسرائيلي».
إن أسباب احتمال التحضير لمحاولات أميركية وصهيونية لاحتواء العراق، العراق المقاوم استراتيجياً، تبرهن عليها مرحلة ما قبل الاحتلال. لقد كان العراق دولة مستقلة ونامية وتؤسس لأكبر مشروع نهضوي عربي، في ظل حالة أمنية مستقرة. ومع ذلك فقد كان مستهدفاً باستمرار لامتناعه عن السير على خطى تلك الإستراتيجية المعادية. فكان العدوان مُبيَّتاً طالما أن النظام الوطني في العراق كان رافضاً لكل أنواع التسويات والمساومات السياسية حول هدفيْ التحالف الأميركي – الصهيوني: أمن النفط، وأمن «إسرائيل». وللسبب ذاته سيبقى مستهدفاً بعد التحرير.
أفكار في صياغة الحل؟
إن حقيقة القضايا الفكرية التي تقاوم من أجلها حركات المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق، كما تبيَّن لنا، تقع على مستوى سقف ثابتين استعماري وصهيوني: أمن هيمنة الاستعمار الأميركي على اقتصاد العالم، وأمن تثبيت اغتصاب الصهيونية على أرض فلسطين. وبدلاً من مواجهتها على قاعدة الوحدة القومية، بثوابتها الاستراتيجية الفكرية والسياسية، ووحدة الجهد المقاوم بثوابته النضالية العربية، ستبقى في داخل أسوارها القطرية، وخصوصياتها الوطنية، تتنافس بدلاً من أن تتكامل. وهذه ستبقى ثغرة ونقصاً في تجربتها. وهنا نرى أنه ما دامت نتائج المقاومة في جانبيها العسكري والسياسي لا تتجاوز الأهداف القطرية فستبقى عرضة للتآكل والذوبان. أما الحل فهو أن ترتقي حركات المقاومة بسقفها من الانتصار التكتيكي المرحلي إلى السقف الفكري الاستراتيجي، وبغيره ستعود حركات المقاومة إلى الانشغال بهمومها القطرية، ولدى التحالف بين الاستعمار والصهيونية الكثير من بدائل الإشغال وإغراق الحركات القطرية في مزالقها.
على تلك القاعدة نرى أن تسلك تلك المقاومات طريق العمل من أجل وحدتها الاستراتيجية، وسلوك الخطوة الأولى على طريق الألف ميل في هذا الظرف بالذات يؤسس لعمل جبهوي قومي مستقبلي يُعتبر جامعة للشعب العربي المقاوم، وهو ما سوف يؤسس إلى تجديد جامعة الدول العربية ووضعها على سكة القرار العربي المستقل.
ليست المهمة بالسهولة الميسورة فوراً، ولكنها ليست بالمستحيلة أيضاً. فصعوبتها تكمن في كثرة الإيديولوجيات التي ترسم خطى تياراتها، ورفض استحالتها يكمن في أن الشعب العربي سيكون الداعم الأكبر لها، فهو مع أية وحدوية في مواجهة العدوان الخارجي بغض النظر عن شكلها ولونها. فعند الشعب العربي الاستعداد والجهوزية لالتقاط كل نتائج النصر الذي يقوم بأوده شبان وقادة عرب نزلوا إلى خندق المقاومة، فتعذبوا واستشهدوا ولاقوا أمرَّ المعاناة، وكانت بوصلتهم أنه لا تحرير من دون دم يُراق، ومن دون حياة تُبذَل.
فتحية، وألف رحمة على كل نفس عادت إلى ربها من خلال خندق الدفاع عن حياض الأمة العربية، تلك النفس التي غيَّرت وضع الأمة من موقع الدفاع الضعيف، أو المشبوه أحياناً، إلى موقع الهجوم لتحريرها من كل معتد أثيم لوَّث ترابها.
أمتنا حيَّة حيثما «يحمل أبناؤها السلاح»، من مارون الراس في لبنان، إلى جينين في فلسطين، إلى أم قصر في جنوب العراق. مروراً بكل معارك الأمة في تلك الأقطار التي تُمثِّل مارون الراس وجينين وأم قصر رموزاً من رموزها. وقد شكَّلت رموزاً معاصرة كانت قد تأسَّست على خطى معركة بور سعيد في مصر، ومعركة الكرامة في الأردن، وكفار يوفال في فلسطين المحتلة، وكفركلا والطيبة في جنوب لبنان.

(30): المشهد العراقي في تشرين الأول 2006
الافتتاحية:
حذار من استراتيجية الاختراق الأميركي والصهيوني لوحدة المقاومين العرب
إذا أردت أن تعرف ماذا يحصل في البيت العربي عليك أن تعرف ماذا يجري في البيت الأبيض الأميركي. وإذا أردت أن تعرف ماذا يجري في البيت الأبيض عليك أن تعرف أي مأزق أسود وقع فيه ثور أميركا الهائج على أرض الرافدين خاصة.
لا يزال الرئيس الأميركي يصر على أنه يمتلك خطة تحقق له النصر في العراق، على الرغم من أن خياراته قد ضاقت كثيراً، ويجمع الخبراء، وعلى رأسهم الخبراء الأميركيون، أنه يعمل على تقطيع الوقت الضائع لتجاوز مأزقه الداخلي في الانتخابات النصفية للكونغرس. ومن بعدها سيقرر كيف سيتجرع الكأس المرَّة، كما أوحى بذلك جيمس بيكر، رئيس اللجنة الأميركية المشتركة بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي، الذي أجَّل إعلان اقتراحاته بشأن العراق إلى ما بعد الانتخابات النصفية كي لا يؤثِّر على نتائجها.
جيمس بيكر، وزير خارجية الرئيس جورج بوش الأب، وهو «غراب البين» الذي نعب في العام 1990 قائلاً إنه سيعيد العراق إلى ما قبل العصر الصناعي. وموقعه هذا يجعلنا نثق بتقييمه السلبي للمأزق الأميركي في العراق، ونرى أن في امتناعه عن إعلان نتائج تقييمه إلى ما بعد الانتخابات دليل واضح على أنه يؤشر إلى أن سلة حلوله سيكون أحلى ما فيها مُرّاً على مذاق جورج بوش، وفيها من التوصيات الذي إذا طبَّق جورج بوش بعضها أو كلها، سيكون «كمن يتجرَّع السم». وهذا ليس غريباً على كرم العراقيين السخي بتصنيع السم الخاص بأعداء العراق والأمة العربية. ولم يكن جورج بوش هو الأول، ولن يكون الأخير، الذي يتجرَّع السم العراقي، بنكهته البعثية، لأن البعث دفع آخرين قبل جورج إلى أن يتجرعوا السم، ويهنأوا بمرارته.
إذا كانت الوجوه السلبية التي يحصدها أعداء الأمة مرآة لنوعية مواجهتها معهم، فإننا نرى في مقابلها وجوهاً إيجابية لمسيرة الأمة العربية في المرحلة الراهنة. إذ يكفيها أنها وضعت أولئك الأعداء في مواقع الدفاع إن لم يكن في مواقع الهروب. وليس هناك وجوهاً أكثر إشراقاً من العلقم الذي يلعقه العدو الأميركي في العراق، كما أنه ليس هناك وجوهاً أكثر إشراقاً مما لعقه العدو الصهيوني في لبنان، ومما يلعقه على أرض فلسطين.
إن استراتيجية المرحلة للإدارة الأميركية، إدارة الشر والعدوان، هي أن تلتفَّ على ما حصَّلته الأمة من مكاسب، وذلك من أجل توقيف امتداداتها ومنعها من التراكم، وحجب تأثيراتها وانعكاساتها على الشارع العربي من جانب، وإيقاف حالة التدهور التي أصيب بها التحالف الاستعماري – الصهيوني.
ففي فلسطين وضع المشروع المعادي استراتيجية نقل الصراع من موقعه الفلسطيني – الصهيوني، إلى موقع الاقتتال الفلسطيني – الفلسطيني، على طريقة التناقض بين مغريات السلطة وموجبات الثورة، ومنع الوصول إلى ما يحقق التوليف بينهما. إذ بدلاً من أن تستمر الثورة زاهدة بتلك المغريات، نلمس في أفق ما يدور على الساحة الفلسطينية الآن اقتتالاً حول الاستئثار بها، وهي لا شك ستكون إجهاضاً لحالة التراكم النضالية للشعب الفلسطيني.
وفي لبنان يستغل التحالف المعادي عوامل التفتت في جسد الحركات السياسية، بتأثيراتها الطائفية السياسية والمالية، من أجل تعميق التجزئة بجعل اللبنانيين ينقسمون على أنفسهم ليحتفظ بحصة ثابتة له، يساعده على ذلك تأثيرات إقليمية وغيرها طامعة بتثبيت حصتها. الأمر الذي جعل قرار الحركات السياسية فيه مشدوداً إلى حماية الخارج. ذلك هو الواقع الذي يجعل المقاومة فيه تقع تحت مخاطر عديدة تعمل على إجهاضها أو جعلها رهينة لمصالح أبعد من أن تكون لبنانية.
أما في العراق فيعمل الاحتلال الأميركي، بحركة للهروب إلى أمام، على تعزيز حالة الانقسام والتفرقة بين العراقيين وصلت إلى حدود إنتاج عشرات الجثث مرمية في شوارع مدن العراق ومياه دجلة والفرات. تلك الظاهرة التي يُخشى من أن تعمِّق الجراح في نسيج المجتمع العراقي الوطني. ولكن، ولأن المقاومة الوطنية العراقية مُحصَّنة ومحمية بفكرها واتجاهاتها الوطنية والقومية، ولأنها إنتاج لسلطة حزب البعث العربي الاشتراكي السياسية، ففيها تكامل السلطوي مع الثوري، تجعلنا نطمئن إلى أن حالة التفتيت الراهنة لن تكون أكثر من عرضية ستزول بعد زوال الاحتلال، وزوال عملائه من الطائفيين المذهبيين والعرقيين.
وفي هذا المجال جاء «إعلان الاستقلال والتحرير» الذي أعلنته القيادة الموحَّدة للمقاومة العراقية ليزرع الاطمئنان في نفوس الخائفين على العراق، وليعطي دلائل ثابتة على أن الفكر القومي والوطني، على قاعدة التلاحم بين شتى أطياف فصائل المقاومة الوطنية العراقية، هو الجسر الأمين والمضمون لحماية مكتسبات الأمة التي حققتها على أسنة رماح الكفاح الشعبي المسلَح. وهو في الوقت ذاته يتوجَّه بشكل غير مباشر إلى حاملي البندقية في مواجهة المشروع المعادي لحق الأمة في حماية كرامتها وأرضها وثرواتها، لكي يتعالوا عن كل ما يفوِّت الفرصة على نفاذ الاستراتيجية الأميركية والصهيونية.
طليعة لبنان الواحد: عدد تشرين الأول 2006
تبادل التهم بين الاحتلال وعملائه تؤكد أن الاحتلال الأميركي بدأ مرحلة العد العكسي للهروب من العراق
قمة التحول النوعي في المواجهة بين الاحتلال الأميركي والمقاومة الوطنية العراقية بلغت ذروتها الأخيرة منذ أن أعجزت المقاومة الاحتلال ومنعته من تحقيق أهدافه في الاستقرار الأمني الذي هو الشرط الضروري والكافي لسيطرة الشركات الأميركية التي تعمل على قاعدة أن الرأسمال جبان لا يعمل إلاَّ في بيئة آمنة خوفاً من الخسارة.
ليس واقع الحال للاحتلال هو عجزه عن توفير الأمن لرأسمال الشركات التي فتحت شهيتها على استثمار أموالها في عقود إعادة إعمار العراق فحسب، بل والأهم من كل ذلك هو عجز الاحتلال عن حماية أمن آبار النفط، إنتاجاً ونقلاً وتسويقا، أيضاً.
لقد دمَّرت آلة الحرب العدوانية كل ما تمَّ بناؤه خلال خمسة وثلاثين عاماً، والتي قدَّر الخبراء تكاليفها بما يفوق الأربعماية ملياراً من الدولارات، وكانت تُعتبر البنى المادية التحتية للمشروع النهضوي القومي. لقد تمَّ تدمير تلك البُنى من أجل توفير مشاريع لسماسرة الشركات للمشاركة في ما سمُّوه خداعاً «إعادة الإعمار»، فالآلة العسكرية دمَّرت بينما الإدارة السياسية لم تستطع توفير المناخ الآمن لتوظيف رساميل شركاتها.
إن عجز الاحتلال عن السرقة والنهب كان الوجه السلبي من العملية، لأن الاحتلال لم يخسر شيئاً فالسارق عندما يعجز عن سرقة شيء كان ينوي سرقته لا يعني إلاَّ أنه خسر جهده فقط. لكن اللص الأميركي، لم تكن خسارته سلبية فحسب، وإنما خسر بالإضافة إلى خسارته السلبية ما أخذ يدفعه من جيبه الخاص جنوداً ومئات المليارات من جيب المكلف الأميركي.
فالمواطن الأميركي كان بإمكانه أن يسكت على فشل إدارته بسرقة ثروات العراق، ولكن أن يدفع بالإضافة إلى فشله الكثير من الدم والمال، فهذا ما لا يستطيع أن يتحمَّله. ومن هنا بدأ مأزق إدارة جورج بوش، إذ تضافر فشله في السرقة مع خسارته البشرية والمادية، وكان فشله فشلين: فشل في السيطرة على العراق والعراقيين، وفشل في إقناع الأميركيين بشرعية عدوانه.
ولما كان يراهن على عامل الوقت في احتواء المقاومة، ولما كانت مراهناته، إذا نجحت، تغطيه أمام الشارع الأميركي، ولما فشل لأكثر من ثلاث سنوات، تكون مرحلة التحول النوعي قد ابتدأت بعد أن كان التراكم قد بلغ ذروته. وهي قد بلغت بفعل أمرين: شدة تأثير المقاومة العسكرية وشدة حالة الاعتراض الأميركي الداخلي، وهما أمران يؤشران على أن إدارة جورج بوش قد دخلت مرحلة العد العكسي للهروب من العراق.
وقد دخلت مرحلة العد العكسي في خطواتها الأولى، تلك الخطوات التي أخذت طريقها نحو العلن من خلال أحد أهم مظاهرها، وهو إثارة دخان ما سُمِّي بالخلاف بين إدارة جورج بوش مجتمعة وحكومة عميلها جواد المالكي. لقد بلغ الخلاف ذروته في شهر تشرين الأول، وظهرت ملامحه الأولى منذ زيارة كوندوليزا رايس الأخيرة إلى العراق، وكان قد سبق زيارتها تصريح لزلماي خليل زادة يمهل فيه جواد المالكي ثلاثة أشهر لكي يعيد الأمن إلى العراق. ومن ذلك التصريح اندلعت المواجهات الكلامية واتسعت، وبدا وكأن الأمر يعني مواجهات جدية بين متكافئين وليس بين سيد وعميله.
كان الإنذار لجواد المالكي نقطة الانطلاق التي شرب منها «حليب السباع» وبدا وكأنه يمثل أنموذج الوطنية والشرف عندما ردَّ الكيل لزلماي خليل زاده، وكلاهما عميلان أصيلان، محمِّلاً قوات الاحتلال مسؤولية استفحال الفوضى، وأردف حالماً بأنه يمتلك إمكانيات سحرية في إعادة الأمن للعراق إلاَّ أن ما يعيقها هو تدخُّل الجيش الأميركي في كل شاردة وواردة.
عبثاً نحاول استقراء ماذا يريد المالكي من وراء «عرض زنوده»، أهو غبي أم مدفوع لقول ما قال؟
هو غبي لأن ما يدَّعي تحقيقه كـ«عبد» عجز أسياده عنه. أو هو مدفوع لقول ما قال لأنه، كعميل قادر على أن يترجم تبعيته بكفاءة. قام سابقاً بتغليف العدوان والاحتلال برداء عراقي، ويكون قد طُلٍب منه أن يلعب دور تغطية فشل أسياده خاصة وأنهم يمرون بأوقات عسيرة على أبواب انتخابات قد تلقي بهم خارج السلطة. وهو بدوره الراهن يريد أن يوحي بأن سلطة العملاء أصبح بإمكانها إدارة العراق بحيث يفهم الناخب الأميركي أن الجنود الأميركيين سيعودون إلى بلادهم قريباً.
سواءٌ أكان الخلاف مفتعلاً، أم كان يمثل قمة الغباء، فإن ما يُراد منه هو أن يخفف الوطء على إدارة جورج بوش ليجتاز امتحان الانتخابات بأقل الخسائر، خاصة وأن استطلاعات الرأي في أميركا تشير إلى أن جورج بوش وحزبه الجمهوري سيحصدان الخسائر التي تضعهما على حافة الإفلاس السياسي بسبب فشلهم الذريع في العراق.
إن مسرحية الخلاف، التي عنوانها وأهدافها، ليس إلاَّ تمهيداً للمباشرة بتطبيق الاستراتيجيا الأميركية الجديدة التي أخذت معالمها تتَّضح من عدة زوايا، ومن أهمها:
في خلاف الاحتلال مع عملائه سياسة الهروب إلى الأمام
منذ أواخر العام 2003، بعد أن أكَّدت التقارير العسكرية حجم وفعالية المقاومة الوطنية العراقية، وبعد أن قرأ بعض الاستراتيجيين الأميركيين حجمها وفعاليتها، توصلوا إلى النتائج ذاتها التي يتم ترويجها من خلال إعلام هذه المرحلة بالذات، أي أن ما كان يجب على إدارة جورج بوش اتخاذه منذ ذلك الحين، فهو بعناده، وخشية المجموعة التي أُطلق عليها مجموعة «القرن الأميركي الجديد» من موت مشروع إيديولوجي أعدّوا له منذ أكثر من ثلاثين عاماً، جعلتهم يراهنون على إمكانية تحسين الوضع في العراق بإزالة عائق المقاومة المسلَّحة، بشنِّ أكثر من مائة من أكبر العمليات العسكرية وأكثرها وحشية كأنموذج عمليات الفلوجة والقائم والرمادي...
في الربع الأخير من العام 2003، أخذ بعض المحللين والسياسيين الأميركيين من ذوي الخبرة يلقون الضوء على ما سوف تجره سياسة الاحتلال الأميركي للعراق من مخاطر، خاصة وقد تأكدوا على ضوء خبرتهم أن الاحتلال سائر إلى الزوال. وعن تأثير كل من عملاء الاحتلال والمقاومة العراقية في رسم مستقبل الاحتلال، قال جوديث يافث، المحلل السابق في المخابرات الأميركية: »إن الكيان العراقي الجديد إذا افتقر إلى الدعم الشعبي القوي، سيكون هشاً أمام سيطرة عنيفة للمقاومة«. ولأن الإدارة الأميركية راحت تراهن على أن خروجها من المأزق سيكون منوطاً بتسليم السلطة لعملائها من العراقيين، علَّق جون أبي زيد، قائد القوات الأميركية قائلاً: »إن السؤال الهام ليس فيما يتعلق بإمكانية نجاح تولي العراقيين لحكمهم وأمنهم الخاص؛ بل السؤال هو: هل يملك الجمهور الأميركي صبراً كافيا للسماح بحدوث ذلك؟«. ولأن صبر ذلك الجمهور سينفذ، كما تلمَّست جريدة الغارديان البريطانية، في شهر تشرين الثاني من العام 2003، أي بعد سبعة أشهر من الاحتلال، قالت إن إدارة الرئيس جورج بوش »أعلنت جدولاً زمنياً لترتيب ونشر قوات الأمن العراقية، ثم أعلنت التعجيل بهذا الجدول ثم عجلت به مرة ثانية«. حينذاك اعتبر بعض المحللين الأميركيين، أن تسليم الأمن لقوات عراقية، يُعدُّ نوعاً من الهروب إلى الأمام. لأنه، في رأيهم، أن ما عجزت عن تنفيذه مئات الألوف من الجنود المدربين أفضل تدريب، ومن الذين يستخدمون أرقى أنواع التكنولوجيا المعروفة، لن تستطيع بضع من عشرات الآلاف من الميليشيات أن تنجح فيه.
ونتيجة لكل ذلك نقلت صحيفة الواشنطن بوست عن السيناتور الديمقراطي جوزيف بيدين عضو لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس قوله: »إن سياسة الإسراع بعرقنة السلطة في العراق إنما هو نسخة من القطع والجري في فيتنام أي أنها أحد الطرق للهروب. إننا ببساطة ننسحب، كما أن تسليم الأمن للقوات العراقية وإسدال الستار على القوات الأميركية، إنما هو وصفة قريبة الأمد للكارثة«.
لقد قمنا بنقل مشهد عن الاحتمالات التي كانت تتصور حدوثها عيون غربية، وأكثرها أميركي، لنرى أن صورة الاحتمالات المطروحة اليوم لا تخرج، في سياقها العام، عما كانت تدعو إلى تطبيقه حالة الاعتراض الأميركية منذ سنوات ثلاث بالتمام والكمال.
ففي تلك السنوات الثلاث، لم تحصد إدارة جورج بوش إلاَّ الندم والفشل، لأنها لم تحصد إلاَّ عدة من عشرات الآلاف من جنودها بين قتيل ومعاق ومجنون وهارب من الخدمة، هذا ناهيك عن أن النسبة الكبرى من الذين لا يزالون عالقين في ساحة الموت على أيدي المقاومة العراقية يحلمون أنه لا خلاص لهم إلاَّ بالعودة إلى بلادهم، وهم سيان لديهم فيما إذا لحقت الهزيمة بهم أم لم تلحق، فحياتهم هي أهم من النفط الذي سيملأ جيوب أسرة بوش ومعاونيه بمليارات الدولارات.
ليس ما نقول استنتاجاً وإنما تؤشر عليه، وتعلنه مواقع أميركية كثيرة ذات صلة مباشرة بأولئك الجنود. وهذه الظاهرة تزداد يوماً عن يوم، وتستفحل كلما أعلن الرئيس الأميركي عن خطة جديدة لـ«النصر في العراق».
إن مواقف إدارة جورج بوش، كما أخذت تتَّضح في هذه المرحلة بالذات، تطبِّق سياسة الهروب إلى الأمام، كما وصفها السيناتور جوزيف بايدن منذ ثلاث سنوات، تحت صيغة تهديد حكومة نوري المالكي بأن صبر الإدارة قد نفذ، أو أن صبرها لن يكون من دون حدود، تقول أم كلثوم «إن للصبر حدود يا حبيبي»، فلعلَّ رئيس أكبر دولة في العالم كان من عشاق «الست». وهو يترنَّم بأغنيتها المشهورة، ولعلَّ نوري المالكي، هو «الحبيب المقصود»، أو هو الحبيب الذي عليه أن يفتدي فشل حبيبه «جورج».
إلاَّ أن المالكي ضاق ذرعاً، أو قبل بما طُلب منه وهو لا يستطيع أن يرفض لسيده طلباً، وقد اتفقا أخيراً، أو طُلب منه أن يبصم على قرار الاتفاق الذي صاغه سيده، وهو غير واثق بأن الاتفاق سيبصر النور، الاتفاق على تشكيل لجنة طوارئ يقع على عاتقها إعادة الأمن إلى العراق في ستة أشهر، الأمن الذي لو تأكَّد جورج بوش أنه يستطيع أن يعيده بست سنوات لما لجأ إلى ذلك المخرج المهين له، والمُحرج لنوري المالكي. هذا ناهيك عن أن طوني بلير وضع كل ثقله من أجل إنجاز تدريب قوات الشرطة العميلة التي سيسلمها الأمن في العراق، وتجدر الإشارة إلى أن المقاومة العراقية قد حصدت سبعة عشر من المدربين، دفعة واحدة، في البصرة.
باختصار، ليس قرار تحديد ستة أشهر لإنجاز تأهيل قوات من الشرطة العميلة والجيش العميل، من أجل تسليمهما الأمن حماية لأرواح جنود الإمبراطور الذي يترنَّح تاجه على رمال صحراء العراق، فهو ليس إلاَّ قرار «الهروب إلى الأمام» كما وصفه السيناتور جوزيف بايدن منذ ثلاث سنوات بالتمام والكمال. إن قرار الإذعان هذا، وهو بداية الهروب الأميركي من العراق، على المالكي أن يأتمر به، ويُظهر الطاعة بالالتزام به، فبعد ستة أشهر قد «يموت الملك أو قد يموت الحمار».
ليست نتائج المشهد في أميركا اليوم إلاَّ مرآة للواقع في العراق. فالمشهد الأميركي في البيت الأبيض والبنتاغون تمَّ تصويره على أرض العراق، وقامت المقاومة العراقية بإخراجه وفرضت السيناريو الخاص به. وبهما ستُكتب مقدمة بداية النهاية للإمبراطورية الأميركية.
إن نهاية الإمبراطورية الأميركية لا تعنى اندثار أميركا ونهايتها، وإنما فرض قرار بدفن حلم سيطرة الولايات المتحدة الأميركية على الكرة الأرضية بما يعني «أمركة العالم»، أي تتويجها حاكماً وحيداً للكون. حاكماً لإملاك «لا تغيب عنها الشمس»، وحاكماً لكل خيرات السحاب بحيث يُسمح للغيوم أن تذهب حيث تريد لأنها لا بدَّ من أن تمطر في أرض الإمبراطور الذي يقول لها: «إذهبي حيث شئت فإنك ستمطرين في أرضي».
إن المفهوم الإمبراطوري يعني اجتياح العالم بالقوة العسكرية، أي بالفوضى الخلاقة، وهو تماماً ما عبَّرت عنه جماعة «اليمين الأميركي المتطرف»، من أجل وضع نهاية للتاريخ تستفرد فيه الإيديولوجيا الرأسمالية بحكم البشرية كآخر مظهر من مظاهر «حرب الأفكار».
إن هذا المفهوم أثار الخوف ليس في نفوس قطاع واسع من الأميركيين فحسب، وإنما أثار الهلع في نفوس حلفاء أميركا من الدول الرأسمالية أيضاً. ولهذا تضافرت جهودهم معاً من أجل إقناع إدارة بوش بعقم حلمها المتطرف الذي ابتدأت معالمه تتَّضح في العراق، فلم يجدوا إلى إقناعه أي سبيل، فتكفَّلت المقاومة العراقية بذلك وأفلحت أيما فلاح.
أي مستقبل للاحتلال في العراق؟
نسوق ذلك لكي نسلِّط الضوء على ما نرى أنه واجب يدعونا إلى استشراف المستقبل الأميركي في العراق، ومنه نطل على ما يمكن أن ترسو عليه نتائج الصراع الدائر على أرضه.
إن إنهاء الاحتلال الأميركي في العراق هو إقلاع عن حلم «أميركا الامبراطورية» والعودة إلى الأصل «أميركا الأمة»، أي عودة الجيوش الأميركية إلى حماية الأرض الأميركية، واستئناف سيطرة الأمة الأميركية على الخارج بقوة الدبلوماسية وتأثير رأس المال.
إن انتصار هذه الدعوة تعني انهزام لاستراتيجية جورج بوش وبداية لاستعادة حالة الاعتراض الأميركية مسيرتها السابقة. وهذا لا يعني أنهما يشكلان نقيضين بالإيديولوجيا، ولكنهما يتناقضان بالأسلوب والوسيلة فقط، فكلاهما رأسمالي حتى النخاع.
إن انتصار نهج «أميركا الأمة»، وهو ما أفصحت عنه تكتيكات إدارة بوش السياسية في العراق من خلال الاتفاق الأخير المعلن بتسليم الأمن للسلطة العميلة كمظهر جدي للخروج من العراق، وعلى توازٍ مع هذه الخطوة أعطت الإدارة الضوء الأخضر من أجل السيطرة على بؤر التوتر، أو تهدئتها، بالوسائل الديبلوماسية، أي ما تعبِّر عنه المصطلحات الإعلامية الأميركية الجديدة، الامتناع عن «تصدير الديموقراطية بالوسائل العسكرية». وهذا تمهيد بدأت به الإدارة من أجل وضع أسوار حماية لمواقعها التابعة لها، ومن أهمها تثبيت مواقعها في كل من لبنان والعراق.
فالمرحلة القادمة التي ستلي الانتخابات النصفية للكونغرس في أميركا، يستنتج بعض المحللين، ستشهد تحولاً في الاستراتيجية الأميركية باتجاه تقليص دورها العسكري المباشر في الخارج، وهي من أجل ذلك اعتمدت سياسة الحوار مع كل من إيران وسورية لعلها تنجح معهما في تبادل المصالح في الملفين العراقي واللبناني. هذا طبعاً بالإضافة إلى تعزيز أدوار أصدقائها التقليديين في كل من مصر والسعودية والأردن وطلب مساعدتهم في الملفين المذكورين مع التركيز على أن يلعبوا دوراً أساسياً في الملف الفلسطيني.
ولهذا نرى أن استراتيجية المرحلة القادمة ستكون مرحلة «المكوكية الديبلوماسية» في كل من لبنان وفلسطين. أما في العراق فالمشهد سيكون مختلفاً، أما السبب فلأن الملفين الفلسطيني واللبناني تتكاثر فيهما عوامل التداخلات الدولية والإقليمية والعربية، أما في العراق فليست هناك تأثيرات أساسية لاتخاذ القرار وفرضه إلاَّ للمقاومة الوطنية العراقية كطرف شرعي ووحيد. ولا يمكن للمقاومة أن تسمح لأحد بأن ينوب عنها، فهي قد اختارت طريق «التحرير والاستقلال» بشكل تام وناجز، وسمحت لمن يريد التدخل من العرب والإقليم ألاَّ يكون تدخله إلاَّ على أساس إعادة تحرير العراق واحداً موحداً. وإنهاء كل أثر للاحتلال وعملائه. وهذا ما أكده منهجها الذي أعلنته قيادة المقاومة الموحدة في شهر تشرين الأول الفائت.


(32): أجوبة عن أسئلة وجَّهها السيد زحل بن شمسين
سيدي الكريم زحل بن شمسين المحترم
أعتذر عن تأخر الرد على أسئلتكم، لأنني آثرت التوضيح ومعي متَّسع من الوقت، حيث إن ما طرحته من تساؤلات تصيب أكثر الجوانب إلحاحاً عندنا من أجل توضيحها لأنفسنا أولاً، واتخاذ موقف موضوعي منها نحن نحتاج إليه في حركتنا السياسية ثانياً. وهي لا تشكل هاجساً لديك فحسب، بل تشكل أحد أكثر همومنا الخاصة والعامة في لبنان أيضاً.
إن السؤال هو المعبِّر عن شخصية السائل وطبيعة ثقافته واتجاهاته. وقرأت في أسئلتك الكثير من المرارة وعمق الثقافة السياسية النابعة من كبر المعاناة التي تختزنها، كما نختزنها نحن أيضاً.
تلك أسئلة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمعاناة المثقف العربي المثقل بالهموم القومية، وجعلها سقفاً فكرياً وسياسياً وعسكرياً استراتيجياً لحركته السياسية، فأصبحت عنده كُلاًّ أساسياً يحاكم الأمور التي تنزل إلى ما دونه من قضايا قطرية على أساسها. ولهذا لا يجوز أن نغفلها حينما نعالج قضايانا القطرية، وأنا أتساءل أحياناً كثيرة: هل تلك هي نعمة أم نقمة؟ وهل هذا الهم إلاَّ ما يثقلنا بأعباء إضافية نحن كبشر لنا طاقاتنا المحدودة؟
هي عبء شديد الوطأة على المثقف الذي يعيش في بيئة لا ينظر المجتمع فيها إلى أكثر من ذاته، وإذا أكثر فيوسعها إلى أسرته، أو إلى قريته، وقد لا يستطيع أن يتجاوز طائفته. وتلك محنة نحن مصابون بها في الوطن العربي بشكل عام. ونتيجة لكل ذلك لن تكون المواقف السياسية لتلك الشرائح بعيدة عن رؤاها الثقافية الضيقة. ولا شك بأنك يا سيدي الكريم تعاني في بيئتك الاجتماعية والثقافية في الحوار مع تلك الشرائح ما نعاني، وهيهات أحياناً أن تناقش من لا يرى الكون إلاَّ في ذاته أو أسرته أو طائفته، وتكون من السعيدين إذا وجدت من يناقشك من داخل وطنيته القطرية. وهيهات أن تجد الكثيرين من يناقشك، بل هم أقلية لا تتجاوز المنظمات والحركات والأحزاب القومية مُسندين من بعض الشخصيات ذات الموقع الاعتباري الثقافي أو السياسي.
وهي نعمة، سيدي الكريم، لأن كل مقاييس المنطق الفكري والسياسي والإيديولوجي تدل على أنه لا يمكن معالجة همومنا الشخصية والقروية والطائفية والقطرية إلاَّ بفكر قومي شامل، سياسياً واقتصادياً وحتى روحياً، لأن فيه، كما تعلمنا، وكما نحن مقتنعون، جواباً عن كل زوايا معاناتنا على كل تلك الصُعُد. وما ليس فيه جواب يبقى تفصيل من التفاصيل التي يستطيع فيها المجتمع القومي العربي أن يبحث عن حلول له، وهي ستكون عملية تجديد وتجدد مستمرة.
فاستناداً إلى موقعنا الفكري هذا، وفي الوقت الذي نرى فيه أمتنا مُثقلَةً بالكثير من الثغرات التي أشرت إليها، أعتبر أن الفكر القومي العربي هو نعمة علينا أن نستمر في الانطلاق منها وتحت سقفها فمن دونها نبقى أسرى في دوائر الضعف الذي ليس له مستقر يقف عنده.
المهمة صعبة كما ترى وكما دلَّت تجربتك وتجربتنا، ولكنه ليست مستحيلة، وطريقها الأفضل أن تمر عبر تغيير ثقافي مستمر ودؤوب، وهذا ما لا يمكن أن نحقق إنجازاً فيه إلاَّ على قاعدة النفس الطويل، لأن أي تغيير ثقافي لا بدَّ من أن يستهلك حياة أجيال وأجيال.
من أهم ما نعاني منه في لبنان، سيدي الكريم، هو مشكلة استفحال الفكر الطائفي السياسي تاريخياً، وازدادت حدَّةً بعد أن دخلت التيارات الدينية السياسية معترك الحياة السياسية في لبنان. ونوجز واقعها الراهن بأنها تجذب إليها كل الطوائف من دون استثناء، وإن كان أكثرها حدَّة تلك الحركات التي دخل بعضها بعباءة سنية، ودخل بعضها الآخر بعباءة شيعية، ومما زادها استفحالاً، وتضليلاً، أن النظام المذهبي في إيران عمل، ولا يزال يعمل، على دعمها ومدِّها بكل سبل الإمكانيات المادية.
أما كيف زادها استفحالاً، فلأنه أدخل الطائفية التي كانت مشدودة إلى مركزياتها ببساطة وطيبة، وأحياناً كثيرة، بسذاجة، فلأنه حوَّلها إلى حركات منظمة لها إيديولوجياتها، التي أضفى عليها صفات «القداسة الإلهية»، بحيث يعتبر المنتسب إليها أنها الطريق الوحيد لخلاص نفسه في الآخرة. وقد تساوت الحركات السنية مع الحركات الشيعية في الدعوة والتبشير. وقد استخدمت تلك الحركات المال الديني، بحيث أطلقوا عليه مصطلح «المال الحلال»، وراحوا يوظِّفونه توظيفاً سياسياً. وتلك هي صورة الواقع لـ«حزب الله» كحركة شيعية، وصورة الواقع لبعض الحركات السنية كـ«حزب التحرير الإسلامي» وبعض مواقع القوى المتأثرة بالإخوان المسلمين.
أما أنها قد أستخدمت وسائل التضليل فلأن النظام الإيراني راح يقدم الدعم إلى الحركات السنية. وكنا لاقتنعنا بأهدافه النزيهة بتقديمه الدعم لتلك التيارات لو لم يكن النظام قد حدَّد أهدافه المذهبية علانية من دون لفٍّ أو دوران، وأبرزها فيما يُسمَّى بـ«الوصية الإلهية» التي أُعلِنت بعد وفاة الخميني، ووُزِّعت بشكل علني.
إنني، سيدي الكريم، كنت مُضطراً أن أضعك في أجواء هذه المقدمة تمهيداً لتوضيح ما سألت عنه. وتلك مسألة في غاية الأهمية، أن نلقي أضواء حول تأثير العامل الإيديولوجي المذهبي، وأنا أمارس تحليل ما يجري على ضوء معرفتي بأسس تلك الإيديولوجيات وأسباب تكوينها. وإن هناك قليلين ممن يستندون في تحليل الواقع الراهن إلى العوامل الإيديولوجية، بل يختزلوها بأسباب سياسية وتاريخية فحسب، ويعملون على تجنب الإشارة إلى العامل الإيديولوجي خشية وخوفاً.
لماذا التركيز على العامل الإيديولوجي في تحليل وقائع الأمور في المرحلة الراهنة؟
إن مئات الآلاف التي تجمعها دعوة من الأمين العام لحزب الله، ليست بتلك التي تشبَّعت بوقائع التاريخ أو بعمق التحليل السياسي، أو إعارتهما أدنى اهتمام، لكن العامل الإيديولوجي هو المؤثِّر الوحيد عليها ودفعها إلى التجمع والتظاهر استجابة للنداء.
يتوهَّم، هؤلاء وأولئك، بأن القيادة الدينية هي قيادة ترقى إلى سقف القداسة، لأن نصرالله، بنظر المؤمن بقيادة «ولاية الفقيه» مثلاً، ينوب عن الإمام، النائب عن النبي، النائب عن الله. وعن طريقه يمكن لأولئك المؤمنين أن يحتلوا موقعاً في الجنة. فموقعه المخلِّص للأنفس هو الذي يهم مئات الآلاف وليس أي شيء آخر.
إزاء هذا الواقع، كيف يمكن للآخر، غير «ولي الأمر» الديني، أن يظهر أمام مئات الآلاف الجائعة لدخول الجنة؟
من هنا تأتي صعوبة المهمة التي يتنكّبها دعاة الفكر القومي أو الفكر الوطني في وسط شعبي لا يرى أي حل يأتي من خارج المؤسسة الدينية؟ وهنا أقصد المؤسسات الشيعية والسنية على حد سواء. وقد شاءت الأقدار أن تكون الحركة السياسية الشيعية في لبنان قد وقعت تحت تأثير وسطوة وإمكانيات النظام الإيراني، كما وقعت تلك السنية تحت سطوة وإمكانيات بعض تيارات الإخوان المسلمين.
هذا ما يجري في لبنان وفي العراق أيضاً.
إن من يستطيع أن يتخذ موقفاً واضحاً وصريحاً وغير وجل من تلك المظاهر ليس إلاَّ الذي اعتنق الفكر القومي والوطني ونذر نفسه من أجل النضال تحت رايتهما. ولهذا ترى الذين يريدون أن يصلوا إلى مواقع سياسية أو امتيازات مادية، حتى إن من يحسبون أنهم من دعاة الفكر القومي والوطني ليسوا بوارد أن يقدموا تضحية حقيقية في سبيل اتخاذ مواقف صريحة وواضحة من تلك الظواهر.
كانت مقدمتي، كما أحسب، واضحة في تفسير موقع حزب الله، وفي تفسير مواقف أحزاب وطنية لبنانية، كما في تفسير مواقف قوى وشخصيات محسوبة على التيارين القومي والوطني، فليس يا سيدي الكريم كل من يحسب نفسه وطنياً هو وطني بالفعل، وكل من يحسب نفسه قومياً هو قومي بالفعل، بل إن هناك مؤسسات تتبنى الفكر القومي ولكنها للأسف الشديد كانت واجهات سياسية تُستخدم جسراً لعبور استراتيجيات إما ناقصة الأهداف القومية وإما معادية لتلك الأهداف.
وأحسب أن التلميح يغني عن التصريح.
وهنا، أود أن أحدد الموقف من مواقف تلك القوى والأحزاب، وخاصة حزب الله.
من موقعي الملتزم بفكر حزب البعث العربي الاشتراكي حاولت أن أقدِّم رؤية شخصية تقترب كثيراً من رؤية تنظيم الحزب في لبنان، وقمت بتوضيحها عبر سلسلة من المقالات التي نشرت بعضها دورية العراق، ونشرتها جميعها شبكة البصرة وموقع المحرر والتجديد العربي، بحيث كانت تلك المقالات، بدءًا من مقال «قتل البشر، وهدم الحجر، بانتظار المهدي المنتظر»، مروراً بمقالتين تحت عنوان «الحلقات المفقودة» وصولاً إلى المقالة الأخيرة حول رؤية في توحيد المقاومات الثلاث...حاولت عبرها أن أسهم في صياغة رؤية قومية للمقاومة، ولم يكن ذلك مفصولاً عن الإجابة عما تريد أن تعرف من مواقفي حولها.
سيدي الكريم كل ما طرحته من استفسارات عن حزب الله، أو أجوبة بصيغة أسئلة، لم يكن بعيداً عن رؤيتي وموقفي. ولكنني أميز بين نهجين متكاملين في العمل السياسي، وهما القائمين على ما يُسمى السقف الاستراتيجي والأرضية المرحلية، وهو ما نعرفه بالتكتيك والاستراتيجيا.
على الرغم من معرفتي بطبيعة النظام الإيراني الإيديولوجية، ومدى الارتباط الوثيق بين ذلك النظام وحزب الله. وبمعرفتي بأن الحزب المذكور لا يمكنه أن يقف إلاَّ ما يقفه النظام الإيراني، ما يقرره النظام يلتزم به الحزب، على الأقل خوفاً من منع صرف الإمكانيات الهائلة له. ونحن واثقون تماماً ان ما وصل إليه حزب الله من موقع قوة في لبنان، لم يكن على الإطلاق معزولاً عن مساعدات اشتركت في تقديمها دول ثلاث: إيران، وسورية، ولبنان. وإذا ما مُنعت تلك المساعدات لانهار حزب الله بسرعة. فمجد قيادته، ومجده متعلقان بقرار من طهران.
نحن نعرف يا سيدي أن حذاء حسن نصر الله، وأحذية قادة الحزب، لم تعرف غبار المعارك، بل تعرف عسل الامتيازات الكبيرة، مادية ومعنوية، وهي في الوقت الذي تُحجب عنها، فأنا أراهن شخصياً أن القيادة لن تبقى قيادة، وأن مجد الحزب لن يبقى مجداً. ونحن واثقون أن حزب الله يلعب دوراً لا يُستهان به في خدمة المخططات الإيرانية، وفي خدمة الاستراتيجية السورية في الدخول إلى دائرة التسوية السياسية لمشكلة احتلال الجولان.
على الرغم من كل ذلك، وفيما له علاقة بدور حزب الله في المقاومة اللبنانية، و على الرغم من أن استئثاره بالمقاومة كان عملاً إرغامياً لأسباب سياسية خارجية، فنرى فيه، على قاعدة التكتيك والاستراتيجية فائدة لا يُستهان بها على صعيد مقاومة المشروع الاستعماري – الصهيوني. إذ أنه من الخطأ أن ننظر بعين السلبية للإنجاز الذي حققه لسبب أنه يسهم في تعزيز دور القوى الداعمة له، بحيث أن تعزيز تلك الأدوار ستصب مستقبلاً في غير مصلحة الأمة. ففي هذا الإطار نرى، في المرحلة الراهنة، أنه لا خطر أكبر من خطر سيطرة الصهيونية والاستعمار على الوطن العربي، فالهدف الاستراتيجي أن نقاوم ذلك المشروع، ومن بعده تعتبر كل المعوقات خطرة ولكنها تقع تحت السقف الأقل خطراً.
وهنا يحضرني السؤال التالي: هل إذا أسهم الحزب الديموقراطي في أميركا في حملة الضغط على إدارة جورج بوش من أجل الانسحاب من العراق، هي المسائل المرفوضة لدى المقاومة العراقية؟
نحن نعرف أن الحزب الديموقراطي هو من المؤيدين لبقاء الاحتلال الصهيوني، وهو من الطبقة الرأسمالية نفسها، وهو من أصحاب الشركات الكبرى؟
تلك أسباب لا تدعنا نجنح إلى السلبية من مواقف الحزب الديموقراطي المناهضة لاحتلال العراق. كما أننا لا نرفض أن يقف يهود ضد دولة «إسرائيل».
سيدي الكريم
كان لي مواقف واضحة أعلنتها بسلسلة من المقالات، وأرى أنه لا يجوز أن نرفض ما قام به حزب الله على صعيد المواجهة مع الصهيونية، لأن تلك الإنجازات أسهمت في إضعاف المواقف الأميركية وجعلت إدارة بوش تصطدم بكل بجدران المقاومة العربية، سواءٌ أكانت ذات أهداف مرحلية أم استراتيجية.
وأنا، بالإضافة إلى قناعتي بما قلته وبرهنت عليه، أحسب أن وقوفنا السلبي من تلك الإنجازات سوف يواجه استهجاناً من عدد من مواقع حزب الله، قيادة وقواعد، من الذين يتفَّهمون أهمية المقاومة العراقية. وكما سيلاقي استهجاناً من القوى والأحزاب والحركات القومية واللبنانية ممن كانت مواقفهم مؤيدة، ولا تزال، للمقاومة العراقية.
وبالإجمال أرجو ألاَّ يُفهم من استنتاجاتي أن تقييمنا الإيجابي لدور حزب الله يُلزمنا بتأييد الدور الخطير للنظام الإيراني في العراق، وهذا لنا حوله مقالات سابقة. كما أنه لا يلزمنا بالمنهج الإيديولوجي للحزب وأهدافه السياسية، لأنها لا تلعب دوراً سلبياً في بناء لبنان على أسس وطنية فحسب، وإنما تسهم في تعميق الهوة بين الطوائف اللبنانية أيضاً.
يبقى سؤالكم عن ضعف دور الحزب في لبنان بعد احتلال العراق، وحيث أنه لا يمكن التفصيل عن هذه المسألة، بل ما أستطيع أن أوضحه لكم هو أن حزبنا في لبنان قد قام من بين الرماد بعد أن مزَّقته العوامل الأمنية المعادية له طوال عشرين عاماً لم يُرفع عنه سيف الخطر إلاَّ في السنوات القليلة الماضية قبل أن نحصل على ترخيص جديد للحزب بتاريخ حزيران 2006.
على الرغم من كل ذلك فقد بذل البعثيون في لبنان، على قدر إمكانياتهم، كل جهودهم من أجل القيام بواجبهم تجاه العراق ومقاومته البطلة.
كان البعثي الذي ينجو من الاغتيال لا ينجو من الاعتقال، وأنا منهم، ومن ينجو من الاعتقال فكان يعيش ملاحَقاً من مكان إلى مكان. وتلك قصة طويلة، ولها مكان آخر.
مع تحيتي وتقديري لشخصكم الكريم
أرجو أن أكون قد أوفيت ما أردت الاستفسار عنه.
3/ 11/ 2006

(33): الحزب الديموقراطي، بالدعوة للتفاوض مع إيران وسورية حول العراق، يبدأ بالخطوة الخطأ
11/ 11/ 2006
حدثان متلازمان فاصلان بين مرحلتين في تاريخ الاحتلال الأميركي للعراق، وهما:
الحكم بالإعدام على الرئيس صدام حسين
وتنفيذ الحكم بالإعدام على إدارة الرئيس جورج بوش
استناداً إلى وقوعهما في شهر واحد وأسبوع واحد، واستناداً إلى أنهما ذي علاقة بقضية احتلال العراق، كان الهدف من الحكم بالإعدام على الرئيس صدام حسين تعزيزاً للدفاع عن حزب جورج بوش، في معركة الانتخابات النصفية لمجلسيْ النواب والشيوخ. ولعلَّه عندما يكسبها يكسب وقتاً إضافياً يحلم فيه بـ«النصر» في العراق.
ولما كان صبر الشعب الأميركي قد نفذ من أكاذيب رئيسه ووعوده بـ«النصر في العراق»، فلم ينخدع بقرار إدارة بوش حينما أمرت بإصدار الحكم بإعدام الرئيس صدام حسين بأنه سيجلب لهم النصر في العراق، فأسقطوه. وبهذا لم يُجد إصدار الحكم بالإعدام جورج بوش شيئاً، إذ سقط حزبه في الانتخابات، وأصبح جورج معروضاً أمام محكمة الشعب الأميركي لمحاسبته، منذ أن أصبحت إدارته، ومصير احتلاله للعراق، تحت رحمة الحزب الديموقراطي.
إن سبب سقوط الحزب الجمهوري، ولن نقول سبب نجاح الحزب الديموقراطي، لأن السبب الذي أدَّى إلى سقوط هذا كان هو السبب ذاته في نجاح ذاك. أما هذا السبب فكان وحيداً وكافياً، وهو سقوط الاحتلال في العراق، الذي لم تجد إدارة جورج بوش أية وسيلة من أجل منعه، إلاَّ وأخفقت فيها، لذلك أخفقت في الانتخابات النصفية وسقطت.
وبهذا يكون نجاح الحزب الديموقراطي مرتبطاً بمراهنة الشعب الأميركي عليه في إخراج الجيش الأميركي من الوحل العراقي، كما عبَّر عنها مئات الجنود الأميركيين في العراق حينما أرسلوا صورة لبعض منهم وهم يحملون يافطة كبيرة، يناشدون فيها جون كيري قائلين: «جون كيري أخرجنا من العراق، لقد توحلنا فيه».
إن مثل هذه الحقيقة، التي إذا لم يجد لها الحزب الديموقراطي حلاًّ سريعاً، نعتقد أنه سوف يسقط في الشارع قريباً، لأنه وصل على حصان وعوده بإخراج أميركا من المأزق الذي أوقعها فيه حزب الرئيس جورج بوش.
لقد أصدق الحزب الديموقراطي القول عندما دعت أكثر نائبة أميركية حظاً في ترؤس مجلس النواب الأميركي الرئيس جورج بوش إلى الإسراع في فتح ملف الاحتلال في العراق. وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على مدى سخونة الموقف، وهو بمثابة طلب الشعب الأميركي «المعجَّل المكرر» لمجلسيْ النواب والشيوخ، كما أنه كان معجَّلاً وأكثر من مكرر أمام جورج بوش.
إن رضوخ الرئيس الأميركي لواقع الأمر، ظهر واضحاً في إعلانه أنه منفتح على كل الاقتراحات، ومن أهمها إعلان النوايا الحسنة الذي أرسله إلى الحزب الديموقراطي ومفاده أنه في نيته التعاون معه حول الملف العراقي. ويرى البعض أن تقرير جيمس بيكر هو الذي سيشكل ورقة العمل الأساسية التي سترسم إطار الحلول لقضية احتلال العراق.
ولأن الأمر كذلك، ولِما تسرَّب عن التقرير ما نحسب أنه يكفي لإبداء الرأي فيه، سنبدأ تحليل ما قد تؤول الأمور فيه في المستقبل القريب. وقبل ذلك يمكننا أن نؤكد ثابتين مشتركيْن سيلعبان دوراً في ما سيحمل المستقبل من حلول نظرية، وهما:
-إن الحزبين، الديموقراطي والجمهوري، متفقان على أنه لا يجوز سحب الجيش الأميركي من العراق بما يوحي بأنه «مهزوم»، وهذا يرتبط بما يرى فيه الحزبان أنه يمس بموقع الولايات المتحدة الأميركية الدولي، أي بما يعني أيضاً أن الشعور الوطني الأميركي لا يحتمل أي معنى من معاني هزيمة جيشه.
أما الثاني فذي علاقة بالجامع المشترك بين الحزبين، وهو جامع الإيديولوجيا الرأسمالية التي توحِّد بينهما ليكونا حريصين على مصالح الشركات الأميركية.
إن هذين الثابتين قد يوحِّدا بين الحزبين في تصوُّر استراتيجية للخروج من العراق لا تمس بهما. وهما يراهنان على أن يضمنا وجود سلطة عراقية موالية لأميركا، مدعومة من حلفائها في المنطقة، ومحمية مما تعتبرها نفوذاً إيرانياً وسوريا في الداخل العراقي.
إننا نلمح في الأفق أن في انتظار توفير شروط الأمان للثابتين ما يحتمل تسويف الحزبين الأميركيْين في إيجاد حلول مناسبة للمصالح الأميركية، وهذا ما بدا واضحاً من خلال المبادرة الأميركية الأخيرة في الدعوة إلى التفاوض مع كل من إيران وسورية لكي تلعبا دوراً في خروج أميركي آمن من العراق، والقيام بدور يحمي وجود حكومة المالكي أو غيره من الموالين لأميركا. وهذه المبادرة أصبحت جامعاً مشتركاً بين الحزبين المذكورين.
فإذا كان ما سرَّبته وسائل الإعلام عن تلك المبادرة صحيحاً، خاصة وأن تقرير جيمس بيكر يحمل ما يؤكد احتمال صحتها، فنرى أن العلاج لقضية الاحتلال قد انطلقت من النقطة الخطأ للأسباب التالية:
-إن من أعاق مشروع الاحتلال ومنعه من النفاذ ليست أية جهة أخرى على الإطلاق غير زنود أبطال المقاومة الوطنية العراقية. فهي الوحيدة التي بدأت، وهي الوحيدة التي ستستمر في مواجهة الاحتلال. فلا حلَّ إذاً إلاَّ عبرها، واستناداً إلى قرارها.
-ولأن هذا موقع المقاومة وتأثيرها، ولأنها حدَّدت في منهجها السياسي الاستراتيجي، الصادر في 9/ 9/ 2003، أنها «ستمنع تحقيق مصالح الآخرين المجاورين على حساب العراق ووحدته الوطنية». ولأن إيران، التي يقترح تقرير بيكر الاستنجاد بجهودها من أجل خروج أميركي آمن من العراق، هي على رأس من استفاد من جريمة «ذبح العراق»، ومن يعمل على تمزيق وحدة العراق الوطنية، يصبح من السخرية أن يكون مدخل لجنة بيكر من البوابة التي لا يمكن أن تشكل حلاً أو بداية حل، بل ستضيف تعقيداً على تعقيد. وبهذا سينتظر بيكر، والحزب الديموقراطي الناجح في الانتخابات النصفية، طويلاً وطويلاً جداً. ولن ينتظر إلاَّ أن تُسقطه مظاهرات الأميركيين في الشارع.
-ونعجب أن تُدرج المبادرة المذكورة اسم سورية كطرف تستنجد به اللجنة لتساعد على توفير مناخ آمن لخروج أميركي تدريجي من العراق، خاصة أن هذا الخروج سيكون مرتبطاً مع نجاح، أو إنجاح، ما تُسمى «العملية السياسية» التي يقودها عملاء الاحتلال الأميركي. واللجنة، أو المبادرة، من أجل حشرها في الملف العراقي، تُضمر تقديم إغراءات لسورية في لبنان، وهي تُضمر، من دون شك، أن تُغدق وعوداً عليها في إعادة فتح ملف التفاوض حول الجولان المحتل. وفي كل المقاييس لن تفلح تلك الإغراءات في جذب سورية، لأن إعطاءها امتيازات مرحلية في لبنان لن تعوِّض عليها ما سوف تخسره من مكاسب استراتيجية على النطاق القومي العربي، خاصة عندما تمنع مشروع تقسيم العراق، وتحريره من الاحتلال الأميركي، والحؤول دون بقاء أي عميل لأميركا في أي موقع مسؤول في السلطة.
وهي تعلم، أو نرجو أن تعلم، أن بقاء العراق تحت الاحتلال الأميركي، سواءٌ أكان البقاء مباشرة أم كان مداورة، سيشكل خسارة استراتيجية لسورية، إذ أن أميركا في تلك الحالة ستجرِّدها من كل مكاسبها المرحلية، في لبنان وغير لبنان.
ليس عجبنا عبثياً بل هو يقوم على عدد من الحقائق التي هي بمثابة الثوابت، ويأتي على رأسها ومن أهمها:
-إن بقاء عملاء الاحتلال على رأس الحكم في العراق، ستستفيد منه أميركا وإيران، لأن مصالحهما تتقاطعان بإنجاح إعادة تقسيم الوطن العربي حسب خطة «شرق أوسط جديد» تكون الأقليات الطائفية أساساً لتقسيم جديد وهو ما يجمع بين مشروعيهما. وهل يمكن لإيران أن تحصل على حصة في الوطن العربي إلاَّ عبر تلك الخطة؟
-إن بقاء عملاء الاحتلال على رأس الحكم في العراق ، ستستفيد منه أميركا والحركة الانفصالية الكردية، بواسطة بناء دولة كردية تكون مدعومة من العدو الصهيوني بشكل أساسي.
تلك الحقائق الثوابت تدعونا إلى العجب، لتقودنا إلى السؤال التالي:
هل تعتبر امتيازات ستُعطى لسورية في لبنان معادلة للمخاطر الاستراتيجية التي ستتعرض لها من جراء استمرار عملاء أميركا وإيران في استلام السلطة في العراق؟ أي هل تقسيم العراق إلاَّ بوابة لمخاطر كثيرة ستحيط بسورية؟
وهل الوعود التي ستُعطى لسورية في إحياء المفاوضات حول الجولان إلاَّ وعوداً عرقوبية؟ بل هل توازي استعادة الجولان السكوت على بناء دولة صهيونية في شمال العراق؟
إننا هنا، نؤكد جهوزية إيران في التفاوض السريع مع الأميركيين، وهم ممن لم تنقطع علاقتهم في أي وقت من الأوقات، خاصة بدءاً من التنسيق المباشر قبل احتلال أفغانستان، فإيران مستفيدة بما يتجاوب مع مشروعها الاستراتيجي طويل الأمد، سواءٌ أكان الأمر بشكل عاجل من أجل إنقاذ رأس مشروعها النووي، أم بشكل آجل من أجل تثبيت مخطط تقسيم العراق لتحتضن جنوب العراق في مشروعها الإيديولوجي الاستراتيجي.
ولكن هل سورية تقف على الدرجة ذاتها من الجهوزية؟
إن أقل ما نستنتجه في عجالة مقالنا هذا، هو أنه إلى الحين الذي تحصل فيه على ضمانات لمصالحها المعروفة، ستحصل الكثير من المفاوضات المكوكية، وسينقضي بسببها وقت لن تتحملَّه القوات الأميركية في العراق طويلاً، ولن تتحمل حكومة العملاء في العراق انهيار كل شيء، وعلى رأسها الملف الأمني، فتكون المراهنة على دور سوري «طبخة من البحص»، وسيعلق الحزب الديموقراطي في دوامة المبادرات الفاشلة، وستجعل من الشارع الأميركي أكثر من «نافد للصبر».
لأجل تلك الأسباب والوقائع، نرى أن الحزب الديموقراطي، بكون الكرة في ملعبه، والناخب الأميركي قام باختياره لتشكيل إدارة أميركية سياسية على أساس إخراج سريع للقوات الأميركية من وحول العراق، هو قاب قوسين أو أدنى من السقوط. لأنه إذا كان سينتظر من أجل ألاَّ يمسَّ بالثابتين المذكورين أعلاه فسيكون كمن ينتظر إنضاج طبخة من البحص، ستُضيف خلالها المقاومة الوطنية العراقية سلسلة طويلة من القتلى، وسلسلة طويلة من الخسائر المالية.
كما أننا نرى ألاَّ يضيِّع الحزب الديموقراطي وقتاً، يعمل فيه الجمهوريون على كسب وقت ضائع طالما بقي جورج بوش في رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، وفيه سيُعزِّز الدعاء من أجل «نصر إلهي» يحلم فيه.
وإن من مظاهر كسب الوقت تأتي المراهنة على دور إيراني – سوري، مطلوب من الحزب الديموقراطي، أن يقلع عنها، قبل أن يرغمه الشارع الأميركي على العودة إلى القرار الصائب. القرار الذي اجتمعت على رفعه المقاومة الوطنية العراقية، كما طالب به الشارع الأميركي، وهو إعلان الانسحاب من العراق من دون لفٍّ أو دوران. وهذا لن يكون له أية بوابة على الإطلاق إلاَّ بوابة المقاومة وقرار الشعب العراقي الذي يرفض كل تدخل إلاَّ إذا كانت نتائجه تصب في وحدة العراق الوطنية، العراق العربي حامل لواء الوحدة والحرية والاشتراكية.

(34):المشهد العراقي في شهر تشرين الثاني من العام 2006
الاحتلال الأميركي يلفظ أنفاسه الأخيرة،
وجنوده على عتبة الانهيار النفسي والمعنوي
المرحلة القادمة معركة تعميق السقوط المعنوي عند الجندي الأميركي
كانت تطورات الوضع في العراق، على مدى شهر تشرين الثاني من العام 2006، تتسارع وتُصبح أكثر إثارة واهتماماً في العالم كله. فقد افتُتِحت أحداث الشهر بأغرب حكم قضائي صدر بحق الرئيس صدام حسين ورفاقه الأبطال. وكان الحكم محوراً للكثير من الأحداث التي رافقته أو تلته. وقد رجَّح المراقبون أن توقيت الحكم جاء سابقاً للانتخابات النصفية الأميركية، بحيث حسبت إدارة جورج بوش أنه قد يصب في مصلحتها، ويقوي أوراقها التي عصفت بها المقاومة الوطنية العراقية. لكن حسابات حقل الإدارة لم تنطبق على بيدر الانتخابات إذ جاءت نتائجها مخيِّبة لآمال «الأميركيين المتطرفين الجدد»، فأسقطت الحزب الجمهوري في مجلسيْ الكونغرس والشيوخ، وجاءت بالديموقراطيين لأنهم وعدوا الشارع الأميركي بالعمل على الانسحاب من العراق، بشكل صريح وواضح لا لبس فيه أو غموض.
كان سقوط الحزب الجمهوري في الانتخابات النصفية تتويجاً لسقوط آخر سبقه ومهَّد له، وهو استقالة، أو إقالة رؤوس الكبار المنتسبين إلى مشروع «اليمين الأميركي المتطرف» من الذين نظَّروا له ووضعوا أسسه الإيديولوجية، ويأتي على رأسهم المفكر «فوكوياما»، كبير واضعي المشروع الإيديولوجي، الذي أعلن منذ شهور مديدة أنه لا يستطيع متابعة تأييد مشروع سقط في مستنقع اللاأخلاقية، ودعا الإدارة الأميركية الحالية إلى الإقلاع عن استراتيجيتها في تصدير «الديموقراطية بالطرق العسكرية».
وسبق تلك النتيجة الكثير من معالم المأزق ومظاهره، الأمر الذي تحققت فيه شروط سقوط الاحتلال، فكان من تلك المعالم والمظاهر هو تعمبق المأزقين العسكري والأمني لقوات الاحتلال وعملائه، مما باتت معه قدرة الاحتلال في السيطرة على العاملين مستحيلة. تلك العوامل كانت خاضعة لمقاييس التقابل بين الاحتلال والمقاومة مرجَّحَة لصالح المقاومة، تلك المقاومة التي أوفت بكل موجبات الحرب الشعبية من جهة، والتي عجز الاحتلال عن استعادة التوازن لمصلحته من جهة أخرى. وبهذا باتت الهزيمة مؤكَّدة للاحتلال والنصر مسألة وقت، وليست مسألة قرار.
ولأن المقاومة الوطنية العراقية استقرأت أن مشروع الاحتلال الأميركي قد أصبح في مراحل نزاعه الأخير، أعلنت «برنامج التحرير والاستقلال» الذي صدر باسم القيادة الموحدة للمقاومة في الشهر الفائت. ولما فرض الوجه العسكري للمقاومة المأزق تلو المأزق على الاحتلال رفعت سقفها إلى برنامج سياسي يجمع كل فصائلها، العسكرية والسياسية لمواجهة تداعيات المرحلة الأخيرة من عمره.
في الإعلان المذكور عبرت المقاومة إلى مرحلة متقدِّمة من عملها، وفيه توَّجت نضالها العسكري على مدى أكثر من ثلاث سنوات ونصف السنة بإعلان سياسي يُعد لمرحلة ما بعد الاحتلال. ولأنها في تلك السنوات فرضت على الإدارة الأميركية صياغة حركة سياسية لاحتلالها العراق، تقوم على خداع الشارع الأميركي والكذب عليه، وقد خدعته بالفعل عندما أعاد انتخاب جورج بوش لرئاسة الولايات المتحدة مرة ثانية . ولما كان المرء لا يستطيع أن ينجح في الكذب مرتين، فقد جاء الرد حاسماً من الشارع الأميركي في الانتخابات النصفية الأخيرة.
أكَّدت نتائج الانتخابات النصفية أن الاحتلال يسير نحو الزوال سريعاً، أما السبب فهو أنه إذا كان الحزب الديموقراطي قد أحرز النجاح فإنما لم يصل إليه إلاَّ لسبب واحد، وهو الوعد الذي قطعه على نفسه أمام الناخب الأميركي بإعادة الجنود الأميركيين إلى بلادهم من دون تباطؤ أو إهمال. وإذا كان الإهمال مرفوضاً عند الشعب الأميركي، وهو ما دلَّت عليه سرعة رد فعل الناجحين من الحزب الديموقراطي الذي ما إن أُعلٍنت نتائج فوزهم حتى تعددت تصريحاتهم بأن من الملفات الأولى التي سيبادرون إلى فتحها مع إدارة جورج بوش هو تحديد سياسة جديدة في القضية العراقية.
أما بالنسبة للتباطؤ، وهذا ما تشير التقارير إلى إمكانية حصوله من جانب رئاسة جورج بوش، بإغراق الديموقراطيين في متاهات أخرى من التسويف والخداع، فهذا مما لا نحسب أن الشارع الأميركي سيترك الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام الطرفين الديموقراطي والجمهوري على حد سواء، وأن يسكت على أي تسويف. وإذا ما تلمَّس الشارع الأميركي مثل هذا الاحتمال، فإننا نعتقد بأن صبره سيكون سريع النفاذ، وبمثل تلك الحالة، وإن تناسى جورج بوش هذا الأمر، فإن الشارع الأميركي سيكون جاهزاً للضغط بشتى الوسائل والأساليب. فإراقة دم الأبناء أو الآباء أو الأزواج لن يستطيع صبراً.
وفي مجمل الأحوال، يتوقَّف المراقبون، والعارفون بحقيقة إيديولوجيا الحزبين المذكورين، أمام احتمالات تطور الأمور بناء على تلك المعرفة، وهم لا يرون أن استشراف مستقبل المواقف حول القضية العراقية هي من المسائل السهلة التي يمكن البت باتجاهاتها بمثل تلك السهولة، وهذا ما يدفعنا إلى استعراض ما يراه أولئك المراقبون والعارفون.
يقول البعض إن سقوط الصقور الجمهوريين في الإدارة الأميركية لا يعني أن هناك حمائم في المعارضة الديموقراطية، وإذا كانوا موجودين فلا يعني أن تلك الحمائم ستكون حرة في اتخاذ قرار واضح وسريع في شأن هام، خاصة أن فيه الكثير من الإغراء والتشويق كما هو موجود في العراق، الذي فيه ما يفتح شهية الرأسماليين أينما كانوا، سواءٌ أكانوا جمهوريين أميركيين أم ديموقراطيين. وسواءٌ أكانوا أميركيين أم غير أميركيين.
هذا الجانب يدفع بنا للتمييز بين الخيط الأبيض والخيط الأسود بين مواقف حزبين أميركيين ينتسبان إلى إيديولوجيا رأس المال، كما يمتلك النخبة في رأس هرمهما الحزبي سلسلة من الشركات الصناعية والتجارية التي لا يمكنها أن تعيش من دون أسواق للسلع ومن دون مناجم فيها المواد الخام والثروات الطبيعية. كما يجمعهما أنهما سليلان لنظام تأسس على الجريمة المنظمة منذ أن غزا أجدادهم القارة الأميركية وقطعوا من أجل استيطانها سلالة الهنود الحمر، السكان الأصليين، واستوردوا العرق الأسود من أفريقيا مكبَّلين بالأغلال من أجل استخدامهم في تنفيذ جريمة تطهير القارة من أولئك الهنود. وبذلك لا نستطيع أن نميِّز بين رأسماليي الحزبين المذكورين بالنوع، بل ربما نميز بينهما بالدرجة.
وهناك أمر آخر يجمع الحزبين المذكورين هو تنافسهما لحماية الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، وهما يتباريان في إظهار الإخلاص والغيرة عليه، ويتسابقان في الموافقة على بذل الغالي والنفيس من أجل الموافقة على كل موجبات حمايته في شتى الحقول.
إن الهدف من الإشارة إلى العوامل أعلاه يساعدنا على صياغة تحليل سليم وموضوعي لاستشراف مستقبل القضية العراقية استناداً إلى تداعيات الانتخابات الأميركية الأخيرة.
إن هذه الحقائق تدفعنا للتساؤل التالي: هل يستمر الحزب الديموقراطي في ضغطه على إدارة جورج بوش من أجل تنفيذ الانسحاب المبكر من العراق؟
بداية لا بدَّ من القول إن في نفط العراق وموقعه الاستراتيجي ما يسيل له لعاب الديموقراطيين وليس الجمهوريين وحدهم. لكن إذا كان الحزبان لهما الأهداف ذاتها، أهداف تنمية رساميلهم من دون شبع، إلاَّ أنهما يختلفان حول وسائل النهب. ولهذا السبب أثار ذلك الاختلاف منذ البداية التي تلمَّس فيها الديموقراطيون أن مشروع احتلال العراق العسكري لن يأتي بالفائدة المرجوة، وكان دليلهم انطلاقة المقاومة العراقية بشكل مبكر، وتناميها بسرعة لم يكونوا يتوقعونها. حينذاك برزت إلى الواجهة، حتى ولو بشكل خجول، التمايز في الوسائل الاستراتيجية لكل من الحزبين، أي بما يُعرف الاتجاه الذي يحافظ على أميركا كأمة تمارس دورها الرأسمالي بشتى الطرق باستثناء الغزو العسكري المباشر، والاتجاه الذي تبنَّته إدارة جورج بوش كمعبِّر عن إيديولوجيا «اليمين الأميركي المتطرف» التي تعتمد على بناء إمبراطورية أميركية في العالم يتم تصديرها وفرضها بالقوة المباشرة. وهذا ما استخدمته إدارة جورج بوش انطلاقاً من العراق.
قد يحاول الحزب الديموقراطي أن يُسوِّف وعوده إلى أمد يراهن فيه على التخفيف من خسائر أميركا نتيجة انسحابها من العراق إلاَّ أنه لا يستطيع أن يراهن على فرصة زمنية مفتوحة.
إن المقاومة الوطنية العراقية لن تترك أياً كان يأخذ فرصته الزمنية التي يريدها، والسبب أن جثث جنود الاحتلال ستصل باستمرار إلى بلادهم، ومن المرجَّح أن تزداد أعدادهم حسبما وعدت المقاومة العراقية، وهي سوف تصعِّد عملياتها، كماً ونوعاً. أي أن استراتيجيتها القادمة ستقوم على قاعدة ألاَّ تترك متنفساً للعدو تجعله يرتاح فيه.
إن هدف هذه الاستراتيجية، في هذه المرحلة تحديداً، هي إبقاء الضغط مستمراً على جنود الاحتلال في مرحلة أصبح الجندي فيها حريصاً على المحافظة على حياته، خاصة وأن الشارع الأميركي قد اعتبر أن الحرب غير عادلة، وأن الانسحاب منها أصبح قاب قوسين أو أدنى.
إن من أهم نتائج الانتخابات النصفية، ليس فوز الحزب الديموقراطي فيها إلاَّ لكونه قد فتح بوعوده أبواب الأمل أمام جنود الاحتلال الذين أصبحوا متعبين ومُرهقين ومصابين باللوثات النفسية وعاهاتها وإعاقاتها. وهم أيضاً أصبحوا بلا هدف، وهم بالأساس قد زُجُّوا بحرب لا مصلحة وطنية لهم فيها ولا طبقية. وعندما انخرطوا فيها كانوا يعرفون أن تعبهم وجهدهم سيصب في احتلال آبار النفط التي ستُتخم جيوب أصحاب الشركات الكبرى بالإضافة إلى جيوب الطبقة السياسية الحاكمة، فانخرطوا فيها لأن الذين أعدوا للاحتلال قد زيَّنوا لأفراد جيش الولايات المتحدة أن قيامهم بالحرب لن يستمر أكثر من أيام، وإن احتاج الأمر فلن يكون أمدها أكثر من أشهر معدودات، هذا بالإضافة إلى الكثير من الإغراءات المادية التي ستُغدَق عليهم نتيجة قيامهم بتلك الخدمة. كما أن عائدات النفط العراقي ستُوظَّف لمصلحة الشعب الأميركي. وهذا ما كشف الكذب فيه الجنود الأميركيون، وعائلاتهم. السبب الذي جعلهم ينادون بإنهاء هذه الحرب التي بدلاً من أن يتنعموا بنتائجها الاقتصادية، رأوا أنفسهم يدفعون الثمن الباهظ من دمهم وحياتهم وجيوبهم وصحتهم النفسية والعقلية.
سيان راهن البعض من المحللين على صعوبة اتخاذ قرار بانسحاب قوات الاحتلال الأميركي من العراق بالسرعة الممكنة بعد نجاح الحزب الديموقراطي وهزيمة الحزب الجمهوري، مستندين إلى تشابه أهداف الحزبين الأميركيين الحاكمين في تعزيز مواقع الرأسمالية في العالم، إلاَّ أن القرار الآن ليس قراراً يتَّخذه الكبار في أروقة البنتاغون والبيت الأبيض، بل أصبح القرار بيد الجندي الموجود في قلب المعركة، لأن القرارات الفوقية في هذه المرحلة لن تحمي حياة جندي أو تحرسه من إعاقة جسدية أو نفسية، بل القرار أصبح بيد الجندي المتروك في معركة سيموت فيها من أجل لا هدف.
إن المرحلة القادمة تحتاج إلى فترة يسيرة من الزمن تتحول فيه نداءات الجنود وعائلاتهم إلى طفرة نوعية تحوِّل الجندي القابع في مواقع الخطر إلى متمرد على أوامر ضباطه حينما يدفعون به في واجبات عسكرية يشعر أنه سيموت فيها. وقد عبَّر عنها ريتشارد جوين، أحد الكُتَّاب الأميركيين، بأنها المرحلة الأخيرة من حياة الاحتلال، قائلاً: إن بداية عملية قتل الضباط الأعلى سوف تؤرخ للحظة توقف الجيش نفسه عن مساندة الحرب. وهذا يحدث حين يسود الإحساس لدى الجيش الأمريكي انه يخاطر بتدميره في حرب تستمر بدون أي هدف ، بالضبط كما حدث في فيتنام . إن مرحلة «»اترك واهرب» لم تصل بعد ولكنها قريبة جداً .
إنها في الواقع مرحلة الانهيار النفسي لدى الجندى الأميركي في العراق. كما أنها مرحلة لا بدَّ من أن يؤديها أبطال المقاومة وبواسلها بكفاءة واقتدار، وقد أثبتوا أنهم جديرين بذلك خاصة وأنهم اجتازوا المسافة الأصعب، ومرحلة الشوط الأخير هي الأسهل. إنها مهمة دفع الانهيار النفسي إلى أقصى مدياته عند الجندي الأميركي الذي شعر فعلاً إنه لا يقاتل في سبيل قضية وطنية أو طبقية. والحال كذلك فإن هذه المرحلة لن تترك لأحد في أميركا، سواءٌ أكان في هرم السلطة الحاكمة أم في هرم المعارضة، فرصة زمنية كافية للتفكير في البدائل التي تقلل من خسائرهم. وهي مرحلة لا تتطلب أشهراً مديدة. ولعلَّ في ما تتناقله الأخبار عن بطولات المقاومة وسيطرتها على مناطق كثيرة في العراق ما يحملنا على الاعتقاد بأن الجيش الأميركي المحتل يقبع على مسافة قصيرة من مرحلة الانهيار النفسي والمعنوي.


(35): وفي اليوم السابع استراح بيكر :
رؤية في احتمالات مرحلة ما بعد تقريره
9/ 12/ 2006
كانت نتائج الهزيمة الأميركية معروفة منذ أواخر العام 2003، أي بعد أن أثبتت المقاومة العراقية ذلك. حينذاك استنتج بعض أصحاب الضمائر من الأميركيين والبريطانيين، ممن ليسوا على ارتباط مع إدارة جورج بوش أو مع إدارة طوني بلير، أن الاحتلال الأميركي سائر باتجاه الهزيمة، والهزيمة وحدها. وعادة ما يكون غير المتأثرين بغرض أو هوى من الموضوعيين في أحكامهم، ولمن يود الاستزادة من تلك الرؤى العودة إلى كتابنا «المقاومة الوطنية العراقية: الإمبراطورية الأميركية بداية النهاية» ليراجع التقارير الأجنبية التي استندنا إليها، وهي التي ساعدتنا على الوصول إلى النتائج التي توصلنا إليها، وتوجنا بها كتابنا المذكور.
عدنا بالذاكرة إلى وقائع تلك المرحلة من أجل تفسير عنوان مقالنا هذا، ولنثبِّت حقيقة علمية هي أن النتائج التي توصَّل إليها جيمس بيكر في تقريره كانت مقدماتها العلمية قد ثبَّتتها التقارير المذكورة التي صدَّرها أصحابها منذ أكثر من ثلاث سنوات، ومن بعدها أصبحت ككرة الثلج تتراكم وتتزاحم في صياغة النتائج التي كتبتها المقاومة العراقية بأرواح شهدائها ودم جرحاها وغبار نضالها وجوع أطفالها.
فجيمس بيكر أتى في اليوم الأخير ليسجِّل نتائجه، ولو سمع جورج بوش يومذاك لتقارير من سبقوا بيكر لكان قد وفَّر على جنوده عشرات الآلاف من الإصابات.
ولهذا استراح جيمس بيكر في اليوم السابع، ليس لأنه هو الذي تعب في تحصيل الاستنتاجات خلال الأيام الست الأولى التي سبقت تقريره، بل نتوجَّه بالشكر والامتنان إلى كل النخب السياسية والفكرية من المفكرين والسياسيين الغربيين الذي شكلوا «الهم الأساسي على قلب جورج بوش» وإدارته. وهو كان يحاول الخلاص منهم بأي ثمن.
فهل استجاب بوش إلى صوتهم الآن من خلال استجابته لتقرير جيمس بيكر، وقرَّر أن يحافظ على حياة من تبقى من جنوده في العراق؟
ظاهرياً، قرَّر رئيس «المجرمين الأميركيين» الذين أعدوا للجريمة التي ارتكبوها في العراق كل مستلزماتها المنظمَّة، ألاَّ يستجيب.
إن إعلانه بأن ما تقدَّم به جيمس بيكر، وغيره، ليست أكثر من توصيات غير ملزمة، فهو رئيس الولايات المتحدة الأميركية، وهو الذي يستطيع أن يركل «القانون الدولي» برجله اليسرى، ظهر وكأنه يريد أن يقول بأنه يستطيع أيضاً أن يركل نتائج تقرير جيمس بيكر برجله اليمنى.
أولاً: قرار الانسحاب من العراق أصبح بيد الجندي الأميركي وعائلته
فإذا كان كلام الرئيس هو «رئيس الكلام»، فيمكننا ألاَّ نعوِّل عليه هذه المرة، بالتأكيد. فكلامه لن يكون «رئيس الكلام»، لأنه أصبح بلا صوت، وبلا مخالب، وبلا سلطة تتيح له اتخاذ القرار. ومن لا يصدقنا فليأت معنا لنبرهن له.
خفض جورج بوش رأسه ذُلاًّ، واختفت مصطلحات خطاب النصر من كل تصريحاته، ولم تعد لديه الجرأة على الكذب، فرجاله يموتون كل يوم، وهم يحصلون على كل أنواع الإعاقة، هم يُصابون بالجنون ويُنقلون إلى المصحات العقلية، وهم... وهم... وحدِّث عن أزماتهم وآلامهم من دون حرج.
خفض جورج بوش رأسه ذُلاًّ، ولم تعد لديه الجرأة على الكذب، فأهالي جنوده وزوجاتهم وأطفالهم، يعانون من الكوابيس على مصير أحبائهم.
ماذا تعني كل تلك المشاهد، التي غزت طرقاتها بوابات البيت الأبيض؟
السبب أن مخابراته لم تعد قادرة على منع وصولها إلى مسامع رئيسهم. فهي قد وصلت إليه صاخبة، ومدوية، عبر صناديق الاقتراع في الانتخابات النصفية. ودخل صراخ الجنود وعائلاتهم عبر بوابات الكونغرس ومجلس الشيوخ. فأين المفر؟
كان باستطاعته أن يعتقل «سيندي شيهان»، ويضع القيود في يديها، ولكن هل يستطيع أن يعتقل نصف أعضاء الكونغرس، ومجلس الشيوخ، زائداً واحد؟
وهل يستطيع أن يركل برجله، سواءٌ أكانت اليمنى أم كانت اليسرى، كل تلك الأصوات التي تشبه قرع الطبول الأميركية؟
لقد اجتمع الشارع الأميركي، ودخل بوابات البيت الأبيض بزخم مدو، فأين المفر؟
إذا كان باستطاعته أن يُغلق في السابق شبابيك البيت الأبيض لكي لا يسمع، فهل باستطاعته الآن أن يغلق بواباته في وجه الشارع الصاخب الذي ملأ المؤسسات التشريعية الأميركية؟
قد يفاجئنا البعض متوقعين أن ينقلب الناجحون من الديموقراطيين على وعودهم للذين منحوهم أصواتهم لسبب وحيد، لا ثاني له، هو إعادة أبنائهم وأزواجهم إلى بلادهم، من العراق بالتحديد. أو ينقلبون على نداءات الجنود القابعين على أرض العراق ينتظر كل منهم أن يكون القتيل الأكيد في اليوم التالي، أو المعاق على الأرجح، وهم أصبحوا جميعهم مصابين بالعاهات النفسية.
إن تلك الوقائع تدفعنا إلى التأكيد أن القرار أصبح بيد الجندي الأميركي وعائلته.
إن تلك الوقائع تدفعنا إلى التأكيد أن القرار قد فلت من يد المؤسسات وأصبح الشارع الأميركي هو صاحب القرار. وقرار الشارع الأميركي أصبح بيد الجندي الأميركي.
لا احتلال ممكن إلاَّ بوجود جندي يحرسه، ولا وجود لجندي محتل إلاَّ بوجود بيئة آمنة لهذا الوجود. ولا بيئة أمنية مناسبة إلاَّ بوجود شعب مستسلم للاحتلال.

ثانياً: قرار الجندي الأميركي تمسك به المقاومة الوطنية العراقية
فإذا بدأنا بصياغة المعادلة من آخرها، لا نرى إلاَّ أن المقاومة الوطنية العراقية قد اقتلعت لغة الاستسلام من جذورها، وبرهنت على أنها تمتلك موجبات الصمود والاستمرار، فهي في ثنائية «المقاومة والاحتلال» ستمنع توفير بيئة أمنية تغري الجندي المحتل بالبقاء، فستبقى حياته في خطر دائم، والشعور بهذا الخطر ستدفع به إلى الحلم بالانسحاب، أو إلى قتال «اليائس».
وفي شتى الأحوال ستبقى جثث الجنود تصل إلى الأهل، وفيها الكثير من التحريض على الضغط ورفع الأصوات، وستبقى سيفاً مسلطاً على رقاب الواعدين ورقاب الذين قد يتناسون، ولهذا كانت النتائج التي توصلنا إليها صحيحة: «إن القرار بالانسحاب لم يعد بيد المؤسسات الرسمية الأميركية»، بل انتقلت دوائر القرار الفعلية، إلى مؤسسة المقاومة العراقية، وبدورها أرغمت الجندي الأميركي، ليصرخ، ويدفع أهله إلى الصراخ. فنحن لم ننس مشهد اليافطة التي رفعتها مجموعة من الجنود الأميركيين كُتب عليها: «جون كيري إسحبنا من العراق فقد توحلنا فيه».
ثالثاً: اصطفافات جديدة ستعمل على إعادة توحيد العراق
على مقاييس ما قمنا بتحليله أعلاه، تتكثَّف التقارير وتتراكم، ومنها ما أشار إليه تقرير بيكر، وكلها تدل على أن إدارة جورج بوش، قد تلجأ إلى توسيط كل من إيران وسورية من أجل الحصول على مساعدتها لتجاوز مأزقها في العراق أو التخفيف منه. وهي قد تستفيد من تلك التوصية لكسب الوقت، لعلَّ الاحتلال «الغريق يتمسك بقشة من الأمل». وتلك مسألة، في حساباتنا ليست أكثر من «قشة» بالفعل. فليس في تلك التوصية أي عامل من عوامل الحل، بل نؤكد أن إيران هي جزء كبير من المشكلة، والعمل على التفاوض معها هو تعقيد للمشكلة أكثر فأكثر. فأما بالنسبة لسورية فلا نظن أنها ستنخرط بشكل جدي في مخطط خطير لا بدَّ من أنها ستتعرَّض لمثله، وهي ترى نتائجه الخطيرة في العراق. فهي، في أسوأ الأحوال، إن فعلت، فكأنها توافق على تقسيم سورية، كما توافق على نقل «إسرائيل ثانية» إلى شمال العراق. أما تحالفها مع إيران، فلا نظن أيضاً أنها ستحافظ عليه لأن ما تستفيد منه إيران في العراق كدواء لمخططها المعادي للأمة العربية ولمشرعها المذهبي، من تقسيم وزرع كيان صهيوني، هو داء خطير لسورية بعمقها القومي الوحدوي.
إن الانسحاب الأميركي من العراق، لن تكون تداعياته فتن طائفية داخلية وتقسيمات سياسية عراقية كما تروِّج له الكثير من الأوساط السياسية، بل ستكون تلك التداعيات فتن وحروب من نوع آخر، لن تعني العراق وحده بل ستشمل الإقليم المجاور للعراق، وستشمل الجوار العربي بالتأكيد. إذ ذاك ستكون معارك أخرى ذات استهدافات تعبر عنها العناوين التالية:
-ثنائية تقسيم العراق إلى مذاهب دينية، طرفها الأول إيران التي تعمل على اقتطاع حصتها منه، وطرفها الثاني منع تقسيمه على أساس طائفي لمنع إيران من اختراق الجبهة الشرقية للأمة العربية.
-ثنائية تقسيم العراق إلى كانتونات عرقية طرفها الأول كردي انفصالي متحالف مع الصهيونية ويعمل لبناء كيان انفصالي تنعكس مخاطره على دول الجوار الجغرافي لشمال العراق، وطرفها الثاني منع تقسيمه لانعكاساته ومخاطره على الدول المجاورة لشمال العراق.
إن تحالفات جديدة، واصطفافات جديدة ستكون عنوان المرحلة المقبلة، ومن اللافت أن تشترك دول وأنظمة تواطأت مع الاحتلال الأميركي في معركة إعادة الوحدة للعراق.
إن الحل المنطقي، المبني على مصالح وليست على مبادئ، تدعو إلى ترقب احتمالات المستقبل في العراق على أساس تلك العناوين الكبرى، تلك الاحتمالات التي بدأ كل أصحاب المصلحة، من دول الجوار الجغرافي للعراق، عرباً أم غير عرب، يُعدُّون أنفسهم من أجل مواجهتها. ونحن نحسب أن انتظار مواجهة تلك الاحتمالات لن يطول. ونعتبر أن أكثر المعنيين بالإعداد إلى تلك المرحلة، هم العراقيون الوطنيون، وعلى رأسهم المقاومة الوطنية العراقية بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي.


(36): في الذكرى الرابعة لأسر الرئيس صدام حسين:
آسروه يقعون في أسر المقاومة الوطنية العراقية
16/ 12/ 2006
منذ ثلاث سنوات استبشر الاحتلال الأميركي خيراً، وكبَّر عملاؤه وتجبَّروا، وأصيب الصادقون في هذه الأمة بالهلع، وكانت لكل منهم أسبابه ودوافعه.
ما هو الخبر؟
لقد أسرت قوات الاحتلال الأميركي صدام حسين.
في مكانه وزمانه، وبمعزل عن استشراف للمستقبل، لم يكن أيٌّ من تلك الأطراف يمتلك رؤية لما سوف تصل إليه الأمور، سواءٌ أشكَّلت خبراً سعيداً لأعداء صدام حسين، أم شكَّلت خبراً لا يُسرُّ محبِّيه، إلاَّ الذين كانوا مطمئنين إلى أن صدام حسين أصبح جزءاً عضوياً من مؤسسة المقاومة الوطنية العراقية، يرتبط مصيرهما معاً، فإذا استمرت تستمر حياة صدام حسين، فيعيشان معاً، وإما أن تتراجع فيعني تراجعها موتاً للإثنين معاً.
كان جورج بوش، ووزير دفاعه، يتخيلان ويرسمان أفضل الطرق للاستفادة من عملية الأسر، وتفاءل منظرو مشروعهما الفكري، كما تفاءل معدُّو استراتيجية احتلال العراق، ومنَّى كبار ضباط الاحتلال أنفسهم بالنجوم والنياشين والجزاءات المادية التي سيغدقها عليهم أصحاب الشركات الكبرى، ليقدمها لهم أركان إدارة جورج بوش. كلٌّ راح على حلمه يغني وتسابقوا على ادِّعاء الفضل في اعتقال الرئيس، وراهنوا على أن العقبة الوحيدة قد انزاحت عن موقعها.
ولن ننسى، أم الرئيس بوش، التي تكون قد نهضت من نومها على الخبر السعيد، ليعزِّز آمالها بأنها لم تُولد، وفي فمها ملاعق الألماس، إلاَّ لتسمع الأخبار السعيدة التي تمنع أحلامها من أي خدش يتركه خبر سيئ.
ولن ننسى أحلام أباطرة طهران، الذين طالما حلموا بكل أنواع الأحلام المزعجة لوجود حامي الحدود الشرقية للأمة العربية حياً.
بعد مرور ثلاث سنوات، تغيَّرت وقائع الأمور وتبدَّلت.
بعد مرور ثلاث سنوات، تقلَّصت أحلام من حلم بالمغانم التي ستدرها إسقاط ورقة رابحة أصبحت بأيديهم، وعادت الثقة إلى نفوس الصادقين وفرحوا ببقاء صدام حسين حياً. وكان السبب من وراء تلك المتغيرات هو أنهم جميعاً عجموا عود هذا الرئيس واختبروا قوة شكيمته، وصلابته، وعزيمته، التي فاجأت جوقة الأعداء، وعزَّزت ثقة الأحباء بالرئيس الذي راهنوا على قوة مبادئه التي آمن بها، كما آمن بأنه لن يضعف بالدفاع عنها حتى ولو كان الموت ثمناً لها.
فهل تحوَّل الرئيس صدام حسين إلى مأزق للاحتلال الأميركي، وانهارت ببقائه حياً حتى الآن آمال أعدائه، سواءٌ منهم القابعين في طهران أو القابعين من الخونة على صدور العراقيين كصخرة ثقيلة؟
بعد مرور ثلاث سنوات تحوَّلت نقطة الضوء في مخيلات الواهمين والمغرورين إلى نقطة سوداء تنتشر بسرعة لتصبح سحابة إحباط واسعة. فكان السبب هو صدام حسين، بحيث نجزم أن الاحتلال يتمنى الآن لو أنه لم يستطع أسره، فهو مأزق حقيقي سواءٌ أبقي حياً أم ميتاً. وسواءٌ أبقي حراً في خندق المقاومة، أم كان أسيراً في سجون الاحتلال.
لقد اختار رأس الإدارة الأميركية، بعد أن أرغمته المقاومة الوطنية العراقية، على الاعتراف بالهزيمة، أن يضع، من دون مسوِّغ أخلاقي أو إنساني، صدام حسين على طاولة المساومة. ولمساومة إدارة جورج بوش الآن عدة اتجاهات، من أهمها وأكثرها إلحاحاً هو الضغط على المقاومة العراقية تحت معادلة مرفوضة، إبقاء صدام حسين حياً في مقابل إيقاف المقاومة، وهي المعادلة التي لم يرفضها صدام حسين فحسب وإنما كان خياره الموت في مقابل بقاء المقاومة مستمرة أيضاً. فأسقط بخياره الحاسم هذا أحلام الضاغطين، والمستسصعبين لأن يقدِّم إنسان من لحم ودم، حياته في مقابل المحافظة على سيادة بلده وكرامة أهلها. وما توَّقف المقاومة إلاَّ موت لمحرك الدفاع عن الكرامة والسيادة.
أما المقاومة فتعرف أن إصرار صدام حسين على خروج الاحتلال من العراق هو الشرط الوحيد والكافي لتستريح من بعدها بنادق الثوار.
أما الوجه الثاني من وجوه المساومة، فهو ما يعمل أباطرة طهران على وضعه على طاولة المساومات بينهم وبين أباطرة إدارة جورج بوش، بصيغة معادلة تقوم على منحهم تنفيذ الحكم بإعدام صدام حسين مقابل تخفيف آلام الهزيمة الأميركية بمساعدة جنود الاحتلال الأميركي للنجاة بحياتهم. وتلك حيلة لن يستطيع تاجر البازار الإيراني أن يُغبِّر منها على طواحين سماسرة النظام الرأسمالي الحاكم في أميركا. ويحلم أباطرة طهران الجدد بمساومتهم تلك أن يصيبوا عصفورين بحجر واحد:
الخلاص من قائد جبهة الدفاع عن الحدود الشرقية للوطن العربي،
والخلاص من غريم أميركي يريد أن يطبق مشروع الشرق الأوسط الجديد على طريقته التي تتعارض مع طرائق الإمبرطور الإيراني.
أما الوجه الثالث للمساومة، وهو ما نحسب أنه سيكون الوجه الأكثر واقعية، فهو القائم على أن تكون المحافظة على حياة الرئيس صدام حسين، بادرة حسن نية سيفرضها مالكو الشركات الكبرى على إدارة جورج بوش ليستفيدوا منها بعد اكتمال الانسحاب العسكري الأميركي المهزوم طمعاً بالحصول على عقود اقتصادية في العراق بعد تحريره.
أيٌّ من تلك الاحتمالات وارد، ولكل احتمال نجد رداً عليه، سواءٌ أكان عند الرئيس صدام حسين أم كان عند المقاومة العراقية، والرد يستند إلى استراتيجية واحدة لا تتأخر خطوة واحدة ولا تتقدم، سواءٌ أكانت نتائجها الشهادة أم الحياة حتى النصر، وهي واضحة وضوح الشمس، وتقول:
إن كرامة العراق وسيادته هي المكيال الأوحد التي يكيل بها صدام حسين ومقاومته الحلول، ولا مكيال آخر عندهما، فما أحلى النصر ما دامت الكرامة تتوِّج هامة العراقيين، وما أحلى الموت كثمن للدفاع عنهما، والرئيس صدام حسين يسير على رأس القافلة غير هيِّاب بملاقاة المنون.
وإذا كان دخان النصر العراقي قد تعالى من مداخن المقاومة العراقية، وشكَّل سحابة وصلت لتغطي سماء أميركا، فاسألوا صدام حسين عن سرها، ولن تتلقوا جواباً آخر غير أن صدام حسين، الذي وصفوه بالديكتاتور، هو القائد الأب الذي ألَّف مع رفاقه وشعبه سيمفونية ثورية متكاملة يلعب فيها كل نغم منها دوره الكامل مع النغم الآخر. فكانت تلك السيموفينية، التي يجتمع العالم في كل يوم لسماع ألحانها، من أداء أم المقاومات في العالم، المقاومة الوطنية العراقية، إلاَّ أن من سيئاتها أنها أزعجت كثيراً إمبراطور الشر في أميركا، وأباطرة الشر في إيران، وعملاءهما في العراق.
ففي ذكرى أسره الرابعة نتوجَّه إلى الرئيس صدام حسين ورفاقه في الأسر، ورفاقه في خندق الشرف، وكل فصائل المقاومة العراقية، وإلى الشعب العراقي البطل، بتحية الإكبار والإعجاب، ونقول لهم: إنكم أنتم أصبحتم آسري الاحتلال، بكل ألوانه وأشكاله وروائحه وإفرازاته، وسيقدمهم العالم الحر أمام محاكم الجرائم ضد الإنسانية، كما يُشاع عن إحالة رامسفيلد إلى محكمة مماثلة، بفضل صمودكم وتضحياتكم وبطولاتكم التي شهد لها البيت الأبيض قبل أن تشهد لها بيوت السواد المنتشرة في أرجاء الوطن العربي وفي بعض زوايا الإقليم المجاور.

(37): المشهد العراقي في كانون الأول 2006
الإدارة الأميركية تجازف بالمئات من حياة جنودها في المعركة الأخيرة مع المقاومة العراقية
(طليعة لبنان الواحد/ كانون الأول 2006)
بينما العالم يودِّع عاماً آخر، يبقى العراق تحت الاحتلال الأميركي حيث يحتدم الصراع ويتواصل ويحمل معه مؤشرات جدية لانتصار المقاومة. ولكن بأية حال يودَّع العراق هذا العام، وما هي مؤشرات العام الجديد؟
بداهة نقولها إن العام الذي تودِّعه الإدارة الأميركية، نتيجة عجزها عن تثبيت احتلالها للعراق، سيعيد عليها العام القادم بالكثير من المآزق الحبلى بأكاليل أشواك الهزيمة، وهي الآن تدرس استراتيجية الخروج منه بأقل ما يمكن من حصد أشواك العار.
قراءة في عامل الإرباك الداخلي الأميركي بعد تقرير بيكر
تستعد إدارة جورج بوش لاستقبال عام جديد، وقد أخذ رئيسها فسحة من الزمن ليقرأ ما تجمَّع لديه من أوراق وتقارير ترشده إلى ما يجب عليه فعله في العام 2007. وفي كل الأحوال ستتم مراجعاته ودراساته على أرضية واحدة رسمتها له نتائج الانتخابات النصفية في تشرين الثاني الماضي.
ثلاثة عوامل داخلية أميركية لا يمكننا أن نفهم ما سوف يحدث، ومتى، وكيف، من دون وضعها في حسابات أو تحليلات من يحاول أن يستكشف آفاق مستقبل قرار الإدارة الأميركية بشأن الساحة العراقية، وهي:
-المحافظة على معنويات الجيش الأميركي في خطة الانسحاب.
-وتأثير القرار الذي اتخذه الشعب الأميركي، ممثلاً بنتائج الانتخابات النصفية، بالانسحاب من العراق.
-المتغيرات الفكرية الانقلابية التي مهَّدت لإسقاط الاستراتيجية الإمبراطورية في مشروع إدارة بوش.
وتجدر الإشارة إلى أن الانتخابات، التي أتت بالديموقراطيين إلى مجلسيْ النواب والشيوخ، كان الناخب الوحيد فيها صوت المقاومة الوطنية العراقية، التي أقنعت الشعب الأميركي بأن يرفع صوته من أجل قضية واحدة، وليس غيرها، هي مطلب الخروج من العراق، من دون تسويف أو تلكؤ.
ووعد الديموقراطيون الذي فازوا بالانتخابات أنهم سوف يعطون الأولوية لسحب الجيش الأميركي من العراق، اليوم قبل الغد. أما السبب في ربطهم بين اليوم والغد، ليس لتسويف قد يلجئون إليه، وإنما لأن ما يجمعهم مع الجمهوريين، وهذا ما لا يتعارض مع أمنيات الشعب الأميركي، هو المحافظة على معنويات أقوى جيش لأكبر دولة في العالم.
إن المؤشر الأهم الذي سيحكم قرار الإدارة الأميركية في المستقبل المنظور، هو الانقلاب الفكري والسياسي الاستراتيجي الجديد، للقيادات التي رسمت الخطة التي قامت إدارة جورج بوش بتنفيذها لاحتلال العراق. ويجدر التذكير بأهم مفاصلها:
-افتتح فوكوياما، سلسلة مراجعات المحافظين الجدد، بموقفه القائل أنها في اندفاعها نحو الحرب على العراق قد تناست «أن طموحات الهندسة البشرية عملية في غاية الصعوبة ويجب الاقتراب منها بعناية وتواضع». وأعلن بوضوح أنه «استخلص أن حركة المحافظين الجدد كرمز سياسي وفكري، قد تطورت إلى شيء لا أستطيع تأييده بعد الآن».
-كان ريتشارد بيرل يتوقع بعد احتلال العراق أن الإصلاحيين الإيرانيين سيتشجَّعون على تغيير نظامهم بينما ستنظر سورية بجدية للحدث الجديد. وبعد الاحتلال ذهب إلى حد القول: إذا ما عاد به الوقت فإنه لن يدافع عن غزو للعراق»، بل سيقول: «دعونا نفكر في استراتيجيات أخرى في التعامل مع الأمور التي تعنينا أكثر».
-فماذا عن شخصيات المحافظين الجدد الاخرى؟
إن شهاداتهم توحي ليس فقط بخيبة الأمل دائماً، بل باليأس والغضب من عدم كفاءة إدارة بوش. فديفيد فروم، الذي كان يكتب خطب بوش، يقول الآن: إن الهزيمة قد تبدو الآن لا مفر منها. أما كينيث أدلمان، الذي سبق أن قال، «اعتقد أن إزالة قوة صدام حسين العسكرية وتحرير العراق ستكون شيئاً هيناً»، فالآن يقول: إنني في غاية خيبة الأمل من النتيجة في العراق، وإن «فكرة السياسة الخارجية المتشددة، والاعتماد على القوة للخير الأخلاقي في العالم»، قد ماتت الآن على الأقل لمدة جيل. أما جيمس وولسي، الذي دعا لغزو العراق، وكان يردد «إن جورج بوش قد جعل العالم مكاناً أكثر أماناً»، يردد الآن: إذا ما انتهت المغامرة العراقية بالهزيمة، وهو ما يبدو الآن ممكناً تماماً فان النتائج ستكون مرعبة».
ليست تلك العوامل مما يمكن لحورج بوش أن «يركلها برجله»، كما يركل القانون الدولي، وإنما ستكون ماثلة بقوة على مكتبه عندما يريد أن يتَّخذ القرار الأخير. لكننا آخذين بعين الاعتبار، عامل المحافظة على معنويات الجيش الأميركي بسبب الإجماع عليه أميركياً، باستطاعتنا الحكم بأن الكثير من القرارات مما سيعلنه جورج بوش، ستكون مظاهرها مخالفة لبواطنها.
وانتظاراً لقرار جورج بوش، على الرغم من كونه دستورياً يستطيع أن يقبل منها ما يشاء، ويرفض ما يشاء، نحسب أنه سيعي جيداً أن لتلك العوامل الداخلية تأثيراً ملحوظاً.
وانتظاراً لتسلم الديموقراطيين مهامهم للتأكد من مدى جديتهم في ملاحقة تنفيذ وعودهم أمام الناخب الأميركي. خاصة، بالإضافة إلى إعلاناتهم السابقة بإعطاء الأولوية لمسألة الانسحاب من العراق، ففي مواجهة ما تعتبره إدارة جورج بوش الوسيلة الأخيرة للإنقاذ، بزيادة عدد القوات المحتلة، بدأت ردود فعل الديموقراطيين تتوالى، وكان من أهمها ما نقلته وكالة «فرانس برس» عن السيناتور الديمقراطي «كريستوفر دود» العضو البارز بلجنة العلاقات الخارجية الذي زار العراق في منتصف كانون الأول، أنه قال: لا أرى كيف أن زيادة أعداد القوات الأمريكية يمكنه أن يساعد في الحد من العنف في العراق. إن القادة والجنود في العراق أكدوا أن زيادة القوات الأمريكية لن يساهم في إيجاد حل سياسي أو دبلوماسي. وطالب دود البدء في خفض أعداد القوات الأمريكية في العراق خلال أسابيع وليس شهوراً، مؤكدًا أن الوجود الأمريكي أصبح عائقًا أمام تحقيق الأهداف الأمريكية.
هناك فسحة من الزمن أمامنا ننتظر فيها القرار الأخير للإدارة المقرِّرة، والمؤسسات التي احتلها الديموقراطيون التي لا تستطيع أكثر من أن تعترض وتمارس الضغط على إدارة جورج بوش.
فانتظاراً لما سوف تؤول إليه الأمور، سنعمل على استعراض تطورات القضية العراقية في الشهر الفائت، ونقوم بقراءتها، ونحاول أن نستخلص النتائج.
كان من أهم ما حصل في شهر كانون الأول، هو الإعلان عن تقرير جيمس بيكر الذي انتظره المراقبون أشهراً، ولم يُعلن إلاَّ بعد تسريب الكثير من محتوياته قبل إعلانه، ونحسب أن القصد من تلك التسريبات كان نوعاً من جس النبض لكل من له علاقة بها، بما يتعلَّق بالقضية العراقية تحديداً. ولقد ابتدأت تداعيات التقرير تتوالى وانعكست على المعنيين، في داخل العراق والإقليم المجاور للعراق، مباشرة أو مداورة، ففرضت نوعاً من ردود الفعل الاستباقية، وكان من أهم مظاهرها الأحداث التالية:
عملاء الاحتلال الأميركي يعلنون مخاوفهم
كان من أبرز ردود أفعال عملاء الاحتلال، على شتى مستوياتهم في داخل العراق، هي المخاوف التي أبدتها الأوساط المنخرطة في ما يسمى بالعملية السياسية.
-تصريحات الطالباني التي حملت الكثير من المخاوف على مشروعه الانفصالي، وكأنه الذي بيده القرار رفض توصيات تقرير بيكر، وطلب بقاء قوات الاحتلال الأميركي في العراق.
-وتصب مبادرة المالكي في طلب التجديد لقوات الاحتلال الأميركي سنة أخرى في بئر المخاوف ذاتها، وأسرع مستجيباً لمحتويات تقرير بيكر فأطلق الخرطوشة الأخيرة في جعبته عندما دعا إلى عقد مؤتمر ما سماه بمؤتمر المصالحة، الذي تُوفي وهو يولد لأكثر من عامل وسبب. واستجابة للتقرير ذاته، وما سبقه من ضغوط مارستها عليه إدارة جورج بوش في وجوب تحميله مسؤولية تدهور الأمن المعيشي والعسكري والسياسي في العراق، كشف عن زنوده، وزنود وزرائه في الدفاع والداخلية، وأعلن أنه ذي كفاية في استلام ناصية مسؤولية إعادة الأمن إلى العراق. وقد يكون الحل، الذي لا يريح المالكي، هو الجهد الذي تبذله إدارة جورج بوش لما يُسمى عملية الإسراع في تدريب قوات الشرطة والجيش العراقي العميلين، من أجل تسليمهم الأمن، كأكبر خطوة تراجعية للاحتلال، وهي الخطوة التي قد تسبق الانسحاب/ الهزيمة.
مأزق الإدارة الأميركية مع الدور الإيراني
كانت ردود أفعال الإقليم غير العربي، وأكثرها استعجالاً تركيا الخاسرة من تقسيم العراق، وإيران المستفيدة من التقسيم، تتصاعد حدة وتتسارع، إذ راح كل منهما يستحضر أوراقه، ويُعد نفسه لمتغيرات ستفرضها مرحلة ما بعد الانسحاب، أو تترافق معها.
أوفد النظام الإيراني عبد العزيز الحكيم، كأكبر عملائه، والأكثر تأثيراً وتأثراً فيما يجري على الساحة العراقية، إلى اللقاء مع جورج بوش، حاملاً إليه سلة من الإغراءات الإيرانية على قاعدة تقاسم النفوذ، بحيث يحقق النظام الإيراني حلمه في الاستيلاء على جنوب العراق، ويضمن فيه مصالح الشركات الأميركية في عقود نفطية طويلة الأمد.
لقد سرَّبت بعض التقارير بعض جوانب المشروع الذي نقله المذكور إلى الإدارة الأميركي، ومن أهمها: دعوة الى تشكيل «نظام أمن اقليمي ذكي» يشمل جميع دول المنطقة، خصوصاً جيران العراق، يستهدف ضبط الحدود وتبادل المعلومات وتوقيع اتفاقيات أمنية، إضافة الى تأسيس شراكة اقتصادية فيما بينها. وقد ركّز أيضاً على دور للشركات الاميركية العملاقة بالتعاون مع شركة نفط العراق وشركات اقليمية في هذا المجال.
إن للنظام الإيراني تأثيراً يفوق تأثير الإدارة الأميركية في العراق، فهو يقود ميليشيات بواسطتها يستطيع أن يهدد وجود الاحتلال الأميركي متى يشاء، وتتلازم مشيئته مع فشل المساومة بينه وبين الإدارة الأميركية، إذا لم يحصل على حصته التي يريد. وفي المقابل لا تستطيع إدارة جورج بوش أن تخضع للشروط الإيرانية لأنها تتناقض مع أمن حلفائها في المحيط الجغرافي للعراق، وهما: أمن حليفها السعودي، وأمن حليفها التركي.
أصدقاء أميركا يُعدُّون أنفسهم لمآزق ما بعد الانسحاب
أما أمن حليفها السعودي فلا يمكن أن يكون مضموناً بوجود إيراني على كتفها الشمالي، أي في جنوب العراق، وهي لا تطمئن إليه خاصة في ظل انعدام إمساك عسكري أميركي للعراق قبل الانسحاب منه، وبشكل أكبر بعده.
وأما أمن حليفها التركي، فلا يمكن أن يكون مضموناً أيضاً، بوجود دولة كردية إنفصالية في شمال العراق. وحول ذلك صرَّح رئيس الوزراء التركي أردوغان أن عزوف الوزراء في حكومته عن عدم زيارة بغداد يعود إلى أسباب سياسية. وأضاف: «إنني أظنّ انه من واجب الولايات المتحدة الآن الإعلان عن خريطة طريق للانسحاب التدريجي من الساحة العراقية». وأعرب عن استغرابه من ادّعاء البعض أن شمال العراق منطقة آمنة متسائلاً: «كيف يتسنّي ذلك لشمال العراق وقد تحول الإقليم إلى وكر لمتمرّدي حزب العمال الكردستاني! ».
وكان من الملفت للنظر أن تركيا استضافت مؤتمراً عراقياً معارضاً للاحتلال الأميركي داعياً إلى مساندة المقاومة العراقية، وانسحاب قوات الاحتلال من العراق وإلغاء كل المؤسسات التي بناها.
لكل تلك الأسباب لا نرى أن محاولات التقارب بين المحتليْن الأميركي والإيراني، على قاعدة الخروج من العراق، مكتوب لها النجاح. أما السبب فهو وجود أكثر من عائق يحول دون تقريب أهدافهما، لأن ما يجمع بين الإدارتين الأميركية والإيرانية هو أقل مما يفرِّق بينهما، خاصة إذا أخذنا مصالح جيران العراق، ويجب أن نأخذها، بعين الاعتبار.
مأزق جورج بوش في المراهنة على دور عربي
كان أكثر ردود أفعال الجوار العربي للعراق تأثراً السعودية، بالإضافة إلى حالة الغياب المريب للنظام العربي الرسمي، الذي لم يجرؤ على إعلاء صوت الحد الأدنى من الاعتراض.
لقد ربط تقرير بيكر – هاملتون بين مجمل قضايا الصراع العربي - الأميركي، والعربي – الصهيوني، في محاولة منه لإغراء المترددين من العرب، وحقن المراهنين منهم على كرم الإدارة الأميركية بجرعة وعود خداع جديدة.
لا شك بأننا نشتمُّ من الربط بين كل تلك الملفات خديعة أخرى يمارسها بيكر، الذي رضع الحليب في بيت آل بوش، في محاولة منه لإعطاء جورج بوش الإبن فرصة أخيرة يعمل فيها على تدعيم حيطان الاحتلال المنهارة، ومن أهمها:
-العمل على استقطاب دعم عربي، أو تدعيم ما هو منهار منه، لتقديم كل ما يمتلكون من إمكانيات، هذا إذا بقي لديهم منها شيء لم يضعوه في خدمة العدوان والاحتلال.
وإذا كان ما بقي منه شيء، فنعتقد أن المقصود فيه هو مخاطبة نظامين عربيين مأزومين، ومتأثرين، بما يجري في العراق، وهما سورية والمملكة العربية السعودية:
-أولاً: محاولة دمج الإمكانيات السورية في المخطط العام دمجاً تاماً، ولعلَّ التلويح بفتح ملف الأراضي السورية المحتلة هو الإغراء الذي قدَّمه التقرير لجذب سورية إلى الاندماج في لعبة محاولة تسويف ستقتنصها إدارة جورج بوش. لكن سورية بدورها، حيث تمتلك أوراقاً فلسطينية ولبنانية أكثر مما تمتلك أوراقاً عراقية، ستدخل ميدان المساومة، ولكننا لا نحسب أنها ستفرِّط بأية ورقة بيدها ما لم تضمن الحصول على ورقة مقابلها، أما السبب الذي يدعوها إلى أن تكون مساوماً صلباً فهو ما تراه من رخاوة وضعف في الموقع الأميركي المنهار في العراق. تلك الورقة كان عليها الاستفادة منها استراتيجياً بمزيد من الضغط على الاحتلال الأميركي وعملائه، وليس بإظهار حسن النوايا التكتيكية كما فعلت بالاستجابة إلى التنسيق الديبلوماسي والأمني المباشر مع حكومة المالكي العميلة. ونحسب أن التوصل إلى نتائج في هذا المضمار صعب وشائك وغير عملي لأن الإدارة الأميركية ستكون عاجزة عن تقديم أثمان بديلة للأوراق السورية.
-ثانياً: دعوة السعودية ودفعها إلى لعب دور على قاعدة طائفية سنية في مقابل الغزو الإيراني الذي تسلل إلى داخل العراق على قاعدة طائفية شيعية. وإذا كان إغراء سورية يتم بناء لوعود أميركية تُغدَق عليها في ملفات أخرى غير العراق هي بحاجة إليها، فما هي الإغراءات التي ستُقدَّم للسعودية غير الغرق في متاهات الصراع الطائفي وتأجيجه؟ وعلى قاعدة أن النظام السعودي، المتأكِّد من وقوع الهزيمة الأميركية في العراق، يرتعد خوفاً من اقتراب التأثير الإيراني من حدود الخليج العربي البرية، متسللاً من بوابة العراق، هل هو مقتنع بأن الدخول في مشروع التوازن الطائفي – الطائفي، يؤدي إلى طرد الوجود الإيراني خارج العراق، ومنع عملائه من تثبيت فيدرالية شيعية في جنوبه؟
تلك إشكاليات لا ترى السعودية أنها تشكل حلاً ناجعاً يُهدِّئ من مخاوفها. ليس السبب عائداً إلى أن النظام السعودي يفكر قومياً، كما أنه ليس خارج دائرة الأنظمة السياسية الثيوقراطية، بل لأن مخاوفه قائمة على قناعته بأن الاحتلال الأميركي زائل لا محالة، والنظام السعودي لا يستطيع الاستمرار في حرب ذات لون وعمق طائفي لأن لها قوة الاستمرار طويلاً، بل الأسلم والأجدى، كما يتلمَّس المراقب للموقف السعودي، والأقل كلفة والأسرع حسماً، هو في أن يُوظِّف النظام إمكانياته في حركة عربية وإقليمية شاملة تنخرط فيه تركيا وسورية وكل القوى والتيارات العراقية على قاعدة استعادة وحدة العراق، وهذا لن يحصل، ليس في إفشال قيام فيدرالية شيعية، وفيدرالية كردية فحسب، وإنما في الامتناع عن العمل من أجل تثبيت فيدرالية سنية أيضاً.
ومن تلك الوقائع لا نرى في إغراءات تقرير بيكر ما يمكن أن يوفِّر عوامل إسناد عربية أو إقليمية لإدارة بوش، هذا إذا حاولت من جديد أن تخوض مغامرة أخيرة تعمل فيها على حصار المقاومة العراقية أو تجفيف عمقها الشعبي أو تقليصه إلى أقل منسوباته.
المرحلة الفاصلة مغامرة عسكرية أميركية – إيرانية وحشية
مستفيدة من حاجة النظام الإيراني، وميليشياته، للقضاء على المقاومة العراقية والتخلص من كابوس عودة حزب البعث إلى السلطة، قد تكون نوايا الإدارة الأميركية مبيَّتة على استمرار التحالف مع تلك الميليشيات من أجل القيام بمغامرة عسكرية جديدة لعلَّها تأتي بنتيجة ما تحفظ ماء وجهها لتوظيفها في خروج من العراق يحافظ على معنويات جيش قوي لأكبر دولة في العالم.
إن هذا الاحتمال، الذي نعتبره أكثر ترجيحاً في المرحلة الانتقالية التي تعد الإدارة الأميركية نفسها للخروج من الوحل العراقي، يستدعي أكثر مستويات الحذر من ارتكاب مجازر شنيعة بحق المدنيين العراقيين في آخر مغامرة عسكرية للاحتلال، إلاَّ أننا نثق بأن المقاومة العراقية تعد نفسها أيضاً لمواجهة هذا الاحتمال. أما الفرق بين دوافع الاحتلال والمقاومة، فهو أن الاحتلال يمهد لخروج مشرف، بينما المقاومة تعد نفسها لانتصار أكيد، وهي المعركة الحاسمة التي تشبه آخر معركة خاضها الفيتناميون قبل الهروب الأميركي من فييتنام.
ليس الخروج الأميركي من العراق هو آخر حلقة من مسلسل الألم العراقي، بل نتوقَّع أن تتبعه حلقات أخرى، يكون فيها العامل الأساس هو الأطماع الإيرانية. وهي ستمثل خطورة أكيدة لعلاقة تلك الأطماع بما نُقل عن الرئيس الإيراني أحمدي نجاد قوله: »إن زمن الصعاب والأحقاد ولّى وإن شاء الله سيعود عيسى المسيح قريباً إلى الأرض، كذلك الإمام المهدي للقضاء على الظلم.«
لكن من قطع بحر الاحتلال وقدر على تجفيفه، لن يكون عاجزاً عن قطع السواقي، خاصة أن مرحلة ما بعد الاحتلال الأميركي ستشهد اصطفافات جديدة لمصلحة استعادة وحدة العراق، وليس غير وحدة العراق.




(38): أية ديموقراطية نريد؟ وأية عدالة اجتماعية نختار؟
أفكار لصياغة برنامج سياسي اجتماعي اقتصادي في لبنان
(طليعة لبنان الواحد/ كانون الأول 2006)
لأن النظام اللبناني يطبِّق النظام الديموقراطي، بحيث يصل ممثلو الشعب إلى المجلس النيابي عن طريق الانتخاب المباشر، نرى أن نبدأ بصياغة أفكارنا حول البرنامج السياسي بإطلالة فكرية حول المسألة الديموقراطية. ومن بعدها سنحاول أن نجيب حول الأسئلة التالية:
-هل نتائج الممارسة الديموقراطية المطبقة في لبنان تلبي الغاية من أهداف النظام الديموقراطي؟
-وهل هناك عوائق تحول دون تطبيق النظام الديموقراطي بما يحقق الغاية من الديموقراطية؟ وما هي تلك العوائق؟
-كيف نرى الأسس التي على النظام الديموقراطي أن يقوم عليها؟
-وكيف تشكل مدخلاً أساسياً لوضع مشروع برنامج سياسي للساحة اللبنانية؟
مقدمة حول المفهوم الديموقراطي
من البديهيات أن يهدف النظام الديموقراطي لتأمين مصالح الشعب، أي عندما يكون هدف الديموقراطية أن تحقق مصالح الأكثرية في دولة ما لا يمكن أن تكون مفهومة إذا لم تكن تلك الأكثرية من الطبقات التي على أكتافها يقوم البناء الوطني، في الانتاج والخدمات، أقل من يستفيد منها. فلو كان المجتمع هرماً طبقياً تبقى تلك الطبقات هي قاعدته الأساسية وهي الأكثرية فيه، والتي عليها أن تقطف نتائج الديموقراطية، وأن تكون لمصالحها أولوية عند من يمثلونها في المؤسسات السياسية الديموقراطية. ولكي تحصل الأكثرية على مكتسبات متواصلة، في ظل نظام يعتنق المبدأ الديموقراطي، لا يمكنها من تحقيق ذلك إذا لم تكن واعية في اختيار الممثلين الحريصين على مصلحتها.
إشكاليات في آليات الديموقراطية المطبَّقَة في لبنان ونتائجها
أما ما يحصل في لبنان فيتلخص في أن الأكثرية تختار ممثليها، ولكن أولئك الممثلين هم، في أكثريتهم الساحقة، ممن لا يبدون حرصاً على مصلحة الأكثرية. فتكون الصورة، والحال كذلك، هي أن الأكثرية تمارس الديموقراطية فعلاً في اختيار نواب الشعب ولكنها لا تستطيع القطاف من ثمارها. وهنا تبدو الصورة غريبة ومستهجنة. فمن هو موكول إليه أن يختار نواب البرلمان، على قاعدة إيصال من يؤمن مصلحة الأكثرية، لا يستفيد منها. والأكثر استغراباً هو أنه على الرغم من ذلك تعيد تلك الأكثرية انتخاب من لا يمثل مصالحها، فهي بمثل تلك الحال كمن يخون نفسه.
فهل تنشأ تلك الظاهرة من خلل ما في المسألة الديموقراطية؟
ليست الديموقراطية بحثاً نظرياً يتحول المواطن إلى ديموقراطي إذا ما قرأه أو حفظه عن ظهر قلب. فللديموقراطية وجه تطبيقي يتلازم مع جانبه النظري. ذلك الجانب يتضمن أوجه الوعي للحقوق والواجبات معاً، على أن يكون وعياً نظرياً أولاً وممارسة حقيقية ثانياً.
فلا معنى لثقافة ديموقراطية تُلمُّ بالحقوق من دون معرفة أنها متلازمة مع وعي ثقافي للواجبات. فالديموقراطية وُضعت كمبدأ للذات وللآخر. فطغيان أحد وجهيها على الآخر يؤدي إلى خلل في العلاقة بين طرفيها. فالديموقراطية اجتماعية سياسية، أي لا يمكن تطبيقها إلاَّ في مجتمع، ولأن أفراد المجتمع متعددو المصالح كان لا بدَّ للمبدأ الديموقراطي من أن يوازن بين مصالحهم بالعدل والمساواة. ولأن الديموقراطية مبدأ سليم فهو لا يتحمل وزر الأخطاء في تطبيقه. فالديموقراطية لا يمكن أن تكون سليمة بدون أفراد ديموقراطيين.
هنا تُطرح إشكالية العلاقة بين الديموقراطية كإنتاج فكري سياسي موضوعي، والديموقراطية كممارسة إيديولوجية. فلإبراز التأثير الإيديولوجي على ممارسة الديموقراطية وظيفة مهمة لا يمكن فهم الخلل في تطبيقها من دون الإشارة إليه ومعالجته.
فللديموقراطية وجه إنساني اجتماعي عام لا يولي الانتماءات الطبقية ولا الدينية ولا المذهبية ولا العرقية أي حيز من الاهتمام. فإذا كانت الحرية قيمة إنسانية عامة، وإذا كانت الديموقراطية وجه تطبيقي متلازم مع قيمة الحرية، فيجب أن تكون ذات أوجه عامة. ومن اكتسابها تلك الصفات فهي تتعارض مع الممارسة الإيديولوجية في شتى وجوهها. ولكي لا نلغي الإيديولوجيا كشرط لضمان تطبيق ديموقراطي سليم يمكننا أن نقنن الإيديولوجيا، بمعنى أن نبتعد عن الأحكام الإيديولوجية في أثناء ممارستنا للديموقراطية. ولمزيد من التوضيح يأخذ خيارنا الديموقراطي في الانتخابات مواصفات المرشحين الأخلاقية وليست انتماءاتهم، برامجهم المعلنة وصدقهم في تطبيقها وليست هوياتهم الدينية أو المذهبية أو العرقية.
فالسائد في المجتمع اللبناني أن يتم الاختيار في ورقة الاقتراع، في الغالب الأعم، على قاعدة الإيديولوجيا المذهبية من دون النظر إلى مصلحة الإيديولوجيات المذهبية الأخرى. وهذا ما يفسح الساحة لواقع التنابذ المتبادل. فينتج عنها مبدأ الذرائعية في الدفاع عن المذهب أو الطائفة حتى ولو كان على حساب المذهب الآخر. وتتم ممارسة هذا الخطأ على حساب اللاحم الوطني من جميع مذاهب لبنان وطوائفه. فيصبح مبدأ الوطنية غطاء هشاً يدافع عنه الجميع لفظياً من دون أية ممارسة عملية.
ولتلك المظاهر أسباب حقيقية يتغافل عنها الجميع ولا يولونها أهمية عملية، فيتسابق الجميع في التكاذب المتبادل. وهكذا تتوالى الأيام وتزداد الأحوال سوءاً، ويجب أن لا تخدعنا مظاهر الحرص اللفظي لأنها لا تحمل دوافع من أجل الوصول إلى تشخيص حقيقي للمرض وإعطاء المريض علاجاً صحيحاً. فالمرض يكمن في ثقافة النخبة ومصالحها.
تلك هي آفة الطائفية السياسية في لبنان. تلك الآفة التي ورثها المجتمع اللبناني من المرحلة العثمانية. وتاريخ لبنان مليء بالشواهد والأمثلة. ولأن الدولة الدينية لم تكن عادلة مع شتى الأديان والمذاهب، كان يحصل الخلل في بنية السلطة وأدائها. إذ كان المذهب الحاكم يولي الاهتمام بنخبه الدينية والسياسية حتى على حساب العامة فيه. ولما جاءت مرحلة الانتداب الفرنسي، حاولت سلطاته أن تقوم بتحديث للبنى السياسية على مستوى السلطة السياسية والإدارة، ولكنها أبقت على البنية الثقافية الشعبية من دون أي تغيير، فأبقت الثقافة الرسمية والشعبية أسيرة الماضي. وبمعنى أدق فقد حدَّثت النظام السياسي بتلبيسه ثوباً ديموقراطياً على قاعدة أن يختار الشعب ممثليه وعلى أن يتولى السلطة من يختاره الشعب. وهي عندما لم تُعن، بالتنسيق والتواطوء مع النخب الاقتصادية والعائلية اللبنانية، كما ورثتها تماماً عن العهد العثماني،فقد ألبست اللبنانيين ثوب التحديث من دون أن تلامس البنية الثقافية للمجتمع اللبناني أدنى اهتمام.
وبمثل تلك النقلة المصطنعة الهشة استمرأت نخب الطوائف في لبنان ونخب العائلات قواعد اللعبة، فتوارث أقطابها كراسي الحكم جيلاً بعد جيل ولا تزال. وبمثل هذا الواقع اكتسبت الديموقراطية اللبنانية سمات خاصة، بمعنى أن نتائج اللعبة الديموقراطية وُظِّفت لكي تصب في مصلحة النخب الطائفية والعائلية.
وإذا كان لبنان، في تاريخه المعاصر، قد أصاب بعض المتغيرات على صعيد النخب فقد دخلت النخب المالية والاقتصادية، من الذين راكموا رؤوس الأموال، دائرة التنافس مع النخب الطائفية والعائلية. لكن قلما اصطدمت مصالح هؤلاء وأولئك لأنهم كانوا يجدون تسوية ما تضمن مصالح الطبقتين معاً.
وإذا كان يمكننا أن نصف واقع حال النخب الحاكمة الآن في لبنان فنرى إنها تقوم على تحالف بين الطائفة ورأس المال. فينتج عنهما سلطة تعيد إنتاج نفسها باستمرار فتكون الديموقراطية في لبنان قشرة يستغلها التحالف المذكور من أجل مصالحه.
واستناداً إلى ذلك تبقى الأكثرية في لبنان خاضعة لمفاهيم إيديولوجيا الطائفة المتحالفة مع سلطة رأس المال. ولا يمكن أن نتصور أن يحصل تغيير ما في لبنان ما لم يتم الحفر في البنى الثقافية للأكثرية التي يستخدمها وارثو السلطة.
تلك مهمة طويلة بلا شك، ولكنها ستبقى أبدية ما لم تبدأ حركات التغيير في بناء أسس ثقافية شعبية ترتقي بواسطتها بالثقافة الشعبية إلى مستوى الوعي والإدراك للحقوق والواجبات على اتجاهين اثنين: الوعي الوطني والوعي الطبقي معاً. ولا بدَّ من الإشارة إلى أنه من الأفضل أن تبدأ حركات التغيير لإنجاز مهمة طويلة بدلاً من أن تنتظر الأبد الذي لن يغيِّر من الواقع شيئاً من دون جهود تُبذل.
إلغاء نظام الطائفية السياسية:
ولأن الثوابت الوطنية، أي تلك المبادئ التي تنظر إلى جميع المواطنين بعين المساواة في الحقوق والواجبات، وتكيل مصالحهم بميزان العدل، هي الأساس الحديث والمعاصر في بناء الدولة العلمانية، نرى أنه لا يمكن لتلك الثوابت أن تشق طريقها في الثقافة الشعبية من دون إلغاء الطائفية السياسية من النصوص والأعراف السائدة. لكن هذا لا يعني إلاَّ أن العمل من أجل إلغاء الطائفية السياسية لن يمر من دون صراعات متواصلة، وقد تكون متعبة ومرهقة، مع النخب المستفيدة منها. إذ أنه لا يمكن انتظار مروءة تلك النخب لكي تتنازل عن مواقع السلطة التي تدر عليها اللبن والعسل، خاصة وأن التاريخ ماثل أمامنا ويؤكد أن النخب، في كل عصر ومصر،لم تكن لتتخلى عن مواقعها في الحكم والسلطة من أجل أن تضمن مصالحها الخاصة. وهي لأجل تلك المصلحة كانت تغرس في أذهان العامة أنها حاجة لا بدَّ منها لتمثيل مصالح تلك العامة. وتستند تلك الثقافة إلى غيبيات أحياناً، وإلى أسانيد اجتماعية متعددة أحياناً أخرى، وإلى مظلومية أبناء مذهبها في كثير من الأحيان. أو إلى تصوير بطولاتها في حماية التجمعات الطائفية أو الاجتماعية أو السياسية من أخطار التجمعات الأخرى. فكانت دائماً تعزز المخاوف من التجمعات الأخرى من أجل الدفع بالعامة إلى الالتفاف حول نخبها تحت ستار حماية الكرامة والخصوصيات.
وتدور عجلة الزمن وتنتقل وسائل خداع النخبة، بحماية حياض المذهب وأبنائه، من دون تبديل أو تغيير إلاَّ ما تفرضه متغيرات المرحلة من تنويع خطاب النخبة. أما نتائج الخطاب فكانت واحدة: إذعان ثقافي من العامة يدفعها إلى تمجيد بطولات النخبة في حمايتها من خطر التجمعات الأخرى. لذا تتنازل عامة جماهير المذهب عن حقوقها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من أجل إعادة إنتاج ما تتوهم أنه النخبة التي تدرأ عن الطائفة غوائل الطوائف الأخرى ومخاطرها. وهي، في الوقت نفسه، تتعامى عن قطف الجنى الاقتصادي والاجتماعي من قبل النخبة.
ولكي تبقى تلك المعادلة تصب في مصلحة النخبة في داخل التجمعات الخاصة، كان العرف نفسه منتشراً في داخل الجماعات الأخرى، بحيث أصبح الثنائي: العامة والنخبة، في داخل الجماعات الطائفية في لبنان، مرادفاً للترتيب الاجتماعي السياسي الاقتصادي في نظام المحاصصة الطائفية. وبها نشأ تحالف بين شتى النخب الطائفية على أن تتم المحافظة على أسس ذلك النظام على قاعدة تشريع ما ينظم تلك المصالح ويحافظ عليها، بما يستتبع ذلك من بناء ثقافي شعبي يدعمه ويستميت في المحافظة عليه. وإن ما نستغربه من أن الأكثرية في البنى الاجتماعية اللبنانية تخون نفسها، في صندوقة الاقتراع، لمرتبط بصلة عميقة مع البنيان الثقافي الموروث. ومن هنا نرى أنه لا يمكن الانقلاب على نظام الطائفية السياسية من دون الكشف عن حقيقة علاقة النخب في الطائفة مع الأكثرية فيها.
تأثير سلطة رأس المال وطرائق التحذير منه
على خطى حكمنا بأن النخبة تضع العراقيل في منع إلغاء الطائفية السياسية، نرى أن العمل من أجل الحد من سلطة رأس المال لن تمر من دون صراعات متواصلة أيضاً. وقد تكون تلك الصراعات متعبة ومرهقة، مع النخب الرأسمالية ومؤسساتها الاقتصادية، إذ أنه لا يمكن انتظار مروءة تلك النخب لكي تتنازل عن سلطة لا تحمي رؤوس أموالها، ووسائل نهبها للثروة الوطنية، بدونها.
كيف تصيغ قوى التغيير مناهج النضال من أجل إلغاء الطائفية السياسية والحد من سلطة رأس المال؟
قبل الدخول في صياغة برنامج سياسي نرى أنه لا يمكن لقوى التغيير أن تضع حلولاً لأمراض الواقع من دون منهج فكري وسياسي وثقافي.
المنهج الفكري لا يمكن إلاَّ أن يستند هذا المنهج إلى منطلقات وأسس وطنية، بمضامينها وممارساتها، لأنه لا جامع بين أفراد المجتمع المتعددي الانتماءات الدينية بدونها. أما نتائج غيابها فلن يكون إلاَّ تأسيساً لفتن قد تخمد أحياناً ولكنها ستندلع كلما استدعت مصلحة النخب الطائفية ذلك. فهي تبقيها سلاحاً مشهوراً في وجه الآخر للدفاع أو للضغط من أجل الحصول على امتيازات للمذهب أو للطائفة. وليس هناك سلاح أشد جذباً للعامة الطائفية من سلاح الحقن الطائفي، وهي لا ترى من الثقافة إلاَّ ثقافتها الخاصة بها. وغالباً ما ترتبط تلك الثقافة بمفاهيم غيبية لها علاقة بطريق خلاص الأنفس في الآخرة.
وعلى هذا المنوال، ومن أجل إلغاء الطائفية السياسية، لا بدَّ من صياغة خطاب جريء وواضح حول مثالب الطائفية ودور المذهبيين، من رجال دين وسياسة، كما يمكن الكشف عن شرورها وخطورتها. فالخطاب الملتبس والغائم لن يُنتج إلاَّ المزيد من التقوقع والهروب أمام المتمذهبين، لأنه لا يوجد في المقابل من يصحح ويوضَّح.
أما المنهج السياسي فلا يمكن بدونه للخطاب الفكري أن يفلح، لأنه سيبقى ساعتئذِ في برجه النظري. فالمنهج السياسي هو وسيلة لترجمة الخطاب النظري والتبشير به. على أن يرتبط بحركة نضالية لا تضع حسابات المصلحة الانتخابية نصب أعينها، لأن الموقف سيكون، بارتباطه بعدد الأصوات، بغير جدوى. فهو ساعتئذٍ سيقع في منحدر المجاملة ولن يعبِّر عنه بوضوح.
فإذا ما تكامل المنهجان الفكري والسياسي سيشكِّلان حركة ثقافية تعمل التيارات ذات الإرادة بالتغيير على تأمين مستلزمات نشرها بأكثر ما يمكن من الإمكانيات والوسائل لكي تعبر إلى أوسع الجماهير المعنية بها، والمقصودة بعملية التغيير الثقافي.
ولهذا نرى أن يرتبط أي برنامج سياسي لأية حركة أو حزب أو تيار أو شخصيات وطنية ببرنامج نضالي ثقافي يستند إلى رؤية واضحة من الطائفية السياسية والنخبوية المالية. فيكون البرنامج الفكري والثقافي معياراً ومكيالاً للبرنامج السياسي فيحدد تفاصيله وخطواته، مسائله وقضاياه. وبناء عليه نرى أن يعالج البرنامج السياسي شتى جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
في الجوانب السياسية:
أولاً: الحاجة لاستمرار الحركة من أجل تعميق الثقافة السياسية وتعميمها
1-إذا كانت مناسبة الانتخابات النيابية فرصة متاحة كل أربع سنوات تستفيد منها قوى التغيير في الحوار المباشر مع أوسع الشرائح الشعبية، إلاَّ أنها ليست الوسيلة الوحيدة للاحتكاك مع تلك الشرائح، بل هي حلقة في سلسلة متواصلة من النضالات. كما أنها يجب أن ترتبط مع رزمة من الوسائل، ومن أهمها:
2-بناء حلقات من العمل الجبهوي بين شتى اتجاهات التغيير وقواه، على أن تستند إلى هدف الكشف عن حقيقة اتجاهات تحالف القوى والتنظيمات الطائفية السياسية المُسنَدَة من قوى رأس المال. ومن أهم ما يمكن التركيز عليه في بناء تلك التحالفات هو توفير أجواء من الثقة بين الأطراف المتحالفة من خلال نقد طبيعة العلاقات التي كانت سائدة في الماضي والتي كانت منطلقاتها مبنية على قاعدة التنافس والتناحر والتسابق على الكسب الفئوي.
3-احتضان كل نشاط اجتماعي ورياضي وسياسي وثقافي من خلال بناء مؤسسات وأندية ثقافية واجتماعية ورياضية على كل الرقعة الجغرافية التي تتواجد فيها قوى التغيير.
4-أن تتكامل أدوار تلك القوى من خلال الاتفاق على برامج سياسية تمثل، في مراحلها الأولى،الحد الأدنى من خطط النضال الشعبي والبرامج السياسية.
ثانياً: في جانب اختيار ممثلي الشعب
تشكل فرصة الانتخابات النيابية كل أربع سنوات منبراً حراً أمام قوى التغيير. يتسنى من خلالها لتلك القوى فرصة تنشر فيها أفكارها وبرنامجها السياسي. ولهذا الجانب أهمية في التبشير والشرح لأن يكون قانون الانتخابات أقرب ما يمكن إلى إنتاج لحمة وطنية لا يمكن أن توفرها القوانين التي تراعي مصالح النخب الطائفية والمالية والعائلية. وهنا لا يمكن إلاَّ اختيار قانون التمثيل النسبي للأحزاب والشرائح الاجتماعية، وهو على العكس من القانون النسبي الذي يعني توزيع التمثيل على القاعدة الطائفية. أما قانون التمثيل النسبي الذي هو أكثر عدالة في إيصال صوت الأقليات التي لا يمكن أن يمثلها النظام الأكثري فمستحيل أن يأتي بنتائج ذات أهمية في بيئة تلعب فيها الطائفية السياسية دوراً مؤثراً في نتائج العمليات الانتخابية. فالنسبية، في ظل سيادة الثقافة الشعبية القائمة على الحس الطائفي، سيُعيد إنتاج الطبقة الحاكمة على أساس طائفي. وهي إذا لم تنطلق من بواعث طبقية واعية لحقوقها وواجباتها فستبقى الأكثرية الناخبة أسيرة لمنافع آنية، إما مذهبية أو اقتصادية، تُغدَق عليها كل أربع سنوات لكن الإغداق لن يتيح للناخب المستفيد إلاَّ منافع زهيدة لا يُقدَّر لها أن تعيش لأكثر من أيام.
ثالثاً: في أهمية النضال المطلبي
لأن الوصول إلى قمة التغيير الفعلي في بُنى النظام السياسي لا يمكن أن يحصل من دون تغيير في البُنية الثقافة لأوسع الشرائح الشعبية، يقتضي ذلك اعتماد مبدأ المرحلية. والمرحلية، كما نفهمها، تكمن في أنه لا يمكن لقوى التغيير أن تحرق مراحل التغيير الثقافي. وإلى الحين الذي يأخذ التغيير الثقافي مدياته القصوى، هو أن تعي حركات التغيير أكثر المطالب إلحاحاً ذات الصلة بواقع الجماهير اليومية، ابتداء من قضايا الخدمات ذات العلاقة بالمستوى المعيشي مروراً بالقضايا ذات العلاقة بمستقبل الأجيال الجديدة وصولاً إلى استشراف آفاق القضايا التي تحدد مستقبل أوسع الجماهير الشعبية. وهنا تندرج برامج التنمية الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية.
ومن أجل أن تكون الخطط مبرمجة وواضحة لا بدَّ من إعداد دراسات أكاديمية عن الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والسياسية التي يقوم بإعدادها أكاديميون وتقوم الحركات والأحزاب بترجمتها إلى خطط عملية ونضالية.
في الجوانب الاقتصادية
نرى أن المبدأ الاشتراكي يشكِّل الحل الأمثل للمشكلة الطبقية والفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين طبقات المجتمع. ولأن للنظام الاشتراكي أسس ومنطلقات وشروط للتحقق ليست متوفرة في الساحة القطرية اللبنانية، يمكن لأي برنامج يتناول الجانب الاقتصادي في لبنان أن يراعى ما يمكن تحقيقه استناداً للشروط المتوفرة. ويحصل ذلك كما نرىمن خلال سلسلة من المراحل التي يمكنها أن تؤسس لنظام اشتراكي عندما تتوفر شروط تحققه.
يأتي من أهم تلك المراحل وأكثرها واقعية العمل على قاعدة الحصول على مكتسبات تصب في مصلحة الأكثرية الواسعة من الطبقات الاجتماعية، سواءٌ أكان منها التي تقع في أسفل الهرم الطبقي أم تلك التي تمثل الطبقة الوسطى في السلم الاقتصادي، وتشكل تلك المرحلة بداية ضرورية لردم الهوة السحيقة بين طبقات المجتمع اللبناني.
وإذا كنا لا نستطيع في برنامج عام أن نتناول تفصيلات جوانب المراحل، خاصة ذات العلاقة بالعمل على ردم درجات السلم الاجتماعي الاقتصادي، فنشير إلى عناوين تلك المراحل، والتي نطلق عليها مصطلح «الحماية والأمن الاجتماعي» للشريحة المسحوقة. وبناء عوازل تحول دون النزول إلى درجات أقل، أي بحماية المكتسبات التي تحصل عليها تلك الطبقات والحؤول دون الالتفاف عليها من قبل الطبقات الحاكمة.
ولأن اتجاهات النظام اللبناني تستند إلى تحويل الاقتصاد الوطني إلى اقتصاد خدمات. وهذا النوع يحوِّل المجتمع إلى مجتمع «دون المستهلك»، مما يبقيه رهينة لاقتصاد «الأخطبوط» الذي يتمسك بأكثر من ذراع بفريسته. وبه يرتهن المواطن إلى إرادة رأس المال من دون أن يستطيع الفكاك منه. فارتهان المجتمع لنظام الخدمات يعني أن المواطن يبقى عرضة للجوع إذا ما حاول أن يستخدم أسلوب الاعتراض والإضراب، فهو في الوقت الذي يحصل لقمة عيشه بـ«المياومة» أو «الأجر الأسبوعي»، أو حتى «الراتب الشهري»، يبقى عرضة لابتزاز قطع مورده اليومي. وتلك إحدى الوسائل المخيفة للعامل أو الموظف أو الأجير سواء في القطاع العام أو القطاع الخاص.
إن تحويل المجتمع إلى مجتمع منتج لا ينعزل عن «مبادئ التنمية في الإنتاج». ذلك الأسلوب الذي يرتبط مع تنمية القطاعين الزراعي والصناعي.
ففي حقل التنمية الزراعية، خاصة وأن في لبنان تتوفر شروط «الأرض والمياه»، على حركات التغيير أن ترفع شعار «التنمية الزراعية». ومنها، وبها، تنشأ طبقة «الفلاحين والعمال الزراعيين». وتكفي موارد الأرض كل العاملين فيها مؤونة ابتزاز رأس المال. وتخرجهم من دائرة الأخطبوط لأن عندها ما يكفيها مؤونة توفير «رغيف الخبز». ولا ينعزل بناء طبقة يتوفر لها الحد الأدنى من ذل السؤال عن تخطيط نضالي دؤوب ومتواصل للحصول على مكتسبات ثابتة.
وهنا لا يمكن تجاهل العلاقة الوثيقة بين الإنتاجين الزراعي والصناعي، والمعروف بمصطلح «الصناعة الزراعية». ولا يمكن تجاهل تأثير «التعاضد التعاوني» في سبيل بناء مؤسسات تعاونية ذات علاقة بتصريف الإنتاج الزراعي من جهة، وبناء مؤسسات لـ«الصناعة الزراعية» من جهة أخرى.
أما في حقل التنمية الصناعية، فلا يمكن أن نستند إلى مفهوم الصناعات الكبيرة بل نعني هنا حقل الصناعات التي تنتج السلعة ذات الاستهلاك المحدود. أما استثناءنا للصناعات الكبيرة فتستند إلى أن شروط بناء مؤسسات صناعية كبرى لا تتوفر في لبنان من حيث إن قدرة رأس المال ليست متوفرة فيه كبلد صغير ، كما شروط توفر اليد الفنية والعمالية لا تستطيع رفد الصناعات الكبرى بما يلزمها من موجبات الكفاية والاكتفاء، هذا إذا ما أخذنا أهمية تصريف الإنتاج بعين الاهتمام.
لذا نرى أنه لن تتوفر شروط الصناعات الكبرى إلاَّ في محيط اقتصادي قومي متكامل من حيث توفير مستلزمات بنائه: رأس المال واليد الفنية والعاملة وسوق التصريف. ولهذه المسألة حيز خاص لبحثه.
حتى بناء الصناعة الاستهلاكية المحدودة لا يمكن أن ينفصل عن اتفاقيات ثنائية أو أكثر بين لبنان والأقطار العربية لتضمن الصناعة المحلية شروط نجاحها من حيث التخطيط الاقتصادي بين أقطار الأمة العربية. وهذا ما يستدعي إعطاء الأولوية في استيراد السلعة وتصديرها على قاعدة التنسيق والتكامل بين الصناعات القطرية بما يحمي مصادر إنتاج قطر من المنافسة الحادة من جانب وبما يؤمن لها أسواقاً للتصريف من جانب آخر.
إن حشر الصناعات القطرية في جانب إنتاج السلعة المحدودة لا يُنتج من جانب آخر طبقة عمالية على قاعدة الرؤية الماركسية لتتوفر بها ثنائية (بورجوازي –عامل) ومن خلال فقدان تلك الثنائية يمكن للفكر الاقتصادي والسياسي أن يصيغ مصطلحات أخرى وثنائيات أخرى تكون صالحة لتحليل أسس الصراع بين الطبقات.
ولغياب ثوابت الثنائيات الماركسية في الصراع بين الطبقات في لبنان أو أي من الأقطار العربية يمكننا التمهيد لاستشراف بعض الأسس لتشكل منطلقاً لصياغة نظريات جديدة في سلم الطبقات، ومن أهمها:
1-اعتبار ثنائية (السلطة – المواطن) نقطة انطلاق في وضع تلك الأسس: ويبرر هذا الاعتبار هو أن طبقة البروليتاريا، بالمفهوم الماركسي (أي الطبقة العاملة التي يستغلها رأس المال)، لم تعد قادرة في لبنان على تفسير مناحي الصراع الطبقي. بل انضم إلى تلك الطبقة عناصر جديدة من أصحاب الحرف الصغيرة وصغار التجار والحرفيين والمزارعين وصغار الملاك والموظفين والمثقفين الثوريين وصغار الكسبة والمتقاعدين...
كما أن طبقة البورجوازية، بالمفهوم الماركسي (أي الطبقة البورجوازية، الصناعية والتجارية، التي تستغل جهد العمال)، لم تعد قادرة، أيضاً، على الإجابة عن الإشكالية الماركسية التي تستند إلى قاعدة الصراع الطبقي حسب ثنائية (بورجوازي –عامل)، والسبب أن خليطاً من النخب العائلية والطائفية والمالية انضمت إلى الطبقة البورجوازية (التجار والصناعيين وكبار الملاك) في نسج قواعد تحالف تبوأت أطرافه كرسي السلطة واستولت عليها. فأصبحت أسس الصراع محصورة بين (سلطة – مواطن). وهذا ما يستدعي التجديد من خلال وضع ثنائيات أخرى في الصراع الطبقي خاصة بعد أن غابت طبقة العمال كشريحة كبرى في مفاهيم الصراع السابقة. وهنا نرى أن ثنائية (السلطة – المواطن) هي الأكثر تعبيراً عن واقع الحال الجديد.
2-اعتبار ثنائية (القوانين والتشريعات التي تحمي سلطة الاستغلال في مواجهة القوانين والتشريعات التي تحمي مصالح المواطن) أساساً ونقطة انطلاق للبرامج النضالية لحركات التغيير. ومنها يمكن العمل في ردم الهوة في الصراع بين السلطة والمواطن من خلال التجديد في التشريعات والقوانين التي تحد من شبق السلطة (تحالف النخب الطائفية والعائلية والمالية) في الاستغلال والهيمنة والتفرد من جانب، وبما يحمي المكتسبات الشعبية (تحالف الشرائح الاجتماعية التي أشرنا إليها أعلاه) ويعززها ويجدد فيها من جانب آخر.
3-ومن أجل إنتاج ثقافة جديدة لا تصطدم مع الموروث الثقافي لأوسع شريحة في المجتمع اللبناني نرى أن تعتني قوى التجديد والتغيير بما يلي:
أ-كانت عوامل اختيار ممثلي الشعب في مجلس النواب، تدور تحت سقف الشعار الخادع حماية الطائفة من خطر اجتياح الطوائف الأخرى، من أهم هموم المواطن اللبناني. ويبدو أن الخروج من هذا النفق لن يكون في المدى المنظور. وهنا يمكن التركيز على أن مسألة التفاوت الطبقي الاجتماعي الاقتصادي بين شرائح الطائفة الواحدة في غاية الأهمية. ويمكن أن تستند تلك الرؤية إلى أن حماية الطائفة لا يبرر التفاوت الكبير في المستويات الاجتماعية والاقتصادية لأبناء الطائفة الواحدة. ويمكن أن تكون المرحلية، في ظل برنامج إصلاحي اجتماعي واقتصادي، تستدعي اختيار من هم أقرب إلى التغيير وتقصير المسافة بين الطبقات الاجتماعية في داخل الطائفة الواحدة. ومن ناحية أخرى يمكن التركيز على أن حماية الطائفة لا يمكن أن يتم في ظل الصراع والتنافس بين الطوائف، بل إن الجامع الوطني (بما يعني العدالة والمساواة على قاعدة المواطنة) هو الأقرب لحماية الجميع من الجوامع الطائفية.
ب-أن تعمل من خلال دراسات موضوعية وعلمية، على كشف الغطاء عن التفاوت الكبير في الوضعين الاجتماعي والاقتصادي بين طبقة النخبة في الطائفة والطبقات الأخرى.
ج-أن تضع في برامجها خططاً مرحلية في مجالات التنمية الاجتماعية والاقتصادية في شتى المناطق اللبنانية. وأن يتم ذلك تحت شعار أنه لا يمكن تقصير المسافات، ولا يمكن ردم الهوة بين الطبقات، إلاَّ ببرامج للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وهي الكفيلة بتوفير فرص عمل للمواطنين من جهة وتعزيز حقوقها الاجتماعية من جهة أخرى.

(39): على وقائع تآمر التحالف الأميركي الصهيوني:
أمراض الأمة الطائفية جعلتها أقلَّ حصانة ومناعة
(طليعة لبنان الواحد/ كانون الأول 2006)
تتجلى الأمة اليوم في المقاومة الشعبية كأبرز وجوه قوَّتها المعاصرة، تلك القوة التي أنتجت النصر أينما حلَّت. أنتجته في السابق، وتنتجه اليوم، وستُنتجه في المستقبل. ولتأثير زخمها لم تتردد مؤسسات الإعلام الأميركية والصهيونية، ومن لفَّ لفهما من الدول والمنظمات التابعة، في وصفها بالإرهاب.
لقد دلَّت استراتيجية المقاومة الشعبية، خاصة إذا كانت تستند إلى لحمة وطنية أو قومية، أنها استراتيجية المستقبل لكل شعوب الأرض قاطبة، الشعوب التي تعمل للتحرر من الاستعمار والصهيونية، أو مما أفرزته من ظواهر جديدة تندرج تحت مشاريع اختراق حدود سيادة الدول الوطنية تحت ذرائع مشاريع إلهية مزعومة.
ولما أصاب العجز قوى الاحتلال في مواجهة المقاومة، في كل من العراق وفلسطين ولبنان، لجأت تلك القوى إلى الاستفادة من احتياط الأمراض المتفشية في الأمة، فكانت النعرات الطائفية من أهمها وأخطرها، كما كانت النعرات الانفصالية العرقية احتياطاً آخر.
وحول هذا الجانب، وردَّاً على الذين ينسبون كل أمراضنا للاستعمار والصهيونية، لكي يهربوا من المسؤولية الذاتية، وهم يصوِّرون كأن الطائفية أتت من مصدر خارجي، نرى نحن المعادلة خلاف ذلك.
إن الطائفية وحروب تكفير الآخر، هي إنتاج محلي، طالما عانت منه الأمة في تاريخها القديم، وطالما عانت منه في تاريخها الحديث، وهي الآن تكتوي بناره، ويزداد عدد التيارات الدينية السياسية التي تمارس سياسة الحقن كل في أوساطه الضيقة، وكثيراً ما يتصاعد دخانها في خطاب سياسي على الملأ.
إن الغريب في الأمر، هو أن كل الحاقنين يغسِّلون أيديهم من تهمة الحقن، إذ يصوِّرون أنفسهم بأنهم ملائكة الوطنية والقومية، كما هم ملائكة الدولة المدنية، بينما نحن نعرف أن هؤلاء جميعهم أسماك تسبح في بحيرات الطائفية وإذا خرجت منها ستلفظ أنفاسها. ولهذا السبب انعقدت أحلاف سياسية تتقاتل في سبيل تحسين وضع هذه الطائفة أو تلك، بينما الاتفاق غير المعلن هو أنهم جميعاً يحافظون على بيئة الطائفية، ويرفضون استبدالها ببيئة وطنية، تؤسس لمجتمع مدني، ليس بغيره يمكن للدولة الوطنية الحديثة، أن تستمر في الحياة.
لم نعرف أن صهيونياً أو أمبريالياً أو علمانياً دخل يوماً ما إلى المساجد والتكايا والزوايا. ولم نعرف رجل دين اصطفاه مواطنوه لكي يؤمهم في الصلاة، في كل أماكن العبادة من دون استثناء، قد تعلَّم الصلاة في مصانع الصهيونية أو الامبريالية، ولم تكتب كل تلك الأوساط خُطبه وإرشاداته، خاصة تلك التي ترسم طريق خلاص الأنفس بعد الموت، وبشكل أخص عندما يستبعد المرشدون الروحيون أي طريق للخلاص غير طريق طائفتهم أو مذهبهم أو دينهم. وعليه فنحن ننزِّه رجال الدين من الانزلاق إلى تلك البؤر، فيبقى عندنا أن تلك المخططات الخبيثة ليست مسؤولة عن تفشي التناقضات بين الأديان والمذاهب، وإنما مسؤوليتهم لا تتعدى إمساكهم بتلك الأمراض واستغلالها للتحريض، فتسميك جدران الفرقة، فالتشجيع على تسخين الخطاب المعلن، فالاشتباك بالأيدي والعصي، فرفع البندقية، ومن بعدها يأتي دور الصاروخ والمدفع، ومن بعد بعدهم يأتي دور القطط الصهيونية والاستعمارية السمان لكي يحتلوا دور الحَكَم وعقد طاولات الصلح بيننا.
قبل أي شيء آخر، لا يمكن لأمة أن تسير على دروب الصلاح والإصلاح غير أن تكتشف أمراضها، وتعترف بها أولاً، وأن تعقد العزم على معالجة تلك الأمراض بأدوية من صنع محلي ثانياً، ولا يمكنها أن تتحاور على قاعدة مقدَّسات هذا الطرف أو ذاك ثالثاً، وأن تفصل بين دور رجل الدين ورجل السياسة رابعاً.
بصراحة علينا أن نعلن الحقيقة، لكي يكتشفها السائرون في ركاب من يلوثِّون البيئة الوطنية بأمراض الطائفية السياسية، من دون محاباة أو مجاملة، نعلن بأننا لا نفهم أن ينزلق رجال الدين إلى ميدان السياسية، لأنها طريق تتلوَّن وتتبدَّل وتقوم أحياناً على المجاملة والخداع، ولتجميله حسَّنوه وأطلقوا عليه «فن السياسة»، وأردفوه بقول آخر «السياسة فن الممكن».
نحن نفهم دور رجل الدين، بأنه الرجل الذي لا يخشى أن يقول «كلمة حق في وجه ظالم»، من دون «فن» ولا من يحزنون، ومن دون مجاملة أو تجميل، فكيف يكون الأمر إذا كان الخداع مطلوباً ممارسته في دوائر الحوار السياسي. فأين سيكون دور رجل الدين في مثل تلك الحالات؟
نحن لا نريد أن نحرم رجل الدين من ممارسة حقوقه المدنية، بل نعترف بهذا الحق ونطالب به. ولكن عليه أن يتحوَّل إلى رجل سياسة، من دون عمامة أو قلنسوة. له الحق في أن يتقن «فن السياسة»، ومجاملاتها، وله الحق في أن يُتقن فنون الخداع كلها وليس «فن الخداع» فقط. أما إذا دخل معترك الحياة السياسية معتمراً عمامته أو قلنسوته، فلا يليق به إلاَّ أن ينطق بما هو حق فعلي، من دون لف أو دوران. فالزي الديني سيعني عند التابعين رمزاً إلهياً، لا يمكن لهم إلاَّ أن يطيعوا مرتديه، من دون جدل أو نقاش، لأن مخالفة الأمر الديني يعني عندهم اختيار غير طريق الجنة بعد الموت. وهل هناك من يرى خلاف ذلك؟
إن على دور رجل الدين، في الدولة المدنية، أن يعزِّز روح الإيمان بالمثل العليا عند الذين اختاروا طريقاً إيمانياً اقتنعوا بسلوكه من تلقاء أنفسهم، وأن يعزِّز روح الجماعة عند مواطني الدولة الواحدة، والدعوة إلى نبذ الفرقة التي تستند، في كل الأحوال، إلى خلاف حول سلوك الطريق المؤدي إلى الخلاص بعد الموت. فاتركوا لله عزَّت قدرته وحكمته أن يتولى هذا الجانب، وتفرَّغوا إلى التفتيش عن سعادة المجتمعات في الحياة الدنيا. وليست هناك سعادة أوفر وأحلى وأجمل من أن يكون الجار صديقاً لجاره، وأحلى من أن يتجاور مواطنو الدولة الواحدة بحميمية وصداقة، يتعاونون على ابتكار كل ما هو مادي يسهم في تحسين حياتهم الدنيونية، ويجعلها أكثر سعادة. تلك الحياة خصَّها الله للبشر جميعاً، وتركهم يسعون في رحابها من دون تمييز.
لقد ابتلت الأمة اليوم، وقبل اليوم، وستبتلي في المستقبل إذا ما استمرت مجتمعاتنا تدفع العجين إلى غير خبَّازه، وإذا ما استمر الخيار الروحي ميداناً للتنافس وليس للتكامل بين أبناء المجتمع المدني الواحد.
آن لهذه الأمة أن تخرج من نفق تحميل المسؤولية إلى غير من يتحمَّلها، وآن لها أن تعي مشاكلها بجرأة وأن تعالجها بجرأة، لأن البديل هو أن تتسلَّل المخططات المعادية إلى جسدنا الوطني الذي افتقد المناعة والتحصين، وليست أقلها إيلاماً أمراض الطائفية والمذهبية، وأكثرها خطورة مشاريع بناء أنظمة سياسية على أوهام «المقدَّسات الدينية». وعلى من لم يقتنع، أن ينظر إلى ما يجري في العراق ولبنان.

(40): ما لم يقله الشهيد الرئيس في الحاكم العربي
الحاكم من دون موقف لا خير فيه
31/ 12/ 2006
الرئيس الذي ترك لنا إرثاً عظيماً
الرئيس الشهيد الذي سيبقى حيّاً فينا
ما قلته يا رفيقنا الغالي، مما استطعنا أن نكتبه ونوثِّقه، كثير وكثير، وهو زادنا لأجيال وأجيال.
وفيما تركته زاد قد لا يستهلكه البعض منا في حياته القصيرة، وسيبقى لأولادنا وأحفادنا منه الكثير.
فأنت حيٌّ في أمتك ولن تموت في ذاكرتها. وأنت حيٌّ فيها وستبقى، ولكنها ستموت إذا لم تتابع نهجك في الفكر والعمل.
وهل الأمم إلاَّ إبداعات لأفراد مبدعين فيها؟ وهل الأمة غير المنتمين إليها، العاملين في سبيل خيرها وصلاحها؟
فأنت من أبدعت، وأعطيت الأمثولة الأكثر عمقاً في تاريخ الأمة.
أنت يا صدام حسين، أصبحت رمزاً نقتدي به، رمزاً فكرياً، ورمزاً نضالياً، ورمزاً عملياً.
لم تقف عند حدود النظرية الجامدة التي تقول الحقيقة ولا تمشي، بل أنت آمنت بنظريتك، وعملت على تطبيقها، وسرت بها وبأمتك على طريق التنفيذ. فأنت قلت كلمتك ولم تمش، بل رعيتها، بالعمل والنضال والجهاد، منذ ولادتك الأولى في حزب البعث العربي الاشتراكي وحتى الرمق الأخير في حياتك.
ففي سلوكك أيها القائد، الشهيد الحي في أمتك، ما أرعب الأعداء من كل حدب وصوب، من الغرب والشرق، فأقدموا على اغتيالك. فتوهَّم، من توهَّم، من صغار النفوس، وأعلن دناءته من أعلن عن فرحته، وحسبوا أن في اغتيالك اغتيال لحزبك ولأمتك ولمقاومتك، ولكنهم خسئوا، كما كنت تردد دائماً، «وليخسأ الخاسئون».
لقد خسئوا، فحزبك، ومقاومتك، وأمتك، ستستمر وستبقى، وسوف تبرهن لهم الأيام ما لا يستطيعوا أن يفقهوه.
لكن ما لم تقله أيها الحي فينا، فيه الكثير الكثير مما علينا أن نقرأه،
وقفت أمام الجلادين، من الخونة وصغار النفوس، غير واجف ولا مرتجف، غير هيَّاب ولا خائف.
وقفت وقفة موقف الصفوة من العظماء في التاريخ، وأنت الذي دعوتنا إلى قراءة سيرتهم الأولى،
وقفت أمام المقصلة رافضاً أن تضع على رأسك غطاء المجرمين،
وقفت أمام مقصلة نصبها صغار النفوس من الخونة، وقد حسبوا أنفسهم رجالاً وما هم برجال.
وقفت أمام صغار الخونة وكبارهم، وقلت لهم: ليس هذا المكان هو الذي يبرهن فيه الرجل عن رجولته.
لن يفقهوا ما قلته لهم، لأنهم خصيان اشتراهم الغرب والشرق بكل رخيص وخسيس من المتاع.
لقد رحلت أيها الرفيق أبو عدي، وهو اللقب الذي كنت تتمنى على من يخاطبوك بوصفك رئيساً لجمهورية العراق، أن يخاطبوك بكنية «أبي عدي».
لقد رحلت يا أبا عدي إلى ربك، وظلَّ صغار الخونة، وكبارهم، في غيِّهم يعمهون، وفي غيِّهم اتخذوا لهم أرباباً غربيين وشرقيين، ولكن في المقابل ظلَّت أمتك تحيي الرجولة فيك، وظلَّ الحزب الذي قدته إلى دروب النضال والشهادة مستمراً، وظلَّت المقاومة، التي أسستها وقدتها، مستمرة تكيل الكيل كيلين إلى كل أعداء الأمة على أرض الرافدين، وستبقى أصابع المقاومين الأبطال على الزناد حتى النصر أو الشهادة، وستمتلئ أرض العراق والأمة بالشهداء حتى يتحقق النصر، وليس غير النصر.
يبقى أيها الحي فينا أن نقول ما لم تقله، وقد فهمناه منك بالتمام والكمال، إن النصر قد عقد لواءه إلى الجزء الخيِّر من الأمة، وحذَّر الجزء الشرير فيها من الاستمرار في غيَّه.
إن جزء الشر فيها ساكت صامت أخرس، يخاف أن يقول كلمة معك، أو حتى كلمة ضدك.
ونحن نعتبر أن كلمة الخير لن يستطيعوا أن يقولوها فيك، فهكذا تنص التعليمات التي تلقنونها حرفياً من أسيادهم، أما كلمة الشر فيك، من حكام العرب الساكتين المكمَّمين، فكنا ننتظرها من محيط الأمة حتى خليجها، ممن ربَّعهم الغرب على عروشهم وكراسيهم، لكنهم لم يتفوَّهوا بها.
قولوا أيها الحكام العرب كلمة واحدة، أعلنوا فرحتكم بموت صدام حسين، أرشقوه بشوكة، حتى الشوكة ستُثلج منا القلب، وساعتئذٍ سنرتاح إلى أن الحاكمين فينا لهم موقف.
أرشقوا صدام حسين بشوكة، أعلنوا فرحتكم بموته، دافعوا عن شرعية الاحتلال الأميركي - البريطاني، ودافعوا عن شرعية الوالي الإيراني الشرقي الذي ملأ الفراغ الذي تركتموه، دافعوا عن شرعية المحكمة التي حكمت على صدام حسين بالإعدام، دافعوا عن الرعاع الذين نفَّذوا فيه قرار جورج بوش بـ«الاغتيال».
أعلنوا أنكم ستختارون تلك الشرعيات إذا غضب عليكم حاكم أميركا الغبي.
وأعلنوا أنكم ستمثلون أمام عدالة رعاعه وعدالة الخونة الذين استأجرهم.
وأعلنوا أن مقصلة المتربعين على رقابكم من كل حدب خارجي أو صوب، أنها تمثِّل العدالة التي ترتاحون لأن تموتوا تحت ضغط حبالها.
دافعوا عن ديموقراطية جورج بوش، حاكم أميركا، وطوني بلير، حاكم بريطانيا، وجون هاورد، حاكم أستراليا...
أعلنوا كل هذا أو ذاك، لأننا سوف نعتز بأن لحكامنا موقفاً حتى ولو قصوا رقابنا من الوريد إلى الوريد.
كونوا أصحاب موقف، ومن بعده، عودوا إلينا لنتصالح أو نتعارك أو نتشاتم،
لن ننتظر أحداً، فقد أعطى صدام حسين، شهيد الحزب والمقاومة والأمة، درساً في أن تبدأ القلة من طلائع الأمة في طريق الجهاد من أجل تحريرها من قيود الخارج، ومعالجتها من أمراض الداخل، ومن بعدها سيلتحق بها الآخرون.
لقد أعطى درساً في أن المقصلة لن ترعبه، فالماثل أمامها سيموت مرتاح البال والضمير، فالعدو أياً كان لونه أو كانت رائحته لن يحكم بالموت إلاَّ على الذين واجههوه وجابههوه وقاوموه ورفضوا إملاءاته. أما الويل والذل فهما لمن ستنصب لهم شعوبهم المقاصل لأنهم خانوها وأهملوها وباعوها لكل معتد لئيم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق