بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 22 يناير 2010

مقالات العام 2004 (3)

(40): لم تثبت عند الحزب الشيوعي اللبناني رؤية هلال البعث في المقاومة العراقية،
بداية، وقبل أن ندلي برأينا حول موقف الحزب الشيوعي اللبناني من المقاومة العراقية سننقل النص الحرفي لمقررات مؤتمره الوطني الذي عقده في شهر نيسان من العام 2004م:
أولاً: نص موقف الحزب الشيوعي اللبناني حول مستجدات الوضع العراقي كما أقرَّه المجلس الوطني للحزب في نيسان من العام 2004م:
1-التطورات في المنطقة:
لم يؤد اعتقال صدام حسين إلى إنهاء، أو إضعاف المقاومة لقوات الاحتلال الأميركية والحليفة، في العراق، كما كانت تأمل الإدارة الأميركية. لا بل إن هذا الاعتقال –وعلى النحو المهين الذي برز فيه الديكتاتور العراق السابق- قد كشف ضعف علاقته بهذه المقاومة من الناحية المادية على الأقل. ودون إنكار الانتصار المعنوي الذي حققته قوات الاحتلال من خلال هذا الاعتقال، إلاَّ أن استمرار المقاومة، وبالوتيرة نفسها، قد أكد بأن المقاومة هي عملية طبيعية موجَّهة ضد الاحتلال وبسبب ما ولَّده من تناقضات، وليست مجرد محاولة من قبل أنصار وقوى النظام السابق، لاستعادة مواقع وسلطة مفقودة.
ومن ناحية واقعية أخرى، فإن اعتقال صدام، قد فتح الطريق واسعاً أمام احتمالات أخرى أمام الشعب العراقي، ومنها شعار إيجابي مكمل لنشاط المقاومة في ضرب مواقع الاحتلال وعملائه على طريق هزيمته وإخراجه. وهذا الشعار الإيجابي هو النضال من أجل بديل ديموقراطي في عراق محرر وموحَّد. ذلك يعني طرح خيار جديد ثالث أمام المقاومة العراقية لرفد وتوسيع صفوفها، بديلاً من ثنائية بوش – صدام، أي ثنائية الاحتلال والديكتاتورية التي عمل الأميركيون، خصوصاً، لتكريسها معادلة وحيدة، بهدف كسب دعم كل الذين عانوا من الديكتاتورية ولا زالوا يخشون عودتها في حال خرج الاحتلال طائعاً أو مكرهاً.
وتفيد معطيات كثيرة، بأنه تنشط في صفوف المقاومة العراقية، بالفعل، قوى من النظام السابق. إلاَّ أنه يمكن إدراج أكثريتها في عداد المتضررين من المحتل وتدابيره. فإدارة الاحتلال قد سرَّحت مئات الآلاف من عناصر القوى الأمنية المختلفة (حل الجيش وأجهزة الأمن) وسرَّحت العاملين والموظفين في الإعلام و… كذلك أصدرت قانون »اجتثاث« حزب البعث… هذا فضلاَ عن تردي الأمن وانهيار الإدارة، وتباطؤ عودة الخدمات العامة والبطالة، وتدني الأجور، ونهب البلاد وتدمير جزء من حضارتها، وانتهاك سيادتها ومقدساتها…
إلى ذلك، فلا شك بأمرين آخرين أيضاَ بالنسبة للمقاومة العراقية:
الأول، هو وجود قوى سلفية أصولية متطرفة بين الناشطين في صفوف المقاومة (من جماعة »القاعدة« و»أنصار الإسلام« وسواهما…). وبذريعة هؤلاء ينشط جواسيس وعملاء استخبارات إسرائيلية وأميركية لتشويه صورة المقاومة وإضفاء طابع مذهبي أو تخريبي عبثي عليها، خصوصاً على غرار ما حصل في ذكرى عاشوراء.
والثاني، هو وجود قوى وطنية وديموقراطية بين المساهمين في المقاومة. وبعض هؤلاء من أصول ماركسية وقومية ومستقلة. وقد دلَّت التحقيقات، مثلاً، بأن شهيد أحد العمليات ضد قوات الاحتلال كان حتى الغزو الأميركي، معتقلاً في سجون النظام السابق.
لا شك بأن شروط عمل مناسبة للمقاومة باتت تتوفر أكثر، في البيئات الناقمة. ويدل توسع العمليات واستهدافها لقوات الاحتلال وللأطراف الأنشط في التعاون معه وللأجهزة الأمنية المنشأة تحت رعايته، كل ذلك يدل على اشتداد ساعدها وزيادة قدرات التحكم والسيطرة النسبية لديها، وإلى تحولها قوة كبيرة التأثير والضغط على المحتل وإجراءاته، ومن ذلك بعض التنازلات التي قدَّمها مؤخراً فيما يتعلق بمواعيد الانتخابات ونقل السلطة…
أ-النجف بعد الفلوجة معادلة جديدة:
لقد كان الأمر على هذا النحو حتى اندلاع الصراع في صيغته الأخيرة، بين »جيش المهدي« بقيادة مقتدى الصدر، و»قوات التحالف« المحتلة، بقيادة الجيش الأميركي. ولقد أضفى دخول الصدر على الصراع طابعاً مهماً ن الناحية العسكرية والسياسية في آن معاً.
فمن الناحية السياسية، يشكل هذا الدخول عامل إخلال مهماً، بالمعادلة التي حاول الغازي الأميركي تكريسها منذ غزوه للعراق وحتى اللحظة الراهنة. وقد قامت تلك المعادلة على تصوير الكتلة الشيعية – السياسية متعاونة مع الاحتلال وشريكة في تدابيره وإجراءاته، مستفيدة من التحولات والتوازنات الطائفية والمذهبية التي يسعى لتكريسها، على حساب الطائفة السنية المتضررة والمنتفضة.
ومن الناحية العسكرية تحرك »جيش المهدي« بقدرة احتراف جيدة، وبتسليح لافت، وبدعم شعبي واسع جداً في معظم المناطق ذات الأكثرية الشيعية. وقد تكبَّد الأميركيون في المواجهة مع جيش الصدر خسائر بشرية ومادية كبيرة جداً. وجرى إخراجهم من عدة مدن أساسية: النجف وكربلاء والكوفة…
وشكل اضطرار الجيش المحتل للقتال على محوريْ الفلوجة – النجف… تحولاً سياسياً وعسكرياً كبيراً، على الرغم من ما رافقه من بعض السلبيات المذهبية في الاحتشاد والخطاب. فلقد تحولت المقاومة من العمليات السرية إلى المواجهة المكشوفة، ومن الإغارة إلى السيطرة على مواقع ومدن ومناطق… إنها حالة نوعية مهمة بكل المقاييس، وعلى الأرجح، غير محسوبة بالنسبة للمحتل وللمتعاونين معه.
ولقد دفع ذلك الأميركيين إلى ارتكاب المجازر المروعة، دون أن يتمكنوا مع ذلك، من حصد إلاَّ المزيد من الصعوبات والمآزق لهم ولكل المشاركين في »مجلس الحكم«.
ومن نتائج ذلك، السلبية على الأميركيين، أيضاً، الإرباكات السياسية الإضافية في واشنطن حول دوافع الحرب ونتائجها، وتدني شعبية بوش واتباك فريقه، وانسحاب القوة الإسبانية والهندوراسية… وأخيراً اضطرار واشنطن إلى طلب (ولو خجول) للتدل والوساطة من قبل إيران وسوريا!
إننا نرى بأن التحول الإيجابي في وضع المقاومة العراقية يجب أن يتصاعد لجهة توسيع القوى (لزيادة مساهمة ممثلي الاتجاه الوطني التقدمي)، ولجهة البرنامج (بما يرجح فيه العامل الديموقراطي التوحيدي)، ولجهة الأساليب (بما يستبعد الأشكال العبثية والتدميرية الموجهة ضد أهداف مدنية أو إنسانية غير ذات صلة بالاحتلال وأدواته وسلطته…).
ويطرح ذلك مسألة ضرورة إعادة النظر بتوجهات وعلاقات ومواقف أطراف داخل مجلس الحكم، بمن فيهم الشيوعيون وقوى معارضة سابقة أخرى للنظام الديكتاتوري الصدامي.
ب-الاحتلال والديموقراطية!
والواقع أن الاحتلال الأميركي للعراق ليس شأناً عراقياً داخلياً لجهة التأثير والأهداف. ويحاول المحتلون الأميركيون إشتقاق معادلة ثابتة بالارتباط مع الاحتلال، ولخدمة استتباب الأمر له وتحقيق استهدافاته، على صعيد المنطقة وعلى الصعيد العالمي. وتجمع هذه المعادلة ما بين حتمية الاحتلال، والتخلص من الاستبداد والديكتاتورية. * للشعوب بوسائل القوة إذا لزم الأمر، وبوسائل الضغوط والتدخلات السياسية والاقتصادية والإعلامية والأمنية على غرار ما يرمي إليه مشروع »« الذي طرحته إدارة بوش ونشر في 12 شباط الماضي.
إن هذا المشروع، كما كل التدابير الأميركية في العراق، هو في خدمة مشروع السيطرة الأميركية على هذه المنطقة بموقعها الاستراتيجي وثرواتها الهائلة وخصوصاً النفط، وهو ما جرى تناوله، بشكل مركز، في موضوعات المؤتمر التاسع أواخر العام الماضي.
ولقد تحدث القادة الأميركيون، مراراً، عن إعادة النظر بخريطة المنطقة ودولها، بما يخدم استراتيجية السيطرة الأميركية. ويدل »قانون الدولة العراقية المؤقت« الذي أقرَّ في الثامن من آذار الماضي، على بداية توجه بشأن العراق، يتجاوز الفيدرالية إلى ما يؤسس للتقسيم الذي يرتبط في واقعه الراهن والمستقبلي بالدور وبالقرار الأميركي! هذا فضلاً عن السعي لزرع الفتن الطائفية والمذهبية… ولا يقتصر تأثير ذلك على العراق، بل يتناول الدول المجاورة. وبشكل أو بآخر، تشير أحداث مدينة القامشلي السورية، إلى انعكاسات هذا الأمر، دون إهمال أسبابها الداخلية المتراكمة. (إلى هنا انتهى نص تقرير المجلس الوطني للحزب الشيوعي اللبناني حول المسألة العراقية).
***
ثانياً: رد على تقرير المجلس الوطني للحزب الشيوعي اللبناني الصادر في نيسان من العام 2004م
يقتصر ردنا فقط على ما جاء في التقرير حول رؤية الحزب الشيوعي اللبناني للوضع في العراق في مرحلة الاحتلال الأميركي الصهيوني، وما قبله، وما بعده.
من دون مقدمات، اختزل التقرير المذكور القضية العراقية بواقعة أسر الرئيس العراقي صدام حسين. كما اختزل واقعة الأسر بالمشهد الذي أظهره الإعلام الأميركي. وقد جاء الوصف بصيغة لا تخلو من قصور النظرة واجتزائها، قائلاً: »وعلى النحو المهين (تأمَّل بهذا التعبير الذي كان الإعلام الأميركي لا يريد أن يوحي للمواطن العادي بأكثر منه) الذي برز فيه (ولم يقل التقرير أن علماء النفس في الإعلام الأميركي أبرزه فيه) الديكتاتور العراقي (وهل كان غطاء احتلال العراق إلاَّ لإيهام الرأي العام العالمي وتضليله بمثل تلك الصيغة) السابق«.
ومن غريب النتائج التي توصَّل إليها التقرير، مستنداً إلى قواعد غريبة عن القياس المنطقي لكي يصل إلى نتيجة مفادها أن واقعة الأسر كشفت »ضعف علاقته (أي علاقة الرئيس) بهذه المقاومة (أي المقاومة العراقية) من الناحية المادية على الأقل (وهذا تساهل من التقرير لأن سلبيات الرئيس كانت أكثر من هذا إنما التقرير بدافع من إنسانيته قد تساهل في حقه ولم يذكر سلبيات أكثر!!)«.
فإذا كانت علاقة المقاومة مع صدام حسين ضعيفة، فهي -كما يؤكد التقرير جازماً- قد استمرت لأنها »عملية طبيعية موجَّهة ضد الاحتلال« (أي هي غريزية، ونسبتها إلى الغريزة –بالعين الإيديولوجية المتعصبة- أفضل من نسبتها إلى عامل مادي لأن مادية العامل يقضي بنسبتها إلى جهة، ولأن تقرير الحزب الشيوعي يعلم أن حزب البعث –بقيادة صدام حسين- هو الجهة التي بنى المقاومة قبل الاحتلال بسنوات، ولأنه لا يريد نسبتها إلى الحزب انحرف بنسبة ولادتها إلى الغريزة تارة، وإلى »التناقضات« التي ولَّدها الاحتلال تارة أخرى. أما موضوع التناقضات –التي يشير إليها التقرير- فلسنا ندري إذا كانت غريزية أم لا؟
أو لا يدري الحزب الشيوعي اللبناني أن التناقضات تأخذ أشهراً على أقل تقدير لكي تظهر أمام العراقيين؟ وبمثل تلك الحالة لم يأخذ التقرير بعين الحسابات الدقيقة كيف تواصلت حرب المقاومين العراقيين وانتقلت فوراً من مرحلة الحرب النظامية التي انتهت في 9/ 4/ 2004م، إلى حرب التحرير الشعبية في 10/ 4/ 2004م؟
إذا كانت مداركنا قد التقطت معانى ومغازي البدايات تلك لكنها لم تستطع أن تلتقط ما يريده التقرير من الجملة التالية: »وليست (أي المقاومة العراقية) مجرد محاولة من قبل أنصار وقوى النظام السابق، لاستعادة مواقع وسلطة مفقودة«؟
ولكننا سنحاول جاهدين أن نفسِّر الأمور كما نقيسها على القواعد الإيديولوجية المتعصبة، التي تتحكَّم بمسار صياغة التقرير، والتي أخذت تميز مواقف بعض قطاعات الأكثرية في الحزب الشيوعي اللبناني، ونجزم بأنها ليست إجماعاً، فنقول ما يلي:
1-تعفَّف التقرير عن الإشارة إلى حزب البعث وكأنه ليس حزباً فاعلاً في جسم الحركة العربية الثورية أولاً، وكأن الذين كانوا يقودون النظام السياسي السابق في العراق لم يكونوا بعثيين ثانياً، بل كانوا مجرد أنصار وقوى لنظام مجهول الهوية، أو كما يريد التقرير أن يجهِّله.
2-تقزيم دور المقاومة العراقية، وحصر مهمة حزب البعث في »استعادة مواقع وسلطة مفقودة«، وهنا يتناسى التقرير بأن البعثيين لا يعتبرون السلطة هدفاً وإنما وسيلة من وسائل الثورة، ومن أهم أهداف ثورة البعث هو محاربة الاستعمار أينما كان، ويأتي على رأس وسائله، ومن أهمها، الكفاح الشعبي المسلح. فلو كانت السلطة هي الغاية والهدف لكان النظام السابق قد فاوض الأميركيين واستجاب لأهدافهم في تقاسم الثروة النفطية في مقابل أن يبقى في السلطة.
3-يبدي التقرير ارتياحه التام، وتأتي جمله كمن يتنفس الصعداء حينما يعلن أن أسر الرئيس صدام حسين قد أزاح عبئاً عن صدر التقرير المغرق بعصبية الإيديولوجيا، فيتكهَّن بأن أسر الرئيس »قد فتح الطريق واسعاً (أنظر الارتياح النفسي) أمام احتمالات أخرى أمام الشعب العراقي (وأنا أقرأ هنا ليس الشعب العراقي لأن الشعب يحب رئيسه، وإنما أمام الحركات الإيديولوجية التي تنقم على صدام حسين لأنه منعها من تحقيق أهداف سابقة لم تكن تصب في مصلحة العراق)، ومنها شعار إيجابي مكمل لنشاط المقاومة (والحمد لله هذا أول اعتراف بأهميتها) في ضرب مواقع الاحتلال وعملائه (الحمد لله أن المؤتمر قد اعترف بأن هناك عملاء بعد طول مخاض وقفت فيه أكثرية من الشيوعيين اللبنانيين لتنتصر لهذه الحقيقة وتفرضها في المؤتمر)«.
4-ويصل التقرير إلى نتيجة وهمية طالما تذكرنا بتجربة مريرة خاضتها الأحزاب الشيوعية العربية عندما كانت تتوهم أن النضال من أجل تثبيت اليهود في فلسطين سيجلب الجنة الديموقراطية إلى الأرض العربية.
كان الحزب الشيوعي اللبناني من أكثر الأحزاب الشيوعية العربية سبقاً لاكتشاف خلل العلاقة بين الاحتلال الصهيوني لفلسطين والديموقراطية. وكان جريئاً في نقده لتلك التجربة وأعلن فشلها، ومن بعد مؤتمره الوطني الثاني في العام 1968م أعلن انحيازه لأسلوب الكفاح الشعبي المسلح، بعد طلاق سابق بينهما، وسطَّر –على أساس نقد المرحلة السابقة- صفحات بيضاء من العمل المقاوم إلى جانب الفصائل والأحزاب اللبنانية والعربية التي كانت تؤمن بالكفاح الشعبي المسلَّح نظرياً وتطبيقياً.
وهنا نخشى أن يكون المجلس الوطني للحزب الشيوعي –في تقريره الذي بين أيدينا- أن يكون قد ارتدَّ على مقررات المؤتمر الوطني الثاني، عندما يعيد ربط النضال ضد الاحتلال مع النضال من أجل الديموقراطية. وكأنه يتوهَّم أن الاحتلال سوف يسمح بنضال ديموقراطي في ظل هيمنته على العراق.
ويأتي الاكتشاف -الذكي جداً- للتقريرعندما يعلن عن »خيار جديد ثالث« للمقاومة العراقية، تحتل مكان »ثنائية صدام - بوش«، ويعزز تفسيرها بشعار »ثنائية الاحتلال والديكتاتورية«.
أولاً:من الأخطاء الكبرى أن يختزل الشيوعيون المعركة الدائرة في العراق بثنائية شخصية: »بوش – صدام«، فهذا تسطيح واضح لعقولنا، وتجهيل واضح إن لم يكن مقصوداً لحقيقة معركة تدور بين آخر أوهام الإمبراطوريات الرأسمالية وحركة التحرر العربية التي يقودها حزب البعث، بقيادة صدام حسين.
ثانياً: إن شعار »ثنائية الاحتلال والديكتاتورية« ليس شعاراً واقعياً على الإطلاق، فهي ثنائية لطرف واحد: الاحتلال موجود وواقع، أما ما يفترون بتسميته »ديكتاتورية« وبافتراض أن التسمية صحيحية، فهو ما لم يفسر لنا التقرير أين هي الديكتاتورية الآن؟
وإذا كان التقرير لا يدري –استناداً إلى مقاصد التقرير الإيديولوجية- أين هي فنحن نعفيه من المهمة، وندلَّه على أنها –الآن- مأسورة في معتقلات الاحتلال الأميركي، ليس لديكتاتوريتها بل بتهمة مقاومتها الاحتلال وقيادتها لتلك المقاومة. وبمثل هذا الدليل على التقرير أن يعي أنه يقاتل »طواحين الهواء« مثله مثل »دون كيشوت«.
إن مقاتلة »دون كيشوت« هو مضيعة لوقت ثمين على شتى أطراف الحركة العربية الثورية أن يوفِّروه لمقاتلة الاحتلال الذي هو –الآن- الحقيقة الواقعية الوحيدة، مع عملائه، التي على تلك الأطراف أن تقاتلها.
إن هذا الشعار المصطنع لا يخدم على الإطلاق نضالات حركة التحرر العربية فحسب، وإنما يزرع عوائق في طريقها أيضاً. فبدلاً من اصطناع وجود أخصام نضيِّع وقت الحركة الثورية العربية بالتلهي بها، على أطراف تلك الحركة أن يوجِّهوا كل سهامهم ضد الاحتلال لأنه الوحيد الموجود على الساحة.
لذا نعمل، ومن منطلق الحرص على توحيد جهود الحركة الثورية العربية، برفع شعار وحيد وواحد وهو ثنائية »المقاومة والاحتلال«. فمن يتوهم التقرير أنهم يمثلون الديكتاتورية هم الآن إما في أسر الاحتلال، أو في خندق المقاومة، أو في جنات الخلد بعد أن استشهدوا في سبيل وطنهم. ولن نختزل –ظلماً- أدوراهم بما ذكرنا فقط، وإنما نقول بكل ثقة واطمئنان ضمير أن هؤلاء هم من استفادوا من خلال وجودهم في السلطة للاعداد لموجبات الثورة. ومن يقل غير ذلك ليس أكثر من ظالم يصر على ممارسة الظلم، لأن عين الكره عن كل إيجابية كليلة. ومن يريد الاستزادة حول الحقائق الموثَّقة سيصل إليها إذا أراد أن ينظر إلى الحقائق بموضوعية وحياد.
ثالثاً: ليس الأميركيون هم الذين كرَّسوا »ثنائية بوش - صدام« كما جاء في التقرير. ولكن ذكاء بعض المتلاعبين بالألفاظ من الذين صاغوا التقرير هم الذين ابتكروا تلك الثنائية. بل إن الأميركيين وضعوا ثنائية »الديموقراطية والديكتاتورية« أي أن الأميركيين احتلوا العراق –كما ادَّعوا- من أجل إحلال الديموقراطية مكان الديكتاتورية. لكن التقرير لم يبتهج أبداً بقدوم الديموقراطية على الدبابات الأميركية على الرغم من أنه ابتهج بسقوط الديكتاتورية!! وراح يوزِّع التهاني لكل من حسبهم قد »عانوا من الديكتاتورية، ولا زالوا يخشون عودتها في حال خرج الاحتلال طائعاً (تأتي عبارة طائعاً هنا ليس بالصدفة بقدر ما هي مقصودة لذاتها. وهو دليل على أن الحزب الشيوعي اللبناني عندما استنكف عن توجيه تهمة الخيانة للشيوعيين الذين عادوا إلى العراق على الدبابات الأميركية وشاركوا في مجلس الحكم الانتقالي الذي عيَّنه الاحتلال، هذا إذا لم نتطرق إلى أنهم أسهموا بتقديم معلومات عن أسرار الدولة العراقية لمخابرات السي آي إيه،بأنه كان يراهن –كما هو رأي الشيوعيين العراقيين المشاركين للاحتلال الأميركي- على أن الاحتلال سيترك العراق بعد أن يُسقط لهم صدام حسين ليتركهم يبنون نظاماً ديموقراطياً!!) أو مكرهاً«.
شكراً للتقرير اعترافه بأن »قوى من النظام السابق« تنشط في صفوف المقاومة. ولكننا نتساءل: لماذا يتجاهل التقرير أن تلك القوى هي من البعثيين؟ ولماذا يصر –كما يفعل الإعلام الأميركي- على تجهيل حزب البعث وقيادته للمقاومة؟ لماذا يستخدم مصطلح النظام السابق ولا يستخدم أعضاء حزب البعث وقياداته؟ ونرجو أن لا يكون هذا الاستخدام مقصوداً لذاته، وأن يكون خالٍ من الغرض والوطر الإيديولوجي.
وبمتابعة القراءة، وبعد أن لا نهنأ بسطر واحد بسعادة الاعتراف المبتور بفضل (ولو قليل للبعث) بالمقاومة، لنعود إلى التأكد من أن الغرض والوطر الإيديولوجي هو الذي حدا بالتقرير إلى تجهيل متعمَّد لدور حزب البعث، عندما يسرق من البعثيين ويجردهم من فضيلة النضال ضد الاستعمار، قائلاً: »إلاَّ أنه يمكن إدراج أكثريتها (أي أكثرية تلك القوى من النظام السابق) في عداد المتضررين من المحتل وتدابيره«.
لم يرأف التقرير بالبعثيين كما لو أنه يريد –كما يتبادر إلى الذهن فوراً- أنه قد أصدر قراراً شبيهاً بقرار بريمر »باجتثاث حزب البعث« من ذاكرة القارئ بإغفاله اسم الحزب في كل المقاطع ذات العلاقة بالمقاومة وبالقضية العراقية، ومن غريب الصدف، أو لا غريبها، أنه لا يذكر مصطلح »البعث« إلاَّ عندما يأتي على ذكره في معرض كلامه عن قرار بريمر المشهور.
وفي المقابل يعمل التقرير على إبراز دور تقوم به »قوى وطنية وديموقراطية« في المقاومة من أصول ماركسية وقومية ومستقلة. ونأسف أن يقدِّم تقرير لحزب عريق برهاناً حول مثل هذا الوجود مستنداً إلى حالة محدودة جداً. ويحاول التقرير أن يمنِّن القارئ بالعناء الكبير الذي بذله (الحزب الشيوعي اللبناني) عندما بذل جهداً »من التحقيقات« ليجد الدليل فلم يره إلاَّ في أن »التحقيقات دلَّت، مثلاً، بأن شهيد أحد العمليات ضد قوات الاحتلال كان حتى الغزو الأميركي، مُعتقلاً في سجون النظام السابق«.!!
لو بذل الحريصون على صياغة التقرير القليل من الجهد، والقليل من الجهد لا يجعلهم يقومون بتحقيقات مضنية، لوصلوا إلى تحديد دور واضح ومشرَّف لتلك القوى (الماركسية والقومية والمستقلة)، ونضيف إليها القوى الوطنية الإسلامية. ولكان على التقرير أن يعطيها حيزاً واهتماماً أكبر نابعاً من كبر دورها بتحليل واضح وموضوعي وغير ذي غرض. أما الغرض من وراء التفضل بذكر تلك القوى بأقل من سطرين فهو الوصول إلى الإشارة للمثل اليتيم –الذي أعطاه التقرير ثلاثة أسطر- هو أن الذين سجنهم نظام حزب البعث يقاتلون المحتل. وهل لأحد من المقاومة العراقية أن يعترض على تقرير المجلس الوطني للحزب الشيوعي الذي أعطى كل هذا الاهتمام لتلك القوى؟
لم يعط التقرير اهتماماً لدور القوى المقاومة في العراق من غير البعثيين لسبب آخر غير الردح بديكتاتورية النظام السابق، ولو أنه أعطى لذلك الدور حجمه الحقيقي، بأكثر من إثبات شهادة واحد من المسجونين سابقاً، لهان الأمر. أو ليست الحركة النقدية الإيديولوجية التقليدية للأحزاب العربية، التي كرهت نفسها وكرهتها الجماهير، تقوم إلاَّ على »اجتثاث بعضها البعض«؟
بعد أن يرى المقاومة العراقية بمنظار الانحراف عن حقيقتها وواقعها، يوغل التقرير في أخطائه من خلال تحليله المذكور تحت عنوان »أ-النجف بعد الفلوجة معادلة جديدة«، ويبدأها بتعبير غير سياسي بوصف قوات الاحتلال بقوات التحالف حيث كان من واجبه أن لا يستخدمه، وانتهى به المطاف إلى أن يقزِّم استراتيجية المقاومة بثنائية »النجف – الفلوجة« بدلاً من الإشارة إلى أن الأرض العراقية كلها قد اشتعلت لفك الحصار عن الفلوجة.
كان الأمر بفتح كل الجبهات ضد الاحتلال قراراً أصدرته »قيادة المقاومة والتحرير في العراق«. وإن كان التقرير قد أصاب بتشخيصه أهمية التحول في الجنوب إلاَّ أنه قد أخطأ في بعض جوانب التشخيص عندما نسب انسحاب القوات الإسبانية والهندوراسية إلى حركة مقتدى الصدر، بينما تلك الانسحابات كانت قراراً يعود اتخاذه إلى أيلول من العام 2003م، والسبب عائد إلى تأثير المقاومة العراقية قبل زمن طويل من تمظهر حركة مقتدى الصدر.
ومن مآخذنا على التقرير أنه في معرض دعوته إلى تعزيز المقاومة ورفدها على شتى المستويات، حركات وأحزاب وقوى شعبية، يحشر مسألة الأساليب والأشكال العبثية الموجَّهة إلى أهداف مدنية في متن اقتراحاته لتعزيز دور المقاومة العراقية بما يوحي وكأنَّ تلك الوسائل هي من فعل المقاومة واستراتيجيتها. وكان الأولى به أن يحذِّر الرأي العام من أن تلك الأفعال هي من فعل الاحتلال وأدواته.
وإن كانت دعوة المشاركين في مجلس الحكم الانتقالي إلى تغيير مواقفهم لا تتَّسم بما يليق بها من قسوة، وقد غلب على الدعوات صيغة التمني وليس الزجر، وربما نتفهَّم بعض خصوصيات الحزب الشيوعي اللبناني في حرصهم على مخاطبة لينة مع رفاقهم في الحزب الشيوعي العراقي المشاركين في مجلس الحكم الانتقالي، إلاَّ أننا لا نستسيغ، بل نرفض، أن يُشار إلى ديكتاتورية »النظام الصدامي« حتى في المواقع التي نطمع فيها بعدالة الحزب الشيوعي اللبناني ومساواته بالنظر إلى الأخطاء كلها. وكأنه بما جاء من مناشدة لينة للشيوعيين المتعاونين مع الإمبريالية وقسوة لا نظير لها ضد حزب البعث يحتوي اعترافاً بالخيانة وتجميل لها لأن »عين الحب كليلة عن النظر إلى معايب الحبيب«.
في خلاصات التقييم
يعود بنا تقييم الحزب الشيوعي اللبناني لقضية المقاومة العراقية إلى جملة من النتائج. والهدف من وراء تحديدها هو لفت النظر إلى أن تيارات وقوى وأحزاب حركة التحرر العربية بحاجة شديدة إلى إعادة تقييم تجاربها المشتركة السابقة على أسس آليات نقدية جديدة للوصول من خلالها إلى ترتيب جديد لعلاقات جديدة تقوم على أهداف مشتركة في مواجهة واحدة للمشاريع الاستعمارية.
أولاً: إن الآليات النقدية التي استخدمها تقرير الحزب الشيوعي اللبناني آليات قديمة ومُستهلَكَة. وقد أثبتت التجارب السابقة أن طالبي رأس حركة التحرر العربية يستفردون أطرافها واحداً واحداً، أي »حبة حبة«. و الحزب الشيوعي اللبناني يعي تماماً الدروس التي أفرزتها تجربة الحرب اللبنانية، والتي لم نجد في تقريره ما يبرهن لنا على أنه تعلَّم منها. ويعترف بحقيقة أساسية وهي تفسيخ تجربة الحركة الوطنية اللبنانية واحتواؤها، وفصلها عن أية حركة نضالية قومية.
كانت أهم ثغرات المراحل السابقة تكمن في التزاحم والتنافس حول قيادة حركة التحرر العربية فكانت النتيجة أن المشروع المعادي قد أزاح الجميع حتى عن حلبة التنافس فراح كل طرف يلعق جراحه. وهل أحد من أطراف تلك الحركة قد نجا من الجراح والإعاقة والتفسخ؟
ثانياً: من أهم المعالم والمظاهر السلبية في العلاقات السابقة هي أن كل حركة أو حزب أو تيار كان يعمل من أجل »اجتثاث الآخرين« وطمس إيجابياتهم وتضخيم سلبياتهم. وهذا ما لم يستطع تقرير الحزب الشيوعي اللبناني أن يعيه بل أوغل في »اجتثاث حزب البعث« بشكل ظالم من خريطة المقاومة العراقية، بل شوَّه مشاركته ومسخها بأسلوب بعيد عن الموضوعية. وهنا نكتفي بالإشارة إلى أن حزب البعث العربي الاشتراكي لو أوقف فعالياته في المقاومة العراقية، إن لم نقل أنه لو لم يخطط لها ويعد لها قبل الاحتلال بسنوات، فليتصور كل الناقمين –إيديولوجياً- عليه مدى سوء وضع العراق تحت الاحتلال.
ثالثاً: أن يبقى الحزب الشيوعي اللبناني أميناً لمقررات مؤتمره الثاني وأن يبتعد عن الردة عليها. وقد برهن عن ارتداده عنها بشكل واضح في تقريره الذي قمنا بنقده. ومن أهم معالم تلك الردة الوجوه التالية:
1-مساواته بين الاحتلال والنضال من أجل الديموقراطية. وقد ضحى بالنضال ضد الاحتلال من أجل النضال من أجل الديموقراطية. ونحن نرى أنه لن يربح في المعركتين معاً. ولكي لا نتسابق مع الزمن والعدو الإمبريالي أقدر منا وأسرع على استثمار عامل الزمن، نرى أن مضامين ما دعا إليه التقرير يدل –بما لا لبس فيه- أنه مضيعة للوقت وهدر له وهو يصب في غير مصلحة المقاومة. والدليل على ذلك: حزب البعث العربي الاشتراكي هو قائد المقاومة وصانعها واستمرارها مرهون بدوره. وإذا كنا استجابة لروحية دعوة التقرير وظاهرها علينا أن نعطي أولوية لمراجعة نقدية للمرحلة السابقة فإن الحزب الشيوعي اللبناني لن يجد من البعثيين العراقيين أحداً فجميعهم –باستثناء الذين ضعفوا- غائبين عن المسرح الفعلي: بعضهم في الأسر، وبعضهم تحت طائلة الملاحقة، والبعض سقطوا شهداء إما على أيدي قوات الاحتلال أو على أيدي عملائه، والأكثرية الكبرى عادت إلى ممارسة العمل السري كموجبات ضرورية للمقاومة المسلحة. فتأتي دعوة الحزب الشيوعي اللبناني مستحيلة وهادرة لوقت ثمين يمكن لحركة التحرر العربية أن تستفيد منها في دعم المقاومة العراقية لدرء الخطر عن جميع أطرافها.
2-إن الحزب الشيوعي اللبناني ملكي عراقي أكثر من الملك العراقي نفسه. فهو لو بذل القليل من الجهد في البحث والاستعلام لوجد أن كل الذين ذكر أنهم يشاركون في المقاومة -وعلى الرغم من أنه لم يُعطهم حقهم- تجاوزوا مرحلة المطلبية في هذه المرحلة وأجَّلوا كل مطلب سياسي إلى مرحلة ما بعد التحرير. وهنا نتمنى على الحزب الشيوعي اللبناني أن يجد لنا وثيقة واحدة صادرة عن أي طرف من تلك الأطراف، المشاركة في المقاومة، والتي كانت معارضة لنظام حزب البعث، تشير إلى مطلب واحد مما يلحُّ عليه الحزب الشيوعي اللبناني نفسه. لقد أعلنت كل فصائل المقاومة العراقية أن مهماتها الاستراتيجية في هذه المرحلة يتلخَّص بطرد الاحتلال من كل شبر في الأرض العراقية.
3-إن شعار »لا لاحتلال، لا للديموقراطية« لا يخدم على الإطلاق نضالات حركة التحرر العربية في العراق، لأنه في ظل الاحتلال لا يمكن النضال من أجل الديموقراطية إلاَّ ضمن أسوار ديموقراطية الاحتلال وأهدافه. فلن يؤدي رفعه إلى نتيجة عملية واحدة. وهذا ما يؤدي إلى هدر جزء كبير من الوقت المتاح للمناضلين من أجل مواجهة الاحتلال. فتكون حركة التحرر العربية قد خسرت الأرض وأسرتها تحت نير الاحتلال ولم تكسب الديموقراطية.
4-ليست المسألة الديموقراطية صكاً يتم التوقيع عليه فيؤدي إلى شفائنا من العلل الديكتاتورية المنتشرة في مناهجنا المعرفية وبنيتنا السياسية، على المستوى العام والمستوى الشخصي. فالديموقراطية مسيرة حياة طويلة، وتجربة معرفية واجتماعية وسياسية أطول.
فإذا كانت الديموقراطية وصفة جاهزة، لا ينقصها إلاَّ صك توقع عليه الأطراف والتيارات المتعددة. نسأل الحزب الشيوعي اللبناني إذا كان نظرياً يجهل الأسس الديموقراطية؟ ونسمح لأنفسنا أن نقول: إن الحزب يمتلك رؤية نظرية متقدمة للديموقراطية، و على الرغم من ذلك تتأسس خلافاته الداخلية حول المسألة الديموقراطية ذاتها.
5-إذا كنا قد سمحنا لأنفسنا بالإشارة إلى العنوان الخلافي العريض في داخل الحزب الشيوعي اللبناني نفسه، فنحن ليس من حقنا الديموقراطي –من خارج الحزب الشيوعي اللبناني – أن نحل مكان الشيوعيين في إعطائهم نصائح ووصفات ديموقراطية جاهزة، فأهل مكة أدرى بشعابها. وللسبب ذاته ليس من الديموقراطية في شيء أن يكون الحزب الشيوعي اللبناني حريصاً على الديموقراطية في داخل الحياة الداخلية لحزب البعث أكثر من البعثيين أنفسهم.
وإذا كانت التعدديات السياسية في العراق قد توافقت –مرحلياً- على تأجيل أي نضال مطلبي سياسي إلى ما بعد الاحتلال، فهل من الديموقراطية في شيء أن يكون الحزب الشيوعي اللبناني أكثر حرصاً من التنظيمات العراقية على المطلب الديموقراطي؟ أما إذا كانت لديه قوى لا ترى ما تراه الفصائل المشاركة في المقاومة فنتمنى عليه أن يسأل عن تلك القوى (وهم مجموعة من الأفراد، قيادات بدون قواعد) ليرى أنهم يتلهون بعيداً عن هم المقاومة وأهدافها. ومعظمهم من الذين يريدون أن يفصِّلوا جلد الدب قبل اصطياده.
5-نحن نشكر للحزب الشيوعي غيرته وحرصه في المطالبة بحقوق العراقيين وتنظيماتهم، وحرصه على حقوق البعثيين داخل حزبهم. كل هذا الحرص دفع به إلى الثأر لهؤلاء جميعاً بوصف حكم البعث بقيادة الرئيس صدام حسين بالديكتاتورية وراح بحرارة الصدق من أجل النضال الأممي ينوب عن الجميع في خوضه معركة ضد الديكتاتورية من أجلهم!!
لسنا بعيدين عن الواقع إذا قلنا بأن الحزب الشيوعي اللبناني قد استند إلى شهادات أطراف المعارضة العراقية –سابقاً- وعلى رأسهم الحزب الشيوعي العراقي، في تكليف نفسه عناء القتال ضد الديكتاتورية. ولسنا من الواهمين أن له قواعد أو منافذ لا على الساحة العراقية ولا في داخل حزب البعث – التنظيم العراقي لكي يستقي معلوماته. وبناءً عليه وبعد أن انكشف القناع الحقيقي عن وجه أكثر تيارات المعارضة العراقية وتأكدت أن مواقعها كانت غارقة في بؤر المخابرات الأجنبية، لم يغيِّر الحزب الشيوعي اللبناني قناعاته تجاه الوضع السابق في العراق بل أبقى على آليات نقده من دون أدنى تحوير أو تربيع أو تدوير.
لهذا بقي أسيراً لآلياته ومنهجيته وأغراضه السابقة. وقد يكون السبب عائداً إلى أنه وقع أسير علاقاته السابقة مع الحزب الشيوعي العراقي (النظامي) من دون أن يلتفت إلى آراء قطاع واسع من الشيوعيين العراقيين (الكادر) الذي عرف خطورة المنزلقات التي انحدرت إليها قيادته السابقة. ونحن هنا لا نتمنى للحزب الشيوعي اللبناني أن يكون قد ظلَّ أسيراً لعقد المراحل السابقة وتعقيداتها.
ولهذا، وحرصاً منا على صيانة وتدعيم علاقة وثيقة مع بعض أهم أحزاب حركة التحرر العربي، أن يُعطي الحزب الشيوعي اللبناني طحين العراق إلى عجان من حزب البعث/ تنظيم العراق من جهة، وإلى عجانين عراقيين من شتى التيارات الحزبية العراقية من جهة أخرى. وكي لا يتهمنا أحد بأننا نريد أن نحرم الحزب الشيوعي اللبناني من حقه القومي، رؤية ونضالاً، نؤكد على أننا حريصون على مثل هذا الدور بل ونطالبه به. لكن على أن لا يعمل على إلغاء أدوار أهل البيت، وإذا أراد أن ينحاز إلى بعضهم فهذا لا يعفيه من مسؤولية الاعتراف للآخرين –من أهل مكة- بحقهم. كما عليه أن يعترف بحق حزب البعث في الدفاع عن نفسه ضد حكايات وروايات واتهامات أثبتت الأيام بطلان أكثرها. وستكشف الأيام أكثر وأكثر من وجوه الحقيقة المظلومة على مذبح الحريصين على الديموقراطية التي يجيزونها لأنفسهم وعلى طريقتهم، وينكرونها على غيرهم لأنها لا تنطبق على مقاييسهم الخاصة. ولأنها لا تناسب خصوصية أجسادهم. فرحمة بالديموقراطية ابتعدوا بها عن مقاييس الأزياء الجاهزة ومكاييلها.
***

(41): تحذير من الدور الإيراني وتذكير به: رؤية وذكرى لعلَّها تنفع
عندما تواطأ النظام الإيراني مع الأميركيين في حربهم ضد أفغانستان طمعاً بحصة مذهبية شيعية أفغانية. وبعد أن اطمأنَّ الأميركيون لحسن النوايا الإيرانية، أغرقوهم بوعود في العراق، وهي أكثر جزاءً لهم من أي مكان آخر في الدنيا. ففي العراق ممر إلى الأمة العربية، وفيه تمارس ضغوطاً للتسلل إلى قلب الوطن العربي. وفي العراق يتوهمون أنهم يبنون قلاعاً مذهبية يستفيدون من سذاجة تياراتهم الدينية السياسية الداعمة لها. فيتبادل الطرفان حالات الاستقواء، ويتقاسمان المصالح والغنائم.
إذا كانت المصالح الإيرانية تتلخص بإيجاد متكئٍ مذهبي يحمي تواجدها الآمن في العتبات الشيعية المقدسة، ويحمي أوراق القوة الضاغطة على دول الجوار العربي، ويعطيها امتيازات للمساومة السياسية مع الدول الأجنبية ذات المصالح في العراق وغيره من أقطار الخليج العربي وإماراته، فإن مصالح الحركات السياسية الشيعية تصبح آمنة لنخبة محدودة العدد من المرجعيات الدينية والمرجعيات السياسية والاقتصادية الشيعية في العراق.
لم تكن من هموم الحركات السياسية الدينية، على الإطلاق، مصلحة الدين أو المذهب. بل هي قواعد لتمويه الأهداف الرئيسية لها، ومن أهمها حماية مصالح أولياء الأمور التي يستطيع الفقه الإسلامي أن يغطيها بألف رداء ورداء، مستندين إلى طيبة القواعد الواسعة من المنتمين إلى المذهب من جهة، وإلى وجوب طاعة ولي الأمر من جهة أخرى. ومن تحديد مصطلح ولي الأمر تبدأ رحلة الفتوى الدينية من ذكاء وشطارة في تسويق هذا أو ذاك ممن لهم أطماع في بناء مراكز للتأثير في نفوس المؤمنين الصادقين، كخطوة أساسية لفرض أنفسهم في الواجهات والمراكز الأكثر حساسية في قيادة القواعد الشعبية والاتكاء إليها في تثبيت مواقع نفوذها وتأثيرها وتحقيق مصالح النخب الاقتصادية والسياسية من المنتمين إلى المذهب.
تواطأ على العراق، نخبتان شيعيتان عراقيتان، بالتعاون والتنسيق والدعم المتبادل مع القيادة الإيرانية، وصوَّرتا للعراقي الطيب أن مصلحة المذهب لا تنفصل عن التعاون مع الاحتلال الأميركي. تلك الخطوة المدخل هي أساسية للخلاص من نظام علماني كافر عجز تحالفهما في السابق عن إسقاطه، فلا حرج من التعاون مع »الشيطان الأكبر« لإسقاطه. أما الخطوة الثانية، التي لا تخرج عن كونها وهماً وسذاجة، فهي الانقضاض على ذلك الشيطان، وتكسير قرونه، وطرده من العراق. وبمثل تلك الخطة الواهمة يسيطر النظام الإيراني بالتعاون وتبادل عوامل الاستقواء مع تلك النخب الشيعية العراقية على العراق.
لا يخرج هذا الوهم عن الخط العام للأوهام الإمبراطورية الفارسية في استعادة أمجاد كسرى، ولكن هذه المرة باسم الدفاع عن آل بيت الرسول.
لقد قامت الإدارة الأميركية، وهي بلا شك أكثر ذكاءً وخبثاً من الإدارة الإيرانية، بتلميع صورة الوعود للحكومة الإيرانية وخلطها بتركيبة طيبة من العسل الأميركي. ولما طاب المقام لجورج بوش، ولما وجد أن الذكاء الإيراني قد تجاوز الحد المسموح به، خاصة وأن التجار الإيرانيين قد هدموا كل البنى التحتية الصناعية والعسكرية العراقية، واستفادوا منها أيما استفادة. ولم يكن السماح باستفحال مرحلة النهب إلاَّ إعادة العراق إلى مرحلة ما قبل الصناعة ليفسح المجال للشركات الأميركية بأن تجد لها مساحة واسعة مما سمُّوه كذباً وخداعاً »إعادة إعمار العراق«.
فإذا كان منطق تقسيم الحصص في العراق مبدأ مسموح به إلاَّ أن للمبدأ حدوداً وقيودا. ومن أهم حدوده أن لا تتجاوز الحصة الإيرانية دائرة تفكيك البنى التحتية وبيعها. أي أن الحصة الإيرانية لا تتجاوز الجزاءات المادية، أما الجزاءات الدينية فلن تتجاوز أيضاً حدود تأسيس جدران عزل مذهبي بين الطوائف العراقية. وأما الجزاءات السياسية فلن تتجاوز سقف المشاركة في بناء نظام سياسي لا يخرج عن سيطرة الأوامر والنواهي الأميركية.
ولما استشعرت الإدارة الأميركية أن أطماع الإدارة الإيرانية قد تجاوزت الحد المسموح به. ولما استشعرت أن الإيرانيين سيفرضون أنفسهم قوة أساسية في معادلة بناء عراق ما تحت الاحتلال. لجأت الإدارة إلى اتباع وسائل وعوامل تقليم أظافر التأثير الإيراني كلما طالت أكثر من اللازم.
وحكاية المفاعل النووي الإيراني أكثر من معروفة. وحكاية التهديدات التي وجهتها الإدارة الأميركية، سواء مباشرة أو عبر أدواتها –وأكثرها لفتاً للانتباه تصريحات من أطلقوا عليه لقب وزير الدفاع العراقي- واضحة الأسباب والنتائج.
فإذا كانت الإدارة الأميركية قد وجَّهت رسائل الترهيب والترغيب إلى أهم حليف تاريخي لأميركا في المنطقة، ونعني به الحليف التركي، من أجل إعادته بين فترة وأخرى إلى بيت الطاعة. فكم يكون الأمر ملحاً بالنسبة للحليف الإيراني وهو تكتيكي جديد؟
لم يستطع الحليف التركي أن يتحمَّل وطأة المشروع الأميركي، الذي لا يرى أحداً خارج ذاته، وأن يسكت عن أكاذيبه وخداعه، بالنسبة للعراق. المشروع الأميركي الذي يعمل على لمَّ شمل حليفيه التركي والكردي في الموافقة على تطبيق مشروع إذا استجاب لمصلحة طرف منهما لا بُدَّ من أن يكون مناقضاً لمصلحة الطرف الآخر، أي يريد أن يزاوج المتناقضات.
لقد شعر الأتراك بتلك الخطورة وراحوا يعالجونها خارج بيت الطاعة الأميركي. أي أن الأتراك لم يستطيعوا أن يكونوا أذكياء أكثر من حليفهم الأميركي، فهل يستطيع النظام الإيراني أن يكون أكثر ذكاءً من الأتراك؟
شعر الأتراك بحجم المشكلة، فاستفاق الإيرانيون متأخرين على معرفتها. وربما استفاقوا على وقع دقات ناقوس الخطر التركي. ومعرفة الشيء متأخراً خير من الجهل به تماماً أو تجاهله إلى ما شاء الله.
عاملان خطران يتهددان كل الأنظمة المحيطة بالعراق، وهما:
-الفيدرالية العراقية التي تستجيب تماماً للحركة الانفصالية الكردية.
-أما الثاني فهي مظاهر التسلل الصهيوني إلى العراق عامة وشماله بشكل خاص.
ليست الفيديرالية التي، في أحسن الأحوال، غضَّت الإدارة الإيرانية النظر عنها لوهم منها أنها تؤمن لها موطئ قدم في جنوب العراق، في مصلحة أحد من دول الجوار. ففي أحسن الأحوال ستكون الفيدرالية أسلوباً جديداً في المخطط الأميركي لن يرى مصلحة أحد في تطبيقها إلاَّ لإضعاف عامل »المناعة الوطنية« في دول المنطقة قاطبة. بحيث ترى الإدارة الأميركية أن تصارع التعدديات والأطياف يكسبها نقاط قوة في الإمساك بالعراق كله. وإذا تصارعت التعدديات في داخل الحدود الوطنية والقومية، فلن يكون تصارعها إلاَّ مضبوطاً على إيقاع المصالح الأميركية، بحيث تلعب الإدارات السياسية للشركات الكبرى دور الحكم بينها.
إننا نؤكد أن تلك الحقيقة لم تكن ماثلة في العقل الإيراني الذي راح يروِّج لمستوى ذكائه واهماً أنه يتذاكى على أصحاب المشروع الأميركي، وهو –اليوم- يرى نفسه غارقاً في حبائل أوهامه. خاصة وأن الحليف الأميركي يعمل على إعادة تجميع أوراق القوة التي تسلل بعض حلفائه لالتقاطها من هنا أو هناك في الساحة العراقية.
إن الفيديرالية هي الحل الأمثل لحلفاء أميركا من الانفصاليين الأكراد. فهي الخطوة الأساسية التي يراهنون عليها في تأسيس كيان انفصالي عن العراق، وهي –في الوقت ذاته- تأسيس لنواة الدولة الكردية الكبرى التي ستحرِّض أكراد تركيا وإيران وسوريا للانضمام إليها. ولو تحقق الحلم الكردي، تحت رعاية أميركية وصهيونية، فسوف يصب –أيضاً- في مصلحة التحالف الأميركي الصهيوني. فالفيديرالية –بهذا المعنى- ليست سوى حاجة أميركية صهيونية.
لم ينفع سكوت الإدارة الإيرانية، إذا لم نقل تواطؤها، عن الموافقة على المشروع الفيديرالي الذي صُمِّم له علم جديد لم يرَ النور، شيئاً. بل أفاقت على خطورة هذا المشروع، الذي لم يدعها تكسب من خيراته شيئاً في جنوب العراق فحسب، بل سيشكل خسارة لها على البناء الداخلي الإيراني أيضاً.
أما العامل الثاني فهو يشكل خطورة أكثر على مصالح الدول المحيطة بالعراق. وخطورته لا تنفصل عن مدى انتشار الخلايا السرطانية الصهيونية، بسهولة ويسر، إلى مجاورة إيران وتركيا معاً.
لم تتوسَّع الدولة الصهيونية، منذ حرب العام 1967م، شبراً واحداً، وهي التي كانت تطمع بأن تصل إلى النيل والفرات. وإذا بها –من خلال احتلال العراق، بتآمر وسذاجة من بعض دول الجوار ومنهما تركيا وإيران، تصل بكل سهولة ويسر. فتسهم في تخريب العراق وتفتيته. وتتسلل بثياب أميركية إلى كل مفاصل الدولة العراقية. وتعقد بروتوكولات مع أكراد العراق لبناء دولة صهيونية – كردية في شماله.
فهل كان ما يحصل يشكل مفاجأة لإيران وتركيا؟
إنها السذاجة والله، ولا شيء غير السذاجة. إنها سذاجة إيرانية، وسذاجة تركية أيضاً. لقد وقع الإيرانيون بشر أعمالهم، وفي حبائل مكرهم عندما توهموا أنهم يتعاونون مع الأميركيين لإسقاط نظام حزب البعث، ونظام صدام حسين، ومن بعدها ينقلبون على الأميركيين…!!!
لقد رفع النظام الإيراني شعارات الوصول إلى القدس وتحريرها. وراحت أبواقه تهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور من المساس بالمسجد الأقصى. فإذا بالصهيونية –بعد أن دخلت بغداد بمساعدتهم- تطرق أبواب طهران. فلا يشعر المتواطئون إلاَّ والخازوق الصهيوني يطرق أبوابهم.
لقد أدرك الأتراك –قبل غيرهم- خطورة المشروع الأميركي – الصهيوني. وهم وإن أتوا متأخرين إلاَّ أنهم أخذوا ينذرون من تلك الخطورة. واستجاب الإيرانيون متأخرين لجرس الإنذار التركي. فما العمل؟
فلندع البكاء والنحيب والندب على ما فات. فقطار الفشل الأميركي يسير بسرعة أمام هجمات المقاومة العراقية. والمشروع أصبح أكثر وضوحاً أمام السُذَّج والمتواطئين. وأصبحت حصص الطامعين من حلفاء الإدارة الأميركية واضحة أيضاً. واستفاقوا جميعهم على الخطر يطرق أبوابهم. وبينهم والمقاومة العراقية، بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، تاريخ من العلاقات اللا سوية. والمشروع الأميركي لا يرى أحداً خارج ذاته. فكيف نرى الحل؟
على الرغم من أن البعض قد يتَّهمنا باللاواقعية، إلاَّ أننا لا بُدَّ من توجيه نداء الضمير إلى الجميع من دون استثناء. أنظمة وحركات. قائلين: لم تصل الأمور –حتى الآن- إلى حافة الطلاق على الرغم من كل الوقائع والمظاهر والأسباب والنتائج…
إن الاخطبوط الأميركي عالق في شرك المقاومة العراقية. وبعد أن تأكدَّت جميع الأطراف، عربية وغير عربية، أن مصالحها لا تخرج على الإطلاق عن مقاومة الأخطبوط. فلتتحوَّل كل الجهود إلى خنادق المقاومة العراقية، ففيها مصلحة للجميع. فبعد القضاء على الخطر، الذي إذا انتصر لن يبقي ولن يذر، يكون الظرف مناسباً أكثر لمراجعة تجارب الماضي بأعصاب ورؤية واضحة بعيداً عن تأثيرات العدو المشترك وتأثيراته، بألاعيبه وحبائله.
وإذا لم يبلغ الدرس مستوى من التأثير على كل الأطراف. وإذا كان البعض منها لم يثق –حتى الآن- بمستوى أداء المقاومة العراقية وتأثيرها. وإذا كان البعض الآخر يخاف الانخراط في مقاومة ضد الاحتلال لسبب أو لآخر، فالمطلوب على الأقل من الطرف الإيراني أن يجمِّد تعاونه الأمني مع قوات الاحتلال، وأن يأمر التنظيمات التابعة له، والتي هي تحت إدارته، أن يتركوا كل المجموعات النائمة –حتى الآن منتظرة حماية ظهرها- أن يقوموا بواجبهم تجاه وطنهم، والتي لن تكون نتائجها إلاَّ في مصلحة كل المعادين للمشروع الأميركي – الصهيوني الخبيث.
***

(42): احتلال النجف أنموذج مصغَّر لاحتلال العراق: أهداف ووسائل واحتمالات
سقطت النجف منذ أن تآمر نظام الملالي في إيران مع أصحاب المشروع الأميركي في العدوان على العراق واحتلاله. ومنذ أن بارك حزب الدعوة الإسلامي، والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وقوات »فيلق بدر«، ومحمد بحر العلوم، والحزب الإسلامي، وكل من لفَّ لفهم من الشيعة ممن دخلوا مجلس الحكم الانتقالي المدفون، والحكومة العراقية المؤقتة »الواقي الذكري للاحتلال«...
توهَّم الجميع أنهم، بالتنسيق والتآمر مع قوات الغزو الأميركي، سينالون جائزة الاستيلاء على العراق. لكن خاب ظنُّهم وأخذوا يستفيقون –شيئاً فشيئاً- على سراب الوعود. فخاب ظن الواعد والموعود إذ كان كل طرف منهم (وهم طرف واحد بالتآمر على العراق) سينقلب على حليفه عندما يستقر المقام للاحتلال.
إذا كان الطرفان قد تآمرا، فنحن نرى أن تآمرهما كان يصب –أولاً وأخيراً- في مصلحة المشروع الأميركي، الذي سوف لن يترك للآخرين إلاَّ الفتات وبقايا الوليمة. وإذا كنا نناشد فإننا لن نناشد إلاَّ المخدوعين ممن نحسب –نظرياً- أنه كان من واجب الوطنية أو الجوار عليهم أن يقفوا ضد احتلال العراق أو يقفوا مدافعين ضد الاغتصاب وبالتالي إذا لم ينصر أخاه فعلى الأقل أن يبارك عمله إذا قام بمقاومة الاحتلال.
فإذا ذُبحت الكرامة الوطنية لصالح أصحاب المصالح الضيقة، وهم ممن بنوا استراتيجيتهم على مقاييس تلك المصالح، واكتشفوا أنهم قد أخطأوا في وضع تلك الاستراتيجية وظهرت نتائج تكتيكاتهم الخاوية، لكان من واجبهم –وهم يكيلون مصالحهم على القاعدة المذهبية- أن ينتقلوا من استراتيجية إلى أخرى أكثر أماناً لمصلحة الوطن، أي الانتقال من أسر المصلحة المذهبية إلى رحاب الاستراتيجية الوطنية والأخلاقية. وأصبح هذا الانتقال أكثر من ضروري بعد معارك النجف الأولى في نيسان، والثانية التي تدور رحاها اليوم.
نرى في أفق المذهبيين أسى وحسرة وبقايا ندم لكننا لا نرى تغييراً استراتيجياً. وإذا كان الندم والحسرة والأسى بداية للانتقال إلى الضفة الاستراتيجية الأخرى فالمطلوب أن يتم الانتقال بسرعة في الوقت المناسب من أجل ليس منع الاحتلال من تدنيس العتبات المقدسة فحسب، وإنما من أجل منع الاستمرار في تدنيس عتبات الوطن وهي كلها مقدسة، فيرتاح جميع العراقيين، ويحسموا المعركة مرة واحدة، لأن حسمها –كما يتوهم الواهمون- بالتقسيط سيكون تكتيكاً خاسراً بلا شك. والسبب أن الاحتلال عجز عن كسب العراق بالجملة فهو يعمل على كسبه بالتقسيط ما أن ينهي استيلاءه على قطعة حتى ينتقل إلى الاستيلاء على الأخرى.
لقد صدر بيان عن الحرس الثوري في إيران يدعو فيه العراقيين إلى الاتحاد ضد الأميركيين. ولأن هذه اللهجة المفاجئة قد ارتبطت بالدعوة إلى الدفاع عن حالة جزئية في العراق فإننا لا نرى إلاَّ أنها دعوة لا تزال ترتبط بتكتيك قصير النفس. فهي دعوة تكتيكية تنتهي بالانتهاء من وضع حل لتلك الحالة.
أما المطلوب فهو موقف لا يقل عن المستوى الاستراتيجي، إذ ذاك على الحرس الثوري الإيراني أن يرفق دعوته بالاستمرار في وحدة مقاومة العراقيين حتى خروج آخر جندي للاحتلال. ويستكمل نداءه بدعوة كل الذين يدعمهم النظام الإيراني ممن تعاونوا -ولا يزالوا- مع الاحتلال ويشكلون له أكياس الرمل التي تمنع سقوط قتلى في صفوف قواته إلى الانتقال إلى صف المقاومين. أي رفض الصف للذين يؤمنون له كل حماية أمنية أو سياسية أو عسكرية ,وكل من يتواطأ معه على نهب خيرات العراق وثرواته.
فهل تجدي مثل هذه الدعوة في هذا الوقت بالذات؟
حول ذلك نقول: علينا أن لا نيأس من ظهور صحوة من الضمير. وعفا الله عما مضى.
قيل في القديم »بارك الله بأبيك الذي كان يجبرها بعد أن تنكسر«، ونقول »بارك الله بأبيك لأنه كان يمنعها قبل أن تنكسر«. فإلى البكَّائين على النجف نقول: لقد سقطت النجف لأنهم لم يدافعوا عن وطنهم. وهم لن يستطيعوا أن يجبِّروا قضية النجف لأنهم أسهموا في تمزيق العراق. أما الحل؟ فهو في أن تلتف كل السواعد حول مقاومة الاحتلال وعملائه في كل مكان في العراق. وفي أن يقتنع الجميع أن المحافظة على المقدسات لن يكون بأقل من طرد الاحتلال من كل بقعة من بقاع الأرض الوطنية العراقية.
في العشرين من آذار/ مارس من العام 2003م، أصدر حزب الدعوة الإسلامي في العراق بياناً يدعو فيه العراقيين إلى المشاركة في معركة تحرير العراق من الديكتاتورية!!!. لذا انخرط الحزب المذكور في المعركة التي دعا إليها وركب متن الدبابة الأميركية والبريطانية واستقبل المحتلين بالورود. ولم يتأخر المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، كما ابتهجت قوات »فيلق بدر«، في القيام بواجب المشاركة في ملاحقة المقاومين أينما كانوا!!!. وتعبيراً عن فرحتهم شارك ابراهيم الجعفري وعبد العزيز الحكيم ومحمد بحر العلوم في كل المؤسسات السياسية والأمنية التي أسسها الاحتلال، وكان كل منهم يمني النفس بالسيطرة على النجف من أجل ما يدَّعون أنه استعادة لحقوق الشيعة التي حرمهم منها نظام حزب البعث. ولكن أية حقوق استعادوا؟
لقد حذَّر كل المخلصين للأمة، والشيعة هم جزء من هذه الأمة، من أن الاحتلال لن يترك لأحد سلطة القرار، بل على الجميع أن يخضعوا لأوامر بول بريمر –ممثل قوات الاحتلال- وأن يخضعوا لمشيئة حقوق الاحتلال التي هي فوق كل الحقوق. وتوهَّم الجميع أن تحرير العراق هو تحرير بالفعل، فإذا بسذاجتهم تنحدر بهم إلى تصديق خداع جورج بوش وأكاذيبه. وهؤلاء هم استفاقوا على وقع تدمير العتبات المقدسة على يد القوات الأميركية، التي تستخدم ميليشياتهم دروعاً بشرية أمنية وسياسية وعسكرية من أجل تركيع من تمرَّد على إرادة »الباب العالي« الأميركي الذي يمثِّله اليوم »السفير نيغروبونتي«. ونيغروبونتي هذا القابع من دون تطبيل وتزمير –طالما استخدمهما سلفه بول بريمر- في المنطقة الخضراء يخطط ويأمر ويدفع بالدمى العراقيين ممن أسماهم الحكومة العراقية المؤقتة للقيام بمعركة تدمير نفسي منظَّم لنفوس النجفيين.
إن المقصود من معركة النجف، التي تشارك فيها كل ميليشيات الحركات الدينية السياسية ضد أبناء شعبهم ومذهبهم، هو أنموذج لصورة تمزيق النسيج الوطني العراقي أولاً، ولإرهاب كل تنظيمات المقاومة العراقية على طول الساحة العراقية وعرضها ثانياً.
وقف في المواجهة مقتدى الصدر كتيار راح –كما يصفه الكثيرون- يغرِّد خارج سرب الاحتلال. وسربه -كما يريده الاحتلال- من المتعاونين مع قواته العسكرية والأمنية تحت أسماء توحي بالشرعية كالشرطة العراقية والدفاع المدني من جهة، والضغط على المرجعيات الدينية الشيعية لمنعها من إصدار فتوى بالجهاد ضد قوات الاحتلال من جهة أخرى. فعمل على إبعاد الواقفين في الوسط من تلك المرجعيات لأن حتى وقوفهم في الوسط يؤذيه.
وفي محاولة معرفة نتائج الصراع الدائر بين الاحتلال وعملائه، وتيار مقتدى الصدر ومؤيديه من كل الأطياف المقاومة، نرى ما يلي:
أولاً: إن اقتحام النجف هو أنموذج مصغَّر لاحتلال العراق في بواكيره الأولى. إذ حصل فرز واضح بين من هو مع الاحتلال ومن هو ضده. فساحة النجف تشهد مثل ذلك الفرز الآن. ومتى حصل الفرز ستتحدد صورة المستقبل وهو أن الفريق الذي اختار المقاومة فقد اختارها بسبب الكثير من العوامل التي وجد أنها تشكِّل حوافز أساسية في اختياره. ومن أهمها: الشعور بالانتقاص من الكرامة الوطنية في ظل الاحتلال، وهو ما لم تأخذه قيادات الميليشيات الطائفية السياسية، ولا حتى عدد من المرجعيات بعين الحساب. ومنها أيضاً أن الاحتلال كان كاذباً ومخادعاً في شعاره الذي رفعه مدَّعياً بأنه جاء من أجل تحرير العراق والعراقيين. ومنها أنه جاء لكي يحوِّل حياة العراقيين إلى جنة مليئة بكل أنواع الخدمات، وما على العراقيين إلاَّ أن يهنأوا بالسعادة الدنيوية الأبدية.
ثانياً: على قاعدة الفرز النهائي بين تياريْ المؤيدين للاحتلال ومقاوميه، سوف لن يدع المقاومون ساحة النجف ساحة هادئة وهانئة بالأمن، وهي ستشكل –على غرار احتلال العراق عسكرياً وأمنياً- ساحة مصغَّرة للعراق الكبير في إحداث تشكيلات مقاومة منظَّمة ضد قوات الاحتلال وأدواته.
ثالثاً: أما حول التساؤل لماذا تأخَّرت تلك الظاهرة في الصعود؟ فنرى أنها كانت بسبب من أوهام تدور في خلد المتعاونين مع الاحتلال، أو من الواقفين في الوسط من أصحاب المرجعيات، لإعطاء فرصة للاحتلال وعملائه لتنفيذ وعودهم. والمؤسف أن أصحاب الفتوى أضفوا على مواقفهم الشرعية والحكمة.
رابعاً: لقد ضاق صدر أوسع الجماهير من انتظار الوعود، ولما تبيَّن أنها كاذبة لم يعد الصبر مفتاحاً للفرج، فراحت تلك الجماهير تؤيد كل عمل رافض للاحتلال ومقاوم ضده، وهذا ما تفسِّره اتساع رقعة تيار مقتدى الصدر، لا لسبب إلاَّ أنه أطلق شرارة المقاومة ضد الاحتلال وكل صنائعه.
إن التيار الواسع الصامت في المناطق، التي تسيطر عليها ميليشيات التيارات الدينية السياسية، قد اختار طريقه في مقاومة المحتل سواء سيطرت قوات الاحتلال وعملائه عسكرياً على النجف أو لم تسيطر. فهذا التيار قد تأكَّد من كذب وخداع الاحتلال وعملائه. وقيل قديماً: تستطيع أن تكذب مرتين ولكن لن تستطيع أن تكذب حتى النهاية.
بوركت مقتدى الصدر فأنت الوحيد –من بين كل القوى التي تحسب أنها تمثل النجف وكربلاء…- الذي يعبِّر عن توق الجماهير الواسعة إلى الدفاع عن كرامة العراق الوطنية، كل العراق. وأنت الوحيد الذي أمسك بخيط الحقيقة الأول من أجل أن تنخرط في منظومة قوى المقاومة العراقية. فاستمر في قيادتك لهذا التيار إذ لا حلَّ لحماية العتبات المقدسة إلاَّ من ضمن خطة تعمل من أجل حماية العراق كله، وتحرير كل شبر فيه من الغرب إلى الشرق ومن الشمال إلى الجنوب.

(43): المقاومة الوطنية في فلسطين والعراق: وحدة الاستراتيجية ووحدة النتائج
تسير المقاومة في كل من فلسطين والعراق على خط استراتيجي واحد من أجل هدف واحد ومواجهة عدو واحد. فكل منهما يواجه عدواً واحداً تحددت معالمه منذ اتفاقية سايكس بيكو. حينذاك كانت مهمة الاستعمار الأكثر إلحاحاً في المنطقة العربية هو زرع حاجز بشري في فلسطين بين شطريْ الوطن العربي الإفريقي والآسيوي، على أن يكون استيطانياً، ومدعوماً عسكرياً وأمنياً وسياسياً من منظومة الدول الاستعمارية. فيحمي حالة التقسيم التي حددتها اتفاقية سايكس بيكو، فيحول دون وحدة أقطار الأمة العربية. لهذا السبب شكَّلت القضية الفلسطينية قضية العرب المركزية. وتميَّزت ثقافة الأجيال السابقة بعمق رؤيتها لتلك القضية. فأصبحت سدى الثقافة القومية ولحمتها فلسطينية النسيج واللون والهوى. وكانت مقاييس التقدمية والرجعية تُكالان على مقاييس القرب من القضية الفلسطينية أو البعد عنها. فبها تُكال صدقية الموقف من الاستعمار وصدقية الموقف من القضية القومية والوحدة القومية.
ولأن بدء المؤامرة مرَّ عبر اغتصاب فلسطين، ولا يمكنها أن تكتمل إلاَّ باجتثاث كل الحركات التي تنادي بتحريرها، استمرت فصولها بالترهيب والترغيب، فنالت النجاح في معظم تراكيب النظام العربي الرسمي، لكنها عجزت عن النيل من مواقف الحركات والأحزاب الثورية، لذا ظلت المخرز الذي يؤذي المخطط الإمبريالي الصهيوني، ويحول دون إتمامه واكتماله.
كان الأشد تأثيراً بين تلك الحركات والأحزاب تلك التي تدعو إلى الاستعاضة عن الحروب النظامية النظامية بأسلوب الكفاح الشعبي المسلح. ولأن المقاومة الفلسطينية كانت في طليعة تلك الحركات توجَّهت كل الجهود من أجل إنهائها عبر سياق تآمري طويل ومرير من كل الساحات التي نمت فيها وشقَّت طريقها النضالي ضد العدو الصهيوني. كما عملت المؤامرة على اجتثاث كل الحركات والأحزاب التي تساندها أو تشاركها طريق الكفاح الشعبي المسلَّح. فطالت المؤامرة القطر العراقي من ضمن مهماتها من أجل عاملين لعلاقتهما بهذا الجانب، وهما: رفضه لكل الحلول التسووية أولاً، ودعمه المطلق لكل الحركات التي تمارس الكفاح الشعبي المسلح ثانياً.
بالأمس أعرب جورج بوش عن أن أهم أسباب احتلال العراق هو أنه كان يقدم المساعدة لعائلات الاستشهاديين الذين يصنفهم المذكور إرهابيين. فمن أجل حماية الأمن الأميركي –طبعاً المرتبط بالأمن الصهيوني كاستراتيجية أميركية معلنة- قال بوش: كان يجب القضاء على النظام في العراق ليصبح العالم أكثر أمناً.
في خطاب لرئيس أكبر دولة في العالم وأكثرها قوة لا يستأثر باهتمامه إلاَّ الفرد الذي يفجِّر نفسه دفاعاً عن وطنه، والحركة المنظمة التي تدعمه،لنعلم كم هو أسلوب المقاومة الشعبية مؤثر ومخيف. ولهذا السبب وحده نركِّز على مسألة المقاومة.
بداية لا بُدَّ من أن ندعو إلى تجديد آليات النقد في الخطاب السياسي العربي لكي يرفق نقد الأنظمة، وهو الجزء السلبي من الخطاب النقدي، مع الجزء الإيجابي منه وهو الدعوة والتبشير بصلاحية حرب التحرير الشعبية كأسلوب لمواجهة الاستعمار بشتى أشكاله وألوانه.
تشكل حرب التحرير الشعبية البديل للحروب النظامية وهي التي يستحيل على العرب تأمين موجباتها. ويأتي على رأس استحالة تأمينها هو أن الحصول عليها خاضع لقرار دول الاستعمار لأنها الوحيدة التي تنتجها من جانب، وتحول دون أن ينتجها العرب ثانياً. ولأن الهدف من امتلاكها هو محاربة الاستعمار فمن الغباء أن يمكننا من الحصول عليها أو يسمح لنا بإنتاجها.
استساغ الاستعمار واقع غياب التوازن بالقوى فراح يعربد في السماء والبر والبحر، ووجد أن أحلامه لن تقف دونها حدود. خاصة وأن الأنظمة العربية الرسمية استسلمت وانبطحت لمنطق اللاتوازن في القوى وراحت تدعو إلى الواقعية في نسج علاقة مع الاستعمار تسلِّم فيها سيادتها وثرواتها له، بحيث يدفع أولياء الأمور فيها من ثروة أوطانهم ما يحدده الاستعمار وهم صاغرون.
أصبحت حرب التحرير الشعبية القنبلة النووية للشعوب التي لا تستطيع أن تمنع الجيوش الاستعمارية من احتلال أراضيها. وفي تجربة الأمة المخزون الكبير حول هذا الشأن، وقد أثبت فعاليته وجدواه، وأعطى نتائج باهرة وواضحة، وفيها أثخن المقاومون العرب جسد الاستعمار والصهيونية بالجراح، وكبَّلوا آلته العسكرية، فأمَّنت كلمة الرفض، وحجر الفتى، والبندقية العادية، والعبوة الناسفة التي يزرعها أشباح، التوازن مع الآلة المعقَّدة وأبطلت مفاعيلها.
بمثل تلك النتائج لم يعد الردح بالأنظمة ودعوتها إلى تكديس السلاح النظامي ذو جدوى، بل الدعوة إلى تأهيل المواطن العادي وتعبئته إيديولوجياً بفكر المقاومة الشعبية، وتدريبه على أبسط وسائل القتال هو الأجدى، والأكثر فعالية من كل آليات النقد السابق. فهل لنا من رجاء أن يسود خطاب المقاومة، ويصبح الخطاب الأساس في آليات تيارات حركة التحرر العربية؟
إذا كانت بداية المؤامرة قد انطلقت من فلسطين فإن اكتمال نجاحها ينتهي في العراق، فتحوَّل العراق اليوم إلى قبلة لكل المراهنين على إسقاط المشروع الأميركي الصهيوني. ولهذا السبب كان الترابط وثيقاً بين المقاومتين. وإذا كانت المقاومة في فلسطين قد وصلت إلى حدود من الثبات يصعب وقفه، وتحوَّلت ثقافتها إلى ثابت في فكر الحركة العربية الثورية، فإننا نتساءل عن موقع المقاومة العراقية في رحلة النضال القومي الطويل ضد الاستعمار.
لأن المعلومات حول القضية العراقية، التي تناولتها شتى الوسائل الإعلامية والثقافية، كانت في غاية من السعة، التي تسمح لنا بوصفها بأنها كانت كالسيول التي تساقطت على ذاكرة المتابع، وبدلاً من توضيح الصورة الحقيقية أمامه، فهي قد ضلَّلته ووضعته أمام حيرة وارتباك. وبكثرة الأخبار تضاءل حجم التحليل الموضوعي أمام الشريحة الكبرى من الرأي العام، وبشكل خاص منه الرأي العام العربي والإسلامي.
لمثل هذا السبب كان اختياري عدداً من العناوين الكبرى التي سأتناول بعض جوانبها بالتحليل المستند إلى الوقائع والوثائق والمعلومات وإعادة ربطها من جديد لتقريب الصورة الحقيقية عن المقاومة العراقية على أساس العناوين التالية:
1-الأسباب الحقيقية لاحتلال العراق:
لقد ضلَّلت الأهداف المعلنة لاحتلال العراق الرأي العام العربي بشكل خاص، فانحازت –ويا للأسف- أكثر الحركات الحزبية والأوساط المثقفة العربية إلى جانب تصديق تلك الذرائع وغزل المواقف على منوالها. وغلَّفت شعاراتها بغطاء هشٍّ من الكره للديكتاتورية ومحبة الديموقراطية. فجاءت تلك الشعارات بغير محلها لأن فيها ما يغيِّب حقيقة الأهداف الأميركية، أو على الأقل يقلِّل من حجم جريمة الاحتلال في نظر المتابع الأمي أو صاحب الإيديولوجيا المتعصبة.
كان كشف حقيقة المعارضة العراقية دليلاً على حجم المبالغة في الاتهامات التي سيقت ضده. واستهلكت جهدنا من دون طائل مسألةٌ يغيب فيها الطرف الذي نريد أن نحاكمه فبعضه موجود في خندق المقاومة وبعضه الآخر في الأسر. فيأتي هدف محاكمته –الآن بينما الاحتلال ينوء بثقله على أرضنا- في موقع من يريد أن يريح الاحتلال. فلنصرف الجهد إلى طرد الاحتلال أولاً كما فعلت التيارات العراقية المعارضة الوطنية. تلك التيارات وجدت أن توزيع الجهد لن يخدم الديموقراطية ولن يضر بالاحتلال. ورفعت شعارات أساسية تستند إلى أنه لا ديموقراطية في الوقت الذي يمسك به الاحتلال بقرار الجميع.
إن أساسيات ثوابت الاحتلال تصبح أكثر وضوحاً إذا انكشف الغطاء عن الأطراف المتحالفة لتنفيذ مشروع الإدارة الأميركية الحالية. وتلك الأطراف هي:
-اليمين الأميركي المتطرف أي نخبة النخبة في الطبقة الرأسمالية الأميركية وهي التي تأسست إيديولوجيتها على العداء الطبقي والعداء الإيديولوجي ضد كل الشعوب. فتلك الإيديولوجيا تؤمن بمصلحة اللون الأبيض عموماً ونخبة النخبة فيه على وجه الخصوص.
-الصهيونية العالمية وهي الجامع المشترك بين كل الإدارات الأميركية.
-اليمين المسيحي المتطرف، أي المتصهين، وهو اليمين الذي ينتظر ظهور المسيح المخلَّص ليحسم الصراع بين الخير والشر في معركة وهمية تقع فصولها في هرمجدون كما تبشر بها التوراة.
-تحالف المافيات الاقتصادية العالمية التي تتبنى إيديولوجيا تحصيل الأرباح وتراكمها من خلال الحروب. لذا فهي تعمل من أجل التخطيط لها وتأمين مستلزماتها السياسية والعسكرية. وهي دائماً تكون الرابحة أياً تكن نتائج الحروب التي تخطط لها.
ليس في الأهداف المعلنة لتلك المنظومة الخبيثة ما يدل على أن العدوان على العراق، كمثل نشر الديموقراطية ومحاربة الإرهاب، هي أهداف حقيقية.
من خلال معرفة خطورة الأهداف التي حددتها أطراف التحالف المساهمة في احتلال العراق ما يدفعنا إلى دعوة من يرفعون شعارات غير شعار مقاومة الاحتلال أن يسهموا في طرد الاحتلال أولاً، ويبقى صراع التناقضات الداخلية أكثر يسراً وأكثر جدوى، وهو خاضع لعملية نقد شاملة غير انتقائية بين منقود بمبالغة شديدة أو مسكوت عنه بانتهازية مقيتة. فالحوار والنضال من أجل التغيير الديموقراطي يستند إلى حالة تغيير اجتماعي وسياسي وثقافي متواصل وطويل يبدأ من تثقيف القاعدة الشعبية، ويمر بنقد التجارب الحزبية، وينتهي بنقد الأنظمة الرسمية والسلطات السياسية.
2-تاريخية المقاومة العراقية:
لم تنطلق المقاومة العراقية بقدرة عصا سحرية. ولم تكن طفرة مقطوعة الجذور عن أسباب وعوامل أسهمت في تكوينها. بل مرَّت عبر مخاض طويل وإعداد مترافق معه. وتعود جذورها إلى أنها ثابت استراتيجي في فكر حزب البعث العربي الاشتراكي. وثابت نضالي وسم تاريخ الحزب بسماته منذ العام 1948م حتى اليوم. أما الإعداد لها فيعود إلى اللحظة التي تأكدت فيه قيادة الحزب والثورة في العراق من أن العدوان والاحتلال واقعان لا محالة. وتعيدها بعض الوثائق إلى العام 1991م.
منذ تلك اللحظة أولت القيادة إعداد المقاومة اللوجستي أهمية قصوى من حيث تأمين إمكانياتها البشرية والتسليحية بسرية وجهود متواصلة. ووُضعت تلك الخطة كمرحلة مكملة لمفصل الحرب النظامية النظامية. وهي في المفهوم الاستراتيجي المرحلة الأساسية التي بها وحدها تستطيع قيادة الحزب –بعد أن رفضت الإملاءات الأميركية كلها- أن تؤمن التوازن في القوى مع العدوان الأميركي. وتأمين التوازن يتم على قاعدة منعه من تثبيت احتلاله أولاً ومن تحقيق أهدافه الحقيقية ثانياً.
هذا ما حصل على أرض المعركة أيها السادة. فمنذ أن استنفذت المواجهة النظامية دورها المرسوم، وبعد أن أصبحت تشكل عامل استنزاف غير محسوب للطاقات البشرية العراقية حينما استخدمت القوات الغازية أسلحة فتاكة، حصل الانتقال الطبيعي إلى المرحلة الأساسية منذ العاشر من نيسان من العام 2003م.
3-تأثيرات المقاومة العراقية:
سجَّلت المقاومة العراقية نقلة نوعية لم تعرف سرعتها كل الحركات والثورات الشعبية في العالم. فبعد أقل من شهرين –ويتأكد هذا من خلال العودة إلى الوثائق ذات العلاقة- أخذت ثوابت الاحتلال تهتز بفعل ضربات المقاومة. تلك الثوابت تتعلق بمنع القوات العسكرية من الاستقرار لأن فيه حمايةً للخطوات السياسية والاقتصادية اللاحقة، وبدون تأمينه يمتنع على الاحتلال أن يحرز النصر. أما الثابت الثاني، وهو الهدف الأساسي من الاحتلال فهو منعه من الاستفادة من ثروات العراق ومن أهمها الثروة النفطية.
كانت استراتيجية المقاومة واضحة منذ البيانات الأولى التي صدرت عن قيادة المقاومة والتحرير ويعود أولها إلى تاريخ 22/ 4/ 2003م، وبيانات القيادة القطرية لحزب البعث في العراق ولرسائل الرئيس صدام حسين. فبهذا تكون ثوابت المقاومة الاستراتيجية قد دفعت بثوابت المشروع الأميركي إلى الانكفاء مما نتج عنه تداعيات على شتى الصُعُد:
أ-انتقلت تأثيرات المقاومة العراقية إلى الداخل الأميركي على مستوى الرأي العام من جهة وإلى كواليس الإدارة الأميركية من جهة أخرى، وتصاعدت حدتها بالتوازي مع استمرار أداء المقاومة الرائع. وتتعمَّق تداعياتها أكثر فأكثر إلى المستوى الذي أخذت تتسرَّب فيها مشاريع عروض للخروج من العراق. ولكن التفتيش حاصل على قاعدة كيف يتم الخروج من دون إعلان لهزيمة الجيش الأميركي.
ب-إعادة الحيوية إلى الشارع العراقي، وهو ما أخذ يستنهض كل الحركات والقوى الوطنية العراقية الشريفة التي انحازت بالكامل إلى جانب المقاومة العراقية. وقد ضمَّت تعدديات حزبية وشعبية ودينية، وهي لا تزال تتوسَّع كلما تقدَّم الوقت والزمن.
ج-إعادة الحيوية إلى الشارع العالمي. وهنا لا بُدَّ لنا من الإشارة إلى أن الشارع العالمي يعرف خطورة المشروع الأميركي أكثر بكثير من الشارع العربي، جماهير ونخباً، ولهذا التقط الشارع العالمي إيجابيات وتأثير المقاومة العراقية على الاحتلال الأميركي، وكان أكثر حركة من الشارعين القومي العربي والإسلامي.
د-إعادة الحيوية إلى منظومة الدول الممانعة للحرب على قاعدة مكافحة مشروع حكم العالم بأوحدية أميركية. وهذا النادي يراهن على نتائج انتصارات المقاومة العراقية –حتى ولو كانت بحدود- من أجل إعادة صياغة العلاقات الدولية على قواعد جديدة تضمن فيه دول العالم توازناً بالقوى.
4-خصائص المقاومة العراقية
إن انطلاقنا من النتائج التي حققتها المقاومة العراقية يدفعنا إلى التذكير بخصائصها التالية:
أ-تكامل السلطوي مع الثوري في تجربة حزب البعث: على العكس مما أسرت فيه العديد من الأصوات نفسها بأن النظام العراقي هو من عجين النظام العربي الرسمي، أثبتت تجربة المقاومة العراقية أن الأولوية في فكر الحزب حتى لو كان في السلطة هي للثورة، وما الوصول إلى السلطة إلاَّ من أجل الإفادة من إمكانياتها لصالح الثورة.
سوف يكشف التاريخ حقيقة هذا عندما تشعر القوى المشككة أن عليها -بعين الموضوعية ما رفضته بعين الهوى- أن تعرف حجم الإنجازات القومية في خلال خمسة وثلاثين عاماً من تجربة دؤؤبة كانت محاطة بكثير من المؤامرات والأفخاخ.
إن الدليل الأبرز على معادلة الاستفادة من إمكانيات السلطة ووضعها في مصلحة الثورة هو المقاومة العراقية. فلو كانت قيادة الحزب تولي اهتماماً للسلطة لكان القرار ملك يديها، ولم يكن هناك ما يمنعها من محاباة المشروع الأميركي. ولكن الذي منعها هو إيمانها المطلق بمبدأ مقاومة الاستعمار والصهيونية. ولهذا أعدَّت لمقاومته إعداداً رائعاً، وفضَّلت النزول إلى خنادق النضال على قاعدة مواجهة الاستعمار بأسلوب الكفاح الشعبي على البقاء على كراسي السلطة.
فالإعداد لحرب التحرير الشعبية بديلاً للحرب النظامية هو من ابتكارات نظام عربي استفاد من وجوده على رأس السلطة السياسية للإعداد للحرب الشعبية. وقد لعبت التعبئة بإيديولوجيا المقاومة دوراً مؤثراً في تحفيز الشعب العراقي للالتفاف حول المقاومة بسرعة قياسية. لذا لم يتصرف الحزب في العراق كنظام رسمي بل تصرَّف كحزب للثورة الدائمة، فوضع إمكانيات السلطة في خدمة الإعداد للثورة.
ب-الأنموذج العراقي هو حالة بناء جديدة تقترب من البناء المؤسسي وتبتعد عن البناء الفردي. وليس من دليل أوضح من أن شتى القيادات التي كانت متهومة بالفردية قد وقعت في الأسر. بينما المقاومة استمرت، وهي بدلاً من أن تتراجع فقد تصاعدت. وهذا دليل على بنيان مؤسسي لا تهتز أركانه إذا ما غابت قياداته لأنه قادر على إنتاج البديل عنها.
ج-حالة التراكم النضالي السريعة كان فرض التراجع على الاحتلال بشهور قليلة نتيجة منطقية وبرهاناً عملياً على صحة الإعداد المسبق للمقاومة. فحالة التراكم النضالي بمثل تلك السرعة على مخططات الاحتلال لم تعرفها التجارب الأخرى في العالم. وهناك مقارنات عديدة توصلت إليها بعض الأبحاث ذات العلاقة.
د-المنهج السياسي الاستراتيجي للمقاومة العراقية:على العكس مما تشيعه بعض القوى والحركات الصديقة للمقاومة أو تلك التي تريد بها شراً، فقد وضعت قيادة المقاومة منذ التاسع من أيلول من العام 2003م، منهجاً سياسياً استراتيجياً من أهم ثوابته:
-الأولوية لقتال مستمر ضد الاحتلال وعملائه، حتى خروج آخر جندي من أرض العراق.
-وضع قوات الاحتلال وعملائها في كفة واحدة، سواء من الذين كانوا من المقيمين أو من القادمين على دباباتها. بمن فيهم الدول والمؤسسات الدولية التي تساعد الاحتلال على الاستقرار على أرض العراق.
-منع الاحتلال من تحقيق أهدافه بتضييق الخناق عليه من خلال مفصلين رئيسين: إيقاع أكثر ما يمكن من القتلى في صفوف جنوده، ومنعه من استغلال ثروات العراق ومن أهمها الثروة النفطية. أي ضربه في أكثر الجوانب حساسية وتأثيراً عند المواطن الأميركي، إي إغراقه في مستنقع يدفع فيه الدم والمال.
5-الاتجاهات الجبهوية في عمل المقاومة العراقية وواقعها الراهن:
منذ البيان الأول لقيادة المقاومة والتحرير، في 22 نيسان من العام 2003م، ظهرت الاتجاهات الجبهوية واضحة في نداءات القيادة، وخاصة في المنهج السياسي الاستراتيجي الذي أعلنته في 9/ 9/ 2003م. أما الواقع الجبهوي كما هو حاصل اليوم فهو حالة الفرز الواضحة بين حدين: الاحتلال وعملاؤه، والمقاومة وأنصارها. وليس بينهما خط رمادي. فإما المقاومة وإما الاحتلال. أما الانتظار في الوسط فهو حيلة المترددين العاجزين عن رؤية استراتيجية لحقيقة الصراع بين الاحتلال وقوى التحرر القومي والوطني.
ولهذا يقوم العمل الجبهوي على ساحة المقاومة في العراق بجهود أساسية من البعثيين ومشاركة ملحوظة من تيارات قومية وشيوعية وإسلامية ورؤساء عشائر، ومن عموم أبناء الشعب العراقي من شتى الأديان والعرقيات والمناطق.
ومن أهم مظاهر الحالة الجبهوية هي تلك التي أُعلِن عنها في بيان الأول من نيسان من العام 2004م، وفيه كُشف النقاب عن وجود مجلس تنسيق أعلى للمقاومة منذ الأشهر الأولى للاحتلال. ويضم المجلس شتى أطياف التنظيمات الحزبية والعسكرية التي أعدَّتها قيادة الحزب والسلطة في العراق مع تنظيمات قومية وشيوعية وإسلامية حسمت خياراتها إلى جانب الدفاع عن الوطن وتحريره قبل أية مهمة أخرى. كما أن كل المعلومات تؤكد أن الحالة الجبهوية تنمو وتتزايد وتنتشر في شتى أنحاء العراق.
6-إحتمالات المستقبل
في صراع الثوابت بين الاحتلال والمقاومة سيكون النصر لمن يفرض على الآخر التراجع عن ثوابته. ولأن صورة الصراع بين الثوابت –ثوابت المقاومة وثوابت الاحتلال- أصبحت بغاية من الوضوح، أصبحت نتائج الصراع واضحة أيضاً.
لم يستطع الاحتلال أن ينجز عامل الأمن لقواته، وإدامة المنع هو بيد المقاومة، ويراهن الاحتلال في هذه المرحلة على احتواء المقاومة أو تصفيتها بأقذع أنواع القسوة والإرهاب، فلو نجح في تحقيق هذا الهدف فلن نستطيع الادعاء بأن الاحتلال سيكون إلى زوال.
ولأن لتيارات حركة التحرر العربية كافة، ولتيارات حركة التحرر العالمية، مصلحة كبرى في هزيمة الاحتلال، لأصبح علينا أن نعرف أنه من الواجب أن لا تُترَك المقاومة العراقية وحيدة مستفردة محاصرة إعلامياً ومادياً، فعلى الجميع أن يبادر إلى ابتكار الوسائل التي تؤمن دعمها وإسنادها، حتى لا نصل إلى اليوم الذي نبكي فيه بدموع النساء مقاومة لم نستطع أن نحافظ عليها بجأش الرجال.
***


(44): الخوف من فتنة طائفية في العراق
قشرة ثلج تغطي رغبة أميركية في البقاء للنهب والسرقة
22/ 8/ 2004
مرة أخرى، من مئات المرات، يعلن مسئولو إدارة جورج دبليو، أن خروجهم الآن من العراق سيؤدي إلى حرب أهلية. لذلك سيؤجلون الخروج إلى أن تحقق مهمتهم (الإنسانية!!) أهدافها.
ويساندهم في ذلك عدد من الدول من الذين يظهرون أنهم حريصون على مصلحة الشعب العراقي، من الذين يريدون استمرار احتلال العراق، والدافع إنساني، كما يريدون أن يوحوا إلى شعوبهم، وكما يريدون أن يغلفوا أهدافهم الحقيقية في مساعدة الأميركيين على نهب العراق وسرقة ثرواته، لعلهم يحصلون على حصة من السرقة والنهب.
كأن قلب الطرفين ينفطر إنسانية على العراق وشعبه، فراح بعضهم يساند البعض الآخر في خداع الرأي العام العالمي في أكذوبة جديدة مغطاة بقشور الثلج الأميركية التي ظاهرها الإنسانية، لكنها تغطي القاذورات الأميركية في التسلط والهيمنة وسرقة ثروات الشعوب.
شعرت الإدارة الأميركية بعمق مأزقها في العراق، وبشكل خاص بعد انتفاضة مقتدى الصدر، مترافقة مع بطولات الفلوجة وتضحياتها، وانتشار رقعة القتال في كل مدن العراق وقراه، بما لا يدع للقوات الغازية فرصة تستفرد فيها بالمدن والمناطق واحدة واحدة.
من شدة عمق المأزق، تعالت أصوات الاستغاثة الصادرة عن الغول الأميركي الأكبر (ديك تشيني، نائب جورج دبليو)، فساح في الشرق الأقصى طالباً العون والغوث.
واشتدَّ الخناق على الإدارة في الشارع الأميركي نفسه. وتعالت أصوات الرفض الأميركية ضد بقاء الجنود الأميركيين في العراق، وراحت تطالب بسحبهم.
تعالى صراخ جوقة المساندين لإدارة جورج بوش، من المستفيدين، والمنتفعين، والسماسرة، وأعضاء المافيات الدولية، طالبة من جورج دبليو البقاء في العراق رحمة بالعراقيين!! الذين ستتآكلهم نيران الحرب الأهلية من فتن طائفية وعرقية.
وتعالى صراخ المرشح الديموقراطي (جون دين) طالباً من إدارة بوش، هذا بعد أن ألبسها كل ألقاب الكذب والخداع والغرور، أن تفتش عن حل للخروج من العراق، لكن على أساس أن لا تترك البلد عرضة لحرب أهلية.
حسناً فعل المرشح الديموقراطي بدعوة إدارة بوش للخروج من العراق، ولكن نشكر له مخاوفه ونطمئنه قائلين: أخرجوا أولاً، أما الشعب العراقي فكفيل بأن يرتَّب شؤون بيته بنفسه. فهو ليس قاصراً، ولا يعوزه الحكماء والمخلصين، فقد أثبتت أيام الانتفاضة العارمة صدق التقارب بين شتى أطياف العراق الدينية والمذهبية والعرقية.
لا خوف على العراق إلاَّ من وجود الاحتلال وعملائه وإفرازاته. فليخرج الاحتلال وليخرج معه كل الذين قدموا إلى العراق على دباباته، فهم العبء الوحيد وليس غير ذلك.


(45): إلى الدكتور فؤاد حول قضايا فكرية
22/ 8/ 2004
في خلال فترة الاستراحة التي حصلت عليها بعد إنجاز الكتاب الثاني عن المقاومة العراقية قمت بعدة قراءات فكرية لعدد من المقالات والدراسات التي كُتِبَت عن فكر الأستاذ ميشيل عفلق، وهي:
1-العمل المستقبلي والفكر النهضوي لدى الأستاذ ميشيل عفلق: د. فؤاد الحاج.
2-العفلقية: نظرية الثورة العربية المستمرة: د. محمد أحمد الزعبي.
3-قراءة لإشكالية الانقلاب في فكر ميشيل عفلق: د. عز الدين ذياب.
4-مقاربة من هاجس الحرية في فكر ميشيل عفلق: د. عز الدين ذياب.
إن ملاحظاتي الأولى، بالجملة:
1-تبارك قيام ورشة بحث فكري حول الأصول الفكرية لحزب البعث. لتجديد وتنشيط الذهن البعثي بشكل خاص، لأنني ألاحظ أن الميدانيات السياسية قد استولت على العقول والأذهان، فأصبحت السياسة تحتل المكان الأول بالاهتمام. وما هو أنا خائف منه، من دون تنشيط فكري ثقافي أن يتوه البعثي ويبقى أسيراً للموقف السياسي الخاص من دون تحصينه برؤية فكرية استراتيجية من التوهان والتخبط.
2-كانت لقاءات بيت الحكمة، بأمانة الأستاذ حميد، بدايات جديَّة للتأسيس لورشة بحث فكري نقدية. ومن أهم أهدافها العودة إلى الأصول الفكرية البعثية بالعرض والنقد للمتابعة على قاعدة إغناء الأصول برؤية معاصرة. وأنا لم أفقد الأمل من متابعتها في مستقبل عراق ما بعد التحرير.
3-لديَّ عشرات الأبحاث والكتب المنشورة التي تؤسس لمرحلة الإغناء في جوانب والتجديد في جوانب أخرى. وكانت تشكل –قبل احتلال العراق- الهاجس الأول في تفكيري وعملي. وقد صدرت الكتب التالية:
-الردة في الإسلام.
-في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والإسلام.
-نحو طاولة حوار بين المشروعين القومي والإسلامي.
-الماركسية بين الأمة والأممية: نحو طاولة حوار بين المشروعين القومي والأممي.
-مفاهيم إسلامية بمنظار قومي معاصر.
وهناك بحث موسَّع بعنوان: الإسلام التاريخ والإيديولوجيا في فكر حزب البعث العربي الاشتراكي ويتناول دراسة البعد الإيماني في المصادر الثلاثة: فكر الأستاذ ميشيل، وفكر الرئيس صدام حسين، ومقررات المؤتمرات القومية للحزب. وهذا الكتاب جاهز، وقد رفعت نسخة منه إلى الرئيس صدام قبل الاحتلال بثلاثة أشهر. كنت أود أن أنشره في ربيع العام 2004م، إلاَّ أن إصدار كتاب المقاومة الثاني قد دفعني لتأجيل نشره.
إن تجميد العمل الفكري، بالنسبة لي، كان يعود إلى إعطاء الأولوية للفكر السياسي المقاوم. فالاهتمام منصبٌّ عليه، وهو يستهلك اهتمامات البعثيين في هذه المرحلة. وبالإضافة إلى الكسل الثقافي والفكري جاءت الظروف لتدفع الأكثرية الكبرى منهم إلى الغرق في الكسل الثقافي، وأصبحت المشكلة اليوم هي كيف تعيد البعثيين إلى حظيرة الاهتمام بالمادة الفكرية.
على كل حال، كما أرى، لا يجوز تجميد النشاط الفكري إلى ما شاء الله. خاصة وأن أداء المقاومة العراقية أصبح من الثبات في الدرجة، التي تصل إلى درجة اليقين، بأن التحرير أصبح يسير على سكة النصر.
ولهذا، وبما لا يعيق مهمتنا الأولى في رفد المقاومة بكل الجهود الإعلامية التي تخدمها، أن نفتح نوافذ ثقافية وفكرية لأننا بغيابها نفتقد إلى البوصلة الاستراتيجية في تصويب المسارات السياسية. وأنا جاهز على قاعدة أن نخصص مساحة لمنتدى فكري على صفحات المحرر. ويمكننا أن نكون دقيقين حول ذلك. وأرى أن نختار المواضيع التي نحسب أنها شديدة الارتباط بالزوايا التي تخدم قضية المقاومة العراقية.
4-فيما له علاقة ببحثك، تأتي أهميته من إعادة توجيه النظر إلى رؤية الأستاذ في العمل المستقبلي العربي. ومن أنه بدون الحوار الجبهوي سوف يبقى جدار المقاومة العربية ضعيفاً. وحبذا لو قمنا بنشر خطابه الأخير الذي أعلن فيه تلك الرؤية النظرية، ونقوم بالإضاءة حول كل مفصل منها بدراسات أو مقالات تعمل على تفصيلها ورؤيتها من جوانب فكرية وسياسية وميدانية خاصة وأن المقاومة العراقية تحتاج إلى تدعيم وضعها في هذا الجانب.
5-دراسة الدكتور الزعبي، ومضمونها لا يوحي أنها غير صالحة للنشر، ففيها جوانب نحن بحاجة إلى تناولها بمبضع نقدي يهدف إلى الإغناء والتوضيح من جهة، وإلى النظر إليها من الأصول الثقافية والفكرية التي تأثَّر بها فكر الأستاذ. ومن خلال الورشة التي كنت قد بدأت بها، سيقوم أحد الرفاق بتناول أصول المعرفة والفكر الغربيين التي اطَّلع عليها الأستاذ، وأخذ منها أو تأثَّر بها، أو قام بتعديلها وأنتج فكراً قومياً جديداً. لذا أقترح أن تنفتح أبواب المحرر أمام الدكتور الزعبي، على قاعدة تشجيعه على متابعة منهجه النقدي الموضوعي، وأنا أرى أنه لا يحيد عن هذا المنهج فيما قرأت له. فهو قد يضيء أمامنا عدداً من الشموع التي لا نراها بعين الحب.
6-في دراستيْ الدكتور عز الدين ما يلفت النظر إلى رؤية واضحة حول الانقلابية في نظرة الأستاذ، وهو يقربِّها كثيراً إلى الفهم الموضوعي المتسلسل والمنطقي. أما حول الرؤية في دراسته عن الحرية فهي تحاول المقاربة الواضحة من دون أن تصيبها تماماً. وهذا حال الدراسات الجديدة. لكن منهجه علمي ورزين ونقدي هادف استطاع أن يقنعني بأهميته على شرط المتابعة.
7-وعلى العموم ما زالت الدراسات التي قرأتها، والمذكورة أعلاه، تتحاشى الغوص بمسألة العلاقة بين القومية والدين، العروبة والإسلام، بأكثر من النظرة التقليدية التي لم يستطع البعثيون حتى الآن إلاَّ قراءتها قراءة سريعة لا تتجاوز الحالة الإيمانية العائمة والمقصود منها الاستفادة السياسية المرحلية. ولهذا الجانب عندي قراءات جديدة في الخاص منها والعام نشرتها في الكتب والأبحاث.
عن الأستاذ حميد كان من المتابعين لهذا المنهج الذي كنا نعمل على تعميقه، وأرجو من الله أن يعود الحزب إلى موقعه التاريخي في العراق، لأن ليس غيره يستطيع أن يحتضن مشروعاً فكرياً ناضجاً حول تحديد جوانب تلك العلاقة.
وأخيراً أيها العزيز أشكرك لأنك تفتح تلك النوافذ الفكرية التي طالما يشدنا الشوق والمصلحة الحزبية إلى خوض ساحاتها على الرغم من من الكثير من العوائق الذاتية العامة التي تقف حجرة عثرة في طريقها، خاصة أولئك الأعزاء الذين يضيق صدرهم ذرعاً في فتح كوى التجديد والإغناء بما هو ضروري جداً.


(46): دور الشباب في المجتمع
( قضايا التحرر الاجتماعي والتحرير السياسي)

المجتمع جسم حي له صفة الديمومة، ويضمن استمرار ديمومته.تجدد خلاياه؛ وخلاياه عبارة عن أجيال تتواصل على الشكل التالي:
1-الطفولة والمراهقة: وهي تمثل مرحلة ولادة الخلية الجديدة وإعدادها لمرحلة الدخول إلى دائرة المجتمع، فيكون تكوين المجتمع صحيحاً أو عليلاً استناداً إلى صحة تلك الخلية أو علتها.
2-مرحلة الشباب: تنتقل الخلية الجديدة بعد إعدادها، في مرحلتيْ الطفولة والمراهقة، إلى مرحلة الإنتاج الناشطة في شتى مفاصل المجتمع. فمرحلة الشباب هي مرحلة البناء والتجدد، أي مرحلة الانتاج، وهي العصب الفاعل في بناء صرح المجتمع.
3-مرحلة النضج والكهولة: وفيها تنتقل الخلية إلى مرحلة النضج بالخبرات، فتشكل مع خلية الإنتاج، أي مرحلة الشباب، مصنعاً لإمداد الجسم البشري بخلاصة تجاربها في شتى الحقول، ومن أهمها الأسس المعرفية على شتى أصنافها.
بيولوجياً ننحدد أعمار كل مرحلة بعمر زمني محدود، أما اجتماعياً فهي ليست كذلك. والسبب يعود إلى أنه من شروط اجتياز المرحلة الأولى أن تكون الخلية قد أصبحت مؤهَّلة للإنتاج، والعكس يعني أن تلك المرحلة قد تطول، ولن يكون انتقالها طبيعياً إلى ما بعدها. ولهذا لن تكون مرحلة الشباب عند تلك الخلية بذات جدوى، وما ينطبق عليها ينعكس على واقع مرحلة الكهولة.
وقد يكون الخلل كامناً في الانتقال، من مرحلة شباب الخلية إلى كهولتها، غير طبيعي عندما لا تؤسس لاكتساب خبرات جديدة ترفد حقول المعرفة المجتمعية وتغنيها. وهنا تفتقد حياة المجتمع المعرفية إلى حالات الإغناء والتجدد، فيضعف دور الخلية في مرحلة الكهولة وتغيب الفائدة من تراكم الخبرات في حياة المجتمع.
من هذا التقسيم نعرف ماذا تمثل مرحلة الشباب في تكوين الجسم الاجتماعي. وعلى قاعدة صحة البناء والإعداد (الطفولة والمراهقة)، أو علتهما، تكون مرحلة الشباب ناشطة أو عاجزة.
ولأننا نبحث عن دور الشباب –في مرحلة التغيير والتحرر الاجتماعي والتحرير والسياسي- نرى أن التحديد العلمي لمرحلة الشباب، اجتماعياً ونفسياً، هو من اهتمامات علماء الاجتماع والنفس، وهم الأقدر على إعطاء مناهج مفيدة لبناء أجيال من الشبيبة تكون سوية نفسياً واجتماعياً. لهذا السبب سنصب اهتمامنا حول تحديد دور الشباب في بناء مجتمع مُثقَلٍ بالهموم والمشكلات.
أما البيئة التي تعيش في ظلها مجتمعاتنا فهي من التخلف بدرجة تجعل خلايا المجتمع الشابة والكهلة مُثقَلَة بالمشكلات الكثيرة، التي يتطلَّب الأمر منها تشخيصها ومعرفتها للسيطرة عليها.
إن كثرة المشكلات، المتعلقة بالتغيير على صعد التحرر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي –في الغالب الأعم- ذات مصدر خارجي، ويتم تعميقها وإدامتها تحت غطاءات النهب الاقتصادي في عصر العولمة، نرى من الضروري –لمثل تلك الأسباب- أن تستأثر بالدرجة الأولى من اهتماماتنا في هذه الندوة، لنرى ما هو دور الشباب في معالجتها. فما هو هذا الدور؟
أساساً على الشباب يقع عبء اكتساب الثقافة، أي معرفة الشباب بقضايا مجتمعهم، فالخلية الاجتماعية لن تلعب دورها في بناء جسم مجتمعي سليم إلاَّ إذا كانت عالمة بخصائص وظيفتها في داخل الجسم المجتمعي، وأن تكون عالمة من دون ثقافة فهو منتهى التناقض.
فمن أولى الشروط التي على الخلية الشابة أن تكتسبها هي حيازة ثقافة مجتمعها الخاصة، ومعرفة جوانب النقص فيها، بما يساعد المجتمع على حل مشكلاته.
أما الشرط الآخر والضروري فهو أن يوظف الشباب معرفتهم من أجل وضعها في خدمة التغيير، وهذا يفرض على المثقف أن يتميَّز بالحركة من أجل إحداث التغيير المطلوب.
فالثقافة والحركة (النضال)، إذاَ، يشكِّلان سلاحين أساسيين للشباب:
فالثقافة للثقافة ترف، لأن كثرة المشكلات في مجتمعاتنا لا تحتمل أن يكون عنصر الشباب المثقف محايداً، يخاف العمل من أجل حل لها.
والنضال من دون ثقافة ضياع؛ فقد تتوه الخلية الشابة المتحركة/ المناضلة في عرض بحر المشكلات إذا كانت لاتمتلك بوصلة المعرفة التي تصوِّب لها اتجاهاتها.
فمرحلة الشباب هي كمثل العقد في القنطرة، إذا نخره السوس تسقط القنطرة بكاملها. ولأن مراحل تطور الخلية متكامل ومتجدد، فلا مرحلة شبابية صحية دون نمو طبيعي للطفولة والمراهقة، ولا أسس ثقافية سليمة من دون خبرة معرفية تنضجها تجارب الكهولة.
وهنا، تتعدد مهمات النضال من أجل التغيير: فبعضها ثقافي ومعرفي، وبعضها اجتماعي ونفسي، وبعضها سياسي، أما البعض الآخر في حياة الشعوب الخاضعة، بشكل غير مباشر، لقوى الرأسمال العالمي أو لاحتلال مباشر، فهي من أكثر المهمات إلحاحاً أمام الشباب في المجتمع.
ملاحظة: تُعتبَر هذه مقدمة لأبحاث عديدة تتناول الدور التفصيلي لكل القضايا التي على الشباب أن يقوموا بها في سبيل خدمة مجتمعهم.

(47): حل قضية النجف على أساس تسوية داخلية تجهيل لطبيعة الصراع
25/ 8/ 2004م
من اللافت للنظر أن تنظر بعض الأوساط العلمانية الإعلامية إلى حل القضية العراقية على قاعدة التسويات الداخلية بين حكومة الظل الأميركية في العراق والقوى الرافضة للاحتلال. وقد حسم هؤلاء مواقفهم بتناسي أصل الصراع الحاصل وهو الاحتلال بحيث اعتبروه قدراً مكتوباً لا يمكنهم رده، ولا يمكن مواجهته. وراحوا يفصلون الثوب العراقي وكأنه مسألة صراع داخلي بين مجموعات عراقية إثنية مع حكومة شرعية!!!
كما عوَّدتنا بعض الأوساط السياسية والإعلامية والثقافية تصرَّف هؤلاء على قاعدة أن الخطاب العربي التعيس ينسى الأسباب وينفعل بمعالجة نتائجها. ولأن النتائج الناشئة عن السبب الرئيس تتبدَّل وتتلوَّن وتتغيَّر، أو فلنقل إن صانع الأسباب يعمل على مسحها ومسخها وتلوينها، ولأن المعالجات السطحية لمضمون تلك القضايا تلاحق الصورة المرحلية فلا بد من أنها ستؤدي إلى معالجات سطحية أيضاً.
هكذا فعل الخطاب العربي السالف ذكره مع القضية الفلسطينية بحيث تناسى في كل وصفاته العلاجية السبب الرئيس من اغتصاب فلسطين وأهدافه، وتصرَّف على أساس أن الاغتصاب قدر لا مردَّ له؛ كما وضع الاستعمار –الذي أسَّس لفكرة الاغتصاب وعمل على حمايته- حكماً في معالجة الصراع الدائر بين حركة التحرر الفلسطينية وكيان الاغتصاب الصهيوني. فكانت النتيجة أن أعفينا الاستعمار من مسؤولية تأسيس الكيان الصهيوني ومسؤولية حمايته ومساعدته بكل الإمكانيات الاقتصادية والعسكرية والسياسية.
وكنتيجة حاصلة عن تلك النتيجة راحت الماكينة النظامية العربية والتي تساندها أوساط سياسية وإعلامية تعمل من أجل معالجة كمٍّ هائل من النتائج التي كانت تفرضها طبيعة الصراع الحاصل بين الصهيونية والأمة العربية. وقد وصلت الأمور إلى الحدود التي تحوَّل فيها الطرف الذي مورست عليه وسائل الاغتصاب إلى مغتصب وإرهابي يعمل من أجل تهديد كيان صهيوني –كما تصوره وسائل الإعلام الخادمة للمشروع الأكبر- آمن ويريد العيش بسلام ليساعد الإرهابيين المتوحشين على العيش بديموقراطية وطمأنينة. لذا نجا المغتصب والإرهابي الحقيقي من تهمة الاغتصاب والإرهاب، وغرق الخطاب العربي التقليدي في دائرة الدفاع لرد التهمة عن الفلسطيني!!!
وقياساً على قاعدة مسح كل أثر للسبب الحقيقي وجرَّ ذاكرة من لديهم ضعف بالذاكرة إلى اعتبار النتائج المرحلية سبباً، تقوم الآن الماكينة الإعلامية الأميركية، وكل من يتعاون معها من مؤسسات عربية وأفراد، إلى مسح تعبير الاحتلال من ذاكرة الشعوب والرأي العام على شتى مستوياته وتحويل الأنظار عنها بعدة من الوسائل، منها ما تروِّج له بعض الأوساط تحت عدة من العناوين والأساليب، ومن أهمها:
-إعطاء فرصة لحكومة ظل الاحتلال العراقية، ويعبِّر عنها بعض الساذجين ب»فترة سماح«، لتثبت كفاءتها في إعادة الأمن إلى العراق. وإذا نجحت بذلك تستقر الأمور لبناء دولة عراقية تتمتع بالديموقراطية والعيش الرغيد.
-إن البعض من تلك الأوساط تحسب أنه يمكن لحكومة الظل العراقية حلَّ قضية النجف –مثلاً- على أساس أن يضع أعضاء الحكومة الشيعة كل ثقلهم مع المرجعيات الدينية والسياسية الشيعية لوضع حل يقي النجف والعتبات المقدسة شر التدمير، ويحفظ الدماء الشيعية التي تُهدَر على أرض النجف. وعلى منوال هذا الابتكار الذي يثير السخرية يقترح أولئك أن يقوم أعضاء حكومة الظل من السنة بوضع ثقلهم لمنع إراقة الدماء السنية في الفلوجة والرمادي…
إن أخطر ما يمكن التقاطه من تلك السذاجات أو الآراء المشبوهة هو تحويل الأنظار عن سبب الاحتلال إلى نتائج الصراعات الداخلية بين حكومة الظل العراقية وأدواتها العميلة للاحتلال من جهة والقوى الرافضة له من جهة أخرى. أي نقل الصراع من معادلة أسود وأبيض (كقاعدة لا ثاني لها في حالة الاحتلال) أي بين الاحتلال ورافضيه، إلى معادلة أخرى تقوم على تحويل وجهته المبدأية إلى صراع داخلي بين مجموعات عراقية حاكمة ومحكومة، يتدخَّل القاضي الأميركي بين المتخاصمين لفض خلافاتهما.
وعلى مثال القضية الفلسطينية التي وكَّلنا فيه الجهات الاستعمارية حكماً منصفاً بين منطق الاغتصاب ورافضه، يعمل السُذَّج أو المتواطئون من وسائل الإعلام العربية إلى تحييد قوى الاحتلال الأميركي وتنصيبها حكماً بين جماعات عراقية متصارعة تارة في النجف وطوراً في الفلوجة وأخرى في الموصل…
وكي لا تنجح الأصوات الداعية إلى حل مسألة النجف على قاعدة أن لها خصوصيات، نقترح على الذين ينظرون نظرة استراتيجية أن لا يباركوا أي حل قائم على تسوية داخلية منفردة لأنها ستصب –بشكل لا يقبل الجدل- في مصلحة الاحتلال الأميركي. وتلك المصلحة تصبح واضحة من زاويتين:
الأولى: النجاح في تحييد الاحتلال وتبرئته من جريمة احتلال العراق، وإعطائه صك براءة بتعيينه حكماً بين جماعات عراقية متناحرة، أي حكماً بين حكومة عراقية شرعية!!! ومتمردين على قرارتها وأوامرها. فتظهر تلك الحكومة وكأنها تواجه إرهابيين شيعة تارة وإرهابيين سنة تارة أخرى.
الثانية: إن نجاح العقل الأميركي الذي خطط لمثل تلك اللعبة سيعطيه غطاء أخلاقياً عند من سقطت تلك الأخلاقية أمامه. وسيعمل في دق إسفين في جسد الوحدوية الوطنية العراقية. وقد يعطيه مكسباً في تحييد منطقة عراقية ووضعها خارج معادلة (الاحتلال والمقاومة).
إن الوصول إلى هكذا حل يرتِّب عدداً من المتغيرات، من أهمها أنه يعفي العامل الإيراني المتواطئ مع الاحتلال الأميركي من إحراجات كثيرة وكبيرة، خاصة وأنه مستفيد من هيمنة ميليشياته على الواقع الأمني تحت قبعات الشرطة والحرس الوطني في المنطقة الجنوبية من العراق. وهذا ما يجعله أقرب من تحقيق حلمه في كسب المرجعية الشيعية إلى جانبه. وهو بهذا يصبح ذا تأثير بالاقتراب أكثر من كعكة عائدات السياحة الدينية في العتبات المقدسة.
وكي لا تبقى في ذاكرة القارئ وكأن الصورة سوداوية، أو كأن الأفق أصبح مغلقاً أمام المقاومين، لا بُدَّ من إعادة التذكير بأنه منذ بداية الاحتلال، وعلى الرغم من شراسة الهجمة عليهم، سطَّروا صفحات كثيرة ومشرقة من العمل المقاوم الذي أسهم في إلحاق الأذى الكبير في جسد الاحتلال وجسد القوات التي أتت تحت غطاء »إعادة إعمار العراق« الكاذب.
وإن أكثر ما نودُّ الإشارة إليه هو أن يحذر العراقيون من الوقوع في أفخاخ شرذمة ساحة المقاومين من الشمال إلى الجنوب على قاعدة مشبوهة تعمل لتمزيق النسيج الوطني العراقي على قاعدة حماية خصوصيات مصالح الإثنيات العرقية والدينية.
***

(48): رد على نداء الأحزاب الشيوعية العربية الى الحزب الشيوعي العراقي
نص النداء ومن بعده نقد له
أولاً: نص نداء من الاحزاب الشيوعية العربية الى الحزب الشيوعي العراقي
لقد تميز نضال الشيوعيبن العرب منذ نشاتهم في العشرينات من القرن الماضي بالعمل الجماهيري الدؤوب كمساهمة فعالة من اجل تحرير البلدان العربية. ولقد أثمرت هذه النضالات في دحر الاستعمار القديم وحصول العديد من هذه الدول على استقلالها الوطني.
أن تطور الرأسمالية باتجاه الامبريالية ونشوء ما يسمى بالاستعمار الجديد افرز في كل بلد عربي شريحة اجتماعية وعلى رأسها مجموعة من الفاشيين والخونة الذين ربطوا مصالحهم بمصالح الاستعمار الجديد وكرسوا أنفسهم لقمع شعوبهم وحرمانهم من الحرية وحقهم في ممارسة الديمقراطية مع الحفاظ على مصالح الاستعمار الجديد مما أعفاه من تكاليف إرسال قواته لحماية مصالحه في هذه البلدان. وكذلك فقد نجحت الصهيونية العالمية المتحالفة مع الأمبرالية في إقامة الكيان الصهيوني على ارض فلسطين بعد تشريد شعبها عام 1948 ليكون قاعدة عسكرية متقدمة في منطقة الشرق الأوسط لحماية المصالح الرأسمالية الغربية من خلال قيامه بشن حروب عدوانية على الدول العربية لتكريس ضعفها وتخلفها من خلال دفعها للأنفاق الهائل على التسلح من اجل مقاومة العدوان الإسرائيلي المتواصل.
وهكذا في الوقت الذي استطاعت فيه الدول الاستعمارية من العودة إلى المنطقة بأساليب جديدة لمواصلة نهب خيراتها وثرواتها وتكريس تخلف شعوبها لتبقى سوقاً لمنتجاتها فان الأحزاب الشيوعية العربية لم تطور أساليب نضالها بما يتفق مع المرحلة الجديدة مما افقدها بريقها وجماهيريتها وساعد الحكومات العميلة في بلدانها على البقاء في مواقعها وتطوير أساليبها في قمع وتعذيب جميع القوى الوطنية بما فيها الشيوعيون إلى أن جاء انهيار الاتحاد السوفيتي ليكشف العفن المستشري في العديد من قيادات الأحزاب الشيوعية العربية والذي تميز بارتدادها عن مبادئ الماركسية اللينينيه وجندت نفسها في خدمة السلطان المرتبط مع الاستعمار الأجنبي. ولكن هذا الوضع المأساوي لم يحل دون تصدي آلاف الشيوعيين في العديد من البلدان العربية لهذا التخاذل والنكران لعراقة النضال الشيوعي بشجاعة وببسالة من اجل إعادة بناء أحزابها الشيوعية على أسس ومبادئ الماركسية اللينينية في أصعب الظروف.
وفي السنوات القليلة الماضية وانطلاقاً من أوضاع داخليه لدى الدول الرأسمالية والمتمثلة في تعثر اقتصادها المبني على السوق الحر وهو سوق النهب والسرقة لخيرات الشعوب بما فيها شعوب هذه الدول نفسها مما دفعها إلى خلق المزيد من بؤر التوتر وشن الحروب الاستعمارية فكانت حروب الخليج الأولى والثانية والثالثة والتي سبقتها الحرب الإسرائيلية العدوانية على لبنان عام 1982 والحرب على الفلسطينيين لإجهاض انتفاضتهم الأولى والثانية التي لا زالت مستمرة حتى الآن وتشكل نقطة استقطاب حية وفاعلة لكل القوى الوطنية والثورية في عالمنا المعاصر ضد قوى الظلام والعدوان وغدت نبراساً هادياً لنضال هذه الشعوب من اجل الحرية والتقدم.
لقد نجحت المقاومة اللبنانية بكافة شرائحها الوطنية والدينية في تحرير الجنوب اللبناني من قوات الاحتلال الإسرائيلي ودحرها إلى خارج الحدود اللبنانية بالمقاومة المسلحة وكان هذا مثلاً يحتذي به لكل وطني غيور. أما الانتفاضة الفلسطينية الثانية والتي لا زالت مستمرة فقد اتخذت من المقاومة المسلحة طريقاً لا عودة عنه وكانت ابرز معالم هذا الطريق العمليات الاستشهادية البطولية التي أوقعت في صفوف العدو الإسرائيلي خسائر هائلة على المستوى الاقتصادي حيث تمثل ذلك بانتشار البطالة والفقر المدقع بين صفوف جماهيرهم مع إفلاس مؤسساتهم التجارية باعداد هائلة وبشكل غير مسبوق وكذلك على المستوى النفسي حيث تم زرع الرعب والخوف في قلوب الإسرائيليين بشكل دفع مئات الألأف منهم لمغادرة الكيان الصهيوني كما أهتز لديهم أيمانهم بإمكانية قيام دولة يهودية نقية مما جعلهم في حالة من التخبط وعدم وضوح الرؤيا وبالذات عندما نجحت المقاومة الفلسطينية المسلحة بفرض معارك القتال في شوارع ومدن العدو الإسرائيلي الذي اعتاد ان ينقل هذه المعارك في جميع حروبه العدوانية الى شوارع المدن العربية.
وفي اذار سنة 2003 شنت الولايات المتحدة الأمريكية حربا عدوانية غير قانونية ولا شرعية ضد الشعب العراقي المناضل بحجة تخليصه من نظام صدام حسين الفاشي وبحثاً عن أسلحة الدمار الشامل والتي وبعد مرور أكثر من عام على بداية هذا العدوان الإرهابي لم يعثروا عليها إلا في مخيلة الإدارة الأمريكية الإرهابية.
وأكتشف الشعب العراقي أهداف هذه الحرب العدوانية والإرهابية المتمثلة في نهب وسرقة خيرات الشعب العراقي وإخضاعه لمخططات الولايات المتحدة الأمريكية العدوانية والإرهابية في أن واحد وليكون العراق مرتكزاً لهم من اجل الانطلاق والعدوان على جميع دول الشرق الأوسط وليكون أداة طيعة وخاضعة للسياسة الأمريكية والإسرائيلية. فما كان من هذا الشعب المناضل إلا أن تصدى ومنذ اليوم الأول للاحتلال و لقواته الفاشية ملحقاً بها أضرار متتالية ومتزايدة طردياً مع تنامي وتزايد واتساع صفوف المقاومة العراقية, وتحت شعار الوحدة الوطنية وبعيداً عن أي انتماءات عرقية أو دينية مما أربك الأدارة الأمريكية وجعلها تستجدي المساعدة من الإيرانيين وفلول أتباع صدام ولكن دون جدوى. وانه لمما يحزن كل وطني غيور أن يرى الحزب الشيوعي العراقي يتربع كعضو فيما يسمي (مجلس الحكم) والذي يجمع كل العملاء وكل من دخل العراق على ظهر دبابة أمريكية. ان هذا المجلس ليس المكان الصحيح لورثة الشيوعيين الأبطال وبالذات القائد الشيوعي الرفيق فهد الذي ضحى بحياته مع الآلاف من الشيوعيين الشرفاء في زنازين القهر والتعذيب الذي مارسه حكام العراق العملاء ابتداء بنوري السعيد وانتهاء بصدام حسين.
مهما كانت الأعذار والمبررات فان الثقة بإمكانية تحرير العراق سلميا وبالتفاهم مع المحتل يتنافى مع فهمنا للأهداف الحقيقية للمحتل, فهم جاؤوا إلى المنطقة وصرفوا المليارات ليبقوا ولن يتم إخراجهم إلا بالقوة، فواهم من يعتقد بغير ذلك. إن الشيوعيين في جميع أنحاء العالم مع جميع شرفاء العالم يتوجهون إلى كل من يتواجد من شيوعي العراق في مجلس الحكم أن يتركوا هذا الموقع الخياني وان يلتحقوا في صفوف المقاومة العراقية الباسلة لتزداد قوة وجبروتا، ولتوقع المزيد من الخسائر في صفوف القوات الغازية حتى يتم طرد آخر جندي أجنبي عن ارض العراق.
أيها الشيوعيون العرب أينما كنتم...
إن الأحداث المتلاحقة في لبنان وفي فلسطين وأخيرا في العراق أثبتت بدون جدال أن طريق المقاومة هي الطريق الأجدى والأقصر لدحر القوى الامبريالية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية, دولة العدوان والإرهاب, وان ثقافة المقاومة المستندة إلى برامج وأهداف واضحة, هي السبيل الوحيد الذي تلتف حوله جماهير شعوبنا العربية وما عدا ذلك فكمن يحرث في البحر.
أما شعوب امتنا العربية الباسلة فإننا نناشدها بدلاً من التضامن اللفظي مع المقاومين أن يتوجهوا بكل ما يتوفر لديهم من قوة وبأساليب متنوعة لضرب المصالح الأمريكية والإسرائيلية, ابتداء من سفاراتهم ومعاهدهم الثقافية ومؤسساتهم الاقتصادية المكرسة لنهب ثروات الأمة كما نناشدهم أن يكفوا عن التعامل مع أنظمة الحكم البوليسية في بلدانهم وعليهم أن يتصدوا لها بكل قوة وعزيمة وإصرار من اجل إسقاطها واستبدالها بأنظمة وطنية وديمقراطية. ونؤكد بان كل من يتوقع من هذه الحكومات العميلة أن تحسن من مسلكها وتنضم إلى صفوف شعبها فهو واهم لان ذلك ابعد من الخيال بسبب عمالتها وارتباط مصالحها بالعدو الأمريكي كونها صنيعة له بدون ادنى شك.
الأحزاب الشيوعية العربية
الحزب الشيوعي السوري - الحزب الشيوعي الفلسطيني -الحزب الشيوعي المصري-حزب الشغيلة الأردني -الماركسيون اللينييون اللبنانيون -الشبيبة الشيوعية اللبنانية

ثانياً: رد على النداء
النداء يتضمَّن مواقف ملتبسة من المقاومة العراقية: هل آن لآفة التعصب الشيوعي الفئوية أن تترجَّل؟
لقد نصحَنا بعض المخلصين بأن لا نقوم بتفريع المعركة الإعلامية لنوجِّه جزءًا منها لنقد أداء التيارات الشيوعية المناوئة للمقاومة العراقية، أو من الذين يريدونها على مقاييسهم الخاصة، تحت ذريعة منع تشتيت الجهد الذي علينا أن نحصره في مقاومة الاحتلال الأميركي والصهيوني وليس بغيره. ولكننا بعد طول صبر وأناة –آخذين النصيحة بعين القناعة والتفهم والحرص- لم نجد في أسلوب ومواقف تلك التيارات ما يغري بطول صبر أكثر. فكان لا بُدَّ من الدخول في حوار وليس في نزاع مع تلك التيارات والهدف منه المساعدة في تصويب مسارات خاطئة تصر تلك التيارات على سلوكها. وهي تغطي مواقفها العدائية بستائر من الحرص على المقاومة العراقية، وبدلاً من أن تسهم في عمل إيجابي لتعزيز الحالة الجبهوية التي تشق طريقها بكل ثبات بين الفصائل العراقية المقاومة، نرى أنها تصر على ممارسة ما لا تستفيد منه المقاومة العراقية بشكل عام وبما لا يفيد الحالة الجبهوية الراهنة في داخل المقاومة العراقية بشكل خاص، ومن أجل تصويب المسارات الخاطئة، جئنا بهذه المقالة.
بعد أن غابت المرجعية الأممية للحركة الشيوعية العالمية عن المسرح السياسي العالمي، طبعاً كان هذا مع دواعي الأسف الحقيقية التي أعلنتها التيارات القومية، تشرذمت الحركة الشيوعية العربية فضاعت بوصلتها عن الاتجاه الصحيح في غياب من كان يصوِّب لها الاتجاه –على الأقل- فيما له علاقة بمصلحة الأممية العالمية.
لقد نظرت التيارات الأممية العالمية اليوم، على الرغم من غياب الجاذب الوحدوي الأممي، إلى القضايا القومية العربية بشكل بعيد عن الغرضية والهوى، بينما ظلَّت الأهواء والأغراض تمثِّل الجاذب الأساس للتيارات الشيوعية العربية، فهي لم تستطع بعد -كما فعلت شقيقاتها من التيارات العالمية- التخلص من النظر للقضايا العربية من منطلق الحقد التاريخي الذي راكمته مرحلة التنافس والتسابق على قيادة حركة التحرر العربية. وهذا ما هو حاصل حول القضية العراقية.
بعد أن ضاعت فلسطين في العام 1948م كان الشيوعيون العرب يتلهون بتأييد الاستيطان الصهيوني على قاعدة أن اليهود القادمين سينشرون الديموقراطية في العالم العربي. فانتصروا للحركة العمالية الصهيونية في وجه من كانوا يصفونهم بالبورجوازيين العرب الذين يمارسون الديكتاتورية. فكانت لعبة النزاع بين إيديولوجيا الديموقراطية القادمة على دبابة صهيونية وإيديولوجيا الديكتاتورية القابعة في قصور البورجوازية العربية قد أضاعت الحدود الفاصلة بين الخيانة للوطن والدفاع عن الطبقة حتى لو كانت من دون هوية وطنية. وهذا هو حال الأمميات الغارقة في أحلامها النظرية. فاختار الشيوعيون العرب درب الدفاع عن الطبقة على حساب الدفاع عن الوطن تحت ذريعة جلب الغنائم الديموقراطية، فهم خسروا الاثنين معاً الديموقراطية والوطن.
باستثناء من وعوا طبيعة الصراع بين الوطن والاستعمار من الشيوعيين العرب، وعلى رأسهم قطاع واسع من الشيوعيين العراقيين، غرقت شتى أطياف الحركة الشيوعية العربية وألوانها في حالة من الضياع، حاولوا من خلالها أن يؤيدوا المقاومة العراقية ولكن على طريقة الواهم بحلول مستحيلة قائمة على تجاهل اللاعب الرئيسي في تلك المقاومة.
فإذا كانت الحركة الشيوعية العربية قد منَّت النفس، في العام 1948م، بتحصيل الديموقراطية على حصان صهيوني فأثبتت التجربة والتاريخ استحالة ما كانت تعمل لأجله فأضاعت على حركة التحرر العربية الكثير من الوقت وفرص النضال حتى اقتنعت باستحالة إيصال اتجاهاتها النظرية إلى سكة النجاح، فهي اليوم تمارس اللعبة ذاتها في مواقفها من القضية العراقية بشكل عام ومن المقاومة العراقية بشكل خاص.
لقد ربطت تلك الاتجاهات بداية بين كيان الوطن العراقي والنظام الذي كان يحكمه. ولأنها تنظر إلى النظام السياسي بعين الغرضية والهوى، وليس بعين الموضوعية، فقد تاهت في مواقفها وراحت تربط سقوط النظام بسبب من ديكتاتوريته، فلم تكن مواقفها من قضية النظام تنطلق من حرص على الوطن بقدر انطلاقها من حقد على نظام.
والشيء ذاته ينطبق على مواقف تلك التيارات من المقاومة العراقية الآن، فهي تؤيد المقاومة العراقية وتقوم بتجهيل هويتها وتعميم أوصافها. وكأنها بمثل ذلك التعميم ترتاح من الإشارة إلى دور أساسي يقوم به حزب البعث في العراق في العمل المقاوم. وصاغت اتجاهاتها المؤيدة للمقاومة والداعمة لها بمسائل مدقعة بالنظرية الغرضية من دون الجرأة على النظر إلى المقاومة العراقية بواقعها الحقيقي.
لا شك بأن اتجاهات تلك التيارات من حيث دعوتها إلى استراتيجية الكفاح الشعبي المسلح في كل من فلسطين والعراق هي اتجاهات سليمة، ولكن النظر شيء والواقع شيء آخر. فارتكبت خطأ أنها أيَّدت العمل المقاوم وعلى أساس نظري مفصَّل على مقاييسها الإيديولوجية، وأحياناً كثيرة على مقاييس أحقادها الماضية على نظام حزب البعث وأمينه العام صدام حسين. ولكي لا تتناقض مع نفسها راحت تدعو إلى الالتفاف حول المقاومة العراقية وانحرفت بأنظارها وغطت عيونها لكي لا ترى لحزب البعث أو صدام حسين بصمة ولو واحدة في العمل المقاوم.
ماذا يتولَّد من تأثيرات إذا ما انتصرت المقاومة، وهي حتماً ستنتصر، ورأت تلك التيارات أن لحزب البعث –في الافتراض الأقل احتمالاً- أكثر من بصمة وتأثير من حيث الفعل اليومي والتخطيط الاستراتيجي والقيادة الاستراتيجية. ففي تلك اللحظة سيصيب التيارات الشيوعية ذات النظرة الغرضية ضياع آخر، وسيترتب عليها أن تجد إجابات جديدة لمناصريها التي تقوم اليوم بتضليلهم. وهي ستقف حائرة أمام النتائج: إما أن ترفض نتائج الصراع لأن حزب البعث سيكون شريكاً في نظام ما بعد الاحتلال فتقف مرة أخرى خارج صياغة استراتيجية لنظام عربي سيقود حركة التحرر العربية. أو أنها ستشارك –ومن واجبها أن تشارك- في نظام سياسي لن يكون البعثيون إلاَّ من صانعيه بالدم والسجن والاعتقال والتشريد… وساعتئذٍ ستقوم بتبرير مواقفها السابقة، ولا نرضى لأي مساهم في مقاومة الاحتلال إلاَّ أن يكون واضحاً ومتصالحاً مع نفسه ومع شركائه الآخرين بدون تردد مرحلي أو أحقاد عفى عليها الزمن.
وكي لا تبقى الحركة الشيوعية العربية، بمعظم تياراتها تائهة وضائعة، منذ العام 1948م وحتى اليوم في تركيب استراتيجية واضحة للصراع مع قوى الخارج وأخرى للحوار مع قوى الداخل فسوف تبقى في مواقفها النظرية والعملية على هامش التاريخ السياسي للأمة العربية. وستبقى في الموقع الذي يضيِّع على الأمة فرصة نضالية وراء فرصة، رافضة للعمل الجبهوي الصحيح والسليم من خلال لقاء كل أطياف حركة التحرر العربية وألوانها بعيداً عن تجارب الماضي المؤلمة. ونحن هنا، ولسنا من منطلق النطق باسم المقاومة العراقية ولكن من منطلق الحرص القومي على تلك المقاومة ندعو التيارات الشيوعية العربية بشكل خاص إلى ترك أحقاد الماضي وراءها لكي تفتح صفحة جديدة مع قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق وفي غيره، ونؤكد على حزب البعث في العراق لخصوصيات دوره الكبير في المقاومة العراقية.
وكي لا نطبِّق المثل العامي القائل »لا تسرح ولا تعير الجراب«، نخاطب الصادقين من الشيوعيين في مواقفهم الموضوعية من المقاومة: بوركتم فأنتم تشقون طريقاً موضوعياً لعلاقات سليمة بين تيارات الحركة العربية الثورية قائمة على الانتصار للوطن قبل الانتصار على أي شيء آخر، لأن أي نضال مطلبي في ظل احتلال الوطن لا طعم له ولا رائحة.
***

(49): إسمع يا جورج كلام جاك واخرج من جهنم التي فتحت أبوابها في العراق
لولا أن انساق جاك شيراك، في الفترة الأخيرة، وراء جوقة إدارة «القرن الأميركي الجديد» في استصدار قرار من مجلس الأمن بذريعة المحافظة على الديموقراطية في لبنان، وهو يعرف أن جورج بوش يكذب، لأن بكاءه ليس على الديموقراطية في لبنان وإنما الكعكة العراقية هي التي كسرت أنيابه، وحالت المقاومة العراقية دونه والتهامها، لكان جاك شيراك قد أبعد فرنسا عن تلويث يديها بحماية غير عادلة للمخطط الأميركي الخبيث.
لم تطل المرحلة التي انحاز فيها جاك شيراك، والذي لم ينس اتهامه بالفرنسي العجوز في أوائل من شهر أيار من العام 2003م، حتى اعترف أمام ضمير ثاباتيرو –رئيس الوزراء الإسباني- أنه كان من المخطئين حتى ولو بتأييد تكتيكي لجورج بوش في لبنان.
صرَّح الرئس الفرنسي، في إسبانيا، قائلاً: »إننا فتحنا أبواب جهنم في العراق، ولن نستطيع أن نغلقها«. نحن نعرف، منذ زمن بعيد، وقد نصح الرئيس العراقي الأسير كل العالم بأن العراق سيكون مقبرة للغزاة، ولم يصدق أحد ما قاله، وأخذت إدارة الشر الأميركية التهديد على محمل الهزء والسخرية. وإذا كان العالم الممانع للمخطط الأميركي يتمنى فشل المشروع الأميركي في العراق، الا أنه لم يكن مطمئناً لما أعلنه صدام حسين.
لما أثبتت المقاومة العراقية جدارتها وكفاءتها وحسن إدارتها السياسية والعسكرية لمعركة الحسم ضد الإمبراطورية الأميركية، ولما كانت منظومة الدول الرأسمالية لا تريد أن ترى الجيش الأميركي مهزوماً، لأسباب معنوية ذات علاقة بالنظام الرأسمالي العالمي، لجأت بعض الدول للموازنة بين رغبتها في فشل المشروع الأمبراطوري الأميركي والمحافظة على معنويات مرتفعة لمنظومتها الرأسمالية للعمل من أجل تخفيف وطأة الهزيمة الأميركية في العراق. ونعتقد أن لولبية مواقف جاك شيراك تصب في هذا الاتجاه.
سيان كانت أهداف تكتيكات الدول الممانعة للاحتلال الأميركي، نجد أنفسنا أمام واجب ننصح فيه كل منظومة الدول الرأسمالية، وعلى رأسها الغبي المتنبي جورج بوش، لكي نتوجَّه بالنداء التالي:
إسمع يا جورج كلام جاك وانسحب من العراق، فهو صادق صدوق في كلامه.
لقد دخلت يا جورج بلاد الرافدين لتحسم هناك معركة هرمجدون بين «الخير والشر» فيدخل قساوستك من المشعوذين، الذين اعتنقوا نبؤة العهد القديم، الى جنة عدن.
دفعوا بك إلى العراق «مسيحاً مخلصاً» لكي يتسللوا على نجاحاتك إلى نعيم الهيمنة على اقتصاد العالم، فإذا بك تدخل إلى جهنم وبئس المصير.
إسمع يا جورج نصيحة جاك. إن جاك له عيون تبحث عن حقيقة ما يجري لقواتك في العراق لأن لهم مصلحة بفشلك، ولذلك فهم ينقلون الحقيقة إلى رئيسهم. أما عيونك، كمثل دونالد وكوندوليزا وديك وبول، والمغلوب على أمره كولن، فلهم غرض في حجب حقيقة ما يجري للجنود الأميركيين في العراق، وهم يراهنون على سراب قمع المقاومة العراقية بأساليب وحشية أقذر ما فيها أن تتحول جثة الطفل العراقي، في إعلامك، من ضحية لقنابل طائراتك العمياء، إلى مقاتل من جماعة الزرقاوي.
إن لجاك عيون تشاهد مآسي ما تلحقه طائراتك التي تقصف ليل نهار أشباحاً وهي عاجزة عن رؤيتها ومعرفتها ورصد حركتها فتصيب البيوت المسكونة بالنساء والأطفال والعجزة وترديهم قتلى من دون أن ترف لهم جفن من قساة القلوب المحيطين بك. ولست أنت بأفضل منهم، فأنت رأس للمشروع ومنفِّذ له.
إسمع يا جورج كلام جاك. فأنت تراهن على تجديد رئاستك من أجل أن تأخذ فرصة جديدة لإنجاح مشروع الخبثاء من عبدة الدولار. أما جاك فلا يرى أن فرصة جديدة لك ستعوِّض الفشل السابق. لقد قال جاك إنكم عاجزون عن إقفال أبواب جهنم في العراق. فاسمع نصيحته.
إن فرصة جديدة للنجاح لن تكون بأفضل من فرصتك الذهبية الأولى. إن كل الوقائع والبراهين، التي تقدمها فوهات بنادق المقاومين العراقيين، تدل على أن هرمجدون أحبابك من الصهاينة الموتورين بوعد إلهي موهوم يتحطم –الآن- على أسوار بغداد والفلوجة والرمادي والبصرة والموصل والنجف...
إسمع يا جورج نصيحة جاك. إن الوقائع والبراهين التي يقدمها الشعب العراقي بكل أطيافه، وكل مستوياته: رجالاً ونساءً وأطفالاً، مقاتلين ومساندين ومتعاطفين ومؤيدين، تنظيمات وأفراداً، تشير إلى أن هرمجدون العراق ستحسم قريباً المعركة بين الشر الأميركي والخير العربي.
إن هرمجدون العراق مستندة إلى أفق قومي علمي واضح، أعدَّت لها قيادة ترى الواقع بعين العلمية والموضوعية والوضوح، مضاف إليه عامل الإيمان بالكرامة الوطنية والقومية وعامل التخطيط والتعبئة للدفاع عنهما بالمال والولد والحياة. أفق ليس بوهمي، ولا يستند إلى أية نظرية من نظريات الانتظار. لأن الانتظار لا يحمل أي دافع من دوافع الوطنية، بل هو نظرية تأمر بتأجيل المعركة بين الخير والشر إلى آماد وهمية.
إسمع يا جورج نصيحة جاك، وارجو أن تسمعا، معاً، نصحية الضمير العالمي. ضمير الشعوب التي تقول بأن العولمة الوحيدة التي تحقق المساواة بين شعوب العالم هي أنسنة العلاقات الدولية.
إسمعا معاً نصيحة ثاباتيرو –رئيس الوزراء الأسباني- الذي انحاز إلى موقف شعبه بعيداً عن القيود الأميركية وقيود أصحاب الشركات الرأسمالية. فإذا كانت الشركات حاكمة في أميركا: المصالح مصالحها، والديموقراطية مفصَّلة على مكاييل رأسمالية، ففي فرنسا تقارب بين ضمير السلطة وضمير الشعب الفرنسي. لذا نرى أن تعمل السلطة الفرنسية إلى تقارب بين الضميرين أكثر بما لا يدع لشبق الشركات الرأسمالية الفرنسية أن تفرض على السلطة قرارات سياسية خاطئة تضر بمصلحة الرأسمال الفرنسي وبشركاته. وأن ينحاز الموقف الفرنسي الرسمي، بدون التواءات، إلى جانب قضايا التحرر العربي. ففي هذا الانحياز استجابة لرغبة الشارع الفرنسي من جهة، واستجابة لمتطلبات أنسنة العلاقات الدولية، بين الأنظمة والشعوب من جهة ثانية.
***

(50): كل عام وأنت بخير يا عراق
يُطِلُّ رمضان الثاني عليك يا عراق، ويسكر الأعداء على ضفاف أنهارك متوهِّمين بأنهم يشيِّعون جثتك إلى مأواها الأخير.
يُطِلُّ رمضان الثاني يا عراق، وأبواب جهنم مفتوحة لكل المتآمرين عليك –من عرب ومسلمين وأسيادهم من عشاق السكر على جثث الأوطان ومن أدعياء حماية الدين والمذهب- فهم يحترقون بنار المقاومة ويتآمرون عليها لأنها تحول بينهم ونعيم العراق وخيراته.
يُطل رمضان الثاني يا عراق، وماجداتك وشيوخك وأطفالك يتحرَّقون غضباً من ظلم ذوي القربى. فتتضاعف عندهم المعاناة من جراء شراسة الاحتلال وأساليبه الأكثر وحشية في التاريخ.
يُطِلُّ رمضان الثاني يا عراق، والمقاومون ضد الاحتلال، والحافظون كرامة الأمة، يتحرَّقون غيظاً من قلة النصير وكثرة الصامتين والشامتين والأغبياء والمراقبين والمنتظرين على ضفاف اللا مسؤولية واللا مبالاة، والقابعين في جحور الخوف والجبانة منتظرين ما تتفتَّق عنه عقول حكمائهم عن حلول تصل بهم إلى أن يكونوا خدماً في بلاط الأباطرة الأميركيين الجدد.
فكل رمضان وأنت بخير يا عراق. أنت بخير كلما انطلقت رصاصة مقاوم في دماغ محتل أو في قلبه.
فكل رمضان وأنت بخير يا عراق. أنت بخير كلما انفجرت عبوة ناسفة في جسد آلية عسكرية للمحتل وأذنابه.
فكل رمضان وأنت بخير يا عراق. أنت بخير كلما امتدت يد المقاومة واتسعت على طول العراق وعرضه، وكلما نبتت يد مقاومة جديدة من كل ألوان العراقيين وأطيافهم.
فكل رمضان وأنت بخير يا عراق. وسوف تكون بخير. فالتحرير الكامل قادم على صهوة جواد يمتطيه كل المقاومين، وكل الناصرين، وكل المشاركين، وكل الأصدقاء والصادقين، وكل الصابرات والصابرين.
فكل رمضان وأنت بخير يا عراق. ولن يخيفنا قلة الناصر والمشارك والمؤيد والحامي والمنافح والمدافع. ولن نخشى من طريق المقاومة لقلة سالكيه. فأبناء المقاومة يحملون سلاح الصبر والشهادة من أجل قدسية قضيتهم. وأبناء المقاومة هم الذين يحملون سلاح الحرية التي لا يستطيعون العيش بدونها، لأن الحياة في ظل الاحتلال ليست سوى موتاً حقيقياً، فالحياة لهم لأنهم يرفضونها مع قيود وعبودية.
فكل رمضان وأنت بخير يا عراق. فرمضان الثالث سيكون رمضان النصر والحرية والانعتاق من عبودية الاحتلال، وعبودية الناصر للاحتلال. وسوف نرجع إلى ضفاف أنهارك لنقدِّم الاعتذار عن تقصيرنا وعن خوفنا وإفلاس حكمائنا وقلة عزيمتنا...
سنرجع في رمضان الثالث، لتقبِّل أيدي أطفالك. ولنتعلَّم من ارتفاع قامات ماجداتك، ولنمسح الغبار عن أحذية مقاتليك، ولنركع أمام قبور شهدائك، ولنكتسب الدروس من معاناة أسراك، ولنتعلَّم من حكمة حكمائك.
سنرجع في رمضان الثالث، لنغرس شاهداً لا يجعلنا ننسى خيانة الخونة، وضعف الجبناء، وغباوة الأغبياء من المراهنين على كسب حقوقهم من فوهة بندقية الاحتلال. وكي لا ننسى المتصالحين مع الصهيونية والشعوبية، ولا المقتاتين من جثة وطنهم المذبوح باسم الديموقراطية.
ففي رمضانك الثاني يا عراق نقدِّم الاعتذار أمام شموخ المقاومة وطول قامتها التي وصلت إلى أبواب البيت الأبيض، بل ودخلت غرفة النوم لرئيسه، فتاه وأصبح قاصراً عن التفكير والرؤية.
في رمضانك الثاني يا عراق، نعتذر إليك لأننا لم نستفد مما قاله رمز الأسرى وقائد المقاومة والمخطط لها، الرئيس صدام حسين. لقد قال لأكثر من وفد عربي: إننا سندخل الحرب ضد الأميركيين، وعلى العرب والثورة العربية وأحزاب حركة التحرر العربي أن يستفيدوا منها.
إننا نعتذر إليك يا أبا عدي لأننا لم نستفد من الحرب ضد المشروع الأميركي التي تخوضها مع رفاقك وشعبك على أرض العراق. لعلَّنا نفيئ إلى أمرنا. وذكِّر لعلها تنفع الذكرى.
***

(51): لبنان: التجاذب الدولي، والنفخ في رماد الحرب الأهلية.
نشرته مجلة الوفاق العربي - تونس
لأن لبنان يمثِّل حلقة وسيطة في جغرافية الصراع العربي –الصهيوني، بين سوريا والكيان الصهيوني، استقطب –منذ بدء الصراع- على اهتمامهما معاً. ولأن تحالفاً استراتيجياً بين الصهيونية والمشروع الاستعماري الأميركي يقتضي تبادل الخدمات، ومن أهمها حماية الوجود الصهيوني في فلسطين أمنياً وعسكرياً، دخل لبنان عنصراً مهماً في السياسة الأميركية على قاعدة إحاطة سوريا بسور من الأنظمة السياسية -الأمنية التي تلتزم تعليمات المشروع الأميركي في حماية الكيان الصهيوني. وهذا يعيدنا إلى مشروع كماشة «حلف بغداد» في العام 1958م، حينما كانت سوريا محاطة بنظام نوري السعيد في العراق (شرقاً) والنظام الهاشمي في الأردن (شرقاً وجنوباً)، والكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة (جنوباً)، وتركيا عدنان مندريس في تركيا (شمالاً)، وكانت الإدارة الأميركية تعمل على استكمال مخطط تطويق سوريا من الغرب بواسطة عهد الرئيس الراحل كميل شمعون في لبنان (غرباً).
إن النظر إلى الأطماع الأميركية في لبنان من خارج هذه الزاوية سيصل بنا إلى نتائج خادعة. لذا نرى أن هناك أطماعاً أميركية – صهيونية تستخدم لبنان حجر شطرنج في لعبة الصراع العربي – الصهيوني، فتحركه أو تدعوه للهدوء حسبما تقتضيه اتجاهات الرياح في تلك القضية خاصة، واتجاهات الريح في الوطن العربي عموماً.
دخل العامل اللبناني، في مرحلة ما بعد احتلال العراق في العام 2003م، لعبة التجاذب بين سوريا والولايات المتحدة لمصلحة أميركية مباشرة خاصة بعد أن غرق جنودها في رمال العراق. ولما كانت اتجاهات الرياح في الصراع الأميركي ضد المقاومة العراقية على غير ما يشتهي الملاح الأميركي – الصهيوني، عمل على الاستفادة من لبنان في تغيير اتجاهات تلك الريح. ومن هنا تبدأ القصة الأميركية –مستعينة بفرنسا كغطاء دولي- مع لبنان في هذا الظرف بالذات.
على أصوات طبول النصر الأميركي الموهوم في العراق، تأبى عنجهية أصحاب «القرن الأميركي الجديد» الاعتراف بالهزيمة الواقعية لمشروعها الخبيث المبيَّت للعالم بأكمله. فهي تعمل على تغطية ضعفها بتصدير أزمتها إلى الساحة اللبنانية لعلَّها تأخذ منها ولو بمقدار درهم بعض الاستقواء على مأزقها في العراق.
إلاَّ أن لبنان لا يشكِّل مدخلاً جغرافياً للساحة العراقية. وهو لا يمثِّل ثقلاً سياسياً لتكسب منه إدارة بوش بعض الأرجحية في مأزقها في العراق، أي في مواجهة المقاومة العراقية. بل إن لبنان على الخريطة الأميركية هو حاجة أمنية قومية لسوريا في مواجهة العدو الصهيوني. ولأن لسوريا موقفاً سياسياً يميل بشكل واضح إلى جانب تأييد المقاومة العراقية، كما لها حدود جغرافية مشتركة مع العراق، فأميركا تعتبر سوريا لاعباً أساسياً فيه. وهي ذات موقف متميز بعد أن خضع كل دول الجوار –من دون استثناء- للتوجيهات الأميركية. لذا أصبح لبنان يمثِّل نقطة المساومة الأساسية للسياسة الأميركية مع سوريا، ولهذا فهي تعمل من أجل تسوية مقايضة بينها وبين سوريا، والثمن هو الساحة اللبنانية.
وكأن لبنان محمية أميركية تأتمر بأوامر سيدها راح الصلف الأميركي يتصرَّف –بحماية فرنسية كمفصل استقطاب تاريخي للبنان- من دون أن تأخذ القوتان المتغيرات التي طرأت على واقع الساحة السياسية فيه.
ولمثل تلك الأسباب، دخلت الإدارة الأميركية اللعبة في لبنان، على أساس مواجهة سورية – أميركية، من بوابة شديدة التضليل للرأي العام العالمي، ولكنها لا تنطلي على عقولنا، وهي: إكراه سوريا على تطبيق قرارات الشرعية الدولية والاتفاقات العربية بشأن لبنان، وإبداء الحرص الكاذب على مصير الديموقراطية فيه.
تريد الإدارة الأميركية –من خلال أسبابها المعلَنَة- أن تستغفل عقولنا. فتبتز اللبنانيين بحرصها الكاذب على مصالحهم. ومن أكثر وسائل استغفال عقول اللبنانيين، لفتاً للنظر أن إدارة جورج بوش تتباكى على ضياع الحياة الديموقراطية في لبنان. أما الواقع فهو أن عنتريات إدارة بوش ودموع التماسيح التي تذرفها على الحياة الديموقراطية في لبنان، ليست من أجل لبنان ولا من أجل حرصها على تطبيق قرارات مجلس الأمن ولا على تصحيح الحياة الديموقراطية فيه. وإنما هي موجهة إلى سوريا. وتوجيهها لسوريا ليس حباً بإخضاعها إلى تطبيق قرارات الشرعية الدولية (التي أصبحت شرعية مصالح أميركا)، ولا إلى دفعها لتصحيح الحياة الديموقراطية في لبنان وإنما العين الأميركية متوجِّهة بشكل أساسي إلى أن تلعب سوريا دوراً في إعاقة المقاومة العرقية.
والدليل على أن العين الأميركية لا تريد من سوريا شيئاً في لبنان –أقلّه في المرحلة الراهنة-لأنه لو افترضنا أن سوريا قامت بانسحاب كامل من لبنان، وضغطت على تجريد حزب الله من السلاح، فهل هذا ما يرضي إدارة جورج بوش؟
بالطبع هذا لا يدع الإدارة الأميركية في حالة من الرضى، لأن قضية العراق لها الأولوية في المخطط الأميركي، لأنها لو فشلت في احتوائها فإن الفشل سيشمل كامل المشروع الأميركي المتوجِّه إلى الهيمنة على الوطن العربي، ومنه –بشكل أساسي-سوريا ولبنان لقربهما من ساحة الصراع العربي الصهيوني بالمصلحة وبالجغرافيا.
لهذا نرى أنه من البديهي أن يستمر الضغط الأميركي على وتر حاجة سوريا الأمنية لوجودها في لبنان، لأنه ليس من أولويات الإدارة الأميركية أن تنسحب سوريا من لبنان ولا أن يتم تطبيق الديموقراطية فيه. وليست أهداف الأميركيين أن يأتوا برئيس موالٍ لهم مئة بالمئة. وحتى لو حصلت الإدارة على المكسبين معاً فإنها لن تعتبر أن هدفها المرحلي قد تحقق.
فهدفها من القرار / العصا الذي صدَّرته بالتنسيق مع فرنسا، والذي يحمل الرقم (1559)، ليس سوى مقايضة لتجديد البقاء السوري في لبنان في مقابل القبول السوري لبقاء الاحتلال الأميركي في العراق أولاً، ومساعدته على البقاء من خلال التضييق على المقاومة العراقية ثانياً. وهذا هو سر إصدار القرار / العصا على قاعدة المساومات التي تجيدها إدارة جورج بوش.
فإذا عُرِف السبب بطل العجب.
لكن لن يفوتنا أن الإدارة الأميركية تضع بدائل –غير القرار العصا-لأي عصيان سوري للأوامر الأميركية. وأن تلك البدائل قد تكون في لعب دور المحرِّض للبنانيين في تسخين الساحة السياسية كنقطة انطلاق للتسخين الأمني، وبهما تعتقد الإدارة الأميركية أنها تبتز الحاجة السورية لجرها إلى تسوية / مقايضة بين مصالح الطرفين.
وكي لا نستهين بمدى تأثير الدور الأميركي على الداخل اللبناني علينا أن لا نغفل ما نفَّذته تلك الإدارة –بتنسيق ومشاركة كاملين من العدو الصهيوني- في لبنان منذ العام 1975م. وفي حينه أطلقتا شرارة الحرب الأهلية التي أكلت الأخضر واليابس، وقلبت موازين القوى في المنطقة رأساً على عقب. وهي اليوم غير بعيدة عن إعادة تكرار التهديد وتنفيذ مؤامرة جديدة وشبيهة بتلك التي نفَّذتها منذ ربع قرن.
ولكن، وكي لا نتحسَّب لمخاطر قد لا تكون بمثل الحجم الذي يحسبه البعض، يمكننا أن نلقي بعض الأضواء على تقدير الحسابات الحقيقية لتلك المخاطر. ومنها فلا نحسب أن مخاطر حرب أهلية –في المرحلة الراهنة- هي مخاطر حقيقية، ويعود تقديرنا إلى جملة من الأسباب، ومن أهمها:
أولاً: على صعيد الاستراتيجية السياسية في لبنان:
1-لقد كشف اللبنانيون، وعلى الأخص منهم أولئك الذين يُخشى من أنهم سيكونون رأس حرب أهلية في لبنان- أن ما يربط أميركا مع لبنان هي تأمين مصالح صهيونية – أميركية، حتى على حساب أكثر الأوساط اللبنانية إخلاصاً للمصالح الأميركية في المنطقة. لذا فنحن نرى أن تلك الأوساط ستبقى واقفة في دائرة الاعتراض على الواقع اللبناني الراهن، وتستقوي بظهير القرار الأميركي ولكن إلى الحدود التي لا ينحدرون فيها إلى حفرة المشاركة في حرب أهلية أو القناعة بأن تلك الحرب ستشكل جسر الخلاص.
2- كشف اللبنانيون الوارد ذكرهم أعلاه، حقيقة خبث الأغراض الصهيونية، التي لا تتورَّع عن إحراق لبنان من أجل الدفاع عن مصالحها في المنطقة، وعلى رأسها المحافظة على وجودها الاستيطاني في فلسطين المحتلة. كما أنها تريد أن توظِّف كل صداقاتها بين العرب عامة، ومع اللبنانيين خاصة، من أجل حماية أمنها.
3-لم ينس اللبنانيون من معارضي الوجود السوري في لبنان أن أميركا قد باعت الديموقراطية أكثر من مرة لأجل تمرير مصلحة لها من هنا أو من هناك. وهي قد تبيع وجودهم كله إذا اقتضت مصلحتها بإخراجهم في البواخر إلى أرض الله الواسعة. وهذا غير بعيد عن مخططاتها في توطين الفلسطينيين في لبنان.
ثانياً: على الصعيد الاستراتيجي الدولي:
لم تعد مخططات الإدارة الأميركية خافية على أحد، وهي تريد أن تبتلع كل العالم، ومخططها في الاستيلاء على العالم -بشتى الطرق والوسائل-يخيف حتى حلفاءها وأصدقاءها. فإذا كان اللبنانيون المعارضون لسوريا في لبنان يصرون على مواقفهم فإنما –كما نحسب-يعملون على الاستقواء بالعامل الفرنسي. أما العامل الفرنسي، الذي تمَّ تجاوزه في معظم الأحيان من أن يكون له دور في المنطقة، فيعمل على أساس استعادة هذا الدور. ولهذا كانت له صلات وتنسيق مع الأميركيين. ونحسب أن الإدارة الفرنسية تسعى لكي تتسلَّل من جديد إلى المنطقة مستغلَّة مرحلة الضعف في الجسد الأميركي. وإن لفرنسا مطامح سياسية، وإن اختلفت عن المطامع الأميركية، فإنها تبقى –بلا شك-دون خطورة المشروع الأميركي، ولكنه لا يتخلى عن تقاطعات ذات علاقة بالنظام الرأسمالي من جهة، وبالصراع العربي – الصهيوني على قاعدة تثبيت الوجود الصهيوني من جهة أخرى.
ثالثاً: على صعيد النظر بحكمة إلى العلاقات الداخلية – الداخلية:
وإذا كان للبنانيين أمل في بناء كيان سياسي مستقل يطمئنون إلى ثباته بما يحقق المصلحة اللبنانية، فإننا نرى أن هذا الهدف يمر عبر بوابتين لا ثالث لهما، وهما:
البوابة الأولى: بوابة قومية لبنان وعروبته، عبر التزامه بالقضايا العربية خاصة منها التي تدخل في صراع مع التحالف الأميركي – الصهيوني، لأن هذا التحالف لا يرى شيئاً خارج ذاته. ويقيس كل علاقاته مع الآخرين على مكاييل مصالحه الاقتصادية. تلك المصالح التي أصبحت أكثر خطورة عندما تحوَّلت إلى أيديولوجيا دينية عند طرفيْ التحالف المذكور، بحيث يرفد أحدهما الآخر بأسباب البقاء والاستمرار.
البوابة الثانية: بوابة العالم الرأسمالي الذي تخلَّى عن أطماعه الاستعمارية، والذي يقف موقف الريبة والشك من التحالف الأميركي الصهيوني. ويعمل على تحجيم دوره في العالم ويكبح من سرعة اجتياحه كخطوة على طريق حصاره ومنعه والحؤول دون تحققه.
وعلى اللبنانيين أن يعملوا على قاعدة التكامل القومي في مواجهة تلك المشاريع، على أن يلعبوا دور الريادة في بناء أنموذج قومي على أن لا يستهينوا بالأمن القومي العربي، وأن يقووا جدار حصانتهم القومية بما لا يدفع العرب الآخرين إلى التفكير بهواجس الريبة والشك، ذلك النمط من التفكير الذي لعب دوراً أساسياً في حالة التمزق والتشتت القومي، والذي لا يزال يسم مساحة العلاقات العربية – العربية بالكثير من الظنون وأحياناً بالوقائع الدامغة ذات العلاقة بانحياز معظم الجدار العربي الرسمي إلى جانب المخططات الأميركية –الصهيونية.
فإذا كان هناك من خوف نشعر به من انحدار لبنان إلى أتون حرب أهلية جديدة، فإنما هذا الأتون لن يكون ممره إلاَّ عبر إعداد له يقوم التحالف الأميركي – الصهيوني بالتحضير له، ذلك التحالف الذي لا يتورَّع عن إحراق روما، إذا كان حريقها يحفظ مصالحه من الخسارة. أما العامل الذي يكبحه ولا يسمح له باختراق الساحة اللبنانية فهو بأيدي اللبنانيين وحدهم، وليس بأية يد أخرى. ونحسب أن اللبنانيين قد تعلَّموا من دروس الماضي ولما يلتئم جرح التجربة بشكل كامل.
ولأننا نخشى من أن يتم تفسير ما نقوله بأنه يركِّز على عامل الأمن القومي العربي بما يجعل لبنان يدفع فاتورة من حقه في العيش في ظل نظام سياسي يكفل حقوق اللبنانيين في القرار السياسي الداخلي المستقل، نرى أن لا نغفل ذلك الحق ونعمل على طمسه أمام ضرورة المحافظة على الأمن القومي العربي.
وهنا نرى أن الوجهين: الأمن القومي العربي، والقرار اللبناني الداخلي المستقل لا يتناقضان بل يتكاملان. وعلى أحدهما أن لا يأكل من جرف الآخر.
لأن التركيب السياسي الداخلي للبنان، خاصة تراكيب الطائفية السياسية، لا يجعل منظار اللبنانيين للعلاقة مع الخارج موحداً. بل للأسف لا يزال منظار الاستقواء بالخارج أساسياً في وضع استراتيجية سياسية لكل تعددية طائفية سياسية تختلف عن مناظير الآخرين. وإذا حلَّت رؤية الأمور بمناظير قومية عربية تكاملية لما كانت الهواجس والمخاوف هي سيدة الموقف في لبنان كما هي الآن في ظل موازين القوى الطائفية السياسية.
ولأن للاستعمار والصهيونية مصلحة في منع توحيد الرؤية السياسية في لبنان من مناظير قومية. ولأن من مصلحة الأمة، ومصلحة الأمن القومي العربي، أن تسود تلك المناظير، يدفع بنا إلى القول أن هناك إمكانية للحصول على الهدفين معاً على قاعدة الابتعاد عن منطق التخوين المتبادل بين الأطراف اللبنانيين أولاً، وثانياً القيام برعاية حوار داخلي يسمح للجميع في المشاركة في الحياة السياسية في لبنان من دون خوف أو تخويف من عوامل الاستقواء بكل ما هو خارج عن الدائرة القومية العربية.
وعلى الرغم من أن النهج الطائفي السياسي في لبنان لن يكون عادلاً في تأمين مصالح الجميع، وإنما في مرحلة الصراع الساخن بين الأمة وأعدائها لا يمكن الاقتراب من الحد الأدنى من وحدة الصفوف أو توحيدها، إلاَّ بالتقليل من مخاوف ابتلاع مصالح الآخر التي تشكو منها هذه الطائفة أو تلك. والتقليل من تلك المخاوف أو ضغطها إلى حدها الأدنى يسهم في إبطال مفاعيل الحقن التي يعمل المشروع الأميركي الصهيوني على تغذيتها في لبنان واستغلالها من أجل رفع وتيرة الافتراق بين اللبنانيين.

(52): مقابلة مع موقع صوت الوطن حول المقاومة العراقية
هذه أدلتي حول قيادة البعث للمقاومة العراقية
عمان – هشام عودة: كان الكاتب والباحث اللبناني حسن خليل غريب من أوائل الكتاب العرب، إن لم يكن أولهم ، الذين ذهبوا إلى دراسة واقع المقاومة العراقية وتحليل مكوناتها ودوافعها واستراتيجيتها ،ليصل مبكرا إلى حقيقة دامغة مفادها أن حزب البعث العربي الاشتراكي هو مؤسس المقاومة العراقية وقائدها ، ونشر دراستين مهمتين حول واقع ومستقبل المقاومة العراقية ، صدرت أولاهما قبل اكثر من عام .
في هذا الحوار مع دنيا الوطن الذي تم عبر الإنترنت نحاول أن نقف عند الشواهد التي يملكها الباحث غريب والتي دفعته للقول بصوت عال إن البعث هو الذي يقود المقاومة العراقية، في وقت كانت فيه كل أجهزة الإعلام المرتبطة بالإدارة الأميركية تسعى إلى تشويه سمعة البعث وتاريخه . وفيما يلي نص الحوار :
* أنت من أوائل الذين درسوا واقع المقاومة العراقية على الأرض. وأعلنت في كتاب صدر لك نهاية العام الماضي أن حزب البعث هو الذي يقود هذه المقاومة. على ماذا استندت، وما هي أدلتك على ذلك؟
-بعد ذخيرة ثقافية معمَّقة لفكر حزب البعث واستراتيجيته في مقاومة الاستعمار، وخاصة ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في قلسطين. وبعد متابعات لحركة الصراع الدائر بين العراق والولايات المتحدة قبل الاحتلال. وبعد قراءة لمجريات الوقائع على أرض العراق بعد احتلال بغداد، أصبحت صورة المقاومة العراقية واضحة في ذهني منذ شهر حزيران/ يونيو من العام 2003م. فاتخذت قراراً ذاتياً بدراسة هذه المسألة منذ أواخر الشهر المذكور. وبمعرفة بعض الأصدقاء بهذا القرار طلبوا مني التريث في الكتابة لأنها ستكون مغامرة غير مضمونة في أن يبحث أي كان في موضوع لم يكن واضحاً بعد بما فيه الكفاية.
ظلَّ التحذير حاضراً في ذهني في الوقت الذي كنت أجمع فيه الوثائق الضرورية لكي لا يكون بحثي خبرياً فيسبقه الخبر. وإذا سبق الخبر نتائج البحث فلن يوحي أي بحث في المستقبل بالمصداقية. ولهذا استندت إلى رؤية فكرية استراتيجية كنت واثقاً أنها ستوظِّف الخبر لصالحها وليس العكس.
من كان يتابع الخبر من دون وضعه في إطار استراتيجي كان ضائعاً. لكن ما كان يشكو منه الآخرون كان حاضراً في ذاكرتي الاستراتيجية منذ احتلال بغداد في التاسع من نيسان من العام 2003م.
عدة عوامل ومظاهر هي التي أثبتت عندي أن حزب البعث العربي الاشتراكي هو الذي يقود المقاومة، منها أدلة ثقافية استراتيجية أولاً، وأدلة واقعية ثانياً، بحيث تكامل الجمع بين الإثنين للبرهان على أن حزب البعث هو مؤسس المقاومة العراقية وقائدها وليست أية جهة غيره.
أما الاستراتيجية الفكرية لحزب البعث، عموماً، وبشكل خاص نظامه السياسي في العراق، فقد تشبَّع باستراتيجيا الحرب الشعبية ضد الكيان الصهيوني، فكراً ونضالاً، بالنظر والعمل. وهو عندما رفض الإملاءات الأميركية منذ سنين طويلة، وصرَّح أمينه العام، قائد المقاومة، بأنه لن يرضخ لها وأعلن أنه سيقاتل حتى الشهادة فلم يكن يعني أنه سينتصر على الآلة العسكرية الأميركية في حرب نظامية – نظامية، بل سينتصر بحرب من نوع آخر لا يمكن للجيش الأميركي أن يؤمن مستلزمات مواجهتها والصمود فيها.
ولما كان الأمين العام يتميَّز بالعلمية والعملية في مواقفه، لم أحتمل على الإطلاق أنه يطلق التهديدات والرفض على عواهنها. ولما وقعت بغداد تحت الاحتلال، كان من المفترض أن ننتظر حصول الصفحة الأخرى من المواجهة المفترضة، ولهذا كان الموقف –بعد التاسع من نيسان من العام 2003م- أن انتظروا البيان الأول من المقاومة العراقية.
لم يتأخر البيان الأول، فصدر في الثاني والعشرين من الشهر ذاته، يحمل عامليْ تطمين واطمئنان إلى أن الصفحة الأخرى قد بدأت. وهذان العاملان هما: التأكيد على أن العاشر من نيسان كان انطلاقة استراتيجية حرب التحرير الشعبية تحت اسم (قيادة المقاومة والتحرير في العراق) معلنة عن عدد من العمليات التي شنتها مجاميعها ضد قوات الاحتلال الأميركي. أما العامل الآخر فهو البشرى التي زفَّها البيان بأن الرئيس صدام حسين سيتوجَّه برسالة صوتية حول الاحتلال. وقد وجَّه الرئيس رسالته التي يدعو فيها العراقيين إلى الانضمام إلى صفوف المقاومة التي بدأت ضد القوات المحتلة.
وتواصل صدور بيانات (قيادة المقاومة والتحرير) من جهة، ورسائل الرئيس صدام حسين من جهة أخرى. فمنذ تلك اللحظة لم يساورني الشك في أن صفحة المواجهة الأخرى قد بدأت ومن أن حزب البعث قد أعدَّ لها قبل الاحتلال، ومن أنه قائدها الفعلي، وليس ما أخذت الكثير من وسائل الإعلام، حتى الصديقة بينها، تروِّج له وتحدد أسبابه.
كانت بعض الأوساط تنسب المقاومة تارة للمتطوعين العرب، وتارة أخرى لردود فعل العراقيين الغاضبين، وتارة ثالثة إلى غضب ضباط وأفراد الجيش العراقي الذي حلَّه بول بريمر بقراره الشهير. وكان من أقذر ما أخذت بعض وسائل الإعلام تروِّج له أن احتلال بغداد كان بفعل ابتعاد الشعب العراقي عن النظام مما دفع بالعراقيين، شعباً وجيشاً وقوى سياسية، إلى الامتناع عن الدفاع عن العراق خوفاً من عودة الرئيس صدام حسين وحزب البعث إلى السلطة.
وهناك ما يمكن أن نلقي عليه الضوء –على قاعدة إسقاط الذرائع غير الواقعية- والتي تتعلق بنسبة المقاومة إلى فصائل غير حزب البعث. ولأنها تتعلق بتجهيل مقصود لقيادة حزب البعث للمقاومة، عمدت أوساط الإعلام الأميركي مع الإعلام التابع له، إلى نسبة المقاومة إلى فصائل إسلامية وغيرها من الفصائل القادمة من الخارج. وهنا نقول: إن مقاومة، على قاعدة حرب التحرير الشعبية، انطلقت مباشرة بعد التاسع من نيسان، كردود فعل شعبية ضد الاحتلال أو من منظمات كانت محظورة في العراق، ليست بالادعاءات المنطقية على الإطلاق. لأن هكذا مقاومة يلزمها أشهراً عديدة على الأقل لترسي آليات عملها من أسلحة ومقاتلين وتشكيل قيادات عليا ووسطية وقاعدية. وتأتي سرعة انطلاقة المقاومة بحجمها ونوعها لتبطل تلك الذرائع وتسقطها.
وتعززت أدلتي على نسبة قيادة المقاومة إلى حزب البعث، عندما تتالى صدور بيانات متواصلة عن (قيادة المقاومة والتحرير في العراق) ورسائل عن الرئيس صدام حسين، ومواقف سياسية ذات علاقة. ولقد توَّجت قيادة الحزب في العراق بياناتها بالمنهج السياسي الاستراتيجي الذي أعلنته في التاسع من أيلول من العام 2003م. ولهذا تجد كل تلك الوثائق منشورة في الكتاب الأول عن المقاومة تحت عنوان (المقاومة الوطنية العراقية: معركة الحسم ضد الأمركة).
ومن جانب آخر، وكي لا أقع في النقص، تابعت كل البيانات التي كانت تصدر عن فصائل أخرى، لعلَّ فيها ما يقود إلى التخفيف من نسبة قيادة المقاومة لحزب البعث. فقد رصدت ما استطعت إليه من تلك البيانات، فكنت أجد أن الفصائل الأخرى (وهي موثَّقة الأسماء في كتابي الأول) وإلى حدود الزمن الذي أنهيته فيه، أن البيان الأول لكل تلك الفصائل كان يشكل البيان الوحيد الذي لم يتكرر لمرة ثانية.
وكنت كلما أقطع شوطاً في البحث تبرز دلائل أخرى تعزز أدلتي التي وردت في الكتاب الأول عن المقاومة العراقية، الذي أنجزته في أواخر شهر أيلول من العام 2003م. وصدرت طبعته الأولى في شهر تشرين الأول من العام ذاته.
لم يكن يدفعني إلى البحث عن هوية للمقاومة العراقية دافع فئوي، خاصة أنه لم يكن يظهر من بيانات قيادة المقاومة والتحرير، أو من رسائل الرئيس صدام حسين، أية نزعات فئوية، بل العكس هو الصحيح لأنهما كانا يعتبران أن الشعب العراقي بأكمله هو الذي يقاوم، ومن واجبه الوطني أن يقاوم. وإنما كان يؤلمني أن تنسب الأوساط المعادية أو الفئات المضلَّلة، أو تلك التي تريد التضليل لدوافع فئوية إيديولوجية، الخير لغير أهله.
* بعد عام ونصف العام على الاحتلال والمقاومة كطرفين متصارعين على أرض العراق، كيف ترى مستقبل المقاومة العراقية؟
أريد أن أحدد بعض الثوابت في خصوصيات المقاومة العراقية كمدخل لا بد منه في تحديد الجواب عن مستقبل المقاومة، وهي:
1-البعد الفكري الاستراتيجي الذي تتميز به مقاومة أعدَّ لها حزب يؤمن بالكفاح ضد الاستعمار على قاعدة حرب التحرير الشعبية.
2-التعبئة الإيديولوجية لممارسة هذه الوسيلة طوال أجيال عديدة في نفوس البعثيين.
3-الممارسة العملية لمنظمات الحزب في الأقطار التي تعرَّضت للاحتلال من الاستعمار والصهيونية، وخاصة في فلسطين ولبنان والأردن. ويأتي دور المواطن العراقي المميَّز في تلك التجارب حيث كنت ترى المتطوعين العراقيين في شتى فصائل الثورة الفلسطينية بشكل واضح.
4-دعم نظام الحزب، في العراق، الدائم لكل الفصائل التي تمارس أسلوب الكفاح الشعبي المسلح في فلسطين. والتشجيع والدعم للقضية الفلسطينية التي لم تنقطع إلا بعد احتلال بغداد.
5-تزاوج السلطوي مع الثوري في تجربة حزب البعث في العراق. الحزب الذي استفاد من السلطة لتأمين موجبات الثورة والمقاومة ضد الاحتلال الأميركي.
6-التراكم النوعي السريع في تجربة المقاومة العراقية وهو نتيجة الإعداد المسبق لها ولموجباتها البشرية والتسليحية.
7-الرؤية السياسية الاستراتيجية للنضال ضد الاستعمار الاحتلالي ومواجهته. ومن أهم معالمها أن فكر الحزب قد حدَّد بدقة ثوابت الاستعمار. وحدَّدت قيادة المقاومة العراقية ثوابت الاحتلال بالتالي:
-من أهم ثوابت المشروع الأميركي هو احتلال العراق احتلالاً دائماً، مباشرة وبالواسطة. مباشرة ببناء قواعد عسكرية ثابتة لجنود الاحتلال. وبالواسطة، تعيين إدارة سياسية شكلية بعباءات عراقية؛ محمية بأجهزة أمنية عراقية تنقاد لأوامر قيادة الاحتلال وتذعن لها.
-الاستفراد بثروات العراق، خاصة النفطية منها، للسيطرة من خلالها على اقتصاد العالم، حيث يشكل العراق آخر القوى المتمردة على الإرادة الأميركية.
ولأنه لا يمكن إنجاز احتلال دائم يحقق ثوابته الاستراتيجية كان لا بد من أن يؤمن شرطيْ الاستقرار الأمني لجنوده ولأدواته المحلية من جهة، وسرقة مريحة لثروات العراق، ليس على المدى القصير بل على المدى الاستراتيجي الطويل الأمد.
أما في مواجهة ثوابت الاحتلال فقد أعلنت المقاومة العراقية ثوابتها الاستراتيجية، وهي تأتي بالضد مما يريد الاحتلال تثبيته. وهي بالتالي تعمل على منعه من الاستقرار، من خلال تدفيعه ثمناً دائماً ومتواصلاً من دم جنوده ومن دم عملائه الدوليين والعراقيين من جهة أخرى. كما تعمل على منعه من التصرف بحرية بثروات العراق على المستوى المرحلي بتفجير دائم للأنابيب التي تنقل النفط إلى مرافئ التصدير وقد أعلنت قراراها منذ أوائل مراحل الاحتلال. ونفذَّته بدقة. وهي تعمل على منعه من السيطرة على منابعه للاستفادة الاستراتيجية من فوائده الاقتصادية والسياسية في حكم العالم وأمركته.
نتيجة التقابل بين ثوابت الاحتلال وثوابت المقاومة يتقرر مصيرهما معاً. فإذا استمرت المقاومة ونجحت في الجانبين: مزيد من قتل جنوده ومنع دائم من استغلال الثروة النفطية، يشكل ضاغطين أساسيين على أية إدارة أميركية، سواء كانت إدارة بوش أو غيرها، وهما يشكلان ثمناً يدفعه المكلَّف الأميركي: حياة أبنائه (أي الدم مقابل النفط)، وضريبة تمويل الحرب المادية (التي بلغت مئتي مليار دولار حتى الآن، وتشير الأنباء إلى أن جورج بوش سيطلب رصد مبلغ سبعين مليار دولار لتمويل الحرب إذا ما أعاد الشعب الأميركي انتخابه).
فمستقبل المقاومة أصبح واضحاً في فرض التراجع على الاحتلال، فاستراتيجية المقاومة حققت أهدافها حتى الآن، لأن جهدها ونضالها في تصاعد مستمر، ويشكل المزيد من الضغط على الاحتلال. وستصل عنتريات الإدارة الأميركية الفارغة إلى أفق مسدود لن تطول أيامه. والمقاومة العراقية قد حققت الخطوة الأساسية الأولى في السيطرة على المدن الكبرى. ألا يمكن تفسير الخبر الذي نقلته، أستاذ هشام، عن أن جريدة الحزب في العراق عاودت الصدور ويتم توزيعها في شتى أنحاء العراق، إلا بما يؤكد تلك الاستنتاجات؟
* هناك الكثير من الأصوات التي تتهم المقاومة العراقية بافتقارها لبرنامج سياسي.. أنت كواحد من الذين درسوا المقاومة العراقية سياسيا.. كيف ترد على ذلك؟
إن تلك الأصوات قد ارتفعت منذ أكثر من سنة منذ الآن، والدليل على ذلك أنني قد نقدتها في كتاب المقاومة العراقية الأول الذي مضى على صدوره أكثر من سنة. وقمت بالرد عليها من خلال بعض المقالات الأخرى.
إن تلك التهمة كانت ذات علاقة بحملة للتشهير بالمقاومة العراقية لأسباب أكثرها إيديولوجي. لكن لا ننسى أن بعض الأصوات الناقدة، ممن أعرف أشخاصها شخصياً، كانوا ينطلقون بنقدهم من خلفيات الحرص على المقاومة. لكن ما دفع بهم إلى رفع أصواتهم ربما يكون سبب عدم متابعة بيانات قيادة المقاومة العراقية وتوضيحاتها حول مجمل القضايا، وخاصة عدم الاطلاع على المنهج السياسي الاستراتيجي الذي صدر منذ أكثر من سنة.
إن البعض من ذوي النوايا الإيديولوجية المتعصبة، أو من الحريصين على المقاومة، لا يغطي نقدهم –حول هذا الجانب- مبرر ما. فالطرفان يعرفان أن من يقود المقاومة هو حزب يمتلك رؤية فكرية استراتيجية حول المواجهة والمجابهة مع الاستعمار، السبب الذي لا يترك لهم مبرراً في عدوانيتهم ضد الحزب أو حرصهم عليه، من منطلق الجهل بمنطلقاته أو التجهيل بها.
ولكي نعطي بعض الدلائل العملية حول وجود رؤية سياسية، وموقف سياسي واضح، مرحلي واستراتيجي، عند قيادة المقاومة، فلن نجد أكثر إقناعاً من النتائج التي تحققت –عملياً- على أرض العرق، مما أشرنا إليه من زوايا الصراع بين ثوابت الاحتلال وثوابت المقاومة. أليست تلك الصورة تمثل أكثر المناهج السياسية وضوحاً؟
على كل حال لقد قمنا بتفصيل لهذا الجانب بما يكفي من الوضوح في كتابنا الثاني عن المقاومة، (المقاومة الوطنية العراقية: الإمبراطورية الأميركية بداية النهاية)، وأفردنا له حيزاً واسعاً في أحد فصوله.
* تعيش المقاومة العراقية حصاراً شاملاً، وأقساه حصار ذوي القربى، ما هي الآليات التي تقترحها لنصرة المقاومة العراقية ودعمها في الشارع العربي؟
لقد أثار الرئيس صدام حسين، قبل الاحتلال، مسألة في غاية الأهمية أمام بعض الوفود العربية التي كانت تسافر إلى العراق، إما لتأييده في مواقفه أو لنصحه في الاستجابة للإملاءات الأميركية: إن العراق سيخوض المواجهة ضد أي عدوان أميركي، فعلى العرب أن يستفيدوا من تلك المواجهة.
عندما حصر الرئيس طلبه بالاستفادة من المواجهة بالعرب فلكي يستفيدوا من التجربة العراقية. وكان يريد أن يستفيد ذوو القربى من تجربة سيقودها من هو حريص على مصالح الأمة. كان قلب الرئيس على الشعب العربي الذي تخدِّره الأنظمة الرسمية باستحالة مواجهة أعتى قوة في العالم. وكان الرئيس طامعاًً بأن يستفيد الشعب العربي وحركاته الثورية من الحالة الثورية في العراق. ولكن قلب الأنظمة وبعض الأحزاب والمنظمات والشخصيات، وعلى رأسهم أصحاب الثقافة الليبرالية المتحيزين للعدو الأميركي، كانوا –مع الأسف الشديد- من ذوي القربى، لكنهم لم يسمعوا، بل سخروا من الخطاب الثوري ووصفوه بالرومانسي والنرجسي.
وهنا يشدني تغيير مفهوم مصطلح ذوي القربى التقليدي، والذي يعني رابطة الدم، إلى موقع يعني فيه رابطة المصير الواحد. وهي الرابطة التي تقتضي وحدة الوعي القومي للمشاكل والتخطيط لمجابهتها على أساس أن النجاح في المعالجة ينعكس غنماً على الجميع، والفشل في معالجتها ينعكس غرماً على الجميع أيضاً.
لن نعني بتغيير مضمون هذا المصطلح الأنظمة الرسمية أو القوى والحركات والأحزاب التي ترى مصير مصالحها مرتبط بمصير القوى الاستعمارية. بل نتوجه إلى ذوي القربى من الشرائح الشعبية الفقيرة والثورية وحركاتها الصادقة في الخلاص من الاستعمار ممن وعت خطورة المشروع الأميركي الصهيوني. وإذا كان هؤلاء ممن تقصدهم بذوي القربى، فإننا لن نعتب عليهم لأنهم متحفزون دائماً لنصرة الثورة في أي مكان تنطلق منه في أي قطر عربي. وهي تؤيد نضال المقاومة العراقية وتفتخر بنتائجها. لكن ما يلجمها أو ما يشوِّه الصورة أمامها هي تلك الحركات والأحزاب والقوى التي تسيرها رؤى ليبرالية ذات أهواء وثقافة غربية، أو دينية سياسية لا ترى المواجهة مع الاستعمار إلا من خلال نصرة الدين أو المذهب، والتي هي غالباً لا تشرِّع الدفاع عن الأوطان إذا كان من نتائجها أن تساعد نظاماً علمانياً للعودة إلى حكم الدولة التي يدافعون عنها.
وعلى شتى الأحوال، وكأن أبطال وقادة المقاومة العراقية، يعرفون حقيقة الأمور عند معظم من نسميهم ذوي القربى، فقد صمموا على تحقيق النصر، وأعدوا للمعركة عدتها وكأن لا نصير لهم. فإذا استجاب النصير ستؤدي استجابته إلى تسريع الخطى، وإذا تخلَّف أو تلكَّأ أو أهمل واجباته، فلن يكون التأثير أكثر من تأخير زمني بسيط لن تنعكس آثاره بشكل نوعي على نتائج النصر والتحرير.
وهنا، وكي لا نجد أنفسنا كمن فقد الأمل، فلن نتوانى عن التحذير من النتائج الوخيمة التي ستنعكس على الجميع إذا ما حقق المشروع الأميركي ونجح في تحقيق أهدافه. حينذاك لن يحيَّد الاحتلال أياً كان من تدفيعه الغرم والثمن الفادح من حريته وحياته ولقمة عيشه. وساعتئذٍ لا ينفع ندم أو نقد أو ندب.
استناداً إليه نكرر النداء إلى جميع العرب أولاً –من دون استثناء- وإلى جميع الشعوب المستضعفة –ومنهم الشعوب الإسلامية لأنها مستضعفة من دون استثناء- أن تلبي نداء الدفاع عن نفسها –بشتى الوسائل- ضد أخطبوط الأمركة الذي يجتاح العالم من أقصاه إلى أقصاه، وستتم له السيادة على الجميع إذا ما استطاع أن يُرسي دعائم احتلاله في العراق.
ونخص، هنا، بالنداء أولئك الواهمين بأنهم سيحققون مصالح مذهبية على حساب ذبح الوطن. والذين قادهم الوهم إلى التعاون مع الاحتلال، أو مهادنته، منخدعين بوعود جنته. فنقول: لم يرسل المشروع الأميركي مئات الألوف من جنوده، ويدفع مئات المليارات من جيوب مكلفيه، لكي يسلِّم العراق إلى حفنة من المخدوعين الذين خانوا وطنهم، أو اقتيدوا بأكاذيب إقليمية لا ترى إلا بالعين التي تصطاد المصالح الذاتية على حساب أقدس مقدساتها.
* نشرت بعض وسائل الإعلام عن مفاوضات سرية بين البعث والإدارة الأميركية، من خلال دراستك لدور البعث في المقاومة هل ترجح وجود مثل هذه المفاوضات، وما الهدف من وراء الإعلان عنها؟
ليس كل ما تنشره وسائل الإعلام يمكن تصديقه من دون نقده وإخضاعه للتحكيم العقلي. ومن أهم قواعد التحكيم العقلي تأتي مسألة الثوابت المتصارعة.
فبين ثوابت الاحتلال وثوابت المقاومة صراع دامٍ ترجح فيه كفة المقاومة. تلك النتائج تهدد ثوابت الاحتلال بالفشل. والاحتلال قد دفع أثماناً غالية من دمه وجيبه. ولأنه شعر أن كل آماله تتلاشى بعد تدفيعه ثمناً غالياً وجد أنه لا بد من المبادرة إلى التفاوض مع من هو مقتنع بأنه السبب الذي حال دونه وتحقيق نجاح تلك الثوابت.
على العكس مما تعلنه قيادة الاحتلال، من حيث تجهيل دور حزب البعث في المقاومة، فهو على يقين ضمني بأن حزب البعث هو من أعد للمقاومة قبل الاحتلال ويقودها بعد الاحتلال. وللخلاص من مأزقه وجد أن ليس هناك من يفاوضه غير حزب البعث. فلجأ إلى تلك الوسيلة –طبعاً متسلحاً بوسائل كذبه وخداعه- لأنه بأمس الحاجة إلى فترة من الراحة، أقلها من أجل تمرير الاستحقاق الانتخابي الرئاسي.
لمثل تلك الأسباب، قد يكون –حسب التقارير التي تم تسريبها إلى الإعلام- قد استعان ببعض أجهزة ما يُسمى بالأمم المتحدة. ولا شك بأن من يتم تكليفه بمثل تلك المهمة عليه أن يحمل سلة من الإغراءات والعروض. ولهذا حملت –كما تشير التقارير- عدة من الوعود على قاعدة (أهبك من مالك). وليس في تلك السلة ما يدل على أن الاحتلال الأميركي يريد أن يتنازل عن شيء من ثوابته وأهدافه. ومن الواضح أن الاحتلال يريد أن يستبدل عميلاً داخلياً ضعيفاً بظهير قوي يقوده إلى العمالة. وهذا ما لم يخف على قيادة المقاومة التي من المفترض أن تكون تلك السلة قد وصلت إليها لتبدي رأيها فيها.
وهنا أود أن أوضح أن الإدارة الأميركية لا تستطيع أن تعلن عن مبادرتها تلك لما لها من انعكاسات سلبية على أدائها، ولأنها تضيف براهين أخرى تدل على لا شرعية احتلالها، وعلى لا مشروعية ذرائعها التي ساقتها لاحتلال العراق ومن أهمها (اجتثاث فلسفة حزب البعث من المجتمع العراقي)، وإسقاط ديكتاتورية حزب البعث... وإن إعلان التفاوض مع الحزب بالذات هو مقتل حقيقي لمشروعية زائفة ساقتها الإدارة الأميركية لاحتلال العراق من جهة، وسيكون دليلاً على فشل الاجتلال والعجز عن الإمساك في الساحة العراقية من جهة أخرى.
فبالإضافة إلى الانعكاسات السلبية على الرأي العام الأميركي خاصة والرأي العام العالمي عامة، فإن انعكاساتها الأكثر درامية ستنعكس على أداء عملائها ممن استقدمتهم على دباباتها.
وحسب ما سرَّبته التقارير حول هذا الجانب فقد كان رد قيادة المقاومة لا يخرج عن السياق الاستراتيجي الذي حدده المنهج السياسي الاستراتيجي الذي أعلنته منذ التاسع من أيلول من العام 2003م. ومن أهم مبادئه الاستمرار في المقاومة حتى تحرير آخر شبر من أرض العراق. فليست هناك هدنة ولا فسحة من الأمن لقوات الاحتلال حتى خروجها الكامل من العراق.
لن نقول إن ما سرَّبته وسائل الإعلام هو غير واقعي، بل تدل مجمل الأسباب على واقعيته، وإمكانية حصوله. ويزيد من واقعيته أن الرد الذي نُسب إلى قيادة المقاومة على المفاوضين الأممين يتكامل تماماً مع استراتيجيتها المعلنة. وهذا ما يعزز الثقة بحسن قيادتها للمعركة السياسية تماماً كما تقود معركتها العسكرية.
أما عن تسريب تلك المعلومات –فأحسب حتى يثبت العكس من المقاومة العراقية- فهو كشف الضعف الذي تعاني منه إدارة الاحتلال، والذي –إذا تسرَّبت وقائعه سيكشف عن الكثير من الأكاذيب التي ينشرها الإعلام الأميركي والعالمي والعربي المؤيد للمشروع الأميركي. وسيُظهر عجز الإدارة عن مواجهة المقاومة العراقية. لتلك الأسباب يأتي تسريب الخبر، عن المفاوضات، من أوساط المقاومة ليهدف إلى إلحاق الضرر بتلك الإدارة من خلال كشف كذبها وخداعها عن حقيقة الوضع الميداني في العراق.
فالمفاوضات، إذا ثبتت صحتها، فهي ليست إلا حاجة أميركية للخروج من مأزقها. بينما هي ليست حاجة للمقاومة العراقية إلا في حالة واحدة، تختصرها قيادة المقاومة، وهي التفاوض حول طريقة الانسحاب الكلي من العراق. أما تفاصيلها فيحددها الرئيس صدام حسين وقيادة الحزب والدولة الأسرى في سجون الاحتلال الأميركي.
***
رد على تعقيب كتبه حول المقابلة كاتب يدَّعي أنه مقاوم من الأنبار:
يا عزيزي المقاوم الحقيقي من الأنبار، إني في حرج –بالرد عليك- من زاويتين:
الأولى: لأنه ليس هناك مقاوماً حقيقياً ومقاوماً مزيفاً. ولكنني أميَّز بينهما بالدرجة وليس بالنوع. وأعلاهما درجة هو من يقدم حياته في مواطن الخطر الفعلي. وإذا كنت أنت من هذه الدرجة فأنا أدين لك بأنك تقدِّم أكثر مني. ولهذا أجد نفسي في حرج كبير بأن أرد عليك من منطلق التنافس الفئوي.
الثانية: لأنك من الأنبار. و على الرغم من أن المقاومة تنتشر في كل أنحاء العراق. فكل جغرافيا العراق تدين بالجميل للمقاومين الذين يقدمون أكثر من غيرهم، ولهذا ندين للأنبار بالجميل لأنها تعطي في مقاومة الاحتلال أكثر من أية منطقة أخرى.
وعلى كل حال يا عزيزي المقاوم من الأنبار سأتحاور معك على طريقة الود والاحترام، ومن موقعي الأدنى (كمشارك بالكلمة) من موقعك في المقاومة (كمقاتل في الخندق، وأنا أتلمَّس قدسية القتال فيه).
ولهذا أود أن تتَّضح أمامك حقيقة طالما جهلها الكثيرون ممن يستندون إلى رؤية فئوية، وهي أنه ليس كل من يكتب يتحمَّل تهمة الذين (يكتبون تحليلاتهم من المكاتب الدافئة والأثاث الوفير الراقي وتحت مختلف ظروف الراحة والدعة، وينظرون تنظيرات بعيدة عن الواقع والحقيقة). ولهذا أقول لك: إن كلمتي لم تولد إلاَّ في الخندق. وإذا كانت فيها جاذبية الحرارة الثورية، فالسبب يعود إلى أنني قاسيت وعانيت واحترق أثاثي الوثير، وطلَّقته هذا إذا كنت أملكه. وهجرت الدفء هذا إذا كنت قد ملكته في يوم من الأيام . وغادرت التنظيرات التي تستند إلى مقالات لا تحمل إلاَّ التعبئة والتحريض، ودخلت إلى حرم البحث العلمي الموضوعي، على قاعدة أنني لا أثبت حقيقة إلاَّ إذا تكررت على أرض الواقع. كما أنني لا أقبل أي برهان إلاَّ إذا كانت الوثائق تدعمه.
أنا لم أصل إلى النتائج التي وصلت إليها في المقابلة التي نشرها، مشكوراً، موقع (دنيا الوطن)، إلاَّ بعد بحث طويل ومضني من خلال تجميع ما عملت بكل جهد للوصول إليه على ندرة وسائل الإعلام التي كانت تدعم المقاومة العراقية.
يا عزيزي المقاوم الحقيقي من الأنبار
لقد نشرت كتابين حول المقاومة العراقية: الأول بعد مرور أربعة أشهر فقط من احتلال بغداد. والثاني بعد أربعة عشر شهراً. ولأن بعض المواقع قد نشرتهما، وهما: موقع المحرر، والبصرة – نت. أرجو أن تقوم بمراجعتهما لترى أن الوثيقة فقط هي التي اعتمدتها في تحديد النتائج. وقد وضعت قلبي وهواي جانباً، على الرغم من أن هواي –على قاعدة معرفتي باستراتيجيا حزب البعث- كان يضرع إلى الله بأن لا يكون الحزب قد ضلَّ طريقه الاستراتيجي بعد احتلال بغداد.
يا عزيزي ويا من اعتبره قرَّة عيني لأنه يقاوم في الميدان مباشرة. لم ولن أدخل في سجال مع من هم من أمثالك لأنني في درجة أقل من درجتهم في سلَّم النضال والجهاد. ولكنني أدعوك إلى أن لا ندخل في متاهة من يثبِّت صاحبه على قاعدة التسابق والتزاحم والتنافس ليتسلل منها أصحاب النفوس الضعيفة والدنيئة والمتآمرة (كمثل العلقمي الذي نشر ردَّه الثاني على المقابلة في موقع دنيا الوطن). ولكن على قاعدة التكامل والتنسيق والتعاون على كشف الغطاء عن خبث المشروع الأميركي – الصهيوني، وعن الدور الخياني الذي يمارسه بعض المرتزقة والحاقدين والمضلَّلين الذين ساءهم أن يكون حزب البعث قائداً للسلطة السياسية قبل الاحتلال، وقائداً للمقاومة بعد الاحتلال. فهم بعد أن يظهروا للفصائل الإسلامية المشاركة في المقاومة العراقية كرهاً بحزب البعث، سوف يتابعون الذبح بتلك الفصائل، والسبب أنهم لا يرون إلاَّ الاحتلال قائداً لهم ومرشداً على حساب ذبح وطنهم.
يا أخي من الأنبار
أنا مطمئن الضمير إلى النتائج التي وصلت إليها من خلال أبحاثي الموثَّقة. ولا تعتبرها آتية من زاوية إغفال دور كل من حمل بندقية في العراق، فأنا –شخصياً- أدين لكل ساعد يقاوم مهما كانت هويته. وبدوري أدعوك لكي لا تتوانى عن تبيان دور من تعتقد أنه قائداً للمقاومة ولكن ليس على قاعدة اتهامات جزئية، وهو أسلوب يقع في دائرة التشكيك بهذا أو بذاك، الذي مارسته وسائل الإعلام المعادي كجزء من حرب نفسية، والذي ثبت بطلانه وكذبه في المراحل اللاحقة. وليس على قاعدة جزئية لحالات منتخبة من هنا أو هناك. بل أن تأخذ شتى الجوانب التاريخية والإيديولوجية والعملانية في بناء مقاومة كبرى نعتز بها وبنتائجها أياً كان قائدها. ولأن المقاومة لم ولن تكون عشوائية الانطلاقة بل استندت إلى إعداد زمني معقول في إعداد موجباتها.
أيها الأخ المقاوم من الأنبار، إذا كنت أولي المقاومة العراقية اهتماماً فلأنها جزء من الصراع الذي ستنعكس نتائجه سلباً على لبنان إذا –لا سمح الله- حقق الاحتلال أغراضه وأهدافه. وما بحثي عما يكشف الحقيقة عن قائد المقاومة العراقية –في وجه حملات التضليل والتجهيل الأميركية- إلاَّ في سبيل نسبة الحق لأصحابه، وقد عزَّزت البراهين صحة النتائج التي توصلت إليها. وإذا لديكم –من ضمن دائرة المقاومة- ما يصحح أو ينقض صحة الوثائق التي استندت إليها ونشرتها في كتابين، فهاتوا برهانكم. ونحن من الشاكرين.
لكن لي رجاء أخير، وهو أن نتميَّز بكثير من الحذر في الوقوع في فخ التسابق والفئوية أولاً، وأن لا ينال بحثنا في هذا الجانب من همة مقاتل أو مقاوم ثانياً.
***

(53): الانتخابات في العراق تأسيس للفتنة
وهل يُلام الخارج في تصدير العلل إلى جسد الأمة إذا لم تكن تحمل جرثومة الأمراض في جسدها؟
وهل نعالج شرور «الشيطان الأكبر» على طريقة أن نُسقط عليه كل الآثام؟
أليس الشيطان يسكن فينا ويحدد خطواتنا، ويوسوس في صدورنا؟
من المفهوم أن تكون أميركا «شيطاناً أكبر»، ولكن لا معنى لوجود «الشيطان الأكبر»، و«الشيطان الأصغر»، و«الشيطان المتوسط الحجم» من دون بشر يوسوس في صدورهم.
فمن ابتكر مصطلح «أميركا الشيطان الأكبر» كان يجمع من حوله المريدين والمؤيدين والباصمين والاتباع والخدم والحشم. كما أنه مهَّد لتأسيس ذاكرة شعبية يسهل تضليلها والضحك على «ذقونها»، و«وعدها بالجنة»، و«وعيدها بحرارة جهنم». ولما أزف موعد استقبال «الشيطان الأكبر»، كانت ساحة الكثيرين ممهَّدَة لاستقباله، فدخلوا في حاشيته إلى أرض العراق. ومن لم يكن مؤهَّلاً انهالت على آذانه «وعداً» و«وعيداً» لكي تجرَّه إلى جوقة «التطبيل» و«التزمير» و«التسبيح بحمده». فدخل «الشيطان الأكبر» إلى أرض العراق «محرراً» تدوس أقدام جنوده على رقاب «العباد». فطأطأت الرؤوس «الخاوية»، وانحنت للسيد «الشيطان» حتى مرَّغ الرمل أنوفها، فدفنت رؤوسها، أو دفنها «أولو الأمر» و«أولو الفقيه» في الرمل، فتحوَّلت، أو حُوِّلت إلى نعامة. وراحت تحلم ب«جنة عدن» من الديموقراطية «الشيطانية». كما أنها راحت تحلم ب«جنة المذهب»، فانقادت إلى أحلام الواهمين، وإلى أحلام «إبليس» في الجنة.
هل يُلام «الشيطان الأميركي» بأنه داس على الرؤوس والرقاب؟
وهل يُلام «الشيطان الأميركي» بأنه حوَّل العراق إلى «عراق نجفي»، و«عراق فلُّوجي»، و«عراق كردي»؟؟!!
وهل سيُلام «الشيطان الأميركي» غداً عندما يصبح العراق «النجفي» «نجفياً» و«كربلائياً»...؟؟ أو أنه سيُلام عندما يتحول العراق «النجفي»، إلى عراق «سيستاني» و«حكيمي» و«صدري» و«خوئي»؟؟؟
وهل سيُلام «الشيطان الأميركي» غداً عندما يصبح العراق «الفلُّوجي» «رمادياً» و«بغدادياً» و«موصلياً»...؟؟
وهل سيُلام «الشيطان الأميركي» غداً عندما يصبح العراق «الكردي» «طالبانياً» و«برازانياً»...؟؟
كان العراق محصَّناً ضد كل تلك الآفات. وقد اتَّخذ المغرضون، والغوغائيون، والغيبيون، والانفصاليون المذهبيون، من ذلك التحصين مذمَّة وراحوا يردحون بالنظام الذي كان يلجم «شيطان المذهبية»، و«الغيبية»، و«التفرقة العنصرية والعرقية»، ويحول دون «انفلات غرائزها». وقبل أن يستطيع تهذيب ما تبقَّى من «مخزونات» تلك الأمراض، حتى سهَّل «أصدقاء الشيطان الأكبر» دخوله إلى العراق ليقطع الطريق على استكمال تنظيفه من «الشياطين الحقيقية»: المذهبية والعرقية والغيبية والأطماع الإقليمية...
لم يستطع الاحتلال الأميركي أن يتسلل لضرب الوحدة الوطنية العراقية، فالعراقيون كانوا قد تجاوزوا ذلك المرض وأعطوا مثالاً إيجابياً في حياكة نسيج وطني. كما أعطوا مثالاً إيجابياً في حياكة نسيج قومي.
لم ييأس الاحتلال من زرع بذور الفرقة والتفتيت. فلدى الاحتلال خططاً واسعة من البدائل. ولدى الاحتلال «مخزوناً» من «صغار الشياطين» في العراق والإقليم. فما عجز عن بلوغه بالقوة احتال على بلوغه من خلال استحضار «شيطان المذهبية»، فأثار شهية من كان قريباً من دائرة رفضه، فقرَّبهم من دائرة قبوله والتعاون معه. أما كيف حصل ذلك؟ فمن هنا تبدأ قصة الانتخابات في العراق.
أساساً كان «شيطان الطمع الإيراني» في الوصول إلى العتبات الشيعية المقدسة في العراق قراراً جاهزاً للتطبيق والحصول عليه في أية فرصة تسنح له. أما الفرصة فليست ذات علاقة بحدود شرعيتها أو عدمها. ف«الميكيافيلية» الإيرانية كانت حاضرة وجاهزة. وهذا ليس استنتاجاً نظرياً بل هو واقع منظور وملموس. أليس مصطلح «الشيطان الأكبر» إلاَّ أكذوبة طالما جرى تضليل البسطاء والطيبين بها؟
أليست العباءات الإيرانية هي التي تستر عوراته قبل أن يغزو العراق، وفي عدوانه، وفي احتلاله؟
وإذا كنا لن نحاسب إيران على قاعدة «الخيانة الوطنية» فلأنها لا تعترف، من ضمن «أممية المذهب»، بوجود «الوطنية» أو غيابها. وإنما الذين عليهم أن يخضعوا للمحاسبة على تلك القاعدة فهم العراقيون الذين خانوا وطنهم وناصروا إيران أولاً، واستكملوا خطيئتهم بمناصرة «الشيطان الأميركي الأكبر» ثانياً. أما إيران فتتم محاسبتها على قاعدة أنها تتعاطى مع الاحتلال الأميركي بغباء.
فإذا كان المشروع الإيراني مشروعاً «سياسياً مذهبياً» يهدف للحصول على «سلة من المكتسبات السياسية» في العراق، فهي تتجاهل أن المشروع الأميركي لا يرى في الإيرانيين شريكاً موثوقاً، اللهم –نقولها من منطلق حسن النية- إلاَّ إذا كان وراء الأكمة أكثر مما انكشف الغطاء عنه حتى الآن من الاتفاقات الأميركية – الإيرانية حول العراق.
ويزداد الوهم الإيراني عندما يراهن «أولو الأمر» فيه على أن الانخراط في عملية الانتخاب، المرسومة أميركياً بدقة نتائجها، أنهم سيقتطعون حصتهم «المذهبية» من الانتخابات. يتوهمون ذلك وهم غافلون أن المشروع الأميركي لن يسمح باقتطاع الشيعة العراقيين ليسلمَّهم لقمة سائغة لإيران الشيعية، وإذا أراد ذلك فهو سيسلمهم إلى إيران الأميركية. فإما أن يكون شيعة العراق «شيعة أميركا» و إلاَّ فلن يكون لهم أية مكتسبات.
وإذا كانت الحسابات الإيرانية على مستوى كبير من الغباء، أو التغابي السياسي، فإن الحسابات «الشيعية المذهبية» العراقية تقع على مسافة قريبة من «الغيبية»، هذا إذا لم تكن الغيبية بذاتها.
أثلج السيستاني صدرنا منذ أقل من سنة عندما اعتبر أن كل ما أفرزه الاحتلال من بُنى سياسية وتشريعات غير مقبولة أو غير شرعية. ولكن الثلج ذاب بعد معركة النجف التي سُفِّر فيها إلى لندن للعلاج. وقد انكشف الغطاء عن وجود تحولات كبيرة في موقفه. فموقف اللا موقف الذي كان يتميز به كان يترك مسافة للمراهنة على تحولات فيه تصب في مصلحة العراق، ولكن رحلة العلاج السريعة قد حسمت الشك لصالح اليقين عندما تبيَّن أن هناك صفقة خطيرة ظهرت من خلال عدة من المواقف أولها استلامه مفاتيح مرقد «الإمام علي»، وهو استلام لعائدات السياحة الدينية، وآخرها فتواه المستغربة و«الغيبية» حول «وعيده» للشيعي العراقي بدخول النار إذا لم يشارك في الانتخابات المقرَّرة أميركياً، والتي استكملها بمباركته تأييد لائحة مُوحَّدَة.
ومن أكثر الأحلام غيبية، ومثيرة للسخرية، هو الحلم الذي نام عليه عبد العزيز الحكيم، بعد إعلان نتائج استقصاء للرأي في العراق، من أنه هو نفسه «عبد العزيز الحكيم» سيكون رئيساً لجمهورية العراق. سيكون رئيساً للجمهوريةّّ!!
هل سيلبس قبعة أميركية تيمناً بقبعة «محمد بحر العلوم» الإنكليزية؟
أم سيلبس «جبة الفقيه» على القاعدة الإيرانية؟
أليس من المثير للسخرية أن يستغل هؤلاء البشر «عمامة المذهب الشيعي» ليمثلوا أياً كان، ولكنهم لن يمثلوا «الشيعة»؟
وهنا نسألهم: هل ترضى المراجع الشيعية الأخرى، أو هل ترضى نخب الاقتصاد والمال الشيعية، ويجمعون على اختياره رئيساً للجمهورية؟
أليس من المثير للسخرية أن يستغلَّ هؤلاء «العباءة العراقية» ليمثِّلوا أياً كان، ولكنهم لن يمثلوا العراقيين؟
وهنا نسألهم: هل يرضى البرازاني والطالباني ومحسن عبد الحميد، وهم شركاء لهم في مختلف «مجالس الاحتلال»، أن يسلِّموا مقاليد الأمور لهم، وينقادوا للرغبات الإيرانية؟
ليست الانتخابات، التي قرَّرت مواعيدها وأهدافها قوات الاحتلال، إلاَّ فخاً تهدف من ورائه اقتطاف نتائجه لصالحها، ومن أهمها:
-تضليل جديد للرأي العام الأميركي والدولي، والإيحاء بأن قطار الديموقراطية في العراق قد سلك السكة. وما على الناهبين، أو الذين يريدون النهب، أو في نفسهم شيء من اللصوصية، أن يحضروا أنفسهم إلى تقديم فروض الطاعة وعروضها إلى الإمبراطور الأميركي المكلَّل بقشور من الديموقراطية الرأسمالية.
-التأسيس لبنية التفرقة والتشتت والاقتتال العراقي – العراقي: العرقي – العرقي. والديني – الديني. والمذهبي – المذهبي. والشللي في داخل الأعراق والمذاهب. ويراهن الأميركي على أنه حتى يستفيق هؤلاء أو أولئك من أضغاث أحلامهم يكون قد سرق ما استطاع، ونهب ما وصلت إليه يداه. ويكون الفخ قد التقط الفريسة وتركها تصول وتجول محاولة الفكاك من بين أنيابه.
فلعلً الطريدة تعي ماذا تفعل، ولعلَّها تكتشف أنها تسير بغباء إلى الفخ الأميركي المنصوب بدقة، فتبتعد عن الفخ وحبائل الصياد معاً.

(54): أبو عمار رائد الثورة الفلسطينية
في وداعك أيها الراحل الكبير يحلو لي أن أخاطبك بصفتك الثورية، وريادتك للثورة الفلسطينية المعاصرة. أكثر من أن أخاطبك كرئيس لدولة أو سلطة.
كثيرون هم رؤساء الدول والأنظمة الذين لم يسطروا في تاريخ شعوبهم أثراً أكثر من إشغالهم لوظائف إدارية. وقليلون هم الذين شغلوا مواقع في الثورة فحفظ لهم التاريخ، ولشعوبهم، أكثر الصفحات إشراقاً.
إن شغل المواقع الإدارية، في تاريخ الدول، لهو استئناف لحركة تقليدية روتينية لواقع جامد لا يتغيَّر. ولكن شغل المواقع الثورية هو استئناف لحركة التغيير المتواصلة، والتي –بدونها- لا يمكن للشعوب أن تتجه نحو تجديد المجتمعات وتطويرها.
يكون هذا الأمر أكثر لفتاً للنظر، وأكثر الأمور الناصعة التي يسطرها التاريخ في حياة الأمم والشعوب، إذا لعب القادة دورهم في ظل دول وسلطات لا تتعرَّض إلى عدوان خارجي. لكنها تكون أكثر تأثيراً وحيوية ونصاعة إذا ما كان القادة يمارسون دورهم في التحرر من العدوان الخارجي. والفرق بين الحالتين هو أن الصنف الأول يقود معركة التغيير من الداخل، أما في الحالة الثانية فهي قيادة الشعوب والأمم في معركة التحرر من الخارج أولاً ويستأنونفها في معركة التحرر من الداخل ثانياً.
لقد وصلت يا أبا عمار إلى رئاسة السلطة السياسية من خندق الثورة، واستأنفت دورك الثوري وأنت رئيس لسلطة سياسية، لذا فأنت محسوب على صُنَّاع تاريخ الثورة الفلسطينية الحديثة، ورائداً لها في مرحلتها المعاصرة. ومن هذا الموقع أخاطبك، وأسهم في توديعك، وأدعو إخوانك في عموم أرجاء فلسطين (السلطة)، وفلسطين (ما قبل العام 1948)، وفلسطين (الشتات)، إلى أن يتذكروا –باستمرار- أن قضية فلسطين لم تنتقل بعد من خط الثورة إلى خط السلطة، فأمامهم والسلطة مسافة طويلة لا يمكن النجاح بسلوكها إلاَّ بالمحافظة على الثورة أولاً وقبل أي شيء آخر.
أبا عمَّار، أيها الراحل الكبير
لقد وجَّهت الطلقة الأولى، في 1/ 1/ 1965، إلى العدو الصهيوني، فكنت حامل شعلة الثورة الفلسطينية في الأولمبياد الثوري الفلسطيني والعربي. وحاول الكثيرون أن يحبطوا المشوار من بدايته، ولكن وجدت إلى جانبك من كان يعرف أهمية الثورة والكفاح الشعبي المسلح وتأثيراتهما الكبيرة في إعادة التوازن بين قوة الشعوب الضعيفة والقوى التي تمتلك كل أنواع التكنولوجيا. وباستمرار المشوار الطويل وتواصله على الرغم من نصب الكثير من العوائق والحواجز والأفخاخ والمطبات والمؤامرات، حسب المخططون لها أن تقصير المشوار واحتواء سالكيه قد يتحقق بأسر الثورة على بعض أرض فلسطين وقد يمثِّل وسيلة الخلاص منها.
فظنوا أن سلطة منقوصة السيادة قد تصبح فخاً يتلهى به أبناء الثورة فترتاح قوى التآمر بهم ومنهم حينما يتصارعون على موقع هنا أو موقع هناك. ولكن ما كان مخططاً له لم يبصر النور، وإنما كان اندلاع الانتفاضة الشعبية التي ارتقت إلى مصاف المقاومة العسكرية هو البديل المنطقي. وهذا دليل على أن الثورة الفلسطينية لم تقع في فخ السلطة. فكان ما حصل يشكل الحصانة الأساسية التي حالت، وستحول، دون استفراد العدو بالقرار، ورفض الأثواب السلطوية المفصلة على مقاييس مصالحه.
لا نقول هنا، بدفن السلطة التي كانت مرسومة كفخ، ولكننا ندعو للمحافظة عليها. فهي أحد المكاسب المرحلية للشعب الفلسطيني. ولكن ما نحذِّر منه –إذا كان يحق لنا التحذير- أن يقع الصدام والطلاق بين السلطة والثورة، لأن النتيجة –في مثل هذا الاحتمال- هو خسارتهما معاً. والطريق للمحافظة عليهما هو أن يكون الدليل الثابت لمتابعة المشوار دليل الثورة الدائم. فليتابع السياسيون مشوارهم شرط أن يكونوا حريصين على دليل الثورة في صراعهم المستمر مع العدو الصهيوني.
أبا عمار، أيها الراحل الكبير
أنت عرفت، بكامل وعيك ومشاعرك، أن الثورة القومية قد اندلعت. وهي تسير –في أهم حلقاتها الراهنة- على أفضل ما تكون أداءً وفرزاً للنتائج والتداعيات على المشروع الإنكلو أميركي الصهيوني. تلك هي المقاومة العراقية، مع مؤسسها ورائدها وقائدها صدام حسين الأسير في معتقلات الاحتلال الأميركي.
أنت عرفت أن كل حالة ثورية تستند إلى الكفاح الشعبي المسلح تشكل رافداً يصب في مصلحة فلسطين، قضية العرب المركزية. وعرفت أيضاً أن كل طلقة تُصوَّب إلى العدو المشترك يصب في مصلحة الثورة العربية من المحيط إلى الخليج. لهذا كله لا نرى أن الحصول على حقوق العرب السياسية يمر من دون تعزيز الحالة الثورية في كل بقعة على الأرض العربية.
فمن هدف الحصول على «فلسطين حرة عربية من النهر إلى البحر»، وهدف «تحرير كل شبر من العراق وخروج آخر جندي أجنبي»، لا يمكن لأي منهما أن يستقيم، فالنزول دونهما يجر إلى تنازلات متواصلة لن تنتهي. فالعدو صاحب استراتيجية واضحة ومتكاملة منذ وعد بلفور ومؤامرة سايكس بيكو وحتى الآن.
فمن كلمة وداع نوجِّهها للثائر الراحل ياسر عرفات إلى الدعاء بتحرير صدام حسين من الأسر على أيدي رفاقه في المقاومة العراقية بتحرير العراق كاملاً. نشد على أيدي رفاق الدرب في المقاومتين الفلسطينية والعراقية ونعزِّيهم بوفاة ياسر عرفات رائد المقاومة الفلسطينية المعاصرة، ورائد كبير من رواد المقاومة العربية.
***


(55): ديموقراطية القتل تجتاح الفلوجة
لما فتح الأميركيون الطريق لرئاسة ثانية أمام جورج بوش، لم يتأخر المذكور عن إعادة إعلانه عن استكمال مشروعه في ترسيخ الأسس «الديموقراطية» ؟؟!! في أفغانستان والعراق. ولم يتأخر التنفيذ عن الإعلان، فبدأ جورج بوش بتصدير «ديموقراطيته» إلى الفلوجة.
من شدة عشقه للشعار، جنَّد جورج بوش عشرات الآلاف من مرتزقته، وأمرهم بحمل الديموقراطية إلى الفلوجة، وكان حاملوها من الذين أتوا من كل حدب وصوب:
-من الجنود الأميركيين الذي لا يجمعهم مع مشروعه أية علاقة إيديولوجية وطنية أو طبقية. وما يجمعهم معه هو أن الشركات التي يعمل لمصلحتها كانت سخية في دفع الرواتب والجزاءات والعطاءات المالية لهم.
-المرتزقة الفعليون من الذين أتوا إلى العراق للدفاع عن ضخامة رواتبهم التي بلغت بضع العشرات من الآلاف من الدولارات. وهي إغراءات فعلية لأمثالهم.
-المرتزقة من فيالق «البدريين»، و«الطالبانيين»، و«البرازانيين»... وهم من أشد الجميع قذارة، لأنهم يعلمون أنهم ينهشون بلحم أبناء وطنهم.
-«لصوص بغداد وعموم العراق» ممن ساهموا في حمل الديموقراطية إلى أهل الفلوجة طمعاً بنهب أموالها وسبي ماجداتها، كهبة لهم من «علاوي» و«داوود»...
ومن أجل سمعة «صاحبة الجلالة» «ديموقراطية أصحاب القرن الأميركي الجديد»، التي يغزو جورج بوش العالم من أجلها، أمَّن لرسله إلى الفلوجة، كل وسائل التكنلوجيا الحديثة. ومن أهمها: دبابات إبرامز، وطائرات الشينوك والأباتشي، والأف 16 و18، والدي سي...
أما من أنواع الذخيرة، فلا عين رأت، ولا أذن سمعت، عن مقدرتها في التدمير والخراب والقتل.
قبل أن يأمر جورج رسله بإدخال «موكب الديموقراطية» إلى الفلوجة، كلَّف واليه «علاوي» وكيله الحصري في تصدير سلعة الديموقراطية الأميركية إلى العراق، بأن ينصح أهالي الفلوجة بقبول السلعة الأميركية. ولكن رفض أهل الفلوجة تلك السلعة لأنهم يعرفون «سُمَّها» وتأثيراتها القاتلة، جعل صبر علاوي ينفذ، فأمر (وهنا تستوقفني حلاوة أمر علاوي المأمور)، بتصدير السلعة رغماً عن أنف أهل الفلوجة إلى الفلوجة، لأنهم –للأسف- لا يعرفون مصلحتهم أكثر من جورج وأياد. ولن ننسى «قاسم داوود» أيضاً...
من صدمات الترويع والرعب،
إلى تدمير مستشفى الفلوجة كي لا يسهم في معالجة «أعداء الديموقراطية»، لأنهم رفضوا تناول «دواء ديموقراطية جورج»، فهم لا يستأهلون وجود أي مستشفى.
إلى تعطيل شبكات الكهرباء كي لا تنير الدرب أمام من لا يريدون أن يروا «أنوار ديموقراطية جورج»،
إلى قطع المياه عن الذين «بُحَّ صوت جورج» وهو ينصحهم بشرب الماء من «حنفياته الديموقراطية» فرفضوا. فعليهم أن يشعروا بألم العطش لعلَّهم يقتنعون بماء ديموقراطيته الزلال.
إلى قطع لقمة العيش عن أفواه أهل الفلوجة، لعلَّهم –من معاناة التجويع القسري- يرتدعون عن ممارسة ديكتاتوريتهم بالرفض. ولعلَّهم يعرفون –في المستقبل- أنَّ عليهم ألاَّ يفكروا إلاَّ بملء معدتهم. أما التفكير باستقلالية القرار السياسي والشعور الوطني والدفاع عن الكرامة فسوف تأتيهم «معلَّبة» من مصانع نبي الديموقراطية القابع على قمة هرم شركة «هاليبورتون» وإخوتها وأخواتها.
لم يسلم هواء الفلوجة من التغيير. هواء الفلوجة يفوح بعطر الكرامة والتحدي ورفض المحتل والقتال ضده حتى الرمق الأخير. فعبَّأه جورج بكل المكونات السامة، من إشعاعات نووية أوغيرها، في محاولة للقضاء على ميكروبات «الإخلاص للقوم والوطن» التي يعشقها أهل الفلوجة. فلعلَّ «إشعاعات الديموقراطية الأميركية النووية» تقضي على «رئتين» لم تتعوَّدا على استنشاق هواء «ديموقراطية جورج».
دمَّر «رُسُل جورج» كل بناء وكل بيت، ربما يكون البناء القديم له تأثير السحر على أهل الفلوجة، وقد يكون هو السبب في إبداء رفضهم لسلعة جورج الديموقراطية. فالعلاج هو في تهديم الحجر لعلَّ شركة «هاليبرتون» تحظى –وهي سوف تحظى- بعقود «إعادة إعمارها»، وبإعادة الإعمار قد تبنيها الشركة بحجارة من الديموقراطية الأميركية، فتمتنع –بها- عن ممارسة الرفض، وتتعلَّم سماع «اللاءات»، وتستأنس بـ«الإذعان» و«الطاعة» لرسول الديموقراطية في العالم ونبيها.
وما أن ابتدأ «رُسُل جورج» في الدخول إلى الفلوجة، حتى أخذوا يتساقطون بالمئات.
عجيب أمر أبناء الفلوجة، بمقاتليهم، وماجداتهم، وأطفالهم. يمتنعون على حوار «رُسُل الإمبراطور». عجيب أمرهم فهم يرفضون «ديموقراطيته».
وكلَّما قاوم هؤلاء، كلَّما شدَّد الإمبراطور جورج على استخدام كل وسائل «القتل الديموقراطي»، فامتلأت شوارع الفلوجة بالجثث. ولم يستفرد «وحوشه» بممارسة القتل، فشاركته الكلاب الضالة في نهش تلك الجثث في ظلام الليل. وهل هناك فرق كبير بين «حيوانات جورج» والحيوانات الحقيقية؟؟!!
لا فرق أبداً، ف«حيوانات جورج» يقتلون البشر ولا يأكلون جثثهم. أما أولئك فلا يقتلون البشر ولكنهم ينهشون جثثهم.
يا أحبتي في الفلوجة
يا كل المتمردين على جورج بوش، وأذنابه الدوليين.
يا كل المتمردين على جورج بوش، ومساعديه من خونة الداخل.
يا كل المدافعين عن حياض الفلوجة، على الرغم من القتل والتدمير والتجويع والتعطيش والتمويت وتسميم الهواء. نعتذر منكم. فانتم تقدمون كل شيء بينما نحن عاجزون عن تقديم أي شيء.
إننا نشعر أننا نتنفس الهواء النقي من نضالاتكم، من تضحياتكم، نقتات الحرية من جوعكم وعطشكم والظلام الذي تعيشون فيه. ولكن...
إعلموا أن المناضلين من أجل الحرية هم قلة ولكنهم أقوياء. ولقلتهم، وكثرة المتخاذلين والمتقاعسين واللا مبالين، فهم طلائع هذه الأمة من دون منازع.
فالله معكم، وقلوبنا عليكم وعلى أطفالكم المعذَّبين، كما على ماجداتكم اللواتي امتحنهم الصبر حتى ملَّ من صبرهن. وتحية لكم من الأعماق، فأنتم الطلائع بيننا. وسوف تستمر المسيرة حتى القضاء على آخر أمل لـ«المحافظين الأميركيين الجدد»، والأميركيين الذين جددوا لجورج بوش وبايعوه على الاستمرار في تصدير «ديموقراطية القتل».
***

(56): جريمة اقتحام الفلوجة ووسائل الاختزال الأميركي
19/ 11/ 2004م
على قاعدة تهريب الأسباب الحقيقية لقضايا الصراع العربي - الأميركي – الصهيوني يتلاعب الإعلام الأميركي، والإعلام العربي المتأمرك، بصورة الواقع على أرض الفلوجة. فيعمد إلى اختزال الأسباب الكبيرة بالنتائج الصغيرة. والجرائم الكبرى بالجرائم الصغرى.
إن جريمة الحرب الكبرى التي ارتكبتها إدارة «القرن الأميركي الجديد» تمثَّلت بالعدوان على العراق واحتلاله. وهي حقيقة أمسكت بها حركة الضمير العالمي. وغابت رؤيتها، أو غُيِّبت، عن أعين المثقفين الليبراليين العرب خاصة مالكي وسائل الإعلام منهم، ومن يأوون من كتَبَة في تلك الوسائل.
ولتغييب معالم تلك الجريمة، قام الإعلام الأميركي – الصهيوني بطريقة الاختزال بتوجيه الأنظار وحشو الذاكرة بأن ما يجري في العراق اليوم ليس إلاَّ صراعات بين حكومة عراقية، (أضفى الإعلام المتآمر والمتواطئ الشرعية عليها)، ومتمردين على تلك الشرعية. وحسب ذلك المنطق تحوَّلت حكومة فيشي، وقرضاي، العراقية إلى شرعية يجب تثبيتها، كما تحوَّلت المقاومة العراقية إلى مجموعة من المتمردين والإرهابيين الذين يمارسون طرقاً غير شرعية في إسقاطها.
وبمثل هذا التصوير الإعلامي الخبيث، تحوَّلت قضية احتلال العراق، كجريمة كبرى، إلى مجموعة من القضايا الجزئية التي لا توحي بأن هناك احتلال كامل وشامل لأرض وطنية. ولهذا قامت وسائل الإعلام المعادية بتوجيه الأنظار تارة إلى النجف وكربلاء، وتارة أخرى إلى الفلوجة وسامراء، وثالثة إلى الموصل وكركوك.
إن تجزئة معادلة الاحتلال والمقاومة واختزالها إلى معادلة صراع بين شرعية ومتمردين يظهرون في هذه المنطقة العراقية أو تلك، كانت مدخلاً إعلامياً خطراً لتنظيف ذاكرة الرأي العام من كل آثار الجريمة الكبرى.
بالأمس كانت المعادلة الجزئية تظهر بشكل صراع بين الحكومة العراقية وأهالي النجف وكربلاء، واليوم تظهر معادلة الصراع وكأنها بين الحكومة الشرعية والمتمردين في الفلوجة. وبمثل تلك التجزئة تظهر قوات الاحتلال الأميركي – البريطاني وكأنها تقوم بواجب قانوني وإنساني كبير عندما تساعد ما يسمى بالحكومة العراقية على بسط شرعيتها ضد فلول من المتمردين على شرعيتها في الفلوجة.
وهنا علينا أن نثبِّت حقيقة استراتيجية هي أن نعيد التأكيد على أن الصراع الدائر اليوم على أرض الفلوجة هو صراع بين الاحتلال كله والشعب العراقي كله.
وعلى قاعدة الاختزال الإعلامي، الذي يطبقه الإعلام المعادي والمتواطئ يعمل من أجل تغييب السبب الحقيقي والتلهي بالنتائج المتنافرة والمشتتة، وذلك باختزال جريمة تدمير الفلوجة بإحالة جندي أميركي إلى المحاكمة بتهمة قتل جريح في أحد مساجد الفلوجة.
من متابعتنا للخبر، ومتابعتنا إلى كثرة الترويج له وكأنه حادث إجرامي ارتكبه جندي أميركي تحت تأثير التوتر النفسي الذي يعاني منه، كاد أن ينغرس في الذهن انطباعان، وهما:
الانطباع الأول: تغييب الإيديولوجيا الأميركية في قتل السكان الأصليين وإبادتهم: ومحو صورة الممارسات الوحشية لجنود الاحتلال، وهي ممارسات ليست لها أسباب فردية، بل هي وسيلة استراتيجية من وسائل تصدير مشروع أمركة العالم القائمة على سياسات «الضربات الاستباقية»، و«نقل المعركة إلى أراضي الخصم لمنعها من الوصول إلى الداخل الأميركي»، والتي تُدار بإيديولوجيا «صراع الحضارات»، على قاعدة الصراع بين «معسكريْ الخير والشر».
وكأن جريمة قتل أحد الجرحى في الفلوجة كانت غيمة صغيرة في سماء صافية.
وكأن حمم التكنولوجيا الأميركية كانت برداً وسلاماً على بيوت الفلوجة وأبنائها.
وكأن الأوامر المعطاة لوحوش أميركا أن «يطلقوا النار على كل شيء يتحرك في الفلوجة» تمثِّل أرقى وسائل الديموقراطية والرحمة.
وكأن آلاف القتلى من أهالي الفلوجة الذين سقطوا بفعل الوحشية الأميركية لا تمت إلى عناصر الجريمة بصلة.
وكأن ستة آلاف منزل هُدِّمت لا تمثل عناصر جريمة موصوفة!!!
الانطباع الثاني: تفريغ ذاكرة الرأي العام الدولي والعراقي من نتائج اقتحام الفلوجة المأساوية: إن الذين كانوا يتابعون أخبار الفلوجة، وكانوا يتساءلون عما يدور في داخلها، ويخمِّنون نتائج الاجتياح البربري، وهم لا يعلمون شيئاً بسبب التعتيم الأميركي على وقائع الأمور ومجرياتها. جاء توسيع نشر خبر إحالة الجندي الأميركي المجرم إلى محكمة لتحاكمه بتهمة ارتكاب جريمة حرب، فإذا بمن كان ينتظر معرفة حقيقة ما كان يجري، لا يجد أية جريمة أميركية جماعية سواء كانت كبرى أو صغرى، إلاَّ جريمة قتل جريح عراقي واحد على يد جندي أميركي واحد. وبمثل هذا الإخراج الإعلامي تكون وسائل الإعلام الأميركي وكأنها اختزلت جريمة اجتياح الفلوجة بكل نتائجه المأساوية، وحصرتها بقتل جريح عراقي واحد، وبها تقوم وسائل الإعلام بتفريغ ذاكرتنا من كل الجرائم التي كنا ننتظر أن نسمع عنها، والتي كانت كثيرة وكثيرة جداً. كما أن الإعلام الأميركي، أو المتأمرك، اختزل كل «فلسفة القتل» التي تستند إليها إيديولوجيا أصحاب «القرن الأميركي الجديد»، بإدارة جورج بوش، وهي أسباب تجرِّم النظام الأميركي بأكمله، إلى جريمة واحدة ارتكبها جندي تحت ضغط نفسي.
وكي لا نتوسَّع ونستطرد في مسألة جزئية، على أهميتها ودلالاتها، لا بدَّ من أن نرفع تساؤلات سريعة:
-هل لا يمكن لأصحاب القلوب الرقيقة إلاَّ أن يتألموا لحال ذلك الجندي الأميركي، الذي تحوَّل إلى وحش كاسر، إذا ما عرفوا سبب «توتره النفسي»؟
-وهل لنا إلاَّ أن نخفف الحكم عليه لأنه رأى أمه واخته وزوجته وأبيه وأطفاله (الساكنين في أرضهم التي ورثوها في الفلوجة!!)، وكأنهم تعرضوا لأذى الحصار والتجويع على أيدي (المتمردين والإرهابيين من سكان الفلوجة الأصليين!!)؟
-وهل يتغير الحكم عليه إذا عرفنا أن ذلك الجندي هو من أحفاد من استعمر أميركا وطهَّرها من «الهنود الحمر» سكانها الأصليين. وهل هناك ما يردعه عن تطهير العراق من سكانه الأصليين أيضاً؟ وهل يردعه الياور وعلاوي والنقيب والشعلان؟ وهل يردعه «الحكيم المحكوم» و«الطالباني المطلوب»، و«البرازاني الصهيوني»، و«عبد الحميد غير المحمود»...؟
وإلى مزيد من التعتيم على سبب احتلال العراق الحقيقي. كما إلى مزيد من تنظيف ذاكرتنا بملاحقة الخبر دون تحليل أو تفسير. ومزيد من تجهيل طبيعة الصراع. سنبقى غرقى في بحر الظلمات. وستبقى جماهير الشعب فينا مضلَّلة ومسترخية ولامبالية إذا بقي أولو الأمر في «منتديات أحزاب حركة التحرر العربية» يقبعون في أوكار الانفصال عن قضايا أمتهم يتجادلون حول «جنس الملائكة».
بلى ستبقى طلائع المقاومة العراقية، وطلائع المقاومة الفلسطينية، تلك الجياد التي تنعقد على نواصيها طلائع النصر.
بلى ستبقى قبضات أبطال الفلوجة أمثولة فاقت الأسطورة بواقعية بطولاتهم، وهم يقاتلون العدو الأميركي -حتى الآن- ويُنزلون به الخسائر البشرية على الرغم من أن جنرالات الاحتلال، وأذنابهم من وزراء (معطوفين على رئيسهم) أعلنوا أن رايات الاستسلام ارتفعت فوق سماء الفلوجة.
***

(57): هل لخطاب الغضب مكان في الإعلام؟
27/ 11/ 2004م
في أحيان كثيرة تساورنا هواجس الوقوع في أخطاء تكتيكية أو استراتيجية في شكل الخطاب أو مضمونه حينما نتناول موضوعة الاحتلال الأجنبي لبلادنا. أو حينما نريد أن نسهم في حملة إعلامية تساعد مقاومة الاحتلال في مهمتها.
من القواعد الثابتة في الإعلام أن يتميز بإبراز الحقيقة لدحض مزاعم القوات المحتلة بالحجة والواقعة والبرهان والدليل. وتلك من أواليات التدليل على وعي حقوقنا من جهة، ومخاطبة الرأي العام من أجل إقناعه بالحقيقة الموضوعية من جهة أخرى.
ولكن تواجهنا في أحيان كثيرة وسائل التزوير والكذب والدجل في الخطاب الذي تستخدمه قوات الاحتلال لإقناع الرأي العام بشرعية ما تقوم به في البلد الذي قامت باحتلاله. تلك الوسائل التي –باستمرار استخدامها عن سابق تصميم- لا بدَّ من أنها تثير الاشمئزاز ثم الاستفزاز بما لا يدع للوقار مكان في خطاب الرد عليها.
وهنا يرتفع السؤال: هل يكون الوقار هو الفاصل والحكم في المخاطبة بين الاحتلال والمدافعين عن الأرض الخاضعة للاحتلال؟
تلك هي الحكاية التي تدور أحداثها على أرض العراق. ومنها تساورنا الكثير من الهواجس، وبالتالي الرغبة في مجافاة الوقار وتطليقه –أحياناً- واستخدام قاموس من المصطلحات التي تليق بالكَذَبَة والمحتالين وأرباب الدجل والتزوير من مسؤولي الإدارة الأميركية والبريطانية والصهيونية، وكل من لفَّ لفَّهم ممن ينتسبون زوراً لهذه الأمة على الصعيدين الوطني والقومي.
إن صانعي القرار في إدارة جورج بوش، الرئيس – الواجهة، في زمرة أصحاب «القرن الأميركي الجديد» لن يستطيعوا الحصول على شرعية ما يقومون به إلاَّ بالكذب والدجل والتزوير. ألم تنص تعليماتهم إلى مرؤوسيهم على الوصية التالية «إكذب، واستمر بالكذب حتى يصبح الكذب صدقاً»؟
لم يستطع مناوئو أصحاب ذلك المشروع، أميركيين وبريطانيين، أن يحافظوا على أعصابهم دوماً، على الرغم من أنهم على مقدار من الموضوعية والوقار، بل راحوا يطلقون عليهم سيلاً من الشتائم بنعوت وأوصاف.
لماذا فعل أولئك ما فعلوا؟
نحسب، جواباً على التساؤل، أن الرزانة والهدوء والموضوعية ليست مسموحة في مواجهة المجرم والكذاب والمحتال وعاشق التزوير، بل لا بدَّ من أن تقول للمجرم «أنت مجرم»، وللكذاب «أنت كذاب».
صحيح أن البرهان على الجريمة هو خطوة أولى على طريق التشنيع بالمجرم، ولكن علينا أن لا نستنكر التشنيع به تحت حجة المحافظة على الموضوعية، بل إن الموضوعية لا تنفي أو لا تنزعج من التشنيع طالما أن التهمة أصبحت ثابتة وعليها أكثر من دليل أو برهان. وهنا تصبح الشتيمة عاملاً من عوامل الموضوعية.
فدعوني الآن أشتم وأخرج عن خط الوقار من فترة إلى أخرى. لأن المواجهة مع السفيه بمصطلحات السفاهة تصبح واجباً نؤديه في مقاومة إدارة الكذب والتزوير الساكنة في البيت الأبيض.
وأنا شاخص أمام الشاشة الصغيرة، أو أمام التقارير الإخبارية المصورة، لأرى المناظر التي تقشعر أمامها الأبدان وتنفعل أمام رؤيتها أكثر الأعصاب برودة لا يمكنني أن آتي بالحجة والبرهان لأبقى هادئاً ساكناً ساكتاً من دون أن تستثير غضبي لأجرَّد زوجة جورج بوش من ثيابها لتستعرضها العيون كما تستعرض نساء فلسطين والعراق.
لا أستطيع أن أرى أطفال الفلوجة وكل أطفال العراق جثثاً تنتشر في الشوارع التي امتلأت بركام بيوتهم، ليحسبهم جورج بوش من «المتمردين» أو «الإرهابيين»... من دون أن تنتابني رغبة في أن أرى أطفال جورج بوش وطوني بلير... وهم تنهمر دموعهم على التشنيع بجثة والدهم.
لا أستطيع أن أرى أطفال فلسطين المذبوحين برصاص الحضارة «الصهيونية - الأميركية»، ونعوش الشهداء في فلسطين الذين ذبحتهم رصاصة رحمة بني صهيون، من دون أن أغضب –حتى الحقد- على شارون وأطفاله وأطفال كل المسؤولين عن «حضارة القتل».
لن أخشى بعد الآن من اتهامي باللا موضوعية، ومعاداة «الحكمة» و«ديموقراطية القتل». ولن أخشى أن أكون حاقداً على كل يد ضرَّجت أرض الفلوجة بدماء أبنائها، وحتى المدافعين عنها من دون أبنائها.
للفلوجة وجه آخر غير وجه البطولة. ولكل مدينة مقاومة وجه آخر غير وجه البطولة. وذلك الوجه التي يخشى العدو الأميركي من الكشف عنه، أو النأي به عن عدسات التصوير، هو وجه المأساة الإنسانية التي ترتكبها «آلات القتل» من «سلاح متقدم وعصري»، ومن «وحوش المارينز، والبلاك ووتش».
هل أنت أيتها الماجدة المقتولة في شارع من شوارع الفلوجة، والتي تتحدى جثتك دبابة ال«إبرامز» متمردة على الديموقراطية؟ وهل أنت من فلول «الزرقاوي»؟ وهل أنت من فلول «الإرهابيين»؟ وهل أتيت من تكساس أو أوكلاهوما إلى أرض العراق لتقتلي جنود جورج بوش وطوني بلير؟ هل أتيت لكي تغتالي أمن رامسفيلد وبول ولفوويتز وكونداليزا رايس؟
هل أنت أيها الطفل الذي أرداك «وحوش» جورج بوش، و«بلاك ووتش» طوني بلير، تحت أنقاض منزلكم، قد أتيت من واشنطن لتدافع عن البيت الأبيض في الفلوجة؟
هل أحصتكما جداول «علاوي»، و«قاسم داوود»، و«ابراهيم الجعفري»، و«محسن عبد الحميد»، و«عبد العزيز الحكيم» من بين الألفين وستماية إرهابي قتلتهم قواتهم العميلة في شوارع الفلوجة؟
وهل ستدخلان «جنة السيستاني» لأنه لن يكون لكما نصيب في المشاركة في الانتخابات القادمة؟
تقولون ابتعد عن الحقد، ولا تسمح له بالدخول إلى قلبك. وتدعونا إلى سلوك الكلمة الطيبة والموعظة الحسنة؟
قولوا –أيضاً- لجورج بوش أن يبتعد عن ديموقراطية القتل. قولوا له أن ينسحب من العراق ليتركها إلى أهلها الأصليين، فالعراق ليست له أو لأبيه من قبله، فالعراق للعراقيين ولن يقبلوا بأقل من طرده من أرضه الطاهرة، ولا يشرِّف أرضها أن يدوسها وحش من وحوشه الكاسرة.
قولوا له إن الله لم يكلفه بحسم معركة الخير ضد الشر على أرضنا.
قولوا له إنك وإن أتيت –كما تزعم- إلى العراق، لتدفع الأذى عن مواطنيك قبل أن يصل إلى أبواب البيت الأبيض. وإلى شارون الذي يؤمن با«الدم مقابل الدم»، أن في العراق وفلسطين لن يرضى شعبنا إلاَّ أن يثأر: «الدم بالدم، والعين بالعين».
تقولون لا تحقد، ولا تغضب، ولا تدع للانفعال مكان في عقلك وقلبك.
فأقول لا يمكن أن تقاوم الحاقد إلاَّ بالحقد. ولا يمكن أن تعظ المجرم، الذي يحمل خنجره لقتلك، بالموعظة والكلمة الحسنة.
أيتها الماجدات في الفلوجة، وكل العراق.
أيها الأطفال في الفلوجة، وكل العراق.
وإن اتهمتكم إدارة الشر في البيت الأبيض، وظلها العراقي القابع في جحور «المنطقة الخضراء» من بغداد، لن تموتوا وبين ضلوع المقاومين الأشاوس غضب يغلي كالمرجل.
***


(58): ماذا حصل في العراق؟ وأين موقعه في محطات النضال القومي؟ كيف نواجهه؟
29/ 11/ 2004
أسئلة ثلاث لا تنفصل الإجابة عنها عما تقدَّم وعما تأخَّر.
فإذا كانت أهداف الحركات الثورية أن تُحدِث التغيير الشامل في بُنية النظام العربي، فإن التغيير ليس حركة سحرية أو تنبؤات أو معجزات. وإنما التغيير هو حركة متواصلة تستمر عقوداً وأجيالاً طويلة من النضال الدؤوب الواعي، بحيث تتواصل التجارب النضالية وتتراكم، ترفد كل محطة سابقة ما يليها من محطات لاحقة، بحيث تبني الخطوات السابقة وتؤسس للخطوات اللاحقة، فتفيدها بالإيجابيات بعد أن تتخلَّص من سلبيات المراحل السابقة بعد نقدها بموضوعية وتجرُّد.
من عادات العقل العربي السائد، ونحسب أنه أخذ ينحو باتجاه تجاوز سلبيات الماضي، أنه محكوم بالفعل وردَّة الفعل. تلك العادة تعمل على بتر كل تجارب النضال والعمل على قطعها عن كل ما قبلها وعن كل ما بعدها. وتعود أسباب ما تعوَّد عليه العقل العربي، وهو مُشبَع بالفئوية، أن كل تيار يجبُّ غيره ويلغيه.
فمن دروس الماضي نسجِّل ما علينا أن نلغيه وما علينا أن نثبته، كالتالي:
-القضية العربية قضية واحدة، ينظر إليها كل تيار من زواياه الفكرية والسياسية الخاصة، وينفي زوايا الآخرين ورؤاهم الفكرية والسياسية. فدروس الماضي تدعونا إلى النظر في أن وحدوية المصير لكل التيارات تدعو إلى الاعتراف بحق التيارات الأخرى بالنظر والتفكير، وهو ما نتعارف عليه بتعددية الاتجاهات داخل الوحدة، بحيث يستفيد كل تيار ن تجارب الآخرين، ويتعاطى مع نتائجها الإيجابية بما يعمل على تراكم إيجابيات تيارات الحركات الفكرية والسياسية العربية لتصب نتائجها في دائرة الوحدوية المصيرية.
-بناء على الاعتراف بالتعددية داخل دائرة وحدة المصير، يقتضي تجميع كل تراكم للإيجابيات في التجارب الفئوية ووضعها في خدمة التراكم الإيجابي في النضال العربي.
استناداً إلى رؤيتنا السابقة، واستناداً إلى معرفتنا بالتجربة النضالية القومية التي مارسها حزب البعث العربي الاشتراكي على الساحة القومية بشكل عام، والساحة العراقية بشكل خاص، سنتناول الأسئلة التي وضعناها عنواناً لهذه الندوة ونعمل على الإجابة عنها.
ماذا حصل في العراق؟
حتى الثامن من نيسان من العام 2003م، بعد أن خاضت المدن العراقية –وفي القلب منها العاصمة بغداد- قتالاً مُشرِّفاً ضد قوات التحالف العدواني الأميركي البريطاني الصهيوني، حصل ما ليس له تفسير حتى الآن. وهو ما عجَّل في اندفاعة العدوان إلى الدخول إلى بغداد بمسافة زمنية كان من المحتمل أن تقع خسائر إضافية في صفوف العدوانيين، وهو ما يعني أنه لم يكن من الواقعي أن يمنع القتال –مهما كان زخمه وإمكانياته- قوات العدوان من احتلال العراق.
منذ تلك اللحظة كان الذهول والإحباط هو سيد الموقف عند جميع شرائح التيارات السياسية، الصادقة منها في شعورها، أو من تلك الشامتة للأسف. وهنا لا نود أن نقف أمام تلك الظاهرة المؤسفة لأمثال أولئك، إلاَّ أن نقول: إغفر لهم يا أبتاه إنهم لا يدرون ماذا يفعلون.
في سياق موازين القوى بين حركة الثورة العربية وقوى العدوان العالمي مسافة شاسعة، تلك المسافة التي لا يجب أن تعمي أبصارنا عن رؤية نتائج الصراع المادي، والتي لن تصب إلاَّ لصالح الغلبة لقوى العدوان.
نتيجة هذا التفاوت الكبير –منذ العام 1948م- سرقت قوى العدوان الأرض الفلسطينية واغتصبتها. وفي العام 1967م اغتصبت تلك القوى –أيضاً- مساحات من الأراضي العربية لثلاث دول مجاورة، ونحن نراها –اليوم- تغتصب أرض العراق، وهو استكمال للمشروع العدواني الإمبريالي.
ولأننا مسكونون بنتائج الحرب المادية رحنا نطلق على تلك التجارب مسميات الهزيمة. ويروح البعض منا –تكريساً لمثل هذا النطق- إلى دعوة العرب إلى التعقل والعقلنة. فانقسمنا –كما يحلو لبعض أصحاب الوطر ممن يحملون هوية العروبة- إلى سورياليين يجرون الهزيمة تلو الهزيمة للعرب، وإلى متعقلين يدعون فيها العرب –وخاصة الحركات الثورية- للتفكير الواقعي، وهو لا يعني أكثر من أن نسلس التعاون لقوى العدوان فنسلمها مقدرات بلادنا ونسترخى وننعم بما تمن علينا به تلك القوى من فتات ثرواتنا.
فكان هجوم تلك الفئة من المتعقلين على العراق وراحوا يكيلون الاتهامات ضده بالجنون السوريالي والرومانسي والديكتاتوري، وما إلى هنالك من اتهامات وإشاعات وتشنيعات.
ماذا تتضمن دعوة المتعقلين؟
إذا كانت موازين القوى بين العراق وقوى تحالف العدوان الأميركي والبريطاني والصهيوني مختلَّة –بما لا يقاس بين الطرفين- يدعو العقلاء المثقفون والسياسيون المحسوبون على العرب الحركة العربية الثورية عامة، والعراق خاصة، للتسليم بنتائج ذلك الميزان. لقد فات هؤلاء وأولئك منطلقات السيادة وتقرير المصير والكرامة الوطنية والقومية ومنطلقات العدل والمساوة والوقوف في وجه العدوان والظلم كقيم إنسانية ثابتة.
لقد قصَّر هؤلاء المحسوبون على العرب كثيراً عن نبض الشارع الغربي، ومنهم الأميركيون والبريطانيون، عندما وقفوا إلى جانب الحق العربي عامة، وحق العراق خاصة، في تقرير المصير وحماية الثروة الوطنية والدفاع عن كرامة الشعب وحقه في الحرية وتقرير المصير.
يقيس العقلاء نتائج الصراع على الجانب المادي، على قاعدة أنه إذا لم يستطع العرب حماية ثرواتهم وأرضهم بأكملها، وهم عاجزون عن ذلك، فما عليهم إلاَّ الرضوخ لمنطق القسمة التي يحددها مالكو القوة في العدوان.
فإذا كان من درس على هؤلاء أن يتعلموه، فهم بأمس الحاجة إلى أن يبتعدوا عن مقاييس القيم الإنسانية العليا التي يتجاهلها العدوانيون وهي لا تعني لهم شيئاً أكثر من أنها أقل قيمة بكثير من مصالح الثروة والاقتصاد.
بين التعقل والحكمة –كما هي مضامينها عند الدعاة المثقفين- والدفاع عن القيم الإنسانية –الكرامة الوطنية وقتال الظالم وحماية الحق في الثروة الوطنية وفي الحرية بتقرير المصير السياسي الداخلي…- ارتضى حزب البعث العربي الاشتراكي أن يكون في موقع الدفاع عن القيم الإنسانية العامة التي انتهكها منطق الاستعمار من الأساس، وليس العدوان الحاصل على العراق اليوم إلاَّ وجه من تلك الوجوه.
إن اختيار الدفاع عن القيم الإنسانية يستند إلى أنها الثابت الوحيد الذي يجمع حضارات العالم ذات الطابع الإنساني، وهي التي تشكل أساساً لتطبيق قيم العدالة في توزيع الثروات المادية. وهنا لا بُدَّ من أن نذكر الواقعيين والعقلاء بأنهم قد أضاعوا ترتيب الأولويات في سُلَّم الحضارة الإنسانية لأنهم أعطوا أرجحية لمنطق سيادة الأقوى مادياً على مالكها الأضعف، فانطبقت عليهم مقولة الحياة للأقوى. وهم بذلك أقروا السيادة الطبقية بين السيد والعبد.


(59): في مواجهة الخطر الداهم من الخارج والاستغلال القابع في الداخل
لا بُدَّ من حركة حزبية عربية سليمة ومتعاونة وناشطة
29/ 11/ 2004
»إن الأحزاب هي أساس داء الفرقة والتفتيت المنتشر في الجسم العربي«. هذا ما روَّجت، ولا تزال تروِّج، له أوساط عديدة في داخل الأمة وخارجها:
-النخبة في الحركة الثقافية العربية المنضوية في أندية المستفيدين من استمرارية النظام العربي الرسمي الراهن. وهي –بالأساس- من تصنيعه وإعداده لوضعها في طلائع المواجهة مع أية حركة ثقافية ذات اتجاهات اعتراضية عليه.
-الحركات الدينية السياسية متخفية تحت غطاء الدين، لأن أية حركة حزبية خارجة عن طاعة النصوص الجامدة تصب في غير مصلحة المؤسسات الدينية التي تحوَّلت إلى بُنى رسمية تطمح إلى الاستئثار بالحكم أو –على أقل تقدير- تكون في موقع المؤثر على الأنظمة السياسة بما يخدم طموحاتها.
-وفي استراتيجية المشاريع الخارجية المعادية، التي تعمل من أجل حماية النظام العربي الرسمي خاصة وأنه يشكِّل حليفاً وصديقاً صدوقاً ترتبط مصالحه مع الحركة التجارية والصناعية لشركات الخارج الكبرى.
-ونتيجة لأهمية الإعلام والثقافة والتوجيه في كسب المعركة، أولت القوى الخارجية الطامعة في ترسيخ الهيمنة على الأمة العربية، والحصول على المزيد منها، أهمية للربط في عجلتها كل من تستطيع الحصول على قبوله التعاون معها، من النخب الثقافية والإعلامية العربية، على قاعدة تبادل الخدمات المدفوعة الأجر. فحقَّق المشروع الخارجي المعادي الكثير من النجاحات فاستقطب مؤسسات إعلامية ومثقفين كثيرين من بين الناطقين باللغة العربية.
خطاب واحد جمعهم كلهم على الرغم من تفاوت مصالحهم بغض النظر عن الدين أو العرق أو اللون والرائحة. وفي هذا الإجماع ما يثير التساؤلات والاستغراب.
وما يكشف الغطاء عن أسرار ما يجمع تلك التيارات لا بُدَّ من استذكار أن الحركة الاستعمارية، بالأمس، قادت تحالفاً يجمع بعض الأوساط السياسية الرجعية، وعدداً من الأصوليات الدينية، وبعض النخب الرسمية العربية، وبعض الأندية الثقافية الليبرالية المتحالفة مع نخب المال والاقتصاد والسلطة. بحيث كانت من أهم أهداف التحالف المذكور اجتثاث طلائع الحركة الحزبية العربية من شتى التيارات، لأنها طرأت على الساحة العربية متحدية تحالف الاستعمار والرجعية والنخب الحاكمة وبعض الأوساط الأصولية الدينية ذات المشاريع السياسية.
لقد كان التحالف المذكور عميق الجذور في تاريخ المنطقة، حتى وإن تلوَّنت مظاهره وتغيرت ألوانه، فهو تحالف تاريخي قاد شتى مراحل التاريخ السابقة واستفاد منها، وجاء من ينغِّص عليه استفراده بالابتزاز والاستغلال في بيئة أمية تربَّت على ثقافة الطاعة لأولي الأمر من دون سؤال أو تشكيك.
استناداً إلى ما سلف جاءت الحركة الحزبية –كأهم حركة تنظيمية في العصر الحديث- لكي تعمل على تنظيم أصوات المعترضين على سؤ أداء البنى السياسية والثقافية والفكرية في العصور السابقة.
لقد دفع المشككون –سابقاً- من النخب التي وعت حجم التخلف الذي نال من مجتمعاتنا ومن جهد الشعوب وعرقها، ثمناً غالياً لأن النظام السياسي الاجتماعي الاقتصادي السابق كان يأكلهم حبة حبة. أما وأن تظهر حركة حزبية تدعو إلى توحيد جهود المناضلين من أجل التغيير فهو تجاوز خطير لخط مصالح التحالف الأحمر.
بدأت حركة هجومية ضد أية نوايا أو تشكيلات حزبية منذ ولادة الأجيال الجديدة في ظل مراحل الاستقلال السياسي في القرن العشرين، تحت عنوان واحد وهدف واحد هو التحريض ضد الحركة الحزبية خاصة تلك التي تتبنى شعارات »الوحدة العربية«، و»الاشتراكية«، و»الديموقراطية«، ومن أهمها شعار التحرر من »الاستعمار«. فنال التياران »الماركسي« و»القومي« حصة كافية من محاولات التشويه والملاحقة والاضطهاد والتفكيك والتشكيك.
صمد التياران على الرغم من توزيع أوراق النعوة بوأدهما، ولكن الصمود كان مشوباً بالكثير من العثرات والثغرات التي يتحملان المسؤولية فيها. ومن هنا تبدأ حكايتنا، وتبتدئ مسؤوليتهما في المعالجة.
إن بداية المسير على السكة لا بُدَّ من أن تستند إلى رؤية نقدية ذاتية، وهذا ما يدفعنا إلى القول بأنه لا يمكن للحركة الحزبية العربية ومناصريها وأصدقائها وحلفائها من قوى وشخصيات وأوساط فكرية وثقافية أن تخوض معركة ذات جانب واحد وهو ما له علاقة بعامل الإعاقة الخارجي، بل لا بُدَّ لها –أيضاً- من أن تخوض معركة ضد عوامل الإعاقة الداخلية الذاتية.
يبتدئ تشخيص ومعالجة هذا العامل أولاً على صعيد كل حزب أو حركة، وينتهي بتشخيصه ومعالجته على صعيد علاقة أعضاء نادي الحركة الحزبية بشكل واسع ثانياً.

أولاً: على صعيد تشخيص عامل الإعاقة الذاتي على صعيد كل حزب أو حركة:
ليس من الخطورة أن تتعثَّر المسيرة التنظيمية والفكرية والسياسية لحزب ما، بل الخطورة تبتدئ عندما لا تخضع تلك المسيرة إلى حركة نقدية داخلية مستمرة على القاعدة الديموقراطية الواعية الناضجة الموضوعية. وحول هذه الزاوية، ومن خلال مراجعتنا لبعض تجارب بعض الأحزاب النقدية، نرى أن ما حصل مشجَّع ولكنه غير كاف، بل يعتوره النقص، وهو يحتاج إلى متابعة دؤوبة. وإذا كنا لن ندخل في التفاصيل فإنما الإشارة إلى بعض الأهداف الكبرى هو ما يؤشر إلى أهميتها وإلى ما يدعو إلى التفاؤل: كمثل الخروج من الجدل حول الأولويات –في بيئة سياسية واقتصادية كالبيئة العربية التي تمر بمرحلة التحرر من قبضة الاستعمار- فأصبحت لمواجهة الاستعمار أولوية تستقطب قبول أكثر ما يمكن من الدعاة السياسيين والمناضلين للتعاون والتنسيق في ساحة المواجهة بغض النظر عن ألوانهم الفكرية والثقافية والسياسية. وقد جاء هذا التطور في أعقاب مرحلة جدلية طويلة كانت رحاها تدور حول أولوية التحرير أم الديموقراطية
وإذا كنا قد أعطينا أهمية لمثل هذا التحول إلاَّ أنه ليس الوحيد، بل قاد هذا التحول إلى توحيد آخر هو انتهاج أسلوب الكفاح الشعبي المسلَّح بعد أن كان الانقسام حول جدواه قد استهلك أجيالاً من عمر الحركة الحزبية العربية. وفي مثل هذا التحول ما يوجب على الأوساط الفكرية، المناصرة للضرورة النضالية على قواعد التنظيم الحزبية، أن يعكفوا على دراسة موضوعية للتطورات الإيجابية في شتى مناحي التطور الفكري والسياسي والاقتصادي في مسيرة الحركة الحزبية العربية.
ومن جانب آخر تاهت بعض الحركات أو الأحزاب انبهاراً بوصولها إلى السلطة أو بعضها، وتناست أنها ذات أهداف تحررية من هيمنة الخارج أولاً، وبدلاً من أن تعد نفسها وأعضاءها لمواجهة غير متكافئة مع الخطر الداهم من الخارج، وهي حتماً غير متكافئة، تحوَّلت أهدافها إلى الدفاع عن السلطة على حساب الانحناء أمام العواصف الخارجية. وفي هذا الجانب كان لا بُدَّ من التحذير إلى خطورته، لأن من يريد أن يحافظ على السلطة على حساب المواجهة مع الخارج سوف يكون خاسراً في المواجهتين معاً.
أما على صعيد الوصول إلى السلطة، كهدف وليس كوسيلة، فنرى أن انحراف البوصلة الثورية عند الأحزاب أو بعض أفرادها يتمثَّل أحياناً في العمل من أجل الوصول إلى موقع سلطوي هنا أو هناك –وهماً منهم أنه بوابة للتغيير- لن يكون مربحاً، فالأفراد مهما تميزوا بمواهب وقدرات فهم سوف يكونون أعجز من أن ينافسوا تحالف رأس المال والسلطة الرسمية القائمة.
أما على صعيد العلاقات الديموقراطية في داخل الأحزاب، خاصة أنها كلها من دعاتها، فلم تستطع أن تنتج أعضاء ديموقراطيين. ونحن نرى أن من أولى الشروط التي يوجبها تطبيق المبادئ الديموقراطية أن تنتج الأحزاب ثقافة ديموقراطية واضحة، وعلى أسسها تبني الحزبي الديموقراطي في أن تفسح له المجال في التعبير عن رأيه في شتى نشاطاتها وعلاقاتها التنظيمية الداخلية. وما نلمسه –في كثير من الأحيان- في داخل الحزب الواحد أن لكل حزبي أو شريحة حزبية مفهومها الخاص للديموقراطية وأسلوبها الخاص وتطبيقاتها الخاصة. وبالتالي يكون لكل حزب مفاهيمه الديموقراطية المتنوعة المشارب والمفاهيم والتطبيقات، وهذا يندرج في دائرة فوضى الحرية المنفلتة. وغالباً ما يكون لمثل تلك الفوضى انعكاسات لا ديموقراطية تصيب بنتائجها السلبية، فيما تصيب، عدداً واسعاً من كوادرها باليأس والقنوط تدفع بهم إلى التنحي والإحباط فالخروج إلى العمل الفردي، هذا إذا بقي لدى أحدهم همة للجهد والعمل.
ولكي لا نضع كل الوزر في »ظهر القيادات«، لا بد من الإشارة، هنا، إلى أن كثيراً ممن أصابهم اليأس من العمل، أو أنهم فقدوا الدافع الذاتي كحافز أساسي للنضال، أو لم يتسنَّ لهم الوصول إلى مواقع حزبية متقدمة، يندفعون –غالباً- إلى تبرير أزماتهم الذاتية بالاتهام الجاهز هو فقدان الديموقراطية من العلاقات الحزبية الداخلية. ومثل تلك الظواهر نشاهدها اليوم هنا أو هناك، في هذا الحزب أو ذاك، على هذه الساحة أو تلك.
وإذا أعطينا عدداً من الأمثلة حول بعض مظاهر التجديد، وبعض مظاهر القصور، عند الحركة الحزبية العربية، فليس ما نقوم إلاَّ إشارات لا يُعتمد عليها في تشخيِص كل الأزمة داخل الأحزاب العربية، بل هي نماذج تشكِّل مدخلاً –كما نحسب- لتشخيص الأزمة بشكل أوسع وأكثر شمولاً.
ثانياً: في عامل الإعاقة الذاتي على صعيد العلاقات بين شتى الحركات الحزبية:
في الوقت الذي تتعمَّق فيه أواصر التحالف بين قوى النظام الفكري والسياسي والاقتصادي، تحالف الداخل العربي مع قوى الاستعمار الغربي (وعلى رأسه الأميركي – الصهيوني). ومن خلال متابعة عدد من جوانب العلاقات بين تيارات الحركة الحزبية العربية، نرى التوتر في العلاقات بينها هو السائد، وبهذا واجهت الحركة الحزبية العربية تحالف الآخرين المتماسك بقوى مفتتة ومتناحرة فيما بينها، وفي هذا النوع من المواجهة ما تتحمَّل كل الأحزاب العربية وقواها الوطنية كل المسؤولية.
لن نتطرَّق، هنا، إلى الأسباب والخلفيات، بل لا بُدَّ من أن نؤشر إلى أن التيارات جميعها تتحمل مسؤولية إغراق نفسها في التعصب الإيديولوجي. و لا بُدَّ للخروج من أزمة الثقة التاريخية بين شتى التيارات إلاَّ بالخروج أولاً من قمقم التعصب على قاعدة أنه لا يمكن لحزب واحد أن يواجه عبء المسؤولية الكبير والضخم بمفرده، بل لا بُدَّ من أن تتضافر جهود كل القوى على قاعدة التنوع في داخل المسلَّمة » الوحدوية«.
إن كل حزب بات، وبقي مصراً، على تعصبيته لن يحصد إلاَّ الوهم. ومن بات مصراً على أنه يستطيع أن يبني المجتمع بدون تنوعات فكرية وسياسية فلن يحصد إلاَّ الوهم أيضاً، لأن التقدم والتجديد لن يتم إلاَّ من خلال وجود تلك التنوعات في الأفكار والتوجهات، لكن كل ذلك لن يتم إلاَّ على قاعدة الوحدوية في بناء المجتمع.
فكيف تتم الوحدوية في ظل التنوع؟
إذا كنا لن نتكلم بتفاصيل ما نراه حول هذا الجانب، فإننا لا بُدَّ من أن نرسم الخطوط العامة لبعض جوانبه:
نحن لا نحسب أن الاتجاهات القطرية، في حالة الوضع الذي نعيش فيه كعرب، هي من التنوعات الصحية. ونحن لا نحسب أن التنوعات المتعصبة على صعيد المذهب أو الدين هو من التنوعات الصحية.
فالاتجاهات القطرية هي –بالمنطق والقياس والواقعية- النقيض للوحدوية القومية.
والتنوع في الاتجاهات السياسية المذهبية الدينية، أو التنوع في الاتجاهات السياسية الدينية، التي تدعو إلى بناء كيانات مذهبية دينية أو كيانات دينية، ولكل منها مذاهب سياسية وعقائدية لا تعترف بالآخر، فهي –بمثل تنوعاتها تلك- لن تكون عاملاً جاذباً للوحدوية، بل سوف تكون –بلا شك- عاملاً منفراً للوحدوية الوطنية.
أما التنوعات التي نرى أنها صحية وسليمة وتصب في الوحدوية هي تلك التي تعمل من أجل الاعتراف بالآخر، وتكون من المبادئ الجامعة التي تستجيب لمصالح الجميع.
ولأن المقال لا يتسع إلى أكثر من فتح نافذة للحوار حول العمل من أجل تجاوز أزمة الأحزاب العربية، نترك الأمر لما يمكن أن تجمع هذه الدعوة من أصوات وأقلام وكتابات تتجه نحو المشاركة في تشخيص الأزمة ووضع حلول تتناسب مع تفصيلات التشخيص، وهذه مهمة طويلة وصعبة ولكن على الرغم من ذلك فهي الخطوة الأولى والضرورية كما نراها بمنظارنا الشخصي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق