بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 19 يناير 2010

أبحاث ومقالات قبل العام 2003 (3)

الزناد ضد أفغانستان والعين على فلسطين والعراق
8/ 12/ 2001
تقود الولايات المتحدة الأميركية حرباً ضد ما يُسمّى الإرهاب على الأرض الأفغانية. وما يدعو للعجب والاستغراب أنها هي التي ساعدت وخلقت وأوجدت وربَّت واحتضنت الذين تحاربهم اليوم.
نحن أولاً نقف ضد هيمنة الولايات المتحدة على العالم واستعمارها له.
ونقف ثانياً ضد كل أنواع الأنظمة التي تتماثل مع نظام طالبان من حيث أنها ربيبة لأميركا من جهة، ومن حيث رجعيتها الفاقعة المغلَّفة برداءات أصولية لتستجلب عطف المسلمين من جهة أخرى.
ونقف ثالثاً ضد تحالف قوى الشمال الأفغانية التي تقاتل طالبان تحت غطاء عسكري أميركي، وهذا السبب يكفي ليبرِّر موقفنا هذا.
ونقف، أخيراً، ضد أي نظام سوف ينشأ من نتائج هكذا حرب، لأن أميركا لن ترضى بنظام أقل طواعية لها وامتثالاً لأوامرها. فهي قد شنَّت الحرب ضد نظام طالبان بعد أن استهلكته، وسوف تشن الحرب ضد أي نظام تصنعه بعد أن يصبح عاجزاً عن تنفيذ سياستها.
كل تلك المواقف لا تعني أننا نقف بحياد ضد الجرائم البشعة التي تُرتكب ضد الشعب الأفغاني، الذي يقف عاجزاً وضعيفاً ومظلوماً بين مطرقة النظام الذي يحكمه أو سيحكمه وبين سندان العدوان الأميركي - البريطاني اللاإنساني.
كان من الأهمية بمكان أن نحدد موقعنا وموقفنا من القوى التي تتقاتل على الأرض الأفغانية تحت ما يُسمى «الحرب ضد الإرهاب». فقد بدا للمراقب القصير النفس أن هناك حرب بين الإسلام والاستكبار، وهذا غير صحيح، فالحرب هي بين أبناء التحالف المتجانس، أميركا / الاستعمار وحلفائها السابقين / صنيعة أيديها. وأميركا تعمل جاهدة لكي يحل مكان الحليف الأفغاني السابق حليف أفغاني يكون مطواعاً لها كطاعة السوار للزند. ومن اللافت في الأمر أن كلاً من الحليفين يدعو إلى بناء دولة إسلامية، وإلى تطبيق الشرائع الإسلامية، وعلى الرغم من ذلك نراهما من أكثر حلفاء أميركا صنعاً واستجابة.
أما ماذا تبغي أميركا من حربها ضد الحليف السابق ومع الحليف اللاحق؟
تريد أميركا أولاً أن تصنع نظاماً في أفغانستان يكون قاعدة لحماية مصالحها في الأرض العربية، وثانياً أن تُبعد خطر الاتحاد السوفياتي والصين لتحول دونهما والوصول إلى خيرات تلك الأرض. فكما كان الهدف من المشروع الصهيوني، المغروس في قلب الأمة العربية، أن يحرس مصالح الاستعمار في العالم العربي، فإن الهدف المركزي من المشروع الأفغاني - الأميركي، أيضاً، والمغروس في وسط آسيا، هو حماية مصالحه في المنطقة العربية.
إن الأهداف المركزية الأميركية، قبل أي شيء آخر، هي مصالحها الاقتصادية؛ وهذه المصالح موجودة، بشكل أساسي، في الأرض العربية. ولضمان استمرارها عليها أن تحتوي أية حركة عربية، سياسية أو فكرية أو عسكرية أو اجتماعية، تدعو أو تعمل، أو حتى تمتلك النية، إلى وعي مخاطر الهيمنة الأميركية. فكان المشروع الصهيوني هو العصا الغليظة، التي يهدد بها الاستعمار الأميركي، أية بوادر تمرد تلوح في الأفق العربي.
وهي عملت وتعمل جاهدة على إحاطة المنطقة العربية بدائرة من الخاضعين لأوامرها في سبيل تحقيق هدفين: تهديد حركة التحرر العربية أولاً، أما الهدف الثاني، فهو الحؤول دون تأثير الجوار الدولي، روسيا والصين، من الوصول إلى أرض العرب المعطاء: مادة أولية خاماً، وسوقاً استهلاكياً واسعاً.
فمن هي قوى التحرر العربية التي يطلب الأميركيون رأسها؟
يهدد الأميركيون بقطع رأس كل قوى حركة التحرر العربية بشكل مركزي. ولكن هناك الخطر فالأخطر. فالمرحلية في السياسة الأميركية، ولكي لا تخوض حرباً شاملة، تستدعي البدء بالأخطر، والخطرين الداهمين لها، مرحلياً، هما: العراق وفلسطين.
ففلسطين لأنها تمثل دائرة الاهتمام المركزية في المخطط الاستعماري القديم والحديث. والعراق لأنه يمثل دائرة التحدي الفكري - السياسي والتكنولوجي والعسكري…
فإن كان الاهتمام الأميركي منصبّاً، الآن، على أفغانستان، فلأن هدفها أن تشغل بال الأفغانيين بحرب طويلة يلتهون بها، ويستمرئون دماء بعضهم البعض، فيلتهون عن شغل بال أميركا بحده الأدنى، وهذا ما يجعلها متفرغة لمواجهة ما هو أخطر وأدهى: إنهاء انتفاضة فلسطين، وتدجين الشعب الفلسطيني بشتى الطرق والوسائل. وتهديد العراق بشكل دائم من خلال سلاح »النفط مقابل الغذاء«، ومناطق الحظر الجوي في الشمال والجنوب، وتحريض وتدعيم قوى من تسميهم »المعارضة العراقية«، والحجر على أموال العراق، وعلى قراره السياسي، ومنعه من استخدام عائدات نفطه بحرية واستقلالية…
تستند أميركا في تنفيذ ما تريد ضد انتفاضة فلسطين وتمرد العراق إلى كل وسائطها العرب والدوليين، وهي إن لم تفلح في ضربهما فإنها سوف تعمل بنفس طويل لإبقاء تكبيلهما بأكثر ما يمكن من القيود. وتعمل أميركا بنفس طويل طالما أن طريق النفط مفتوح امامها. ولا يمنعها عنصر الوقت من أن تتابع تنفيذ ما تريد، فيكفيها أن تُبقي انتفاضة فلسطين وثورة العراق مكبّلتين إلى الأبد. فهي تراهن على متغيرات من أهمها نضوب الثروة العربية وإعادة الأمة العربية إلى عصر البداوة والجمل.
لكن تبقى حقيقة على العرب أن لا ينسوها أبداً، أن عنصر الوقت هو ثمين بالنسبة لهم، أي أن عليهم أن يرفعوا هيمنة أميركا قبل نضوب ثرواتهم، وقبل أن يستثمروا عائداتها في تطوير بنى اقتصادهم لكي يكون بديلاً لما بعد عصر النفط.
وجلَّ ما نريد أن يصل إلى قلوب العرب وعقولهم، قبل آذانهم لأن آذان البعض أصبحت صمّاء لا تسمع أو على الأقل لا تعير السمع، أن لديهم الوسائل العديدة التي يمكنهم أن يستخدموها وسائل للنضال ضد مخططات الاستعمار الأميركي. إن عصا أميركا مرفوعة على العرب، حتى وإن لم تستخدمها الآن بشكل مباشر، وسوف تقوم باستخدامها مباشرة ما أن ترتب أوضاع أفغانستان.
فمن أجل ثرواتهم في المنطقة العربية أتى الأميركيون إلى أفغانستان. ولم تكن الضربة الموجهة إليه إلاَّ من أجل احتواء أية قوة عربية. فضرب إفغانستان هو ضربة موجهة للعرب وتحذير لهم واستعراض للقوة أمامهم. لأن توجيه ضربة للضعيف يرتعد لها قلب القوي هو ما تقصده أميركا أولاً، وبناء قواعد سياسية وعسكرية أميركية بشكل مباشر في منطقة النفط العربي وأسواقها ثانياً.
***

قراءة تاريخية في نهج التسوية في أزمة الصراع العربي-الصهيوني( ).

I – المتغيرات السياسية في بنية النظام الدولي، والثوابت
II – المُتغيِّرات السياسية في بُنى الأنظمة العربية، والثوابت
III – التكتيكات التسووية تنتقل خطوة-خطوة لتصبح استراتيجية متكاملة.
IV – جهوزيـة الخطـة الاستراتيجيـة للتسوية تُوضَع على سكـة التنفيـذ.
تأتي الأحداث الأخيرة، أي ما يُسمَّى بمفاوضات السلام لحل الصراع العربي-الصهيوني، لكي تطرح احتمالات حصول عدد من المتغيرات في واقع الأمة لعربية.
تمخَّض عنها، حتى الآن، عدد من النتائج كانت بدايتها "اتفاق غزَّة - أريحا أولاً". وهي لن تقف عند هذا الحد، لأن النهج الذي يتحكَّم بمسيرة الأمور يدلُّ على ذلك.
إن "اتفاق غزة - أريحا أولاً"، ليس متغيِّراً عادياً، وإنما هو تاريخي ومصيري، ليس في مسار القضية الفلسطينية -كقضية قطرية- فحسب، وإنما انعكاساته هي ذات تأثيرات مصيرية في مسار القضية العربية أيضاً.
ولأن هذا الاتفاق ليس منفصلاً عن الأحداث التي سبقته، وإنما كان نتيجة لها؛ ولأنه ليس الأول والأخير، بل حلقة في سلسلة من الاتفاقات القادمة، ولكي لا نغرق في دراسة كل اتفاق بشكل منفصل عن الآخر، وكأنه قضية منفصلة عن سياق التاريخ والأحداث والإيديولوجيا، فإننا نعتقد أن ما سبق هذا الاتفاق وما قد يلحق به، يسير وفقاً لنهج سياسي – إيديولوجي، تكوَّن وتراكم في محطات زمنية متلاحقة.
لكل تلك الأسباب نرى أن البحث عن طبيعة هذا النهج ومضامينه وأسباب تكوينه، هو بحثٌ لا يُفَسِّر "اتفاق غزة - أريحا أولاً" لوحده، وإنما يحاول الإحاطة -أيضاً- بجميع الاتفاقات التي سبقته أو سوف تلحق به. ولأن تشخيص الداء هو السبيل الأهم على طريق علاجه، فإننا سوف نقوم بمثل هذا التشخيص، لعلَّه يساعدنا على توضيح صورة المستقبل واحتمالاته بشكل أفضل.
إن تاريخ الأمة العربية، منذ قرن من الزمن، هو ماضيها التوَّاق والطامح للوحدة، التي هي سبيلها الأمثل لامتلاك قوتها وتقدُّمها، والمحافظة على استقلالها وحريتها؛ وهو أيضاً مستقبلها الواعد بسبب ما تمتلك من طاقات حضارية وفكرية موروثة لكنها مكبوتة ومُغَيَّبَة، وبسبب ما تمتلكه من إصرار على الوصول إلى الوصول إلى هذه الوحدة.
إصطدمت الأمة العربية، وما زالت، بعدد من العوائق التي عملت وتعمل على الحؤول دون تحقيق وحدويتها؛ فأصبح الجزء الأكبر من تاريخها هو الصراع بين وحدوية أو انفصالية أجزائها، أرضاً وشعباً.
ملأ هذا الصراع تاريخ الأمة على مدى قرن من الزمن وأكثر، ودارت أحداثه بين أبنائها التواقين للوحدة، وبين القوى التي تعمل على منعها، لأن الضامن الوحيد ضد أطماع الهيمنة عليها واستغلال خيراتها.
منذ أواخر عصر الامبراطورية العثمانية –كمرجعية إسلامية سياسية وحدوية- تأسس هذا الصراع على قاعدة الهُوِّيَة القومية، عربية-تركية، لأن المرجعية الوحدوية الإسلامية تحت إمرة السلطان التركي لم تحقق العدالة والمساواة بين الأتراك والعرب.
قبل أن تصل إشكالية الصراع العربي - التركي، تشخيصاً وحلولاً، إلى مستوى من الوضوح النظري في أذهان أو أفكار النخبة، التي اعتقدت بضرورة تمييز الأمة العربية بهوية وكيان وشخصية اجتماعية-سياسية مُوَحَّدَة، حتى كان الرجل المريض التركي قد انهار؛ وانتقلت تركته إلى أيدي مرجعية أخرى؛ لكنها أصبحت مرجعية أوروبية / إمبريالية / رأسمالية، أخذت تعمل على تمزيق الحلم الوحدوي العربي الموعود.
كانت المصالحة/التسوية بين العروبة والطورانية مسألة مطروحة، لكنها كانت مرفوضة بسبب ما تحمله من تناقضات بين مصلحة العروبة والمصلحة التركية - العثمانية؛ فجاءت المصالحة / التسوية بين العروبة والإمبريالية تحمل تناقضات أشد وأكبر.
جاءت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى لكي تحمل متغيرات جديدة على مستوى النظام الدولي والنظام الإقليمي على حدٍّ سواء. وفي ظل النظام الجديد، الذي وإن تغيَّرت وجوه أقطابه لكن هُوِّيته بقيت ثابتة، عاشت الأمة العربية في حالة صراع متواصل ضد محاولات التسوية بين النظام الإمبريالي العالمي-بأهدافه الاستعمارية - وبين الأمة العربية،بأهدافها الوحدوية التحررية.

I – المتغيرات السياسية في بنية النظام الدولي، والثوابت الاستراتيجية الامبريالية.
1-جنين العلاقة بين الامبريالية والصهيونية في أحشاء الرجل التركي المريض:
تكوَّنت الأسس التاريخية للصراع العربي-الصهيوني بفعل حَدَثَيْن بارزين:
أ-وعد بلفور: بدأ بالتحضير له اللورد بالمرستون (1784-1865)، السياسي ورجل الدولة البريطاني، وأنجزه بلفور (1848-1930).
رأى بالمرستون ان قيام دولة عصرية مُوَحَّدَة، تضم وادي النيل والجزيرة العربية والمشرق العربي، يُهَدِّد المصالح الاقتصادية والسياسية والعسكرية البريطانية. ولأجل ذلك، ولأن حملة ابراهيم باشا هدَّدَت الدولة العثمانية، وأصبحت على قاب قوسين أو أدنى من تنفيذ قيام دولة فتية مُوَحَّدَة في المنطقة العربية، سعى بالمرستون إلى تأليب الدول الأوروبية ضد هذا المشروع؛ وقد نجح في ذلك، وعلى ضوء نجاحه قامت بريطانيا بإنزال عسكري في لبنان، كان من نتائجه إجبار ابراهيم باشا على التراجع والانكفاء. ثم أردف بالمرستون خطوته تلك، برسالة إلى سفير بريطانيا في إستانبول لكي يقوم بوساطة لدى السلطان العثماني بشأن مشروع إقامة دولة يهودية في فلسطين، تكون عازلاً بين مصر والمشرق العربي( ).
وعلى الرغم من أن مصير الوساطة كان الفشل، إلا أن السياسة البريطانية لم تيأس من تحقيق هذا المشروع، الذي خرج بصيغة وعد لليهود بإقامة دولة لهم على أرض فلسطين. في 2 تشرين الثاني/نوفمبر من العام 1917، وجَّه اللورد بلفور، رجل الدولة البريطاني، رسالة إلى روتشيلد، المليونير الصهيوني المعروف. ومما قال فيها: "…تعاطفاً مع أماني اليهود الصهيونيين التي قدموها، ووافق عليها مجلس الوزراء [ البريطاني]، إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين. وستبذل أفضل مساعيها لتسهيل تحقيق هذه الغاية"( ).
ب-إتفاقية سايكس-بيكو: في 16 أيار/مايو من العام 1916م، وقَّع كل من سايكس- المندوب السامي البريطاني لشؤون الشرق الأدنى- وبيكو-القنصل الفرنسي العام في بيروت-الاتفاقية التي عُرِفَت باسمهما (إتفاقية سايكس-بيكو). وفيها جرى تقسيم المشرق العربي إلى دويلات، تقاسم فيها كل من بريطانيا وفرنسا، مناطق النفوذ. واتَّفقت الدولتان، وأبدتا استعدادهما للاعتراف بدول عربية شبه مستقلة، على أن تُوضَع فلسطين تحت إشراف دولي، وتخضع لنظام خاص.
كانت اتفاقية سايكس-بيكو من أبرز أمثلة الخداع الاستعماري الذي مورِس مع العرب(* )، لأنه في الوقت الذي وعدت فيه بريطانيا العرب بتأييد أمانيهم القومية التحررية، إذا ما هم حاربوا إلى جانبها ضد السلطة العثمانية، كانت تُوَقِّع اتفاقية سايكس-بيكو مع فرنسا( ).
2-الامبريالية الأميركية ورثت المنطقة بما فيها قضية الكيان الصهيوني:
بعد الحرب العالمية الأولى، خرجت الولايات المتحدة الأميركية من الانتصار إلى العزلة الاختيارية، لكنها كانت عزلة من نوع فريد، حملت البذور الحقيقية لعصر السياسة الخارجية العالمية التي ستُدَشِّنه في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية.
قَبِلَت الولايات المتحدة الأميركية، بل وأسهمت في عملية إعادة تقسيم العالم بين الامبراطوريات الأوروربية المنتصرة، كما صكتها معاهدة فرساي في العام 1920. وقَبِلَت أيضاً بمعاهدة سايكس-بيكو. لكنها تركت فرنسا وبريطانيا تُرَتِّبان الوضع، في الوقت الذي كانت تُعِدُّ فيه نفسها لوراثته على أسس المحافظة على كل البُنى الإقليمية التي أقامتها( ).
ومن البُنى الأساسية التي التزمت بها وحافظت عليها، كانت مسألة الكيان الصهيوني. وفي هذا النطاق، كان الموقف الأميركي من القضية الفلسطينية، يتطوَّر على قاعدة المزيد من الارتباط بالوعود للصهيونية، على طريقة الخطوة خطوة:
-في أيار/مايو من العام 1922م، وبمساعٍ من يهود أميركا، صدر عن مجلس الشيوخ الأميركي قرار يؤيد وعد بلفور. ثم تبعه قرار آخر، في 11 أيلول/سبتمبر من العام 1922م، لكنه كان في هذه المرة مُشْتَرَكاً بين مجلسي الشيوخ والنواب، ويتضمَّن العطف الأميركي على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين( ).
-في أثناء الحرب العالمية الثانية، طالبت أميركا بالإسراع في إقامة الدولة اليهودية في فلسطين، وفتح أبواب الهجرة إليها( ).
-وفي العام 1944م، بدأت قضية فلسطين تأخذ أهمية أكبر في السياسات المحلية الأميركية، حينها سمح روزفلت-الرئيس الأميركي-بإصدار تصريح جاء فيه: "إنه سيكون سعيداً أن يرى أبواب فلسطين لا تزال مفتوحة أمام اللاجئين اليهود…"( ).
-وفي العام 1945م، صرَّح ترومان-الرئيس الأميركي-بأن عليه "أن يستجيب لمئات آلاف المتحمسين لنجاح الحركة الصهيونية…"، وهو بالذات وضع احتمال التدخل، عسكرياً، في حال فشِلَت موازين القوى المحلية في حسم عملية إقامة الدولة اليهودية( ).
-وفي 11 تشرين الأول/أكتوبر من العام 1947م، أعلنت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي تأييدهما لتقسيم فلسطين( ).
-وفي 15 أيار/مايو من العام 1948م، أُعْلِن قرار التقسيم من قِبَلِ هيئة الأمم المتحدة، المُسَيْطَر عليها من قِبَلِ الدول العظمى، خاصة الامبريالية منها.
-منذ الخمسينات من القرن العشرين، اشتدَّت أواصر العلاقات الاستراتيجية بين أميركا و "إسرائيل"، والتي أصبحت من ركائز الوجود الامبريالي في المنطقة العربية.

II – المُتغيِّرات السياسية في بُنى الأنظمة العربية، والثوابت الاستراتيجية القومية.
1-خمسينات القرن العشرين، وبداية الصراع العربي-الصهيوني:
إبتدأت القضية الفلسطينية، من وجهة النظر الامبريالية، وعلى قاعدة اتفاقية سايكس-بيكو، وطنية/قطرية. لكنها اتَّخذت اتجاهاتها الوحدوية القومية منذ الثلاثينات، على الصُعُد الحزبية والشعبية. وفي الأربعينات، تصاعد الاهتمام بها على صعيد الأنظمة المحافظة/الرجعية/السلفية/الإقطاعية العائلية/العائلية الموروثة. ومنذ الخمسينات، أصبحت تشكل محوراً أساسياً، بل وفي معظم الأحيان محوراً وحيداً في اهتمامات الفكر العربي التقدمي/التحرري/القومي/الوطني، كذلك في الأوساط الشعبية الواسعة، وفي اهتمامات الأنظمة الرسمية التقدمية-القومية.
كان أشدّ ما يضير الامبريالية القديمة (بريطانيا وفرنسا)، والجديدة (الولايات المتحدة الأميركية)، أن تتحوَّل أية قضية قطرية إلى قضية قومية أولاً؛ وأن ترتفع شعارات وأفكار لها علاقة بالتحررالاقتصادي ثانياً؛ وأن يتمَّ أي انحياز إلى جانب الاتحاد السوفياتي (الشيوعية العالمية) ثالثاً.
بالإضافة إلى نظام القطبين، عالمياً، شهدت مرحلة الخمسينات مُتَغَيِّرات على الصعيد القومي العربي. وكان لهذه المتغيرات مقدمات في العقود السابقة، ومن أهمها:
-تكوين تيار وحدوي عربي شعبي واسع، وبناء أحزاب قومية عقائدية.
-تكوين نُخبَة جديدة، أخذت تُعِدُّ نفسها لوراثة النُخَب التقليدية القديمة، على المستويات: الثقافية والسياسية والاجتماعية والعسكرية.
في قلب هذه المتغيرات، كانت قضية فلسطين هي محطة الاختبار الأولى، سواء على الصعيد الشعبي والحزبي، أم على صعيد الأنظمة الرسمية.
كانت نتائج حرب فلسطين في العام 1948م، نكبة أصابت القضية الفلسطينية، أرضاً وشعباً؛ لكنها، أيضاً، شكَّلت الشرارة الأولى التي أدَّت إلى إحداث عدد من المتغيرات على صعيد بعض الأنظمة العربية، كما حصل في كل من: سوريا، مصر، ثم العراق…
إبتدأت، منذ الخمسينات، حالة تفاعلية متصاعدة بين الوعي الشعبي العربي، بفعل نكبة فلسطين وتحوُّلِها إلى قضية قومية، وبين وضع الأنظمة الجديدة؛ كان كل من طرفي هذه الحالة يستمد قوَّته من الآخر، في علاقة جدلية متصاعدة، مُتَاَثِّرَة ومُؤثِّرَة، تُفرِز متغيرات إيجابية على الصعيد القومي الشامل.
إِنْتُهِكَت معاهدة سايكس-بيكو باتجاهاتها التقسيمية، ومُسَّت الخطوط الحمر الامبريالية، وواجه وعد بلفور-لأول مرة في تاريخ الصراع الفلسطيني-الصهيوني-خطراً جديَّاً بعد أن تحوَّل إلى صراع عربي-صهيوني.
وانْتًهِكَت، أيضاً، الإيديولوجية الامبريالية الرأسمالية، بعد أن رفعت شعارات التحرر السياسي من الرجعية والاستعمار، وانتشرت مبادئ التحرر الاقتصادي من الهيمنة الرأسمالية الغربية.
وفي المقابل، شهدت مرحلة الخمسينات والستينات إصراراً إمبريالياً-صهيونياً على العمل في سبيل إحباط هذه المتغيرات الجديدة.
في معركة المواجهة، كان من أهم الخطوط الاستراتيجية للإمبريالية والصهيونية ما يلي:
حصار المراكز الثورية العربية، وهي التي تشكل خطراً جديَّاً على أهم موقعين للإمبريالية، وهما: النفط ودوله، و "إسرائيل" وأمنها.
2-قضايا الصراع العربي-الامبريالي: النفط و"إسرائيل".
بعد الحرب العالمية الثانية، كانت المصالح الأميركية مُحَدَّدَة بوضوح، وبناءً عليها حدَّدَت استراتيجيتها، وهذه المصالح هي التالية:
-العطف على محنة الشعب اليهودي.
-ضمان استمرار تدفق النفط إلى المصانع الغربية، والإبقاء على قناة السويس سالكة أمام الملاحة الدولية.
-وقاية المنطقة من الشيوعية، وتجنُّب مواجهة مُحْتَمَلَة مع الاتحاد السوفياتي( ).
-حصار المراكز الثورية الجديدة في العالم العربي وإسقاطها( ).
يقول نيكسون بأن الشرق الأوسط كان يشكل، تاريخياً، ملتقى الطرق المؤدية إلى آسيا وأفريقيا وأوروبا. لكن، منذ الثلاثينات من القرن العشرين، "أصبح نفطه دم الحياة الذي يسري في عروق الصناعة الحديثة، وإن منطقة الخليج العربي، هي القلب الذي يضخُّ ذلك الدم…( ).
كان عامل المحافظة على المصالح الاقتصادية الأميركية/الإمبريالية في المشرق العربي، وما زال، من أهم المرتكزات للاستراتيجية الإمبريالية حول المنطقة. ولما انتشر المد القومي العربي التحرري، رسمياً وشعبياً، حاملاً أفكار التحرر السياسي والاقتصادي من الاستعمار؛ ولما كانت هذه الأفكار تشكل تجاوزاً للخطوط الحمر الإمبريالية، حينئذٍ ابتدأت معالم الصراع العربي-الامبريالي تتَّخِذ مظاهر تتصاعد في حِدَّتها.
ولأنه في السياسة الأميركية، ليس هناك أصدقاء دائمين، ولا أعداء دائمين، إنما هناك مصلحة دائمة؛ حيث يُلاحَقُ الهدف في السياسة الأميركية بلا هوادة( )؛ وهي إيديولوجيا تتميَّز بها الرأسمالية-الامبريالية، فقد اندفع الأميركيون إلى وضع استراتيجيا مناهضة ضد القوى التي تهدد هذه المصلحة. أما أهم مرتكزات هذه الإستراتيجيا فكانت:
-حصار المراكز الثورية الجديدة في العالم العربي لإسقاطها، لأنها رفعت الشعارات التحررية، سياسياً واقتصادياً، وهي ما يتناقض مع المصلحة الإمبريالية-الأميركية.
-بناء أسوار من الحماية حول منابع النفط، بالتحالف مع الأنظمة التي تُبدي استعدادها للانحياز الكلي للسياسية الأميركية. فكانت أسوار الحماية تقوم على دعامتين:
-الأولى: بناء أحلاف موالية من دول المنطقة، وقد تكون أوضاع هذه الدول عرضة لمتغيرات ما.
-أما الثانية: فهي المحافظة على "إسرائيل" قوية ومتفوِّقة، وهي الضمان الاستراتيجي الأمثل.
بطريقة تفاعلية جدلية بين المتغيرات التي حصلت على الصعيد العالمي، والمتغيرات التي طالت الصعيد القومي العربي، وُلِدَت متغيرات أخرى، لم تكن لتحصل بدون الحالة التفاعلية الجدلية تلك (الخارجي-الداخلي). أما المتغيرات الرئيسة فهي التالية:
-نشأة المحور التقدمي القومي العربي، ويسانده الاتحاد السوفياتي ودول عدم الانحياز.
-نشأة المحور المحافظ/الرجعي العربي، وتسانده كل من الولايات المتحدة الأميركية ودول التحالف الغربي الأوروبي.
بين هذين المحورين، وقع الثنائي الاستراتيجي (النفط وإسرائيل) في مركز دائرة التجاذب الأساسي بينهما. وهذا المركز عُرِفَ بالصراع العربي-الصهيوني.
كان للمحور الذي ترعاه الإمبريالية أرجحية في امتلاك أسباب القوة لأن الإمبريالية الأميركية كانت تُقدِّم بسخاء كل ما يدعم أطرافه. بينما الاتحاد السوفياتي كان يفتقد الحرارة الدافعة بسبب ارتباطه مع الأميركيين بسياسة التعايش السلمي أولاً، ولأنه لم تكن له مصلحة في الوقوف في خندق الصراع العربي-الصهيوني بشكل جذري ثانياً.
كان للدعم السخي الذي قدَّمته الإمبريالية الأميركية في سبيل المحافظة على الثنائي الاستراتيجي (النفط وإسرائيل)، نتائج فعلية في حرب حزيران/يونيو 1967م، لصالح الدول المحافظة/الرجعية ولصالح "إسرائيل". ففي حرب حزيران/يونيو أُصيب المحور القومي العربي التقدمي بنكسة نتج عنها عدد من المتغيرات الإيديولوجية والسياسية والجغرافية على صعيد الصراع العربي-الصهيوني.
منذ وقوع الهزيمة العسكرية، لأسباب ذاتية وموضوعية، منها المُبَرَّر ومنها ما لا يًمْكِن تبريره (ولهذا بحث آخر)، برزت مؤثرات جديدة اتَّجهت باستراتيجية الصراع-حسب المفهوم القومي الجذري-إلى حالة من التراجع عن الجذرية إلى التسووية. منذ ذلك الحين، نزلت إلى السوق السياسية مفاهيم ومضامين ومظاهر الاتجاهات التسووية الجديدة، وهي المقدمات التي لا يمكن تشخيص الحالة الراهنة (العقد الأخير من القرن العشرين) بدون الوقوف على وقائعها ومعطياتها.

III – التكتيكات التسووية تنتقل خطوة-خطوة لتصبح استراتيجية متكاملة.
الخطوة الأولى: نكسة حزيران والمصالحة مع الأنظمة المحافظة/الرجعية، وضمان تدفق النفط باتجاه الغرب.
بعد نكسة حزيران/يونيو، عُقِدَ مؤتمر القمة العربية في الخرطوم من 29/8 إلى 1/9/1967. وحول أهمية نتائج هذا المؤتمر، يعتقد جورج قرم، أنها مثَّلَت منعطفاً حاسماً في تاريخ المشرق الأدنى العربي. ففي الخرطوم تجسَّدت النتائج الفعلية للصراع العربي-الصهيوني، ولنكسة حزيران. ففي الخرطوم "تخلَّى عبد الناصر، نهائياً، عن الطاقة الثورية للقومية العربية، التي كان يمثَّلها ويرمز إليها حتى ذلك الحين، لكي يهادن ويصالح أعداء الأمس، وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية"( ).
كان من أهم قرارات المؤتمر القراران التاليان:
-"تثبيت ميثاق التضامن العربي"( ).
-عدم الموافقة على التوصية التي قدَّمتها بعض الوفود العربية لوقف ضخ البترول كسلاح في المعركة. وسبب عدم الموافقة-كما جاء في قرار مؤتمر القمة-أن "الضخ نفسه يُمْكِن أن يُسْتَخدَم كسلاح إيجابي، باعتبار البترول طاقة عربية يمكن أن تُوَجَّه لدعم اقتصاد الدول العربية التي تأثَّرت مباشرة بالعدوان، ولتمكينها من الصمود في المعركة". ولهذا "قرر المؤتمر استئناف ضخ البترول، والتزمت [ثمناً لذلك] السعودية والكويت وليبيا [المَلَكِيَّة] بدفع مبالغ سنوية"( ).
وعلى الرغم من أن مؤتمر الخرطوم اشتهر بلاءاته الثلاث (لا للصلح، لا للاعتراف، لا للتفاوض) التي لم تكن-كما أثبتت الوقائع فيما بعد-سوى غطاء يُراد منه امتصاص النقمة الشعبية العربية؛ أما نتائجه الفعلية فلم تكن سوى رسم الخطوة التكتيكية الأولى في المسار التسووي على صعيد الصراع العربي-الصهيوني.

-الخطـوة الثانيـة: الانتقال من حالة الصراع ضد الأنظمة التقدمية إلى الصراع ضد الحركات الشعبية والأحزاب القومية.
إكتسبت القضية الفلسطينية، بأبعادها المختلفة، أهمية قصوى عند الجماهير الشعبية، وأصبحت من مُكَوِّنات الثقافة السياسية العربية والرأي العام العربي، وارتبطت بشرعية معظم أنظمة الحكم في المنطقة( ).
وفي أعقاب نكسة حزيران/يونيو، أُصِيبت الأوساط الشعبية العربية بنكسة نفسية، فقلَّلت اعتمادها على الأنظمة، وراحت تلتفُّ حول ظاهرة المقاومة الفلسطينية بعد أن تصاعد دورها وتأثيرها عندما أخذت تمارس الكفاح الشعبي المسلح.
إشتدَّ ساعد المقاومة الفلسطينية، وكانت تأخذ زخماً من عمق التأييد الذي لقيته من الحركات الشعبية والأحزاب القومية واليسارية العربية؛ فكانت حالة الاستنهاض تتصاعد باستمرار، لأن المقاومة والأوساط الشعبية كانت تتبادلان عوامل التأثير والاستنهاض.
هذه الحالة الجديدة دفعت بالقوى المعادية: التحالف الإمبريالي/ الصهيوني-العربي المحافظ/الرجعي، إلى توجيه زخم الصراع في سبيل القضاء على كل ما يُعزِّز ويدعم حالة النهوض الشعبي العربي، أو يعمل على تنمية حالة المقاومة المسلحة ضد الكيان الصهيوني، أو يشكل مصدراً للتحريض والتعبئة ضد التحالف الإمبريالي-الرجعي.
أُجْبِرَت المقاومة، بعد أحداث أيلول/سبتمبر 1970، على الانتقال إلى لبنان، مستفيدة من قوة الانتشار الفلسطيني فيه، ومن قوة الزخم الوطني/القومي التقدمي المساند والمشارك للمقاومة الفلسطينية، لكي يؤسسا معاً أول جبهة قومية شعبية وحزبية مقاتلة، تعتمد على ممارسة الكفاح الشعبي المسلح ضد العدو الصهيوني. لكن هذه التجربة لُحِقَت من أطراف التحالف الإمبريالي/الصهيوني-الرجعي العربي، فوُضِع مخطط تصفيتها في لبنان الذي بُدِئ بتنفيذه منذ 13 نيسان/أبريل 1975.

-الخطـوة الثالثـة: تكتيكات الأنظمة التسووية تعمل في سبيل المزيد من التراكم التسووي الاستراتيجي:
بعد وفاة عبد الناصر في 28 أيلول/سبتمبر 1970، خلفه أنور السادات في رئاسة جمهورية مصر العربية؛ ومنذ ذلك الحين أُعْطِيَت الآفاق التسووية اندفاعة قوية ومتسارعة من خلال الخطوات المتلاحقة التي قام بها السادات. وكانت أهم مظاهر خطواته ما يلي:
أ-فتح أبواب العلاقات الإيجابية على مصراعيها مع السعودية وإيران الشاه، حليفتي أميركا في المنطقة. ثم شرع برفع لواء التدَيُّن والتضامن الإسلامي في سبيل تثبيت دعائم "الكومنولث" الإسلامي المُؤيِّد سياسياً للغرب. واستكمل خطوة تنسيق علاقاته الخارجية بخطوات داخلية انفتح فيها على التيارات الإسلامية داخل مصر.
كانت بعض الحركات الأصولية، التي تضرَّرت من وجود أنظمة عربية تدين بالاتجاهات العربية التحديثية قد بدأت تطل برأسها على الساحة المصرية، مستفيدة من نكسة حزيران لترفع شعاراتها ومشاريعها السياسية على أنقاض هزيمة تلك الأنظمة. وكانت من جانب آخر، تعمل وكأنها تثأر لما ألحقته بها تلك الأنظمة من تشريد واعتقال وتعذيب. ولكي يدعم السادات موقفه الداخلي، راح يعمل لكسب التأييد الديني للإسلام الشعبي الجماهيري، من خلال بناء المساجد وإطلاق سراح آلاف السجناء الأعضاء من جماعة الإخوان المسلمين( ).
ب-قطع السادات العلاقات مع الاتحاد السوفياتي، منذ تموز/يوليو 1972، تحت ذرائع شتى؛ ومنها: إن الاتحاد الاسوفياتي لم يُقْدِم على تسليح مصر سوى بأسلحة دفاعية، وهذا ما يحول دون تمكين الجيش المصري من خوض جولة جديدة في الصراع مع "إسرائيل"( ).
لم تكن ذرائع السادات سوى غطاء يبرِّر فيه خطوته. فإنه وعلى الرغم من الواقع الدولي كان يدفع بالسوفيات إلى التقنين في إعطاء العرب سلاحاً نوعياً، إلا أن ذلك لا يجعل ذريعة السادات مفهومة تماماً. فوقائع المراحل التي سبقت هذا الموقف أو جاءت بعده، تدل بوضوح على أن الاتجاهات الاستراتيجية لنظام السادات كانت تُشير باتجاه القطيعة مع السوفيات لحساب التقارب مع الأميركيين.
ج-عمل السادات على تحريك الجمود الذي أصاب مسار التسوية على أساس قرار مجلس الأمن الدولي ذي الرقم 242، خاصة وأن العدو الصهيوني كان يرفع من شروطه للانسحاب من الأراضي العربية المحتلة في العام 1967م.
كانت أهم مظاهر التحريك، هي حرب 6 تشرين الأول/أوكتوبر من العام 1973م. قد تكون هذه الحرب أحد الخيارات/المخارج لتحريك عملية الجمود السائدة. فهي وإن لم تكن مريحة للأميركيين إلا أنها لم تُغْضِبهم كثيراً، خاصة وإن "إسرائيل"، بتصلُّبها، قد دفعت عملية التسوية-على قاعدة القرار 242-نحو الجمود. كما كانت النتائج العسكرية للحرب محدودة، فهي لم تصل إلى حدود إضعاف القوة الاستراتيجية للكيان الصهيوني. وباختصار كانت نتائج الحرب في حدود السيطرة الأميركية.
كانت نتائج حرب تشرين الأول/أوكتوبر محدودة، ولهذا كانت في الحسابات الأميركية مدخلاً إلى إعادة الحرارة مجدداً لإيجاد تسوية للنزاع العربي-الصهيوني( ).
ترافقت حرب 1973م مع قرار عربي يُحَظِّر تصدير النفط إلى الدول المساندة "لإسرائيل" لكي يدب المزيد من الحرارة في الجهود الأميركية. وهذا ما يُعَبِّر عنه سايروس فانس-وزير خارجية أميركا الأسبق-حول حرب 1973م وقرار حظر النفط بأنهما أحدثا "تحولاً في دور الولايات المتحدة للبحث عن السلام في الشرق الأوسط. فلم يعد في مقدور الولايات المتحدة أن تترك المسؤولية الأولى في تقديم مبادرات لتحقيق تسوية في أيدٍ غير أيديها. ولا عاد بوسعها أن تظهر في أعين العرب معدومة الحساسية للمشاكل الفلسطينية ولاحتلال أراضيهم… وبدون أن تُضْعِف الولايات المتحدة التزامها الأساسي بوجود إسرائيل، بدأت تتحرك باتجاه وضع الوسيط النشيط بين الجانبين".
يتابع فانس قائلاً:بعد حرب 1973م "فإن الدول المحافظة، مثل السعودية ودويلات الخليج، والزعماء المعتدلين، مثل الرئيس المصري أنور السادات، والملك الأردني حسين، كانوا يشاطرون أميركا قلقها من أن الراديكالية العربية، التي تتغذَّى على المواجهة العربية-الإسرائيلية، يمكن أن توفر قاعدة لتوسيع النفوذ السوفياتي"( ).
كما أن سوريا، بقبولها بقرار مجلس الأمن الرقم 338، قبلت ضمناً بالقرار 242، بعد أن كانت من الرافضين له. ففي مادته الثانية ينص القرار 338 على ما يلي: "يدعو [مجلس الأمن] جميع الأطراف المعنية إلى البدء فوراً، بعد وقف إطلاق النار، بتنفيذ قرار مجلس الأمن الرقم 242 للعام 1967م بجميع أجزائه". كما تنص الفقرة الثالثة منه على ما يلي: "يقرر أن تبدأ، فور وقف إطلاق النار وخلاله، مفاوضات بين الأطراف المعنية تحت الإشراف الملائم بهدف إقامة سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط( ).
لكنه لا بد من الإشارة إلى أن نتائج حرب 1973م، لم تكن ذات آفاق واتجاهات تسووية فحسب، وإنما كان فيها ما يدعو إلى الاعتزاز أيضاً. فقرار حظر النفط، واختراق آلة العدو الصهيوني العسكرية، خلافاً لكل التقديرات، كانت من الجوانب الإيجابية. وإن لم يكن من مهمات بحثنا هذا إيلاء هذا الجانب الاهتمام الكافي لأسباب منهجية، إلا أنه كان لا بد من الإشارة إلى ذلك.

-الخطـوة الرابعـة: إستكمال المواقف التسووية بالحصول على تأييد الأغلبية العظمى للأنظمة العربية الرسمية:
لم تكن تكتيكات السادات المرحلية إلا تمهيداً للحصول على إجماع عربي رسمي، جاء مؤتمر القمة العربية السادس لكي يؤمِّن هذا الإجماع.
بعد شهر ونيِّف من إعلان وقف إطلاق النار، عُقِد مؤتمر القمة العربية السادس في الجزائر بتاريخ 28 تشرين الثاني،نوفمبر 1973م، واتَّخذ قرارات دعا فيها إلى إقرار "السلام" على شرطين:
-الأول: "إنسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية المحتلة، وفي مقدمتها القدس".
-الثاني: "إستعادة الشعب الفلسطيني لحقوقه الوطنية الثابتة"( ).
وبعد أقل من عام واحد، جاءت مقررات مؤتمر القمة السابع، الذي عُقِد في الرباط بتاريخ 28 تشرين الأول/أوكتوبر 1974م، لكي توضح بشكل جلي ماذا يقصد العرب الرسميون "بالسلام العادل". وهذا ما توضحه الفقرتان الأولى والثالثة من قرارات المؤتمر:
"1-التحرير الكامل لجميع الأراضي المحتلة في عدوان حزيران/يونيو 1967م.
3-الالتزام باستعادة الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني وفق ما تقرِّره منظمة التحرير الفلسطينية بوصفها الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني".
أما الفقرة الثانية من مقررات المؤتمر ذاته فتُحَدِّد الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني بما يلي: "2-تأكيد حق الشعب الفلسطيني في إقامة السلطة الوطنية المستقلة على أي أرض فلسطينية يتم تحريرها"( ).

-الخطـوة الخامـسة: منظمة التحرير الفلسطينية تُؤمِّن الغطاء الفلسطيني للنهج التسووي العربي الرسمي:
وانسجاماً مع الوضع العربي الرسمي المنساق باتجاه التنازل عن الشعارات الاستراتيجية السابقة، كانت فتح-كبرى المنظمات الفلسطينية، تسعى منذ العام 1974م إلى الوصول لتسوية "سلمية" سريعة. وعلى الرغم من ان موقفها كان متضارباً مع مواقف الفصائل الأخرى، إلا أنه في آذار/مارس من العام 1977م، وأثناء الدورة الثالثة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني، توصَّل المجلس إلى إقرار المبدأ الذي سبق وأقرَّه مؤتمر القمة العربي السابع، وهو إقامة دولة فلسطينية على أي جزءٍ يتم تحريره من التراب الفلسطيني( ).
جاء هذا المبدأ متناقضاً مع القرارت السابقة التي وردت في الميثاق الوطني الفلسطيني، والذي وُضِع بتاريخ 10/7/1968م، وفيه تؤكِّد المادة التاسعة منه على اعتماد الكفاح المسلح كأسلوب لتحرير فلسطين. وأكَّدَت المادة الحادية والعشرون على تحرير الأرض الفلسطينية بكاملها( ).

-الخطـوة السادسة: الدور السوفياتي يُكَمِّل الحلقة المفقودة في دائرة التسوية:
أسهم الاتحاد السوفياتي، فكرياً وسياسياً، في تبرير الاتجاه التسووي. وكان متمسكاً به وداعياً له؛ وقد وضع-في أحيانٍ كثيرة-ثقله السياسي والفكري والإعلامي وراءه؛ وفي أحيان عديدة شنَّ حملات مباشرة أو غير مباشرة على القوى الثورية المناهضة للتسوية، واصفاً إياها بالتطرف واللاواقعية. وانسجاماً مع موقفه هذا، تبنَّت معظم الأحزاب الشيوعية العربية، والأوساط المتأثِّرة بها، هذا النهج.
وجاء أخيراً الموقف الأميركي، انطلاقاً من قناعته التامة بصدق اتجاهات الاتحاد السوفياتي نحو التسوية، لكي يؤكد على ضرورة إعطائه مقعداً في قيادة قطار التسوية. وعن هذه المسألة أكَّد سايروس فانس الرغبة الأميركية بمشاركة الاتحاد السوفياتي، قائلاً: "إن الاتحاد السوفياتي، بما له من مصالح سياسية في المنطقة، وكراعٍ لعدد من الدول العربية، يجب أن يُمْنَح، في المفاوضات، دوراً يساعد على منعه من الإضرار [بالجهود الأميركية]… وله مصلحة أساسية في تجنب مواجهة بين الدولتين الكبريين في تلك المنطقة المركزية"( ).
يقول جيمي كارتر، رئيس الولايات المتحدة الأميركية الأسبق، بأنه شعر-ومنذ انتخابه رئيساً في العام 1976م-بأن قادة المنطقة العربية قد يرحبون بخطوات تمهيدية من جانب الولايات المتحدة للوصول إلى هدف "السلام"، خاصة وإنه في نهاية حرب 1973م، جاء قرار مجلس الأمن ذو الرقم 338 مطالباً بوقف فوري للنار، ومقترحاً إجراء مفاوضات تحت رئاسة مشتركة للقوتين العظميين. كما لمس الإسرائيليون –كما يعتقد كارتر- إثباتات لتعهدات الولايات المتحدة من أجل ضمان أمن "دولتهم". وكان السادات قد قطع روابط مصر القوية بالتحاد السوفياتي، وتعزَّز اعتقاده بأنه يمكن الوثوق بمقدرة الولايات المتحدة على حماية مصالح العرب !!!، كما أبدى استعداده لمفاوضة "إسرائيل"، وهو متاكِّد أنه وبلاده يملكان المقدرة على الصمود في وجه أية إدانة تصدر عن العرب الآخرين( ).

IV – جهوزيـة الخطـة الاستراتيجيـة للتسوية تُوضَع على سكـة التنفيـذ.
أصبحت الخطة الاستراتيجية لتسوية الصراع العربي-الصهيوني جاهزة، بعد أن حازت على الإجماع الدولي، وشبه إجماع عربي رسمي، وبدون اعتراض من العدو الصهيوني. أضف إلى ذلك كله مبارَكَةً فلسطينية، التي على الرغم من جزئيتها وشروطها، إلا أنها دخلت في الدائرة الاستراتيجية للتسوية.
وعلى الرغم من جهوزية الخطة الاستراتيجية، فقد كانت دونها ودون التنفيذ عوائق وعراقيل، التي ظلَّت حتى أواسط السبعينات، تحول دون إتمام الصفقة بيسر وسهولة. ومن أهمها:
-الجانب العربي الرسمي كان يُصِرُّ على أن تكون التسوية شاملة، أي أن لا يتفرَّد كرف بالإقدام على توقيع اتفاق نع العدو الصهيوني؛ لن المطلوب أن يوقِّع الجميع معاً، حتى تُفوَّت الفرصة على من يريد التحريض ضد الآخرين.
-الجانب الفلسطيني، كان يُصِرُّ على الاعتراف بحقه في إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة، وأن تكون عاصمتها القدس. وفي هذه الشروط/الحقوق ما يتعارض مع التوراتية الصهيونية.
-أما التيار الشعبي العربي فكان رافضاً لكل الحلول التسووية، لأنها تتماشى مع منطق الاغتصاب. ومتأثِّراً باللاءات الثلاث: لا للتفاوض، لا للاعتراف، لا للصلح مع العدو الصهيوني، كان هذا التيار مدعوماً من قِبَلِ قِلَّةٍ من الأنظمة العربية؛ وقد شكَّل، بأطرافه الرسمية والحزبية والشعبية، ما سُمِّيَ "بجبهة الرفض".
ولأن جبهة القبول بالتسوية، كانت تمتلك إمكانيات أكثر، فقد أُعْلِن عن البدء بتنفيذ التسوية بسلوك طريقين:
-الطريق الأول: وهو الطريق الرسمي الذي كان أنور السادات فيه بمثابة كاسحة الألغام:
وكانت من نتائجه اتفاقيات كامب ديفيد، التي تمَّ توقيعها في العام 1977م. لكن هذه الاتفاقيات بقيت يتيمة-كما يعبِّر عن ذلك عرَّابها الأميركي كارتر- عندما رفض الفلسطينيون والأردنيون والسوريون الانضمام إليها( ).
جاءت اتفاقيات كامب ديفيد مخافة للحدود الدنيا "للسلام الشامل"، الذي أُقِرَّت شروطه بين الأنظمة العربية، وهو أن لا تنفرد أية دولة عربية بتوقيع أية اتفاقات أو معاهدات مع "إسرائيل" بمعزل عن الآخرين. ولهذا فقد نصَّت ديباجة الاتفاقية المذكورة على أهمية وضرورة قيام "سلام عادل وشامل ودائم في الشرق الأوسط…". لكن هذا لا يلغي أهمية الاتفاق المنفرد الذي وُقِّع بين مصر و"إسرائيل"؛ فهو، كما اعتبره الطرفان، يجب"أن يكون أساساً للسلام ليس بين مصر وإسرائيل فحسب، بل أيضاً بين "إسرائيل" وأي من جيرانها العرب كلٌ في ما يخُصُّه ممن يكون على استعداد للتفاوض من أجل السلام على هذا الأساس". وأردفت ديباجة الاتفاقية على أن "عقد معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل، يُعْتَبَر خطوة مهمة في طريق السلام الشامل في المنطقة، والتوصل إلى تسوية للنزاع العربي-الإسرائيلي بكل نواحيه"( ).
وفي أعقاب توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، جاء مؤتمر القمة العربية التاسع، الذي عُقِد بتاريخ 5 تشرين الثاني/نوفمبر من العام 1978م في بغداد، لكي يحدِّد ماهية الحدود الدنيا للتفاوض مع العدو الصهيوني في فقرته الثالثة، التي تنص على: "عدم جواز انفراد أي طرف من الأطراف العربية بأي حل للقضية الفلسطينية بوجه خاص، وللصراع العربي-الصهيوني بوجه عام"( ).

-الطريـق الثاني: تذليل العوائق من أمام التسوية، بضرب أو حصار اتجاهات الرفض الشعبية والحزبية.
من تأثيرات الاتجاهات الشعبية والحزبية، التي ازدادت ابتعاداً عن الأنظمة، واقتراباً من فكرة الكفاح الشعبي المسلح، أصبحت الساحة اللبنانية مقرَّاً لأهم تجربة جبهوية نضالية اكتسبت بُعدَها القومي-الشعبي، بعد نكسة حزيران/يونيو 1967م؛ وتجلَّت مظاهرها في حالة من التنسيق الكامل بين حركة المقاومة الفلسطينية والقوى والحركات والأحزاب التقدمية اللبنانية.
بعد تطبيع الوضع الرسمي العربي، وسوقه على طريق الاتجاهات التسووية، بقيت الساحة اللبنانية-بما فيها من مؤثِّرات حزبية وشعبية، لبنانية وفلسطينية، وبمن يلتفُّ حولها ويؤيدها ويدعمها من قوى عربية ودولية-مؤهَّلَة لإحباط الاتجاهات التسووية أو عرقلتها في أقل تقدير. لهذا اتَّجهت الأنظار إليها، وَوُضِعَت مخططات لحصارها من قِبَلِ: الامبريالية والصهيونية من جهة، والأنظمة المستفيدة من الاتجاهات التسووية من جهة أخرى.
إندلعت الأحداث الدامية في لبنان منذ 13 نيسان/أبريل 1975/، وغُلِّفَت برداء الاقتتال الأهلي-الطائفي. لكن وعلى الرغم من كل الادِّعاءات، التي اعتبرت أن ما يحصل في لبنان مسألة داخلية، كانت الحقيقة هي أن ما يدور على الساحة اللبنانية إنما هو تنفيذ مخطط تصفوي لكل العوامل المعترضة لاتجاهات التسوية.
تضافرت جهود أكثر من جهة دولية وعربية في تنفيذ هذا المخطط، وكان العدو الصهيوني إحدى القوى الأساسية التي أسهمت في خطة التنفيذ، سواء بالاعتداءات اليومية المحدودة، أو بالاعتداءات الواسعة كالتي حصلت في آذار/مارس 1978م، و6 حزيران/يونيو 1982م. وكان من نتائج العدوان الأخير إخراج آلاف المقاتلين الفلسطينيين إلى خارج لبنان وتوزيعهم على العديد من الدول العربية من جهة، وكاد العدو الصهيوني أن يفرض اتفاقاً منفرداً على لبنان في سلسلة اتفاقيات "السلام العادل والشامل والدائم" [!!!] من جهة أخرى.
تمَّت مواجهة اتفاق 17 أيار/مايو 1983م، بين لبنان و"إسرائيل"، بمثل ما وُوجِهَت به اتفاقيات كامب-ديفيد. ولأن لبنان كان عاجزاً عن حماية هذا الاتفاق على العكس مما فعلته مصر، فقد سقط الاتفاق تحت ضربات ومقاومة المتضررين منه، وهم دائماً، منذ أن أصبح نهج التسوية يُشكِّل إطاراً استراتيجياً، ينقسمون إلى تيارين: المتضررون تكتيكياً، والرافضون استراتيجياً.
بعد إسقاط اتفاق 17 أيار/مايو، استمرَّ مسلسل تصفية مظاهر الرفض الشعبي والحزبي لنهج التسوية، بعدما ثَبُت أن المخطط الذي ابتدأ منذ العام 1975م لم يحقق أهدافه كاملة. فالمقاومة الفلسطينية كانت تحاول استعادة مواقعها التي خسرتها في لبنان من جهة؛ وكان العراق، بعد انتهاء الحرب العراقية-الإيرانية يسترجع مواقعه بقوة، من خلال قوته العسكرية والسياسية المتنامية، ويحتل موقعاً مؤثِّراً في مجريات الأحداث. وتأتي خطورة دوره من أنه أصبح يشكل جبهة رسمية عربية رافضة للنهج التسووي.
لم يحسم الاجتياح الصهيوني للبنان في العام 1982م معركة التصفية ضد التيار العربي-اللبناني-الفلسطيني الرافض للتسوية، السبب الذي استمر فيه أرباب المخطط في معركتهم الدائرة على الساحة اللبنانية، والتي لم تنتهِ فصولها الأخيرة إلا بعد حرب الخليج في أوائل العام 1991م؛ وبها ضُرِبَت بقسوة آخر مظاهر الرفض العربي الرسمي، مما انعكس إحباطاً جديداً عند الجماهير العربية والمقاومة الفلسطينية على حد سواء.
فمع وقف إطلاق النار في الخليج، دعا جورج بوش-الرئيس الأميركي السابق-إلى عقد مؤتمر دولي تُسوَّى فيه قضية الصراع العربي-الصهيوني على أساس مبدأ "الأرض مقابل السلام"، وتطبيق قراري الأمم المتحدة 242 و 338( ).
وفي أقل من نصف عام من الزمن، أخذت عملية التسوية تسير بدون عوائق، وبدون وجود رافضين فاعلين لها. فمن خلال الدعوة التي وجَّهتها الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي إلى كل من سوريا والأردن وفلسطين ولبنان، إضافة إلى مصر و"إسرائيل" لعقد مؤتمر للسلام في مدريد، انعقدت جلسته الأولى ف 30/10/1992.
مهَّد الموقف الفلسطيني للمشاركة في المؤتمر من خلال إصداره بياناً يُلقي فيه اللوم على التطورات الإقليمية والدولية التي حصلت قبله، و"أهمها حرب الخليج، والتغييرات التي حدثت في المجموعة الاشتراكية، مما أدَّى إلى تبديل جوهري في موازين القوى، فانتهت الحرب الباردة، وبدأت ملامح عصر جديد في العلاقات الدولية، وخاصةً في مجال العلاقات الأميركية-السوفياتية، والتعاون بينهما لحل الصراعات والمشاكل الإقليمية سلمياً".
ويستطرد البيان قائلاً: "و انسجاماً مع مبادرة السلام الفلسطينية سنة 1988م، والشرعية الدولية والعربية، تعاملت منظمة التحرير الفلسطينية بشكل إيجابي وفعَّال مع الأفكار والمقترحات والمبادرات الدولية السلمية…"( ).
بعد مفاوضات عسيرة وطويلة، وبعد لقاءات سرية توصَّل كل من "الإسرائيليين" والفلسطينيين إلى عقد ما سُمِّيَ باتفاق (غزَّة – أريحا أولاً)، الذي وُقِّع في واشنطن بتاريخ 13/9/1993.
كانت الخطيئة التي ارتكبها التيار الفلسطيني القابل بالنهج التسووي، من وجهة نظر العرب المنخرطين في التسوية، ليست في خروجهم عن السياق التسووي، لأنهم هم أنفسهم كانوا يمارسونه بالفعل؛ لكن المعارضة التي وُوجِه بها الاتفاق المذكور تعود إلى أن الجانب الفلسطينيي وقع في خطأ الانفراد بالتوقيع؛ وهذا الانفراد-كما ينتقده التسوويون العرب-جاء خلافاً لمقررات القمم العربية؛ وهذا بحد ذاته يطعن المفهوم الشمولي للسلام، بشكلياته لا بجوهره.
إن جُلَّ ما نستطيع الخروج به من نتائج، من خلال بحثنا عن جذور الاستراتيجية التسووية، من خلال قراءتنا التاريخية والإيديولوجية لها، هي أنها تنامت خطوة-خطوة، خلال عقدين من الزمن. وهي في مضمونها، سواء كانت شاملة أم منفردة، فإنما فيها الشيء الكثير من التنازل أمام قوة الاغتصاب. وهذا النهج التسووي/التنازلي يأتي خلافاً لحالة الرفض العربي القائم على الامتناع عن الاعتراف بواقع الاغتصاب كمبدأ تمارسه الشعوب في أثناء مواجهة أي نوع من أنواع الاحتلال.
كانت حالة الرفض هي القاعدة منذ أن أُعْلِن عن وعد بلفور وعن اتفاقية سايكس-بيكو، وأصبحت هذه الحالة استراتيجية قومية، بلغت أعلى مستوياتها خلال الخمسينات والستينات من القرن العشرين. ولم تكن حالة الرفض ذات وجه واحد، وإنما كان يميزها رفضها لواقع الاغتصاب الصهيوني لأرض فلسطين وواقع الاغتصاب الإمبريالي لثروات الأمة العربية، ولقرارها السياسي المستقل، الذي هو رفض مبدئي للاستراتيجية الإمبريالية-الصهيونية العاملة في سبيل تكريس التجزئة الجغرافية، وضرب أية توجهات وحدوية، على مختلف الصعد الفكرية والسياسية والاقتصادية.
إن الاتفاقيات المنفردة، بدءاً بكامب ديفيد 1977م، مروراً باتفاق 17 أيار/مايو 1983، وصولاً إلى اتفاق (غزة-أريحا أولاً) في العام 1993م، وانتهاء بالاتفاقيات اللاحقة، التي قد تُبصر النور بين لحظة وأخرى، تصب كلها في النهج التسووي المرسوم لها.
وبانتظار ولادة اتفاقات أخرى، لكي تصبح سياسة التنازل شاملة، يكون قد أُسْدِل الستار على تنفيذ آخر فصول مسرحية/معاهدة سايكس-بيكو ووعد بلفور، اللذين يشكلان الهيكلية الاستراتيجية للثوابت الامبريالية في سبيل المحافظة على مصالحها.
لكن ذلك لن يُسْدِل الستار على الحقيقة الماثلة في أن كل ما حصل لن يصب في مصلحة الأمة، وإنما العكس هو الصحيح، لأن هذا الواقع الراهن يعمل في سبيل تعميق ارتباط مصيرها بالنظام العالمي الامبريالي الجديد/القديم. لكن هذا الواقع، بدوره، لن يستطيع أن يطمس واقع الحق ومبادئه، لأنه لن يعني التاريخ/المستقبل أن قسماً من الأمة قد وقَّع صك التنازل عن حقوقها بالنيابة عنها، لأن الصكوك لن تُلْزِم الآخرين، كما أنها لن تُلْزِم الأجيال المقبلة باحترام هذا الاتفاقيات.
وإذا كان استشراف المستقبل، من خلال المتغيرات الجديدة، فيما لو اكتملت التسوية فصولاً، هو هاجس الأمة العربية؛ فإن السؤال عن مدى انعكاس هذه المتغيرات على المستقبل، يبقى هو السؤال الأشد إلحاحاً. وكل ما ينبغي الإشارة إليه هنا، هو أن استشراف المستقبل يجب ألا يتم بمعزل عن وعي الماضي بموضوعية. وأهم ما نستطيع التمهيد فيه للمراحل القادمة هو التأكيد باستمرار على أن التسوية بين قوة الحق وقوة الاغتصاب، بين السيادة والتبعية، بين السيد والعبد، عاجزة عن التوفيق بين كل تلك المتناقضات. فمن المهمات الرئيسة أمام المثقفين القوميين العرب التقدميين الرافضين للتسوية، جملة وتفصيلاً، هو أن لا تتحول التسوية إلى فكر تسووي ينال من صفاء ونقاء الثقافة الشعبية، خاصة إذا كانت الأثواب التي تتستَّر بها التسوية تستطيع أن تحجب الهزيمة بثوب النصر، والضعف بثوب القوة، واللاعدالة بثوب العدالة، لأن من أخطر الأمور أن تنزلق الجماهير الشعبية إلى مستنقع القبول بالتسوية، وكأنها هي المنقذ الوحيد المتاح.
***
مصـادر البحث ومراجعـه.
-بو حبيب، عبد الله: الضـوء الأصفر: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر: بيروت: 1991: ط1.
-خوري، يوسف: المشاريع الوحدوية العربية (1913-1987): مركز دراسات الوحدة العربية: بيروت: 1988.
-شيبان، أنطوان: قرار أميركا بالفشل في الشرق الأوسط: 1984.
-فانس، سايروس: خيـارات صعبـة: المركز العربي للمعلومات: بيروت: 1983.
-قرم، جـورج: إنفجار المشرق العربي: دار الطليعة: بيروت: 1987.
-كارتر، جيمي: دم ابراهام: دار المروج: بيروت: 1986: ص 10: (تعريب سامي جابر).
-كامل، ميشال: أميركا والشرق العربي: وزارة الثقافة: القاهرة: د. ت.
-كانتوري، لويس: "المحافظة والتقدم في مصر: الإحياء الإسلامي" (8-26): مجلة قراءات سياسية: فلوريدا: العدد الثاني: السنة الثالثة: 1993.
-الكيـالي، عبد الوهاب: موسوعة السياسة (ج1 ): المؤسسة العربية للدراسات والنشر: بيروت: 1985: ط2.
-محيو، سعـد: فلسفة القرار 242: معهد الإنماء العربي: بيروت: 1985: ط1.
-مجموعة من الباحثين: السياسة الأميركية والعرب: مركز دراسات الوحدة العربية: بيروت: 1982.
-المفاوضات العربية-الإسرائيلية (1949-1991): المركز الإعلامي للأبحاث والتوثيق: بيروت: 1992.
-نيكسون، ريتشارد: الحرب الحقيقية: دار حسان: دمشق: 1983: ط1.
-هـلال، علي الدين: العرب والعالم: مركز دراسات الوحدة العربية: بيروت: 1988.
-هيكل، محمد حسنين: سنوات الغليان: مركز الأهرام: القاهرة: 1983: ط1.
***

عفلق وقضية فلسطين: قضية العرب المركزية( )
مقدمات منهجية:
‏أولاً: يتميز ميشيل عفلق بأنه شغل موقعين متكاملين: ميشيل عفلق المفكر، ‏وميشيل عفلق القائد الحزبي.
‏ثانياً: كان عفلق يصيغ أفكاره في جو نقدي في واقع التيارات الفكرية والسياسية العاملة في الحقلين القومي والقطري.
‏ثالثاً: لا يمكن استيعاب موقف عفلق من القضية الفلسطينية إلا من داخل اتجاهاته في الفكر القومي العربي.
رابعاً: لم يضع ميشيل عفلق، ‏منذ بداية التأسيس نظرية متكاملة للمسألة القومية وقضاياها السياسية المتفرعة عنها.
‏خامساً: ثبات إستراتيجية عفلق الفكرية والسياسية من القضية الفلسطينية.
I- مواقف التيارات الماركسية السلبية من المسألة القومية قادتها إلى مواقف سلبية من القضية الفلسطينية.
II- ترابط المضمون الفكري للقومية العربية عند عفلق مع القضايا القطرية.
III- أشرق حب عفلق للقومية العربية حبا لقضية فلسطين.
1- تحالف الصهيونية مع الاستعمار والرجعية العربية.
2- ليست الصهيونية والاستعمار مشكلة فلسطينية فحسب، ‏بل مشكلة قومية عربية أيضاًَ.
3- دفاع العرب عن فلسطين هو دفاع عن أنفسهم، ‏والجماهير العربية هي صاحبة المصلحة في النضال من اجلها.
4- الوجه العملي لموقف عفلق النظري من القضية الفلسطينية.
5- دعوة ونضال من أجل إنقاذ بعض فصائل المقاومة من الاتجاهات القطرية ومساعدتها ضد الانزلاق في الفكر والممارسة القطرية.
6- موقف عفلق من التسوية السياسية للصراع العربي - الصهيوني .
IV- مشروع عفلق المستقبلي، الفكري - السياسي، لمواجهة الخطر الصهيوني - الاستعماري.
1- كسب صداقة الشعوب الغربية.
2- المراهنة على تطوير مواقف الدول الاشتراكية وشعوبها.
3- علاقة العرب مع الشعوب الإسلامية.
4- انعقاد الأمل على الأقطار العربية التي آمنت بخط التحرير الكامل.
5- انتظار تحول في وحدة الجماهير العربية ونضالها.
6- الوعي القومي العربي في توثيق التفاعل مع قضية فلسطين.
7- العمل من أجل قومية المعركة.
8- الحوار والانفتاح بين شتى القوى التقدمية والقومية.
9- انتفاضة الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة أمل منتظر في تجديد روح الثورة القومية.
V- خاتمة.
***
‏محور عفلق وقصية فلسطين: قضية العرب المركزية
‏كدنا نتوه من أين نبدأ، في الدخول إلى قضايا الأمة، ‏بين قائل بأن المدخل هو البحث الأكاديمي الهادئ المستقرئ نتائجه بعلمية جافة. وبين قائل، ‏علينا الخروج من برودة هذا المنهج بالمعرفة إلى رحاب حرارة الإيمان، ‏لأن حرارة الإيمان هي وقود ضروري للنضال.
‏ليس بين القائل بهذا أو بذاك تناقض، ‏بل فيه تكامل ضروري وحاجة ماسة. نحن بحاجة إلى عقل هادئ متماسك الأعصاب لكي يستل من التاريخ والنص حقيقة قد تغيب عن أذهاننا في حرارة النضال والتعبئة النضالية. فهذا المنهج بالمعرفة يرسم الخطى الشمولية إلى نضال وعمل، هما بحاجة ضرورية وماسة، ‏أيضاً، ‏إلى حرارة الإيمان والحب للقضايا التي نناضل من اجلها.
‏لقد تناول عدة باحثين، ‏بالتنقيب والتحليل، ‏قضية فلسطين في فكر ميشيل عفلق؛ وتداخل في النظر إلى نتاج أبحاثهم كثيرون من المعقبين. لكننا نرى أن المستقبل يدعونا إلى الاستمرار بالبحث والتنقيب، وإلى معقبين يلاحظون ويصوبون. فعملية الوصول إلى أفضل نتائج المعرفة تتطلب الدأب والمثابرة. اللهم إلا إذا كنا نحسب أننا توصلنا إلى الحقيقة كاملة، وليست هناك حقيقة مطلقة. أما إذا وجدت فلا معنى لاستمرار الحياة العقلية، فسوف نتحول، ‏ساعتئذ، ‏إلى مقلدين ومستسلمين وحافظين وباصمين ومفسرين.
لماذا ينظر عدة باحثين إلى مسألة ما؟ ولماذا لا نحصر المسألة في يد باحث واحد؟ ولماذا لم يتوقف حبنا للمعرفة عن الحقائق التي توصل إليها السابقون من فلاسفة ومفكرين وأنبياء ورسل ونابغين ومتميزين في مجتمعاتهم؟
إنني أحسب بأن توق البشرية للمزيد من المعرفة هو اعتراف واضح بأن لا حقائق مطلقة في المعرفة البشرية، باستثناء القيم والمبادئ الأخلاقية السامية. وكل ما عدا ذلك فهو خاضع للحقيقة النسبية. من هنا، ‏أدعو إلى ان نفتح باب البحث على مصراعيه، ‏وان تتعدد النتائج والرؤى، ‏ولندع الواحد يكمل الأخر، ‏وان يكون تعدد ‏المناهج بالمعرفة مصدر إغناء لها. فبهذا الأسلوب تتكامل الرؤى، فنتوصل منها إلى رؤية أكثر قرباً من الوحدة المعرفية لشتى مناحي حياتنا وقضايانا وعلى شتى الصعد.
‏كانت هذه المقدمة جزءاً من هم شعرت به عندما أردت أن أكتب هذا البحث عن عفلق والقضية الفلسطينية. والسبب انه من بديهيات البحث المنهجي ان يستند إلى ما سبقه من أبحاث تناولت الموضوع ذاته، ‏لكي يقرأها الباحث بقصد الاستفادة ‏منها أولاً، والتطوير والاغناء ثانياً. ومن خلال قراءاتي لأبحاث الذين سبقوني وصلت إلى الكثير من الفائدة، ‏وكدت ان الغي فكرة البحث من جديد لأن الأبحاث السابقة بلغت من الغنى مما أثار ارتياحي. ولكن تبين لي ان هناك زوايا أخرى، ‏ومنها الزوايا المنهجية، ‏لم يقف فيها من سبقني، ‏للنظر من خلالها إلى موضوع البحث. وقفت ساعتئذ، في إحدى هذه الزوايا وأطللت منها وشاهدت من خلالها فكر عفلق الفلسطيني، ‏ووجدت أنني من زاويتي قد استطيع ان أضيف إلى جهد من سبقني لبنة أخرى إلى زوايا البحث. وهكذا كان. ولعلي كنت قد أصبت فأرتاح لما بذلت من جهد، ‏أو أكون قد أخفقت فمنكم الاعتذار.
‏بداية نرى أنه لا يمكننا ان نفهم مواقف ميشيل عفلق من شتى القضايا الفكرية والسياسية إلا من خلال تحديد بعض الملاحظات المنهجية التي علينا ان نسلكها في خلال مراجعتنا لأي جانب فكري أو سياسي قام بمعالجته، ‏وهنا نلقي الضوء على بعض ما حسبناه ضرورياً من المقدمات المنهجية.
‏أولاً: يتميز ميشيل عفلق بأنه شغل موقعين متكاملين: ميشيل عفلق المفكر، وميشيل عفلق القائد الحزبي.
‏قلائل هم الذين شغلوا هذين الموقعين معاً. لقد تميز بعض المبدعين في الشأنين الفكري والسياسي باحتلال موقع واحد؛ إما موقع المبدع في الفكر، أو موقع المبدع في السياسة. أما ميشيل عفلق فقد تميز بأنه شغل هذين الموقعين معاً. لهذا فقد أبدع بعض المفكرين بإنتاج الفكر وابتعدوا عن العمل الجماعي المنظم في سبيل تطبيق ‏ما أبدعوا. وأبدع بعض السياسيين في تطبيق فكر ما وأضافوا إليه من خلال ممارساتهم. فأما ميشيل عفلق فقد أبدع فكراً وأسهم كثيراً في تطبيق إنتاج فكره.
‏وكثيراً ما يتبادر إلى أذهان الذين درسوا فكره ان هناك انفصالاً ما بين فكره وبين ما أنتجته القيادة الجماعية للحزب الذي أسسه.
‏ومنعاً للوقوع في مثل هذا الالتباس، ‏علينا أن نحذر من الوقوع في أخطاء منهجية عندما نأتي بشواهد، ‏أحياناً، ‏من مقررات أو مواقف اتخذتها القيادة الحزبية البعثية بشأن قضية فلسطين أو غيرها، لأننا عندئذ سوف نكون متعسفين عندما نفرق بين ما جاء مباشرة في مقالات عفلق وأحاديثه، ‏وبين ما جاء في مؤتمرات الحزب ومقرراته. وفي مثل هذه الحالة علينا ان نضع ندواته مع الحزبيين، ‏وكلماته التي كان يلقيها في كل المناسبات السنوية في الذكرى السنوية لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي، ‏ومقالاته، ‏ومقر راث الحزب في دائرة واحدة.
ثانياً: كان عفلق يصيغ أفكاره في جو نقدي لواقع التيارات الفكرية والسياسية العاملة في الحقلين القومي والقطري
‏كان العديد من التيارات الحزبية والفكرية والسياسية ذات تأثير وفعالية في وسط قطاعات واسعة من المجتمع العربي، ‏ولهذا السبب كان عفلق يتناول بالنقد أفكار وسياسات تلك التيارات. ومن هنا نرى، ‏منهجياً، ‏أنه لا بد من وصف الاتجاهات الفكرية والسياسية التي كانت سائدة في الزمن الذي كان يصيغ فيه عفلق أفكاره. فمواقفه الفكرية كانت ذات صلة نقدية لمواقف تلك التيارات واتجاهاتها من القضايا القومية ومنها القضية الفلسطينية. فهو كان يقاتل على جبهتين:جبهة العدوان العسكري الصهيوني - الاستعماري من جانب، ‏وعلى جبهة التيارات الفكرية والسياسية العربية من جانب آخر.
‏ونحن إذ نعود بالذاكرة إلى بعض وقائع الصراع التاريخي السياسي والفكري لتلك التيارات، ‏ومن أهمها النظرية الماركسية واتجاهات الحركة الشيوعية العربية ومواقفها السياسية والفكرية، فإنما الهدف من العودة إلى نقدها ليس إلا من اجل أن ‏نحدد موقع اللحظات التاريخية التي أسهمت في تكوين فكر عفلق على مسار القضية القومية بشكل عام، ومسار تطور قضية فلسطين بشكل خاص لأنها موضوع بحثنا المباشر. وإننا إذ ندخل إلى هذه الحلبة فليس من موقع التعصب الحزبي بل من موقع الناقد الموضوعي لتجارب شكلت محطة للنقد الذاتي عند التيارات المذكورة.

‏ثالثاً: لا يمكن استيعاب موقف عفلق من القضية الفلسطينية إلا من داخل اتجاهاته في الفكر القومي العربي.
‏كانت القضية الفلسطينية قطرية بجغرافيتها التي رسمتها اتفاقية سايكس - ‏بيكو. لكنها، في الواقع التاريخي، كانت جزءاً من القضية القومية العربية، وهي جزء لا يمكن ان نفصله بتاتاً عنها. واكتسبت أهميتها القصوى من انها صوبت الأنظار نحو الفخ الذي نصبته الاتفاقية المشؤومة من اجل زرع العوائق في وجه أية مشاريع، فكرية وسياسية، تعمل من أجل توحيد الجزء العربي من الإمبراطورية الإسلامية.

رابعاً: لم يضع ميشيل عفلق، منذ بداية التأسيس نظرية متكاملة للمسألة القومية وقضاياها السياسية المتفرعة عنها.
‏ترك عفلق للتجارب النضالية دوراً في صياغة تلك النظريات. وقد برر ذلك قائلاً بأنه لا يمكن صياغة نظرية متكاملة لأوضاع متحركة. بل إن تحديد المسارات العامة للنظرية هو الأصل، والنضال من أجلها هو الكفيل باستكمالها. لذلك كان الحزب «حركة ثورية نضالية تقوم على الفكر، لا مدرسة فكرية تبشر بالثورة والنضال» ( ). لأنه، كما يقول، ‏إذا تحولت مهمة الحزب إلى البحث النظري بعيداً عن أية حالة نضالية لكان عليه أن يتقلص إلى حلقة دراسية وعمل نظري مجرد( ).

خامساً: ثبات إستراتيجية عفلق الفكرية والسياسية من القضية الفلسطينية
‏من خلال رصدنا لمواقف عفلق وفكره، كما سوف نرى في النتائج الأخيرة من البحث، وجدنا أن ثبات رؤيته الإستراتيجية سمح لنا في البحث الأكاديمي على أن ‏نأتي بشواهد لتدعيم بعض النتائج من نصوص متباعدة، نسبياً في الزمن التي قيلت فيه. وكي لا يعد هذا ثغرة منهجية، ‏كان لابد من الإشارة إليها في هذه المقدمة.
‏هنا وبعد تحديد الخطوات المنهجية سنحاول ان نطل، ‏مسترشدين بها، على الاتجاهات الفكرية والسياسية للتيار الماركسي من القومية العربية وقضاياها، ‏كمدخل لتحديد مواقف ميشيل عفلق حول القضية الفلسطينية واتجاهاته الفكرية ‏منها.
I- مواقف التيارات الماركسية السلبية من المسألة القومية قادتها إلى مواقف سلبية من الفلسطينية؟
لم يكن التنافس بين حزب البعث والأحزاب الشيوعية العربية يقع تحت ضغط التنافس الحزبي المتعصب، وإنما كانت تحكمه جملة من المواقف المبدئية والسياسية من المسألة القومية العربية وما يتفرع عنها من قضايا قطرية. وكان عفلق حريصاً كل الحرص على ان تكون التعدديات الفكرية عامل صحة وتكامل وليست عامل تفريق وتفتيت. ولهذا يعبر في العام 1976م، عن ذلك قائلاً: «كيف نكون ثوريين اشتراكيين مجددين، وفي الوقت نفسه نرى في الشيوعية خصماً ‏فكرياً بدلاً من أن نرى فيها صديقاً وحليفاً؟»، أما الذي كان سبباً في تلك الفجوة بين البعث والشيوعيين فكانت الصيغة الستالينية( )، ‏التي كانت تلزم كل الأحزاب الشيوعية بأن تعمل من أجل مساندة الاتحاد السوفيتي في مواقفه الدولية. ولأن عفلق كان يرى ان تلك الصيغة لا تحقق مصلحة الأمة العربية الفكرية والسياسية، ‏كانت مواقفه الناقدة للشيوعية عائدة إلى خوفه من ان تصبح «عامل تشويش وتضييع للوقت على الثورة العربية»( ).
‏لقد عبر عفلق منذ الأربعينات عن ان الصراع، بدلاً من أن يكون مع الغرب الرأسمالي لوحده، على ان تلتف سواعد كل الحركات والتيارات والأحزاب العربية لتوحيده ورفده. انبرت الأحزاب الشيوعية العربية إلى الوقوف في الخندق المضاد للعمل الشعبي العربي المشترك، ومن هنا خاض حزب البعث العربي الاشتراكي صراعاً غير مباشر مع الشيوعية( ).
‏لقد أستند هذا الصراع إلى جملة من التناقضات الفكرية والسياسية. وقد رأى عفلق ان الشيوعية ليست مجرد نظام اقتصادي «بل هي رسالة. . مادية، أممية تنفي حقيقة القوميات في العالم، وتنكر الأمس الروحية والوشائج التاريخية التي تقوم عليها الأمة» ( ). فهي تريد إذاً، «أن تهدم العصبية القومية في أمة لم تتكون قوميتها بعد، وتخشى من هذه العصبية على الأمم الأخرى وعلى السلام العالمي في وقت لا يزال العرب فيه محكومين من قبل غيرهم» ( ). وانطلاقاً من قناعاتهم الفكرية «يقرر الشيوعيون أن العرب عاجزون عن تحقيق استقلالهم ونهضتهم القومية إذا لم يربطوا مصيرهم بمصر العالم... (ويحسبون أنهم) وحدهم يستطيعون إيجاد هذا الارتباط المزدوج، بأن يلحقوا العرب فكرياً بالنظرية الشيوعية، وان يلحقوهم سياسياً بمنظمات الأممية الثالثة» ( ). ولهذا السبب، يقول عفلق: «سوف تبقى تأثيرات النظرية الشيوعية سلبية على القومية العربية، ما لم تعبر هذه القومية عن نفسها بنظرية علمية متماسكة شاملة، قابلة لأن تتحقق في العمل المنظم» ( ). لكن على الرغم من ان العرب لا ينكرون ضرورة اتصالهم بالعالم الحديث»، فهم «لا يرون إمكان الإفادة من الاتصال الثقافي إلا إذا تكونت شخصيتهم القومية، وبلغت مدا كافياً من النمو والوضوح والوعي لخصائصها يسمح لها بتمثل الأفكار الأجنبية وتحويلها إلى ما يزيد في نموها وتوضيح اتجاهها» ( ).
فاستناداً إلى إيديولوجيتهم الأممية وقف الشيوعيون العرب موقفاً مستغرباً من القضايا القومية، فحسبوا انها مجرد جزئيات أممية. وكل موقف يتجاوز السقف الأممي، كما حسبوا يصب في دائرة الفكر الشوفيني. لهذا السبب انعكست اتجاهاتهم الفكرية على تحليلهم للقضايا القومية العربية. ووزعوا أحكامهم على شتى قضايا الساعة في ا لأربعينات بين تقدمية وفاشية. وغرقوا في توزيع الأحكام على شتى الاتجاهات الفكرية والسياسية، وحسبوا ان صراع الطبقات هو المقياس الذي على أساسه يمكن محاكمة نتائج الأمور. فتناسوا، في تلك اللحظة، مفهوم الاستعمار وأهدافه، فانعكست اتجاهاتهم تلك سلباً على حركات التحرر الوطنية والقطرية. فأصبح ‏عندهم المناضل ضد الانتداب الفرنسي، مثلاً، ‏فاشياً. ولم يتذرعوا بأي سبب إلا ان فرنسا في ذلك الحين كانت حليفاً للاتحاد السوفييتي. وكان الأمر نفسه ينطبق على مواقفهم من القضية الفلسطينية. فأصبح مقياسهم الطبقي مقياساً يكيلون به اتجاهات الصراع بين الفلسطينيين العرب واليهود على أساسه. ومن غريب الأمور أن اليهود بنظر الشيوعيين العرب، كانوا يمثلون الجانب التقدمي بينما المقاتلون في سبيل منع المشروع الصهيوني من السيطرة على أرض فلسطين أصبحوا هم الفاشيين. فالأممية الشيوعية، في تلك المرحلة، أصبحت في نظر القوميين رديفاً للعوائق الفكرية والسياسية التي تحول بين العرب والنضال في سبيل التحرر والاستقلال.
نتيجة لتلك المواقف المستغربة التي وقفها الشيوعيون ضد القضايا القومية، التي شكلت جزءاً من المشاريع المعادية لطموحات الأمة العربية، وقف حزب البعث، منذ الأربعينات وقبلها، بشكل سلبي من الحركة الشيوعية العربية كرد فعل ضد اتجاهاتهم الفكرية والسياسية من قضايا الأمة العربية.وقد جاء في بيان الحزب البعث، في العام 1945م، ما يؤشر بوضوح حول مواقف الشيوعيين العرب، وبعض مضمونه يقول: إن الشيوعيين حسبوا ان الصراع الأساسي هو بين تقدم وفاشية، فأيدوا الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، ورفعوا صور ديغول إلى جانب صور ستالين. وكانوا يحسبون ان مجرد الصراع الطبقي هو تتويج لمعركة التحرر، فاقتصرت دعوة الشيوعيين على مبدأ حسم الثورة الاجتماعية قبل أي شيء آخر، بينما كانت الحركة العربية التي يقودها حزب البعث، تقرن التحرر الوطني بالثورة الاجتماعية( ).
‏نتيجة لتلك الإيديولوجية الشيوعية، تحالفت الأحزاب الشيوعية العربية مع الحكومات العربية المحلية، التي كانت قائمة، وأيدوها في سياسة التخاذل أمام الفرنسيين في محاربة القومية العربية. «وكان الحزب الشيوعي الوحيد الذي تجرأ على الدعوة الصريحة إلى مصادقة الشعوب الاستعمارية والتفاني في حبها وخدمتها وتقديس أبطالها... كل ذلك بحجة التساوي بين الأمم. . . وباختلاق تفريق ‏كاذب بين الحكومات الاستعمارية وبين شعوبها، الذي يعتبره الشيوعيون بريئاً من وزر الاستعمار. . . وأخذوا يحتفلون بأعياد فرنسا القومية»( ).
‏لقد أثبتت النتائج اللاحقة خطأ الوقوع في الخندق المعادي للقومية العربية، وخطأ فهم الصراع في فلسطين على أنه بين طبقة وطبقة، وهذا كان مدار نقد ذاتي مارسته الأحزاب الشيوعية العربية، ولكن بعد ان ضاع من عمر النضال القومي عشرات السنين.

II- ترابط المضمون الفكري للقومية العربية عند عفلق مع القضايا القطرية
لماذا ركز عفلق على المسألة القومية أولاً، ولماذا أعطى الجانب الروحي فيها أرجحية تسبق كل الجوانب الأخرى ؟
‏بالإضافة إلى ان المسألة القومية العربية لم تكن سراً مغلقاً، بل جاء عفلق في مرحلة كانت النظرية القومية تسير على طرق الإنضاج النظري بإسهامات من العديد من المفكرين القوميين العرب الذين سبقوه، لكن عفلق رأى أن الشعور القومي يسبق كل نظرية أخرى.
‏تواجهت المسألة القومية عند عفلق بعاملين: جفاف المسألة النظرية في فكر السابقين وابتعادها عن أية حالة نضالية، والتحدي الفكري للنظرية المادية الماركسية التي تؤمن بأن المادة / الاقتصاد هي المحرك الوحيد للتاريخ، وهي بهذا ‏تنفي تأثير العامل الروحي في حياة المجتمعات والشعوب.
‏وجد عفلق، في تاريخ الأمة العربية، ان الدعوة الإسلامية بما تتضمنه من قيم روحية، قد أعطت لهذه الأمة زخماً ودفع بها إلى بناء أهم تجربة سياسية ارتقت بالعرب من مستوى الشعوب والقبائل المتصارعة إلى وحدة سياسية وروحية سيطرت على إمبراطورية واسعة الإرجاء لمئات من السنين. وهذا ما أضاف إلى فكره القومي قناعة راسخة بأهمية العامل الروحي في معارك التحرر والتغيير .
‏جفاف النظرية القومية، ومادية الماركسية المعادية للقومية، ومضامين الدعوة الإسلامية الروحية، بالإضافة إلى التحدي الاستعماري في السيطرة على الأمة ‏العربية الذي ولد الشعور والحاجة أمام العرب إلى خوض معارك الاستقلال، شكلت بمجموعها عناصر أساسية في صياغة الفكر القومي البعثي عند عفلق، واتسمت بمميزات خاصة أثارت من حولها الكثير من نقد الماديين والمثقفين، الذين لم يريحهم أن يروا «الثقافة تتحول إلى نضال» ( ).
لماذا ركز عفلق، منذ أوائل الأربعينات، على دور العاطفة والحب كأهم عناصر تكوين النظرية القومية؟
‏كانت طبيعة المرحلة تفرض تميزاً في الدعوة إلى القومية العربية وذلك لمواجهة الدعوة إلى الوحدوية الإسلامية كا‏ستمرار للتجربة التي لم يكن قد مضى على سقوطها ربع قرن من الزمن، وكان فيها ما يخيف العرب الآخرين من غير المسلمين. وكذلك في مواجهة الفكر الماركسي المادي والذي فيه ما يخيف كل أصحاب الأديان السماوية. وكان الفكر الماركسي، بدوره، يفتقد غياب تحديد علمي للمسألة القومية. لهذا جاء في المسألة القومية التي كان عفلق يعمل على إنضاجها، ما ينقض الأخذ بكل التجربة الإسلامية السابقة، وما يزرع الاطمئنان في نفوس غير المسلمين، وفيها ما يحاول الإجابة عن أهمية دور الروح والدين المتجدد عند من يخشون طغيان الجانب المادي على الجانب الروحي في حياة الأفراد والأمم على حد سواء.
‏وقد رد على الاتجاه الأول بأن أعطى للدين، كجانب روحي لا بد من أن يتسلح به الإنسان دوراً مهماً، ‏لأنه جانب عملي. ودعا إلى الأخذ من الإسلام روح الثورة التي حررت العرب، منذ بداية الدعوة الإسلامية، من عوامل الفرقة والتشتت على الصعيد الديني، عبادة إله واحد كبديل لتعددية الأصنام. وعلى الصعيد السياسي؟ وجود نظام واحد يخضع الجميع لأحكامه، كبديل لتعدد القبائل والعشائر، وقوانين الأعراف العشائرية.
‏أما بالنسبة للماركسية فقد رد عليها بربطه معنى القومية بمعنى الأسرة الصغيرة، وأعطى معنى إنسانياً لروابط الحب التي تشد أبناء القومية الواحدة بعضهم لبعض «لأن الوطن بيت كبير والأمة أسرة واسعة» ( ). وميز معنى القومية عند العرب، ‏في مرحلتهم الراهنة، ‏عنه عند الغرب. فالغربيون "لا يختلفون على استقلال البلاد وحريتها ووحدتها، لأنها مستقلة موحدة، ‏بل على تعريف المواطن وحقوق المواطنين. وهم لا يتنازعون على تاريخ الأمة وماضيها ومستقبلها، ‏إنما على توزيع الثروة» ( ) أما نحن العرب، ‏فلا نستطيع «أن نضمن للمشكلة الاقتصادية حلاً إلا إذا اعتبرت فرعاً ونتيجة لأزمة المشكلة القومية» ( ). ولهذا عد عفلق ان اختزال معنى القومية بجانبها المادي الاقتصادي يشكل خطورة على نضالنا القومي، فدعا إلى إعطاء «المفاهيم الروحية والقيم السامية معناها الحقيقي حتى تعود الروح فتسيطر مرة ثانية على الواقع وتفهمه وتستجيب لأطروحاته» ( ).
‏وربط عفلق من جهة أخرى المسألة القومية بضرورة العمل من أجل الوحدة السياسية للأمة العربية. فكان هذا الربط شرطة لازماً وضرورياً لوحدة النضال في شتى السبل لتحرير الأمة من شتى مشاكلها التي تعاني منها. فوحدة الفكر والشعور القومي تؤدي إلى وعي وحدة المصير، ووحدة المصير لا تكون فمكنة إلا «بتكوين عقيدة واضحة عن الوحدة العربية (لتصبح) الموجه الأول لتفكيرنا، والناظم الرئيس لكل ناحية من نواحي نضالنا» ( ). ولا بد من أن يكون النضال عاملاً أساسياً لتحقيق أهداف الأمة، ‏و«إن النضال ضد الاستعمار هو أحد شعارات القومية العربية»‏( ). ولن يكون النضال مثمراً إلا إذا توحدت الجهود القومية، ‏لذلك لن تتم وحدة النضال القومي من خلال عقلية التجزئة، ‏أي العقلية القطرية، بل يحتاج العرب عندما ينكرون بالمسألة الوحدوية ان يرتقوا بحسهم الروحي إلى مستوى علاقات الحب بين أفراد الأسرة الواحدة. ولهذا عندما تعتبر الأحزاب والحكومات أن «الوحدة العربية محصلة ونتيجة لنضال كل قطر»، ‏ويرى عفلق ان ‏العكس هو الصحيح لأن الإيمان بالوحدة والنضال من أجلها هما اللذان يوجهان نضال القطر وجهوده الوجهة الصحيحة( ) أولاً، ‏وهي تعني ثورة دائمة ما دامت التجزئة قائمة( ) ثانياً، ‏و أصبحت التجزئة «تساوي بقاء واستمرار الكيان الصهيوني»( ) ‏ثالثاً. ‏
ويعطي عفلق للنضال أولوية يعتز بها، فهو يقول «إذا بحثنا عن شيء في ماضي حزبنا يساعدنا على متابعة النضال، وينفعنا في حاضرنا، ‏لوجدنا في ماضي الحزب روحاً نضالية أكاد أصفها بأنها في بعض الأحيان كانت صوفية. . . نظرة إلى النضال، ‏والى الأهداف المقدسة، فيها كل الأيمان وكل التواضع وكل الزهد، ‏وفيها الذوبان في القضية، ذوبان الأنانية»( )، وإن هذا التصوف «الذي كان يميز الحزب في بدايته، هي عملية صعبة بلا شك. ولكن إذا أحجمنا أمام صعوبتها، فإنها تعرض حزبنا وتعرض ثورتنا لمخاطر كثيرة. إذا نحن لم نخلق للأجيال الجديدة ما ينمي صفاتها النضالية الحرة»، نترك لهم صفات استسهال الأمور، وهو من ‏الصفات القتالة( ).
لم يكن ميشيل عفلق يعنى بأن للنضال وجهاً سياسياً وقتالياً فحسب، بل إن النضال هو تجربة فكرية أيضاً. ولأن النضال متعدد الوجوه، ‏ومن أهم وجوهه أنه تجربة للأفكار ومصهر لها، ‏ولا يمكن لنظرية ما أن تتجه نحو النمو والاكتمال إلا ‏بإخضاعها للتجربة، ‏لم يكن بالإمكان، ‏يقول عفلق، أن يأتي الحزب بالصيغ النظرية الجاهزة والكاملة لما يجب ان تكون عليه الحياة في المجتمع العربي المنشود، «بل اكتفى بوضع إشارات وعلامات وملامح وخطوط أساسية، ‏تاركاً للأجيال العربية الصاعدة المناضلة أن تغني بتجربتها الحارة العميقة، ‏المتفاعلة مع الأحداث القومية والعالمية، هذه المؤشرات الثورية»( ).
‏ويركز، أخيراً، ‏على ضرورة التمييز بين توحيد النضال وتوحيد السياسات الرسمية، ‏ولا يمكن أن يستعاض عن ذاك بهذا «في حين ان الأصل هو الاعتقاد على نضال الشعب العربي»( ). ولماذا النضال العربي، ‏كما لا بد من أن نتساءل؟ وجواب عفلق هو ان «منطق التجزئة لا يمنع الحركات المتماثلة في الدول العربية من التوحيد والتجزئة فحسب، ‏بل يدفعها إلى التعاكس والتناقض. وهكذا نصل إلى هذه النتيجة؛ لا يحقق الشعب العربي وحدة النضال ما لم يمارس نضال الوحدة»( )، ‏وهذا أمر صحيح ومنطقي، ‏لأنه عندما يعتمد الدم القومي، ‏وتتوحد المشاعر القومية من حول أية قضية قطرية، لا بد من أن نصل إلى تجربة ميدانية تعمل على ‏إقناع المنخرطين في ساح النضال من جدوى النضال القومي الموحد وجزاءاته؛ كما تبرهن على أهمية توحيد الجهود بين شتى المواطنين العرب في تحقيق انجازات لا يمكن لجهود فئة قطرية أن تحققها. وهي، بالإضافة إلى الوضوح النظري في الفكر القومي العربي، تؤدي إلى نتائج ملموسة ومحسومة، فلن تكون أقل من أنها تشكل درساً مقنعاً يصل بالعرب إلى الربط بين جدوى التوحد الفكري القومي في نضالاتهم، ‏وبين جدواه وجزاءاته السياسية، وبالتالي انعكاساتها على شتى وجوه المصالح القومية.
‏لأهمية النضال الشعبي القومي في ذكر ميشيل عفلق وفي تراث حزب البعث، ‏سوف نجد أهميته العملية والنظرية من خلال الفقرة التالية والتي سنطل فيها على موضوع (عفلق والقضية الفلسطينية). ومن هنا، نحسب أن كل من لا يلم بأهمية الفكر القومي، ذي الاتجاهات التوحيدية السياسية، بشموليتهما: نظراً وإيماناً ونضالاً، لن يستطيع أن يفقه موقف عفلق الفكري والنضالي من كل قضية قطرية، ‏كما أنه لن يتحمس للعمل من أجلها.
III- أشرق حب عفلق للقومية العربية حباً لقضية فلسطين
‏بماذا تميزت مواقف عفلق السياسية من القضية الفلسطينية عن مواقف الاتجاهات الأخرى؟ ولكي نلم بتلك التمايزات، لابد من أن نتتبع عدداً من تعريفاته لشتى العوامل التي تعمل على توجيه القضية الفلسطينية باتجاهات محددة، ومنها:
1- تحالف الصهيونية مع الاستعمار والرجعية العربية:
‏عن الصهيونية، قبل تأسيس كيانها الاغتصابي على أرض فلسطين، يقول عفلق: إن الخطر الصهيوني ليس مجرد غزو اقتصادي، وإنما هو «بالدرجة الأولى غزو ديني لا يشبهه في التاريخ إلا الحروب الصليبية: ولا يقوى على دفعه إلا يقظة الإيمان في نفوس العرب»( ). وهي ليست ذات مشروع أحادي الجانب، وإنما هي حركة عدوان وراءها رأسماليون يغذونها ودول استعمارية تجد في مؤازرتها ربحاً لها( ).
بين الطرفين علاقة جدلية يتبادلان فيها المصالح، وإن النضال ضد ‏الواحد منها هو نضال حكماً ضد الآخر. ولا يمكن اقتلاع أحد طرفي التحالف من دون اقتلاع الآخر، وبهذا المعنى يقول عفلق: «الاستعمار يسخر إسرائيل، ‏ولكن الصهيونية العالمية تستطيع ان تسخر الاستعمار نفسه، فتوصل العرب إلى القضاء على الاستعمار يحل أضخم جزء من المشكلة، ولكنه لا يحلها كلها. . . وبالتالي فإن نضالاً آخر يجب أن يرافق نضالنا ضد الاستعمار وهو نضالنا ضد الصهيونية»( ). وللصهيونية علاقات متميزة: مع الاستعمار بشكل مباشر؛ ومع الرجعية العربية بشكل غير مباشر.
أ- علاقة الصهيونية مع الرأسمالية علاقة وجود ومصير
- كلاهما يخدم الآخر، ويعمل على تعزير مواقعه، فيربط عفلق بين الصهيونية والرأسمالية، فكلاهما وجهان لعملة واحدة. لقد تلاقت مصلحة الاستعمار مع الصهيونية لخلق دولة إسرائيل. وكانت مساعدته للحركة الصهيونية هي «الحيلولة دون الوحدة العربية، والحيلولة دون قوة الأمة العربية»( ).
- وللصهيونية وجه متمم للأهداف الاستعمارية، ‏وهو وجود علاقة عميقة «تصل وجود إسرائيل بمشكلتنا القومية من جميع نواحيها. . . نظامنا الاقتصادي واتجاهنا الاجتماعي وتربيتنا السياسية ووحدتنا القومية»( ).
- ولأهمية الروابط الاقتصادية التي يقف وراء التحالف بين الصهيونية والاستعمار، يرى عفلق ان الدول الغربية تناصر الصهيونية «لأنها تجد في مناصرتها من الربح أكثر مما تلاقي في معاداة العرب من الخسارة»( ).
ب- الأنظمة الرجعية العربية هي وجه آخر مساعد للصهيونية والاستعمار احتواء القضية الفلسطينية
ليس الاستعمار وحده هو الذي يعمل على احتواء قضية فلسطين، بل هناك العديد من الأنظمة العربية التي يعدها عفلق المساعد الأيمن له، وهي التي تعمل ليس على اقتلاع قضية فلسطين بالهجوم ضد أية مظاهر للمقاومة الفلسطينية فحسب، وإنما بالهجوم ضد أية حركة وطنية في أي قطر عربي أيضاً( ).
2- ليست الصهيونية والاستعمار مشكلة فلسطينية فحسب، بل مشكلة قومية عربية أيضاً
‏استناداً إلى تعريفه للصهيونية رأى عفلق أن الصهيونية والاستعمار وجدا في أرض فلسطين منطلقاً للعدوان،بشتى أشكاله، ‏ضد الأمة العربية. وفي تحديده الواضح، هذا، ‏استطاع ان يلقي عب ء النضال من أجل تحرير فلسطين على عاتق الأمة العربية بكاملها على أن يكون النضال الفلسطيني هو رأس الحربة في مسار التحرير. فدعا إلى أن يرى العرب «بوضوح وجرأه أن كل تلكؤ في مواجهة مشاكلنا السياسية ووحدتنا القومية. . . يسمح بتدعيم (كيان إسرائيل) إلى حد يصعب أو يتعذر معه. . . التخلص من هذا الخطر»( ).
3- دفاع العرب عن فلسطين هو دفاع عن أنفسهم، والجماهير العربية هي صاحبة المصلحة في النضال من أجلها
‏كان عفلق، في دعوته الأمة العربية، يحدد أن الجهة صاحبه المصلحة الأساسية في مقاومة إسرائيل والاستعمار هي الجماهير العربية. وكانت دعوته مبكرة، وقد سبقت موعد تقسيم فلسطين بسنوات، ‏ولهذا نرى من المفيد أن نعود إلى أهم ما جاء في بعض مقالاته التي كتبها في أوقات مبكرة سبقت حصول نكبة فلسطين.
- في مقال كتبه في العام 1946 م تحث عنوان «لا ينتظرن العرب ظهور المعجزة، فلسطين لا تنقذها الحكومات بل العمل الشعبي»، ‏يقول: لا يجوز تحويل مشكلة فلسطين إلى وجهة عاطفية عقيمة «بأن لا نرى فيها إلا صوره لغدر الدول الغربية فينا». لهذا لا يجوز الاعتماد على خطب الزعماء وتصريحات الوزراء ووعود رؤساء الدول العربية، لأن فلسطين لن ينقذها إلا العمل الشعبي( ).
- وفي مقال آخر، ‏في العام 1948 م، ‏يربط بين تحرير فلسطين وبين العمل الشعبي العربي فيقول. «لقد كان مفروضاً أن تكون معركة فلسطين، منذ البدء، ‏معركة العرب جميعاً، ‏لأن مصيرهم مرتبط بمصيرها. ولكن السياسة المعكوسة عملت على خلق وتبديد إمكانات الشعب العربي بشتى السبل، ‏وأدت إلى أن عرب ‏فلسطين أنفسهم ظلوا بأكثريتهم الساحقة بعيدين عن المعركة وعبئاً عليها». ولهذا كان من الواجب أن يستفاد من إمكانيات عرب فلسطين إلى أبعد حد ممكن «لأن الغاية من اشتراك الأقطار العربية لم يكن تعطيل هذه القوى بل دعمها وتأييدها، وأن يكون الدور العربي هو الإمساك بزمام «التوجيه الشامل فيها جميع الذين يشلون الإيمان بوحدة الأمة العربية»( ).
- أوقع ضياع فلسطين في العام 1948م، هزة عنيفة في الضمير العربي، وفجر العديد من المحاولات الثورية، فكان الرد على الضياع في الوحدة بين مصر وسورية في العام 1958‏م، وكان تجاوب الجماهير معها شاملاً وأمتد من المحيط إلى الخليج، وبهذا كانت الجماهير تدرك «أن الجواب الوحيد على الاستعمار والصهيونية هو الوحدة»( ).
- ميز بين قضية فلسطين والقضايا القومية الأخرى، وأعطاها خصوصيات تنفرد بها، ومنها: أنها اكتسبت خصوصيات دولية وعالمية، وأصبحت قضية العصر. وعالميتها انها مرتبطة بمصالح الكثير من الدول الرأسمالية الاستعمارية. والنضال من أجلها هو نضل ضد مصالح الاستعمار والصهيونية، لذلك سيكون الحل النهائي والسليم والمبدئي لها «إنهاء الاستعمار والصهيونية في العالم كله» ( ) ولخطر الوحدة العربية، وبالتالي الوحدة النضالية، على الوجود الصهيوني، عملت الصهيونية، بعد تأسيس كيانها في قلب الوطن العربي، على منع حلم الوحدة من النمو( ) ولأهمية الوحدة في حياة العرب، أنصب نشاط الاستعمار والصهيونية على منعها بمساعدة الرجعية العربية( ). أما في المقابل فقد أصبحت الوحدة تعنى، بالنسبة للعرب، البقاء والدفاع عن المصير. وأصبحت الهدف القومي الرئيس، الذي «يتضمن تحقيقه تحقيق كل الأهداف الأخرى»، وأصبح «كل كلام عن معركة التحرير دون وحدة هو لغو وخداع» ( ).
- أصبحت فلسطين قضية العرب المركزية، وأصبح العمل من أجل تحرير فلسطين معياراً للإخلاص لجميع القضايا القومية، ففيها «تتلخص وتتركز السمات الأساسية لصراع الأمة العربية التاريخي مع أعدائها: الاستعمار الغربي ‏والامبريالية والصهيونية. . . وأصبحت كل معركة تخوضها الجماهير العربية.... ترتبط بمعركة فلسطين، ‏تؤثر فيها وتتأثر بها»( ).

4- الوجه العملي لموقف عفلق النظري من القضية الفلسطينية.
لم تكن دعوة عفلق تلك آتية من وراء جدران أربعة كان ينظر منها للمشكلة بمنظار البعيد عن مخاطر النضال، بل أسهم مع رفاقه في تشكيل فصائل شاركت، فعلاً، ‏في حرب العام 1948م، ‏التي دارت رحاها بين اليهود والفلسطينيين. وهنا لا يمكن القفز فوق الحقيقة التي عمل فيها الحزب، ‏بالإضافة إلى وعيه النظري لموقع قضية فلسطين القومي، ‏هو أن قيادة الحزب وأعضائه قد قاموا بالممارسة النضالية ‏العملية إلى جانب الفلسطينيين حينها شاركوا في معارك التصدي للعصابات الصهيونية على الأرض الفلسطينية. وقد سقط من البعثيين عدد من الشهداء في أرض المعركة( ).
‏في خلال الخمسينيات وأوائل الستينيات، استمرت رؤية عفلق، من القضية الفلسطينية، ‏على وتيرتها الأولى لأنه لم يتغير الشيء الكثير على صعيد الأنظمة العربية، حتى تلك التي تسلمت قيادتها حركات وأحزاب قومية. والسبب أن تلك الأنظمة كانت غير مستقرة بعد، لكنها، ‏على الأقل راحت تعد نفسها لممارسة دور جديد على صعيد الصراع العربي - الصهيوني الاستعماري.
‏لقد عرفت القضية الفلسطينية مستويين من العمل في سبيلها: المستوى الرسمي، ‏والمستوى النضالي الشعبي. وهنا لابد من أن نثبت الحقيقة التاريخية التي تؤكد أن المستوى الشعبي قد سبق كل المستويات الرسمية، ‏حتى قبل أن تأسس تلك المستويات، وعندما تأسست ظهر العجز الرسمي حيال مواكبة القضية بل اختزلتها إلى بيانات وقرارات غير ذات مضمون. لكن الحالة النضالية الشعبية لم تفقد حرارتها على الإطلاق، ‏وإن كانت قد ابتعدت عن الأضواء في مرحلة ما، ‏فإنما كان السبب هو الحالة التي كانت فيها الكواليس الرسمية تعمل على احتواء قضية فلسطين وبتر أية علاقة لها بالجماهير الشعبية، وذلك لكي تنسخ أي حوافز نضالية ‏تتغذى منها تلك الجماهير . وإذا ما عدنا إلى استنكار التاريخ لوجدنا الكثير من المواقف المانعة للمستويات الرسمية حيال: لقضية الفلسطينية؛ ولوجدنا كم كانت حرارة النضال الشعبي تحاصر مواقف الأنظمة وتحرجها وتعري مواقفها، ‏وتفرض عليها أحياناً كثيرة مواقف لا تروق للأنظمة أن تتخذها.
‏يكفي أن نراجع بإيجاز أهم المحطات التاريخية التي مرت فيها أطوار تأثير النضال الشعبي من أجل قضية فلسطين، وأهم ردود الأفعال الفكرية والنضالية عليها:
‏منذ الستينيات، ‏وبعد أن انطلقت أول ثورة فلسطينية مسلحة، ‏بتاريخ 1/1/1965م، كان لحزب البعث دور الريادة في احتضان تلك الثورة ومساعدتها بالإعلام والتبرعات والانخراط في صفوفها( ). كما أصدر الحزب عدة بيانات تأييد وتبشير بالعمل الفدائي، وكانت مواقفه تتلخص بما يلي:
- عجز الأنظمة عن استرداد فلسطين. فالكفاح الشعبي المسلح هو الطريق الرئيس استردادها.
- لانتقاد من يدعون الحرص على فلسطين، والذين لا يجرؤون على الإشارة إلى مجهود «العاصفة».
- مكان العمل الفلسطيني هو على أرض فلسطين وليس في المؤتمرات. ويعد عمل «العاصفة» وأسلوبها في الكفاح الشعبي المسلح هو ما يجب على العرب أن يأخذوا به( ).

5- دعوة ونضال من أجل إنقاذ بعض فصائل المقاومة من الاتجاهات القطرية، ‏ومساعدتها ضد الانزلاق في الفكر والممارسة القطرية.
‏رأى عفلق الجوانب الايجابية في المقاومة، ومن أهم تلك الايجابيات هي منازلتها للاستعمار والصهيونية في الساحة العربية المركزية التي هي فلسطين المحتلة، وبأسلوب الكفاح المسلح. وبذلك غدت هوية المقاومة الفلسطينية هوية قومية «تطل بها الثورة العربية على العالم كخلاصة للقضية العربية في صراعها مع الاستعمار ‏والصهيونية»( ) ‏ولما بدا أن الثورة الفتية تستند إلى منطلقات قطرية، وخوفاً من أن تتقوقع في داخل الأسوار القطرية الفلسطينية، أسهم الحزب في تأسيس فصيل قومي، في مطلع نيسان / أبريل من العام 1969م، وأطلق عليه أسم جبهة التحرير العربية. والتي حددت منطلقاتها القومية، المستندة إلى عمق فكري أسم ن تأسيسه عفلق، وفيها عبرت عن الترابط الوثيق بين النضال المسلح من أجل فلسطين والنضال الجماهيري العربي من أجل الوحدة والتحرر والنهضة الحضارية، وقد نصت مقدمة البيان التأسيسي للجبهة على أن: «فلسطين طريق الوحدة والوحدة طريق فلسطين» ( ).
‏واستناداً إلى أن الحزب قد حمل «أمانة تاريخية، هي أمانة النهوض بالأمة وتحقيق وحدتها وتحرير أرضها المغتصبة» ( )، وللدلالة على قومية المعركة استندت جبهة التحرير العربية في هيكلية تنظيمها ليس على الشباب الفلسطيني فحسب وإنما عل شباب حزب البعث العربي الاشتراكي بتنظيماته القومية أيضاً، ومن المعروف أن تنظيمات الحزب منتشرة في معظم الأقطار العربية. وكان نشاط الجبهة بارزاً في أحداث الأردن (1970-1971)، وكذلك في صد الاعتداءات الإسرائيلية على ‏لبنان. وكان من أهم مهمات الجبهة أن لا تكون بديلاً لأحد، ولكن أن تعمل جاهدة في رص صفوف فصائل المقاومة الفلسطينية( ).
‏وعلى مسار أخر، كانت لحزب البعث العربي الاشتراكي في لبنان، منذ العام 1969م، تجربة موازية لتجربته في تأسس جبهة التحرير العربية، وهي البدء بإعداد البعثيين بتدريبهم على استعمال السلاح لبناء أول تجربة للمقاومة الشعبية في جنوب لبنان، وكان نموذجها بناء قوى شعبية مقاتلة في القرى المحاذية للأراضي الفلسطينية المحتلة. وهكذا استدعت التجربة عدة سنوات، كان من أهم نماذجها، ‏تجربتي الطيبة وكفر كلا، وفيهما حصلت عدة مواجهات بين جيش العدو الصهيوني وبين المقاتلين البعثيين في تلك القرى. وقد أقلقت تلك التجربة قيادة ‏جيش العدو، وقد عمل في محاولة منه على إحباطها، ولهذا السبب شنت قوات من الكومندوس الصهيوني، في العام 1975م، عدة هجمات على القريتين، وسقط ‏نتيجة المواجهة عدد من الشهداء البعثيين( ). وبمثل تلك الشواهد التاريخية، ‏قارب حزب البعث العربي الاشتراكي بين رؤيته النظرية للنضال في سبيل القضية الفلسطينية وتجاربه العملية. وحمل أعضاء الحزب في لبنان السلاح، ‏منذ العام 1975م، ‏للدفاع عن الثورة الفلسطينية.
‏كان الخوف عند عفلق، ‏بشكل أساسي، ‏ينطلق من أن تتحول القضية الفلسطينية إلى قضية قطرية، ‏لأنه ساعتئذ سوف يكون من السهل محاصرتها وإنهاؤها.وكان الخوف الأشد من ان تتحول المقاومة الفلسطينية إلى حركات قطرية، لأنه أخذت تتشكل بعض معالم تلك المنزلقات في فكر المقاومة واتجاهاتها، ‏فكان الفكر القطري هو أحد المظاهر السلبية التي أخذت تطبع اتجاهات عدد من تلك الفصائل، ‏منذ أوائل السبعينات من القرن العشرين، وهي أخذت تحاول أن تستفيد من كل الأنظمة بدون تفريق بين رجعي وتقدمي( ).
‏وللخوف الذي أصاب الأنظمة الرجعية من أن تبقى قضية فلسطين قومية الاتجاهات والنضال، ‏ولما تشكله من خطر على التحالف الاستعماري الصهيوني – الرجعي، عمل أطرافه على «تثبيت قطرية الفلسطينيين، ‏ومحاصرتهم فيها، وعزلهم أو إبعادهم عن العلاقة المصيرية بالثورة العربية»( ).

6- موقف عفلق من التسوية السياسية للصراع العربي –الصهيوني
‏وتتابعت التطورات والمتغيرات الجديدة بعد الانتصار الذي حققه العرب في حرب تشرين الأول / أكتوبر من العام 1973م، ‏وقد برزت إلى العلن دعوات إلى انعقاد مؤتمر دولي يعمل على إيجاد حل لقضية الصراع العربي - الصهيوني على قاعدة التسويات السياسية. وقد رافق ميشيل عفلق من خلال فكره تلك التطورات وأبدى وجهة نظره بشكل كان يواكب فيه الحدث. وهنا نرى من المفيد أن نتابع رؤية عفلق فيما له علاقة بالتسويات والمساومات التي كانت تدور في العلن حيناً وفي السر أحياناً كثيرة.
‏كان الاستعمار والصهيونية يعملان على إحباط ما تحقق من إنجازات على الصعيد ‏القومي: الناصرية في مصر، ‏وحزب البعث في سوريا والعراق، ‏بحيث توهم أن هزيمة الأنظمة القومية التقدمية تساعد على كبح الحركة الوحدوية القومية؛ فخطط لأحداثها في الخامس من حزيران / يونيو من العام 1967م. لكن مخططو الهزيمة فوجئوا بالرد الجماهيري بظهور المقاومة الفلسطينية، ‏وإحداثها هزة عنيفة عند الجماهير العربية بدلت الهزيمة النفسية وزرعت بديك عنها أملا جديداً. ولما جاءت حرب تشرين الأول / أكتوبر من العام 1973م، وحاول المخططون ان يجيروا نتائجها المهمة إلى تمرير تسوية سياسية، ‏لكن نتاج الحرب أصبحت عقبة في طريقها، ‏لأن الروح التي خلقتها تتنافى مع روح الاستسلام( ).
‏لكن ضلوع السادات في المخطط الأمريكي - الصهيوني فاق كل التوقعات في سرعته؛ ‏فعقد اتفاقية مع العدو الصهيوني، ‏وكانت أول اعتراف سياسي بكيانه في تاريخ الصراع معه. ولهذا يحب عفلق أن التسوية التي عقدها السادات مع الصهيونية، ‏بعد الانتصار الذي أحرزته الجيوش العربية في حرب تشرين كانت مفارقة جارحة( )، ودقت مسماراً في النضال ضد الاستعمار، لأ‏ن المصالحة مع ‏الصهيونية هو إنهاء لحالة النضال ضد الاستعمار من جهة، ‏وتنكر لقضية فلسطين من جهة أخرى. ومن مساوئ التسوية أنها تعترف بالاستعمار والصهيونية معاً، ‏وهما يشكلان العاملين الأساسيين، ‏ليس في اغتصاب فلسطين فقط، وإنما هما عاملان محبطان لوحدة الأمة من جهة ومصالحها من جهة أخرى. ومع التسوية نتناسى نزعة الاستعمار إلى الاستغلال والسيطرة وأطماعه في ثروات الأمة العربية. ونتناسى، ‏أيضاً، ‏بقاء الكيان الصهيوني أداة عدوان ضد الأقطار العربية. وعامل تهديد وإضعاف لها( ). لم تكن التسوية تشكل الوجه الوحيد الخطير الذي يهدأ قضية فلسطين، بل كانت هناك ظاهرتان أساسيتان تسهمان في هذا التهديد، وهما:
- المتحدثون عن التحرير من دون الإعداد لمستلزماته.
- ومدعو الاعتدال لجر العرب إلى الاعتراف بالكيان الصهيوني.
‏وقد غاب عنهما معاً أن الصلح مع عدو كالعدو الصهيوني، أو التوهم بالقدرة على خداعه«هي مهمة مستحيلة. لكن ما هو الحل؟ يجيب عفلق بأن الشيء الممكن تأجيله هو الحرب لحين تتوفر إمكاناتها. اما غير الممكن، ‏وغير الجائز، ‏فهو الاستعاضة عن الحرب بالصلح، لأنه "انحدار في طريق الضعف، وضياع للحق القومي»( ).

4- مشروع عفلق المستقبلي، الفكري – السياسي، لمواجهة الخطر الصهيوني – الاستعماري
أما كيف يحدد عفلق صورة الواقع الفلسطيني والعربي والعالمي بعد أن عقد السادات اتفاقيات كامب - ديفيد؟ وكيف يمكن تطوير سبل مواجهة هذا التطور الخطير على صعيد الصراع العربي - الصهيوني؟
‏يرى عفلق ان قضية فلسطين تلخص القضية العربية، لكن ثورتها لم تصبح ثورة العصر «لأن النضال العربي لم يرق بعد إلى مستوى قضية، وهذه مهمة الشعب العربي وجماهيره المناضلة وطلائعه الثورية. هذه المهمة التي يجب أن لا توكلها إلى احد، ولا تتنازل عنها لأحد»( ).
‏فإذا كان العامل الأول والأساسي في إستراتيجية المواجهة يتمحور حول إيلاء المهمة للشعب العربي، فهذا لا يلغي توفير عوامل أخرى مساعدة له، ومنها:
1- كسب صداقة الشعوب الغربية: على الرغم من أن الغرب كان سبباً في زرع الكيان الصهيوني، فإن هذا يجب أن لا «يمنعنا من التعامل والتفاعل مع شعوب الغرب»( ).
2- المراهنة على تطوير مواقف الدول الاشتراكية وشعوبها: على الرغم من حداثة علاقة العرب مع الدول الاشتراكية وشعوبها؛ وعلى الرغم من أنه لا يزال ثمة فارق بين نظرتها إلى قضية فلسطين ونظرتنا، فإن هناك أملاً بأنها سوف تطور موقفها في المستقبل باتجاه تغليب السياسة المبدأية تجاه قضية فلسطين على السياسة الواقعية( ).
3- علاقة العرب مع الشعوب الإسلامية: لأن العرب يعتزون بعاطفة القربى تجاه الشعوب الإسلامية، ‏خاصة إذا وقفت موقفاً إيجابياً حاسماً من القضية الفلسطينية، ‏فإن على العرب أن يعملوا من أجل أن يحظوا على الدعم من تلك الشعوب( ).
4- انعقاد الأمل على الأقطار العربية التي آمنت بخط التحرير الكامل: على الرغم من تشتت الأمة بين متواطئ مع الاستعمار والصهيونية وبين سائر في ركاب التسوية، ‏يبقى هناك أمل كبير في الأقطار التي آمنت بخط التحرير الكامل، ‏وبالانتفاضات الشعبية العربية ضد التسوية والصلح مع العدو( ).
5- انتظار تحول في وحدة الجماهير العربية ونضالها: من المهمات الملحة ‏لتحرير الوطن العربي من النفوذ الامبريالي والقضاء على الاستعمار والصهيونية، ‏هي في تحرير طاقات الجماهير العربية. وهناك قليلون هم الذين توجهون إلى الجماهير الشعبية، ‏باعتبارها صاحبة الوطن وصاحبة القضية، ‏وصاحبة الحق في النضال( ). والمطلوب تأمينه والدفع إليه هو أن تشترك الجماهير «اشتراكاً كلياً في المعركة القومية»( ). لكل ذلك فإن معركة المواجهة حدوث تحول جذري في دور الجماهير لكي تكون الوحدة وحدة نضال وكفاح تعيد للنضال العربي حرارته وتحتضن الجماهير الفلسطينية المقاتلة( ).
6- الوعي القومي العربي في توثيق التفاعل مع قضية فلسطين: هناك ضرورة وحاجة لتكوين هذا الوعي، ‏لأنه ساعتئذ يدرك «كل مواطن عربي.. . ويؤمن بأن استرداد حريته وكرامته ذو صلة وثيقة بقضية فلسطين، ‏وبمعركة تحريرها»( ).
7- العمل من أجل قومية المعركة: لأنه لن يتم تحرير فلسطين إلا ضمن المخطط القومي النهضوي الشامل( ). يصبح من المطلوب أن تتوزع المسؤوليات في داخل الجسم النضالي القومي الواحد؟ فعلى الثورة العربية ان تحمي المقاومة وترفدها بالعطاء النضالي المستمر؛ وعلى المقاومة ان تبقي قضية فلسطين في مستواها النضالي القومي بمزيد من الاقتراب والاندماج مع نضال الجماهير العربية( ).
8- الحوار والانفتاح بين شتى القوى التقدمية والقومية: بعد أن يعاد المشقات التي عاناها الحزب على صعيد العلاقات مع القوى العربية الأخرى، وبعد أن شق الحزب طريقه الخاص "بالمشقة والكفاح والإيمان، ضد الذين كانوا يدعون الحقيقة واحتكارها»( )، يدعو عفلق إلى المزيد من الموضوعية والانفتاح والحوار مع القوى التقدمية والقومية الأخرى، لأنه من الطبيعي ان تتعدد التجارب الثورية في المجتمع العربي وتتنوع. وأن تكون كل تجربة مكملة لتجربة الحزب لا منافسة له، وإنه «في منتهى الشذوذ أن تكون هذه التجارب مغلقة بعضها على بعض، فلا تستفيد إحداها من التجارب الأخرى ولا تفيدها»( ).
9- انتفاضة الشعب الفلسطيني في داخل الأرض المحتلة أمل منتظر في تجديد روح الثورة القومية: فمن غير المهم أن تحاصر القوى المتآمرة القضية الفلسطينية، ولا ‏يهم أن تقتلع المقاومة من أكثر من ساحة، لأن أية انتفاضة شعبية في الأرض الفلسطينية المحتلة هي دعم أساسي للقضية الفلسطينية ومقاومتها وفك للحصار عنها( ). وعلى الرغم من ضعف وسائل الصمود للشعب الفلسطيني، فهناك ضرورة أساسية لصموده في الأرض «وتصديه البطولي لقوات الاحتلال الصهيوني»( )، لأن هناك ترابطاً بين الصمود في داخل الأراضي المحتلة مع المقاومة في الخارج، ولهذا يؤكد عفلق على أن بطولات الجماهير الفلسطينية في الأرض المحتلة هي الضمانة الرئيسة لاستمرار المقاومة في خارجها( )، وهو الذي يجدد روح الثورة فيها( ).
‏وعلى الرغم من أن ما قاله عفلق يعود إلى أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن العشرين، تأتي انتفاضات الشعب الفلسطيني، التي ما أن تخبو لسبب أو لآخر حتى تتجدد، لكي تؤكد صدقية فكر عفلق وحزب البعث ورؤيتهما السياسية الواضحة. تستند تلك المصدقية والرؤية إلى عمق استشراف آفاق المستقبل؛ ‏وتعودان، ‏في أسسهما، إلى البدايات التي انخرط فيما عفلق والبعث في التنظير والنضال من أجل قضية فلسطين، أي إلى أواسط الأربعينات من القرن العشرين.
‏وإننا نرى، بعد مرور أكثر من نصف قرن، أي منذ كتب عفلق قائلاً: لا ينتظرن ‏العرب المعجزة، فلسطين لن تحررها الحكومات بل العمل الشعبي، ‏ان الوافر العربي المتمثل في ضعف الحكومات العربية والبديل المتمثل في العمل الشعبي، ‏ما زالا يشكلان أساساً واقعياً ونظرياً لتحديد إستراتيجية النضال القطري والقومي ‏من أجل فلسطين.
‏يأتي طرفا المعادلة، في زمننا الراهن؛ الواقع الذي يتمظهر في عجز بعض الحكومات العربية وتواطؤ بعضها الآخر من جهة، ‏والبديل لهما الذي يتمظهر في الحس النضالي الشعبي من جهة أخرى، لكي يعطينا الدليل على صدقية الرؤية التاريخية لفكر عفلق وحزب البعث.
‏لم يكن مصدر الرؤية الفكرية مستنداً إلى أحلام الغرف المقفلة، بل كانت المعاناة ‏الفكرية والنضال الميداني وحب القومية العربية وقضيتها المركزية في فلسطين، ‏كلا متماسكاً يرفد بعضها البعض الأخر في تكوين إستراتيجية واضحة لحزب البعث وشتى التيارات القومية المنخرطة في هذا السبيل. فماذا نرى بعد وفاة ‏عفلق؟. رحل عفلق وأستمر حزب البعث مؤمناً بإستراتيجيته الفكرية والنضالية حول قضية فلسطين. وتمظهر الاستمرار بما يلي:
1- ما زالت فلسطين تلعب دور قضية العرب المركزية.
2- ما زال التلاحم الاستعماري الصهيوني يعبر أصدق تعبير عن ارتباط مصالحهما المشتركة، فهما يهد دان مصالح العرب القومية انطلاقاً من إلحاحهما على إنهاء القضية الفلسطينية.
3- ما زال واقع الحكومات العربية عاجزاً عن تحرير فلسطين.
4- من أجل ضرب أي مصدر يزعج الكيان الصهيوني حصل العدوان الثلاثيني على عراق البعث منذ أكثر من عشر سنوات.
5- ومن أجل منع إستراتيجية الحزب حول قضية فلسطين من أن تكون مؤثرة في المستقبل يتم التشديد على تأخير رفع الحصار عن العراق.
6- إن تلازم انتفاضة فلسطين اليوم مع إرادة العراق للتصدي لمشاريع ‏الاستعمار والصهيونية، ‏يعد مظهراً أساسياً من مظاهر تلاحم النضال القومي، ‏ويشكل أهم مصدر للخوف عند الأطراف المعادية، ولهذا يعملون على الفصل بينهما.
7- إن النضال من أجل تأييد انتفاضة فلسطين ودعمها، والنضال من أجل فك الحصار عن العراق، جدد عند الشعب العربي روح الثورة من جهة؛ وأعطى زخماً لأستمرارية المقاومة ضد كل المشاريع المعادية من جهة أخرى.
8- إن إصرار العراق على دعم الانتفاضة في فلسطين، ‏بكل حرارة وصدق ومحبة ووعي لإستراتيجيته في العمل القومي، ‏يدل بوضوح على عمق تلازم النضال القومي عند البعث مع كل نضال من أجل القضايا القطرية.
9- ما زالت انتفاضة فلسطين، ‏كما كان عفلق يعبر باستمرار، ‏حافزاً أساسياً لنضال الشعب العربي ولاستمرار المقاومة القطرية والقومية في خارج فلسطين. وجعلتنا الانتفاضة في الداخل نتأكد من أنها تجدد روح الثورة ليس على المستوى القطري فحسب، ‏وإنما على المستوى القومي أيضاً.

V- خاتمة
‏وإذا كان يمكننا أن نستدل على تطورها في المشروع الفكري، ‏فإننا نخلص إلى نتيجة أن موقف عفلق من القضية الفلسطينية، ‏على المستويين النظري و العملي كان ثابتاً والثبات في النظرية، ‏هنا، ‏له علاقة بنتاج تقييمها. ولم يكن ثبات مواقف عفلق النظرية والعملية آت من إصرار على جمود في الرؤية والمكابرة على صحة المنطلقات، ‏ولكن ثباتها جاء من أنها خضعت للتجربة لأكثر من نصف قرن من الزمن وأثبتت صحتها. فهل من يقول الآن بغير ما قاله عفلق منذ الأربعينات من القرن العشرين عن أن قضية فلسطين هي:
- قضية اغتصاب ثنائي صهيوني – استعماري، ‏تساندهما وتتواطأ معهما حكومات وأنظمة عربية.
- قضية قومية لا لانتماء قومي شوفيني بل لأن الاستعمار والصهيونية، ‏موضوعياً، ‏هما طرفان متكاملان متضامنان على اغتصابها لتشكل ممراً آمناً فمصالحهما في المنطقة العربية. وقد أثبتت الدلائل على أن النضال ضدهما، ‏بمنطق وإمكانيات قومية، ‏فيه جزء كبير من حماية الأمة العربية لنفسها. وهنا، ‏لن نتردد في القول أن كل عربي يقاتل من أجل فلسطين فهو يدافع عن نفسه ويدرأ خطر الثنائي الاستعماري، الصهيوني عنها. فلا يمنِّننِّ أحد على الفلسطينيين بأنه عندما يقاتل معهم، ‏أو عندما يقدم الدعم لهم، ‏فكأنه يقدم خدمة قطرية.
- وقد أثبتت التجربة التاريخية أنه لا يمكن استعادة فلسطين بغير النضال، ‏على ان يتميز بحرارة الإيمان بعدالة قضيتها وأن يكون شعبياً بشكل أساسي، ‏وان تكون جذوره ذات عمق قومي عربي تستفيد من كل أنواع الدعم على المستوى العالمي والإنساني.
‏- يشكل النضال الشعبي المسلح أهمية قصوى في إخضاع العدو وإرباكه وإنزال الخسائر ببنيته البشرية والاقتصادية. فقد دلت التجارب التاريخية، ‏طوال نصف قرن من الزمن، ‏ان معظم الحكومات العربية إذا لم تكن متواطئة فهي متخاذلة. وتبقى الحقيقة النظرية أن الجماهير العربية هي الحصان الذي راهن عليه عفلق وما زلنا نحن حتى الآن نراهن عليه. فالجماهير العربية ظلت حتى الآن حقيقة واقعية لم تتجاوزها مراحل النضال المتعاقبة.
- إيمانه باستحالة الدفاع عن المصير القومي من دون وحدة نضالية عربية بالدرجة الأولى دفعه إلى الإيمان إلى أن يقول بأن فلسطين ستتحرر بالكفاح الشعبي العربي، ويعد هذا الكفاح نقطة أساسية لا يمكن بدونها أن تطلب من الأنظمة العربية أولاً وقوى التحرر العالمية ثانياً والقوى الإسلامية غير العربية ثالثاً ان تعمل بصدق وحرارة للإسهام والمساعدة في معركة التحرير تلك. وقد عبر عن هذه الحقيقة بما يلي: «إن الوحدة هي عمل شعبي نضالي، ‏تصنعه الجماهير العربية المراعية المنظمة"، وبما أن تاريخ القضية الفلسطينية أرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحالتين النضاليتين: القطرية الفلسطينية والقومية العربية، فإن بقاء قضية فلسطين، كما يقول: ستبقى "مطروحة بكل ثوريتها، وكامل حقها في إزالة الاغتصاب.... »، ‏وسوف تبقى تعبيراً "عن إرادة الثورة في الأمة العربية وأجيالها الصاعدة. . . كما (هي) بعث للثورة في كل أرض عربية، وجواب على كل المتقاعسين، عن معركة فلسطين"( ).
- أما عن دور الآخرين، من غير العرب، من شعوب غربية وإسلامية، أي تلك الشعوب الصادقة في مساعدة العرب على تحرير فلسطين، فلا يجوز، بل من غير الواقعي وغير الممكن أن يسبق دورهم دور العرب بمثل تلك المهمة، وإنما من الممكن أن يكون من العوامل المساعدة في التحرير. ومن هنا يرى عفلق ان الجهد القومي العربي، بتياراته الفكرية المتعددة يجب أن يسبق أي جيد آخر. ولو تلكأت شتى التيارات العربية عن القيام بالدور الريادي لن تكون القوى الأخرى: العالمية العلمانية والعالمية الإسلامية، أكثر حماسة في دعم الفلسطينيين في معارك تحرير فلسطين. ألا تكفي هذه الدلالة إلى أهمية العامل القومي العربي في ان يكون العامل الأساس في اعتبار قضية فلسطين قضية عربية بالدرجة الأولى؛ لهذا لن تكون قضية فلسطين قضية إنسانية أو قضية إسلامية قبل أن تكون قضية عربية. فعروبة القضية هي مدخل لا بد منه من أجل إدخالها إلى دائرة الاهتمام الإنساني العالمي والإنساني الإسلامي.
‏ولهذا نخلص إلى القول بإيجاز عن علاقة فكر عفلق، كمفكر وأمين عام لحزب البعث العربي الاشتراكي ونضاله من أجل فلسطين بأن حبه الخاص للقومية العربية أشرق حباً خاصاً للقضية الفلسطينية، ودفعه إيمانه بوحدة المصير القومي العربي إلى الإيمان بان تكون القضية الفلسطينية في القلب من هذا الإيمان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق