بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 22 يناير 2010

مقالات العام 2005 (4)

(28): رسالة إلى أبي زياد في الذكرى السنوية لاغتياله
أن يقف المرء ليتكلم في ذكرى شهادة أبي زياد فكأنه يقف أمام امتحان عسير.
فكلمة أبي زياد لم يستطع أحد أن يقلده فيها، أو أن يرتقي لجمالها وحلاوتها.
لم يستطع أحد أن يقلدها لعمقها وشمولها.
لم يستطع أحد أن يقلدها لاستشرافها العميق للمستقبل.
لم يستطع أحد أن يأتي بمثلها إلاَّ الذين سجلوا أسماءهم في سجل الشهداء.
أيها الحضور الكريم
يا رفاق موسى شعيب
يا عائلته الصغرى زوجته وأولاده إخوته وأخواته
يلتئم اليوم شملنا في ذكراه السنوية لنستكمل دروس الثورة التي أحبَّها بعد أن قدمته عائلته الصغرى إلى الأمة فأصبح إبناً للأمة.
قدمته عائلته لقضايا الأمة فنال شهادة أمته بامتياز.
أيها الشهيد الكبير
شرَّفني رفاق دربك بأن ألقي أمام محراب شهادتك كلمة باسمهم. وأبلغك أنهم على الدرب مستمرون.
لقد طال غيابك عنا وطال غيابنا عنك. فغيابك يمثِّل حضوراً دائماً في ذاكرتنا، وفي قلوبنا. أما غيابنا عنك فلم يكن إلاَّ من أجل متابعة الدرب الذي سلكت وعليه استشهدت.
لقد كانت المسافة بين لقائنا في آخر ذكرى لك وذكراك في هذا اليوم طويلة.
كانت مملوءة بالأشواك. بالحواجز. بالعقبات.
لكننا أتينا إليك بعد أن عبَّد رفاق آخرون دروب الشهادة.
وغابت عنك الكثرة منهم في الزنازين والمعتقلات.
أما البعض الآخر فقد عانى العذاب والتهجير.
وجميعهم صمدوا واجتازوا الدرب.
لقد غابوا وعادوا، بعضهم عادوا إليك، وبعضهم استمر على طريقك.
عادوا اليوم ليقفوا في محراب شهادتك. لقد أردتهم هكذا فحافظوا على الوعد. ملئوا الدرب بالدم والألم. تحدوا صعوبة الدرب الطويل ولا يزالون.
لم تستطع الحواجز يا رفيقي أن «تشنق شمسنا» كما قلت تماماً. فحبال الحواجز، وأحابيل الحاجزين، احترقت بحرارة شمس البعث الذي إليه انتميت.
يسير رفاق لك الآن تحت شمسهم، ينيرون درب الأمة بدمائهم وأرواحهم.
يسلكون الدرب الطويل على الرغم من وحشته، أليست القلة المؤمنة هي التي تنتصر في النهاية؟
بلى أيها الشهيد الكبير. هكذا سلكنا الدرب. وهكذا سوف نستمر.
لقد سطَّرت دروب نضالنا بقصيدتك الحلوة، المتماسكة، العميقة.
ورسمت فيها حلاوة النضال على الرغم من صعوبته.
فأصبحت مسيرتنا النضالية قصيدة حلوة متماسكة صامدة تكتب تاريخ الأمة. لا بل تكتب الآن تاريخ العالم الحر.
من تلك المسيرة يا رفيقي كانت مقاومة العدو الصهيوني، التي كنت ممن أسهم في بنائها، منذ العام 1968، في كفركلا والطيبة.
إن مقاومة العدو التي أسسها حزبنا يا أبا زياد، ودعا إليها منذ العام 1948، أصبحت الطريق الأمثل والأقوى والأشد تأثيراً في مواجهة العدو الإمبريالي الصهيوني.
ثقافة المقاومة التي عمَّقتها في قصائدك، منذ كان رفاق لك في جبهة التحرير العربية يخترقون خطوط العدو الصهيوني، في آبل القمح ومسكفعام... وغيرها وغيرها إلى جانب مقاتلي المقاومة الفلسطينية، تستمر الآن وتزداد إشراقاً وتألقاً.
يا أبا زياد
ماذا أنقل إليك، مما حصل منذ خمسة وعشرين عاماً؟
لقد استسلم النظام العربي الرسمي.
لكن حركة الصراع مع العدو تزداد وتترسَّخ. ويزداد معها عدد الشهداء من رفاق الدرب. ومن كل القوى التي آمنت أن الأرض لن يحررها سوى الشهداء. فسلاحها دماء أبنائها وأرواحهم.
هل نحدثك عن لبنان؟
لقد انتصر لبنان وطرد الغزاة بدماء الشهداء الأبطال. لقد تحرر لبنان يا رفيقي من دنس الصهيونية في العام 2000 على أيدي المقاومين الثوار، فارتفعت هامات الشهداء تحت شتى الرايات في تلال الجنوب، ولهم ندين، وبهم جميعاً نفتخر ونقتدي.
وهل نحدثك عن فلسطين؟
فلسطين ملتهبة، تتمرد على آل صهيون، وآل بوش، وآل بلير.
يكفي شعبنا في فلسطين عزة وفخراً أن الحجر الفلسطيني كان أسبق من كل صواريخ شارون وعتاده، وأكثر تأثيراً.
وهل نحدثك عن العراق؟
في العراق الآن ينسج رفاق لك، قيادات وقواعد، أنشودة التحرير بدمائهم وحياتهم ومعاناتهم.
في العراق اليوم ينسجون قصيدة النصر بعد أن ولَّى شبح هزيمة الأنظمة واندحر.
في العراق اليوم قبلة العالم الحر الذي طالما انتظر «المخلص» الذي يقوده في معركة إنهاء إمبراطورية آل صهيون، وإمبراطورية العم سام.
هناك رفاق لك في العراق، جنباً إلى جنب كل العراقيين الذين لم ينخدعوا بأكاذيب جورج بوش وأذياله، يتحدون أكبر دولة للشر في العالم. صفعوا وجهها في بغداد، وفي كركوك وأربيل. في البصرة والموصل. في الفلوجة والرمادي. في الناصرية وسامراء. في العمارة والسماوة. في النجف وكربلاء... وتطول اللائحة لتشمل أقصى العراق إلى أقصاه.
إلى هناك... أتى الأميركيون لكي يلعقوا بترول العراق ودماء العراقيين. ولكنهم الآن لا يلعقون إلاَّ دماء جنودهم. ويلملمون أشلاءهم، ويتسللون بجثثهم تحت جنح الظلام وأحذيتهم معلَّقة برقابهم.
هناك ينبني تاريخ العراق، تاريخ الأمة العربية، تاريخ العالم بأجمعه، هناك ينبني بضلوع الشهداء.
هناك يكتب الشهداء التاريخ بدمائهم. تماماً يا موسى كما بنيت أنت ورفاق لك تاريخنا ومنارة عزنا.
تماماً كما رسمتم الدرب لنا، ونعم الدرب. هو الدرب الذي لا تسلكه إلاَّ النفوس الكبيرة. النفوس الكريمة التي تبذل الدم مهراً لتحرير أمتها.
باختصار يا رفيقي
تلتقي الأمة اليوم على طريق المقاومة والتحرير. يلتئم شمل الصادقين المؤمنين، من لبنان وفلسطين والعراق وكل الأحرار العرب وفي العالم، على طاولة المقاومة الشعبية، يجمعون من رباط الخيل كتلة من المقاومين الأبطال لتهديم الإمبراطورية التي يحلم بها جورج بوش وشارون.
يا أبا زياد
ما إن نودعك ليس إلاَّ كي نعود لنلتقي من جديد.
نودعك الآن، وننظر إلى العام القادم لكي نزف إليك بشرى تحرير العراق، وفلسطين، كما زُفَّت إليك بشرى تحرير لبنان.
فالوداع لكي نلتقي غداً على وقع أناشيد النصر. على وقع أناشيد التحرير.
فالوداع لكي نلتقي غداً على وقع أناشيدك التي صغت كلماتها من أعماق روحك. ومنها كنا نطل على النصر الآتي. وإن النصر آتٍ بما لا ريب فيه.
***

(29): علاء اللامي في نقده المنهج السياسي الاستراتيجي للمقاومة العراقية يبدو كأستاذ يصحح كراريس الطلاب على منهج أهل الكهف
6/ 8/ 2005
طالعنا الأستاذ علاء اللامي في مقال نشره في جريدة القدس العربي، بتاريخ 3/ 8/ 2005، ناقداً فيه «المنهج السياسي الاستراتيجي للمقاومة العراقية»، الصادر بتاريخ 9/ 9/ 2003. وبعد أن استكمل نقده وعد القراء بالمزيد.
بداية نقول إننا قرأنا للأستاذ علاء اللامي عدداً من الكتابات، ومنها كتاب صادر عن دار الكنوز الأدبية في بيروت . وكان دافعنا لقراءته تمييزه بين مرحلة ما قبل احتلال العراق عما بعدها. معبِّراً عن موقف رافض للاحتلال لكنه لا يزال ثابتاً على نقده لنظام حزب البعث تحت عنوان وصفه بـ«الديكتاتورية». ومن تحت هذا العنوان دفعنا الفضول إلى التفتيش عن الأسباب التي تدعو رافض للاحتلال الأميركي إلى وصف النظام السياسي، الذي أسقطته الإمبريالية، بـ«الديكتاتورية». لعلَّنا، وفي ظل الاتهام الأميركي للنظام نفسه بالتهمة نفسها، نستطيع أن نفسِّر ظاهرة أن يتساوى بالحكم نفسه على نظام حزب البعث السياسي طرفان: الإمبريالي مع رافض للإمبريالية.
كنا نرى، أن اتهام الإدارات الأميركية المتعاقبة، بالتحالف مع الصهيونية العالمية، لنظام حزب البعث بـ«الديكتاتورية» له أغراض وأهداف تساعد على إسقاطه إعلامياً قبل تنفيذ استراتيجية عسكرية ثبت أنها مُعدَّة قبل أجيال سابقة من أجل إسقاطه. أما الفضول فكان يدفعنا لقراءة نقد يكتبه معارض عراقي سابق، خاصة أنه أثبت وطنيته بعد وقوفه ضد الاحتلال. وقراءتنا له كانت من أجل البحث، ربما نحصل منها على وثائق ومعلومات واضحة تقنعنا بإدانة النظام، التي قد تساعدنا على تقييم تجربة سابقة نرى أنها كانت بداية جدية لتأسيس مشروع عربي نهضوي.
لكن ما كنا نسعى وراءه من وثائق ومعلومات لم نحصل عليها، بل كل أبواب النقد التي مارسها الأستاذ علاء اللامي لم تخرج عن العناوين «المُضخَّمة» الكبرى التي لاكها، ولا يزال يلوكها، التيار العراقي المعارض العميل للمخابرات الأميركية، والتي استفاد منها الإعلام الأمبريالي أيما استفادة. ومن يريد أن يختبر «حظه» في التنقيب عن وقائع ووثائق محددة في كتابات اللامي وأطنابه فليقرأهم ونرجوه أن يرد علينا الجواب لعلَّه يجد ما لم نستطع العثور عليه. وكان مثلنا كمثل كل لجان التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل المزعومة. ونحن نرجوهم أن لا يرددوا ببغائيات ما كان قوتاً للإعلام الأميركي لفترة طويلة، كمثل حالة حلبجة والمقابر الجماعية، وكثرة السجون التي وجدها الاحتلال خاوية، فتلك مسائل عالجها عراقيون بعلمية وموضوعية وكشفوا عن الكذب البالغ فيها. وقد استعانوا غالباً بتقارير منسوبة إلى باحثين وسياسيين غربيين.
فإذا كنت توازن بين مسألتين: احتلال العراق و«ديكتاتورية» النظام السابق الذي أسقطه الاحتلال، فلا بد من أن تكون لديك أسباباً وجيهة تقنع القارئ بأنهما يتمثلان بالخطورة ذاتها. وباستثناء أن النظام لم يكن «رحوماَ» بمن أثبت أنه يعتبر «الخيانة» حقاً ديموقراطياً، أو من كان يهدد استقرار العراق وأمنه، لم نسمع من معارض هنا كان أم هناك أكثر من حالات تأفف وإعلان عدم الرضا تارة لمعارض لم يعجبه راتبه، أو يريد أن يكون في سلم وظيفي أعلى. ومن لم يعجبه موقعه السياسي فهو يريد موقعاً أفضل... وهلم جراً...
أما القسوة بحق من كان يعتبر التعاون مع المخابرات الأجنبية، أو من كان يهدد أمن العراق الوطني، فاسألوا الدول ذات الديموقراطيات العريقة، ومنها أميركا وبريطانيا، عما فعلته، وتفعله، يداها وأجهزتها الأمنية والمخابراتية حول ذلك.
وبعد أن قرأنا للأستاذ اللامي مقالات أخرى تتصف بالموضوعية، خاصة بعد أن أثبتت المقاومة العراقية لدى المشككين فيها قوَّتها وتأثيرها وفعاليتها، إذ به يفاجأنا بمقالته الأخيرة التي تنضح نوايا غير سليمة والتي لا يربطها أية صلة بموقعه الوطني الذي احتلَّه فقط برفضه للاحتلال كحد أدنى.
ففي المقالة المذكورة، موضوع نقدنا، يظهر اللامي لأول وهلة كأستاذ يصحح كراريس طلابه. وإذا كنا لا نعترض على التصحيح كمبدأ، ولكننا نعترض عليه كمحتوى لهذا المبدأ. والمحتوى في تصحيح اللامي أنه يحاسب طالبه على قاعدة ذاكرة أهل الكهف. ويصل بنتائج تصحيحه إلى أن آليته للنقد شبيهة بـ«العملة» التي راح أهل الكهف ليشتروا بها فوجدوا أنها لا تساوي أية قيمة شرائية بأكثر من أنها تملك قيمة أثرية. والقيمة الأثرية يُستفاد منها في كتابة التاريخ أولاً ولتقييمه على ضوء الأحداث التي لحقت بها ثانياً.
فاستناداً إلى ذلك لم يكن اللامي أستاذاً موفقاً في تصحيحه كراس المقاومة العراقية، والمُسمَّى «المنهج السياسي الاستراتيجي» الذي كتبته منذ سنتين تقريباً، ولا ندري لماذا تأخَّر الأستاذ اللامي بالقيام بوظيفته «الأستذة» حتى هذا اليوم.
نقول للأستاذ اللامي إن المنهج الاستراتيجي المذكور يرسم حداً فاصلاً بين مفصلين تاريخيين: الأول هو عصر ما قبل المقاومة، والثاني عصر ما بعدها. فالقوى التي سجَّلت تاريخ ما قبلها وما بعدها هي حزب البعث العربي الاشتراكي. فمحاكمة عصر ما قبلها يخضع لآليات مختلفة تأخذ بعين الاعتبار الظروف المحيطة بها. فإذا كانت معارضة اللامي للحزب قائمة على مقاييس ثنائية «الديموقراطية - الديكتاتورية» فليس له الحق في إغفال أهم العوامل التي ترافقت مع تلك المرحلة والتي هي فهم أهداف المعارضة السابقة ووظائفها ومواقعها من القضية الوطنية العراقية، ومواقعها من القضية القومية.
إذا كان تصنيف أخطاء النظام السابق منبثق عن أخطاء في الممارسة الديموقراطية مع التلاوين السياسية العراقية فليس من المنطقي أن نستثني تداخل الخنادق بين ما يقع في حقل الحقوق الديموقراطية وما يقع في حقل الواجبات الوطنية. ففي العام كانت جميع تلاوين المعارضة العراقية تطالب بحقوقها الديموقراطية وهو حق لها بلا شك. تلك التلاوين كانت منقسمة إلى تيارين لا يمكن أن يجمعهما جامع مشترك:
-التيار الخاضع لتوجيه المخابرات الأميركية البريطانية الصهيونية بالإضافة إلى الإيرانية، وهو الذي أراد، ولا يزال يريد، اعتبار «الخيانة الوطنية» حقاً ديموقراطياً. ولهذا السبب تعاون مع التحالف المعادي لوطنه، فباعه من أجل الحصول على مكسب سياسي.
-والتيار الذي يرفض «الخيانة الوطنية» لأنها لا تستقيم مع مبادئ القيم الإنسانية العليا وتشريعاتها. ولهذا لم يرفض التعاون مع أعداء وطنه فحسب، بل وقف في خندق مقاومة العدوان والاحتلال أيضاً.
أصرَّ التيار الأول على إلصاق التهم بما سماه «نظام البعث الديكتاتوري» لتبرير خيانته، وبما يساعد أكاذيب الاحتلال وخداعه. وهو ليس لديه ما يتمسك به ويدافع فيه عن نفسه إلاَّ تلك الشعارات «المضخَّمة» والتي بها برر مشاركته في غزو بلاده عسكرياً على دبابات أجنبية، وهو يبرر الآن دفاعه عن بقاء الاحتلال على أرض العراق.
أما التيار الثاني فقد أجَّل مطالبته بحقوقه الديموقراطية إلى مرحلة ما بعد التحرير، آخذاً دوره في معركة التحرير الوطنية لأنه لا يرى أية قيمة للديموقراطية من دون استعادة السيادة الوطنية أولاً. كما اعتبر أن أي جهد تبذله أية جهة عراقية كانت لا تصب في مصلحة المعركة الوطنية، أو فيه ما يساعد الاحتلال ويبرر له حججه وذرائعه في احتلال العراق، هو جهد غير مبرر بل ومشبوه. وبها يصبح عند هذا التيار فتح الملف الديموقراطي خطوة لاحقة للتحرير وليس خطوة تسبقه.
ولأن نظام حزب البعث، من خلال مراقبته حركة القوى المعارضة في كل مواقع الشتات، كان على يقين باستخدام أجهزة المخابرات المعادية تلك الأوساط المعارضة لأغراض مشبوهة،
ولأن تداخل المواقع الجغرافية لتلك الأوساط المعارضة في الشتات لم تدع مجالاً للتمييز بين من هو خائن لوطنه ومن هو مخلص له، كانت تحصل بعض الأخطاء في الممارسة الديموقراطية. وقد حسم الشك باليقين في التمييز بين خندق «الخونة» وخندق «الوطنيين» هو ذلك الحوار الذي جرى مع عدد من التنظيمات العراقية المعارضة في كانون الأول من العام 2002، وكانت نتائجه وقوف تلك التنظيمات إلى صف الدفاع عن العراق ضد العدوان. وكانت تلك التيارات ترى أنه من غير المنطقي أن تتلهى بنقد سلبيات التجربة الديموقراطية السابقة لأنها ستكون حكماً على حساب توفير مستلزمات مقاومة الاحتلال.
لم يكن استغرابنا عائداً إلى حرمان الأستاذ اللامي من حقه في النقد، ولكننا نستغرب توقيت هذا النقد أولاً والمغالطات التي ارتكبها في نقده ثانياً. فإذا كان ما قدَّمنا به ردنا كافياً حول خطأ التوقيت، فإننا فيما يلي سندلي بأسبابنا حول المغالطات التي وقع فيها الأستاذ اللامي.
ففي مقالته الأخيرة أكثر اللامي من الهفوات والهَنَات والتناقض والابتعاد عن أي موقف وطني. فمقياس الوطنية، في الظرف الذي فرضت فيه مقاومة حزب البعث وقائع جديدة على الاحتلال نفسه، هو أن على كل الأصوات أن تأخذ جانب تأييد تلك المقاومة ومشاركتها واعتبارها «الممثل الشرعي والوحيد للشعب العراقي». أما كل ما يصب لصالحها فهي امتدادات مهمة ومؤثرة. وتأثير تلك الامتدادات لم يكن ليحصل لو لم تنطلق المقاومة المسلَّحة. فالسلاح في معركة التحرير هو الأول أما غيره فهو الثاني. لكن هذا لا يعني أن أحدهما يجب أن يطغى على الآخر إلاَّ بسمة أساسية هو أن المقاومة المسلحة هي النواة، وهي الأساس، وهي القاعدة، التي لولا انطلاقتها لافتقدت العوامل المساعدة الأخرى أهميتها إلاَّ في حالة واحدة هي أن تتساعد كل عوامل المقاومة الأخرى من أجل أن تؤسس مقاومة مسلحة. أما وأن المقاومة كانت مؤسسة سابقة للاحتلال وتقوم بعمل بطولي فاق في سرعته كل المقاييس المتوقعة، واختصر بها حزب البعث مسافات طويلة ومساحات زمنية واسعة أمام العراقيين، فلسنا نرى أي مبرر للاشتغال بهويتها أو بأشخاصها لأنهم شخَّصوا بعملهم المثل الذي نطمح إليه. وما سبق من أخطاء لهم ثبت أنها لم تكن تعبيراً عن استراتيجية كما يحلو للأستاذ اللامي أن يوحي بها، بل كانت ردود أفعال فرضتها مرحلة حماية الأمن الوطني العراقي والقومي العربي ثبت، بعد مرحلة الاحتلال، أنها كانت مخاوف جدية.
أن تمارس النقد الذاتي أو تمارس النقد، هما من أهم أسس الديموقراطية الصحيحة. فتفاءلنا خيراً، وشدَّنا العنوان الذي توَّج به الأستاذ اللامي مقالته إلى قراءة المقال، خاصة وأن المنهج السياسي المذكور الذي وضعه الأستاذ اللامي في غربال نقده هو من الأمور الفائقة الأهمية. وهو أيضاً من النصوص التي مضى على وضعها سنتان أي أن عمره يتناسب مع عمر المقاومة العراقية. كما أن مناقشته ونقده لا يمكن أن يتم بمعزل عن التعريف بتلك المقاومة. فالمنهج النظري مترابط بشكل كلي مع وجوهه التطبيقية. ومناقشة أحد الوجوه بمعزل عن الآخر لهو بتر مغرض وليس موضوعياً.
أما تشبيهنا نقده للمنهج على أنه شبيه بتصحيح كراريس طلاب القرن الواحد والعشرين استناداً إلى معلومات أهل الكهف، فهو أنه ينبش «عملة» عبد الكريم قاسم القديمة جداً ليقايض بها «بضاعة» مقاومة تسطِّر الآن أكثر صفحات التاريخ العالمي إشراقاً، بعد أن عجز النظام السوفياتي الذي كان داعماً لعبد الكريم قاسم عن تحقيقه. وهنا نلفت نظر اللامي إلى ما جاء في مقالته مما يتشابه مع «عملة أهل الكهف».

أولاً: نظام عبد الكريم قاسم أجدر بالاستهداف الأميركي من نظام صدام حسين:
بعد أن نام اللامي أكثر من نصف قرن من الزمن على تأييده عبد الكريم قاسم، في خلاله عرف العراق تطورات بالغة الأهمية في تاريخ العالم، وفيها ابتدأ عصر المقاومة المسلحة ضد أعتى إمبراطوريات العالم. فنزل اللامي إلى أسواق العراق بعد أن استفاق من نومه الطويل ليشتري لأصحابه، وكلبهم معهم، شيئاً يقتاتون به بـ«فلوس» يعود تاريخ صكها إلى زمن عبد الكريم قاسم، فلم يقدِّر أي من تجار السوق قيمة تلك «الفلوس». وليس على اللامي إلاَّ أن يعود إلى المغارة إما للنوم الطويل من جديد فيعفي نفسه مشقة النزول إلى المدينة أو أن يعمل على الحصول على «عملة جديدة» يمكن للعصر أن يفهمها.
يغرف الأستاذ اللامي من ملفات «أهل الكهف» ما يلي: «كيف ننظر إلى دور حزب البعث في تدمير النظام الوطني واللاطائفي المنبثق عن ثورة 14 تموز 1958، واغتيال مؤسس الجمهورية العراقية عبد الكريم قاسم؟ وأي نظام أجدر بالاستهداف الأمريكي أهو نظام قاسم الوطني المعادي للغرب أم النظام الذي قتله وأدار مذبحة فظيعة لأنصاره ومؤيديه من اليسار الديمقراطي؟». نجيب بسرعة: نؤيد اللامي بأن عبد الكريم قاسم كان ملاكاً في تلك الفترة. وملائكيته كانت تعبِّر عن نفسها في «محكمة المهداوي» وضحاياه. أنت تعرف أن من كان يحكم ليس عبد الكريم قاسم، وأنت تعرف أن فلول من كان يحكم من ورائه ساقطون الآن في «سلة الاحتلال الأميركي»، فأي هراء تقوله يا أستاذ علاء؟
وببساطة وهدوء نقول: إن ألفباء النقد تنطلق من ترابط الظواهر وليس في تفكيكها بشكل تعسفي. أي أن تربط عصر الصراع بين الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث في أواخر الخمسينيات والستينيات بالعصر الراهن، عصر مقاومة الاستعمار بكل أشكاله، تلك المقاومة التي خطط لها حزب البعث وأعد مستلزماتها قبل العدوان والاحتلال، تلك حقيقة لا يمكن إخفاؤها سواءٌ أشاء الأستاذ علاء أم أبى.
وإننا لا نريد الخوض بتجربة تاريخية، يمكننا الاستفادة منها في مرحلة ما بعد التحرير، لأن المطلوب الآن أن لا نقتسم «جلد الدب قبل اصطياده» كما هو شأن من يريدون انتهاز الفرص إذا عرفوا أن «الدب» مقتول فعلاً.
فالخلاف حول ذلك، وإذا تعدَّى عناوينه الكبرى، لهو خوض لمعركة ليست في زمانها ومكانها المناسبين. على الرغم من ذلك لا يمكننا القفز فوق ما ذكَّرنا به الأستاذ من دون الإشارة إلى عناوين التقييم الكبرى لتلك المرحلة، فنقول: إن عامل الصراع بين عبد الكريم قاسم (أو قل مع الحزب الشيوعي العراقي يومذاك) وحزب البعث، كان محكوماً بسقف أممية العراق أم عروبته. فكان الحزب الشيوعي العراقي آنذاك يريد أن يشد العراق إلى تحت «اللحاف الأممي للاتحاد السوفياتي» أولاً، أي أنه لا يحق للعراق أن يطرق بوابة العروبة سوى بـ«الجرس السوفياتي»، وثانياً كان الحزب الشيوعي، في موضوعة الصراع مع الاستعمار، يسلك الاستراتيجية السوفياتية في الحلول السلمية. ولهذا كانت مواقف الأحزاب الشيوعية العربية آنذاك وحتى السبعينيات لا تؤمن باستراتيجية الكفاح الشعبي المسلح خاصة إذا كانت لا تستجيب لمصالح الاتحاد السوفياتي.
ليست من الموضوعية في شيء أن يستحضر كل ملفات التاريخ العراقي التي للأستاذ رأي خاص منحاز فيها إلى إيديولوجيا فئوية كانت تعشعش في زوايا العقل الحزبي لأكثر من نصف قرن مضى، فنحيله إلى أبحاث قام بدراستها أكاديميون حياديون. وهنا نذكِّر الأستاذ علاء بمرحلة الصراع بين البعث وعبد الكريم قاسم، للإشارة وليس للغرق فيها لأنها أصبحت في ذاكرة أهل الكهف في عصر المقاومة المسلحة، ونحيله إلى قراءة دراسات قام بها أكاديميون من غير البعثيين أو الشيوعيين عن تلك المرحلة وغيرها ليستفيد منها وتعمل على تطهير عقله الملوَّث بإيديولوجيا التعصب.
فإذا كان استذكار تلك المراحل التاريخية ضروري، فنحن نوافق على ذلك، ونوافق على إعادة تقييمها بما يخدم وضع أسس للعمل الديموقراطي في مرحلة ما بعد التحرير، لكن علينا أولاً أن نُطلق رصاصة واحدة باتجاه قوات الاحتلال لنسهم في إنجاز التحرير وليس أن نربك من يقاتل، خاصة أن الذي يقاتل أثبت أنه جدير بالتقدير والاحترام. فالمقاتلون العراقيون أجبروا بوش وبلير على الاستغاثة، وقفزا فوق ملف «الديموقراطية الفارغة»، وفوق ملف «الديكتاتورية» المضخَّمَة. لكن الأستاذ اللامي للأسف الشديد لا يريد أن يسمع صراخهما من شدة «الخازوق» الذي ركبا عليه، بل هو يصر على استحضار ملفات «أهل الكهف». أما السبب فلست أدري ماهيته واتجاهاته ووظائفه وأغراضه.

ثانياً: كان إسقاط نظام حزب البعث مجرد نتاج ثانوي للحرب:
يقول اللامي مكذِّباً ما جاء في المنهج السياسي عن أن نظام حزب البعث كان مُستهدفاً بالأساس لأنه قاد مرحلة بناء مشروع عربي نهضوي: « غير أن الهدف الأمريكي الأول لم يكن كما يلح المنهاج هو اقتلاع النظام السياسي أو الإطاحة بصدام حسين والمجموعة الحاكمة لأنها وطنية ومعادية للإمبريالية والصهيونية، بل إن الهدف الحقيقي هو احتلال العراق وتدمير الدولة العراقية وجعل العراق مثابةً وقاعدة جغراسياسية وعسكرية للولايات المتحدة، أما سقوط النظام فهو كما آنفنا مجرد نتاج ثانوي لتلك الحرب». ويستطرد مزاوجاً تناقضين بارزين عندما يقول: «وأخيرا فإن محاولة بناء التوازن العلمي والدفــــاعي مع إسرائيل كلف العراق ثروات هائلة».
هراءٌ آخر يرتكبه الأستاذ اللامي. لقد انتقد ونقض نقده في الوقت ذاته:
إذا كنت لا تدري أن القرار الأول، الذي يحمل الرقم واحد المؤرَّخ في أول أيار 2003، الذي أصدره بول بريمر «الحرامي الهارب إلى واشنطن»، كان تحت عنوان «تطهير المجتمع العراقي من حزب البعث»، فنحن نرجوك أن تستعيد ذاكرتك وأن تراجعه من جديد كما أن تراجع التقارير الأميركية التي تأمر ليس باجتثاث البعث كتنظيم سياسي فحسب، بل اقتلاع فلسفته أيضاً. ألم يطرق أذنيك أن الإدارة الأميركية بصدد وضع تشريع يعتبر حزب البعث إرهابياً؟ وهل كل تلك القرارات والتقارير التي أعطت أهمية لحزب البعث لتمثيله الخطورة الأقصى على مصالح التحالف الأميركي - الصهيوني هو «مجرد نتاج ثانوي لتلك الحرب»؟
ومن مآخذ اللامي على نظام حزب البعث هو أنه عمل على بناء يُحدث توازناً استراتيجياً مع العدو الصهيوني، وأنفق «ثروات هائلة» في سبيل ذلك الهدف. وهنا نسأل الأستاذ اللامي: هل الخطأ هو في هدف بناء المشروع أم في الإنفاق عليه؟
فإذا كان الهدف سليماً، فليسمح لنا الأستاذ أن نتساءل:
-هل الإعداد الاستراتيجي لمقاومة الصهيونية، في الوقت الذي تعمل فيه لابتلاع ليس ثروات العراق الهائلة فحسب، وإنما ابتلاع ثروات العالم كله أيضاً، إلاَّ دفاعاً عن ثروات العراق المخزونة؟
-وهل تكون «اتفاقيات كامب ديفيد مع مصر، وأوسلو مع الفلسطينيين، ووادي عربة مع الأردن، واتفاق 17 أيار مع لبنان» مشروعة لأنها أخذت بالاعتبار توفير الإنفاق العسكري في الصراع ضد العدو الصهيوني؟
فإذا كان الهدف سليماً فأين الخطأ في الإنفاق المادي من أجل تحقيقه؟ بل أين الخطأ في إنفاق الدم من أجله؟ بل أين الخطأ في تقديم الأرواح من أجله؟
أما إذا كان الهدف، في نظر الأستاذ اللامي، خاطئاً فليسمح لنا بأن نضع علامات الاستفهام حول كل مبادئه في واجب مقاومة الاستعمار والصهيونية.
وهراءٌ آخر في التناقضات التي يقع فيها الكاتب، حينما يقول: «وأين نضع سنوات الدهن على دبس بين النظام البعثي والغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً طوال عقد السبعينات والثمانينات؟ وأين نضع الحرب بالوكالة التي شنها النظام البعثي ضد إيران».
فهل من لديه مشروع ليبني توازناً استراتيجياً مع العدو الصهيوني يدهن من دبس الولايات المتحدة الأميركية؟ وهل تعطيه تلك الولايات دبساً لكي يدهن به مشروعاً يهدد أمن العدو الصهيوني وكيانه؟ وهل تستطيع تلك الولايات أن تتآمر على حليفها الاستراتيجي الأول القابع على أرض العروبة؟
أما آراؤك عن الحرب مع إيران، فأنت على حق بها، هذا إذا كانت إيران معادية للإمبريالية الأميركية فعلاً. وإذا كان شعار «اميركا الشيطان الأكبر» قد ضلَّلك فنحن لم نكن في يوم من الأيام بمنتهى السذاجة لكي نصدِّق هذا الادعاء.
يا عزيزي الأستاذ. إن من لا يقرن القول بالعمل فهو مخادع ومحتال. نؤكد لك أن العراق لم يكن مسؤولاً عن الحرب العراقية الإيرانية. بل نشير إلى واقعة أساسية وواضحة تحمِّل إيران مسؤولية الحرب. كل الإثباتات الإيديولوجية والسياسية والأهداف الإيرانية تبرهن أن الخميني كان يريد اجتياح العراق للوصول إلى العتبات الشيعية المقدسة في النجف وكربلاء. وقد باشر بذلك فعلاً. وهناك من الأسباب الشيء الكثير لدينا حول ذلك ولكن المجال في هذا الرد لا يتسع. فباختصار كان موقف العراق في ظل نظام البعث هو الدفاع الأرض العراقية ضد أطماع الدولة الفارسية التي اعتبرت، بعد إسقاطها نظام الشاه، أن لديها «فرصة إلهية» لمد نفوذها إلى جنوب العراق، قبل أي شيء آخر، تحت شعارات مذهبية خدعت بها الكثيرين من أصحاب النوايا الطيبة، وأسهم في تحقيقها مجاميع سياسية شيعية عراقية ليست بخافية على أحد . وإذا كنت غير مقتنع بأهداف الخميني الأساسية، فهل أنت اليوم، بعد وصول الإيرانيين إلى تلك العتبات تحت حماية «الشيطان الأكبر»، ستبقى مصراً على ما قلته في مقالك؟
وعلى هذا الأساس كيف تفسر لنا يا أستاذ علاء اللامي، ما قاله كبار المسؤولين الإيرانيين، وما يقولونه، بعد الحملة التي قادتها أميركا ضد المفاعل النووي الإيراني: لولا المساعدة الإيرانية لأميركا لما استطاعت أن تدخل إلى كابول (عاصمة أفغانستان) وإلى بغداد (عاصمة وطنك العراق)؟
هل تدري بأن إيران اليوم تساوم على العراق والعراقيين مع الأميركيين من أجل إنقاذ رأس مشروعها النووي؟
ثالثاً: هل في المنهج الاستراتيجي مراوغة كما يحسب اللامي؟
يقول في بداية نقده للمنهج الاستراتيجي: « لا وجود لذكر أية أهداف أخرى كتلك التي تدعو إليها بيانات الحزب من قبيل إعادة الأمور إلى ما كانت عليه يوم 8 نيسان وإعادة الشرعية والرئاسة لصدام حسين»، ويدعو المنهج «للمطالبة بإعادة صدام حسين إلى السلطة، ولكن بشكل مراوغ»، و«والواقع فالمنظِّر البعثي يحاول هنا خلط الأوراق واستثمار لاشرعية الاحتلال وما نتج عنه بهدف إضفاء شرعية مزعومة على نظام صدام». هذا النظام، كما يرى اللامي، الذي يريد المنهج استعادته من خلال تأكيد حزب البعث واحتكاره «صفتين فهو قائد المقاومة وهو أيضاً مديرها... وفي ذلك استمرار تكراري لسياسة الحزب الواحد، والزعيم الواحد، والمقاومة الواحدة ((متناسياً الشعار الذي كان يهتف به شيوعيو عبد الكريم قاسم: ماكو زعيم إلاَّ كريم))»،
وبعد كشفه الذكي لنوايا المنهج، وهي ليست نوايا بل هي قرارات معلنة وواضحة كما جاء في بيانات للحزب تدعو إلى أنه من حق المقاومين، كل المقاومين، أولاً أن يتولوا السلطة بعد مرحلة التحرير. فيأتي اللامي لكي يفرض كفرد رأيه في تحديد آلية استلام السلطة لمرحلة ما بعد التحرير قائلاً: «إن الحكومة العراقية الشرعية، هي تلك التي تنبثق عن توافق عراقي واسع بين ممثلي السكان والقوى السياسية المطالبة بالاستقلال الحقيقي»، وهي التي عليها أن «تبدأ الاستعداد لانتخابات شرعية ورئاسية ديمقراطية وتعددية في العراق تحت إشراف ومراقبة دولية وعلى أساس مبادئ المواطنة الحديثة وليس على أساس المحاصصات الطائفية والعرقية».
عجباً يا عزيزي القابع في أوروبا، هل كان يمكنك أن تقود مقاومة مسلَّحة من هناك؟ وإذا استطعت ذلك فهل يمكنك أن تطلب ممن يدفع الحياة والدم والقهر والسجن والملاحقة أن يقوموا بمبايعتك لحكم العراق؟ وإذا دفعوها إليك فهل تكون أنت الحاكم الراضي الضمير في الوقت الذي لم تعان فيه في معركة التحرير أو تدفع نقطة من العرق ولم تمسح غبار معركة عن جبينك؟
تعال بداية نضع تحديداً واضحاً للحقوق: لم تعرف ثورة مسلحة في تاريخ العالم زهداً في حكم بلادها بعد التحرير، بدءًا بلينين في روسيا، ومروراً بفيدال كاسترو في كوبا، وانتهاء بهوشي منه في فييتنام. كلها يا عزيزي أنموذجاً لثورات قادها ماركسيون. فلماذا تريد من حزب البعث أن يكون الزاهد الوحيد في تاريخ الأحزاب؟
حزب البعث، وعلى رأسه الرئيس صدام حسين، أعدَّ للمقاومة الشعبية المسلَّحة بكل تفاصيلها قبل العدوان والاحتلال، وانطلق فيها في اللحظة المناسبة التي كان قد حدَّد شروطها وتوقيتاتها. وممن درَّبهم كنواة، أو قل أكثر من نواة لأن عدد المدربين فاق عشرات الآلاف، هم تحديداً كما جاء ذكرهم في أول بيان لـ«قيادة المقاومة والتحرير» الذي نشرته جريدة القدس العربي التي استضافتك على صفحاتها، بتاريخ 22/ 4/ 2003، وهم: «كوادره المناضلة ومقاتلي الجيش العراقي البطل وقوات الحرس الجمهوري والحرس الخاص الباسلة وقوات الأمن القومي المقدامة ومجاهدي منظمة فدائيي صدام البواسل والمقاومين العراقيين الوطنيين والمتطوعين العرب النجباء». ونعيد إلى ذاكرتك أن من صاغ البيان الأول للمقاومة هو الذي صاغ المنهج السياسي بثلاثة أشهر ونيِّف قبل صياغة المنهج. وتلك وثيقة لا يمكنك نكرانها وإلاَّ ستزعل منك هيئة التحرير في صحيفة القدس العربي.
فإذا كان يزعجك أن تكون كل تلك الفصائل تنتسب إلى حزب البعث أو وُلدت من رحم نظامه السياسي فنطلب منك أن تأتي لنا بوثيقة تدحض هذا الادعاء ونكون لك من الشاكرين. وللتخفيف عليك عناء البحث، لأنك لن تبحث كما أنا على يقين من ذلك، فنرشدك إلى كتاب «المقاومة الوطنية العراقية: معركة الحسم ضد الأمركة» الذي نشرناه في أوائل شهر تشرين الأول من العام 2003. بلغ عدد بيانات «قيادة المقاومة والتحرير» أربعة عشر بياناً عسكرياً حتى تاريخ 18/ 6/ 2003، وذلك قبل أن تصدر منظمات أخرى بأسماء أخرى بيانات سياسية منذ حزيران في العام 2003، وكان أول بيان عسكري يصدر عن غير «قيادة المقاومة والتحرير» مؤرخاً بـ 21/ 7/ 2003. وفي المقابل وجَّه الرئيس صدام حسين عشر رسائل منذ أواخر نيسان حتى 17/ 9/ 2003. وتخلل بيانات قيادة المقاومة ورسائل الرئيس الإعلان عن المنهج السياسي الاستراتيجي.
ولمعلوماتك إن المنهج كان استراتيجياً بنصه النظري، وهو لا يزال استراتيجياً بتطبيقه العملي. ألا يكفيك أنه حدد أهداف المقاومة بدقة: قتال قوات الاحتلال وعملائها ومنع إدارة بوش من الاستفادة من نفط العراق؟. أليس العمل العسكري أثبت جدارة وكفاءة لم تنكرها قيادات الاحتلال السياسية والعسكرية. وكانت أمينة على خطها السياسي الاستراتيجي.
يطول بنا المجال في الدفاع عن صحة ما نقول. وإننا لا ندعوك إلى قراءة ما تكتبه قيادة قطر العراق عن أهمية وفعالية المقاومة ولكننا ندعوك إلى النظر إلى وجهيْ كل من رئيس الولايات المتحدة ورئيس الحكومة البريطانية. ندعوك إلى أن تقرأ التقييم العالي لفعالية وتأثير المنهج الاستراتيجي السياسي والعسكري للمقاومة العراقية على وجهيهما، كما على تصريحاتهما، كما على نواياهما غير المعلنة بتوفير شروط «انسحاب مشرِّف» لا يلوِّث شرف جيشيهما بمرارة الهزيمة.
فمن تلك النتيجة نأخذ عليك بأنك بعيد عن جادة العدل والموضوعية عندما لا تعترف بأن حزب البعث هو الذي يقود المقاومة بجدارة. كما أنك تتناسى أن الحزب، كما الرئيس صدام حسين، دعيا منذ البداية، ورحَّبا بكل من حمل البندقية، وبكل من سوف يحملها، واعتبرا أن كل من يقاتل الاحتلال سيكون من المستحقين بجدارة لأن يكون العراق المستقبل، عراق ما بعد التحرير، أمانة في أعناقهم. لأنه لن يدافع عن العراق في المستقبل إلاَّ من دفع دماً وألماً ومعاناة في تحريره.
ولا يفوتنا الرد على مقترحك الذي أطلقته على عواهنه، وهو دعوتك لتشكيل حكومة شرعية من شتى أطياف الشعب العراقي على قاعدة انتخابات تشرف عليها المؤسسات الأممية. فهل تناسيت يا عزيزي أن المقاومة المسلَّحة تكون عادة الممثل الشرعي والوحيد لشعب البلد المحتل؟ أنت لم تنس دور المقاومة في مثل تلك العملية فحسب بل سرقت منها أي دور أيضاً.
والله لن أشكوك إلاَّ للينين وفيدل كاسترو وهوشي منه. ولن يكون حكمهم عليك إلاَّ بإعلان الأسى والأسف لأنك كنت إما غير مولود في عصر بعضهم وكنت غراً يافعاً في عهد بعضهم الآخر. ولو كانت أفكارك واردة عندهم لكان على كل منهم أن يزهد بالسلطة استجابة ليس لإرادة «جمهورية إفلاطون»، بل لأفكار علاء اللامي الثورية التي لم يسبقه إلى إعلان نوايا الزهد فيها غيره. فهو لو كان قائداً لثورة مسلَّحة سيعلن أنه سيتنازل عن السلطة التي تعقبها لكل من أراد اللامي أن يصنفهم في دائرة المستفيدين، وهم «ممثلو السكان والقوى السياسية المطالبة بالاستقلال الحقيقي». وكان الله بعون الثوار لأنهم ليسوا مطالبين بـ«الاستقلال الحقيقي». فهم حَمَلَة بنادق، فهم من العسكر الذين ينتظرون رواتبهم آخر الشهر فقط وليس عليهم بعد أن ينجزوا التحرير إلاَّ تسليمه مفاتيح السلطة فهو أدرى بمصالحهم، وإذا فعلوا ذلك فهم ديموقراطيون، وإذا لم يفعلوها فهم ورثة «الحزب الديكتاتوري».
لن ننسى أن علاء اللامي هو أحد أكبر المطالبين بالاستقلال الحقيقي لأنه يطالب بمنع البعثيين من الحكم ويدعو إلى استعادة نظام المغفور له عبد الكريم قاسم، وربما إلى تعيين حميد مجيد رئيساً لمحكمة الثورة بديلاً للمغفور له المهداوي. على أن تكون مهمة حميد مجيد تطبيق العدالة على أساس قرار بول بريمر «اجتثاث حزب البعث من المجتمع العراقي». والله لمن الغرابة أن يحكم المهداوي، تحت راية الاتحاد السوفياتي، بالقضاء على حزب البعث، وأن ينبري علاء اللامي مع «حميد مجيد»، تحت راية بول بريمر، إلى اجتثاثه.
أليست مهزلة يا عزيزي علاء أن لا تكون المقاومة العراقية أحد الأطراف المطالبة بالاستقلال؟ أليست مهزلة يا عزيزي علاء أن لا تحدد لنا مضمون مصطلحك «المطالبة بالاستقلال»؟ وهل قتال المحتل ليس وسيلة من وسائل «المطالبة»؟ وكيف يمكن مطالبة جورج بوش باستقلال العراق؟
وإذا عرفت عزيزي القارئ أسباب تعميم اللامي وتعميته على المصطلح، وهو شبيه بمصطلحات الجعفري وعلاوي والطالباني والجلبي والسيستاني، فلن تكون مستغرباً، فعلاء يمتلك حس المناورة وتكيكاتها. ويا لخطورة المناورين إذا كانوا قاعدين على كومة من التعصب الإيديولوجي، فهم مستعدون لتصوير الأسود أبيضاً، وتصوير الأبيض أسوداً. ولكي لا نكون من الظالمين تابعوا معنا الفقرة التالية:

رابعاً: الإساءة التي يوجهها اللامي إلى المقاومة العراقية وجماهيرها:
لكي يقنع القارئ باقتراحاته البهلوانية الآنفة الذكر، ولكي يبرر أن المقاومة ليست لا الممثل الشرعي ولا الوحيد بل لا يمكن أن تكون بمستوى ممثل بدرجة «كومبارس» في صف الذين سيشكلون حكومة ما بعد التحرير، يقول إن المقاومة مجرد «مقاومة لفلول النظام ومخابراته»: والمنهج السياسي الاستراتيجي «يفصح تماما عن الماهية الحكومية والبيروقراطية للمقاومة المنفصلة عن الشعب، بما يجعلها أقرب إلى مجاميع من الموظفين وضباط الجيش والشرطة والمخابرات فاقدي الامتيازات والرواتب والرتب منهم إلى مقاومة حقيقية في حركة تحرر وطني تريد تحرير وطنها وليس تحرير رواتبها واستعادة امتيازاتها». وكما أنه يحكم على المقاومة بأنها ليست مقاومة، فقد حكم اللامي (ممثلاً مهداوي زمانه) بالموت على النظام قائلاً: «لقد كتبنا في مناسبات عديدة، قبل الحرب الأخيرة، بأن نظام صدام مات موتاً سريرياً في آذار 1991، ولم يكن بعدها إلا جثة سياسية متحركة».
إن الرد على ما وصف اللامي المقاومة به لا جدوى منه، لكن يكفينا العودة إلى ما كانت أبواق أجهزة الـ«سي آي إيه» تروِّج له منذ بدايات انطلاقة المقاومة منذ أكثر من سنتين. فاستخدام اللامي لـ«عملة أهل الكهف» تنطبق على تلك الاتهامات التي أخذت أجهزة الـ«سي آي إيه» تتناساها وتخجل من تردداها. لكننا نتساءل ما هو السبب الذي دفع به إلى إنزال تلك «العملة» إلى السوق، وفي هذا الظرف بالذات؟
نؤكد للأستاذ أننا نربأ بأنفسنا أن نرد على كل من يمارس النقد باتهامه أنه يعمل لحساب أجهزة معادية. ولكننا نطلب منه، لكي نؤكد أنه يستخدم نقداً سبقته إليه أجهزة معادية وتناسته أو اهملته، أن يعود إلى التقارير التي كانت توزعها قوات الاحتلال كلما طُلب منها أن تقيِّم وضع المقاومة. فكانت تعيدها إلى «فلول النظام» أو إلى ناقمين على إقصائهم عن وظائفهم، أو لأنهم متضررون من فلتان الوضع الأمني، تلك الوسيلة دفعتنا إلى الرد عليها في كتابنا الأول عن المقاومة العراقية الذي صدر منذ سنة وعشرة أشهر. ويمكنك قراءة مقدمة الكتاب المذكور لتتأكَّد أنك تكرر اسطوانة كانت سلطات الاحتلال تعمل على ترويجها.
وباختصار نتساءل: إذا كانت «مجاميع من الموظفين وضباط الجيش والشرطة والمخابرات»، تريد فقط «تحرير رواتبها واستعادة امتيازاتها» أسَّست مقاومة عظيمة بمستوى قامة المقاومة العراقية الباسقة الطول، والتي يبدو أمامها حتى الصادقين في تأييدها أقزاماً، فبات علينا يا عزيزي علاء أن نعيد النظر بكل نظرياتنا الثورية، ولتطلب الأمر منا أن نعيد تصنيف من هم الثوريون.
إن أولئك الأبطال يقومون بالمقاومة، كما أنهم أبناء نظام حزب البعث سواءٌ انتموا إلى الحزب أم لم ينتموا، فمنهم الموظف وضابط الجيش والشرطة وحتى المخابرات. وهم سيحققون النصر بالفعل. فهل بسبب موقعهم الوظيفي السابق نتهم المقاومة كأنها مجموعة من المنتفعين؟ ألا يمكن للموظف المدني أو العسكري أو المخابراتي أن يكون ثورياً؟
إن من تصفهم بالمعزولين عن الشعب العراقي لمواقعهم الوظيفية هم الآن من أهم أعمدة الثورة التحررية في العالم. ولمعلوماتك نقول: إذا كانت دوافع «تحرير الرواتب واستعادة الامتيازات» قد أنتجت أبطالاً كأولئك الذين يرفعون رأسنا عالياً فما أحلاها دوافع. وأهلاً وسهلاً بالثورة ضد الاستعمار على قاعدة تحرير الرواتب والامتيازات. وبئساً لثوريين يبخلون بنقطة عرق تنضح من جباههم من أجل تحرير أوطانهم.
إنها فاجعة يا عزيزي علاء أن يتصل بي أحد الأصدقاء ليزف لي نبأ مقالة نشرتها جريدة السفير اللبنانية لكاتب يُدعى علاء اللامي وهو يبدي إعجابه بها ويدعوني إلى قراءتها، فقرأتها وسجلت إعجابي بها. إنها لفاجعة أن أنقل إليه ما كتبه علاء اللامي نفسه في جريدة القدس العربي. والفاجعة الأكبر هو أن أقول له إن علاء اللامي يستفيق الآن على وقع موسيقى «أهل الكهف» يعزف على وتر من اللاموضوعية، يتناسى فيه إعادة الفضل لأهله لسبب من تعصب إيديولوجي سابق حمدت الله على أنه تناساه على الأقل إلى حين يتحرر العراق، ولكنه للأسف لم يصمد طويلاً، فالعراق على قاب قوسين أو أدنى من مرحلة التحرير. فما هو الذي عدا مما بدا؟

خامساً: نسجل على اللامي تهمة الافتراء المُنظَّم على المناضلين البعثيين عن سابق خداع وكذب:
فهو يتَّهم الأسرى في سجون الاحتلال الأميركي مبتكراً فرية لو سمعها الساذج لرشقه بأقذر ما يُمكن من الشتائم. لقد جاء في مقال اللامي مباشرة بعد إدانة النظام بـ«محاولة بناء التوازن العلمي والدفــــاعي مع إسرائيل (الذي) كلف العراق ثروات هائلة » ما يلي: جعل «النظام الدكتاتوري من النفط وسوى النفط مجرد مصروف جيــــب وحساب شخصي له ولأفراد طاقمه القيادي؟».
فهل بعد إنفاق ثروات هائلة من أجل بناء مشروع توازن استراتيجي مع العدو الصهيوني يمكن أن يبقى فلساً واحداً ليضعه المناضلون في حسابهم الشخصي؟
وليس ذلك فحسب، فلو قرأ اللامي التقارير التي أشارت إلى ما باعه الاحتلال وعملاؤه مما سمَّاه بول بريمر «خردة» تعود إلى أسلحة الجيش العراقي ومكونات المصانع العسكرية والمدنية والمختبرات والبنى التحتية المنقولة، لكان عليه أن يكون أكثر ذهولاً إذا عرف أن تكاليف تلك البنى لوحدها تفوق الأربعماية مليار من الدولارات. وإذا حسب مقدار تكاليف البنى التحتية العائدة إلى وزارات النفط والتربية والصحة والأشغال العامة لكان على شعر رأسه أن يقف من الذهول. ونسأله هل بعد كل تلك الإنجازات التي حققها النظام السابق يبقى فلس واحد ليضعه أي مسؤول في حسابه الخاص؟
لو كان لأي منهم حساب خاص باسمه، أو باسم أحد أفراد عائلته، او لو كان أي منهم يمتلك شقة خاصة خارج العراق لكانت أجهزة الـ«سي آي إيه» أول من أذاع الخبر. وإذا كشفت شيئاً من هذا القبيل فليطمئن الأستاذ علاء بأن الخبر سيصله بأسرع مما يتصور.
عيب على من يسكن خارج العراق، ومن يمارس التجارة هناك، ومن يعرف من الترفيه أقله خارج الأسر والاعتقال أن يفتري على المناضلين في الخنادق والمعتقلات والسجون بينما عائلاتهم تنزل بضيافة من استقبلوهم وأمنوا لهم المصروف والمأوى.
عيب على من هم خارج الأسر والمعتقلات، من هم بعيدين عن المعاملة الإجرامية التي يرتكبها الاحتلال وعملاؤه بحقهم، أن يوزِّع التهم العشوائية على المناضلين والثوار وهم لا يجدون تكاليف أجر محام يدافع عنهم.
عيب على من هم خارج الأسر والمعتقلات، ممن سكنهم هاجس الغرض الإيديولوجي أن لا يرى نقطة إيجابية فيمن هم في أسر الاحتلال، بينما تطوَّع للدفاع عنهم آلالاف المحامين.
عيب عليهم أن لا يحترموا وعي أولئك الذين تطوعوا للدفاع، وكأن الأستاذ علاء يقول لهم أنتم تدافعون عن «حرامية» وضعوا أموال العراق في حساباتهم الخاصة.
وأخيراً، نتوجه إليك ندعوك لتفيء إلى ضميرك، وأن تمتنع عن الإساءة إلى من رفعوا رأسك عالياً، الذين كانت مقاومتهم البطلة قد شكَّلت حماية لك ولنا. فلو لم تكن تلك المقاومة لكان جورج بوش الآن يعرضك ويعرضنا، بعد أن يأسرك ويأسرنا كـ«إرهابيين»، ويعرض علينا إما الصعود إلى «بوسطة العولمة»أو البيع إلى مؤسسة غوانتاناموا أو أبو غريب، أو عرضنا في سوق نخاسة العولمة لأقرب راغب في استخدام عبيد أرقاء في مزارعه الشبيهة بمزارع المستوطنين الأوربيين البيض في مزارعهم التي استولوا عليها في القارة الأميركية منذ ثلاثة قرون. وهم اليوم يريدون ليس استيراد العبيد من أفريقيا بل يريدونهم عبيداً عرباً مضمَّخة أسمالهم بعطور مصنوعة من البترول العربي.
***

(30): يا لعارهم متواطئين في صياغة دستور للعراق وضالعين وساكتين وجهلة
13/ 8/ 2005
ونحن نعيش اليوم عصر القرون العجائب الغرائب. عصر الذين يزيفون الحقائق ويصورون الأسود أبيضاً والأبيض أسوداً، فلا يجوز إلاَّ أن نقول: يا لعار عصرهم، ومنطقهم، ومكاييلهم. يا لعار الشعب الطيب الذي تمر على عقله فنون المشعوذين فيصفق لهم. يتسلى بأحابيل «لاعبي الكشاتبين» فيعشق أخاديعهم، ويهتف بـ«الحياة» لـ«شطاراتهم».
لقد تحوَّل الشعب الطيب إلى مشاهد حيادي وكأن مصيره ومستقبله ورزق عياله وأمن أطفاله وشرف بناته وسيادة وطنه أشياء لا تعنيه ولا تستفزه ولا يتعب نفسه بالتفكير فيها، ولا تعني له شيئاً، بل كل همه أن يصفِّق لهذا أو لذاك من الذين يعتلون خشبة المسرح العراقي، وخاصة من رجال الدين، ممن يؤدي دوره الذي تلقنه قبل أن يقوم المخرج الأميركي باحتلال العراق. ومن أهم عوامل ذلك الدور هو أن يتفنَّن في وسائل خديعة الشعب الطيب مستغلاً القاعدة الدينية «أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم»، والقاعدة الفقهية التي ترتكز على قاعدة «التكليف الشرعي». وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل: هل يعفي الله «المقلِّدين» من الحساب؟
لا نحسب أن أحداً ينوب عن أحد. كما لا نحسب أن أحداً سيفلت من العقاب بحجة أنه لا يستطيع الاجتهاد لنفسه، فقد نصَّت قاعدة قانونية على «أن القانون لا يحمي المغفَّلين»، فالشرع أيضاً لا يحمي «المقلِّدين» الذين يقعون في حبائل «المجتهدين». ووزر أخطائهم يتحملونها بأنفسهم.
فهل لمن ينقاد إلى تقليد من يرتكب الخيانة عذر يعفيه من الحساب؟
وهل من ينقاد إلى تقليد من يستغل، أو يستغفل، عقول العامة من أجل مصلحة ليست من مصلحتها، يعفيه الشرع من الحساب؟
لقد قدَّمنا لما نريد أن نقوله بالإضاءة على انقياد الشريحة الواسعة من شعبنا الطيب لمساعدة أصحاب المصالح العليا، من رجال دين ودنيا، على تمرير مشاريع خالية الوفاض من أية مصلحة للوطن والمجتمع. أما السبب فهو أنه، في غالب الأحيان، إن لم يكن فيها كلها، نتسابق على إعفاء تلك الشريحة من المحاسبة تحت ذريعة جهلها لسياقات الأمور. أما الآن فلا يجوز أن نتجاهل ذلك الواقع. وأصبح من الواجب علينا أن ندعو تلك الشرائح لتتحمَّل مسؤوليتها لأن الادعاء بالجهل لا يعفيها من العقاب.
لكن تحميل الشعب جزءًا من المسؤولية ليست الواقع المزري الوحيد بل هو امتداد لوجوه واقعة أخرى، فهناك أيضاً العديد ممن يتحملون وزر عار ما يجري في العراق:
فبين سذاجة المشاهدين البسطاء من أبناء شعبنا، وتآمر المخادعين من نظامنا العربي الرسمي، وخداع النخب العليا في مجتمعاتنا، تُرتكب أفظع الجرائم ليس بحق العراق فحسب، بل بحق أمتنا العربية أيضاً.
نبدأ من المساومات الدائرة بين «راعي البقر» الأميركي، وتاجر «البازار الإيراني»، إلى شعبنا الطيب الذي يبتلع الطعم، إلى نظامنا العربي الرسمي الذي «يبول» على مصالح البشر، إلى المؤسسات الأممية التي راحت تتلهى بـ«الرشوة» على حساب الجائعين المقهورين، إلى المؤسسات التي تحتضنها جامعة الدول العربية، إلى المؤسسات التي تحتضنها «جوامع» العمل الإسلامي، يُنفِّذ الأميركي حاكم العالم الوحيد غير الشرعي أهم جرائم العصر في العراق.
يا للعار، ليس للحاكم الوحيد بأمره لأنه يعمل من أجل مصلحته، بل يا لعار الأنظمة العربية والإسلامية الرسمية، يا لعار المؤسسات الأممية، يا لعار الضمير الذي مات عندهم جميعاً. فهم يتآمرون على كل ما هو شعبي وكل ما هو أخلاقي. يتآمرون على الشعب العراقي، وعلى وحدة العراق، فأصبح العراقيون اليوم كالأيتام على مائدة اللئام. فتحت خداع صياغة الدستور العراقي الجديد يفصِّل كل المتآمرين مصالحهم:
-فالمخرج الأميركي يريد من خلال الدستور أن يضمن مصالحه بضمان تعيين حكومة عراقية توقِّع على الاتفاقيات التي توفِّر له غطاءً شرعياً دولياً حتى ولو بغطاء مغلَّف بقشرة قانونية.
-ومساعد المخرج الإيراني يريد ضمان عمق شيعي له في جنوب العراق.
-والعدو الصهيوني يريد موطئ قدم أمين في شمال العراق.
-أما «الدمى» من الممثلين الذين احتموا بهويات عراقية فهم من المستفيدين الصغار لأنهم سينالون وكالات حصرية بالحكم، كل على قطعة الأرض التي سيقتطعها بنصوص الدستور. وبمثل تلك الوكالات يضمنون حصصهم بسرقة ثروات العراق.
إن من أكثر الذين يتحملون أوزار العار هم أولئك الدمى الذين تواطأوا مع المعتدي والمحتل تحت شعارات خادعة حوَّلوها إلى مبادئ عاهرة. إذ خدعنا هؤلاء بأنهم شرَّعوا الخيار بين الكرامة الوطنية والدينية وخيانة الوطن فجعلوا الخيار بينهما مبدأً ديموقراطياً أي أنه إذا اختار هؤلاء «الخيانة» فليس عليهم من حرج، كمثل الأعمى والمريض...
يا للعار.
إن المساعدين والمتواطئين والساكتين ينساقون، كمثل المخلوقات غير العاقلة، وراء المشروع الأميركي متناسين خطورته حتى على أنفسهم. والخطورة تأتي من أن الإدارة الأميركية اتَّخذت قراراً بتمزيق اتفاقية «سايكس -بيكو» على الرغم من خطورتها. وأعدَّت مخططاً لتنفيذ «نيو سايكس - بيكو».
اكتشف المشروع الأميركي الصهيوني أن من نسيج الاتفاقية القديمة يتسلل بعض النسمات الوحدوية. تلك النسمات اقتضتها التشريعات التوحيدية لضمان مصالح التعدديات والإثنيات الدينية والعرقية من خلال بناء نسيج مجتمع وطني وقومي. فكل ما هو توحيدي هو مرفوض إمبريالياً وصهيونياً. لذا أصبحت الدعوات الوطنية القائمة على إرادة العيش المشترك بين شتى ألوان المجتمع الحديث تشكل خطورة على مشروعيْ «العولمة» و«الصهينة». ومنها أصبحت الفكرة القومية مُدانة بـ«الذنب» في قاموس المشروع الأميركي. أما الحل عنده فهو في العودة إلى تعميم فكرة الاحتراب الداخلي في المجتمعات الوطنية والقومية على قاعدة إعادة تفسيخ تلك المجتمعات إلى إثنيات دينية ومذهبية دينية وعرقية.
ولما كانت الفكرة الوطنية والقومية من أهم ابتكارات العصر الحديث. ولأن تجميع التعدديات في إطار وطني فكري وسياسي تعتبر أساساً توحيدياً اكتشف المشروع الأميركي الصهيوني أن في الكيانات القطرية التي رسمت حدودها اتفاقية سايكس بيكو خطورة نواة وحدوية فاتَّخذت القرار بضرورة تمزيقها والعودة إلى مرحلة الدويلات الدينية أو المذهبية أو العرقية. ومن تلك النقطة كان لا بدَّ أمام المخطط الإمبريالي الصهيوني من أن ينقلب على سايكس بيكو القديمة والانتقال إلى مرحلة «نيو سايكس - بيكو» من أجل منع أية نسمة يُشتم منها التفكير بوحدوية ما. فأصبح القضاء حتى على الوحدوية المجتمعية القطرية من أهم مشاغل العولمة الأميركية الصهيونية.
كان احتلال العراق فرصة مناسبة لاختبار المشروع التفتيتي الخطير، أي الانقلاب على «سايكس - بيكو» بطبعتها القديمة لتصديرها وفرضها بطبعتها الجديدة. وما الجدل الدائر اليوم حول وضع دستور جديد للعراق إلاَّ تجربة تعمل أوساط التحالف الأميركي الصهيوني من أجل إنجاحه بكل الوسائل والأساليب.
يا للعار.
لن يستطيع الإيرانيون أن يحصلوا على موطئ قدم في العراق إلاَّ بتمزيقه. أليس من المؤلم أن يتآمر من يدَّعي الانتساب إلى الإسلام على وحدة بلد يعتبره مسلماً؟
لقد شجَّعوا أدواتهم في العراق. فأعطى السيستاني الضوء الأخضر لعبد العزيز الحكيم بالموافقة على النظام الفيدرالي. واندفع الحكيم، ملتقطاً الفرصة، بالدعوة لقيام دويلة شيعية في جنوب العراق. ووضع رئيس «منظمة بدر» توقيعه مطالباً بأن تسيطر الدويلة الشيعية في جنوب العراق على ثروات الجنوب. وبمثل هذا التصريح والتوقيع نتلمَّس بكاءه على «الهريسة» وليس على «دم الحسين».
ولكي لا تسيطر الشيعية السياسية على منطقة «وسط العراق» انجرف الحزب الإسلامي في العراق «حزب محسن عبد الحميد»، وهو منجرف أصلاً، في الدعوة إلى المشاركة بالعملية السياسية (المشاركة في وضع الدستور، والاستفتاء عليه). وللأسف الشديد وافقه قسم من هيئة العلماء المسلمين (بقيادة الصميدعي). وتمَّ ذلك تحت ذريعة أن القطار سيسبق «الركَّاب السنة» وتفوتهم فرصة المشاركة السياسية، على قاعدة أنه لا يجوز أن يتم اقتسام العراق بين «الشيعة والأكراد» و«السنة» يتفرَّجون. وهم بمنطقهم ذاك يتصرَّفون وكأن ما يجري قدَر محتوم. وتناسوا أن كل ما يعمل الاحتلال على فرضه لن يكون شرعياً على الإطلاق، فهو لن يكون قدراً محتوماً، فالقانون الدولي لا يجيز لقوات الاحتلال أن تقوم بتغيير أي شيء ومن اهمها تغيير القوانين ويأتي الدستور الوطني على رأسها. لذا نناشدهم ونقول: لما العجلة؟ اطمئنوا فالقطار لن يفوتكم، لأن الاحتلال قادم على الرحيل. فلا تسجلوا أسماءكم في سجل الخونة ولن يغفر لكم التاريخ ولا الشرع إقدامكم على اتقاء «المعسور بالميسور».
أما الفصائل الكردية (حزبا البارازاني والطالباني) ، بتطمين من إدارة بوش وإدارة شارون، فاعتبرت أن فرصة ذبح العراق مناسبة يجب أن لا تمر من دون الاستفادة منها حتى آخر قطرة دم تنزف منه. واستخدموا الحاجة الشيعية الإيرانية لبناء دويلة في جنوب العراق كي يتشددوا في وضع مواد في الدستور المزعوم تتيح لهم بناء دويلتهم في شمال العراق. وراح الطرفان (الشيعي والكردي) يتسابقان في كشف المستور من نواياهما، كما يتسابقان على توزيع الثروة النفطية قبل أن تصبح في متناول اليد، كما تناسيا أن «القرد الأميركي» لن يترك لهما من «جبنة النفط» إلاَّ ما يساعدهما على البقاء حيين يؤديان خدمتهما له بطواعية وعبودية. ويصبح مثلهما كمثل استيراد العبيد من أفريقيا لوضعهم في خدمة السيد الأبيض في مزارعه.
يا للعار.
إذا كان أهل الكهف قد ناموا ثلاثماية وتسع سنين، فـ«أهل النظام الرسمي العربي» ناموا ولن يستيقظوا أبداً. ولم يبق بينهم من يشعر بـ«الألم من شدة الخازوق الأميركي» الذي سـ«يركبون» عليه.
أليس ما يُنفِّذه جورج بوش في العراق هو أنموذج لما سيرسو عليه الأمر في كل الأقطار العربية؟
أليس في مشهد المستقبل العربي ما يخيف؟
لم يرمش جفن لشارع عربي وهو يشاهد ما يجري في العراق، بتدبير من التحالف الإمبريالي الصهيوني، وبتشجيع وانتهازية إيرانية. لقد أغمضت أكثر الأوساط «التقدمية» العربية عينيها، ودفنت رأسها في رمال ثنائية «لا للاحتلال، لا للديكتاتورية». وهي ستخسر المعركة أمام الاحتلال إذا ما أصرَّت على مواقفها تلك، وهي لن تربح معركة الديموقراطية. والحال على منوال ما يجري في العراق يوجب على كل «التقدميين العرب» أن يحضروا أنظمة داخلية لطلب الترخيص لهم لأحزاب «طائفية»، أو تحضير «طلب انتساب» إلى الأحزاب الطائفية القائمة وما أكثرها. وعلى مشايخ الطوائف، و«آياتها»، أن ينتظروا من سينافسهم في حقلهم من العلمانيين الذين سيتكاثرون على أبواب العودة إلى طوائفهم بعد أن «ارتدُّوا» عنها إلى مروج أوطانهم. وبعد أن تصبح «الوطنية» و«القومية» تهمة تؤدي بالمتهم، بإحداهما أو بكيلهما، إلى محكمة «غوانتاناموا».
يا للعار.
لقد أنجزت الدعوة الإسلامية، في بواكيرها الأولى، وحدة المجتمع العربي في الجزيرة العربية، أما اليوم فلا تعني الوحدة شيئاً أمام المُستحدثين من المسلمين خاصة من ثبَّتوا كراسي حكمهم على «براغي» أميركية. لا يعرف هؤلاء وأولئك أن مخطط العولمة الأميركية الصهيونية الجديدة ستشرذم مجتمعاتهم الوطنية إلى دويلات مذهبية متناحرة يسهل السيطرة عليها واحتواؤها.
يا للعار.
لجنة صياغة الدستور العراقي ليست عراقية الأهداف. إنها تصيغ دستوراً انموذجاً لكل الأنظمة العربية والإسلامية. فمن يسكت عنه ويسمح بتمريره الآن فسوف يندم عاجلاً أم آجلاً.
يا للعار.
معظم زعماء دول العالم الحر، أو الذي يعتبر نفسه حراً يقف في موقع المتواطئين. فهل يحسبون أنفسهم بمنأى عن التأثيرات السلبية؟ أليست مرحلة الاقتتال الأهلي في دولهم قد ذهبت إلى غير رجعة في عصر القومية؟ ألم تذهب المرحلة بعد غياب السلطات الدينية المذهبية في أوروبا؟ أيجوز أن تخون أوروبا مبادئها بالسكوت على تمرير دستور «مشبوه» كمثل الدستور التي نعمل إدارة جورج بوش على صياغته في العراق؟
ما يظهر في العراق اليوم يبدو وكأن سياقات الأمور تجري من دون عوائق أو إعاقات. ويبدو للمراقب وكأن العراق أصبح ملكاً لكل المخططين والمتواطئين والمتآمرين والساكتين والصامتين والجاهلين. لكن القرار ليس بيد هؤلاء على الإطلاق، فأن تخطط أو تتآمر أو تتواطأ أو تسكت أو تكون جاهلاً بالأمر هو شيء، وأن تستطيع أن تنفذ شيء آخر.
فمن يحدد مصير العراق، ليس هؤلاء أو أولئك، فالذي يحدد مصير العراق هم أبناؤه ممن آمنوا أن المشروع الأميركي لم ولن يحسب لمصلحة العراقيين حساباً. وممن آمنوا أن الحل الوحيد للعراق هو في وحدته الوطنية جغرافياً وسياسياً. وممن آمنوا أنه لا حل للعراق إلاَّ طرد المحتل، وقبل طرده إغراقه بحمامات الدم لجنوده ولميزانيته.
إن الحل ليس بيد هؤلاء أو أولئك بل بيد المقاومة العراقية المسلحة التي هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب العراقي. وهي تكبر وتتنامى، وتزداد انتشاراً من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، وقطارها لا يزال متسعاً لكل من تنكشف خطورة المؤامرة أمام ناظريه. وإذا كنا نراهن فعلى الشعب العراقي الطيب الذي تمَّ تضليله بشعارات زائفة. ولن يطول الوقت حتى تنبري إلى ساحة المقاومة حشود كبيرة لا شك بأنها ستغير كل معادلات المحتلين والمتواطئين والصامتين والخونة.
***
(31): مهمة ميليس إلى أين؟
20/ 9/ 2005
من مبادئ السياسة التي نؤمن بها أنها ترفض على الإطلاق كل وسائل الاغتيال السياسي. وبناء عليها رفضنا اغتيال رفيق الحريري، رئيس الوزراء اللبناني الأسبق. ليس هذا الأمر فحسب بل نطالب بكشف الغطاء عن الجناة أياً كانوا.
ومن مبادئ السياسة أيضاً التي نؤمن بها أنها تتمسك بالسيادة الوطنية بكل تفاصيلها وزواياها. وبناء عليه رفضنا أية هيمنة، أياً كانت، على القرار اللبناني السياسي والأمني والاقتصادي.
ومن مبادئ السياسة التي نؤمن بها أن يُنتج الشعب اللبناني مؤسساته السياسية لتكون خادمة لمصالح أكثر الطبقات الشعبية المسحوقة. وأن لا تكون مرتهنة لزعماء الطوائف السياسية، أو لأرباب المال السياسي.
ثلاثة ثوابت على أساسها نكيل موقفنا السياسي ما يجري في لبنان الآن. فكل ما يتجاوب معها فهو مقبول، وكل ما يتناقض، أو يتعارض معها، فهو مرفوض. فهل هناك من مقاربة بين تلك المبادئ وما يجري فعلاً على الساحة اللبنانية في هذه اللحظة التي يصول رئيس لجنة التحقيق الدولية في خبايا لبنان وأسراره ويجول؟ يأمر وينهى، ويحدث عاصفة هنا أو هناك، يحمل سيف ما يُسمى بمهمة كشف الحقيقة عن اغتيال رفيق الحريري. وهل فعلاً يشكل الكشف عن تلك الحقيقة الهدف الأساسي لرئيس لجنة التحقيق الدولية؟ 0نامل ذلك.
بداية، لكي نفتش عن الجواب لا بدَّ لنا من أن نعرف من هي الجهة التي كلَّفت ميليس بمهمته. ولنكشف عن هوية الجهة اللبنانية التي باركت تكليف لجنة دولية للقيام بمهمة التحقيق، وراحت تراهن عليها وكأن تلك اللجنة شديدة الحرص على مهمة جنائية تأمل من وراء نجاحها خدمة الإنسانية في لبنان.
لم تسكت الإدارة الأميركية دهراً عما كان يجري في لبنان من أخطاء وهيمنة وقمع فحسب، وإنما كانت تحيطها بجدار من البركة عليها والرضا عنها أيضاً. ولم تكن الجهات اللبنانية، باستثناء قلة منها، إلاَّ شريكاً فاعلاً في كل ما كان يجري، بل ومستفيدة منه، وساكتة عنه. ذلك ما يطرح التساؤل عن السبب الذي دفع بهما معاً إلى رفض ما كانا يباركانه ويشاركان فيه. فهل كان الدافع هو أنهما مارسا نقداً ذاتياً فاكتشفا موطن الخلل فوضعا خطة للتصحيح؟ وهل كانت مصلحة لبنان هماً يؤرقهما فعملا على إسقاط عصر الأخطاء والهيمنة الاستخباراتية السابق؟
لم تكن الإدارة الأميركية ساكتة بل ومباركة في السابق لما جرى في لبنان فحسب، لأن ما كان حاصلاً كان بتخطيط منها أيضاً، هذا إذا لم يكن المخطط مفروضاً على كل اللبنانيين فرضاً أميركياً باستثناء المستفيدين القلة من نخب الطوائف والمال والسياسة وأصحاب المصالح، أولئك ممن كانوا يشكلون أمراً واقعاً في حياة لبنان السياسية. وكان من أهم أهداف مباركتها وفرضها لما فرضت، أن تعطي سوريا بيد في لبنان لتأخذ من الأمة العربية باليد الأخرى ما يماثل أضعاف ما تعطي. ولما ابتدأ الخلل في موازنة الأخذ والعطاء يستشري بينهما راحت الإدارة الأميركية تعمل على فرض معادلات جديدة تعيد التوازن إلى معادلة الأخذ والعطاء. فكانت من نتائجه المتغيرات الدراماتيكية والمتسارعة التي حصلت في لبنان بما يشبه الزلزال في أقل من سنة من الزمن ابتدأت مع ضغط أميركي على الهيئة الأممية لإصدار القرار 1559، ولن ينتهي بحصولها على أغلبية في البرلمان اللبناني الأخير، لأن الآتي الأميركي على لبنان هو أعظم. ففي كل ما جرى، ويجري، كانت العين الأميركية على لبنان وقلبها في العراق.
أما الأوساط اللبنانية، فبعضها منخرط في مشروع أمركة العالم، وبعضها كان متضرراً ومحذوفاً من المعادلة السياسية اللبنانية لأسباب رفضه الأمر الواقع السياسي السابق، وبعضها قلَّت حصته وتضاءلت فراح يستقوي بالإدارة الأميركية لتصحيح الخلل الحاصل. ولما اختلت معادلة الأخذ والعطاء، العرض والطلب بين العهد السابق والإدارة الأميركية التي راهن الأميركيون على استمرارها، تلاقت مصلحة المشروع الأميركي العليا مع مصالح المتضررين اللبنانيين من نتائج الأمر الواقع، فشكل التحالف بينهما عاملاً ضاغطاً عمل على تغيير المعادلات الداخلية والخارجية.
كان الوضع في لبنان، تاريخياً، يقوم على معادلة الاستقواء بالخارج. فلم تصل شريحة من شرائحه سواءٌ منها السياسية أم الطائفية، إلاَّ بعامل استقواء خارجي، تقوى بقوته وتضعف بضعفه. فكانت نقطة الضعف فيها أنها لم تخطط لتكون قوية بعوامل شد الروابط الوطنية فيما بينها. فسقطت الواحدة تلو الأخرى. ولكن ما لم يسقط هو أن القوى الأخرى لم تتعلم من دروس التاريخ، ولذلك نراها تستقوي اليوم بالعامل الأميركي وتراهن على أنه سيأتي للبنان بالخير والبركة، بالرخاء الاقتصادي والديموقراطية. فهم لم ينظروا إلى الرخاء الذي وعدوا به العراقيين، ولم يلتفتوا إلى نوع الديموقراطية التي تطبق على أرضه.
تلك هي قصة ما جرى في لبنان، ولا يزال يجري، ولن ينتهي فصولاً إلاَّ بصياغة مؤسسات سياسية وأمنية تستجيب لمصالح المشروع الأميركي المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمشروع الصهيوني. ولن نتردد في القول إن للعدو الصهيوني مصلحة في كل الترتيبات التي ستفرضها الإدارة الأميركية في لبنان.
فإذا كانت حادثة اغتيال الحريري أسست لإنجاح المخطط بسرعة فإنها، في روزنامة التحالف المذكور، ليست في القلب منها، بل هي وسيلة إلهاء دائمة لكي تحرف النظر عن الأهداف الحقيقية، التي لم تعد مستورة أو خافية إلاَّ على الذين لا يريدون أن يروا «الحقيقة» الحقيقية. ولهذا السبب تلطى المشروع الأميركي تحت دخان كشف «الحقيقة» الصغرى بـ«أدخنة جنائية» لكي يوفر شروط تمرير الحقيقة الكبرى، التي ليست إلاَّ ربط لبنان ربطاً وثيقاً بمشروع «الشرق أوسطية». فأوكلت إدارة جورج بوش تلك المهمة للجنة دولية يرأسها ميليس، القاضي الألماني، الذي لم يأت به المشروع الأميركي لأهداف جنائية بل أتى به كوسيلة ضغط جنائي لتمرير أهداف سياسية، في حال نجاحها تنفتح أبواب الاستغلال السياسي والاقتصادي أمام الاخطبوط الأميركي على أوسع مدياته. في هذا الجو اتى تكليفه
أما من أهم مظاهر ما يجعلنا نؤكد أن لجنة التحقيق الدولية التي يرأسها ميليس هي ذات أغراض سياسية:
1-القاضي ميليس، قاض سياسي، وهو لا يحمل للعرب. وقد كشفت بعض التقارير الواردة من ألمانيا، وبالأدلة الملموسة، ذلك الحقد.
2-رفض مخططو المشروع الأميركي، الذي يجتاح العالم اليوم، التوقيع على إنشاء «المحكمة الجنائية الدولية» وذلك لكي يتحصِّن المسؤولون فيها ضد أية محاكمة بتهم جرائم الحرب. والإدارة الأميركية بالتالي لم تعترف بكل الهيئات القانونية والحقوقية الدولية لكي لا يتعرض مسؤولوها للمثول أمامها. وهذا ما يطرح التساؤل: إن الإدارة الأميركية التي تتهرب، بل وتمنع كل مؤسسات العدالة الدولية من القيام بصلاحياتها، كيف اجتاحتها الغيرة لتطبيق العدالة الدولية في لبنان، بينما ترفضها في أميركا. إنه منطق الأقوى، وإنه الحق للأقوى.
3-على الرغم من أنها تمس السيادة الوطنية عندما ترفض إدارة جورج بوش تسليم المهمة للقضاء اللبناني، وتشكك فيه، نقول: يا ليت مهمة ميليس تكون قضائية أو جنائية حقوقية. ولكن للأسف ليست هي كذلك، وإن كل دعوة لمنع تسييس مهمته هو وهم وليس أكثر من وهم. فمتى تجرَّدت مهمته عن أهدافها السياسية لانتفت فائدة الإدارة الأميركية منها.
إن مهمة ميليس السياسية تبدو واضحة. فقد ترافقت مهمته إلى سوريا مع قصف سياسي يمارسه «زلمان خليل زاده»، الذي يُسمى سفير الولايات المتحدة الأميركية في العراق. ويساعده في القصف جواً كل ممن يُسمون وزير الدفاع العراقي ووزير الخارجية. ومن أهم مظاهرها تصريح «زلمان خليل زاده» أن صبر الإدارة الأميركية قد نفذ. وترافق مع تصريح آخر يهدد باستخدام الخيار العسكري ضد سوريا.
وهكذا استخدم الأميركيون ثلاثة قواعد ضغط للحصول على ما يريدونه. وأهم ما يريدون هو رأس «الفكر المقاوم» واجتثاثه من خلال تجفيف كل بقعة ماء توحي بأنها تعمل على مساعدته ومده بأسباب البقاء والاستمرار. وهي لهذا السبب تعمل على تجريد أية جهة كانت من أوراق ضاغطة تملكها تتعلق بالمقاومتين الفلسطينية والعراقية.
قاعدة ميليس «الجنائية»، وقاعدة «زلمان خليل زاده» الديبلوماسية، وقاعدة عملاء أميركا في العراق كغطاء عسكري، كلها قواعد فتحت النار مرة واحدة ضد كل من يُشتمُّ أنه يدعو للمقاومة العراقية بالنصر حتى ولو بقلبه، أو يشد من أزر المنظمات الفلسطينية التي تتمسك ببندقية المقاومة. فمهمة ميليس تفجير قنابل دخانية تلهي بها الساحة السياسية في لبنان وتربكها، وفيها من الألغام السياسية الشيء الكثير. ومهمة «زلمان خليل زاده» توجيه الإنذارات إلى سوريا بدعم من رئيسته «كوندوليزا رايس». ومهمة عملاء أميركا في العراق العمل على التضييق على المقاومة العراقية، وهي تجتاح منطقة الأنبار ابتداء من تلعفر، وانتهاء بقفل الحدود السورية العراقية مروراً باتهام سوريا بأنها «بوابة الشر» للعراق.
لا تخفى على المتابع أن إبقاء الساحة اللبنانية منشدَّة إلى متابعة الحدث المحلي من أجل التعتيم على الأحداث التي يمر بها الوطن العربي من فلسطين إلى العراق لإلهاء الرأي العام العالمي عن ساحة التوتر الحقيقية، وبما يعنيه هذا الانشداد من مكاسب سياسية وإعلامية لإدارة جورج بوش المأزومة. ومن أجل تحقيق هذا الغرض أجَّجت نار ما تسميه المخاوف الأمنية من اغتيالات أخرى قد تحصل في لبنان. وإن زرع تلك المخاوف ليست بعيدة عن صنع المخابرات الأميركية والغاية منها منع حلفاء أميركا من الاسترخاء لإبقائهم مشدودين بعامل الحاجة لتأمين حمايتهم ضد عدو موهوم. فوسيلة الإدارة في خلق «الفوضى المنظمة» في كل مكان تعمل على احتوائه هو خير دليل يفسر الفوضى السياسية التي تسهم في إنتاجها آلة ميليس من خلال إغراق السوق الإعلامية اللبنانية بأخبار وقرارات جديدة توزعها الأجهزة المرتبطة بالإدارة الأميركية هنا أو هناك. فالإدارة الأميركية جاهزة من أجل طي ملف أمني في لبنان أن تغرقه في ملف أمني آخر حتى ولو استدعى الأمر التضحية ببعض أصدقائها.
ليس من غريب الصدف أن يفصح سفير الاحتلال الأميركي في العراق عن نفاذ صبر الإدارة الأميركية، وأن تتسرَّب الإعلانات السياسية الأميركية مهددة باستخدام الوسيلة العسكرية لضرب أهداف في سوريا، وأن تتصاعد الإجراءات التي يقوم بها ميليس في لبنان وفي سوريا.
يقوم ميليس بإجراءات توحي وكأنه قد توصَّل إلى إثباتات جعلته قاب قوسين أو أدنى من اكتشاف «الحقيقة». بينما واقع الأمر أن توسيع رقعة الاتهامات والاعتقالات لا تخرج عن كونها إحدى وسائل الضغط من أجل التهام العراق. وهذا السبب وليس غيره هو الذي يدفع الإدارة الأميركية إلى توظيف ملف اغتيال الحريري لمصلحة استراتيجيتها في المنطقة العربية للأسباب التالية:
1-عزلتها الداخلية والخارجية، في أميركا وفي خارجها، بمظاهرها الكثيرة ومن أهمها التحركات الشعبية الأميركية المعارضة للحرب على العراق والداعية إلى سحب الجنود الأميركيين منه، وانتظاراً لاستحقاق اليوم العالمي لدعم المقاومة في العراق والمناهضة لأمركة العالم في الرابع والعشرين من أيلول، ومروراً باستطلاعات الرأي التي جعلت نسبة الذين يؤيدون الحرب على العراق لا يتجاوز الـ 38% من الأميركيين. وحالة الإرباك التي تعاني منها حكومات الدول التي تساعدها في احتلال العراق.
2-الاستحقاقات الدولية التي نصَّت عليها قرارات مجلس الدولي، والتي تنتهي في آخر العام 2005، أو أوائل العام 2006. وفيها إشارات إلى ضرورة تأهيل عملائها العراقيين لكي يتولوا شؤونهم بأنفسهم، ابتداء من التصويت على الدستور العراقي المفروض أميركياً، مروراً بإجراء انتخابات نيابية في كانون الأول القادم، انتهاءً بتشكيل حكومة عراقية تأتمر بأوامر الاحتلال، ليتم تسليمها شكلياً ملف الأمن والسياسة. وبالتالي لتشكل غطاء شرعياً، أمام حكومات الدول العظمى، وليس لها دور أكثر من أن تطلب من القوات الأميركية البقاء أطول مدة ممكنة حتى ولو في قواعد عسكرية منعزلة. وبمثل هذا الطلب يكون وجود تلك القوات صديقاً وليس محتلاً، وفي تلك القواعد توفر على الاحتلال تقديم خسائر بشرية.
إن المسافة الزمنية أمام الإدارة الأميركية أصبحت من الضيق الكبير لذا راحت تحرك ملف اغتيال الحريري وتضعه على نار حامية، لعلَّ الضغوط تعطي نتائج إيجابية بما يساعد إقفال البوابة السورية، او أية بوابة أخرى، لمنع تسرب أية مقومات تساعد على إمداد المقاومة العراقية من أجل إضعافها.
ومع أننا نحسب أننا لن نفعل شيئاً يغيِّر في المعادلات الراهنة في لبنان، خاصة وأن الأكثرية الشعبية فيه ميَّالة إلى تأييد مهمة ميليس، وهي منخدعة بأنها ستجلب لها «الحقيقة» للكشف عمن اغتال الحريري. ولأنه ليس كل تعاطف شعبي هو حق، فقد يُضلَّل الوسط الشعبي في أحيان كثيرة، فيبقى على الطليعة التي تعرف الحقيقة أن تجهر فيها من دون أن تخاف لومة لائم. وعلى أساسه نرى لزاماً على الطلائع الثورية أن تجهد في الكشف عن خطورة المشروع الذي يتجرعه اللبنانيون من أيدي جورج بوش وزبانيته تحت دخان «الكشف عن الحقيقة». فلعلَّ وعسى.
***

(32): رد على علاء اللامي لم يكتمل
25/ 9/ 2005
لماذا جاء الرد منقوصاً على علاء اللامي؟
كنت قد قرأت البيان المنسوب للمقاومة العراقية المؤرخ في 5/ 9/ 2005. فلم يكن انطباعي عنه إلاَّ أنه بيان موجَّه للتشكيك في هوية المقاومة العراقية. وكان بما يحويه من مغالطات، وحتى من معلومات، لا يخرج عن تصنيفه العملي في دائرة ما يُحاك حولها من العديد من وسائل التآمر، خاصة بعد أن أثبتت المقاومة العراقية كفاءتها كما أثبتت أنها ليست بنت ساعتها هذا بالإضافة إلى استحالة أن يكون أي طرف، غير حزب البعث، هو الذي فجَّرها وقادها منذ البداية. لكن كل ذلك لا ينفي حقيقة أن أكثر من طرف انخرط في صف المقاومة العسكرية، سواءٌ منهم الذين يلتقون مع الحزب بشكل أو بآخر، أم من الذين لا يلتقون معه بأكثر من هدف التحرير.
فوجدت أن البيان لا يستأهل عناء الرد لولا أن قرأت نقداً لعلاء اللامي، الكاتب العراقي الذي يقطن في أحد الدول الغربية، واستخدم البيان وثيقة تاريخية ومفصلية في تاريخ المقاومة العراقية. ولأن البيان يحك له على مصدر إثارته وأغراضه الإيديولوجية وجَّه نقداً لحزب البعث في ست حلقات مستغلاً ما جاء في ذلك البيان.
وحتى ولو توصلنا من قراءتنا للهجاء الذي مارسه اللامي لحزب البعث إلى أنه لا يستأهل الرد، فهو يكرر اسطوانته المشروخة التي لم تأتنا بجديد من الأفكار التي وضعها اللامي مرة واحدة وكل ما جاء من بعدها كان ترداداً ببغاوياً. كان لا بدَّ من أن نشير إلى هجائه برد لن يكون كاملاً، فكل أفكاره التي أراد أن يتحفنا بها سابقاً قمنا برد مفصل عليها في وقت سابق.
أفلست مخيلة علاء اللامي من العثور على أية حقيقة يلصقها بالبعث فراح يستجير بما يجده على مواقع الأنترنت مما يعمل على إمداد خياله الحاقد على البعث. ومن جملة ما اخترع، وما أطلق عليه «وثيقة خطيرة»، ليست أكثر من بيان منسوب إلى ضابطين سابقين في تشكيلات الجيش العراقي السابق.
بداية نقول منطلقين من واقع حال وسائل الإعلام التي تخدم أحياناً، بحسن نية، استراتيجية المخابرات الأميركية، أنه ليس من الصعوبة أن ينسب أي كان بياناً إلى أي كان، وبالإسم الذي يريد، ويعتبره وثيقة يحاسب الآخرين عليها.
مما يلفت النظر شكلية الرد الذي قام به علاء اللامي على ما اعتبره وثيقة صادرة عن المقاومة تحت عنوان « بيان إلى شعبنا العراقي وإلى العرب والمسلمين كافة من أفواج المقاتلين في الجيش العراقي المنضوين تحت لواء فصائل المقاومة الجهادية حول الأكاذيب التي تدعي قيادة حزب البعث للمقاومة العراقية».
في شكلية ردنا على علاء اللامي، نقول:
بلغت عدد كلمات البيان المذكور 7630 كلمة، بينما بلغ عدد الكلمات التي نقلها علاء اللامي عن البيان، بين مزدوجين أي نقلاً حرفياً، 6376 كلمة في رده الموزَّع على خمس حلقات أما ما لم ينقله فليس بذي قيمة فعلية لأنه مجرد وصلات كلامية بين الفقرة التي ينقلها والأخرى وبلغ حجمها 1254 كلمة فيكون مجموع ما جعلنا اللامي مرغمين على قراءته حجم خمس حلقات بعدد من الكلمات يبلغ 7630 كلمة. أي أن الحلقات الخمس كان المقصود منها نقل نص البيان حرفياً لمن لم يطلع عليه بينما كان يستطيع أن ينشر مع رده النص الحرفي للبيان ليساعد القارئ على تتبع نقده أو ردِّه أو ردحه أو هجائه، ويكتفي بالحلقة الأخيرة من رده التي يبلغ عدد كلماتها 2256 كلمة. فماذا تعني تلك الشكلية؟
هل يريد الكاتب علاء اللامي أن يُكثر عدد صفحات الهجاء؟
يريد اللامي كما أحسب تعميم الوثيقة كما لو أنه هو الذي أسهم في كتابتها ليوحي أن نقده أو رده أو تحليله للوثيقة يستند إلى قواعد موضوعية. فهو بذلك أشبه بمن يضخ كذبة ليبني عليها افتراءاته.
ما جاء في الوثيقة المزعومة من معلومات، حتى ولو تضمنت بعض الأسماء، لا يخفى على المتابع الغرض منها. وهل تخفى أسماء عن أجهزة المخابرات كتلك التي ترأست أجهزة في الحزب أو الدولة؟ فالوثيقة المزعومة لم تأت بشيء مثير يسيل له لعاب الكاتب علاء اللامي فيستخدمها عنصراً أساسياً يثبت فيه صحتها.
فعن أن يكون «جيش محمد» هو العنوان المقاوم الذي عمل البعثيون على أساسه فهذا ما تدحضه البيانات الأولى التي صدرت عن «قيادة المقاومة والتحرير». ففي 22/ 4/ 2003، أعلنت بيانها الأول. وتضم –حسب بياناتها- الجيش العراقي والحرس الجمهوري وفدائيي صدام وحزب البعث. ومن خلال مراجعة البيان الصادر بتاريخ 7/ 6/ 2003، الذي سبق لقاء «الدور»، أو جاء بعدها مباشرة، يتبيَّن أن الأسماء التي وردت فيه هي التالية: أفراد سابقون في الجيش وقوات الحرس الجمهوري العراقي، ونشطاء من كتائب التحرير والفاروق ومجاميع الحسين وحزب البعث. وقد سبقته بيانات أخرى تشير إلى مشاركة تلك المسميات المنخرطة تحت قيادة «المقاومة والتحرير». ومن خلال تتبعنا للبيانات التي صدرت بأسماء تنظيمات مشاركة في المقاومة لم نحصل على ما يشير إلى تنظيم اسمه «جيش محمد» ، على الأقل، طوال العام 2003م. وهذا ما يُكذِّب ما جاء في البيان «أما البعث فلم يكن يمثله إلا جيش محمد الذي أسسه الرئيس صدام حسين بعد الاجتماع الذي عقد في مدينة الرمادي».
يريد البيان الذي يستجيب تماماً لأغراض علاء اللامي أن يقوم بـ«اجتثاث حزب البعث» بل ويستأصل شأفته، وكأنَّ مرحلة أكثر من سنتين من النضال الشرس ضد قوات الاحتلال، وفيها صدرت عن قيادة القطر العراقي للحزب ما يتجاوز مئة من البيانات، كما صدرت عن «قيادة المقاومة والتحرير» أمثالها أصبحت بلا معنى. وكأنَّ «المنهج السياسي الاستراتيجي» الذي أصدرته قيادة الحزب في العراق، بينما كان الرئيس صدام حسين لا يزال طليقاً، كأنه مزوَّر ولا يستأهل التفاتة واحدة منه. وكأن كل ما صدر عن حزب البعث في العراق لم يلفت نظر الرئيس، ولم يدفعه إلى أدنى إشارة يؤنب فيها من أصدر كل تلك البيانات ويلفت نظر أية جهة منهم، وتوجيه تعميم يطلب فيه منهم أن يصدروا بياناتهم باسم «جيش محمد».
أمِنَ المعقول أن يكظم الرئيس الغيظ على من خان الأمانة لكي يأتي بيان وقَّعه ضابطان مجهولان وكأنه ينطق باسم الأمين العام لحزب البعث ويصدر حكمه على البعثيين قائلاً: «وقد نأى الرئيس صدام عن جميع الرهط السابق المتخاذل الذي كان يحيط به من قياديين مدنيين وعسكريين لأن الأمور انكشفت تماماً». ومن هو الذي ينقل عن لسان أمين عام حزب البعث؟ أيمكن أن تقبل شهادة من هو موتور ضد البعث؟ وهنا لا بدَّ من القول إنه لا يجوز أن تضع الذين رحلوا إلى ربهم، أو من هم ليس باستطاعتهم أن يردوا لأسباب قاهرة، كمثل حالات الاعتقال أو الأسر، شهوداً. فبغيابهم يمكن لأي كان أن يكذب ويكذب لأنه لن يتعرَّض إلى رد أو توضيح من الميت أو المأسور.
كما لم يلفت نظر الضابطين المفتعليْن أن البيان الأول الصادر بتاريخ 22/ 4/ 2003 عن «قيادة المقاومة والتحرير» إضافة إلى البيانات الأخرى التي صدرت قبل اجتماع الرمادي وبعده، قد بشَّر بوجود الرئيس حياً وأعلن أنه سيوجِّه رسالة إلى الشعب العراقي. ألم يجد الرئيس فرصة لكي يحذِّر «قيادة المقاومة والتحرير» و«قيادة البعث» من أنهم يُغفلون الإشارة إلى تنظيم «جيش محمد»؟؟!!
بنى على البيان المذكور، «الوثيقة الخطيرة» بتعبير اللامي، قصراً كبيراً من أوهامه عندما بالغ في أهميته قائلاً عنه: «هذا البيان شديد الأهمية والخطورة إلى درجة يمكن معها اعتباره يمثل نهاية مرحلة وبداية أخرى من تجربة المقاومة العراقية».
لأنه يقشعر بدنه أن يُنسب عمل جهادي أو نضالي إلى حزب البعث الذي كرهه منذ سنوات طويلة، يريد اللامي أن يسرق كل عمل نضالي يصدر عن الحزب. لذلك التقط اللامي ذلك البيان «الوثيقة الخطيرة»!!!، التي تمثِّل « نهاية مرحلة وبداية أخرى من تجربة المقاومة العراقية»، وقد تسوقنا الظنون إلى أنه قد يكون مشاركاً في صياغتها من أجل أن يستخدمها كسيف لدون كيشوت يصارع بواسطته طواحين الهواء. ومن أجل ذلك سوف نقرأ الحلقة الأخيرة من مقاله لنرى ماذا يريد؟
علماً أن الحلقات الخمس الأولى هي تكرار نصي لما جاء في البيان / الوثيقة الخطيرة؟! فلم يأت من مجموع كلمات بلغت 6376 كلمة مجموع كلمات حلقات مقالته الخمس، أكثر من أنه أعطاها العناوين التالية:
الأولى: خفايا تأسيس المقاومة وانهيار البعث
الثانية: البعثيون الكبار بين ناهب أموال و مستسلم للمحتلين !
الثالثة: عزة الدوري وفدائيو صدام وجيش القدس ماتوا !
الرابعة: فضائح أخرى وصدام مجرد أسير!
الخامسة: تهديدات وتحذيرات لبعثيي الخارج وغيرهم
السادسة: الجزء الأخير: قراءة في أخطر وثيقة للمقاومة العراقية تحليل نقدي وتقييم شامل.
بعد أن قرأنا في حلقته السادسة ما لم يتعب كثيراً علاء اللامي في كتابته لأنه كما أسلفنا يمتلك إسطوانة مشروخة يردد في أي مقالة يهجو فيها البعث الأفكار ذاتها حتى أصبحت مهترئة ومبتذلة. وكل ما نريد أن نتوجّه به إليه هو أن «قافلة حزب البعث في المقاومة العراقية تسير.....و ......».
***

(33): المقاومة التي تعفو عن رأس أفعى الاحتلال وتكتفي بقطع ذَنَبها
27/ 9/ 2005
من الغريب، والمريب أحياناً، أن يفصِّل كل منخرط في مقاومة الاحتلال مبادئ المقاومة على ذوقه، وحسب الأهداف التي يبتغيها. بينما ليس لمقاومة الاحتلال ألوان وأشكال، بل لها وجه واحد ولون واحد، يجمعها المبدأ الإنساني والقانوني والتشريعي، الذي يعتبر أن كل احتلال باطل لأنه يتناقض مع مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها. كما أن كل مقاومة لا تعمل على مبدأ تحرير البلد المحتل تحريراً كاملاً من كل آثار الاحتلال وتبعاته وإفرازاته، هي مقاومة ناقصة. فهي وإن ضايقت الاحتلال في بعض جوانبه فإنها تكون أعجز من أن توفر السيادة الوطنية للبلد المحتل.
ما أشرنا إليه أعلاه يعالج ثنائية «الاحتلال والمقاومة» بشكل عام. أما المقاومة العربية فلها خصوصياتها التي اكتسبتها من خصوصية الاحتلال الذي تتعرض له الأرض العربية، فلسطينياً ولبنانياً وعراقياً.
أما مظاهر تلك الخصوصية فهي تتلخص بالصراع العربي الصهيوني، ويتميَّز الاحتلال الصهيوني بخصوصيات مُثْبَتة. فمنذ كان الاحتلال الصهيوني الاستيطاني للأرض الفلسطينية كان مدعوماً ومسنوداً ومستقوياً ببريطانيا العظمى. ولا يخفى على المثقف العربي كم كان للعامل البريطاني من تأثير في إنجاح الاستيلاء الاستيطاني الصهيوني على أرض فلسطين. فكان التحالف البريطاني – الصهيوني أساساً لا يمكن إغفاله في أي تحليل أو تقييم.
ولما ورثت الولايات المتحدة الأميركية تركة الاستعمار القديم الذي كان يقوده التحالف الفرنسي البريطاني، ورثت الإدارة الأميركية، فيما ورثت، مسألة الصراع العربي الصهيوني، وحلَّت في دائرة العداء الاستعماري للوطن العربي محل بريطانيا في دعم المشروع الصهيوني الى أن أصبحت شريكة استراتيجية له. ويعود أصل الشراكة بينهما الى استراتيجيتهما المشتركة في الاستيلاء على العالم لأغراض اقتصادية. وأصبحت تلك الشراكة أكثر متانة منذ وصول اليمين الأميركي المتطرف في الحزب الجمهوري المدعوم باليمين المسيحي المتطرف. وهذا هو حال المرحلة التي نعيش أكثر فصولها مأساوية ووحشية في كل من العراق (الاحتلال الأميركي)، وفلسطين (الاحتلال الصهيوني.
فقبل أن تبدأ مسألة احتلال العراق احتلالاً واقعاً، كان الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين مدعوماً بكل قوى الولايات المتحدة الأميركية وإمكانياتها العسكرية التسليحية والمادية بمدها بالمساعدات الدائمة والمرحلية.
ولأن النظام الأميركي قائم على مبدأ توفير كل مستلزمات إنجاح المشروع الرأسمالي الأميركي الذي هو إنجاح لمشروع الشركات الكبرى فيه، وظَّف الوجود الصهيوني في فلسطين أداة من أدوات إنجاح المشروع الأمبريالي الأم. فأصبح التحالف المذكور، الصهيوني – الأميركي، بمثابة أفعى تعمل على غزو الوطن العربي والهيمنة على كل مفاصل الحياة فيه. ولهذا يقطن رأس الأفعى في خلايا المشروع الأميركي الرأسمالي المتطرف، أما ذنبه فيمتد الى الأرض الفلسطينية.
عندما كنا في مرحلة الصراع العربي – الصهيوني، صبَّت حركة المقاومة الثورية كل اهتمامها على ضرب ذنب الأفعى، وقد نجحت المقاومة الوطنية اللبنانية، بمن فيها من تأثيرات وظَّفتها المقاومة الإسلامية في لبنان، في قطع جزء من الذَنَب في لبنان، ولكي يكتمل القطع كان لا بد من أن تنجح المقاومة الفلسطينية في استكمال المهمة على أرض فلسطين.
ولما وقفت تأثيرات المقاومة في لبنان عند حدود لبنان الجنوبية نقول بأنها قد قامت بأداء رائع على الساحة اللبنانية، ولكن تحصين النصر في لبنان لا يمكن أن يتم من دون استكمال المساعدة والمشاركة على أرض فلسطين، التي في حال نجاحها يصبح النصر في لبنان أكثر ثباتاً وأكثر قوة. ولهذا نؤمن بأنه ما لم يتوفر قطع الذَنّب بكامله يبقى النصر الذي أحرزته المقاومة في لبنان ناقصاً، ولن يتحول الى نصر استراتيجي ثابت الجوانب والأسس الا باقتلاع كل تأثير للمشروع الإمبريالي الأم الذي يقع رأسه على الولايات المتحدة الأميركية.
في تلك المرحلة، واستعجالاً للمشروع الإمبريالي الخبيث، كان استعجال إدارة جورج بوش لاحتلال العراق، فبه يتم إطباق المشروع الصهيوني الإمبريالي على كل المنطقة. وفيما لو قُيِّض لمشروع احتلال العراق أن ينجح، لكان من الممكن أن يكون الاطباق على فلسطين سهلاً، ولكنا خسرنا كل المكتسبات التي أحرزتها المقاومة في لبنان. لأنه في الوقت الذي منعنا فيه وجود الذَنّب في لبنان، سيكون الانتصار الأميركي في العراق عودة الأفعى، بذَنّبها ورأسها إليه معاً، وبمثل تلك العودة تكون كل انتصارات المقاومة في لبنان في خبر كان، وأخواتها، وإن وأخواتها أيضاً.
من مثل تلك الوقائع، كان من الواجب على المقاومة في لبنان أن تقول شكراً للمقاومة في العراق، فهي التي أخَّرت استحقاق عودة المشروع الأمبريالي الصهيوني الى لبنان. ولأن عودته مؤكدة طالما أن الصراع في العراق لم يُحسم بعد، على الرغم من أرجحية انتصار المقاومة. وهذا ما يدفعنا الى القول أن الدفاع عن مكتسبات المقاومة في لبنان لا يمكن أن يتم الا بدعم المقاومة العراقية حتى لحظة إحراز النصر على الاحتلال الأميركي، ومن دون ذلك تكون المقاومة في لبنان، بشتى مآكلها ومشاربها، قد عملت على التفريط بما أحرزته من مكتسبات عندما قطعت ذنب الأفعى الصهيوني في لبنان.
أما الصورة التي نرى عليها وضع علاقة المقاومة في لبنان بالمقاومة العراقية تسير في طريقها الخاطئ، بل والخطِر أيضاً.
كنا نراهن على الأطراف التي حققت النصر في لبنان تأييد المقاومة العراقية لأنها تضرب رأس الأفعى وتعمل على «اجتثاثه» لتخليص العراق من سمها، وبالتالي حماية الأمة العربية في منع المشروع الأميركي من النفاذ. وكنا نراهن على أن تلك الأطراف ستبارك عمل المقاومة في العراق وجهادها ونضالها. لكن هذا لم يحصل فحسب بل انحدر خطاب بعض الأطراف نحو الأسوأ أيضاً، وكانت أبرز معالمه قد ظهرت بعد الخطاب الأخير لأمين عام حزب الله في لبنان، الذي وإن رشق الاحتلال الأميركي بحجر، إلاَّ أنه راح يشكك في دور المقاومة العراقية بدلاً من أن يشكرها لأنها أخَّرت عملية «اجتثاثه»، فبلدوز كولن باول كان قد بدأص في اجتياح لبنان وسوريا في أثناء زيارته لدمشق في السابع من آب من العام 2003. وكان قد حمل في حقيبته لائحة من الإملاءات يأتي في بنودها الأولى مطلب «قطع رأس» حزب الله. ولما تنامى تأثير المقاومة العراقية بقيادة ما يحلو للأمين العام لحزب الله أن يسميهم بـ«الصداميين»، تناسى حقيقة الخطر الذي كان يُحدق به، وتعالى خطابه رافضاً اليد التي خلَّصته. ولم يقف الأمر عند حدود الرفض، بل استكمله بنسيان «الجميل»، وراح يرشق طواحين هواء الاحتلال الأميركي بأكثر سيوفه حدة، وبدلاً من أن يُحمِّل تبعة الخراب الذي جرَّه على العراق، ألقى بتبعة ذلك على ثنائية لا يمكن أن يتوافق طرفاها على وضع ما بعد إنجاز تحرير العراق، وسمَّاهما بالإسم «التكفيريين والصداميين». أما أين اليمين الأميركي التكفيري، وأين هم «البوشيين»، فلم يحتاجا منه أكثر من لوم وتقريع لأنهما لا يريدان أن يُسلِّما شؤون العراق للمجلس الأعلى للثورة الإيرانية ولقوات بدر والبشمركة، وكأنه كان يتوهَّم بأن المشروع الأميركي سيسقط «الصداميين» ليسلم العراق الى إيران كما إلى المذهبيين والعرقيين.
لا تخرج دعوتنا للجميع ممن هادنوا المشروع الأميركي في العراق، والامتناع عن مقاومته، كما ملاحقة المقاومين لاغتيالهم أو تسليمهم لقوات الاحتلال، عن أن للمقاومة شروط استراتيجية قبل أي شيء آخر، وهو ليس رفض الاحتلال فحسب، بل مقاومته أيضاً. ولا يمكن لأي موقف أن يكون مفهوماً، حتى من الذين لم يبنوا أمجادهم الا قاعدة الفعل المقاوم للصهيونية، إذا لم يُستكمل باستراتيجية قطع رأس أفعى المشروع الأميركي وهذا هو موجود في العراق الآن. فإذا كان ذَنَب المشروع في فلسطين المحتلة فرأسه الآن يحتل العراق. فمن أجل أن تكون المقاومة كاملة متكاملة، ومن أجل أن يكون استلال سيفها مفهوماً لا يملأه التناقض واللعب على أحابيل الألفاظ السياسية المفبركة، على كل الأيدي أن تمتد الى قطع الرقبة التي تحمل رأس الأفعى، فكل براءة ذمة للمقاومين إذا لم توقعها المقاومة العراقية فهي ليست مقبولة على الإطلاق.
***

(34): وحدة الموقف القومي المقاوم أرضية صلبة في مواجهة المشروع الأميركي – الصهيوني
6/ 10/ 2005
في عملية احتيال كبرى تواطأت فيها دول مجلس الأمن الدولي، تحت رعاية كوفي عنان، أنهى القرار الرقم 1546 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، بشكل صُوَري، صفة الاحتلال عن الولايات المتحدة الأميركية. كما اعترف صُورياً بسلطة عراقية عميلة، وأسبغ عليها صفة الشرعية. وبمثل هذا القرار تنفَّست إدارة جورج بوش الصعداء، كما فعلها طوني بلير رئيس الوزراء البريطاني.
لقد جاء في حيثيات القرار المسائل التالية الملفتة للنظر، والاستهجان معاً، ما يلي: «وإذ يشير إلى التقرير المقدم من الولايات المتحدة إلى مجلس الأمن في 16 نيسان/ أبريل 2004 بشأن جهود القوة المتعددة الجنسيات وما أحرزته من تقدم، وإذ يقر بتلقي الطلب الوارد في الرسالة المؤرخة 5 حزيران/يونيه 2004 الموجهة إلى رئيس المجلس من رئيس وزراء الحكومة المؤقتة للعراق، والمرفقة بهذا القرار بالإبقاء على وجود القوة المتعددة الجنسيات:
1-يقر تشكيل حكومة ذات سيادة للعراق، على النحو الذي عُرض به في 1 حزيران/يونيه 2004، تتولى كامل المسؤولية والسلطة بحلول 30 حزيران/يونيه 2004 لحكم العراق مع الامتناع عن اتخاذ أي إجراءات تؤثر على مصير العراق فيما يتجاوز الفترة المؤقتة المحدودة، إلى أن تتولى حكومة انتقالية منتخبة مقاليد الحكم على النحو المتوخى في الفقرة الرابعة أدناه؛
2- يرحب بأنه سيتم، بحلول 30 حزيران/ يونيو 2004 أيضا، انتهاء الاحتلال، وانتهاء وجود سلطة الائتلاف المؤقتة، وبأن العراق سيؤكد من جديد سيادته الكاملة؛».
وبعد أن تشرعن وجود الاحتلال، كقوة صديقة، بمجرد توجيه رسالة من رئيس للوزراء غير شرعي، يضرب مجلس الأمن عرض الحائط بالقانون الدولي، ويركله برجله كما فعل جورج بوش منذ زمن يعود إلى ما قبل الاحتلال، ويتفرَّغ لوضع فقرات في القرار المذكور تتيح لإدارة جورج بوش بالإمساك بسلاح سياسي، وهو أن ينتقل بالضغط إلى دول الجوار العربي والإقليمي من أجل الانصياع لأوامرها، وتطبيق فقرات القرار المذكور. فكيف تمَّ ذلك؟
منذ اللحظة التي شرَّع مجلس الأمن قوات الاحتلال، وحوَّلها بقدرة ساحر إلى قوات صديقة.
ومنذ اللحظة التي شرَّع فيها جواز «الخيانة الوطنية» باعترافه بأن من خانوا وطنهم، بالتآمر على الأمن الوطني للعراق، معترف بتواقيعهم، ضارباً عرض الحائط كل القيم الإنسانية والدينية والدولية.
تحوَّلت المقاومة العراقية بالمنظار الأميركي، التي اعترف لها القانون الدولي بحقها في قتال قوات الاحتلال، إلى منظمات إرهابية. فأصبح الاحتلال صديقاً، ومقاومة الاحتلال إرهابية؟؟!
وتحت ذريعة تلك الحجة/ النص، أوغل مجلس الأمن بالاحتيال على الرأي العام الدولي، وراح يُلزم دول الجوار الإقليمي والعربي بالمساعدة على مكافحة الإرهاب في العراق، أي إلزامهم بمكافحة المقاومة العراقية. فجاءت الفقرة 17 من القرار المذكور لتخدم هذا الغرض. وقد نصَّت على ما يلي:
«وإذ يسلم بأهمية الدعم الدولي، لا سيما الدعم المقدم من بلدان المنطقة والبلدان المجاورة للعراق والمنظمات الإقليمية، لشعب العراق في الجهود التي يبذلها لتحقيق الأمن والازدهار، وإذ يشير إلى أن التنفيذ الناجح لهذا القرار سيسهم في تحقيق الاستقرار الإقليمي»، ]لذلك، كما جاء في المادة 17 منه[: «يدين كافة أعمال الإرهاب في العراق ويؤكد من جديد التزامات الدول الأعضاء بموجب القرارات 1373 (2001) المؤرخ 28 أيلول/سبتمبر 2001، و 1267 (1999) المؤرخ 15 تشرين الأول/أكتوبر 1999، و 1333 (2000) المؤرخ 19 كانون الأول/ديسمبر 2000 و 1390 (2002) المؤرخ 16 كانون الثاني/يناير 2002، و 1455 (2003) المؤرخ 17 كانون الثاني/يناير 2003، و 1526 (2004) المؤرخ 30 كانون الثاني/يناير 2004، وغيرها من الالتزامات الدولية ذات الصلة، المتعلقة، في جملة أمور، بالأنشطة الإرهابية في العراق أو الناشئة من العراق أو ضد مواطنيه. ويؤكد مجدداً، على وجه التحديد، دعوته إلى الدول الأعضاء أن تمنع عبور الإرهابيين إلى العراق ومنه، وتزويد الإرهابيين بالأسلحة، وتوفير التمويل لهم مما من شأنه دعم الإرهابيين، ويؤكد من جديد أهمية تعزيز تعاون بلدان المنطقة، ولا سيما البلدان المجاورة للعراق، في هذا الصدد».
لقد أسلست كل دول الجوار قيادها ورضخت لإملاءات إدارة جورج بوش منذ ما قبل الاحتلال، وظلَّت سورية في خارجه، ولم ترض الاندماج الكلي في المشروع الأميركي، بل ظلَّت محتفظة ببعض الأوراق لمصلحتها.
ولأن أوراق ممانعة المشروع الأميركي كلها مطلوبة مهما كانت ضعيفة.
ولأن إدارة جورج بوش في عجلة من أمرها في حسم المعركة في العراق نتيجة المآزق الكبرى التي وضعتها فيها المقاومة العراقية: فالفسحة المتاحة أمام المحافظين الجدد مهددة بالضياع بعد انتهاء مدة ولاية رئيسها جورج بوش، ولأن كرة ثلج الاعتراض الأميركي تكبر طالما هناك خسائر في أموال المكلف الأميركي وفي أرواح أبنائه، وطالما الاستحقاق الانتخابي الأميركي على الأبواب وفيها فرصة للحزب الديموقراطي في التضييق على المحافظين الجدد.
فكان لا بدَّ أمام الإدارة الأميركية من أن تمارس الضغوط على أي شيء يعيق مخططاتها. وتكبر الحاجة عندما تتلازم مصلحة مشروع المحافظين الجدد مع مصلحة المشروع الصهيوني، فتتحوَّل مقاومة المشروع المشترك، أو المشروعين التوأمين، إلى إرهاب. ولأنه إرهاب راح مجلس الأمن بخطوة مستهجنة، وتعتبر احتيالاً على القانون الدولي، الذي اعتبر المقاومة عملاً شرعياً، يبرر لإدارة جورج بوش الضغط على سوريا لتقديم الأوراق التي تملكها، تحت صيغة محاربة الإرهاب. فأصبحت المقاومة العربية، من وجهة نظر المتواطئين من دول مجلس الأمن مع إدارة جورج بوش، إرهاباً.
ومن أكثر ما لفت النظر راح الموقف الفرنسي، الذي تحت ضغط مصالح النخب الاقتصادية الفرنسية، يخون مبادئ الثورة الفرنسية، ومبادئ مقاومة الاحتلال النازي، راحت تغطي على جرائم إدارة بوش، وتعمل على إنقاذها من مآزقها. فشاركتها في كل قرارات مجلس الأمن اللاحقة. وكان من أكثرها إثارة وجدلاً ما تضمنه القرار 1559، ذلك الذي صدر في الثاني من أيلول/ سبتمبر من العام 2004، أي بعد أقل من ثلاثة أشهر من صدور القرار 1546. وخلافاً لما هو متداول بأن القرار كان نتيجة للتمديد للرئيس لحود «كان القرار معداً للإصدار قبل التمديد وبغض النظر عنه. وهذا ما اعترف به بوش في حديث لصحيفة (لوفيجارو) الفرنسية موضحاً أن شيراك طالب في شهر يونيو (حزيران) الماضي بقرار يرغم لبنان على تنفيذ جميع المطالب التي وردت لاحقاً في القرار 1559».
ومن ربط نصوصيْ القرارين 1546 و1559، يتبيَّن بأنه لا مجال للشك في ترابط أهدافهما. وأنه لا مجال للشك في أنهما يستهدفان المقاومة العربية في العراق وفلسطين وفي لبنان....
لم يكن هم الديموقراطية في لبنان هو ما يؤرق جفون جورج بوش. بل كانت النصوص تعني لبنان، أما عين إدارة جورج بوش فكانت على المقاومة العربية. وما على الذين لم يندمجوا تماماً في المشروع الأميركي أن ينصاعوا لتعليمات البيت الأبيض.
جاء القرار 1559، الخاص بلبنان، معطوفاً على القرار 1546 الخاص بالعراق، يجمع بينهما همَّ ما تصفه الإدارة الأميركية بالإرهاب. ولهذا اتَّخذت ذريعة الإرهاب وسيلة لمحاصرة سوريا. فكان القرار 1559 على قصره وإيجازه، يطلب من سورية أن تنسحب من لبنان وأن تقوم الحكومة اللبنانية بنزع سلاح الميليشيات، والمقصود به سلاح حزب الله وسلاح المخيمات الفلسطينية معاً. واستأنفت إدارة جورج بوش ذلك القرار، باستصدار قرار آخر عن مجلس الأمن يحمل الرقم 1566، تاريخ 8/ 10/ 2004، وكانت الغاية الأساسية منه إرغام كل الدول على الاعتراف بتعريف الولايات المتحدة للإرهاب، أي اعتبار كل نوع من أنواع المقاومة إرهاباً على المجتمع الدولي أن يسهم في القضاء عليه، ولهذا نصت المادة الثانية من القرار المذكور على ما يلي: «يهيب بالدول أن تتعاون تعاوناً تاماً على محاربة الإرهاب، لا سيما مع الدول التي تُرتكب فيها أو ضد مواطنيها أعمال إرهابية، وذلك وفقاً لالتزاماتها بموجب القانون الدولي، من أجل العثور على أي شخص يقوم بدعم الأعمال الإرهابية أو تيسير ارتكابها أو الاشتراك أو محاولة الاشتراك في تمويلها أو التخطيط أو الإعداد لها أو ارتكابها أو توفير ملاذات آمنة لمرتكبيها، وحرمان ذلك الشخص من الملاذ الآمن وتقديمه للعدالة على أساس مبدأ: إما التسليم أو المقاضاة».
وجاء في المادة الرابعة، استئنافاً لما جاء في المادة الثالثة: ما يلي: «ويهيب بجميع الدول أن تمنع هذه الأعمال، وأن تكفل، في حالة عدم منعها، المعاقبة عليها بعقوبات تتمشى مع ما لها من طابع خطير». وتتضمن المادتان الرابعة والخامسة صفة استعجال الدول من أجل ذلك، فتهيب المادة الرابعة على انخراط الدول في الاتفاقية «بصفة عاجلة»، كما تهيب المادة الخامسة بتلك الدول على أن تتعاون في هذا السبيل «بصفة عاجلة» أيضاً.
في هذا القرار ما يلفت النظر مما يفسر الكثير مما تتزايد وتيرته في الإعلام السائد اليوم: فقد جاء في المادة التاسعة من القرار 1566: إنشاء فريق يلاحق تطبيق التدابير المتعلقة «بتنظيم القاعدة... ومنع تحركاتهم عبر أقاليم الدول الأعضاء... وكذلك فيما يتعلق بإجراءات تنفيذ تلك التدابير». ففي تلك المادة ما يلقي الضوء على ربط العمليات العسكرية الوحشية التي تقوم بها قوات الاحتلال الأميركي على المدن والقرى المحاذية للحدود السورية العراقية، بحيث تريد قوات الاحتلال الأميركي أن تصيب عصفورين بحجر واحد: الإيحاء بأن المقاومة في العراق مرتبطة بتنظيم القاعدة من جهة، وتحميل سورية الإخلال بواجباتها الدولية في منع المتسللين من تنظيم القاعدة من الدخول إلى العراق من جهة أخرى.
لن نقف كثيراً عند التفاصيل التي تتناول أولويات الإدارة الأميركية، في هذه المرحلة، بل لا بدَّ من الإشارة إليها. اما أولوياتها، فهي ليست لبنان، إلاَّ بالقدر الذي توظِّفه فيه ورقة ضغط في وجه سورية لكي تقوم بتنفيذ إملاءاتها الوحيدة والكافية ضد المقاومة العربية بشكل عام، والمقاومة العراقية بشكل خاص. ولو جرَّدت سوريا حزب الله، والمخيمات من سلاحها، لكان أمراً يستدعي شكر إدارة بوش لها. وهي ستكون خطوة حسن نوايا عليها أن تستكملها بالتضييق على المقاومة العراقية، وهي التي تستحق الشكر الأكبر، والتي ستكون مكافأتها، لو نفَّذتها، البقاء في لبنان، وعلى الديموقراطية ألف سلام. ولما لم تتنازل سورية عن أوراقها تلك، لم يكن أمام إدارة بوش إلاَّ استكمال كل أنواع الأسلحة ضدها من أجل إرغامها على تقديم ما هو مطلوب منها.
جاءت حادثة اغتيال الرئيس الحريري لتكون القاعدة الأساسية التي تلقفتها إدارة بوش من أجل استكمال معركتها ضد المقاومة العربية. ومنذ تلك اللحظة جمَّعت في لبنان تحالفاً فيه من الغرابة ما فيه. وإن كانت مقاصد أطراف التحالف وأهدافه متباينة وقد تصل إلى حدود التناقض، إلاَّ أن ما جمعتهم كانت وحدة الخلاص من مؤسسات سياسية وأمنية ألحقت ببعض أطراف التحالف بأفدح الأضرار، ناهيك عن الأضرار التي طالت الجماهير الشعبية. وهذا لا ينفي أن يكون البعض الآخر من الذين استفادوا منه، ولكن لم تكن الاستفادة بالقدر الكافي، ولما وجدوا أنهم قد يقطفون فائدة أكبر من المشروع القادم انعطفوا بشكل سريع لالتقاط الفرصة الجديدة.
سيان كانت نوعية الذين نفذوا الاغتيال، أو أهدافهم، فهو عمل إجرامي يتوجَّب الكشف عن فاعليه ومعاقبتهم. لكنه كان الفرصة الذهبية أمام إدارة بوش للاستفادة منها في تنفيذ أغراضها وأهدافها. وإن كان من العدالة أن تنكشف الحقيقة عن هوية الذين قاموا به إلاَّ أنه من غير الجائز أن تبقى مخاطر توظيف تلك الحقيقة لمصلحة لا تهتم بلبنان ولا بشعبه سواءٌ أكانت الاستفادة على صعيد الديموقراطية أم كانت بغيرها.
استخدمت إدارة بوش، بواسطة سفارتها في بيروت، كل وسائل التحريض ضد سورية، منذ اليوم التالي للاغتيال، وأصبحت ساحة البرج في بيروت محجة لكل المتضررين من المؤسسات السياسية والأمنية السابقة. ولا يمكن قطف الفوائد لمصلحتهم إلاَّ بإسقاط كل رموزها والماسكين برقابها. فتصدَّرت اليافطات، وعناوين الصحف، ووسائل الإعلام المختلفة، التي تعمل في خدمة التيار السياسي الذي أُطلق عليه اسم المعارضة، كل العناوين العريضة للمطلوبة رؤوسهم: الأجهزة السياسية والأمنية وصولاً إلى رئاسة الجمهورية. ولذلك ارتفعت صور المطلوبين والذين حُمِّلوا المسؤولية. كما ارتفعت شعارات طرد الجيش السوري من لبنان، وكل قيادات المخابرات التي كانت ممسكة بتفاصيل الحياة اليومية للبنان. ومن أجل ذلك لمَّت ما تسمى بالمعارضة، حينذاك، كل فئات الشعب التي نالها من سلبيات المرحلة ما نالها من الأذى والأضرار.
كان الجو المتوتر والمحتقن في لبنان مناخاً مناسباً لتدخل المخابرات الأميركية على الخط، لتزيد من وتيرته، ولتمده بأسباب البقاء والاستمرار، ولم يكن بخاف على أحد، في تلك الفترة، أن مئات الملايين من الدولارات وُضعت في خدمة ذلك الهدف. وصُرفت أضعاف أضعافها في معركة الانتخابات النيابية في شهر أيار/ مايو من العام 2005.
وعلى صعيد آخر، بلغت حرارة الحركة الأميركية تجاه لبنان مدياتها القصوى، فراحت تتابع سياسة التحريض إلى أقصى مدياته. كما راحت توظِّف حادثة الاغتيال على الصعيد الدولي، وكانت في كل ذلك مستفيدة من الغطاء الفرنسي مما جعلها تبدو مرتاحة من وجود أية عوائق دولية كتلك التي واجهتها في مرحلة التمهيد للعدوان على العراق واحتلاله. فتتالت الخطوات على الصعيد الدولي:
1-تشكيل لجنة تقصي حقائق دولية. قامت بزيارة لبنان. وبتاريخ 26/ 3/ 2005، قدمت تقريراً عن أعمالها إلى الأمين العام للأمم المتحدة، خلصت فيه إلى أن «عملية التحقيق اللبنانية تشوبها عيوب جسيمة، وأنها تفتقر إلى القدرة والالتزام للتوصل إلى نتيجة مرضية وذات صدقية». وأوصت بأن واقع الأمر «يستلزم إجراء تحقيق مستقل دولي تتوافر له سلطة تنفيذية وموارد ذاتية في جميع مجالات الخبرة ذات الصلة». ولهذا أصدر مجلس الأمن الدولي، بتاريخ 7/ 4/ 2005، القرار الرقم 1595، الذي يقضي بإنشاء «لجنة مستقلة دولية للتحقيق، تتخذ من لبنان مقراً لها، لمساعدة السلطات اللبنانية في التحقيق الذي تجريه في جميع جوانب هذا العمل الإرهابي، بما في ذلك المساعدة في تحديد هوية مرتكبيه ومموليه ومنظميه والمتواطئين معهم».
2-وعلى موازاة تحريك المؤسسات الدولية واستخدام ضغوطها على سورية، قامت إدارة جورج بوش بتحريك مؤسساتها لكي تضغط بدورها. ولهذا بدأ الكونغرس، بتاريخ 29/ 3/ 2005، بدراسة «قانون تحرير سورية» الشبيه بما سُمِّي «قانون تحرير العراق». ويدعو المشروع، الذي أقرته اللجنة الفرعية لشؤون الشرق الأوسط في مجلس النواب الأميركي، «إلى مساعدة الساعين لإطاحة النظامين السوري واللبناني ودعم الانتقال إلى الديمقراطية في كلا البلدين، والتلويح بفرض حصار اقتصادي وسياسي ودولي على سوريا».
ويفوض مشروع القانون رئيس الولايات المتحدة في العمل على تقديم التأييد والمساعدة لأشخاص ومنظمات غير حكومية، لدعم الانتقال نحو حكومة ديمقراطية ومنتخبة انتخابا حرا، ومعترف بها دوليا، في سوريا، وإعادة ديمقراطية وسيادة لبنان.
أما الاتهامات الموجَّهة فيعددها المشروع بالتالي: «تهدد حكومة الجمهورية العربية السورية المصالح الأمنية القومية للولايات المتحدة، والسلام العالمي، بأفعال منها الآتي: تأييد الارهاب، وتطوير صواريخ باليستية بعيدة المدى، وبرامج وقدرات أسلحة الدمار الشامل، واستمرار احتلال جمهورية لبنان بما يخالف الالتزامات الدولية، ودعم، وتسهيل، كل النشاطات الارهابية في العراق، وخرق كبير ومستمر وغير عادي لحقوق الانسان للشعبين السوري واللبناني».
تستمر عقوبات واجراءات وقوانين الولايات المتحدة ذات الصلة بسوريا، وبالاشخاص الذين يثبت انهم يساعدون حكومة سوريا، بعد صدور هذا القانون، حتى يبلغ رئيس الجمهورية لجان الكونغرس المختصة بالآتي، ومنها الانسحاب من لبنان، واحترام : «حدود وسيادة كل الدول المجاورة». ولهذا ستصدر قرارات مالية تفوض رئيس الجمهورية لتنفيذ هذا الجزء في ميزانية العام 2006 ، وكل عام مالي بعده.
3-تمَّ تشكيل لجنة التحقيق الدولية المنصوص عليها في القرار 1595، برئاسة القاضي الألماني ديتليف ميليس، وباشرت أعمالها بتاريخ 16 حزيران/يونيو 2005. ومُدّد انتداب اللجنة الأساسي الذي أصدره المجلس حتى 26 تشرين الأول/أكتوبر 2005. وقدَّمت تقريرها إلى مجلس الأمن الدولي في التاريخ الممدَّد المذكور.
وهنا من المفيد أن ننقل بعض المعلومات التي تسرَّبت عن القاضي ميليس، بما يساعدنا على تكوين صورة واقعية عن عمل اللجنة، وبما يمكننا من استشراف النتائج التي يمكنها التوصل إليها في المستقبل.
إن ديتليف ‏ميليس لا يملك الكفاءة المهنية التي تخوله للقيام في مهمة خطيرة. فهناك قرار من قاضٍ ألماني يؤكد عدم مصداقيته، فهو كان يُرغم بعض الشهود على إعطاء شهادات تخدم نتائج القضايا التي كان يتسلَّم مسؤوليتها. وسجَّل القاضي في أحد قراراته أن المدعي ‏العام ميليس لم يكن صادقاً اثناء استجوابه كقاضٍ.‏
وفي المحاكمات التي كان يشارك فيها كقاض للتحقيق، «يتحدث باسلوب، انني اعتقد، انني ‏اظن». ما أجبر رئيس محكمة ألمانية للقول: «السيد المدعي العام إنك تستطيع ان تعتقد ما تشاء، ‏وهذه قاعة محكمة، ونحن بحاجة الى ادلة لقد فشلت في بيان الادلة التي تثبت ان هذا المتهم ‏بالجرائم، فهو بريء، وانا اعلن براءته».
هناك سببان لرفض تعيين ميليس كرئيس للجنة التحقيق الدولية في قضية اغتيال الرئيس الحريري (كما يقول د. سعيد دودين في مقابلة له مع جريدة الديار اللبنانية في 27/ 10/ 2005)، الاول عدم كفاءته المهنية، والسبب الثاني هو تبعيته لاجهزة ‏المخابرات الالمانية والاميركية والفرنسية والاسرائيلية. فهو كان على علم ببعض نشاطات الموساد الإسرائيلي.
ميليس ينفذ ‏ما كلف به، وما كلف به هو موثق في وثيقة كلينبر التي وضعها ريتشارد بيرل من اجل اجتياح ‏سوريا ولبنان. الخطير ليس ميليس، الخطير هو ضابط ‏مخابرات الماني وهو نائب رئيس اللجنة، وقد ظهر عندما سلم رئيس مجلس الوزراء فؤاد ‏السنيورة التقرير، تحت اسم ليمان، وقام منذ العام 1979، ببناء شبكة جواسيس في لبنان من أجل اختراق المنظمات الفلسطينية وحركة «امل» و«حزب الله»، فهو جاسوس قام باختراقات امنية خطيرة يعاقب ‏عليها القانون الالماني، وهو ملقن للسيد ميليس منذ ‏سنوات. وما يقوم به ميليس هو تنفيذ ما وضعه بيرل ومجرمون آخرون تحت اشراف ديك تشيني.
أما عن التقرير الذي أعدَّه ميليس، فقد علَّق عليه خبراء ألمان بالقول: هذا ليس تقريراً بل وثيقة تحريضية. إن المكان المناسب لهذا ‏التقرير هو سلة المهملات، وإنه يشكل اهانة لذكاء الحد الادنى لأي رجل ‏قانون في المانيا. ولن يستطيع ميليس تمريره عند قاض في قرية في المانيا، ‏وهو يعلم ذلك.
جاء في تقرير ميليس إدانة لكل من له علاقة بسوريا وبالمرحلة السابقة، فلم يستثن حتى رئاسة الجمهورية. وحمل التقرير طابعاً سياسياً واضحاً.
لقد اعتمدنا تلك الشهادات عن ميليس للاستفادة منها في استنتاجاتنا اللاحقة. وهذا ما يظهر بشكل واضح بردود الفعل الأميركية:
4-أثار التقرير ارتياحاً لدى مجلس الأمن الدولي، حاملاً ارتياحاً أميركياً واضحاً من خلال فقرات وردت في قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1636، تاريخ 31/ 10/ 2005. فهو:
أ-أثنى القرار على عمل اللجنة، كما أثنى على السلطات اللبنانية.
ب-وبناء لحاجة اللجنة إلى مزيد من الوقت لاستكمال ما وصفه القرار «تقدماً كبيراً، و]لأن تقرير ميليس[ توصل إلى نتائج هامة». وبناء على رسالة رئيس وزراء لبنان المرفوعة إلى مجلس الأمن بتاريخ 13/ 10/ 2005. رأى المجلس «من الأهمية القصوى أن يواصل التحقيق سيره»، لذا مدَّد مهمة اللجنة إلى 15/ 12/ 2005، وقرر أنه سيمدد ولايتها مرة أخرى إذا أوصت اللجنة بذلك، وطلبته الحكومة اللبنانية، مشيراً إلى أبرز المسائل التي يريد شدَّ الأنظار إليها:
-«في ضوء تغلغل دوائر الاستخبارات السورية واللبنانية... ما كان يمكن ]لقرار الاغتيال[ أن يُتَّخذ من دون موافقة مسؤولين أمنيين سوريين رفيعي المستوى». كما يشير إلى ضلوع مسؤولين لبنانيين في القرار.
-حاول عدة مسؤولين سوريين تضليل التحقيق بإعطاء بيانات مغلوطة أو غير دقيقة.
-اتخاذ إجراءات بحق كل الذين وردت أسماؤهم في التقرير، ومنها: أن تلتزم كل الدول بمنعهم من دخول أراضيها أو عبور حدودها. وتجميد أموالهم.
-يقرر أن ضلوع أية دولة في الاغتيال يشكل انتهاكاً خطيراً للقرارات الدولية ذات الصلة. ولذلك يشكل امتناع سورية عن التعاون في التحقيق انتهاكاً خطيراً لالتزاماتها بالقرارات الدولية. لذا عليها أن توضح قدراً كبيراً من المسائل التي لم يتم حسمها، ومنها: اعتقال المسؤولين أو الأشخاص السوريين «الذين تعتبر اللجنة أن يُشتبه بضلوعهم في التخطيط لهذا العمل الإرهابي أو تمويله أو تنظيمه أو ارتكابه». كما يجب عليها أن تتعاون بالكامل و«دون شروط»، سواءٌ أكان في تقرير مكان التحقيق أم في أساليب إجراء المقابلات. ويمكن للجنة، في أي وقت، أن تبلغ مجلس الأمن عن أي تأخير في التعاون بما يفي بمتطلبات القرار.
5-وتدعيماً للاتجاهات السياسية التي أفصحت عنها قرارات مجلس الأمن الدولي، جاء التقرير الدوري نصف السنوي، الذي قدَّمه تيري رود لارسن إلى مجلس الأمن بتاريخ 25/ 10/ 2005، بصفته مكلفاً بمتابعة تطبيق القرار 1559، لكي يساند نتائج تقرير ميليس، فأشار إلى أنه «لا تزال هناك بنود أخرى لم تُطبَّق لا سيّما تفكيك الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية ونزع سلاحها وبسط سيطرة الحكومة على كامل الأراضي اللبنانية وإعادة الإرساء الكامل والاحترام الشديد لسيادة لبنان ووحدته وسلامته الإقليمية واستقلاله السياسي، لا سيّما عبر إقامة علاقات ديبلوماسية طبيعية بين الجمهورية العربية السورية والجمهورية اللبنانية وترسيم الحدود بينهما».
واستطرد التقرير في الإشارة إلى أن هناك عدد من التطوّرات المقلقة قد وقعت وأثّرت في استقرار لبنان، ومنها تهريب للأسلحة والأشخاص عبر الحدود إلى لبنان. كما أشارت لجنة التحقّق أيضاً، كما ورد في تقرير لارسن، في ضبابية تريد أن توحي بهدف ما: «كان من الصعب التحقّق من انسحاب الاستخبارات السورية لأنّ الأنشطة الاستخبارية غالباً ما تكون سرّية بطبيعتها». واستنتجت انطلاقاً من أفضل الإمكانات المتاحة لها أنّه «لم يعد هناك وجود للاستخبارات العسكرية السورية في لبنان في مواقع معروفة أو في بزّات عسكرية» وأضافت أنّها «لم تستطع أن تستنتج في شكل مؤكّد أنّ كلّ الأجهزة الاستخبارية قد انسحبت».
التباسات تركها التقريران معاً، والمقصود منها أن تعطي تأثيراً نفسياً يشكل الضاغط المأمول منه إكراه سورية على الانضمام إلى منظومة دول الجوار التي اندمجت في المشروع الأميركي.
ليست الأهداف الأميركية محصورة بالضغط على سورية كنظام، بل كدولة تمتلك بعض أوراق التأثير في مجريات الصراع العربي – الأميركي حالياً، والصراع العربي – الصهيوني المتعارف عليه. فالمقصود ليس قطف رأس النظام السوري، بل قطف رأس الأمة العربية بكاملها. فهي تريد من خلال الضغط عليه أن تحاصر الثورة العربية الراهنة المتفجرة على الساحتين الفلسطينية والعراقية. فعلى أية مسافة يقف العرب مما يدور؟
إن الأنظمة العربية وأنظمة دول الجوار المحيطة بالعراق حسمت مواقفها إلى جانب المشروع الأميركي وراحت تعمل على إنجاحه بشتى الوسائل والسبل. فهي تلعب دور تخويف النظام السوري لدفعه إلى الاستجابة إلى كل إملاءات الإدارة الأميركية. ولأجل هذا الأمر يتحرك حسني مبارك، الذي كما كان «يدعو العراق إلى الامتثال التام لمجلس الأمن فإنه يدعو سوريا ولبنان للامتثال دون مقاومة، مدعياً أن سوريا لا تستطيع الصمود أمام الضغط الدولي»، وكذلك يفعل النظام السعودي. وأخيراً، وليس آخراً، النظام القَطَري. ودور جامعة الدول العربية، على خلفية موقفها المتواطئ من العراق، ستقوم على لعب دور آخر في تخويف النظام السوري.
لم يبق خارج دائرة الاندماج في المخطط الأميركي غير بعض أطراف حركة التحرر العربية، وهي الوحيدة التي تعلن مواقفها ضد ذلك المخطط. ولم تمر المتغيرات في لبنان وسوريا، على صعيد الصراع الدائر مع المشروع الأميركي من دون مواقف، فهي الاتفاق على المسائل التالية:
-من ثوابت المرحلة أن الإدارة الأميركية تعمل من أجل احتواء العالم والهيمنة عليه، بالاندماج مع الصهيونية العالمية.
-تسخِّر تبعية النظام العربي الرسمي من أجل كسح الحواجز المعيقة للمشروع. ويأتي على رأسها كل عوائق الممانعة مهما كانت صغيرة خوفاً من أن تتكاثر وتنمو وتتحوَّل إلى مقاومة جدية.
-فإذا كانت مظاهر الممانعة تصب في خدمة المشروع الأميركي – الصهيوني، فالأولى بحركة التحرر العربية أن تقويها وترفدها بعوامل القوة. فكما أنها تعمل للحؤول دون تحويلها إلى عوامل قوة تقف إلى جانب المشروع المذكور فإن عليها أن تبقيها عوامل قوة لصالحها.
-للنظام السوري تأثير في احتضان المقاومين في هذه المرحلة. كما له تأثيرات سلبية في المرحلة السابقة. فبالموازنة بين الحالتين لا يمكن أن تحول سلبيات الماضي دون الاستفادة من إيجابيات الحاضر. والحالة كذلك، لا يجوز تركه وحيداً في مواجهة الضغوط الأميركية – الصهيونية مدعومة باستئناف بعض أنظمة الاستعمار السابق الأوروبية لنشاطها.
استناداً إلى ذلك، حذَّرت قيادة المقاومة العراقية من خطورة المرحلة التي تقوم بها إدارة جورج بوش بتوظيف النتائج الهزيلة لتقرير ميليس ووضعها في خدمة ضغطها على إجبار النظام السوري في الاندماج مع المشروع الأميركي. وقد جاء في بيان جهاز الإعلام والنشر لحزب البعث في العراق، الصادر بتاريخ 26/ 10/ 2005، مشخِّصاً طبيعة اللحظة الراهنة، أن الولايات المتحدة الأميركية دفعت بعمرو موسى إلى استكمال اندماج النظام العربي الإقليمي بالمخطط الأميركي من جهة، وإعلان نتائج تقرير ميليس من أجل «استغلاله المدبر في عكس هزيمة مشروعها السياسي والأمني والاقتصادي في العراق المقاوم على أنظمة عربية غير مدمجة مع مشروعات الاحتلال السياسية والأمنية في العراق المحتل... وفي محاولة مستميتة من إدارتها (الولايات المتحدة) تعمل لإحداث حالة الدمج القسري للنظام السوري مع مخططات الاحتلال في العراق المقاوم».
وبالعودة إلى دراسة الحالة العراقية، نرى أن معظم القوى المحسوبة على حركة التحرر العربية قد أخطأت في تشخيصها، ولهذا عملت على الموازنة بين معارضتها للنظام السابق في العراق والاحتلال الأميركي، فغلَّبت عصبيتها السابقة ضده. وهي لم تقف إلى جانب الحياد كأضعف المواقف فحسب، بل ساعدت الاحتلال أيضاً. وهكذا كانت عليه مواقف تيار من الحزب الشيوعي العراقي المؤيَّد من قبل تيارات أخرى من الأحزاب الشيوعية العربية. فهي قد ضحَّت بوطنيتها من أجل ما تُطلق عليه الحق بالديموقراطية. فهي بمثل تلك المواقف خسرت موقفها الوطني، ولم تربح الديموقراطية.
وعلى العكس منها، فقد وقفت قوى عراقية أخرى كانت معارضة للنظام السابق، أجَّلت المسألة الديموقراطية إلى ما بعد التحرير، فهي قد أعطت أولوية لتحرير الوطن لأنها بغير تحريره من الاحتلال تبقى الديموقراطية حبراً على ورق.
أما في مسألة ما تتعرَّض له سورية الآن من ضغوط أميركية – صهيونية متواصلة، تُعيد إلى ذاكرتنا المشهد العراقي قبل الاحتلال. وما لم نستفد منه كتجربة قريبة وماثلة في الأذهان فنكون واحداً من إثنين:
-إما أنه لم يتخلص من عصبيته ومواقفه السابقة وقطريته وهذا لا يعني إلاَّ موقفاً مرحلياً يُفوِّت فيه فرصة مواجهة المشروع المعادي.
-وإما أنه يضيِّع بوصلة تحديد الأولويات المرحلية في ثنائية التحرر الداخلي والاستعمار، وبمثل ذلك سنخسر المعركة مع الاستعمار حتماً ولن نربح معركة التحرر الداخلي لأن الاستعمار لن يترك لطرفيْ الصراع الداخلي (النظام والمعارضة) شيئاً يقتتلان عليه، فالاستعمار كفيل بالقضاء على الطرفين معاً.
إن هذا لا يعني على الإطلاق أبداً أن هناك موجبات تقع على عاتق النظام السوري في هذه المرحلة، ومن أهمها:
1-نزع فتيل قنبلة المسألة الديموقراطية في سوريا باتخاذ إجراءات توفِّر مستلزمات انخراط أكبر عدد ممكن من القوى والأحزاب في مواجهة المشروع الأميركي – الصهيوني. ومنها، واستقواءً بها، يمكن للنظام أن يقود عدة مواجهات خارجية في آن معاً.
2-أن يتحصَّن بالجدار العربي ولكن على قاعدة الموقف من المخططات التي تجتاح المنطقة، وليس على موقف «طلب السلامة»، و«حماية الرأس على قاعدة إحنائه أمام جبروت القوة».
3-أن يُقوِّي مواقف الممانعة في مواجهة المشروع المذكور. وليعلم النظام السوري أن المشروع أصبح بلا أنياب، وهو أصبح قصير النَفَس وضعيفه لأنه يلهث من معركته مع المقاومة العراقية من جهة، ويحاول أن يعالج جروحه في داخل أميركا نفسها بعد أن ازدادت ثخانتها من الشارع الأميركي، وهي على ازدياد. وليعلم النظام أن إدارة جورج بوش تلعب على مسرح محدود المساحة والتوقيت، فهو يعمل من أجل إخضاع سورية بسرعة تقتضيها الفرصة الزمنية القصيرة المتاحة له.
4-تأهيل الشعب السوري لحرب التحرير الشعبية. فالشعب السوري يمتلك من الأهلية القومية والثورية ما يكفي لممارسة دوره في مواجهة المخطط الأميركي – الصهيوني.
5-إن فتح بوابة مقاومة جديدة في سورية ستكون عمقاً استراتيجياً للمقاومة في العراق وفلسطين ولبنان، كما أن تلك المقاومات ستكون عمقاً استراتيجياً للمقاومة السورية. وستكون المقاومة العربية، بدعم من حالة الرفض العالمية، طليعة أساسية في كبح جماح مشروع المحافظين الأميركيين الجدد، كخطوة أساسية على طريق ضربه في مهده. وخطوة مماثلة ستحقق نتائج باهرة، وستجد سورية، على ضوء تلك المواقف، تأييداً شعبياً عربياً واسعاً.
***

(35): المشهد العراقي في تشرين الأول 2005
دور الجامعة العربية في العراق يصب في مصلحة الاحتلال وحركتها بوحي منه
من مسلمات الأمور أن يتولى العرب، تحت أية مظلة مؤسساتية عربية مستقلة، حل مشكلاتهم بأنفسهم من دون الارتهان للمشاريع الخارجية، خاصة منها تلك المتعلقة بمصلحة التحالف الإمبريالي – الصهيوني. ولو توصَّل العرب إلى هذا المستوى لخطوا الخطوة الأولى في الطريق الصحيح. فتعريب الأزمات العربية هي المسألة المطلوبة التي من أجلها على الحركة العربية الثورية أن تناضل على هدي الشعار «لا يحك المشاكل العربية إلاَّ الظفر العربي».
أما وأن تتحول أكبر مؤسسة سياسية عربية إلى أداة طيعة بيد المشروع الأميركي – الصهيوني، كما هو حاصل الآن، وكما هو واقع أهداف وفد جامعة الدول العربية إلى العراق وحقيقته ممهداً لزيارة عمرو موسى، فهذا ما لا يصب في مصلحة العراق ولا مصلحة الأمة العربية.
لقد تشكل الوفد بناء لرغبة أميركية كانت قد مهَّدت لتشكيله في مؤتمر جدة في السعودية من أجل تعريب شكلي للمشكلة العراقية يسهم في مساعدة إدارة بوش على تجاوز مأزقه الكبير في العراق. ومن أهم مظاهر الرغبة الأميركية، وبالتالي حقيقة أهداف الوفد، هو أن مهمته تتم تحت مظلة الاعتراف بالاحتلال الأميركي.
فمقررات مؤتمر جدة لم يرفض الاحتلال حتى إنه لم يوجَّه إليه أية إدانة، وهو قد تعامل مع إفرازات الاحتلال كواقع شرعي معترف به. ولم يأخذ بعين الاعتبار أن تلك الإفرازات غير شرعية لأنها تأسست بفعل ترتيبات قام بها احتلال غير شرعي. ضاربة بعرض الحائط نصوص القانون الدولي، وبشكل خاص اتفاقيات جنيف في 1949 ولاهاي في1907، التي نصَّت على أن المحتل يجب أن يلتزم بالقوانين القائمة في البلاد. فهو في موقع «المدير» و«الوصي» حتى تقام حكومة ذات سيادة.
شجعت واشنطن عمرو موسى على التوجه إلى بغداد بغية بذل الجهود لتقريب وجهات النظر بين مختلف الاطراف العراقيين، وتحديداً اقناع السنّة بالتخلي عن ترددهم إزاء مشروع الدستور الذي ينص على اقامة نظام فيديرالي يرفضونه ويتمسك به الشيعة والاكراد. وقالت إن موسى تحرك بسرعة وأوفد مساعده للشؤون السياسية احمد بن حلي على رأس وفد للشروع في الاتصالات مع مختلف الاطراف، تمهيداً لزيارته المرتقبة الى بغداد لمباشرة مهمته بضوء اخضر اميركي وعربي. ولهذا أعلن بن حلي، بعيد وصوله بغداد أن زيارته تندرج في إطار الإعداد لمؤتمر وطني عراقي تحت مظلة الجامعة العربية، وأهدافها كما يزعم تمكين «العراقيين من التحاور والنقاش والعمل على إيجاد صيغة لضمان وحدة العراق وسلامته وإنجاز عملية سياسية واسعة لإقامة مؤسسات الدولة وإنهاء الوجود الأجنبي».
كان من أهم أهداف الأميركيين بالسماح لجامعة الدول العربية بالتدخل هو خلق حالة توازن سنية عربية في مواجهة ما تسرَّب من معلومات توافرت لدى السعودية والاردن عن تدخلات إيرانية من طريق تسلل رجال وإرسال مال وأسلحة الى المحافظات العراقية المتاخمة للحدود الايرانية وخصوصاً البصرة وجنوب العراق، من أجل التأثير في مجرى الحياة السياسية.
وتحدَّثت الصحف الأميركية عن سيناريو المرحلة القادمة التي تصب في مصلحة النظام الإيراني قائلة: «إن أقطاب الطائفة الشيعية قد أعلنوا عن مخطط مؤلف من 8 محافظات في الجنوب لإقامة الدولة الشيعية مع ما يتبعه من إقامة دستور وقوات أمن خاصة بالدولة، حيث ستسيطر على أغنى حقول النفط في العالم، وستقيم علاقات خاصة مع إيران».
في أوائل تشرين الأول من العام 2005، جاء في بيان قيادة قطر العراق – مكتب الثقافة والإعلام، أنه عندما أصاب اليأس مخططو الاحتلال الأميركي من فتح نوافذ على المقاومة العراقية من خلال بعض القوى « ممن تزعم أنها تتبنى منهج التحرير والديمقراطية والتي أخذت تطرح شعارات متخاذلة ومبهمة مثل جدولة الانسحاب وإحالة ملف العراق إلى الأمم المتحدة ... دفعت بالجامعة العربية أخيراً، التي لم تحرك ساكناً عندما وقع العدوان والاحتلال بل أسهم عدد من أعضائها بكل إمكانياته لتحقيق هدف العدو لاحتلال العراق وتدميره... لتأخذ دورها». فالهدف من التدخل العربي عبر جامعته، يستطرد البيان، ليس أكثر من «استهداف المقاومة تحت حجج وشعارات باسم المصالحة ودعم شعب العراق ».
وجاء في بيان آخر، صادر بتاريخ 4/ 10/ 2005، تفصيل لأهداف وفد جامعة الدول العربية التي يريد أن يحققها في مهمته المشبوهة:
1-« تلاقى أعداء البعث على مسطح مصلحة مشتركة مع الولايات المتحدة قبل العدوان لأجل إسقاط القيادة السياسية لجمهورية العراق كدولة، وضرب البعث كمشروع قومي نهضوي، واقتلاع عروبة العراق. فإن الأنظمة العربية المدمجة مع الاحتلال، باتت لا تمتلك هامشاً من المناورة السياسية يمكنها من معارضة حقيقية لمسعى استهداف عروبة العراق».
2- كان البعث يعي أن الأنظمة العربية المتلاقية مع الولايات المتحدة في العراق، سوف تعيش أزمات سياسية وأمنية واقتصادية بسبب من ذيلية مواقفها لخطوات الولايات المتحدة.. وتأسيسا على ذلك فقد أسقط البعث في منهاجه السياسي والستراتيجي دور أنظمة الإقليم العربية، وبذلك لا ولن يراعي البعث، ولا ولن تراعي المقاومة العراقية المسلحة مسألة تأزيم مكونات الإقليم على حساب المقاومة المسلحة واستمرارها حتى التحرير، وفي المقدمة منها أنظمة مصر والسعودية والأردن. لقد أمرت الولايات المتحدة وحركت نظام أبناء عبد العزيز، لأجل توسيع قاعدة التدخل السياسي والاستخباري والمالي في العراق المقاوم، تحت ذريعة إحداث «توازن طائفي»، مقابل التدخل الإيراني في العراق عبر عملاء وخونة عراقيين طائفيين وشعوبيين وتقسيميين.
3-لانعدام الخيارات الأخرى يأتي تحريك أدوار الأنظمة المدمجة بمشروع الاحتلال ليؤكد دخوله مرحلة الانهيار. وقد جاء اجتماع جدة وفقاً لطلب الولايات المتحدة بعد أن مهدت له بالتوجيه والسماح لوزير خارجية السعودية بإطلاق تصريحاته في نيويورك، لتأكيد هدفها وتفعيله بالاستدراج الطائفي في العراق والإقليم ككل.
وتأتي خطورة الاجتماع الذي مهَّد لمهمة وفد جامعة الدول العربية إلى العراق المحتل:
أ-لقد أكَّد حقيقة الاحتلال ولم يُدِنْه أو يرفضه، وتعامل مع إفرازاته كواقع، وهو ما تسعى أميركا للتعامل معه من خلال تعميم الطائفية والتقسيم. ويأتي في محاولة لإنشاء مرجعية مذهبية سياسية خارجية مقابلة لتفعيل الطائفية الشعوبية في العراق.
وفي 20/ 10/ 2005، أصدر جهاز الإعلام السياسي والنشر بياناً كشف فيه أن زيارة عمرو موسى إلى العراق المحتل كانت متزامنة مع الاستفتاء المدبر على الدستور ومحاولات تمريره، وبعد يوم واحد من انعقاد المحاكمة المهزلة لقيادة العراق الشرعية. وكانت زيارته مرتبطة بعرض وزيرة خارجية الولايات المتحدة الستراتيجية الاحتلالية السياسية والأمنية الجديدة في العراق على لجنة معنية في الكونغرس. لقد ركزت وزيرة الخارجية الأمريكية على أمرين:
-دمج الجهود العربية مع جهود الاحتلال لمواجهة المقاومة العراقية، وكذلك مساعدتها على الخروج من المآزق السياسية والأمنية والإدارية والاقتصادية والمعاشية التي أوجدها الاحتلال.
-وتأسيساً على ارتفاع أسعار النفط تكون دول الخليج والسعودية، المستفيدة من ذلك، مشاركة بتغطية أكلاف الاحتلال المالية الباهظة في العراق.
فعندما تشرع الولايات المتحدة بتنفيذ وتطبيق عناصر ستراتجيتها الجديدة في العراق المحتل، فأنه لا بد من تهيئة ظروف يسهم بها النظام الإقليمي العربي ممثلا بجامعته ويحمل أوراق عملها عمرو موسى.
إن عمرو موسى يؤدي وظيفته على قاعدة أنه من مدرسة النظام الساداتية السياسية. وامتثل سابقاً لتوجيهات وزيرة الخارجية الأسبق للولايات المتحدة السيدة أولبرايت عندما نقلته، بتوجيه رئيس نظام مصر، من منصب وزير خارجية جمهورية مصر العربية إلى أمين عام جامعة الدول العربية. و يمتثل الآن لتوجيه وزيرة خارجية الولايات المتحدة كوندوليزا رايس.
تحسباً لكل ذلك، يحذر البعث من مشاركة عسكرية وأمنية عربية رسمية مع تشكيلات الاحتلال الأمنية والعسكرية العاملة في العراق المحتل.
ورداً على تلك الزيارة أعلنت المقاومة العراقية المسلحة أنها لا تعترف بالعملية السياسية ومكوناتها في العراق المحتل، وعليه يكون على عمرو موسى مثلما على كوندوليزا رايس، أن يفهما ويتأكدا من أن البندقية المقاومة هي الطرف المقابل للاحتلال وسلطته والنظام الإقليمي العربي المدمج معهما.
ويؤكد جهاز الإعلام السياسي والنشر، بتاريخ 23/ 10/ 2005، أن عمرو موسى في زيارته قد حقق الدمج مع مخططات الاحتلال السياسية والأمنية على مستوى النظام الإقليمي العربي ممثلا بالجامعة العربية. وعندما يتعامل موسى ويشيد بالعراق الجديد، ويتعامل مع الاحتلال ومشروعاته كأمر واقع، فأنه يكون قد وضع نفسه ومؤسسته والنظام الإقليمي العربي في حالة اصطفاف مقابل للبعث والمقاومة العراقية المسلحة. وأوضح البيان أن حزب البعث العربي الاشتراكي لم تجتمع أيا من قياداته، أو من هو مخول من قيادة قطر العراق مع عمرو موسى، والمحاولة البائسة بافتراض قيادات وهمية يجتمع معها المذكور ليس إلا تغطية على حقيقة أهداف الزيارة ذات الأهداف الأميركية.

في مواجهة مسرحية الاستفتاء على الدستور الموجَّه أميركياً في العراق
دستور المقاومة العراقية هو الحكم الفيصل
على وقع خطوات الروزنامة الأممية، استناداً إلى قرار مجلس الأمن الدولي 1546، ولأن الإدارة الأميركية بحاجة لأي دعم يخفف عنها مآزقها في العراق، ترى الإدارة المذكورة أن الزمن يسابقها لفرض أمر واقع في العراق قبل أن تقدم على أية خطوة دراماتيكية في المستقبل الذي لا يبدو أنه بعيداً. وفي سبيل ذلك، تتوهَّم أنها في تركيب حكومة عراقية عميلة لها تقوم بتشريع وجودها تستطيع أن تبدأ الخطوة الأولى في الانسحاب من العراق، وقبل ذلك تعمل من أجل عقد اتفاقيات سياسية وعسكرية واقتصادية مع تلك الحكومة. وهي تحسب أن تلك الاتفاقيات ستكون ملزمة لأية حكومة عراقية يتم تشكيلها في المستقبل. وهي ضالعة في عملية التزوير على الرغم من أن تلك الخطوات لن تكتسب أية شرعية دولية لأنها تخالف أبسط القوانين والشرائع الدولية على قاعدة «إن ما يُبنى على باطل فهو باطل»، فالاحتلال غير شرعي، يبقى أن كل إفرازاته تكون غير شرعية.
أما ما هو أخطر من تلك الأهداف فقد ظهر بشكل واضح وجلي في أكثر من جانب:
-أولها، على قاعدة قرارها بـ«اجتثاث فلسفة حزب البعث»، ينص الدستور على «اجتثاث عروبة العراق».
-وثانيها، على قاعدة توفير أمن قوات الاحتلال وبقائها أطول مدة ممكنة، فقد ضمَّنته قواعد التفتيت الطائفي والعرقي بإقرار الدستور النظام الفيدرالي الذي يسمح للتعدديات الطائفية والعرقية بأن تستقل في أكثر من جانب تحت رقابة حكومة عراقية مركزية هشَّة لا تستطيع الاستمرار فهي مهددة بعوامل الانفصال، وهي تعيش تحت رحمة الفيدراليات.
-وثالثها، توزيع ثروات العراق الوطنية ووضعها بين أيدي الانفصاليين الطائفيين والعرقيين.
يشكل، إذاً، إقرار الدستور المزعوم خطوة أساسية تضعه الإدارة الأميركية في صلب اهتماماتها لأنها على أساسه ستشرِّع، أمام الرأي العام العالمي، بتواطؤ مع المؤسسات الأممية التي يرأسها كوفي عنان، انتخابات الخامس عشر من كانون الأول القادم حيث سيكلَّف المجلس المنبثق عن نتائجها حكومة جديدة تخلف حكومة ابراهيم الجعفري. تلك الحكومة الجديدة هي التي تراهن إدارة الاحتلال عليها في توقيع الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية والسياسية.
لقد أكَّد بيان قيادة قطر العراق، في 2/ 10/ 2005، أن المقاومة ماضية في إسقاط كل مشاريع الاحتلال، سواءٌ أكانت سياسية أم عسكرية أم اقتصادية. كما عاهدت جماهير الأمة على المضي في إسقاط كل ما أفرزته حالة الاحتلال من نتائج، ويأتي في مقدمتها مرحلة تزوير دستور للعراق. ولهذا دعت العراقيين «لإسقاط دستور الاحتلال وعملائه، وتأكيد وحدة العراق أرضا وشعبا... حيث ستفرض التقابل القتالي للبعث والمقاومة مزيداً من المواجهات مع الاحتلال وعملائه على امتداد أرض العراق».
وقد حدَّد بيان مكتب الإعلام والنشر لقيادة قطر العراق، بتاريخ 7/ 10/ 2005، خطورة الاستحقاق السياسي للاحتلال الأمريكي في 15/ 10/ 2005 ، بتمرير الدستور المؤسس على المحاصصة الطائفية الشعوبية والمفتوح على التقسيم،لأنه سوف يتم وفقاً لما صممه المحتل في تمرير الاستحقاقات السياسية السابقة، مثله مثل الانتخابات المهزلة، وسيكون هناك قبولاً مزيفاً بالدستور، وسيسجل جورج بوش المأزوم والمتراجع الشعبية الداخلية نصراً وهمياً يضاف إلى انتصاراته الوهمية السابقة، كمثل نصره الوهمي المعلن بانتهاء العمليات العسكرية في أيار من العام 2003. نتيجة لكل ذلك، يضيف بيان 7/ 10 «سيقبر شعب العراق دستور التقسيم والانفصال، وسيسقطون السلطة العميلة التي تبنت الدستور، مقدمة لدحر الاحتلال وهزيمته النهائية الحاسمة في العراق».
لم تحمِّل قيادة المقاومة الزمر الشعوبية، التي تأتمر بأوامر النظام الإيراني، مسؤولية التواطؤ لوحدها، فليست زمر الشعوبية في العراق إلاَّ وجه من وجوه العمالة للأجنبي فحسب، بل أيضاً ما يُسمى بـ«الحزب الإسلامي العراقي» وجه آخر لتلك العمالة. تلك حقيقة الأمر كما حددها بيان جهاز الإعلام السياسي والنشر بتاريخ 12/ 10/ 2005. يرى البيان أن ذلك الحزب ليس إلاَّ ديكوراً حرّكتاه الولايات المتحدة والنظام الأردني «لتجميل صورة الاستفتاء على الدستور الاحتلالي المؤسس على الطائفية الشعوبية». ولهذا حذَّر نائب أمين سر قيادة القطر العراقي من «خطر سنية عميلة تقابل مثيلتها الشيعية والكردية وفقا لتقسيمات الاحتلال في سلطته العميلة ومكوناتها السياسية». وفيها ما يحمل مخاطر متوقعة من أن يقوم الحزب المذكور من «تشكيل ميليشيات مسلحة للحزب الإسلامي وفقاً لمطلب المحتل، لتعمل متوافقة مع مشروعه الأمني في العراق، مع التذرع بحماية الخط السياسي العميل للحزب كما هو الحال في الطائفية الشعوبية المقابلة». لذا ففي دعوة الحزب المذكور لقبول الدستور المزعوم ما يقتضي ضرورة فضح أهدافه وعزله.
وبتاريخ 26/ 10/ 2005 استأنف، جهاز الإعلام السياسي والنشر لقيادة قطر العراق، كشفه عن مخاطر ما يجره الدستور الأميركي المفروض على العراق من مخاطر على النسيج الاجتماعي للمجتمع العراقي:
لقد مرر الدستور انطلاقا من ضرورة أمريكية سياسية ملازمة لأزمات البيت الأبيض، وتزامنا مع زيارة عمرو موسى للعراق لتأكيد دمج النظام الإقليمي العربي مع مخططات الاحتلال، وكذلك تزامنا مع إطلاق «تقرير ميلتس» واستغلاله المدبر من قبل الولايات المتحدة، في عكس هزيمة مشروعها السياسي والأمني والاقتصادي في العراق المقاوم على أنظمة عربية غير مدمجة مع مشروعات الاحتلال السياسية والأمنية في العراق المحتل... وفي محاولة مستميتة من إدارة الولايات المتحدة لإحداث حالة الدمج القسري للنظام السوري مع مخططات الاحتلال في العراق المقاوم.
إن تمرير الدستور المبرمج إحتلاليا وما رافقه من تداخل سياسي وخلط أوراق حزبية، كان يستهدف إحداث «تقابل طائفي» من خلال «استدراج طائفي» لحركات وأحزاب وتجمعات نشأت بعد الاحتلال على قاعدة التعريض بالوحدة الوطنية، من خلال اصطفافها «السياسي» المقابل للطائفية الشعوبية.
أما كيف يمكن مواجهة المشاريع المرتبطة بالاحتلال: تمرير الدستور الأميركي باستهدافاته التفتيتية الطائفية والعرقية، كما زيارة عمرو موسى ذات الأغراض الأميركية، فيتم، كما حدده البيان المذكور، كما يلي: اللحظة الراهنة يجب أن تكون فسحة محدودة لاعادة الحسابات السياسية للمخطئين على أسس وطنية جامعة، تتطلب أولا الاعتراف بالخطأ السياسي، وتتطلب ثانيا قطع الاتصال والتحاور والتلاقي مع من استدرج طائفيا على أساس من عمالته التاريخية «الحزب الإسلامي العراقي العميل»، وتتطلب ثالثا إسقاطاً قطعياً لإمكانية التعامل مع مشروعات الاحتلال السياسية واستحقاقاته اللاحقة «الانتخابات النيابية»، وتتطلب رابعاً إعادة الحسابات على قاعدة المصلحة الوطنية العراقية بإسقاط تحرك الجامعة العربية المشبوه والمنطلق من التعامل مع الاحتلال ومشروعاته كأمر واقع، وتتطلب خامسا الاصطفاف الواضح والنهائي في صف المقاومة العراقية المسلحة المقابل للاحتلال وعملائه.

(35): المشهد العراقي في تشرين الثاني 2005
من أبرز الأحداث التي أحاطت بالقضية العراقية الشهر الفائت:
1: المشهد العسكري: يُخيَّل للمتابع أن عدد الجنود الأميركيين الذين يسقطون في العراق بفعل زنود المقاومين العراقيين الأبطال يزداد في هذه المرحلة. لكن الحقيقة هي أن عددهم كان كبيراً منذ بداية الغزو الأميركي – البريطاني للعراق. سواءٌ أكانت المعارك نظامية أو شعبية، أما الذي تغيَّر في الأمر هو أن الإدارة الأميركية أخذت تبثُّ الأرقام الجديدة، التي هي حكماً أقل بكثير من الواقع، فهو انكشاف كذبها أمام المواطن الأميركي الذي أخذ يضغط عليها، بعد أن تأكَّد أنها لا تنقل إليه حقيقة ما يجري في العراق، للخروج من دوائر الكذب وقول الحقيقة عن كل الأمور ذات العلاقة بحقيقة الوضع في العراق سواءٌ اكان منها ما يتعلق بالخسائر بالأرواح، أم كان يتعلَّق بالخسائر المادية، أم كان يتعلَّق بسوء إدارة أموال المكلَّف الأميركي المرصودة للحرب والعدوان.
إن فعل المقاومة كان شديد الوطأة على الاحتلال منذ البداية، وكانت خسائر جيشه كبيرة، ولكن التضليل والخداع كان السبب في حجب حقيقة تلك الخسائر منذ البداية، والدليل على ذلك أنه إذا كنا لن نستطيع معرفة حجم المقاومة وقوتها على أرض المعركة، فإننا كنا نتلمَّس مدى تأثيرها في إرباك قوات الاحتلال وسلوكات زعماء البنتاغون منذ أواخر العام 2003، أي بعد شهور معدودة من الاحتلال. فإنهم كانوا مُربكين وقلقين من تأثير خسائرهم في الأرواح والمعدات والأموال.
كان استمرار المقاومة العراقية وثبات أدائها، مع ابتكارات جديدة في معارك المواجهة، سواءٌ أكانت في الميدان العسكري، أم في الميدان السياسي، فعل المخدِّر الذي يشوِّش الرؤية أمام صقور الإدارة الأميركية. ولأنه لم يترك لها فسحة من الوقت لتستخدم أساليب التضليل والخداع لتهدِّأ موجات الغضب في الشارع الأميركي، إنصاعت أخيراً لتعلن عن بعض خسائرها البشرية في معاركها مع المقاومة. لذا كان الإعلان أكثر من مألوف عادتها.
2: المشهد السياسي: لقد بذلت إدارة جورج بوش جهداً كبيراً من أجل توفير إمكانيات دولية، سياسية وعسكرية، لمساعدتها على تخفيف مآزقها في العراق. لكن ما قدَّمه لها المجتمع الدولي لم يتجاوز التواطؤ السياسي لمصلحتها في عدد من قرارات مجلس الأمن الدولي. تلك القرارات وإن خفَّفت عنها العبء السياسي إلاَّ أن إصرار المقاومة على تنفيذ منهجها السياسي الاستراتيجي جعل من تلك القرارات مظلة واهية.
ولأن الإدارة الأميركية لم تستطع حماية قراراتها المنفردة في احتلال العراق، على الرغم من امتلاكها أكبر ترسانة عسكرية في العالم، فهي لن تستطيع أيضاً حمايتها بقرارات دولية منزوعة الأنياب، خاصة وأن أنياب المقاومة تحمل لجنودها السم الزعاف.
و لما عجزت إدارة الاحتلال عن جر العراقيين إلى حرب أهلية مسمومة برياح المذهبية والعرقية. ولما كانت لبعض الأنظمة العربية مخاوف من سيطرة لون مذهبي واحد، يدين لإيران بالولاء، راحت تعمل لخلق توازن طائفي بتقوية اللون المذهبي الآخر، ودفعه إلى المشاركة في العملية السياسية الأميركية المشبوهة في العراق. فكانت معادلات الحل السعودي تستند إلى الثوابت الأميركية في تقسيم العراق دويلات طائفية وعرقية.
كل ذلك يجب أن يمر عبر الدستور العراقي الذي أقر على الطريقة الأميركية، وأن يُستكمل تعميده في انتخابات 15/ 12/ 2005.
لكل تلك الأسباب اندفعت إدارة جورج بوش إلى الاستنجاد بعملائها من الأنظمة العربية لتقديم العونيْن الأمني والعسكري. ومن هنا ابتدأت حكاية دور جامعة الدول العربية. ودخولها على خط المعالجة الطوعية ظاهرياً المأمورة أميركياً، مضموناً وواقعاً.
لقد تمَّ إقرار الدستور بمسرحية استفتاء لا تخفى على المراقب وسائل تمريره، فأميركا التي أمرت بإقراره في 15/ 10/ 2005، لن تسمح لأحد من المأمورين بأقل من أن يُخرج المسرحية كما ألفها جورج بوش. فجال عمرو موسى وقبله بن حلَّي، وبارك كل مظاهر الاحتلال وروحه، ورعى استقلال كردستان العراق. وفي اليوم السابع استراح على دعوة العراقيين للمصالحة في القاهرة. فانعقد المؤتمر المذكور تحت رعاية حسني مبارك، وجوقة الصمت العربي، وخرج بوثيقة «تاريخية» لـ«المصالحة العراقية» سيتم على أساسها استدعاء من صاغها وباركها وسمع نصوصها، سواءٌ أكان حاضراً في قاعة المؤتمر، أم متابعاً في خارج أروقته، إلى محاكمة سيعقدها الشعب العربي، يعلِّق بعدها المجرمين وشهود الزور على أعواد المشانق التي سينصبها المقاومون العرب، وعلى رأسهم المقاومون العراقيون.
لقد شهد العراق، في خلال هذا الشهر، جملة من الأحداث العسكرية والسياسية، وكان من أبرزها: «مؤتمر المصالحة العراقية»، ومسرحية التراشق بين السيد الأميركي وعبيده من العراقيين حول فضائح سجون عملاء الاحتلال.
ومن التداعيات التي فرضتها نضالات المقاومة العراقية مشهدان، وهما: تداعيات احتلال العراق على الداخل الأميركي، وتداعياته على أوضاع الدول المشاركة في جريمة الاحتلال.
أولاً: ما أطلق عليه الأميركيون اسم «مؤتمر المصالحة العراقية».
إنعقد المؤتمر في 19 – 20/ 10/ 2005، بدعوة من عمرو موسى، وتحت رعاية حسني مبارك «عرَّاب أميركا في المنطقة»، وحضور بيادق أميركا العرب. كما حضره «جحا الأميركي، وأهل بيته من العراقيين»، أي جورج بوش في كواليس المؤتمر، وأهل بيته أمام أضواء وسائل الإعلام. فبرز التآمر في المؤتمر مضموناً وشكلاً:
أما عن مضمونه، فجاء، بتاريخ 21/ 11/ 205، في بيان مكتب الإعلام والنشر لحزب البعث في العراق ما يلي: إنما أهدافه «تندرج في مسعى الولايات المتحدة المحموم لتجيير عجزها وتحميل فشلها الإستراتيجي والسياسي والإداري والأمني للمنظومة الإقليمية العربية برمتها، بعدما أصبح غير كاف لها دور السلطة العميلة في العراق وأدوار أنظمة عربية معينة مدمجة مع مشروعها الاحتلالي».
أما عن شكله، فبدا المؤتمر هزيلاً لأنه كمؤتمر «مصالحة»، شكلاً، كان يجب أن تحضره أطراف متقاتلة أو متخاصمة، ولما كان أهل جحا الأميركي هم الحاضرون الوحيدون، فظهر المؤتمر وكأنه مؤتمر مصالحة بين العملاء أنفسهم. وهكذا كان، لأنهم أتوا ليتصالحوا على حساب مصلحة العراق وشعبه. وظهرت سطحية المؤتمر وشكله في أشكال التصريحات والخلافات والمناقشات، خاصة تلك التي لها علاقة بتمثيل المقاومة:
1-خرج المؤتمر بفقرته السابعة، وهي فقرة شكلية يُراد منها التضليل، وتنص على أن «المقاومة حق مشروع للشعوب كافة»، فجاءت شعاراً عاماً من دون مضمون، وجاء حشرها إرضاءً شكلياً لأصحاب النوايا الحسنة من الذين شاركوا في المؤتمر رهاناً على الدور العربي المسرحي. أما المقصود الفعلي فأتى في الفقرة الثامنة التي تنص على «أن الإرهاب لا يُمثل مقاومة مشروعة»، وفيها من المقاصد ما أفرغ الفقرة السابعة من مضمونها بشكل كلي، فالمقصود الفعلي، كما يريد بوش، اعتبار المقاومة العراقية إرهاباً.
2-التصريح الذي جاء على لسان الطالباني «كرازاي العراق» وفيه يرحِّب باستقبال من يريد من المقاومة العراقية الدخول في العملية السياسية. وكأن التصريح مُعدٌّ له ليشكل فاتحة لتضليل آخر، وهو الإيحاء بأن المقاومة العراقية على أبواب تسليم سلاحها. وهذا ما تابعه المخرج الإعلامي الأميركي بالفعل. فلم ينقض من عمر المؤتمر أيام معدودة حتى أعلن موفَّق السامرائي، المعيَّن مستشاراً للطالباني، أن عدداً من قيادات القوى «المسلَّحة» استجاب للدعوة وطلب الحوار معه.
أما من كان مُستغرباً حضوره المؤتمر فهي فئات كانت محسوبة على المقاومة، وقد كشف بيان مكتب النشر والإعلام في قيادة قطر العراق اللثام عنها، وحذَّرها من أن تستمر في الارتهان السياسي لمشروع التقابل الطائفي الذي يعمل الاحتلال على إرساء النظام السياسي العميل في العراق على قواعده، « فالارتهان السياسي قد تم على أسس طائفية لجميع الحاضرين للمؤتمر عندما وافقوا صراحة على بيانه الختامي، ولا تتماهى حالتهم بعد الآن مع مشروعية وموقف المقاومة الوطنية العراقية المسلحة».
كانت خطورة مشاركة «هيئة العلماء المسلمين في العراق» آتية من أنها توفِّر الحضور السني في المؤسسات التي بناها الاحتلال. كما أن حضورها ليس وطنياً، بل جاء بناءً على قواعد اللعبة السعودية في توفير التقابل الطائفي لمواجهة ميزان القوى الشيعية العراقية التي يدعمها النظام الإيراني. تلك الخطورة آتية من أنها تمهَّد الطريق لفيدرالية طائفية لن تكتسب واقعها إلاَّ بمشاركة سُنية أولاً، والأخطر من كل ذلك أنها ستتجاوز كل المسلمات الوطنية وتضرب بها عرض الحائط بما يعني تدميراً فعلياً للنسيج الوطني العراقي، وتفتيتاً عرقياً ضاربة عرض الحائط كل المسلمات الوحدوية القومية.

ثانياً: إثارة مسألة الحريات الديموقراطية من جديد:
تمثَّلت هذه المسألة بالتداعيات التي سبَّبها الكشف الأميركي عن جرائم القتل والتعذيب في سجن الجادرية، التابع لما يُسمى بوزارة الداخلية العراقية. وإذا كان ليس المستهجن في الأمر أن يكشف الاحتلال عن جرائم تستبيح حقوق الإنسان العراقي، لأنها أكثر مما نتصوَّر، وما يجري في سجن الجادرية هو غيض من فيض من الجرائم التي يشارك في ارتكابها كل من أجهزة الاحتلال وأجهزة عملائه. أما الملفت للنظر فهو دلالات الكشف عنها في هذه المرحلة، وأسباب إثارتها في هذه اللحظة.
يريد الإعلام الأميركي أولاً أن يضغط على عملائه ويحذِّرهم، وهم على أبواب مؤتمر المصالحة العراقية، أنهم سيتعرضون لكشف جرائمهم إذا لم يستجيبوا لإملاءاته في توفير نتائج تستجيب لمخططه. وهي ثانياً رسالة موجَّهة إلى عملائه من السُنَّة في أن الاحتلال قادر على تحجيم الميليشيات الطائفية الموالية لإيران والقضاء على دابر جرائمها فوراً عندما ترضى القيادات السنية في الاندماج بالمشروع السياسي الأميركي على قاعدة مؤتمر المصالحة في القاهرة. وثالثاً، تريد أن تظهر أمام الرأي العام الأميركي، كما أمام الرأي العام الدولي، بأنها تحمي حقوق الإنسان في العراق. وتريد أن تمسح من ذاكرة الجميع أنها المسؤولة الأولى والأخيرة عن كل ما مُورس من جرائم تضعها وجهاً لوجه أمام «المحكمة الجنائية الدولية».

ثالثاً: تداعيات مأزق الإدارة في العراق على الداخل الأميركي.
إن حالة الممانعة الأميركية للحرب ضد العراق أصبحت ككتلة من الثلج يكبر حجمها كل يوم عن اليوم الذي يسبقه. ولأن جثث قتلى الجيش الأميركي تصل تباعاً، ويومياً، إلى أهلهم تتنامى مع وصولهم تلك الممانعة وترتفع.
وكلما اقترب أي استحقاق انتخابي أميركي، تزداد المعارضة الأميركية على قواعد انتخابية وتنتشر أكثر فأكثر، وتنفتح ملفات كانت منغلقة ومخبَّأَة للظرف المناسب على قاعدة المثل القائل: «خبّئ ملَّفك الأبيض ليوم غريمك الأسود». وتلك هي القوى الأميركية المعارضة والممانعة للحرب ضد العراق تنبش ملفات إدارة جورج بوش السوداء لاستغلالها في موسم انتخابات الكونغرس القادمة.
وبعيداً عن التنافس الانتخابي، الذي هو بلا شك مهم في أن يفضح أهل البيت الأميركي ملفات بعضهم البعض، وينشرون غسيل المافيات السياسية الأميركية، إلاَّ أن الأهم هو أن حالة الضمير تستفيق الآن عند قطاع واسع من الأميركيين، من الذين يمثلهم عدد من المفكرين والكتَّاب وأهالي الجنود المشاركين في الاحتلال.
تتصدَّر حركة الضمير تلك «سيندي شيهان» أمٌ لأحد الجنود الذين قُتلوا في العراق، تلك الحركة التي لا تدع منفذاً لجورج بوش يهرب منه، ولا لحظة تتركه يهنأ بعيداً عن شبح المقاومة العراقية. وبالتالي بعيداً عن هموم الدم الأميركي الذي ينزف على أرض العراق كثمن لمصالح مافيات الشركات الأميركية الكبرى.
في خلال الشهر الفائت، ازدادت حركة الاعتراض الأميركية على احتلال العراق، وأخذت المسارات التالية:
1-تقوم الحركة المناهضة للحرب، التي تتصدرها «سيندي شيهان» بعدد من التحركات المنتظمة، وهي ترفع شعارات مناهضة للاحتلال، ويتصدرها شعار «الخروج فوراً من العراق».
2-الحرب الإعلامية التي تقودها المعارضة السياسية الأميركية بكشف عدد من ملفات الفضائح التي تطول رؤوساً ومسؤولين في إدارة جورج بوش: بدءًا من كشف اسم عميلة للـ«سي آي إيه»، انتهاء بملف الأكاذيب التي حاكتها حول أسلحة الدمار الشامل العراقية، مروراً بملفات الفساد التي كشفت عن طبيعة السرقات والتزوير في موازنة الحرب في العراق، وكلها تدل على أن كبار المسؤولين فيها غاطسون حتى الأذنين بالسرقات والرشاوى والتزوير والحصول على العقود المجزية بالطرق الملتوية.
3-وكان من أهم التحركات النوعية هي تلك التي أطلقها جون مرتا، شيخ النواب الديمقراطيين في الكونغرس وخبير شؤون الامن القومي، المحارب القديم في فيتنام ومن اشد المؤيدين سابقاً للحرب على العراق. ومضمون المبادرة مخالف لكل الدعوات التي سبقتها التي كان سقفها سحب الجيش الأميركي من العراق من دون أن يظهر أنه مهزوم. فدعوة جون مرتا إلى الانسحاب الفوري مبني، حسب ما ورد في كلامه، على أن «السبب الرئيسي لذهاب أميركا للحرب ثبت عدم مصداقيته». وأضاف «اننا نصرف أموالاً على الاستخبارات أكثر من كل دول العالم مجتمعة ولكن استخباراتنا بما يتعلق العراق كانت خاطئة... وإن مستقبل جيشنا في خطر. ان جنودنا وعائلاتهم يعملون فوق طاقتهم . والكثير يقولون ان جيشنا قد كسر. وبعض جنودنا يذهبون للمرة الثالثة . والانضمام إلى الجيش يتضاءل... لقد سببت حرب العراق نقصا هائلا في قواعدنا في الولايات المتحدة... واعترف مدير مكتب الميزانية في الكونغرس بكونه (مرعوبا) من العجز في الميزانية خلال العقود القادمة... ان جيشنا يحارب في العراق منذ سنتين ونصف. وأنهى مهمته وقام بواجبه... لقد اعتقل جيشنا صدام حسين واعتقل او قتل اقرب مساعديه. ولكن الحرب تستمر بشدة . ويتزايد عدد الجرحى والقتلى وهناك اكثر من 2079 حالة وفاة مؤكدة وأكثر من 15 الف إصابة خطيرة ويقدر بأن هناك اكثر من 50 الفاً سوف يعانون من وهن القتال... واهم شيء ان حوادث التمرد ازدادت من حوالي 150 كل اسبوع إلى أكثر من 700. وبدلا من ان تنخفض الهجمات مع اضافة قوات اخرى، ازدادت بشكل هائل. لقد قلت منذ أكثر من سنة والان يوافقني الجيش والادارة ان العراق لا يمكن النصر فيها عسكريا . أرى انه قبل الانتخابات العراقية في منتصف كانون الاول يجب ان يخطر الشعب العراقي والحكومة التي ستؤلف بان الولايات المتحدة سوف تنسحب... خطتي تدعو إلى سحب القوات الامريكية فورا وبما يضمن سلامتها».
لقد ردَّت عليه إدارة جورج بوش بإحالة الموضوع إلى الكونغرس، فصوَّت أعضاؤه بالأكثرية ضد الانسحاب. فتذرَّعت الإدارة بنتائج التصويت لتوحي وكأن الشعب الأميركي يقف وراء بقاء قواته المسلحة في العراق. هذا الإيحاء لم يُقنع جون مرتا الذي ردَّ قائلاً: إن الرغبة في الانسحاب «تعبر عن إرادة شعب أمريكا كله... لقد انقلب الشعب الأمريكي ضد هذه الحرب وعارض استمرارها حتى قبل أن أدعو لانسحاب قواتنا. والمؤكد أن شعبنا يتمنى أن يجد مخرجًا من هذا المأزق، ونتمنى أن تدرك الإدارة الأمريكية ذلك». وأوضح مرتا أنه «تلقى دعمًا من مختلف شرائح الشعب الأمريكي منذ أن أطلق دعوته لسحب قوات الاحتلال الأمريكية من العراق». وتابع قائلاً: «إن لنا جنودًا لا يمكنهم التعبير عما في صدورهم, ونحن من أرسلهم إلى العراق, ونحن الذين يجب أن نتكلم باسمهم». وشدد مرثا على أنه لا يعير النقد الذي تعرض له من جانب الرئيس الأمريكي وإدارته بعد دعوته للانسحاب من العراق أي اهتمام.
وسيَّان اقتنعت إدارة جورج بوش بنتيجة نهائية تقر بعجزها عن احتواء مآزقها في العراق، أم لم تقتنع، فإن إعلان رايس عن نية الإدارة بتقليص عديد الجنود في العراق في مطلع العام القادم هي النتيجة الحتمية. ولا يقلل من القبول والإذعان للانسحاب تصريح عنجهي يصدر من هذا المسؤول الأميركي أو ذاك يصرُّ فيه على أن الأمور في العراق بألف خير.
إلاَّ أن ما يدعو إدارة جورج بوش إلى الصمود، على الرغم من الخسائر الكبيرة للجيش الأميركي، هو إنهاء آخر مرحلة من مراحل تشكيل المؤسسات السياسية العراقية طمعاً بتوقيع ستأخذه على أوراق اتفاقيات عسكرية أو اقتصادية أو سياسية. تلك اتفاقيات تتوهَّم إدارة جورج بوش بأنها ستكون ملزمة لأي حكومة عراقية ستأتي في المستقبل.
لكن ما نستطيع أن نقوله، في هذه المرحلة، ان مستقبل كل أوراق الاتفاقيات التي تمهد من أجلها إدارة بوش في الحقل العراقي لن تساوي على بيادر قمح المقاومة العراقية أكثر من حبة زؤان لا تشبع أميركا وإدارتها ولا تغنيهم عن جوع.

رابعاً: تداعيات المأزق الأميركي على حلفاء الاحتلال الدوليين:
يقول المثل العامي «إذا لم تمت، فقد رأيت حال من يموت». وهذا هو حال الدول التي شاركت الأميركيين في احتلال العراق. إن حكومات تلك الدول أصرَّت على تغليف العدوان الأميركي بشعارات «القوات المتعددة الجنسيات»، كما راحت تضلل شعوبها بأنها موجودة في العراق من أجل «إعادة إعماره»، أو أنها موجودة هناك للاسهام في محاربة الإرهاب الدولي.
للأسف لم تدفع تلك الحكومات من دم جنودها، نقولها للأسف لأنه كان عليها أن تدفع، بما يكفي لإثارة الأصوات الشعبية المعترضة. ولكنها تسمع من جانب آخر أن القوة العظمى لا تستطيع أن تتحمَّل ما دفعته حتى الآن، وها هي تُعد العدة للخروج من العراق تحت وهم تقليص أعداد القوات على الأرض. وهي ستخرج حتماً، بدءاً من عملية التقليص تلك، وحينذاك هل سيبقى سقف تتلطى به تلك الحكومات أمام شعوبها؟ وهل سيبقى سقف عسكري تتظلل به بعد خروج قوات الاحتلال الأساسية؟
إلى ذلك الحين سوف تتعرَّى تلك الحكومات كلياً، وهي تتعرى اليوم من غطاءاتها وأكاذيبها قطعة قطعة، ولن يبقى أمامها ليس وسيلة الخروج المشرِّف، بل سيكون أمامها الهرب والهرب وحده.
فنحن عندما نجمع كل أخبار ما يتم تداوله في شوارع تلك الدول، ونطل على ما يجري من تظاهرات أو دعوات إعلامية هناك، سنتوصل إلى نتيجة حتمية مفادها أن تلك الدول لن تجد أمامها متسعاً من الوقت لتفكر فيه بالخروج بغير طريقة المهانة والإذلال.
فمن اليابان، إلى شوارع سيول (عاصمة كوريا الجنوبية المستسلمة حكومتها لإدارة جورج بوش)، إلى شوارع روما التي يرئس حكومتها من هو أسير بيد المافيات الإيطالية ناهيك عن المافيات العالمية، مروراً بشوارع وارسو (عاصمة بولندا التي رسا التزام قيادة قوات المرتزقة على رئاسة حكومتها)، وجولة بشوارع لندن التي ارتضى رئيس حكومتها بأن يكون تابعاً ذليلاً لإرادة جورج بوش، وصولاً إلى شوارع نيويورك وواشنطن. كل مراحل تلك الرحلة في شوارع الدول التي راح رؤوساء حكوماتها يتواطأون على احتلال العراق، تدل على أن مرحلة الخروج من العراق آتية لا ريب فيها.

خامساً: تداعيات الاحتلال على دول الإقليم الجغرافي وعملاء الاحتلال العراقيين:
من حقائق الأمور أن استعصاء المأزق الأميركي في العراق، دفع بإدارة جورج بوش إلى التفتيش عن الخلاص في شتى الاحتمالات. ومن أهمها فرض دستور يعمِّم التفتيت المذهبي والعرقي الفعليين ويشرِّعهما، فالتقط الإيرانيون الفرصة وأجادوا اقتناصها. إن أصول اللعبة في التفتيت المذهبي تشكل المدخل المناسب لترسيخ موطأ قدم لهم، وهذا بحقيقته يسحب البساط من تحت قدميْ قوات الاحتلال الأميركي، إذ حينها يصبح العامل الإيراني شريكاً فعلياً في الاحتلال بعد أن كان عاملاً مساعداً. ولأن من يصنع السم يصبح عرضة للموت فيه، راح الأميركيون يستكملون خطتهم بالطلب من السعودية أن تلعب دوراً من داخل أصول اللعبة الأميركية، أي أن يكون مستنداً إلى قواعد الطائفية والمذهبية.
من هذا الواقع الخطير، استمرأ النظامان السعودي والإيراني طعم الدخول إلى العراق كل منهما مستنداً إلى ركائز عراقية تفتِّش عن عوامل استقواء في الخارج تستجيب لمصالحها.
أما عن أصول اللعبة ومبادئها فهي خطيرة بكل المقاييس. فهي تشكل الأنموذج الفعلي لمشروع الشرق الأوسط الكبير بعناوينه الكبرى في فرض سايكس بيكو جديدة. وحقيقتها تكمن في أنها لما فشلت النسخة القديمة منها لاستنادها إلى التفتيت على القاعدة الجغرافية، انتقل الإمبرياليون الجدد إلى سايكس بيكو الجديدة التي تأخذ العامل الطائفي الديني قاعدة للتفتيت. ويبدو أن الطائفيين من العراقيين استمرأوا طعم اللعبة فشدّوا إليهم أطماع دول الجوار العراقي. وكان النظام الإيراني أكثر الأنظمة حماساً لالتقاط الفرصة الذهبية. ولأن ما هو مبني على خطأ لن يُنتج إلاَّ خطأً آخر، كما توهَّمت السعودية كنظام طائفي مذهبي أن توفير حصتها يجب أن يكون على قاعدة سايكس بيكو الجديدة. فلعبت دور العرَّاب للتيار السُنَّي في العراق القابل بتمزيقه إلى دويلات طائفية. وتمَّ ذلك على قاعدة التوازن الطائفي – الطائفي، متناسبة مع طبيعة نظامها القائم على العشائرية والمذهبية.
تلك الوقائع تفسر الاهتمام بإنجاح مؤتمر القاهرة للمصالحة، وهو ليس أكثر من مصالحة بين التيار الشيعي المنخرط في المشروع الإيراني، والتيار السني المنخرط في المشروع السعودي. وللأسف فقد غفل النظامان عن أنهما يمهِّدان الطريق لإنجاح المخطط الأميركي.
إن النظامان المذكوران، عندما استجابا أو التقط أحدهما الفرصة لترجمة مشروعه المذهبي، فإنما يؤسسان إلى حروب أخرى شبيهة بالحروب التي كانت تجري بين الدويلات المذهبية في العصر العباسي. وهي حروب لن تنتهي فحسب، وإنما ستؤسس لحروب ماثلة في الوطن العربي أيضاً، خاصة وأن التعدديات الدينية والمذهبية منتشرة في كل المجتمعات القطرية العربية.
أما عملاء الاحتلال فراحوا يفتشون في دول الجوار الجغرافي عن البدائل لملء الفراغ الذي سيتركه تقليص قوات الاحتلال، وأدواته الدوليين. وكان من أبرزها زيارة الطالباني إلى طهران فعاد بنتائج مريحة مكلَّلة بوعود إيرانية بالمساعدة على إنهاء ما أطلقوا عليه اسم «التمرد في العراق»، أي ضرب المقاومة العراقية وإنهائها.
وليس بعيداً عن حقيقة ما يفعله الطالباني، وهو الغريق الذي يحتاج إلى قشة تنقذه من الغرق. فالمقاومة العراقية، وجزء منها يمارسه الأكراد، تشكل أكبر تهديد للمشروع العرقي الانفصالي في شمال العراق، كما هي تهديد جدي للمشروع المذهبي الإيراني في جنوبه. فليس من المستغرب، إذاً، أن يتواطأ الطرفان: الكردي والإيراني ضد المقاومة الوطنية العراقية.
فطالما أسر النظام الإيراني نفسه في سجون المذهبية فسيستمر بلعب دور خطير، وهذا الدور مستوحى من الأطماع الإيرانية التاريخية. وليس أقلها الأطماع الصفوية. لكن ما لم يتعظ به النظام الإيراني الحالي هو أن تلك الأطماع لم تتحقق في التاريخ إلاَّ في محطات قليلة وقصيرة. فهي الآن لن تكون أكبر من محطة تستمر طالما الاحتلال الأميركي سالك في العراق. وسوف يزول الحلم (الوهم) الإيراني بزواله. إن القاعدين على المصاطب المذهبية والعرقية، لن يفعلوا ما يحقق مصلحة وحدة العراق، فمصلحتهم ليست في وحدته بل في تمزيقه لأنهم بغير تفتيته لن ينالوا حصة «نظيفة» منزوعة من الألغام المذهبية الأخرى. تلك التي تؤرق جفونهم إذا ما وُجدت. وحتى ما يحلم فيه النظام الإيراني لن يكون أكثر من وهم، لأن ما يحمي وجوده في جنوب العراق الآن ليست المذهبية، فسكان الجنوب العراقي هم وطنيون وقوميون قبل أن يكونوا أي شيء آخر. بل ما يحمي الوجود الإيراني ليس إلاَّ وجود الاحتلال الأميركي للعراق. وإننا على ثقة، نقول: إن شعب الجنوب في العراق سيكون كفيلاً بطرد كل ما زرعه النظام الإيراني من عوامل قوة وستصبح مظاهر فارغة وهشة بعد أن يهرب الأميركيون منه تحت شدة ضربات المقاومة العراقية.
وإذا كانت هناك من نصيحة نسديها للنظام الإيراني فلن تكون أقل من تذكير أولياء الأمر فيه بأن المقاومة العراقية، التي وعد الطالباني بمساعدته على إنهائها، هي التي شكَّلت حماية له، ولا تزال. فهل نسي النظام المذكور أنه كان ثالث الأطراف في «محور الشر» الذي أطلقته دعوة جورج بوش الإلهية؟
لهذا لن تتوفَّر أية مصلحة لإيران في إسهامها باحتلال العراق أو تمزيقه. فمصلحة إيران تتحقق أولاً بتأجيج المقاومة المسلحة ضد الوجود الأميركي. كما الأفضل لمصلحة إيران أن تحافظ على عراق موحَّد فيكون إلى جانبها جار قوي على المشاريع الأميركية الصهيونية، خير من عراق مفتت ستأخذ حصة صغيرة منه، ولن تكون تلك الحصة إلاَّ مؤقتة ستنفلت من يدها عندما تتغير الظروف، والتغير آت بشكل سريع. وفي مثل هذه الحالة لن تحصد إيران مما تزرعه اليوم في العراق إلاَّ الشوك والندم.


(37): محكمة «رزكار محمد أمين» تستنسخ «هسام طاهر هسام»
7/ 12/ 2005
خداع والتواءات وتزوير وكذب، كلها مصطلحات لم يكن الفضل في تعميمها يعود إلينا. فهم أصحاب الضمير في المجتمع الأميركي الذين سبقونا إلى تعميمها كمواصفات لأركان إدارتهم التي يرأسها جورج دبليو بوش.
بداية علينا أن نسجِّل شكرنا العظيم لكل هؤلاء. ونبعث إليهم بتحياتنا، رافعين «العقال» -«الشماخ»- العربي تعبيراً عن تلك التحية، وعلينا كواجب للوفاء أن نقلده باسمهم ونضعه على أكتاف عميدهم «رامسي كلارك» وزير العدل الأميركي الأسبق.
استكملت إدارة جورج دبليو تلك الوسائل غير الأخلاقية، بوسيلة أخرى، التي لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة في ابتكار كل ما له علاقة بفن التمويه والخداع الديموقراطي. تلك الوسيلة تظهر باستخدام وسيلة استنساخ طبائع وسلوكات رجال إدارة بوش وقد كان أفضل مُسْتَنْسَخ لها من يُسمى الآن رئيس المحكمة التي تقوم بمحاكمة الرئيس صدام حسين ورفاقه الأبطال. كما تظهر من جانب آخر في استنساخ الشهود التي تعتمد عليها كل المحاكم الخاضعة لتوجيهات الإدارة الأميركية.
فمن تابع وقائع المحاكمة، وتفرَّس بوجه «رزكار محمد أمين»، لخرج بانطباع أن «رزكار» يمتلك وجهاً، وتعابير وجه، شبيهاً بوجه «دونالد رامسفيلد»، وزير الحرب الأميركي.
وجه «رزكار» جامد إلى حدود البلادة. وقسماته كأنها من بلاستيك مقوى. ويخال المشاهد المتابع كأن وجه «رزكار» عبارة عن قناع لم تكن مادته من لحم بشري فيه أعصاب، فهو خالٍ من أية ملامح للانفعال. وهكذا هو وجه «دونالد رامسفيلد».
حسبما تشير المعلومات المتوفرة عن «رزكار» أنه تدرَّب في الولايات المتحدة الأميركية لتمثيل دوره بشكل ممتاز، ليُظهر من الديموقراطية على طريقة جورج دبليو القناع – القشرة. وقد درَّبه علماء النفس والاجتماع، من خُدَّام إدارات الشركات، أن الرأي العام بشكل كبير يأخذ من الأمور قشورها. فهو يحكم على ما يشاهد ويرى بالعين المجردة. فعين المشاهد تتابع السلعة وتحكم على جودتها من مظاهرها الخارجية، فالسلعة من دون دم وروح، فهي إما جميلة أو قبيحة، ولا تمتلك من العوامل الأخرى شيئاً يمكن اختبار جودتها غير مظهرها الجامد الذي أُخذ من مادة جامدة.
فالمصنع النفسي الاجتماعي الذي صنع لـ«دونالد رامسفيلد» وجهه المتميز، هو نفسه الذي صنع لـ«رزكار» وجهاً شبيهاً بوجه «دونالد»، وهو ما نحسب أنه «استنساخ نفسي اجتماعي». فتماثل المدرِّب والمتدرِّب عندما أنتجا للمحكمة «الأمريكو عراقية»، خاصة وأن مئات الملايين من البشر ستنشدُّ لمتابعة وقائعها، قاضٍ جامد القسمات، ألغى كل أنواع التأثيرات النفسية، ليظهر بمظهر الممثل البارع. وعلى هذا قام «رزكار» بتمثيل دوره وأجاد.
أما فضائل صناعة الخداع الأميركية في الاستنساخ فقد بدأت بـ«الشاهد المقنَّع» الذي بنى «ديتليف ميليس»، القاضي الألماني المكلَّف بملف جريمة اغتيال الرئيس الحريري، تقريره على «شهادته»، الذي قدَّمه إلى مجلس الأمن الدولي، بتاريخ 20/ 10/ 2005.
لقد وقع «ميليس» بفخ الشاهد المقنَّع، وظهر كالصياد الذي أتى إلى لبنان ليصطاد فصاده «هسام طاهر هسام». فبدا وكأن ما بناه قد انهار. فالتحقيق الذي يستند إلى شهود على درجة من الاحتيال والخداع، كما هو حال الشاهد الذي أزال القناع عن وجهه وتكلَّم، لا بدَّ من أن يُزال القناع عن التقرير آجلاً ام عاجلاً.
وهذا «رزكار» شبيه بـ«ميليس» بأكثر من وجه. ومحكمة «رزكار» في المنطقة الخضراء في بغداد، شبيهة بكواليس لجنة التحقيق الدولية في «المونتيفردي» في لبنان:
-مهندس بنائهما واحد. يشرف عليهما: «زلمان خليل زاده» سفير الولايات المتحدة الأميركية في العراق. و«بول فيلتمان» سفيرها في لبنان.
-أهدافهما المعلنة واحدة لا تتجزأ ولا تتمايز. تصدير «السلع الديموقراطية الأميركية» إلى موطن الحضارة الإنسانية في الأمة العربية. بدأت بتصديرها إلى العراق على أجنحة صواريخ الطائرات، وفوَّهات مدافع الميدان، ناهيك عن مدافع الدبابات. هذا ولن ننسى وسائل التعذيب التي عدَّها جورج بوش كالوصايا العشر التي كلَّفه الله بتصديرها إلى دول العالم.
وللتشابه الكبير في الوسائل والأهداف وآلات التنفيذ، كان التشابه أيضاً ماثلاً في تصدير مسرحيات «الشاهد الشبح». ولذلك لم نعجب من أن يتقمَّص «هسام طاهر هسام»، الشاهد المقنَّع في «المونتيفردي»، في محكمة «رزكار» في المنطقة الخضراء.
ولم يغمرنا العجب أيضاً في أن يتحوَّل الشاهد «هسام» إلى الشاهدة«ألف»، أو الشاهد«واو»، أو إلى الشهود وصولاً إلى الـ«ياء» في محكمة «رزكار»، تلك المحكمة ليست بأكثر من محمكة «أمريكو عراقية». وهي أخت شقيقة للجنة ميليس التي ليست بأكثر من أنها لجنة «أمريكو لبنانية». كما لن نعجب من ذلك، فقد رسَّخت إدارة جورج دبليو مصنعاً لاستنساخ ما تشاء من الشهود، كما استنسخت الخونة والعملاء من قبلهم.
هنئت يا «هسام طاهر هسام» فأنت أول شاهد مقنَّع تم استنساخه في التاريخ العالمي، وحق لك أن تُسجَّل في موسوعة «غينيس»، فليست «النعجة دولي» بأفضل منك.
***

(38): المشهد العراقي في كانون الأول 2005
المأزق الأميركي في العراق إلى مزيد من التأزم
بشائر إعلان الهزيمة الأميركية
بين إعلان جورج بوش بلاغ النصر الأول في 1/ 5/ 2003، وبلاغ النصر الثاني في أواخر شهر تشرين الثاني من العام 2005، تظهر الخديعة الكبرى في السياسة الأميركية. ففي الإعلان الأول يظهر الاستعجال في السيطرة على العالم وفيه ما يدل على الكثير من الغرور والعنجهية عند تحالف المتطرفين الأميركيين الجدد: الرأسمالية القومية الأميركية، والتطرف المسيحي الذي يعيش أوهام الرسالة الإلهية، والتطرف الصهيوني الذي يعيش أوهام «شعب الله المختار».
أما في الإعلان الثاني ما يحمل على الاعتقاد الذي يشبه اليقين بأن أصحاب رسالات التطرف راحوا يعيشون خيبة الآمال بتغليف فشل مشروعهم بأوهام النصر.
فكانت المقاومة الوطنية العراقية بين الإعلانين هي اللاعب الرابح.
فإذا كان الدافع للإعلانين أهداف السيطرة على العالم بقوة السلاح، فإن دافع المقاومة العراقية كان الدفاع عن الكرامة والسيادة الوطنية. والمسافة بينهما مملوءة بالتناقض بين القيم العليا وأنفاق الاستبداد والاستعباد.
في أوائل شهر آذار من العام 2003، أي قبل أقل من شهر من العدوان الأميركي، مستهزئاً بالتهديدات الأميركية، قال الرئيس صدام حسين، الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي: «إن شرف المواطنة والوطن لا ينفصل عن إيمان الإنسان، في أي موقع كان من المسؤولية، بأن يموت من أجلهما. وذلك التزاماً بأخلاقيات الدفاع عن وطنه. وفي هذا السياق لا يمكن لأي دولة، مهما علت قدرتها وقوتها، أن تلوي إرادة شعب عندما يقرر أن يعيش حراً وكريماً». وفي الخامس عشر من كانون الأول من العام 2005، قال وهو في أسر الاحتلال ماثلاً أمام محكمة غير شرعية بكل المقاييس: « ماذا يمكن ان يتخيل العرب والعراقيون من أوضاع صدام الآن لو سلَّم بما ارادته واشنطن؟». وطلب من محاميه خليل الدليمي، أن يؤكد للعراقيين: « انه ثابت على المبادئ اكثر مما كان عليه قبل الاحتلال». فهو بذلك يكون قد وعد شعبه قولاً وأصدقه فعلاً.
في المقابل وعد جورج بوش الأميركيين قبل العدوان أن الشعب الأميركي سوف ينعم بثروات العراق بعد احتلاله. كما وعد جنوده أنهم سيعودون إلى بلادهم في غضون أشهر قليلة حاملين الورود التي سيستقبلهم بها العراقيون بعد دخول بغداد.
لقد أوفى صدام حسين وعده للعراقيين إذ دعاهم للدفاع عن كرامتهم وسيادة وطنهم، فكان أول المدافعين فنزل إلى خندق القتال أثناء العدوان، وقاد المقاومة أثناء الاحتلال. وكان أول النازلين إلى خندق النضال وهو في أسره. أصدقهم الوعد وأصدقهم الفعل: فكان أول من استقبل جيش الاحتلال في بغداد متأبطاً قاذفة الـ«بي سفن»، وأول القضاة الذي حاكم آسريه ورفع صوته عالياً في وجه المحتلين والجلادين، ورفع قبضته متحدياً حاكماً عليهم باللصوصية والكذب، وعلى عملائهم بالجبانة والخيانة أمام من احتل أرضهم فحابوه وساعدوه وخانوا وطنهم. وبهذا استحق شهادة الثائر العظيم غير عابئ بما هو خاص مقدماً للعام المثل الأعلى في التحدي والمقاومة. فيكون قد أثبت أنه المقاوم الأول قبل الاحتلال وفي أثناء العدوان وبعد الاحتلال.
أما جورج بوش فلم يف بأي وعد للأميركيين لأنه عندما قاد العدوان على العراق كان ظالماً باغياً كاذباً مخادعاً. فلم يرجع جنوده إلى بلادهم إلاَّ في النعوش أو ملاجئ الإعاقة أو المصحات النفسية، فهم بدلاً من أن يحملوا الورود حملوا العاهات، وحملتهم النعوش وكراسي المعوقين. وبدلاً من أن ينعم الأميركيون بثروات العراق نعموا بإنفاق أكثر من ثلاثماية مليار دولاراً على حرب عدوانية مدمرة ارتكبت فيها إدارتهم وأبناؤهم كل صنوف الجرائم وأنواعها، وأكثرها وحشية في تاريخ الحروب.
في معرض تقابل النتائج، فيما خطط له حزب البعث، بقيادة صدام حسين، وفيما خطط له جورج بوش، في الصراع بين قوى «الشر» التي يقودها بوش، وقوى «الخير» التي يقودها صدام حسين، أصبحت أكثر وضوحاً. حددتها بيانات قيادة المقاومة والتحرير في العراق حينما سفَّهت، بكل واقعية وموضوعية، أوهام جورج بوش التي تضمنها بلاغاه الأول والثاني، فجاء بيان القيادة الأول حاملاً عنوان «بشائر النصر، ونُذُر الهزيمة». أما البيان الثاني فجاء حاملاً عنوان «صانع استراتيجية النصر في العراق هو البعث وقائده صدام حسين».
بين المواقف السياسية التي تهدف للتعبئة المعنوية والمواقف المنطلقة من وقائع موضوعية في بيانات قيادة المقاومة والتحرير تظهر المسافات قصيرة، ففي بيانات القيادة كل الموضوعية والواقعية، وهو على خلاف ما تعودنا عليه في تجارب العرب الأخرى. فقد اعتدنا أن نتماثل بموضوعية المواقف الغربية وندعو إلى تقليدها في خطابنا السياسي، أما في أنموذج الخطاب السياسي لقيادة المقاومة العراقية فقد أصبح الأنموذج الأمثل في المصداقية والواقعية، وأصبح الخطاب السياسي على الأنموذج الغربي هو المرفوض حتى عند الأميركيين أنفسهم إلى الدرجة التي ألصقوا أوصاف الكذب والخداع في خطاب إدارتهم، أليس هناك في تلك المقارنة ما يدعو إلى الاعتزاز والفخر بالأنموذج الخطابي السياسي الذي تمارسه قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق؟
لكي نقرن النتيجة بالسبب نستعرض المشهد العراقي في كانون الأول من العام 2005. فقد شهد هذا الشهر جملة من التطورات التي ستفرض عدداً من المتغيرات اللاحقة، سنقوم باستعراضها حسب العناوين التالية:
الأول: استئناف محاكمة الرئيس صدام حسين ورفاقه: وقائع الجلسات وتقييم لها.
الثاني: الانتخابات التي قرَّرت الإدارة الأميركية إجراءها في 15/ 12/ 2005: وقائع وأهداف.
الثالث: بداية انهيار مشروع الاحتلال، وبشائر إعلان الهزيمة الأميركية بمصطلحات مضلِّلة، كمثل نقل الأمن إلى القوات العراقية بعد إنجاز العملية الدستورية، أو كمثل التخفيف من عديد القوات...

أولاً: محاكمة الرئيس صدام حسين محاكمة للأنظمة العربية والضمير العالمي
لكي نرتاح علينا أن نقتل تشي غيفارا، قالها رفاق تشي غيفارا، الثائر الأميركي الجنوبي رفيق فيديل كاسترو. ولما سألهم عن السبب أجابوا أنه عندما نقتلك كأننا نقتل الضمير فينا، وعندما يُقتَل الضمير نرتاح من أعباء الثورة لأننا لن نمارسها بعد موت الضمير على الإطلاق.
هكذا هو حال حكومات النظام العربي الرسمي، وحال النخب العربية المنساقين في مخططات الرأسمالية الأميركية. فاجتمعوا كلهم في تحالف واحد يطلبون رأس الضمير الثوري العربي.
إن ضمير الثورة العربية الآن، وقبله وبعده، ماثل في الفكر الشعبي المقاوم، وإن من يمثِّله أصدق تمثيل، قولاً وعملاً، هو الرئيس صدام حسين الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي.
عملوا على افتعال الأكاذيب لتشويه صورته الرمزية بشتى الوسائل والأساليب، وفشلوا. وحاولوا، مع عملائهم، لاغتياله معنوياً، وفشلوا. عملوا على إذلاله في طريقة اعتقاله، وفي سجنه، فلم يحصدوا إلاَّ الفشل. وفي المقابل ازداد حجمه المعنوي بعد أن انكشفت كل أكاذيبهم التي حاكوها عنه. وهؤلاء هم الآن يجددون وسائل إذلاله أمام محكمة صورية عينَّوها لعلَّها تنجح فيما فشلوا فيه سابقاً. وفشلوا أيضاً. ألم يعبَّر رئيس لجنة العدل في الكونغرس الأميركي عن هذا الفشل الذريع عندما صرَّح غاضباً من خطورة إظهار صدام حسين على شاشات التلفزة؟
أرادوا أن يقتلوا الضمير في الأمة أمام محكمة مهزلة، لكن الضمير دقَّ أول مسمار في نعش الاحتلال وعملائه، عندما سرق الرئيس الأضواء وحوَّل محاكمته إلى محاكمة لهم جميعاً، أدهشت حتى الذين كانوا لا يزالون مضلَّلين بنظرتهم العدائية للبعث وقائده صدام حسين.
لم تكن محاكمة صدام حسين من أجل تطبيق الديموقراطية، فتلك كذبة كشفها الشعب الأميركي. ولم تكن لأهداف جنائية لأن إدارة بوش الإبن على يقين بأن كل التهم التي تمَّ توجيهها قبل الاحتلال وبعده بقليل ليست صحيحة على الإطلاق، وهذا ما يكشفه السؤال التالي: أين أصبح الاتهام بالمقابر الجماعية؟ وأين هي تهمة مجزرة حلبجة؟ وأين وأين؟؟؟ لماذا اختزلتها الإدارة الأميركية بقضية «الدجيل» التي يؤكد المحامون أن الشهود عليها أمام محكمة «رزكار محمد أمين» هم الجناة الذين تجب محاكمتهم؟
فللمحكمة أغراض أخرى غير غرض «مهزلة الديموقراطية»، وغير الغرض الجنائي. أمرت إدارة بوش بإجرائها لأغراض دعائية لتضفي شرعية على حكومة عراقية معيَّنة عرجاء. كما أنها توجِّه من خلالها رسالة لتخويف المقاومة العراقية، وهي تريد مقايضة قائدها بإنهاء المقاومة المسلَّحة. فكان رد قيادة المقاومة سريعاً، إذ بناء لرغبة قائدها صدام حسين، أعلنت أن المطلوب سلامة العراق وليس غير سلامة العراق على الإطلاق.
فلو أراد صدام حسين أن ينجو بسلامته الشخصية لكان استجاب للإملاءات الأميركية واقتسم ثروات العراق مع الأميركيين شأنه شأن من يتربعون الآن على عروش من آبار النفط. ولكنه يعتبر التواطؤ على ثروات العراق تواطؤاً على العراقيين وهي خيانة موصوفة، فاتَّخذ القرار الذي تمليه عليه كرامة شعبه وسيادة وطنه. ولهذا قال وهو في الأسر، كما جاء على لسان محاميه «أتشرف بان يكون عيبي الوحيد أنني لم أخن العراق».
لم تكن فضائل صدام حسين أنه ظلَّ أميناً لمبادئه كما للعراق فحسب بل كان ، على الرغم من وجوده في قلب دائرة الخطر، أميناً للدفاع عن كل القيم الإنسانية واقفاً في خندق الدفاع عن كل شعوب العالم المسحوقة بجبروت «ديكتاتورية الإمبراطور الأميركي» أيضاً.
ولن نضيف الشيء الكثير عما حدده المحامون ورجال القانون عن تلك المحاكمة المهزلة، كما عن أنها غير شرعية بكل المقاييس، ليس أقلها المطالبة بمحاكمة المجرم الحقيقي «الديكتاتور جورج بوش» وإدارته، بل ما نقوله إن الاحتلال الأميركي يداوي جراحه التي أثخنته بها المقاومة العراقية بمسرحيات أراد منها أن يُظهر الأبطال أقزاماً، وأن يساوم على حياتهم في إنهاء ما خططوا له من أجل الدفاع عن كرامة الوطن وسيادته، فظلَّ الأبطال، على الرغم من أنف المعتدين، أبطالاً. ليس هذا فحسب بل أيضاً، وفي الوقت الذي يريد الاحتلال أن يُضعف المقاومة بمساومتها على حياة قائدها، وجَّه القائد رسالة من على منصة المحكمة، ستكون الحافز الأكبر لها في تصعيد عملها ونضالها حتى خروج آخر جندي محتل من أرض العراق.

ثانياً: الاستحقاق الانتخابي في الخامس عشر من كانون الأول من العام 2005
لم تحز الانتخابات على أية شرعية إنسانية حسب القانون الدولي، فهي تجري تحت رعاية احتلال غير شرعي. فالقانون الدولي لا يبرر كل صيغ التزوير التي وُضعت لإلباسها الثوب الشرعي، فتلك الصيغ استُخدِمت فيها أحابيل وخُدعاً قانونية أسهمت في إخراجها المؤسسات الدولية تحت ضغوط أميركية متعددة الاعتبارات والأسباب والعوامل. واستغلها النظام الإيراني لاقتطاع حصته من جغرافية العراق المذهبية.
تعود بداية الخدع في تشريع انتخابات الخامس عشر من كانون الأول إلى القرار 1546، تاريخ 8/ 6/ 2004. في حينها، وبفعل الضغط الذي شكَّلته المقاومة العراقية على وجود الاحتلال لجأت إدارة جورج بوش، بنصيحة من خبرائها وسياسييها، إلى تدويل القضية العراقية. ولن يكون التدويل عملياً إلاَّ بالاستعانة بالدول التي كانت تلك الإدارة قد قطعت علاقاتها معها تحت تأثير مخدِّر النصر العسكري النظامي الذي أحرزته في العراق. وحينذاك أعلنت غضبها على الدول التي مانعت العدوان والاحتلال. لكن ولأنها وقعت في مأزقها الكبير راحت تساوم تلك الدول للحصول على مساعدة تخرجها من المأزق المذكور لقاء وعد يحقق مصالحها الاقتصادية في العراق. وعلى قاعدة المساومة تلك وُلد القرار 1546.
تقوم المساومة، حسب مدلولات القرار 1546، بحيث يُشرِّع مجلس الأمن الدولي وجود الاحتلال الأميركي بإلغاء صفة الاحتلال عنه، حيث جاء في ديباجة القرار: «وإذ يتطلع تحقيقا لهذه الغاية إلى إنهاء الاحتلال وتولي حكومة عراقية مؤقتة مستقلة وتامة السيادة لكامل المسؤولية والسلطة بحلول 30 حزيران/يونيه 2004»، وتحويله إلى «قوات متعددة الجنسيات» تبقى في العراق شكلياً تحت راية الأمم المتحدة، طبعاً بطلب من حكومة عراقية غُلِّفت بغطاء شرعي. وفي المقابل تتحقق مصالح الدول، الطرف الآخر في اتفاقية المساومة، في تسليم الملف العراقي للأمم المتحدة التي تحلم تلك الدول أن إخراج العراق من راية الاحتلال إلى راية السيادة فيها ما يضمن جزءاً من سلطة دولية تسمح لها بأن تكون طرفاً في اقتسام «كعكة العراق». ومن أجل توفير وسيلة لنجاح تسلل تلك الدول، رسم القرار 1546 سُبل نقل السلطة من الاحتلال الأميركي إلى سلطة عراقية مرهون استمرارها بقرار من تلك الدول الأعضاء في الهيئة الأممية على الشكل التالي:
«4-يقر الجدول الزمني المقترح للانتقال السياسي للعراق إلى الحكم الديمقراطي، ما يلي:
أ) تشكيل حكومة مؤقتة ذات سيادة للعراق تتولى مسؤولية الحكم والسلطة بحلول 30 حزيران/يونيه 2004؛
ب) وعقد مؤتمر وطني يعكس تنوع المجتمع العراقي؛
ج) وإجراء انتخابات ديمقراطية مباشرة بحلول 31 كانون الأول/ديسمبر 2004، إذا أمكن ذلك، أو في موعد لا يتجاوز بأي حال من الأحوال 31 كانون الثاني/يناير 2005، لتشكيل جمعية وطنية انتقالية، تتولى جملة مسؤوليات منها تشكيل حكومة انتقالية للعراق وصياغة دستور دائم للعراق تمهيدا لقيام حكومة منتخبة انتخابا دستوريا بحلول 31 كانون الأول/ديسمبر 2005؛
12-يقرر كذلك استعراض ولاية القوة المتعددة الجنسيات بناء على طلب حكومة العراق أو بعد مضي إثنى عشر شهراً من تاريخ اتخاذ هذا القرار، على أن تنتهي هذه الولاية لدى اكتمال العملية السياسية المبينة في الفقرة 4 أعلاه، ويعلن أنه سينهي هذه الولاية قبل ذلك إذا طلبت حكومة العراق إنهاءها؛».
لقد كانت الإدارة الأميركية مُلزمة بإنجاز الخطوات المطلوبة منها في القرار 1546، وليس هذا الإلزام مبنياً على قناعة أميركية بل لأن وجودها أصبح ضعيفاً في مواجهة المقاومة العراقية، السبب الذي أرغمها على طلب مساعدة الدول الأخرى فقدمت مساعدتها السياسية على شرط تنفيذ الشروط الواردة في القرار المذكور. وتراهن إدارة جورج بوش الآن للحصول بالسياسة على ما عجزت عن تحقيقه بالطرق العسكرية.
لقد تمَّ إنجاز كل الخطوات التي نصت عليها مواد القرار 1546. حيث كانت آخر حلقاتها في إنجاز استحقاق الانتخابات قبل حلول موعد الـ 31 كانون الأول من العام 2005. وهي بانتظار تشكيل حكومة منبثقة عن تلك الانتخابات، وهي تعمل من أجل عقد اتفاقيات معها على الصعد العسكرية والاقتصادية والسياسية تتوهَّم أنها ستكون ملزمة لأية حكومة تأتي بعدها.
لم يبق أمام الإدارة إلاَّ أن تضغط من أجل تشكيل حكومة عراقية تضمن استمرار مصالحها. وهذا مأزق آخر وقعت فيه.. أما السبب فعائد إلى تضارب مصالحها مع المصالح الإيرانية، حيث استطاع النظام الإيراني أن يوفِّر إنجاح أكثرية نيابية في انتخابات الخامس عشر من كانون الأول. ومن هنا ابتدأ المأزق السياسي لإدارة جورج بوش بحيث أصبحت مرغمة على الدخول بمساومة مع النظام الإيراني. وبه تكاثرت مآزقها: مأزقها مع المقاومة العراقية، ومأزقها مع الدول من المنظومة الرأسمالية ومأزقها الآخر وليس الأخير مع النظام الإيراني.
لقد تجاوزت إدارة بوش مأزقها مع الدول الكبرى بالقرار 1546، ونفذَّت كل موجباته. أما كيف ستستطيع أن تتجاوز مأزقها مع إيران؟ فهذا هو المطلوب إجابة واضحة عليه.
لقد جرت الانتخابات المذكورة في تاريخها المحدد، فكانت وقائعها كما خططت وأعدَّت لها إدارة جورج بوش الإبن، أما نتائجها فلم تكن تماماً كما أرادتها إذ دخل العامل الإيراني بقوة لاستغلالها لصالحه، وهذا ما أربك إدارة الاحتلال الأميركي، وأربك عملاءها من الذين يُصْدِقونها القول والفعل. أما وأن تأتي النتائج بشريك منافس فهذا ما لا يستقيم مع أطماع الاستئثار الأميركي بالعراق كله.
صحيح أن النظام الإيراني شريك فعلي للاحتلال الأميركي، تخطيطاً وعدواناً واحتلالاً، إلاَّ أن للنظام المذكور مصالح لا تتقاطع مع مصالح الاحتلال الأميركي، وهو يخطط لاستبداله باحتلال إيراني بكامل مواصفات الاحتلال.
فرصتان ذهبيتان لذئبين من غابتين مختلفتين، اتفقا على احتلال العراق ولكل منهما مآربه وأهدافه. فاستفاد كلاهما من استغفال أدواته وعملائه واستخدامهما في احتلال العراق، وفي نية كل منهما أن يخلع صاحبه متى حصل الاحتلال. فكان الاستحقاق الأخير، الماثل في نتائج انتخابات 15/ 12/ 2005، بداية لمعركة سياسية بين الذئبين يعمل كل منهما على خلع صاحبه. فلما كان الذئب الأميركي جريحاً يئن من الألم كان الذئب الإيراني مرتاحاً فلم يكن أمام الذئب الأميركي بدٌّ غير أن يدخل في مساومة مع الإيراني. فاستخدم وسائله وأدواته من أجل تسوية الأمور، فكان الجلبي وعلاوي من أهمهما، واستكمل مهمتهما بالطلب من سفيره «زلمان خليل زاده» بالاتصال مع النظام الإيراني لعلَّه يحصل على تسوية معه. فهل يكون إنقاذ رأس المفاعل النووي الإيراني هو الثمن؟ ربما. وعلى شتى الأحوال فلن تصب أية تسوية في مصلحة إدارة جورج بوش، أي تسوية تستطيع أن يعوِّض بها جزءاً من رأسماله الذي وظَّفه في عدوان تأكَّد من أنه عاد عليه بخسارة باهظة التكاليف، فهي قد دفعت حتى الآن مئات المليارات من الدولارات وعشرات الآلاف من حياة جنودها ودمائهم، والحبل على الجرار.
فمن سيكون الأكثر شطارة؟ أيكون التاجر الأميركي أم التاجر الإيراني؟
لا يفيدنا الأمر كثيراً في معرفة من هو الأكثر شطارة، فكلاهما سيخرج من العراق خاسراً. لكن ما يدفع بنا إلى الأسى والألم هو ما تشهده الساحة العراقية من كثرة في الاغبياء والمتواطئين والخونة من المراهنين على الاستقواء بالاحتلال الأميركي الراهن، أم من الذين ينتظرون خيراً من الاحتلال الإيراني لجنوب العراق. ما حصلت عليه إيران، في ظل الاحتلال الأميركي، لن يعدو كونه حلماً فارسياً تاريخياً، عجز الفرس عن تحقيقه طويلاً، إلى أن استندوا للأسف إلى الاحتلال الأميركي لكي يلتقطوا فرصة يحلمون بأنها الآن فرصة «إلهية» لن تتكرر مرة أخرى.
ففي بازار استكمال الروزنامة الأممية، أو في بازار استكمال تسوية بين الأميركي والإيراني، يبقى العراق والعراقيون هم السلعة التي يساوم أطراف الخارج على تمزيقها من أجل أن يحصل كل منهم على حصته. ونقولها وعلى كل الأطراف أن يفهموها إن حظهم كبير في المساومات لأن «السبع الأميركي» جريح. ولو كان غير ذلك لما تسنى للثعالب أن تنال شيئاً من العراق الضحية. كما عليهم أن يفهموا أن المقاومة العراقية التي أثخنت «السبع الأميركي» بالجراح لن تكون عاجزة عن أن تدمي ثعالب الجوار الجغرافي وتقطع أرجلهم وأيديهم من جذورها. وكما على الدول التي تواطأت مع إدارة جورج بوش، سواءٌ منها التي شاركت في العدوان والاحتلال، أم تلك التي تواطأت في صياغة القرارات الدولية، أن يتحسسوا رؤوس مصالحهم عندما تبدأ الهزيمة الأميركية قريباً.
ثالثاً: انهيار مشروع الاحتلال، وبشائر إعلان الهزيمة الأميركية
من خلال معرفة السقف الوحيد والكافي لتلبية أطماع مشروع الاحتلال الأميركي للعراق أولاً، وسقف ما هو متحقق منه في هذه اللحظة ثانياً، نستطيع أن نخمِّن المسافة الزمنية التي تفصل الاحتلال عن إعلان الهزيمة.
ليست الأطماع الأميركية المنصوص عليها بأقل من أن يكون العراق كله في قبضة الاحتلال. ليس هذا فحسب بل أن يكون العراق أيضاً قاعدة أمامية لإدارة جورج بوش ينطلق منها لاحتواء المنطقة كلها بما فيها إيران.
كما أن في مشروع احتلال العراق لم يلحظ المخطط الأميركي أية حصة لحلفائه في منظومة الدول الرأسمالية، بل إن عائدات الامبراطورية الأميركية المحتملة لن ينعم بقطرة منها غير الإمبراطور الأميركي وحده، سيد العالم الأوحد.
وهنا نتساءل عن مستوى سقف هذا المشروع. لنجيب بأنه أصبح في هذه اللحظة أقل بكثير مما خطط له مهندسوه في إدارة جورج بوش. وهو قابل للتخفيض طالما أن المقاومة العراقية مصممة على القتال والمواجهة.
أما السقف الراهن فيتظلل تحته مساومون كُثُر يبتزون ضعف جسد الاحتلال، ومن أهمهم:
أولهما: منظومة الدول الرأسمالية التي ابتهجت منذ أن أثبتت المقاومة العراقية كفاءتها ومقدرتها في لجم حصان جورج بوش الجامح والقافز فوق حواجزها.
ثانيهما: النظام الإيراني الذي يعمل الآن من أجل تحقيق حلمه التاريخي في اقتطاع جنوب العراق.
فبدلاً من أن تكون ثروات العراق حصة صافية نظيفة تذهب إلى خزائن الإمبراطور الأميركي نراه يجهد للحصول على حصة من ثروة كان حالماً بالحصول عليها كاملة. فهناك حصة لأوروبا وحصة لإيران. السبب الذي جعل جورج بوش مؤرقاً في أحلامه وهو يرى ثروة طالما حلم بها معرَّضة للقسمة مع أطراف أخرى.
كان من المستحيل على أوروبا العجوز، قياساً على وصف فرنسا بـ«الدولة العجوز» كما أطلق عليها بعض أقطاب إدارة جورج بوش، أن تحلم بقطرة من بترول العراق من دون التضحيات التي قدمتها وتقدمها المقاومة العراقية.
كما كان من المستحيل أن يرتفع صوت إيراني ليساوم الاحتلال على اقتطاع حصته من العراق لولا أن أجهضت المقاومة الوطنية العراقية إتمام الحلم الأميركي. بل العكس هو الصحيح تماماً لأن الحلم الإيراني الأقصى كان في التفتيش عن كيفية توفير بعض الدفاعات عن إيران، التي كانت بالكاد تستطيع توفيرها لو استقر المقام للاحتلال الأميركي في العراق.
ذلك هو السقف الواقعي للطموحات الأميركية. أو ليس ذلك مما يجب أن يدفع جورج بوش وإدارته إلى قاع عميق من الألم؟
نحن سنتصور كم سيتعمق ذلك القاع إذا قلنا بأن ما يدور من تسويات دولية أو إقليمية لن تكون هي الحد النهائي الذي يرسم مستقبل العراق. فالمقاومة العراقية التي فرضت على الاحتلال الأميركي بأن يدخل في تسويات معهم، لقادرة حتماً على تعميق مأزق كل من يتوهم أنه سيحصل على ذرة من تراب العراق أو نقطة من نفطه. فلا أوروبا ولا إيران هم من أرغم الأميركيين على إدخالهم سوق المساومات، فبفضل إعاقتها المشروع الأميركي، ولأجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من المشروع الأم كانت الإدارة مرغمة للتنازل عن حلمها الكامل. والمقاومة التي حققت تلك المكاسب لهم فهي كفيلة في المراحل القريبة القادمة أن ترغم المستفيدين من سوق المساومات أن يتنازلوا عن السقف الذي رسموه مع إدارة جورج بوش. وسيروا أنفسهم قريباً أن عليهم أن يضعوا المقاومة العراقية في الدرجة الأولى والوحيدة من اهتماماتهم إذا كانوا حريصين على مستقبل مصالحهم في العراق.
إنه لمن المؤسف، بل الأكثر أسفاً، هي تلك الحفرة المهينة التي انحدر إليها النظام العربي الرسمي. فقد غرق بشكل كلي في خدمة المشروع الأميركي. وسكت عن احتلال العراق واستكان، ولم يتحرك إلاَّ عندما تأكد بأن النظام الإيراني سيضع أقدامه على الأرض العربية. وهو السبب الذي دبَّ الذعر في قلوب حكام السعودية، فتلمسوا خطورة ما يجري فراحوا يداوون المرض الخطير بأخطر منه. ففي التقابل مع التسلل الإيراني على حصان مذهبي إلى العراق راحوا يتسللون على حصان مذهبي آخر، وهم بذلك كأنهم يحضرون الساحة العراقية لفتن مذهبية لن تنتهي بغالب أو مغلوب، بل سيكون العراق كله مغلوباً فيه. أوَ لم يصب تعريب القضية العراقية، في مؤتمر القاهرة الهزيل، في طاحونة المصلحة الأميركية؟
وباختصار لقد تطوع الجميع ليضعوا جهدهم في عملية إنقاذ للمشروع الأميركي، بما يحقق مصالحهم، المشروع الذي تحول حتى الآن إلى ميني مشروع، لعلَّهم يصيبون حصة في العراق، إلاَّ الأنظمة العربية فهي تعمل من أجل «وجه الإمبراطور الأميركي» فقط، فالقناعة لديهم كنز لا يفنى!!
تناسى هؤلاء وأولئك أن المشروع الأميركي الذي أصبح الآن ميني مشروع لن يطول المقام بالإدارة الأميركية لتُرغَم أمام ضغط الشارع الأميركي بالخروج من العراق، فالمشروع الأم لم يكن بمعادل لدماء أبنائهم، فهل سيكون الميني مشروع معادلاً؟
كل الدلائل والمؤشرات، بما فيها حركة اهالي الجنود، وحركات المكلفين الذين دفعوا حتى الآن أكثر من ثلاثماية مليار دولاراً، إلى حركة السياسيين والكتاب والصحفيين من أصحاب الضمير، إلى حركات القوى السياسية التي تخشى من الفشل في الانتخابات القادمة، إلى نقمة الضباط والجنود الذين يقاتلون في العراق، إلى انسحاب ما يقارب نصف عدد الدول التي أتت إلى العراق تحت خدعة شعار «إعادة إعمار العراق»، إلى إعلان دونالد رامسفيلد البدء بالانسحاب التدريجي للقوات الأميركية في العام 2006، وإلى إعلان بعض الحكومات التي تشارك بقوات في العراق عن برمجة لسحب جنودها، كلها مظاهر تؤكد أن الهزيمة الأميركية قد وقعت من دون إعلانها.
ونختم اختصاراً بما قاله الصهيوني يوسي ساريد في صحيفة ها آرتس الصهيونية بتاريخ 28/ 12/ 2005: «عام 2005 يوشك على اغلاق بواباته، وفي 2006 ستنتهي الحرب في العراق، لن تنتهي لأنها انتهت - هي بالتحديد في ذروتها وتصاعدها - ولكن لأنه لن يكون أمام جورج بوش خيار آخر. الحرب تعقدت وتعفنت، وكل يوم يمر يحمل في طياته ثمناً باهظاً، والرأي العام في الولايات المتحدة قد سئمها: الامريكيون يريدون رؤية جنودهم الـ 160 ألفا وهم عائدون الى منازلهم».
***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق