بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 22 يناير 2010

مقالات العام 2006 (1)

مقالات العام 2006

محتويات الكتاب
(1): هل إيران شريك في صفقة تمرير سايكس بيكو الجديدة؟ 6
(2): المشهد العراقي في شهر كانون الثاني 2006 15
(3): المشهد العراقي في شهر شباط 2006 26
(4): في العام الثالث للاحتلال الأميركي: الخلل في توازن القوى بين الاحتلال والمقاومة يميل بنقاط نوعية لمصلحة المقاومة الوطنية العراقية 42
(5): الشارع العربي الغائب الأكبر عن مواكبة القضايا القومية: الأسباب والنتائج 48
(6): المشهد العراقي في شهر آذار 2006 53
(7): النظام الإيراني فوَّت علينا فرص الفرحة بامتلاكه عوامل القوة العسكرية، والتحالفات الشاذة اللاعب الأهم في تضليل الجماهير 64
(8): دور المقاومة العراقية أثناء الاحتلال ودورها في مستقبل العراق ما بعد التحرير. 75
(9): المشهد العراقي في شهر نيسان 2006 81
(10): بعد هزيمته العسكرية في العراق: المشروع الأميركي في مرحلة التراجع الفكري والسياسي وهي قمة السقوط التي تسبق الانهيار التام. 90
(11): المشهد العراقي في شهر أيار 2006 101
(12): إلى متى المراهنة على قتل البشر وهدم الحجر وقطع الشجر من أجل مشاريع «إلهية» لا تصمد أمام حقائق التاريخ والمنطق 112
(13): إذا كانت الإدارة الأميركية مسؤولة عن جنودها أمام أُسَرِهم: فمن المسؤول عن الشعب العراقي أمام الله والتاريخ؟ 123
(14): المحامي خميس العبيدي: مقاوم يحمل سلاح القانون يشمخ شهيداً. 127
(15): المشهد العراقي في شهر حزيران2006 131
(16): عبير ذبيحة الشرف العربي تلعن شرف الصامتين والخونة 138
(17): إلى دول الجوار العراقي، والعراقيين اللاهثين وراء حلول سريعة: ليكن هدفكم الانحياز إلى تحرير العراق وإعادة توحيده أولاً 141
(18): الحلقات المفقودة في المواجهة الدائرة في لبنان وفلسطين والعراق 145
(19): الحلقات المفقودة دولياً وعربياً وإقليمياً في المواجهة في لبنان. 152
(20): المشهد العراقي: شهريْ تموز وآب 2006. 159
(21): كوندوليزا إلى لبنان: أمامكم خياران: «أمن إسرائيل»، أو «أمن إسرائيل» 164
(22): من يتحمَّل مسؤولية انفلات «عفاريت» الفتن الطائفية في العراق من قماقمها؟ 171
(23): حروب الاستتباع للاحتلال الأميركي للعراق تبدأ فصولها تباعاً 182
(24): استنكار اعتقال الصحفية كلشان البياتي 186
(25): الدكتور فاضل البدران يدفع من حريته ثمناً تستحقه حرية وطنه 187
(26): المقاومة الوطنية العراقية تعيد للفكر القومي العربي حيويته 188
(27): المشهد العراقي في شهر أيلول 2006 203
(28): المقاومة الوطنية العراقية تركِّب لمعاقي الأنظمة الرسمية أرجلاً 210
(29): فصائل المقاومة العربية: أفكار في التمايز والتكامل والتوحَّد 217
(30): المشهد العراقي في تشرين الأول 2006 229
(31): تبادل التهم بين الاحتلال وعملائه تؤكد أن الاحتلال الأميركي بدأ مرحلة العد العكسي للهروب من العراق. 232
(32): أجوبة عن أسئلة وجَّهها السيد زحل بن شمسين 239
(33): الحزب الديموقراطي، بالدعوة للتفاوض مع إيران وسورية حول العراق، يبدأ بالخطوة الخطأ 246
(34): المشهد العراقي في تشرين الثاني 2006 251
(35): وفي اليوم السابع استراح بيكر : رؤية في احتمالات مرحلة ما بعد تقريره. 257
(36): في الذكرى الرابعة لأسر الرئيس صدام حسين. 262
(37): المشهد العراقي في كانون الأول: الإدارة الأميركية تجازف بالمئات من حياة جنودها في المعركة الأخيرة مع المقاومة العراقية. 266
(38): أية ديموقراطية نريد؟ وأية عدالة اجتماعية نختار؟: أفكار لصياغة برنامج سياسي اجتماعي اقتصادي في لبنان 274
(39): أمراض الأمة الطائفية جعلتها أقلَّ حصانة ومناعة. 286
(40): ما لم يقله الشهيد الرئيس في الحاكم العربي 289

(1): هل إيران شريك في صفقة تمرير سايكس بيكو الجديدة؟
في 6/ 1/ 2006
كدنا نسدل الستار على ذاكرتنا عن الحرب العراقية الإيرانية، خاصة فيما له علاقة بفضيحة «إيران - غيت» التي ارتكبها النظام الإيراني عندما قام بشراء أسلحة من العدو الصهيوني، لولا أن أرغمنا ما يجري تنفيذه الآن في العراق والذي نستدل من خلاله أن تلك الفضيحة لم تكن منفصلة عن المسار الاستراتيجي للنظام الإيراني في المنطقة عامة، والأمة العربية خاصة، ويتمثَّل بالموقف من أسس الصراع العربي - الصهيوني من جهة، والعربي – الأميركي من جهة أخرى.
مما لفت نظرنا هو أن اتفاقية تقسيم الأمة العربية من خلال «اتفاقية سايكس بيكو» القديمة لم تعد أسسها تلبي حاجة الاستعمار والصهيونية لذلك تمت صياغة اتفاقية جديدة تقوم على أسس تفتيت المنطقة على أسس طائفية. ولما استقرأنا أن ما أعده النظام الإيراني، إيديولوجياً وسلوكاً سياسياً، يتقاطع مع أسس تلك الاتفاقية أرغمتنا تلك الفرضية على وصل السابق باللاحق، أي وصل فضيحة «إيران غيت» بما لحق بها ولا يزال من فضائح أخرى لا يمكن الفصل بينها.
من المعروف أن سايكس بيكو الجديدة، كمشروع تقوم بتنفيذه إدارة جورج بوش، بالتنسيق الكامل مع الصهيونية العالمية من خلال ربيبتها «إسرائيل»، تقوم على إعادة رسم خريطة المنطقة على قواعد جغرافية الطوائف الدينية والعرقيات القومية. ويحتاج نجاح الاتفاقية الجديدة إلى توفر عاملين أساسيين:
العامل الأول، وهو وجود إيديولوجيا سياسية طائفية في المنطقة مستندة إلى قوى تنخرط في تنفيذها، وتقوم بحمايتها.
أما الثاني فهو عامل قبول التعايش مع الوجود الصهيوني في المنطقة كمتمم للجغرافيا الطائفية والعرقية. وهذا العامل لا يمكن أن يكتمل من دون الانخراط في تحالف مع الاستعمار الأميركي ومساعدته على إنجاح مخططه الجديد.
يأتي تلازم العاملين معاً لأنه لا يمكن قبول الكيان الصهيوني إلاَّ في منظومة فيدراليات طائفية في المنطقة من جانب، ولأن المنظومة الطائفية لا يمكن أن تكتمل إلاَّ بوجود كيان طائفي لليهود في المنطقة من جانب آخر. فقيام سايكس بيكو جديدة لا شك بأنه سيكون الحصان الذي ستبرر به «إسرائيل» وجودها بعد أن تمَّ رفضها كوجود سياسي يتناقض مع أهداف الوحدة العربية. فالاعتراف بالفيدرالية الطائفية هو تمزيق جديد للمنطقة بكاملها، ومنها وأهمها تمزيق الأمة العربية، ودفن واجتثاث لأي فكر وحدوي إلى الأبد. وهو بالتالي إفساح يؤدي إلى الاعتراف بحق اليهود بفيدرالية خاصة بهم.
على قاعدة أسس هذا المشروع تتلاقى أنظمة الطوائف الدينية، ذات الإيديولوجيات المذهبية الدينية، مع المشروع الأميركي الصهيوني. وإن هذا يؤدي إلى طرح التساؤل التالي: أين إيران من هذا المشروع؟
لموضوعية الإجابة عليه لا بدَّ من أن نعلم نظرياً هوية النظام الإيراني الإيديولوجية أولاً، وأن نعلم ثانياً ما هي الإسهامات السياسية العملية التي يقدمها النظام الإيراني في سبيل إنجاح هذا المخطط.

أولاً: هوية النظام الإيراني الإيديولوجية تستقيم مع أية حالة تفتيتية:
يتلطى النظام المذكور بإسلامية ثورته، فهل صحيح أن الثورة الإيرانية هي ثورة إسلامية؟
إن جوابنا على هذا التساؤل يقتضي أن تعترف كل الطوائف الإسلامية بأن هذا النظام يمثلها. وهذا يقتضي أن يكون مؤيداً من قبل الأنظمة التي تدَّعي بأنها إسلامية أيضاً. وهذا يستدعي أن تكون السعودية والباكستان، مثلاً، مقتنعتان بإسلامية الثورة في إيران. فهل هذا حاصل فعلاً؟
فلو حصل ذلك لكان على كل نظام إسلامي يعترف بإسلامية النظام الإيراني أن يتنازل عن ثوابته المذهبية لمصلحة الثوابت المذهبية للنظام الإيراني. أما ثوابت ذلك النظام فيختصرها الخميني في ما سمَّاه «الوصية الإلهية» بطلبه من المسلمين أن يقتدوا بالأئمة، وأن «لا ينحرفوا قيد أنملة عن الفقه التقليدي الذي هو عطاء مدرسة الرسالة والإمامة… سواء الأحكام الأولية منه أم الأحكام الثانوية …وأن لا ]يسمعوا[ إلى أي وسواس خنَّاس معاند للحق والمذهب. وليعلموا أن أية خطوة منحرفة تشكل مقدمة لسقوط المذهب والأحكام الإسلامية، وحكومة العدل الإلهية».. ويقول أيضاً: و«نرى أن الملك فهد [ملك المملكة العربية السعودية] ينفق سنوياً مبلغاً هائلاً…لطبع القرآن الكريم،وللدعاية إلى المذهب المعادي للقرآن،ولنشر الوهابية،هذا المذهب المليء بالخزعبلات والخرافات…».
سـعيد حـوَّى (عضو المكتب السياسي لأحد تيارات الإخوان المسلمين في سوريا) يقول في معرض انتقاده للخمينية: على عكس ما ادَّعى الخميني أن الثورة الإيرانية هي ثورة إسلامية «فإذا بالخميني هذا يتبنَّى كل العقائد الشاذة للتشيع عبر التاريخ؛ وإذا بالمواقف الخائنة للشذوذ الشيعي تظهر بالخميني وبالخمينية، فكانت نكسة كبيرة، وخيبة أمل خطيرة».
أما رأي المذهب الوهابي في المذاهب الأخرى، ومنها المذهب الحاكم في إيران، فحدِّث ولا حرج.
لم نستأنس بتلك الآراء، وننبش عنها، تأييداً لهذا أو نفياً لذاك (فكل مذهب بما لديهم فرحون)، بل لنعطي مثلاً على أن الأنظمة التي تدَّعي أنها إسلامية ليست بأكثر من أنها أنظمة طائفية سياسية. فلو كانت كما تدعي لكان من الواجب أن تلقى إجماعاً من الأنظمة الأخرى من جانب كما أن تلقى إجماعاً من المذاهب والتيارات الإسلامية الأخرى من جانب آخر. ولأن هذه المسألة طويلة وشائكة قمنا بمعالجتها في كتابنا «الردة في الإسلام»، لذا اقتضى مجال مقالنا الحالي أن نقوم بإطلالة سريعة نريد منها أن نثبت أن النظام في إيران نظام مذهبي، أي طائفي سياسي، يعمل من أجل المذهب، كما يعمل من أجل تأسيس نظام سياسي يجتذب إليه شيعة العالم. وهذا يحمل دلالة واضحة على أنه منخرط، أو هو على استعداد لينخرط، في تقسيم المنطقة على قاعدة إثنية الطوائف. وهذا يدل على أن فيدراليات الطوائف لا يمكن إلاَّ أن تكون من أهم أهدافه السياسية. ولهذا السبب فمن غير المُستهجًن أن تتلاقى أهدافه النظرية مع قواعد سايكس بيكو الجديدة وأسسها.

ثانياً: الفيدرالية الطائفية السياسية، تحدد المسار الإيراني الفعلي في تقسيم المنطقة كلها، ومنها الأمة العربية انطلاقاً من العراق:
1-الذاكرة التاريخية للسلوك السياسي الإيراني تبرهن على وجود مقدمات في العلاقة مع العدو الصهيوني تضرب شعارات النظام «الثورية» عرض الحائط:
بداية ننقل نص الحوار الذي أجرته قناة الجزيرة القطرية مع أبو الحسن بني صدر الذي كان شاهداً على بدايات تلك الحرب ومتابعاً لإسرارها من موقع رئاسته لجمهورية إيران. وقمنا بنقل ما له علاقة بتلك الفضيحة من الرابط التالي:
arabic.islamicweb.com/shia/interview_baniSadr.htm - 31k
وهذا نص الحوار بين المذيع والرئيس بني صدر:
س- تحدثنا عن موضوع الحرب الإيرانية العراقية ومررت إلى إسرائيل ، هل كنت على علم بوجود علاقات معينة مع إسرائيل لأجل الحصول على السلاح؟
ج- في المجلس العسكري أعلمنا وزير الدفاع أننا بصدد شراء سلاح من اسرائيل ، عجبنا كيف يفعل ذلك ، قلت: من سمح لك بذلك ، قال: الإمام الخميني ، قلت هذا مستحيل !
قال : أنا لا أجرؤ على عمل ذلك لوحدي. فسارعت للقاء الخميني وسألته: هل سمحت بذلك ؟ قال : نعم إن الإسلام يسمح بذلك ، وإن الحرب هي الحرب. صعقت لذلك ، صحيح أن الحرب هي الحرب، ولكنني أعتقد أن حربنا نظيفة، والجهاد هو أن نقنع الآخرين بوقف الحرب والتوق إلى السلام، نعم هذا الذي يجب عمله وليس الذهاب إلى اسرائيل وشراء السلاح منها لحرب العرب، لا لن أرضى بذلك أبداً، حينها قال لي : إنك ضد الحرب، وكان عليك أن تقودها لأنك في موقع الرئاسة.
س- السيد الرئيس، السؤال فعلا محرج ، كيف أن الخميني الذي قاد كل هذه الثورة الإسلامية، ووضع القدس واستعادتها وحماية فلسطين في أولوياته كيف يمكن أن يشتري السلاح من اسرائيل؟! حين نسمع منك هذا الكلام لا نستطيع أن نصدق شيئا مماثلاً.
ج- حتى اليوم وقبل ستة أشهر كان الإسرائيليون ألقوا القبض على بعض المواطنين المتورطين في بيع الاسلحة لإيران، لقد حاولت منع ذلك -شراء الأسلحة من إسرائيل- خلال وجودي في السلطة وبعدها كانت إيران-غيت ، ما معنى إيران-غيت؟ كان أنها فضيحة شراء الأسلحة الأمريكية عبر إسرائيل.
س- قلت إن الخميني قال لك: إذا لم ترد أسلحة عبر اسرائيل فتش عن دول أخرى، من هي الدول التي أعطتكم السلاح في بداية الحرب؟
ج- بالنسبة للخميني كان شراء الأسلحة مسموحاً به من كل مكان حتى من اسرائيل، شكلت آنذاك لجاناً ذهبت إلى أوربا وإلى مصر لأن هناك عقودا بينهم وبين الشاه. (انتهى نص المقابلة).
من وقائع أجوبة بني صدر، تدل على أن النظام الإيراني حتى في أقصى مغالاته في إعلان عدائه للكيان الصهيوني، كان يشرِّع شراء الأسلحة منه. ومن ضمنها شراء أسلحة أميركية عبر ذلك الكيان. فهل كانت الولايات المتحدة الأميركية تعمل من أجل تمهيد لتطبيع العلاقات بين النظام الإيراني والكيان الصهيوني من خلال بيع أسلحة لإيران عبر «إسرائيل»؟
قلنا في البداية أننا كدنا أن نمسح من ذاكرتنا تلك الفضيحة لولا أن جاء ما يفرض ربطها بما يحصل الآن. فما هو الذي حصل؟
2-السلوك الراهن للنظام الإيراني، في العلاقة مع العدو الصهيوني، استئناف للسلوك السابق:
لا بدَّ في البداية من أن نعترف بأن النظام الإيراني قدَّم إمكانيات مادية وإعلامية كثيفة لحزب الله في لبنان من أجل تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الصهيوني، وقد أنجز الحزب خطوات كبيرة لاقت تأييداً وطنياً لبنانياً عارماً، وترافق هذا التأييد مع احترام واضح على المستوى القومي لما تحقق. إلاَّ أن تلك الوقائع لا يجوز أن تثنينا عن الإشارة إلى التناقض الذي يسود المواقف الإيرانية في النظر إلى ما جرى في لبنان، وما جرى، ولا يزال يجري، في العراق.
أن تقاتل، أو تدفع لمن يقاتل العدو الصهيوني في لبنان، بينما تعاون وتنسِّق في العراق مع من يحمي العدو الصهيوني ويقدِّم له كل أسباب القوة في فلسطين ولبنان، لهو أمر أكثر من مُستغرَب وأكثر مما يثير الانتباه والشكوك. فأن تعرف من هو الشيطان، وتصر على التعاون معه، لهو أمر أكثر من محيِّر ومُستغرَب.
فمن المنطقي أن يكون شعار «إزالة إسرائيل من الوجود»، مترافقاً مع قتال «إسرائيل» في لبنان، ومساعدة من يقاتلها في أرض فلسطين المحتلة. إلاَّ أنه من غير المنطقي أن تفتح الأبواب لها في العراق ، وتتركها تسرح وتمرح من جنوب العراق إلى شماله.
من المنطقي أن تعتبر أميركا «الشيطان الأكبر»، لأنها فعلاً «شيطان أكبر». لكن من غير المنطقي أن تكون أميركا حليفاً تقدِّم له كل المساعدة لتنفيذ مخططاتها الشيطانية. ولا تقف الأمور عند هذا الحد فحسب، بل وأن تتباهى بتقديمك تلك المساعدة أيضاً.
عندما أجاز الخميني لبني صدر أن يحصل على السلاح من «إسرائيل» لأن الإسلام يسمح بذلك، كون هذا السلاح يوفِّر للنظام نصراً ضد العراق، يكون قد أسَّس لفتوى تجيز التنسيق مع «إسرائيل» «الشر المطلق» ومع أميركا «الشيطان الأكبر» حول العراق لاقتطاع قسم منه، وهو حلم كابر في القتال من أجله ثمان سنوات. ولما فشل اغتنم فرصة مشروع «الشيطان الأكبر» والـ«شر المطلق» من أجل تحقيق مصالح النظام الإيراني لتأسيس فيدرالية في جنوب العراق، تمثِّل قاعدة إيرانية للانطلاق باتجاه العمق العربي. وكأن هذا التنسيق ليس أكثر من سلاح يستخدمه النظام من أجل إنجاح مخططاته. فالسماح بشراء السلاح من «إسرائيل» في الثمانينيات من القرن العشرين للعدوان على العراق شبيه في استخدام العدوان الأميركي على العراق والاستفادة منه في أوائل القرن الحادي والعشرين، والتسلل جنباً إلى جنب العدو الصهيوني للاستيلاء على حصة من «كعكة العراق». أما الدلائل فهي كثيرة، والوثائق أكثر. وليس أقلها المظاهر التالية:
أولاً: على صعيد الاستجابة لتقسيم المنطقة والأمة العربية وفقاً لحدود الفيدراليات الطائفية:
1-إعلان إيراني مكشوف، وصل إلى حدود التباهي، مضمونه أنه لولا إيران لما استطاعت أميركا الدخول إلى كابول وبغداد.
2-مشاركة عملاء إيران في احتلال العراق، كمثل «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق»، و«قوات بدر»، و«حزب الدعوة»، قادمين على دبابة أميركية، ودعم سياسي ولوجستي إيراني.
3-المشاركة بالعملية السياسية التي حددت أميركا شروطها واتجاهاتها في العراق.
4-ملاحقة كل من يُظهر، أو حتى يُبطن، نوايا مقاومة الاحتلال. وإما اعتقاله وتسليمه لقوات الاحتلال الأميركي، وإما قتله.
5- تأسيس ميليشيات طائفية، كانت قد تلقَّت تدريبها في إيران، ومن مهماتها الرئيسية أن تزرع الفتن الطائفية. وكل وقائع الأمور في السجون العلنية والسرية التي غطَّتها بيافطات «الشرطة العراقية» تبرهن بما لا يقبل الشك بضلوع تلك الميليشيات في العمل على تفتيت العراق عبر تفتيت النسيج الوطني فيه.
6-الإصرار على دستور ينص على الاعتراف بحقوق الطوائف، على حساب الحقوق الوطنية، ومنها الاعتراف بحق الخيانة الوطنية كحق ديموقراطي. كما الاعتراف بحق الطوائف بالانفصال على قاعدة الفيدرالية. وإن الإصرار على الفيدرالية يتلاقى مع استراتيجية تقسيم الإقليم والأمة العربية بناء لخطوط جغرافية الطوائف.
إن في تلك المظاهر والعوامل والمتغيرات، التي تُنفَّذ بمباركة ومساعدة إيرانية تصل حدود الإصرار، واعتبارها ثوابت في عراق محتل يتم تمزيقه، ما يثبت بما لا يقبل الشك، أن النظام الإيراني ضالع في توفير العامل الأول من شروط فرض اتفاقية جديدة لسايكس بيكو. ويتلخص هذا العامل بوجود قوة إقليمية ذات هوية إيديولوجية مذهبية تسهم في حماية تلك الاتفاقية لأن لها فيها مصلحة استراتيجية، إيديولوجياً وسياسياً.

ثانياً: على صعيد الاستجابة للاعتراف بحق اليهود بفيدرالية دينية:
إن التعاون مع الولايات المتحدة الأميركية ليس منفصلاً عن التعاون مع الصهيونية العالمية بشكل عام ومع كيانها في فلسطين المحتلة بشكل خاص. فالمشروع الأميركي ليس منفصلاً عن المشاريع الصهيونية، سواءٌ أكانت اتجاهاتها إيديولوجية دينية، أم كانت إيديولوجية رأسمالية. فزراعة الكيان الصهيوني حسب اتفاقية سايكس بيكو القديمة كانت على أسس جغرافية تمتد فيما بعد على المساحة الجغرافية للوطن العربي.
ولما استمر الرفض العربي للوجود الصهيوني على قاعدة أنه وجود يتناقض تماماً مع الاتجاهات الوحدوية القومية، كانت حاجة المشروع الجديد إلى تأسيس اتفاقية جديدة لتفتيت الوطن العربي على القواعد الإثنية، ومن أهمها الإثنيات المذهبية.
وبوسائل تصدير تلك الاتفاقية الجديدة وجدت صدى لها في أروقة طهران، لأنها لن تستطيع أن تجد قدماً لها في العراق، وبالتالي الأمة العربية، من دون وسيلة تتجاوب مع منطلقاتها الإيديولوجية المذهبية، فكان في اتفاقية سايكس بيكو الجديدة بأسسها الطائفية ما يوفِّر الفرصة للنظام الإيراني بتحقيق أحلامه، ولهذا قامت بتأهيل مستلزمات نجاح العدوان الأميركي على العراق.
أما مسألة التناقض التي أشرنا إليها في بداية المقال، حول دعم النظام الإيراني حزب الله في مقاومة الاحتلال الصهيوني لجنوب لبنان، بينما قام بمساعدة أميركا على احتلال العراق، فهنا يبدأ دور الإجابة حول أسباب هذا التناقض.
لم يدعم النظام الإيراني العدوان الأميركي على العراق فحسب، بل ساعد الصهيونية، وربيبتها «إسرائيل» على التسلل إلى العراق أيضاً. وهذا ما يضيف سبباً آخر للاستغراب، بل للشك في النوايا، وهو كيف يجمع النظام الإيراني بين متناقضين معاً. فكيف يساعد حزب الله في لبنان لمقاومة العدو الصهيوني بينما هو قادر في العراق على قتاله خاصة وأنه أصبح على حدوده بشكل مباشر. وهذا يطرح السؤال: ألم يستطع النظام الإيراني أن يجنَّد عشرات الآلاف من الإيرانيين وعملائه العراقيين لكي يؤسسوا حزب الله في العراق لقتال الاحتلال الصهيوني الموجود تارة بشكل سري، لا يجوز أن يخفى على المخابرات الإيرانية، وتارة أخرى بشكل علني هنا أو هناك؟
لن نرضى بأن يستغفلنا أحد على الإطلاق. إن الوجود الصهيوني في العراق غير ملاصق تماماً للوجود الإيراني. فهو ظاهر في الخبراء والضباط والجنود والاستخبارات، في أبو غريب والمعتقلات الأميركية الأخرى، كما هو موجود بشكل واضح، وإن غير رسمي، في شمال العراق. أما الوجود الإيراني فهو بعشرات الألوف، إن لم يكن بمئاتها، في شتى مجالات الحياة العراقية.
فهو وجود بارز في سجون الميليشيات الطائفية للتحقيق وممارسة التعذيب. وأعماله واضحة من خلال اغتيال الثروة العلمية العراقية جنباً إلى جنب «الموساد الإسرائيلي». فأينك يا حزب الله العراقي لتقاوم الموساد وهو قابع إلى جوارك في كل زاوية من زوايا العراق.
أيجوز أن يكون الصهيوني عدواً في لبنان وصديقاً في العراق؟
بالأمس ظهر ابراهيم الجعفري على شاشات التلفزيون يمهِّد لمرحلة تعاون بين العراق والكيان الصهيوني، وهو قد أوحى بأن تلك العلاقات تنتظر القرار الرسمي. وبانتظار ذلك القرار يعيش الجعفري مرحلة التطبيع الواقعي مع الصهاينة على أرض العراق. أيمكننا أن نتوهَّم بأن الجعفري فاتح دكاناً على حسابه؟ أم أنه من المسموح لنا أن نقول: لم يفتح الجعفري فمه حول تلك المسألة الخطيرة لو لم يأته الإذن من طهران؟
لقد أكمل البرازاني تصريح الجعفري قائلاً: إنه ينتظر إعلان العلاقات بين العراق و«إسرائيل» لكي يفتتح قنصلية «إسرائيلية» في أربيل بشكل معلن ورسمي. وهذا يعني أن الإسرائيليين متواجدين في شمال العرق فعلياً. وهو قد أعلن وجود ما هو موجود منذ احتلال العراق، وربما قبله كما تدل الوثائق الكثيرة.
وهنا، هل يمكن للنظام الإيراني أن ينفي بأن الأكراد الانفصاليين يمكن أن يتصرفوا بما يتصرفون به من غير رضى منه وقبول؟
وهل لا يمكنه أن يرفض التعاون مع الأكراد الذين يتعاونون مع الصهاينة؟
وهل لا يمكنه أن يطالب بمحاسبة عملاء الصهاينة في العراق، كما يطالب بمحاسبة أنطوان لحد في لبنان؟
أفلا يفاوض النظام الإيراني، بواسطة عملائه، الكيان الانفصالي في شمال العراق على قاعدة رضاه عن وجود خطرين وهما: الفيدرالية الطوائفية والعرقية، والتواجد الصهيوني في شمال العراق لمساعدة الكيان الكردي الانفصالي على تأهيلهم لتركيز سلطتهم الانفصالية؟

ثالثاً: النظام الإيراني شريك فعلي وفاعل في التخطيط لاتفاقية سايكس بيكو الجديدة ومساهم فعلي وفاعل في تنفيذها وحمايتها:
إذا استعدنا ذكر العوامل التي يجب توفرها لإنجاح اتفاقية سايكس بيكو الجديدة:
توافر الإيديولوجيا الطائفية وتوافر الاستراتيجية السياسية لتنفيذها.
وتوافر استراتيجية التنسيق والتكامل مع كل العاملين والمخططين على أسسها، ولأنه من المستحيل أن تبرز إلى الوجود من دون التعاون مع دعاة تمزيق المنطقة على تلك الأسس ويأتي على رأسهم الامبريالية الأميركية والصهيونية العالمية.
ولما توافرت الشروط النظرية مع الممارسات العملية للنظام الإيراني من أجل تطبيق اتفاقية سايكس بيكو الجديدة، يحق لنا أن نحذِّر النظام الإيراني أولاً من الاستمرار باستغفالنا، وثانياً أن يفبق المستغفلون من غفلتهم وأن يمتنعوا عن النظر إلى النظام الإيراني على قاعدة «وعين الحب عن كل عيب كليلة». ومن أجل ذلك ندعو النظام الإيراني إلى التراجع عما بدأ يتوهم أنه سيجنيه من فوائد تطبيق تلك الاتفاقية المشؤومة، لأنه لن يجني إلاَّ الحسرة والندم بعد أن تحول حركة التحرر العربي دون نفاذها. وعليه أن يتذكَّر أن المقاومة العراقية التي حالت دون نفاذ مشروع احتلال العراق لن تكون عاجزة عن مواجهة كل إفرازاته: مشاريع نظرية وعملية، وأدوات عميلة تخون دينها ووطنها وقوميتها.
وعلى النظام الإيراني الطائر على جناح نصر موهوم في تنفيذ مشروع تاريخي، وقد يعتبره مشروعاً إلهياً، أن يقرأ التاريخ بإمعان ودقة متناهية، لأنه حينذاك لن يجد قوَّته وعزته إلاَّ داخل جوار قومي عربي حر موحَّد. وعليه ألاَّ يتأخر بالاعتراف بالخطأ القاتل وينخرط في مقاومة المشروع الأميركي والصهيوني في العراق لنصدِّق أنه كان بالفعل جاداً وجدياً في المساعدة على مقاومة الاحتلال الصهيوني في فلسطين ولبنان.
***

(2): المشهد العراقي في شهر كانون الثاني 2006
المغول الأميركيون يجتاحون المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج
وأقدامهم تغرق في رمال صحراء العراق وتتكسر على رواسي جبال لبنان وفلسطين
يصح القول إن إدارة جورج بوش، تحت ضغط معنوي ونفسي شديدين، تقوم بخبطات عشوائية، لأنها منذ أن تلقَّت ضربات المقاومة العراقية حتى أخذت تترنح وفقدت معها الصواب.
لذا راحت تفتش عن حلول تخرج بها بماء الوجه، فتظللت بافتعال الفوضى الخلاَّقة في لبنان وهي تتلقى ضربة أخرى أسهمت في إيقاعها في إحباط آخر. فمن لبنان انطلقت موجات الممانعة لمشروعها وهي تتسع، وتضيف جرعة معنوية للجماهير العربية التواقة للنضال في مواجهة مشاريع الأمركة والصهينة.
كانت استراتيجية المقاومة هي الفعل الصائب في مواجهة الهجمة الاستعمارية. وأهم نتائجها بارزة في العراق، حيث كسرت حاجز الخوف من مواجهة الأسطورة الأميركية، كونها تمثل رأس الأفعى المعادية، وبسحقه ستعيق أي امتداد صهيوني. وبهذا تكون قد شكَّلت مركزية أساسية في جذب كل عوامل الفعل المقاوم الكامن في الأمة العربية.
من العراق إلى لبنان تمتد يد المشروع الأميركي لتنال من سيادتنا الوطنية والقومية. وتدفع بنا إلى صراعات داخلية يستغلها لمصلحته وتحت رعايته المشبوهة. فنحن بحاجة اليوم، قبل الغد، إلى توسيع طاولات الحوار الوطني والقومي؟

الافتتاحية:
«معركة الحواسم»: استئناف لـ«القادسية الثانية» ، و«أم المعارك»
منذ أن أخذ العراق يشكِّل، بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي، تهديداً جدياً لمشاريع الهيمنة الأميركية الصهيونية، احتلَّ موقع الاهتمام الأول في استراتيجيتهما العدوانية. فمبادؤه بـ«الوحدة والحرية والاشتراكية» نقيض لمؤامرة سايكس – بيكو. والوحدة العربية ليست نقيضاً للاستعمار فحسب، بل هي نقيض لمؤامرات خارجية إقليمية ذات أطماع توسعية أيضاً. لتلك الأسباب أصبح العراق عرضة لاستهدافات دولية وإقليمية.
وإذا كانت الاستهدافات الاستعمارية والصهيونية واضحة، فإن الإقليم، المتمثل بإيران، كان قد أعلن الحرب على العراق لأسباب تاريخية أولاً، وأسباب أيديولوجية دينية سياسية ثانياً، لذا أشعل فتيل الحرب في العام 1980. وخاض العراق تلك المواجهة دفاعاً عن الأمة العربية على مثال معركة «القادسية». ولم تكن من نتائجها إلا الخراب لإيران، حاصدة الفشل الذريع، وارتكبت جريمة تدمير العراق، ودفع الشعبان الإيراني والعراقي ملايين الإصابات البشرية ناهيك عن التدمير الذي طال البنى التحتية.
لم يكن من المفيد إعادة استذكار ما حصل بين العامين 1980 و1988 لو لم يستأنف النظام المذكور دوره في المراحل اللاحقة، بدءاً من العام 1991، بأن لعب دوراً مخاتلاً ومخادعاً في تواطؤ غير معلن مع العدوان الأميركي على العراق في مرحلة «أم المعارك». واستأنفه بشكل علني وصريح في المرحلة الراهنة، مرحلة «معركة الحواسم»، واعترف كبار المسؤولين السياسيين ورجال الدين الإيرانيون، أن إيران ساعدت المشروع الأميركي في العراق، مسهلة للعدوان سبل النجاح. كما تسلل تحت غطاء طائراته وصواريخه، دافعاً بعملائه الذين أحتضنهم في داخل العراق وخارجه ليتحالفوا مع العدوان ومع الاحتلال بشكل سافر تتصاعد منه روائح الخيانة.
إن من أهم أهداف العدوان الراهن تمرير اتفاقية سايكس -بيكو الجديدة التي تهدف إلى تمزيق المنطقة إلى دويلات مذهبية طائفية تعيد ذاكرتنا إلى أيام الدويلات في العصر العباسي التي كان للإمبراطورية الفارسية فيها دور متعاظم وبالغ الأثر.
إذا كانت الشكوك قد ساورت البعض بالدور الإيراني واستهدافاته في المراحل السابقة، فإن اليقين أصبح سيد الموقف في هذه المرحلة، وباتت الأهداف واضحة، تلك التي كانت تخضع للتخمين في المراحل السابقة، وفيها أغرقنا من لم يكن مؤيداً للعراق في «معركة القادسية الثانية»، والتهوا وألهونا بالجدل حول من بدأ الحرب في العام 1980.
وكان قد غاب عن عقول أولئك أن للنظام الإيراني الجديد الذي أتى في أعقاب إسقاط الشاه أن لدى هذا النظام أطماعاً دينية سياسية في العراق لا يمكن أن تبصر النور إلا إذا وصل الزحف الإيراني إلى حدود العتبات المقدسة الشيعية في النجف والكوفة وكربلاء، ناسفاً كل القوانين الدولية التي حمت حدود الشعوب داخل أوطانها القومية.
وإذا غُيِّبت أهداف النظام الإيراني، وعُتِّم عليها، تحت دخان المعارك الطاحنة في «القادسية الثانية»، وكذلك مرحلة العدوان الثلاثيني على العراق، في 17/ 1/ 1991، الذي واجهه العراق تحت أهداف «أم المعارك»، فإن مرحلة «معركة الحواسم»، التي تدور رحاها الآن، كانت واضحة للعيان عند الجميع، باستثناء من أعماهم الانحياز الأيديولوجي الديني السياسي المتعصِّب للنظام الإيراني، أو أولئك المستفيدين من خيراته.
ففي المقلب الآخر من الصورة، تأتي الإطماع الإمبراطورية الأميركية لتلقى الضوء، بصورة لا لبس فيها، على أن للرأسمالية الأميركية استهداف إخضاع العالم مروراً بالعراق كحلقة أساسية. ولما كان المشروع قد أخضع معظم دول الإقليم العربي وأرغمه طائعاً أم مكرهاً على الاندماج في العدوان على العراق، عمل جاهداً للاستفادة من خدمات الإقليم غير العربي، فكان النظام الإيراني أكثرهم حماساً لأنه من خلال إسقاط النظام الشرعي الوطني في العراق كان واهماً أنه يستطيع تحقيق أحلامه التي باءت بالفشل في «القادسية الثانية». فكان العدوان الأميركي على العراق، في آذار من العام 2003، يخضع لمراهنات متعددة، استخدم فيها الأميركيون أسلوب الخداع كما استخدمها النظام الإيراني على نفس مقدار الخداع أيضاً.
أما الأميركيون فعقدوا الصفقة مع النظام الإيراني ووعدوه بحصة، وأضمروا على أن يخلعوه عندما يستتب الوضع لهم. ويتم ذلك إما بدمجه في مشروع تقسيم العراق على قاعدة أن تكون حصته بالوصول إلى العتبات المقدسة خاضعة للسيادة الأميركية الأمنية والسياسية والاقتصادية، وبما لا يتعارض مع الإمساك الأميركي بالقرار العراقي في شتى الاتجاهات.
أما النظام الإيراني، فكان يضمر على أنه سيقتطع من العراق ما حلم بتحقيقه تاريخياً، من أهداف استراتيجيته الدينية السياسية.
ولما انطلقت المقاومة الوطنية العراقية لتترجم، من خلال منهجها السياسي الاستراتيجي، استراتيجية «معركة الحواسم».
ولما كانت استراتيجية النظام الإيراني التسلل إلى العراق تحت قوة ضغط الآلة العسكرية الأميركية، وحققت ما أعجزتها عن فعله القادسية الثانية. ولما أنهكت المقاومة العراقية قوة أميركا وجبروتها وأدمتها ووضعتها أمام مأزق كبير، وأرغمتها على الإقرار بالانسحاب التدريجي، وهي هزيمة غير مُعلَنَة.
في لحظة الضعف الأميركي تلك، تمسَّك النظام الإيراني بأوراقه التي كسبها، وراح يساوم الإدارة الأميركية باتجاهين:
-الأول: الاحتفاظ بكل ما حسبه مكسباً في العراق، من فيدرالية في الجنوب، كانت قد دفعت عملاءها على تشريعها بالدستور. وهي تعمل الآن على حمايتها بدعم عملائها بكل الإمكانيات والسُبُل.
-الثاني: ابتزاز بريطانيا، ومساومتها أمن قواتها في جنوب العراق لقاء تمرير صفقة مفاعلها النووي. وهذا يعني إضعافاً للإمساك الأميركي في العراق.
وفي هذا الجانب أصبح الدور الإيراني شديد التأثير، خاصة عندما استطاعت المقاومة العراقية أن تكبح جماح الاحتلال الأميركي، فأصابت إيران بخداعها عصفورين بحجر واحد: التسلل إلى العراق تحت ضغط القوة الأميركية، والضغط على تلك القوة مستغلة ضعفها تحت ضربات المقاومة العراقية.
كان التكتيك الإيراني فاقعاً في شره، عندما استعان بالشيطان الأكبر لتحقيق أهدافه، ثم انقلب عليه. والأشد مرارة أنه لم يكن ليستطيع الاستقواء عليه لولا فضل المقاومة العراقية، هذا الفضل بالطبع لم يكن مقصوداً تقديمه لمصلحة أحد غير تحرير سيادة العراق وكرامة العراقيين.
هو الشر بعينه، استغلال دم المقاومين العراقيين من قبل النظام الإيراني، في الوقت الذي يتآمر فيه عليهم. وهو حرباء حقيقية عندما يغلِّف نفسه برداء الدفاع عن الإسلام لأهداف لا علاقة لها بمصلحة المسلمين وكراماتهم. بينما ينخدع بعضهم بألوانها.
يأتي المنهج الاستراتيجي للمقاومة العراقية، وهو منهج «معركة الحواسم»، ليسلِّط الأضواء على مسألة في غاية الأهمية، هو أن سلاحها سيطول كل طامع في الاستيلاء على العراق أميركياً كان أم بريطانياً، أم من الدول التي تواطأت في العدوان والاحتلال، أم كان من عملائهما.
كما تشمل كل دول الإقليم، سواءٌ أكانوا عرباً أم أعاجم، مع عملائهم وقوافل الخونة لأوطانهم الذين ينفذون استراتيجيات معادية للعرب. ويشمل أيضاً المؤسسات الدولية التي لا تنظر للقضية العراقية بمنظار القانون الدولي والانساني.
لهذا السبب، ولكثرة الجزارين الذين يريدون اقتطاع حصتهم من الضحية، جاءت تسمية «معركة الحواسم» في محلها، إذ أطلقها عليها صدام حسين الرئيس الأسير، منذ أن أعدَّ لمواجهة كل من كان متأكداً أنه سيشارك في ذبح العراق.
وإن نضال المقاومة الوطنية العراقية، كما وضعت الإمبراطورية الأميركية على أبواب بداية النهاية، بل إن النهاية اقتربت من استحقاقها الحتمي بهزيمة أميركية وقعت كالصاعقة على أبواب البيت الأبيض.
إن هذه المقاومة لن تسمح للإمبراطورية الفارسية باستعادة تاريخها على حساب «ذبح العراق»، فهي ستقوِّض حلمها التاريخي، لأنها تعمل على استعادته بالطريق الخطأ. فطريق إيران الأسلم يمر عبر «حسن الجوار» مع جاراتها أولاً، وعبر مقاومة المشروع الأميركي الصهيوني الخبيث ثانياً، ذلك المشروع فيما لو نجح لن يدع أحداً، وعلى رأسها إيران، يعيش بسلام. لعلَّنا نقدِّم النصح قبل أن تستفحل الأمور أكثر، ولا يعفينا مخاطبة إيران من أنها ليست المتحالفة الوحيدة مع المشروع الأميركي الصهيوني فلها مثيلاتها من الأنظمة العربية الرسمية.
ففي ذكرى «أم المعارك» نتوجه إلى أبطالها الذي حققوا النصر في «القادسية الثانية»، وأوقفوا الزحف الإمبراطوري الأميركي في العام 1991 على أبواب البصرة والناصرية، في «أم المعارك»، لنقول: إن لواء النصر بدأ يرتفع في العراق إيذاناً بنجاح «معركة الحواسم».
المقاومة الوطنية العراقية شكَّلت مركزية في جذب كل عوامل الفعل المقاوم الكامن في الأمة العربية
شهدت الساحة العراقية في شهر كانون الثاني الفائت جملة تطورات سياسية من أهمها:
-اعتراف أميركي بالهزيمة العسكرية بشكل ملتوٍ على قاعدة المحافظة على معنويات الجنود الأميركيين المشاركين بالاحتلال، ولأسباب ذات علاقة بهيبة أكبر قوة عسكرية واقتصادية في العالم.
-دفع واقع الاعتراف هذا إلى اتخاذ القرار الخطير، وهو التخفيف التدريجي لعدد القوات الأميركية من ماية وستين ألف جندي إلى الماية ألف بسقف زمني لا يتعدى الصيف القادم. فهو كتدبير، كما تراه إدارة جورج بوش، يقلل من النفقات المادية التي بلغت حسب دراسات أميركية بين الألف والألفي مليار دولاراً من جهة، ويوفِّر من فاتورة القتلى والجرحى من الجنود من جهة أخرى. وهذا التدبير يؤدي إلى التخفيف من وطأة مواجهة الضغوط السياسية والشعبية في الشارع الأميركي. تلك الضغوط التي بلغت حدود المطالبة بإنهاء الاحتلال فوراً على قاعدة أنه لا أمل ببقاء الاحتلال الأميركي طالما يواجه مقاومة شرسة ومصمِّمة على تحرير بلدها وبرهنت على أنه من الصعب القضاء عليها في آماد منظورة.
بعد أن انتقل تأثير نضال المقاومة العراقية وجهادها إلى الشارع الأميركي، أخذت تطرق أبواب البيت الأبيض بشدة لم يستطع جورج بوش أن يتجاهلها، بل أذعن واستجاب. هذا الواقع / المأزق، دفع بإدارته إلى وضع جملة من البدائل التي ستقوم بتجريبها قبل أن يقتنع جورج بوش بأنه لا أمل ببقاء قواته على أرض الرافدين، ومن أهم تلك البدائل، ما يلي:
أولاً: على الصعيد العسكري:
1-التخفيف من تواجد قوات الاحتلال المباشر بين السكان وعزلها في قواعد عسكرية ثابتة، وتسليم الأمن لقوات الحكومة العميلة. على أن تشكل القواعد الأميركية عامل إسناد من خلال تكثيف دورات تدريب قوات الحكومة العميلة وإسناد القوات المؤهلة منها بسلاح المدفعية والقصف الجوي. ولا جواب لدينا حول هذا البديل إلاَّ تكرار ما صرَّح به أحد الجنرالات الأميركيين قائلاً: لم يكن سلاح الجو في يوم من الأيام عامل سيطرة على الأرض.
2-تكثيف عمليات ملاحقة عناصر المقاومة، والضغط على الشعب العراقي بكل وسائل الإرهاب والتدمير والتشريد من أجل زرع الشقاق بينه وبين المقاومة المسلَّحة. وقد ارتكبت قوات الاحتلال الأميركي الكثير من الفظاعات التي تُبعدها عن وسائل الإعلام، وهي تفوق بوحشيتها ما يقوم العدو الصهيوني على أرض فلسطين المحتلة.
ثانياً: على الصعيد السياسي العراقي:
1-استكمال ما سمته عهراً بـ«العملية الديموقراطية» من خلال نتائج انتخابات 15/ 12/ 2005، لتشكيل حكومة عميلة جديدة تستجيب لإملاءات الاحتلال بتوقيع كل أنواع المعاهدات والعقود، سياسية وأمنية وعسكرية واقتصادية. و على الرغم من أن هناك تعثراً ظاهراً يؤخر إنجاز هذا الاستحقاق إلاَّ أن حقيقة الأمر أن إزالة تلك العوائق لن تطول، فالذي أخَّر تشكيل الحكومة هي الشروط التي يضعها عملاء النظام الإيراني للحصول على حصة تناسب مصالح إيران. وإدارة بوش التي ترى نفسها أنها ستخسر كل شيء لن تعوزها الحيلة بالتنازل عن بعض «الكعكة العراقية» لصالح إيران وعملائها.
2-تأكيد السير بالعراق نحو التفتيت والتجزئة على قاعدة «الفيدرالية»، وهي وإن كانت ستفقد بعض حصتها في «فيدرالية» جنوب العراق، إلاَّ أنها تعمل من أجل تثبيت «فيدرالية الأكراد» في شمال العراق على قاعدة زرع وجود صهيوني ثابت في الدويلة الكردية الانفصالية، وهذا مخطط مكشوف منذ الأشهر الأولى لاحتلال العراق.
3-السير الحثيث من أجل تثبيت «فيدرالية سنية» في وسط العراق تجمع بين «العملاء السنة» للاحتلال، وأولئك المنجرفين مع المشروع السعودي الذي يُنفَّذ على قاعدة التقابل «المذهبي السني» في مواجهة «المذهبي الشيعي الإيراني».
4-إذعان الإدارة الأمريكية، بشكل غير معلن، لمبدأ التفاوض مع قيادة المقاومة، إلاَّ أنها تعمل على قاعدة الخداع والتضليل بإعلان من هنا أو هناك حول نجاحها في إقناع فصائل وهمية بالتفاوض. لكن المقاومة ردَّت منذ أقل من سنتين معلنة شروطها للتفاوض، وأهم ما تتضمنه تلك الشروط إعلان أميركي بالقبول بالانسحاب من العراق من دون شروط.
ثالثاً: على الصعيد السياسي العربي:
دفعت العنجهية الأميركية إدارة جورج بوش إلى احتلال العراق من دون إسناد دولي، باستثناء ذيلية مواقف طوني بلير، رئيس الحكومة البريطانية، وهي كانت واثقة من أن تحقيق النصر في احتلال العراق لن يحتاج إلى أكثر من خمسين ألف جندي فقط، على أن يتم تمويل الحرب من العائدات النفطية العراقية.
ولأن إدارة بوش أدارت ظهرها لحلفائها الغربيين لأنها كانت واهمة أنها لن تحتاج إلى دعمهم، وكانت تنظر من المنظار نفسه إلى حكومات النظام العربي الرسمي، باستثناء أنها لن تحتاجهم إلاَّ من أجل تقديم خدمات لوجستية لقواتها العسكرية.
لكن حساب الحقل الأميركي لم تنطبق على حسابات البيدر العراقي، فتكسرت قرون الثور الأميركي الهائج على أسنة رماح الشعب العراقي بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي في مقاومة أذلَّت الجنرالات الأميركيين وإدارتهم السياسية، فإذا بهم في أقل من سنتين من الزمن يستنجدون بأية قشة تساعدهم على النجاة من الغرق. فكانت تلك القشة هو استجداء حكومات النظام العربي الرسمي. ولكن على أي جدار / قشة تتكئ يا بوش؟؟!!
أما الحكاية المسخرة فابتدأت منذ زيارة ديك تشيني «أكبر لصوص الإدارة الأميركية»، المفوَّض السامي لشركة «هاليبرتون» سارقة «الكحل» من عيون الأميركيين، فكيف الحال بغيرهم، إلى مصر والسعودية، لتوفير مخرج عنوانه إحلال قوات عربية لملء الفراغ الذي سيتركه تخفيف عديد جنود الاحتلال الأميركي، والفراغ الذي سيتركه هروب أكثر من خمسة عشر دولة كانت تدعم احتلال العراق تحت خداع يافطة «إعادة إعماره».
لقاء تلك التداعيات وجدت أروقة جامعة الدول العربية حركة ونشاطاً بعد أن كادت تقفل أبوابها لكي لا تسمع ولا تتكلم ولا ترى ما يجري من جرائم أميركية تُرتَكب على امتداد ساحة الأرض العربية. ووجد أمينها العام، عمرو موسى عملاً بعد أن كاد يُحال على التقاعد. فتحركَّت أروقة الجامعة، وتململ جلمود أمينها العام، أما الخبر؟ فكان الجواب الأميركي ساعدونا على حل يقوم على استقدام قوات عربية لتملأ فراغاً أمنياً سيتركه جنودنا الهاربون. وباختصار: تعالوا موتوا بالنيابة عنا، وبتوكيلنا، أما مستقبل العراق فسنعفيكم من عبء مؤونته فنحن كفيلون بمهمة نهب ثرواته، واستباحة سيادته، واحتلاله، بواسطة سكوتكم وصمتكم المشرِّف!! وانصياعكم لأوامر إمبراطور العالم في «القرن الأميركي الجديد».
تلك هي صورة المشهد العراقي الظاهر في هذا الشهر، مشهد تقوم بصياغته إدارة الاحتلال الأميركي، وتوزِّع فيه الأدوار على اللاعبين من عملائها في داخل العراق وداخل الأنظمة العربية الرسمية.
أما في خلفية المشهد الذي لا يروق للاحتلال الأميركي إظهاره فهو الأهم والأفعل، واللاعب الأساسي في صياغة قرار تحديد مستقبل الأمة العربية عامة ومستقبل العراق خاصة.
فاللاعب الأول، ما بدأت تشهده الأمة من عدد من عوامل الممانعة والمقاومة للمشروع الأميركي في فلسطين ولبنان وسورية.
أما اللاعب الثاني، فهو المقاومة العراقية التي فرضت على المشروع الأميركي والصهيوني وقائع جديدة شكَّلت مركزية أساسية في جذب كل عوامل الفعل المقاوم الكامن في الأمة، فكيف صاغت المقاومة ردودها على ما يجري في كل جوانب المشهد؟
رد المقاومة الوطنية العراقية على كل ما يجري في مواجهة المشهد العراقي الراهن
كل الأجوبة كانت جاهزة في استراتيجية المقاومة الوطنية العراقية. وبالعودة إلى وثائقها، نستند إلى بعض النصوص التي وردت في المنهج الاستراتيجي السياسي الصادر في 9/ 9/ 2003. وإلى بيان قيادة قطر العراق في تشرين الأول من العام 2004.

أولاً: على صعيد مقاومة الاحتلال:
المقاومة العراقية حركة تحرير وطني تؤمن :
1 - باستمرارية المقاومة طالما كان هناك احتلال وبأي صيغة وعلى أي جزء من ارض العراق وبغض النظر عن القرارات الأممية اللاحقة للاحتلال.
2 - بشرعية المقاومة وحقها في العمل العسكري وغيره، وبالتعرض القتالي على قوات الاحتلال أفراد ومعدات وتجمعات ومنشئات ومعسكرات ومقرات وهيئات وإدارات وخطوط إمداد ومرافق خدمات ومساندة ومباني محتلة ومراكز أمن مساعدة وغيرها.
3 - بشرعية وواجب التعامل القتالي أيضا مع المتعاملين والعملاء أفرادا وأحزابا وهيئات وغيرها من العناوين والمسميات.
4 - منع وعرقلة جهد الاحتلال من التصرف والتمكن والاستغلال، كيفما كان شكله، لثروات ومرافق وممتلكات العراق، وبالطرق والصيغ التي تقتضيها متطلبات تحقيق الهدف عسكرية أو إدارية أو فنية.
5 - بتعميم المقاومة المسلحة على أرض العراق كلها وبفعل ومشاركة العراقيين كلهم، والتأكيد على واجبهم وحقهم المتكافئين في المقاومة وتحرير العراق تحت أي عنوان أو مسمى.
6 - بالعمل على تحقيق تشكيل جيش تحرير العراق كتطوير في عمل المقاومة لتحرير العراق. (راجع المنهج الاستراتيجي السياسي).

ثانياً: على صعيد التعامل مع النظام العربي الرسمي:
1- بانعدام احتمالات الدعم من قبل الأنظمة العربية كلها ولأسباب مرتبطة بطبيعة النظام الرسمي العربي بمجمله، وبطبيعة وأدوار أنظمة عربية بعينها، لا سيما المحيطة بالعراق العميلة والمستنفذة والطامحة للعب أو تجديد أدوار ترسمها لها الولايات المتحدة بموافقة «الكيان الصهيوني» وبما يخدم المنظور الستراتيجي للولايات المتحدة في الإقليم.
2-تعطيل الأدوار المحتملة لأنظمة عربية متآمرة انطلاقا من مطلبيتها بالتعامل مع واقع الاحتلال وإفرازاته، وحرق أصابع تلك الأنظمة في تعاملها المخطط والمحتمل مع الشأن العراقي، وعكس ذلك على أزماتها السياسية والاقتصادية والأمنية المعاشة. (راجع المنهج الاستراتيجي السياسي)

ثالثاً: على صعيد التعامل مع الإقليم غير العربي:
-تأزيم الإقليم ومفرداته ومنع تحقيق مصالح الأخريين المجاورين على حساب العراق ووحدته الوطنية، وتعظيم تكلفة مساندتهم للعدوان وتعاملهم مع إفرازاته الداخلية في العراق المستهدفة تفتيت الوحدة الوطنية العراقية على حساب مصالح عرقية ومذهبية وجهوية وفئوية مرتهنة للاحتلال ومرتبطة بوجوده. (راجع المنهج الاستراتيجي السياسي)
رابعاً: على صعيد الدعوات للتفاوض:
رفض كل أشكال المفاوضات والمؤتمرات والتحركات الامريكية. وتؤكد قيادة الجهاد والتحرير موقفها المبدئي والراسخ من دعوات التفاوض المريبة وتؤكد على أن من يريد التفاوض عليه القبول بثوابتنا الوطنية والقومية والاسلامية وشروطنا الجهادية وهي:
1- انسحاب القوات الامريكية وحلفائها من العراق بدون قيد او شرط.
2- اعادة الشرعية لكل ما هو قائم في العراق قبل الاحتلال البغيض والغاء كافة القرارات الصادرة عن الاحتلال وحكومته العميلة.
3- اعادة شرعية القيادة الوطنية وعلى رأسها الرفيق القائد المجاهد صدام حسين الامين العام للحزب وامين السر القيادة ورئيس الجمهورية الشرعي..
4- تعهد امريكا وحلفائها من خلال قرار لمجلس الامن الدولي، وبضمانة مجموعة من الدول المحايدة، لتشكيل صندوق لإعادة اعمار العراق باشراف وادارة حكومته الوطنية الشرعية. وتعويض العراقيين جميعا ماديا ومعنويا عما اصابهم جراء العدوان المستمر والحصار الظالم والاحتلال البغيض منذ العام 1990 وحتى الآن.
5- اعتراف امريكا وحلفائها بجريمة احتلال العراق وغزوه وتحمل كافة المسؤوليات المترتبة على ذلك. (راجع بيان قيادة قطر العراق في تشرين الأول 2004).

(3): المشهد العراقي في شهر شباط 2006
إشعال نار الفتنة الطائفية جسر للعبور الإمبراطوري الأميركي إلى قلب الأمة العربية
في العراق: تنهمر سيول الدماء في هياكل فيدراليات الطوائف، وفي لبنان شحن وتعبئة من أجلها
تتصارع المصالح الدولية والإقليمية على الأرض العربية من أجل اقتسام جثتها، وكل منها تدَّعي محبة لها وحرصاً على مصالحها. فتكاثر الأوصياء على أمتنا وباتت كأنها «القاصر» الوحيد بين كثرة من «أولياء» أمرها: فهذا أتى ليعلِّمنا «الديموقراطية»، وذاك جاء ليعلَّمنا «أصول الدين». والأمرُّ من هذا وذاك أنَّ بعض الأمة انخدع بمظاهر الديموقراطية الزائفة، وبعضها الآخر انخدع بأننا بحاجة إلى من يعلِّمنا أصول ديننا. فأما هذا وذاك فقد تسلَّلا تحت غطاء الحرص على مصالح بعض المخدوعين، أو العالمين بحقائق الأمور من أهل الداخل، وأما العالمون فيشاركون بتنفيذ المخطط راكبين على حصان المخدوعين.
المخطط يسير على قدم المساواة أينما حطَّ رحاله في الأرض العربية، فهو الآن يركب موجة التخطيط والتنفيذ، وبانت معالمه بشكل واضح وقبيح، في المرحلة الأخيرة، ابتدأت في «أشرفية لبنان» ولن تنتهي في «سامراء العراق». ابتدأت في نسف كنائس العراق، ومرَّت في كنائس لبنان وحطَّت رحالها في القبب المقدسة في سامراء، أما بعدها فيبدو أنه واعد ويحمل معه الكثير من الحصاد «العفن»، فالحبل على جرار المؤامرة. وسكين الجزَّار على رقبة الضحية، والمستمرئون بطعم الفيدرالية يلعقون دماء الضحايا، الذين يُذبحون في هياكلها، بتلذذ وشراهة.

الافتتاحية
من خيرات الدستور العراقي الأميركي تنهمل سيول الدماء في هياكل فيدراليات الطوائف
على الرغم من أن الاحتلال قام بتدنيس كل المقدسات في العراق منذ احتلاله، فالجريمة البشعة التي دُمَّرت فيها قبة الإمام المهدي في سامراء، لم تكن غير متوقَّعة، كما لم تكن غيمة في سماء صافية، فهي ليست الجريمة الأولى، ولن تكون الأخيرة، فمسلسل التقسيم في العراق قائم على قدم الاحتلال الأميركي وساقه. فهو عندما قام بعدوانه واحتلاله، فإنما فعل ذلك ليس لكي يخرج. ولكنه أُرغم بقوة نضال المقاومة العراقية وجهادها، على تخفيض سقف أطماعه. ولهذا فإن استراتيجيته البديلة الآن: «ما لم تحصل عليه كله، فليكن جلَّه». وما سوف يعجز عن الاستيلاء عليه فتدميره أولى.
تلك هي استراتيجية الإدارة الأميركية البديلة كحل لمأزقها في العراق، ولأنها واقعة في أكثر من مأزق، فسنولي اهتماماً لاستراتيجيتها التي تطبقها الآن باستخدام وسائل التدمير المنظَّم في نسيج المجتمع العراقي.
على مثال ما يُعدُّ له في لبنان، يُعد في العراق أيضاً، والعكس صحيح، فالمخطط واحد هنا وهناك. وإننا قبل أن نُلقي بتهم ما يحصل على أيدي الاحتلال الأميركي، أو المشروع الأميركي الأم، على الإدارة الأميركية، علينا ألاَّ ننسى أن الدور الأكثر خطورة هو الذي تلعبه أدواتها في الداخل، فهم المنفِّذون المباشرون لمخططاتها. هؤلاء المنفِّذون المشاركون غارقون في أوهام السلطة والجاه والمال، يلعقون من دماء أبناء جلدتهم ويقتاتون من جثثهم، ولكنهم لن يرتووا ولن يشبعوا. والضحية التي يثيرونها ويحقنون بها تسير إلى «المسلخ» غافلة إلاَّ على وقع الحقن والتحريض والتعصب. وهكذا كانت أمجاد الأباطرة الغابرين، والإقطاع المندثرين، تُبنى من جماجم المنفعلين والغافلين، فهم كانوا حطباً لإبقاء نيران أسيادهم مشتعلة وثمار مصالحهم وافرة
فليس لهؤلاء وطن ولا دين، فوطنهم حيث تغدق الأرض لهم عسلاً وحيث تمطر السماء عليهم لبناً.
فأرض الله مفتوحة أمامهم لا حدود ولا قيود، لا عدالة ولا من يحزنون، والمساواة عندهم كذبة ابتدعتها مخيلات العاجزين. والبقاء كما يعتقدون للأقوى، ولا قوي إلاَّ بوجود ضعيف. فالبقاء للمحتالين، ولا محتالين من دون مُستغفلين.
وهكذا هي صورة الواقع في كل قطر من أقطار أمتنا، أقوياء يحكمون ضعفاء، محتالون يحكمون مستغفلين، مفوَّهون يستأسدون على بكماء، كذابون يحكمون بقوة طيِّبي السريرة. فأهل الاحتيال والدجل والكذب أمامكم، وأهل الغفلة وراءكم، فقولوا لنا بالله أين المفر؟
يتساوى في توجيه الملايين المؤمنة الحاكم السياسي مع محترفي قيادة المذاهب الدينية السياسية وتوجيهها. ولكل منهما مآرب وأهداف وأطماع ومصالح سياسية. فالحاكم السياسي يحكم بقوة القمع الأمني. ومحترفو توجيه المذاهب الدينية، يلبسون عباءة الدين من أجل أهوائهم ومصالحهم وأطماعهم. ويتحكمون بملايين المؤمنين بقوة التحريض الطائفي السياسي.
لم يعرف العراق في تاريخه ما ينبئ عن وقوع مجازر طائفية إلاَّ في المراحل التي كان رؤساء الطوائف والمذاهب يتسابقون فيه على السلطة والمال، او يعملون لتدعيم مواقع من يستولي عليهما ويسوِّغون سلطانه. وما إن حلَّ عصر القوميات، وهو عصر حديث، حتى أخذ يصارع من أجل انتزاع القرار من أيدي المستفيدين من التفرقة المذهبية، ومن الذين يعملون على استغلال قواعدهم الواسعة للوصول إلى سلطة أو سلطان، أو تدعيم سلطة أو سلطان، ومن الذين حصانهم الحقن الطائفي والمذهبي ليُبقوا قواعدهم وأتباعهم مشدودين بعصبية الانتماء الطائفي الضيق، وهم سلسو الانقياد إلى التحريض والتعبئة ضد كل المذاهب الأخرى والتيارات التي لا تدين بمذهبهم. وليس غريباً مثل هذا التصرف فهم أسروا أنفسهم في عقيدة الوصول إلى الجنة الذي لن يكون سالكاً إلاَّ عبر تعاليمهم وطُرُق عباداتهم وعقادئهم الخاصة. وفي تلك السلوكات لا يتميَّز بعض أولياء الأمور في دين عن دين، أو في مذهب عن مذهب، فهم كلهم يعملون على الحقن والتعصب.
باستثناء من اقتنع من المنتسبين إلى الأديان بأنه لا وحدة للمجتمع إلاَّ بوحدة قائمة على أسس الانتماء الوطني أو القومي، يتساوى كل دعاة الأديان والمذاهب المنسلخة عنها في وسائل الحقن والتعصب.
على تلك الأسس ابتُليَ العراق بأمثال هؤلاء، وقد دخلت تنظيمات عديدة تحت عباءة الاحتلال الأميركي وقد أعدَّت مشاريعها التقسيمية وهي عازمة على تفسيخ العراق إلى دويلات يبلغ تعدادها عدد المذاهب الدينية فيه. وتساوى بالعمل لتمرير تلك المشاريع كل المذاهب الدينية السياسية، ولكن كان الأبرز فيها تلك التيارات التي دخلت إلى العراق على حصان إيراني تحت حماية العدوان الأميركي. فتلك التيارات أشبعتها وسائل التحريض الإيراني بحقن وتدريب وتأهيل وأدخلتها تحت شعار «مظلومية الشيعة» في أثناء حكم حزب البعث العربي الاشتراكي. وكان أول الغيث فيه «إعلان شيعة العراق»، الذي أُقرَّ وتم التوقيع عليه في لندن، بتاريخ 17/ 1/ 2002، وأعلن عنه في أواخر شهر حزيران من العام 2002، وكان من أهم الموقعين عليه موفق الربيعي، وحسين الشهرستاني، وعادل عبد المهدي، وهم ممن برزوا في شتى نشاطات هذا التيار تحت ظل الاحتلال، وأثبتوا ولاءهم للنظام الإيراني في أثناء توليهم لمناصب في المؤسسات السياسية التي عيَّنها الاحتلال الأميركي. وكان الإعلان قد رسم الخطوط الرئيسية لما يجب أن يتضمنه أي دستور عراقي يكون بداية للانقضاض على أية دعوة توحيدية تقوم على أولوية الانتماء للوطن وليس للدين أو المذهب، بينما الانتماء للوطن هو الحل الوحيد الذي يكون حريصاً على احترام كل المعتقدات الدينية والمذهبية وحمايتها.
جاء الدستور العراقي/ الأميركي، ليحفظ الأسس الاستراتيجية لمشاريع التفتيت، وذلك يبدو واضحاً من النصوص التي ثبتَّتها التيارات الدينية السياسية والعرقية السياسية، ومن خلالها ثبَّتت قواعد التفسخ والتفتيت، على قاعدة ما أسموه بـ«النظام الاتحادي»، وفيه اقتسموا العراق لينال كل حصته. فأصبح العراق يضم إقليمين: شيعي في محافظات الجنوب، وكردي في الشمال، وعدد من المحافظات التي احتفظوا فيها للسنة بحق تأسيس إقليم يمكنهم إعلانه في الوقت الذي يشاركون في العملية السياسية تحت رعاية «خليل زلمان زاده»، واحتفظوا أيضاً بالحق ذاته للتركمان والكلدان والآشوريين، وهكذا ستكر السبحة، فيما لو استقرَّت الأمور للاحتلال، وهي لن تستقر، وتتعدد فلن يبقى للعراق إلاَّ إسماً من دون مسمى.
أليس هذا المخطط إلاَّ من صنع المشروع الأم الذي ينفِّذه الاستعمار والصهيونية بالتعاون والتنسيق والتكامل مع المذهبيين والطائفيين والعرقيين؟
لقد أنجز التحالف المذكور خطوات ما يسمونه بالأسس التشريعية (الديموقراطية): تسويق دستور مشبوه، وانتخابات مزوَّرة، تحت سلطة احتلال ليست له أية صفة شرعية تخوله إجراء أي تغيير سياسي في البلد المحتل، وهو يستكمل مؤامرة تقسيم العراق على أسس مذهبية وعرقية مشبوهة لإضعاف المناعة الوطنية والقومية عند العراقيين، لا سيما وأنه أمام استحقاق إنجاز الخطوات المكمِّلة للموجبات الدولية.
ولكي ينال كل من الطرفين، الأميركي والإيراني، أكبر ما يمكن من مواقع التأثير في الحكومة المقبلة، تسابقا على توزيع الحصص، ولم يتفقا. فحصل الاشتباك بينهما وظهر إلى العلن. ووجدا أن الاتفاق لن يتم إلاَّ على نار حامية، فراح كل منهما يعزز عوامل الضغط على الآخر، وللأسف لا يمكن لهذه النار إلاَّ أن تكون على حساب العراق والعراقيين، فتتالت إعلانات الاتهامات المتبادلة بين عملاء إيران وقوات الاحتلال الأميركي، فأخذ كل منهما يكشف مستور الآخر من جرائم التعذيب والتجاوزات والصفقات والسرقات. كما انتقل كل منهما إلى الاحتكام إلى التهديدات المتبادلة. ولكنهما وإن اختلفا لهذا السبب أو ذاك، فقد اتفقا على تعميق الشرخ المذهبي والعرقي بين العراقيين، ولما كانت أجواء العالم الإسلامي ساخنة على خلفية الإساءة للرسول الكريم، كما كانت أجواء العراقيين ملبَّدَة متأثرة بما يحصل في العالمين العربي والإسلامي، وخاصة الاقتتال الذي حصل في باكستان بين السنة والشيعة، جاء تدمير قبة مرقد الإمام المهدي ليدفع حالات الاحتقان إلى آمادها القصوى، فانطلق «عفريت التعصب» من عقال الميليشيات الطائفية الموالية لإيران، سواءٌ أكان لابساً ثياب أجهزة الأمن والشرطة، أم كان مرتدياً لباس «فيلق بدر» فارتكبت أقذر المذابح وأبشعها. وبمثل تلك الحالة كان طرفيْ التحالف الأميركي والإيراني مستفيدين من حالة درجة التفرقة والتشتت بين العراقيين، بغض النظر إلى من كان المسؤول عما جرى.
وما يجب الوقوف عنده إلى أن بعض التيارات السياسية العراقية، سواءٌ أكانوا من المغفَّلين أم من المتواطئين، وجَّهوا سهام الاتهام إلى البعثيين و«الصداميين». فكان المتهم جاهزاً في كل مرة لغايات وأهداف تريد أن تشوِّه المقاومة الوطنية العراقية من جهة، وأن تعيق نضالاتها ضد قوات الاحتلال وعملائه من جهة أخرى. فبدلاً من أن يحكِّم الذين لديهم المتهم جاهزاً عقولهم، فقد حكَّموا أهواءهم وأغراضهم الضيقة، وأرادوا أن يستغفلوا عقولنا بأن من حافظ على تلك العتبات وفرض الحماية عليها، يفرِّط بما أسهم في حمايته في مرحلة حكم العراق الوطني. كما تناسى هؤلاء وأولئك أن إعصار التقسيم يغزو الأمة العربية في العراق أولاً، يتساوى بالحقن فيه المستفيدون من ذبحهما، وإذا كانت لـ«لشرق أوسطية» أهداف ومآرب، فلأن العاملين على تعميمها وفرضها على عداء تاريخي وأطماع تاريخية، لكن إلى النافخين في الداخل وفي الجوار، ممن يؤججون نار الفتنة الطائفية السياسية، ويسهمون، سواءٌ عن حسن نية أم عن سوئها، نسألهم عما سيقطفونه من أعمالهم؟
على الرغم من أن هؤلاء قد قطعوا الجسور مع كل ما هو صالح لاستعادة العراق موحدَّاً لكل أبنائه، لا ضير من تكرار دعوتنا بأن الحل لن يكون إلاَّ بالتقاط الفرصة التاريخية المناسبة المتاحة أمام العراقيين والعرب، ومن يدَّعون صداقة العرب:
-أن يقطعوا كل علاقة مع الاحتلال الأميركي أولاً، وينخرطوا في مقاومته لا سيما وأنه «الشيطان الأكبر».
-أن ينقلبوا على كل معالم التغييرات السياسية التي فرضها الاحتلال الأميركي، وأن يلملموا «ميليشياتهم» التي تعمِّق بجرائمها الشرخ بين أطياف الشعب العراقي ثانياً.
-كما أن يلملموا خطابهم المحقون بالطائفية الذي «ينفث في الصدور» كل عوامل التعصب ثالثاً، لأنهم بواسطته، في المقابل، سيستثيرون ردود الأفعال التي لن تكون أقل حدة وتعصباً. أما النتيجة فهي أن «نار جهنم الدنيا» ستكون الحل الأسرع الذي سيحترق فيه جميع الحاقنين بنار الفتنة قبل أن يلقوا «نار جهنم الآخرة».
وانتظاراً لما قد يحصل، فقد دعت المقاومة العراقية، كل العراقيين لأن يعوا خطورة الفتنة، وأن يحذروا من الوقوع في شرور ردود الأفعال المخطط لها ممن هم مستفيدين من اندلاعها. كما أن المخلصين لوحدة العراق يراهنون على تُراث الثقافة الوطنية التي لا تزال تلعب دورها في المحافظة على وحدة العراقيين على الرغم من كيد المصطادين في شباك التحريض الطائفي والمذهبي والعرقي.

المشهد في العراق في شهر شباط 2006
تتراكم الاستحقاقات المطلوبة من الإدارة الأميركية، والوقت يضيق أمامها، وقد أصبحت في عجلة من أمرها، فهي على أبواب انتخابات الكونجرس في تشرين الثاني القادم، تخشى مع إجرائها أن يخسر الحزب الجمهوري الأميركي الحاكم الكثير من مقاعده بسبب العدوان على العراق واحتلاله.
ذلك العدوان كان مسكوتاً عنه أميركياً بسبب ما غرسته إدارة جورج بوش من أوهام دفعت بالأميركيين إلى التغاضي عن جريمة العدوان لأن غيومه ستمطر خيرات النفط العراقي على أراضي الإمبراطورية الأميركية، فينعم بها الشعب الأميركي.
وبدلاً من ذلك دفعت الدم الغزير، ولا تزال، واستنزف العدوان مئات المليارات، إذا لم تكن آلافها، من جيوب الأميركيين. إن حالات الإنفاق على الحرب ستضع الميزانية الأميركية، عاجلاً أم آجلاً أمام حدود الإفلاس. والدلائل تشير إلى أن الإدارة تغطي العجز بطبع كميات كبيرة من الدولارات التي قد تصبح شيكاً بلا رصيد.
وهي أيضاً أمام استحقاق تقديم ما وعدت به الدول، التي تساعدها على تغليف احتلالها بغطاء شرعي دولي، بحصة في «كعكة العراق»، على قاعدة إنجاز الموجبات المطلوبة منها في القرار 1546، وهي مرغمة على إنجازها، من أجل استصدار قرار آخر يحدد حصص شركائها المتواطئين. تلك الحصص ستكون قائمة على واجب تشكيل حكومة جديدة، يسبغ المتواطئون عليها صفة «الشرعية»، وعندها يتم التعاقد معها باتفاقيات اقتصادية لا يبدو أنها ستكون كلها من نصيب الشركات الأميركية، بل لا بدَّ من أن يكون لتلك الدول حصة فيها.
كلها مآزق ترغم الإدارة الأميركية على التفتيش عن بدائل تخفف فيها خسائرها في العراق، حتى لو دفعت جزءاً مما كانت تعتبره حصتها لوحدها من دون شريك. ويصح أن نطلق على تلك البدائل مسخ احتلال العراق من احتلال أميركي مباشر إلى احتلال مقنَّع تسهم في حمايته الدول الكبرى المتواطئة، وتلعب فيه بعض الأنظمة العربية والإسلامية دور الحارس الذليل.
ذلك هو الواقع الذي تعمل الإدارة على معالجته، وأخذت بدائل الاحتلال المباشر للعراق تتَّضح أكثر. وهذا ما سوف نلقي عليه الأضواء في تحليلنا الإخباري. وقد ظهرت جملة من الوقائع والاستحقاقات في شهر شباط الفائت، ومن أهمها:

أولاً: الرئيس صدام حسين يستأنف محاكمة الاحتلال وعملائه:
استأنفت محكمة العملاء الأميركيين تمثيل مسرحية محاكمة الرئيس صدام حسين ورفاقه بجولتين اثنتين، الأولى بتاريخ 13-14/ 2/ 2006، والثانية في 28/ 2/ 2006، وكمثل الجولات السابقة كان مسرح المحكمة معقود اللواء للرئيس صدام حسين والمناضل برزان، واستكملها المناضل طه ياسين رمضان بوقفات جريئة تعبِّر عن حقيقة المناضلين البعثيين.
لقد أجمعت، حتى وسائل الإعلام الأميركية أن الإدارة وقعت في مأزق إعلامي، فهي في الوقت الذي أعدَّت فيه مسرح المحاكمة لإذلال الرئيس ورفاقه، وجدت نفسها أنها قد وقعت في حفرة المأزق الذي كانت تخطط لإيقاع المناضلين فيها. ولهذا شكَّلت المحكمة مأزقاً إعلامياً لها، باتت من جرائه واقعة في حيرة من أمرها في متابعتها أو توقيفها، وهما خياران أحلاهما مر.
كما أجمع حقوقيون، ورجال قانون، وأخصائيون أن في المحاكمة زاويتين مهمتين، وهما:
زاوية استجمع فيها الرئيس كل شجاعته ونضاليته، وهما حقيقتان يسمان شخصيته الإنسانية والحزبية، وحوَّل المحكمة التي عُقدت لمحاكمته إلى منبر إعلامي حاكم فيه الاحتلال الأميركي بدءاً من رئيس الإدارة الأميركية، مروراً بالمؤسسات السياسية التي صنعها الاحتلال، وصولاً إلى أصغر عميل في المحكمة وقوات الشرطة.
أما الزاوية الأخرى، فكانت في الإجماع على الطعن بالديموقراطية الأميركية واعتبارها زائفة. وظهر الإجماع من خلال تقارير الحقوقيين، وبالأخص منهم الأميركيون، والعرب، ناهيك عن الشرفاء من المحامين العراقيين الذي أصروا على متابعة مهمتهم الوطنية والأخلاقية، بكل شجاعة وتحد، وتابعوا القيام بها على الرغم من كل التهديدات بالقتل التي نُفِّذت فعلاً باثنين منهم على أيدي قوى الشر والخيانة .
تلك الحقائق لم يكن لها مثيلاتها في محاكمات التاريخ بالجرأة والشجاعة. وستكون نتائجها شبيهة بمحاكمة غاليله العالم الإيطالي الذي عارض الكنيسة بقوله إن الأرض كروية، وهي عندما أصدرت حكمها عليه قال: «على الرغم من ذلك فإنها تدور». فتماثلاً بتلك المحاكمة ونتائجها، ورداً على الصوت الخفي الذي همس في المحكمة قائلاً: سكتوه بالقوة !! فقد اتهم الرئيس صدام حسين رئيس المحكمة قائلاً: «أنت تعمل بتكليف من بريمر. لن نسكت حتى إذا ضربت رأسك بالشاكوش الذي بيدك». أما الأسير المناضل برزان فهتف: «يعيش البعث العظيم».
وكما أثبت العلم أن الكنيسة كانت على خطأ فقد ظلَّت الأرض تدور، كما أعلن غاليله. سيثبت التاريخ أن الاحتلال سوف يزول، وأن عملاءه خونة. وسيبقى العراق والبعث العظيم عظيماً كما أعلن المناضلون في وجه محكمة الاحتلال وعملائه.

ثانياً: بعد مأزقها العسكري والأمني في العراق، إدارة جورج بوش عالقة في مأزق تشكيل حكومة عميلة جديدة:
لقد أنجزت إدارة الاحتلال الأميركي الاستحقاق الأخير من موجبات القرار 1546 في الخامس عشر من كانون الأول 2005. وراحت تعد العدة لقطف ثمار جهودها من أجل تشكيل حكومة جديدة. وقد تواجهت بجملة من العوائق التي حالت، وستحول، دون قطافها الكامل لنتائج الانتخابات، ومن أهم تلك العوائق هي التالية:
خططت إدارة جورج بوش لأن تصب شراكتها مع النظام الإيراني في مصلحتها، فهي كانت تضمر «خلع صاحبها» في الوقت المناسب. كما كان النظام الإيراني يضمر «خلع صاحبه» أيضا لينال حصته في اقتطاع جزء من العراق يحقق فيها مشروعه الإيديولوجي. فكان تحالفهما هو أن يستقوي كل منهما بالآخر على نية نحر العراق وذبحه والاستفادة من خيراته لكن من دون الاتفاق على حجم الحصص التي سينالها كل من المتواطئيْن.
أما انتخابات 15/ 12/ 2005، فكانت الاستحقاق الأساسي الذي راهن عليه الحليفان. بحيث عمل كل منهما من أجل إيصال أكثرية نيابية تساعده في تشكيل حكومة تستجيب لمصالحه، خاصة وأنها ستتولى حكم العراق لسنوات أربع قادمة، وبها ومعها سيتم التفاوض مع المجتمع الدولي لرسم مستقبل العراق. وعلى قاعدة أن من يمتلك قوة التأثير في الحكومة ستنعكس تأثيراً مماثلاً في رسم مستقبل مصالحه.
ولأن التمثيل النيابي، مبنياً على مقاييس الدستور / الفضيحة، سيتم بناء لتقسيمات مذهبية وعرقية، وظَّف النظام الإيراني كل إمكانياته السياسية والمالية والأمنية لمصلحة عملائه كي يصلوا بزخم إلى «المجلس النيابي»، وهذا ما أدَّى إلى إسقاط العلمانيين من «عراقيي المخابرات الأميركية»، على الرغم من أنهم أمروا حكام السعودية بالتفاوض مع بعض القوى السنية في العراق من أجل إحداث توازن مذهبي مذهبي في انتخابات 15/ 12/ 2005. وعلى الرغم من استقطاب بعض القوى السنية في ما سًمِّي بـ«مؤتمر المصالحة» في القاهرة، إلاَّ أن ذلك لم يفِ بالغرض. وبهذه النتائج حصل الخلل في الحسابات الأميركية. وأصابتهم الخشية من أن يفلت زمام الأمور من أيديهم.
بمثل تلك النتائج استفاد النظام الإيراني من عاملين لتعزيز حصته في التمثيل النيابي، وهما: ثبات حصته في البيئة الشيعية التي تم تأهيلها للمشاركة في الانتخابات، والتي ازدادت قوة بامتناع السنة عن المشاركة الكافية، كما خطط النظام السعودي، لتوفِّر التوازن المطلوب. فحصل النظام الإيراني على أكثرية نيابية، وأعطته أرجحية في تشكيل حكومة تخدم مصالحه وتستجيب لإملاءاته. ومن هنا ابتدأ المأزق السياسي الأميركي. فحصل التجاذب، ولا يزال، ولن يكون حكماً في مصلحة الإدارة الأميركية للأسباب التالية:
بين النظام الإيراني والإدارة الأميركية افتراقات من أهمها:
-استقطاع حصة ثابتة للنظام الإيراني قي مؤسسات الدولة العراقية تتيح له البدء في تحقيق حلمه «الإلهي» ببناء الدولة الإسلامية العالمية تكون نواتها الأولى امتداده في جنوب العراق.
-الملف النووي الإيراني، وهو أحد سُبُل امتلاك النظام الإيراني قوة كافية من أجل حماية مشروعه السياسي.
تلك الافتراقات عوامل تضيف إلى مآزق الإدارة الأميركية مأزقاً إضافياً. فهي في موقع حرج لأنها تقف بين حلين أحلاهما مر: إما صفقة مع النظام الإيراني تسمح له بمتابعة برنامجه النووي، وفي مقابلها تُبعد أمن قواتها في جنوب العراق عن ابتزازه. وإما استكمال الاشتباك معه بالإصرار على إيقاف مشروعه النووي، وبه تعرِّض أمن قواتها لعامل مقاومة جديد في جنوب العراق. فهل لدى الإدارة الأميركية مخرج من هذا المأزق؟
تراهن الإدارة على وساطة روسية. وتدخلت الإدارة الروسية وتوصَّلت إلى اتفاق مبدئي مع إيران على انشاء شركة لتخصيب الأورانيوم الايراني في روسيا، وهو ما تؤيده واشنطن لأنه يؤدي الى تبديد مخاوفها من نية طهران امتلاك سلاح نووي، تحت ستار برنامج مدني. وعلى الرغم من أن تفاصيل الاتفاق لم تُعلن، أو انها لم تُبحث حتى كتابة هذا التقرير، نرجِّح ان يصل الطرفان الإيراني والأميركي إلى حلول وسط تُهدِّئ حدة الاشتباك بينهما مرحلياً. فحاجة الطرفين للانتهاء من ملف تشكيل حكومة عراقية حاجة مشتركة، تفوق أهميتها في هذه المرحلة ملف إيران النووي. وقد يكون نجاح الوساطة الروسية في التوفيق بين الطرفين أنموذجاً لتوافق آخر في توزيع الحصص في العراق، من خلال التوافق على تشكيل حكومة عراقية تستجيب لمصالحهما معاً. وتلك فرصة ستعمل الإدارة الأميركية في وقتها الضائع من أجل توفير قوى نظامية عربية وإسلامية لكي تملأ الفراغ الذي سيحدثه الانسحاب الأميركي الجزئي لحماية جنود الاحتلال، إما بإعادتهم إلى بلادهم قبل استحقاق انتخابات الكونجرس، وإما بتوطين من سيبقى منهم في قواعد عسكرية آمنة تتوهَّم أنها ستبعدهم عن خطر عمليات المقاومة العراقية.
قد يقد يقترب هذا السيناريو من الواقعية خاصة إذا تمَّ تدعيمه بإسناد سياسي أوروبي من خلال مجلس الأمن. وبه تُبعد الإدارة قواتها عن مرمى الخطر المباشر، وتضع بديلاً لها قوات عسكرية عربية وإسلامية مدعومة بقرار سياسي أممي، فتصيب هدفين معاً، وهما: مراهنتها على أن القوات العربية والإسلامية بالتعاون مع قوات الحكومة العراقية ستُمسك بالأمن فتوفِّر على نفسها فاتورة الدم، وتزرع لها أنياباً تُبعد عنها ابتزاز النظام الإيراني لأمن قواتها، ذلك الابتزاز الذي يستخدمه النظام المذكور في سبيل تحصيل أكثر ما يمكن من المكاسب في العراق وغيره.
أياً تكن السيناريوهات أو الفرضيات لحل الاشتباك الحاصل بين حليفيْ الأمس فإن الوصول إلى نتائج توفيقية ليست بالهدف السهل. ولكنها ليست بالمستحيلة فكل منهما يساوم الآخر ويبتزُّه. وجلَّ ما نقوله هو أن تناقض مصالح حلفاء الأمس ضد العراق سيُنتج متغيرات جديدة، وسيُضيف عوامل جديدة تصب، بشكل غير مباشر، في مصلحة المقاومة العراقية. فالاشتباك الحاصل الآن سيُضعف الاحتلال من جهة، كما أنه لن يضع النظام الإيراني في موقع القوة من جهة أخرى، ففي حده الأدنى سيكون إضعافاً للحليفين اللدودين معاً. فهل في مثل هذا الاحتمال ما يمكن أن تستفيد منه المقاومة العراقية؟
ثالثاً: سيناريو بدائل الاحتلال الأميركي المباشر: إدخال الجيوش العربية إلى العراق تجري على قدم وساق
بداية لا نرى في التدخل العربي ما يتناقض مع ثوابت المقاومة العراقية، لأن التدخل العربي، مهما كان أعرجاً، له الأولوية في إيجاد حلول للمشاكل العربية، كما من مهماته المشاركة في الدفاع عن أية أرض عربية والالتحام مع أخوته في معارك الدفاع عن أرضهم. ولكن لمثل هذا التدخل شروط وثوابت، ومن أهمها، أن تتكامل الأدوار العربية مع ثوابت مواجهة مصالح الاستعمار والصهيونية كونهما يمثلان التناقض الرئيسي ضد مصالح الأمة العربية. وهذه الشروط غير متوفرة في المهمة التي ستُنتدَب لها تلك القوات.
تتصاعد إعلانات اختبار ردود الفعل وتتكاثر حول إمكانية إرسال قوات عربية وإسلامية نظامية إلى العراق المحتل. تلك الإعلانات تثير التساؤل حول أسبابها وأهدافها ونتائجها. وسنحاول أن نلقي بعض الأضواء عما هو مكشوف منها أو مستور.
عندما وقعت قوات الاحتلال الأميركي في أكثر من ورطة ومأزق، انصاعت الإدارة الأميركية، بناء لنصائح مؤسساتها السياسية والأمنية التي دعتها إلى إكساب وجودها في العراق غطاءً دولياً، لتلك النصائح، وهي مُكرهَة. فطلبها الحصول على المساعدة الدولية يعني أن ما كانت تعتبره حصتها الكاملة في العراق ستتوزَّع كإغراءات لمصالح الدول التي سترضى أن تقدم لها مساعدة تتجاوز بها ورطتها ومأزقها. فاستجاب بعض الدول لطلبها بشرط أن تنال حصتها في «كعكة العراق»، وصدر القرار 1546، وبه خفَّفت إدارة بوش الإبن الضغوط الدولية الممانعة لعدوانها على العراق واحتلاله. فكان القرار المذكور صفقة سياسية في مقابل سلة من الوعود الاقتصادية.
ولأن تلك الصفقة لم تشمل تقديم مساعدة عسكرية أو مالية للاحتلال، فقد ظلت الإدارة الأميركية تتحمل وزر عملها العدواني بدفع فواتير الدم والمال، ولأنها باهظة الثمن فقد ظلَّت تحتاج إلى ما يساعدها على التوفير منها. فهل نجد في بنود مجلس الأمن الرقم 1546 ما يوضِّح لنا سيناريو ما بعده؟
في بنود الصفقة ألغى القرار المذكور عن القوات الأميركية صفة الاحتلال، إذ رحَّب مجلس الأمن الدولي «ببدء مرحلة جديدة، إذ يتطلع تحقيقا لهذه الغاية إلى إنهاء الاحتلال وتولي حكومة عراقية مؤقتة مستقلة وتامة السيادة لكامل المسؤولية والسلطة بحلول 30 حزيران/يونيه 2004 ». وفي مقابل ذلك حفظت الدول المتواطئة مع الاحتلال حقها بعدة مواد تضمَّنها القرار 1546، وفيها كبَّلت الاحتلال بضرورة إنجاز موجبات حسب جدول زمني ينتهي بـ«قيام حكومة منتخبة انتخاباً دستورياً بحلول 31 كانون الأول/ديسمبر 2005».
ماذا يعني هذا التكبيل؟
من خلال مواد القرار المذكور انتقلت قوات الاحتلال إلى «قوات متعددة الجنسيات»، مما أراحها من عبء الالتزام بالكثير من القيود التي عليها أن تراعيها كدولة محتلة، وألقاها في رقبة الحكومة العراقية. وفي المقابل كبَّلها بعدد من القيود، في أكثر من مجال:
-حقوقي دولي: حينما ألزمها بمهمة «صون الأمن والاستقرار في العراق وفقا للقانون الدولي، بما في ذلك الالتزامات المقررة بموجب القانون الإنساني الدولي». ففي النص تحذير من أن الدول الموعودة بحصة من «كعكة العراق»، تلوَّح للاحتلال الأميركي، في الحالة التي تتنصل أميركا من التزاماتها غير المعلنة، بإشهار سيف هذا النص تحت طائلة كشف ما يرتكبه الاحتلال الأميركي من جرائم.
-وحقوقي اقتصادي: وقد ألزمها بـ«تأكيد حق الشعب العراقي في السيطرة على موارده الطبيعية». وفيه تهديد أيضاً بمنع الاعتراف بأية اتفاقات اقتصادية ستعقدها الإدارة الأميركية مع أية حكومة عراقية، تحت طائلة اعتبارها غير شرعية.
-وحقوقي أمني: حينما ألزمها بأن «تكفل تحقيق شراكة كاملة بين القوات الأمنية العراقية والقوة المتعددة الجنسيات، من خلال التنسيق والتشاور على نحو وثيق». ولهذا دعا «الحكومة لتكوين القوات الأمنية العراقية بما فيها القوات المسلحة العراقية والتي ستؤدي دورا متزايدا بصورة تدريجية وستتولى في نهاية المطاف المسؤولية الكاملة عن صون الأمن والاستقرار في العراق».
-وحقوقي تنفيذي بتعزيز دور الأمم المتحدة، وذلك عبر إلزام قوات الاحتلال الأميركي بجدول زمني «يشمل إجراء انتخابات ديمقراطية مباشرة في موعد لا يتجاوز 31 كانون الثاني/يناير 2005، لتشكيل جمعية وطنية انتقالية، تتولى تشكيل حكومة انتقالية وصياغة دستور دائم تمهيدا لقيام حكومة منتخبة انتخاباً دستورياً بحلول 31 كانون الأول/ديسمبر 2005».
-وربط استمرار قوات الاحتلال بقرار دولي آخر «بعد مضي إثنى عشر شهراً من تاريخ اتخاذ القرار، على أن تنتهي الولاية لدى اكتمال العملية السياسية المبينة في الفقرة 4». على الأسس التالية:
أولاً: من خلال المادة (13) يعطي للأمم المتحدة دوراً مميزاً في «إنشاء كيان قائم بذاته في إطار القيادة الموحدة للقوة المتعددة الجنسيات تقتصر مهمته على توفير الأمن لوجود الأمم المتحدة في العراق».
ثانياً: من خلال المادة (14) ألزم (القوة المتعددة الجنسيات)، أي قوات الاحتلال، بالمساعدة على «بناء قدرة القوات والمؤسسات الأمنية العراقية، من خلال برنامج للتجنيد والتدريب والتجهيز».
ثالثاً-من خلال المادة (15) بطلبه «إلى الدول الأعضاء والمنظمات الدولية والإقليمية تقديم المساعدة للقوة المتعددة الجنسيات، بما فيها القوات العسكرية، للعمل على تلبية احتياجات الشعب العراقي إلى الأمن والاستقرار ... ودعم جهود بعثة الأمم المتحدة لتقديم المساعدة إلى العراق».
رابعاً-من خلال المادة (31) بتقديم «تقرير كل ثلاثة أشهر» للاطلاع على سير الأمور، على أن يُبقي مجلس الأمن «المسألة قيد نظره الفعلي»، كما نصت عليه المادة (32).
نقرأ نظرياً في مضمون القرار 1546 أن الدول التي ساندت قوات الاحتلال سياسياً، ولكي تضمن مصالحها، كبَّلت الإدارة الأميركية بعدد من القيود عندما عزَّزت دور الأم المتحدة، وهو عامل لم يكن له أية أهمية في جدولة الإدارة للسيطرة على العراق في بداية العدوان وبعد الاحتلال بقليل، فدخلت الدول الأعضاء شريكاً، سيظلُّ مؤثراً طالما استمرت الإدارة الأميركية عاجزة عن حماية جنودها.
إن قراءة للقرار 1546، في هذه المرحلة بالذات، تدل على أن الإدارة الأميركية في عجلة من أمرها، لمواجهة حلفائها في مجلس الأمن بعد أن انتهت مفاعيل القرار 1546 من جهة، ولمواجهة استحقاق انتخابات الكونجرس في الخريف القادم من جهة أخرى. وبينما ترى نفسها عاجزة عن فرض الأمن، حتى بمشاركة القوات الأمنية العميلة التي تقوم بإعدادها، أصبحت حاجتها ملحة، أكثر من أي يوم مضى لتفعيل المادة (15) من القرار 1546.
ولأن الدول المتواطئة مع الإدارة الأميركية لن تقدِّم دعماً عسكرياً خوفاً مما أخاف جنود الاحتلال الأميركي، ومن أجل توفير المستلزمات العسكرية المنصوص عليها في الفقرة (15)، تجري المحاولات على قدم وساق لإرغام الدول العربية أولاً، والدول الإسلامية ثانياً، لتوفير العدد اللازم من الجنود المطلوب دخولهم إلى العراق تحت قبعات «القوات المتعددة الجنسيات».
وفي مثل هذا الطلب مأزق آخر، لأكثر من سبب، وأهمها إثنان: الأول هو المأزق الذي ستواجهه حكومات النظام العربي الرسمي أمام شعوبها، والثاني معطوف على الأول هو أن المقاومة العراقية قد حذَّرت من أي دخول إلى العراق على قاطرة حماية الاحتلال الأميركي وإنقاذه من مأزقه. وفي مواجهة هذا الاحتمال حدد المنهج السياسي الاستراتيجي للمقاومة أسس التعامل مع النظام العربي الرسمي بـ«تعطيل الأدوار المحتملة لأنظمة عربية متآمرة انطلاقا من مطلبيتها بالتعامل مع واقع الاحتلال وإفرازاته، وحرق أصابع تلك الأنظمة في تعاملها المخطط والمحتمل مع الشأن العراقي، وعكس ذلك على أزماتها السياسية والاقتصادية والأمنية المعاشة».
ليست أبواب الحل مقفلة من حيث إقناع الأنظمة العربية أو إرغامها على إرسال جيوش عربية إلى العراق، ولكنها ليست مفتوحة أيضاً، وإنما حالة الإرباك والحيرة هي ما تعيشه تلك الأنظمة، فتهديد سيدها الأميركي أمامها، والصدام مع شعوبها ماثل وراءها. فهي تقدِّم رجلاً وتؤخِّر أخرى، كما ينتظر بعضها من يدق الجرس، فلم يتوفر لمثل تلك المهمة إلاَّ الأمين العام لجامعة الدول العربية للقيام بدعوة الأنظمة العربية لإرسال جنود إلى العراق. وعلى العموم فإن تلك الأنظمة تعيش مأزقها الفعلي، فهي بين نارين مشتعلتين:
-الأولى أنها أمام مواجهة مع الشعب العراقي وطليعته المقاومة العراقية، إذا ما أرسلت جنودها إلى العراق لحماية القواعد الأميركية.
-أما الثانية فهي أمام اختراق إيراني مخيف للعراق، وهو ما جعل الخطر الإيراني أكثر قرباً، إذا لم يكن قد اخترق تلك الحواجز إلى عمق النسيج الاجتماعي والإيديولوجي لدول الخليج.
فهي في كلتي الحالتين ستشكل حماية للاحتلال في مواجهة المقاومة العراقية، كما ستشكل حماية له في مواجهة مرحلة التناقض بين الحليفين الأميركي والإيراني. فهل يكون التدخل النظامي العربي حطباً لنار الصراع الأميركي الإيراني على أرض العراق؟
إنها أسئلة وإشكاليات، حسمها الاحتلال الأميركي بوجوب التدخل العربي لحمايته. ولكن هل من الممكن أن تجد حكومات النظام العربي الرسمي حسماً لواقع الحيرة والارتباك في مؤتمر القمة العربية التي ستنعقد في الخرطوم في أواخر شهر آذار؟
أما الطرف الإيراني، فيعمل على جرِّ المنطقة كلها إلى حرب أخرى بينه وبين العرب، وفيها استراحة للإدارة الأميركية من حالة الإنهاك التي عمَّقتها المقاومة العراقية، ولا تزال تعمَّقها.
فهل يستطيع النظام المذكور أن يسحب الذرائع الأميركية، ويقوم بتعطيل شباكها وأحابيلها، بالعودة عن الحلم الخطير الذي يدور في رؤوس آياته؟
لم تفت الفرصة التاريخية من أمامه، لأن الحل لن يكون خارج وحدة العراق أولاً، وخارج وحدة قومية عربية تمتلك كل إمكانيات المواجهة مع الاستعمار والصهيونية ثانياً، والمخرج من النفق المظلم بداية هو أن يوظِّف النظام الإيراني إمكانياته، التي يضعها في خدمة اقتطاع فيدرالية في العراق، ويوجهها إلى مقاومة الاحتلال الأميركي. وبهزيمة المشروع الأميركي في العراق مكسب مهم لكل دول المنطقة وشعوبها. فلعلَّ وعسى.


(4): في العام الثالث للاحتلال الأميركي:
الخلل في توازن القوى بين الاحتلال والمقاومة يميل بنقاط نوعية لمصلحة المقاومة الوطنية العراقية
20/ 3/ 2006
تطل علينا الذكرى الثالثة للعدوان على العراق، الذي ابتدأت فصوله التنفيذية الأولى في ليلة 19- 20/ 3/ 2003، وسبقته سنوات عديدة في الإعداد والتخطيط، كانت متممة لأصول الأطماع الاستعمارية والصهيونية منذ اتفاقية سايكس بيكو في العام 1916.
نفذت الإدارة الأميركية الحالية عدوانها من دون تغطية من مجلس الأمن الدولي، مكتفية بتأييد ومشاركة من رئيس الحكومة البريطانية، وتأييد ومباركة من قبل بعض الحكومات الغربية، واستسلام وخضوع من أكثرية في النظام العربي الرسمي. وفي المقابل نددت أوساط شعبية أهلية ودينية، مسيحية وإسلامية، بالعدوان واستنكرته، مدعومة من بعض الحكومات الغربية، التي لم تؤيد العدوان ولم تشارك فيه.
كما استغلت الإدارة الأميركية، مدعومة من طوني بلير رئيس الحكومة البريطانية، سلسلة من الأكاذيب التي أنتجتها أجهزة المخابرات التابعة لهما، ليس أقلها امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل والتعاون مع تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن. بل استكملتها باتهامات باطلة، كمثل الديكتاتورية والمقابر الجماعية واستخدام الأسلحة الكيماوية في ردع معارضة التيار الانفصالي الكردي، وقد تمَّ إعدادها بالتواطؤ مع شلة من الخونة من العراقيين، خريجي معاهد المخابرات الأجنبية والصهيونية.
وأسهم نظام الملالي في إيران بالمؤامرة، من خلال صفقة مع «الشيطان الأكبر»، أدخل فيه جماعاته من الذين دربهم، مخابراتياً وعسكرياً وإيديولوجياً، للتسلل إلى العراق والإسهام في احتلاله. وأراد من خلال التآمر والتنسيق مع إدارة جورج بوش على احتلال العراق أن يحقق الحلم الذي عجز النظام المذكور عن تحقيقه، في العام 1980، بواسطة اعتداءاته على الحدود المشتركة بين البلدين أو من خلال إثارة الشغب في داخل العراق عبر العديد من تفجير المؤسسات العامة، أو عبر محاولات الاغتيال كمثل المحاولة التي جرت في قرية «الدجيل» لاغتيال القائد صدام حسين رئيس جمهورية العراق، وأخرى استهدفت اغتيال نائبه المناضل طارق عزيز. وقد أفشل العراق ذلك الحلم ووأده في معركة القادسية الثانية (0 98 1- 988 1).
حصل العدوان، الذي توهمت فيه الإدارة الأميركية أنها ستحتل العراق بسرعة مستندة إلى قوتها العسكرية الأسطورية، ومن بعد احتلاله ستفرض وقائع جديدة ترغم فيها العالم الممانع على الرضوخ. ومنها تعيين حكومة عراقية تستجيب لإملاءاتها. وبها تنطوي صفحة العراق الذي كان من أكثر الدول مقاومة للإرادتين الاستعمارية والصهيونية. وبتلك الصفحة تمهد الإدارة المذكورة لحكم العالم من خلال سيطرتها على المخزون النفطي للأمة العربية.
في المقابل كان حزب البعث العربي الاشتراكي، بقيادة الرئيس الفذ صدام حسين، قد أعدَّ العدة المناسبة من أجل استعادة التوازن المفقود في القوى النظامية على قاعدة الكفاح الشعبي المسلح، وكان قد وجدها في إستراتيجية الحزب وتجاربه التاريخية من خلال تجربة الأمة العربية. ولما انطلقت المقاومة مباشرة بعد احتلال بغداد قلبت موازين القوى رأساً على عقب، فاستعاد بها الحزب حيويته ونضاليته، وأصبحت المبادرة في يده، ووقع الاحتلال في مأزق كبير بعد أسابيع قليلة من، الأول من أيار في العام 2003، إعلان رئيسه النصر في العراق.
إن هذا المأزق، بعد مرور ثلاث سنوات من الاحتلال، لا يزال يزداد ويتعمق، كما يتعمق مأزق عملائه من العراقيين، والعرب، ودول الجوار الجغرافي، وهذا ما خطط له المنهج السياسي الاستراتيجي للحزب في 9/ 9/ 2003. وأصبح الاحتلال على قاب قوسين أو أدنى من إعلان الهزيمة.
كانت حصيلة ثلاث سنوات من نضال المقاومة العراقية وجهادها، كبيرة وأكثر من أن تحصى، وتمثلت على الصعد الداخلية والعربية والدولية بالآتي:
أولاً: على الصعيد الداخلي استعادت المقاومة العراقية زمام المبادرة عندما كشفت الوجه الخياني لكل العملاء من العراقيين، سواء أكانوا تابعين للمخابرات الغربية والصهيونية أم كانوا من التابعين للمخابرات الإيرانية، وعرَّتهم من أكاذيبهم التي روجوها حول نظام حزب البعث السياسي. كما كشفت مخططاتهم وعمالتهم، فلم يبق لهم من شعب العراق إلا الميليشيات المسلحة التي لا تستطيع حمايتهم من ضربات المقاومة والنقمة الشعبية. تلك الميليشيات التي تمارس الآن أقذر أنواع الملاحقة والاعتقال والسجن والتعذيب. وبالإجمال فقد أسقطت ممارساتهم وانكشاف أهدافهم أية شرعية عنهم حاول الاحتلال، ولا يزال، أن يغطيهم بقرارات واهية وساقطة أمام نصوص القانون الدولي والإنساني على الرغم من صدورها عن المؤسسات الدولية والعربية، وليس أقلها مجلس الأمن الدولي ومجلس جامعة الدول العربية.
أما في المقابل، وبفعل نجاح المقاومة بفرض نفسها حركة تحرر وطني، وبفعل عجز الاحتلال وعملائه عن تمويه العدوان والاحتلال بشرعية أو قانون، وعجزهم عن توفير الأمن وأدنى موجبات العيش الكريم للعراقيين، فقد ازداد الالتفاف الشعبي حول المقاومة، وأصبح الشعب العراقي خزاناً أساسياً في دعمها بالإمكانيات البشرية وخلافها. وبذلك تكون المقاومة قد فرضت شرعية تمثيلها الوطني بين جماهير العراق الشعبية.
إن تلك الحقائق: هبوط أسهم الاحتلال وعملائه بين العراقيين وتصاعد المد الشعبي المؤيد للمقاومة والذي يغذيها بسيل بشري مقاتل، أصبحت ثابتة وذات مصداقية عالية تدل عليها فشل كل العمليات العسكرية الكبرى التي نفَّذتها قوات الاحتلال في أكثر المدن والقرى العراقية التي استهدفت إرهاب العراقيين وجعلهم يبتعدون عن المقاومة أو تأييدها. أما عشرات العمليات الوحشية فقد أطلقت عليها قيادة الاحتلال العسكرية أسماء تدل على «إرهاب الدولة الأميركية المنظَّم» ومنها، «القبضة الفولاذية» و«المطرقة الحديدية» و«الأفعى المتسلقة» و«عقرب الصحراء»... أما أهم المحاور الجغرافية فقد كانت الفلوجة والقائم وتلعفر وسامراء...
وعلى الرغم من وحشية تلك العمليات على النساء والأطفال والمدنيين الآخرين، فقد كان تأييد المقاومة من قبل الشعب العراقي يزداد ويتصاعد.
ويضاف إلى جهد المقاومة الموقف الشجاع الذي يعبر عن كبرياء البعثيين ومستوى نضالهم العالي ما جاء في محاكمة الرئيس صدام حسين ورفاقه أمام محكمة مشبوهة شكَّلها الاحتلال. تلك الوقائع جاءت لتفصح عن صورة مشرقة وحية لمستوى الأداء النضالي الرفيع الذي أبداه الرئيس خاصة، ورفاقه بشكل عام. وشكلت وقائعها معلماً مهماً يفخر به البعثيون والعرب أمام العالم كله. ففيها أعطى الرئيس الأسير، مع رفاقه، زحماً نضالياً عالياً، سواء أبانت انعكاساته الإيجابية على الجماهير الشعبية العربية، أم كان على مستوى رفد المقاومة العراقية بزخم وتجديد لحركتها النضالية والجهادية.
ثانياً: على الصعيد العربي وضعت المقاومة معظم حكومات النظام العربي الرسمي أمام أكثر من مأزق ومشكلة. تلك الحكومات التي لم تستفد حتى الآن، بما فيها المؤسسات القومية الرسمية، من تجربة المقاومة العراقية في توظيف وقائع الصراع لمصلحة الأمة العربية، بل راحت تستجيب إلى إملاءات الاحتلال من أجل توفير عوامل حمايته ومساعدته على اجتياز مآزقه. وقد يكون من أهمها استدراج تلك الحكومات إلى إرسال قوات عربية إلى العراق لمساعدة القوات العراقية العميلة في ضرب المقاومة العراقية من جهة، وحماية قوات الاحتلال التي تستعد للانكفاء إلى قواعد عسكرية من جهة أخرى.
وفي المقابل لا يمكن إغفال دور وأهمية بعض جوانب الممانعة التي تظهر في الأفق العربي، السبب الذي عجز لأجله الاحتلال إلى دمجها تماماً في مخططاته. تلك المظاهر، على ضعفها، يمكن البناء عليها في إحداث تراكم ممانع بتشجيعها والعمل على توسيعها وتعميقها، وهي التي نحسب أنها ستتعمق طرداً مع ازدياد تأثير المقاومة في العراق واستمرارها.
ثالثاً: على الصعيد الدولي نقرأ أهمية ما عكسته نضالات المقاومة العراقية وجهادها من تأثير وتداعيات على أكثر من مستوى، يبتدئ في انفراط عقد التحالفات الهشة مع بعض الدول الغربية التي غرَّرت بها الإدارة الأميركية أو أرغمتها على مساندة الاحتلال بالجنود أم بالأموال، فهي قد تناقصت أربع عشر دولة حتى الآن والحبل على جرار الأشهر القادمة. ولن تنتهي بحالة الاستنهاض التي تعم الآن نادي الدول المتضررة من مشروع العولمة الأميركية، خاصة في دول أميركا اللاتينية. فالتداعيات لا شك بأنها ستصيب أيضاً نادي الدول الرأسمالية التي لا تتفق مصالحها مع أمركة العالم.
رابعاً: على صعيد تراكم حالة الرفض والممانعة والمقاومة يشهد العالم اليوم حركة ناشطة وضاغطة على الإدارة الأميركية من قبل العديد من المؤسسات الأهلية والحزبية والقوى والشخصيات والأوساط الثقافية والسياسية. لكنها وإن كانت تقديماتها ونشاطاتها لا تتناسب مع وفرة العطاء والنتائج التي تقدمها المقاومة العراقية لحركتي التحرر العربي والعالمي، إلا أنها مؤهلة لتشد أزرها لتصعيد عطاءاتها بما يتناسب مع جهد المقاومة العراقية، ففيها ما يبشر بأن نشاطاتهما في تصعيد وتصاعد مستمرين.
أما نتائج الحاضر إجمالاً، فتتلخَّص بأن الإدارة الأميركية عرفت كيف تحتل العراق، ولكنها جهلت كيف تخرج. فقد أعماها بريق ثروات العراق وإسقاط نظامه الوطني، الذي أصبحت وطنيته مشهود لها بكل المقاييس، عن رؤية العوامل التي تستثير الشعوب وتجعلها تستشهد من أجل المحافظة عليها. تلك العوامل ممثلة بالدفاع عن الكرامة والسيادة الوطنية مترافقة مع آليات تنفيذها من خلال إستراتيجية الكفاح الشعبي المسلح التي لا تقل أهمية وقوة عن مستوى التكنولوجيا العسكرية المادية، لا بل تفوقها قوة وأهمية. فالذي يقاتل من أجل كرامته هو أكثر إصراراًَ على إحراز النصر على الذي لا تتجاوز قوته سقف الأطماع بالمصالح المادية.
إن قوة الاحتلال الأميركي في العراق تنهار، والضعف ينتابها كل يوم أكثر من اليوم الذي يسبقه. وينحصر اهتمام الاحتلال اليوم بمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مشروعه الأم الذي احتل العراق من أجل تنفيذه بأكمله. فبعد أن كان يحلم بعالم يخضع لمشيئته من دون شريك، فقد تكاثر الشركاء، ليس أولها محاولة تمرد بعض عبيده عليه بتأثير إيراني، أو شراكة نظام الملالي في إيران مستغلاً عملاءه الذين أحرزوا نجاحاً صورياً ملحوظاً في مسرحية الانتخابات الأخيرة، أو انتظار بعض حكومات نادي الدولي الرأسمالية لتنال حصتها لقاء ما قدمته للاحتلال من دعم سياسي، أو اتقاء شر تداعيات ما تحققه المقاومة العراقية على الداخل الأميركي.
كلها عوامل تعمل على إنهاك جسد إدارة جورج بوش، وتؤشر إلى بروز متغيرات إيجابية على مستقبل الصراع بين المقاومة والاحتلال لصالح المقاومة والعراق والأمة العربية.
وختاماً نرى أن الخط البياني لمعادلة الصراع بين المقاومة العراقية والاحتلال الأميركي ابتدأت في المرحلة الأولى للعدوان مائلة لصالح الاحتلال، ولم تمض الأشهر الأولى من العام 2003 حتى اختل التوازن وأخذ يميل لصالح المقاومة، هذا الخلل لا يزال يتعمَّق كلما ازدادت وتائر تأييدها في الشارعين الأميركي والعالمي ومن بعدهما الشارع العربي، وبالتالي كلما اشتد عود المناهضين لأمركة العالم سواءٌ على صعيد الأنظمة أم على صعيد حركات التحرر. وبالنتيجة لا بدَّ من أن تكون عوامل الخلل في موازين الصراع تسير في تصاعدها الكمي، وهي واصلة لا محالة إلى تغيير نوعي ترى إدارة الشر الأميركية نفسها عاجزة عن مواجهة كل مناحي الرفض لاحتلالها العراق، وبها تقفز المقاومة العراقية حتماً إلى احتلال كرسي النصر والتحرير.
فبعد ثلاث سنوات من احتلال العراق، نتوجه بالتحية لصاحبة القرار الشرعي والوحيد، المقاومة الوطنية العراقية:
عاشت المقاومة العراقية ذراعاً أساسياً لحركتي المقاومة العربية والمقاومة العالمية الشاملة. والمجد والخلود لشهدائها، وتحية الإكبار لمجاهديها ومناضليها.
عاش الرئيس صدام حسين شيخ المناضلين والمجاهدين، وعاش رفاقه وكل الأسرى في سجون الاحتلال الأميركي والصهيوني، والحرية القريبة لهم.
عاش العراق حراً أبياً محرراً من الاحتلال الأميركي وعملائه.
***

(5): الشارع العربي الغائب الأكبر عن مواكبة القضايا القومية:
الأسباب والنتائج
24/ 3/ 2006
لا يخفى على المراقب لتطورات الأوضاع على الساحة العربية، بل مما يلفت نظره، أو يستفزه أحياناً كثيرة، هو أن المؤامرة الاستعمارية والصهيونية تكاد تنحصر في أقطار الأمة العربية بينما عبء مواجهتها، على الأقل اعتراضاً سياسياً سلمياً، غائب بشكل شبه تام عن الشارع العربي. ومما يلفت النظر أيضاً هو أن يكون الشارع العالمي أكثر عروبة من الشارع العربي!!
ليست تلك الظاهرة التي تصفعنا في الصميم معزولة عن جذورها وطبيعة تراكيبها، نشأتها وتطورها منذ الخروج من استعمار تركي إلى استعمار أوروبي وأميركي.
قد يواجهنا البعض باعتراضات أننا نغرق أحياناً في النظر إلى الحالة من خلال تكوينها التاريخي حتى ولو حاولنا أن نعالج أبسط القضايا التي تعاني منها أمتنا، أما ردُّنا فهو أن أسس المعرفة السياسية والفكرية حتى في أبسط القضايا لن يتم تحديدها بأقرب ما يمكن من الدقة بمعزل عن التكوين التاريخي لتلك القضايا. وهؤلاء من ضيقي الصدر كأنهم يدعون إلى بتر تاريخية قضايانا بما يحرمنا من الاستفادة من التجربة التاريخية التي أثبتت نجاحها، وبها كأنهم يدعونا إلى إهمال تجارب الأمة التراثية:
-الإيجابية منها بما يجعلنا نستفيد من البناء عليها.
-والسلبية بما يمنعنا من الاستفادة من معرفة ثغراتها لتجاوزها حرصاً على وقت ثمين لقوى التغيير في الأمة.
لقد أغرق هؤلاء في قراءة آخر النظريات العالمية، تلك النظريات التي لم تكن ولادتها لتحصل لو لم يستفد المفكرون الذين وضعوها من قراءة تجارب أممهم التاريخية الخاصة، فدرسوها ونقدوها واستخلصوا منها مبادئ المعرفة الفكرية وصاغوها في قوالب من التعميم والتجريد لتُضاف إلى تراث المعرفة الإنسانية.
وبناء عليه ليس من المستغرب أن نربط بين الظاهرة المؤسفة في النظر إلى ظاهرة غياب الشارع العربي عن مواكبة أكثر القضايا سخونة في الساحة العربية، تلك القضايا التي كانت أكثر صدماً للشارع الغربي فجعلته يتحرك بحرارة وحماس تأييداً لها. بينما المنطقي في الأمر أن تكون أكثر تفاعلاً مع الشارع العربي لأنها قضاياً عربية أولاً، ولأن المواطن العربي يتعرَّض إلى مخاطر استمرارها بشكل مباشر، مؤذي أحياناً كثيرة، او بشكل غير مباشر لأن نتائجها الوخيمة ستطوله آجلاً أم عاجلاً.
إن ثقافة الشارع العربي هي من ثقافة القوى المؤثرة فيه، فليس للشارع دليل فكري سياسي إلاَّ ما تنتجه تلك القوى، وهنا نحددها بقوتين:
الأولى تعمل على تشكيلها الأنظمة الرسمية العربية. وهي بما لديها من إمكانيات وعوامل تأثير وجذب، سواءٌ عبر إمساكها بعناصر القوة المالية التي تمس حياة المواطن مباشرة وتستغلها عامل إغراء لجذب أكبر كتلة بشرية إلى جانبها، أم عبر إمساكها بعناصر القوة الأمنية والعسكرية التي تعني تهديد المواطن ووعيده إذا ما وقف في موقع الخصومة للنظام السياسي القائم.
ولأن طبيعة تكوين النظام الرسمي العربي تاريخياً مرتبطة بأواصر وثيقة واتفاقيات غير معلنة بينها وبين قوى التأثير الرأسمالي العالمي، منذ أوائل القرن الماضي، خاصة وأن تركيبة تلك الأنظمة قائمة على الفجوات الطبقية التي تفصلها وتنأى بها عن التمثيل الشعبي الصحيح. وكذلك قيام بعض النظام العربي الرسمي على العشائرية التي توفر لنخب العشائر مصلحتها، أو تلك القائمة على العشائرية الدينية والمذهبية وبها تجذب أبناء مذهبها لوحدهم تحت ذريعة أنها تحرس لهم مذهبهم وتحميه، وتكون غالباً تحت ذرائع وجود «أعداء وهميين» من المذاهب الأخرى...
هذا التشخيص يجعلنا نضع النظام العربي الرسمي في موقع النقيض لمصالح الشارع العربي، مما يجعل المراهنة على ثقافته في إيصال الحرارة إلى جسم الشارع العربي أمراً مستحيلاً. فمن الخطأ المراهنة على «الراعي الذي يشكِّل عدواً للغنم». والنتيجة هي وضع الشارع بين خيارين: إما القبول بثقافة النظام أو التعرض لقمعه وإعادة غسل دماغه بما يتناسب مع مصلحة النخب «الحاكمة».
أما القوة الثانية، فهي ثقافة التغيير التي من المفترض أن تعمل حركات وفصائل قوى التحرر على تعميمها. ولكننا نرى أن الحل في هذا الجانب هو المشكلة أيضاً.
فبطء حركة الشارع العربي وعدم اكتراثه، هي من بطء الحركة الفكرية للحركات السياسية العربية المفترض أن تكون مكوناً أولياً وضرورياً في حركة التغيير العامة. وهي لا بدَّ من أن تشكل طليعتها، إذ لا بدَّ لهدف التغيير من أن يمرَّ أولاً عبر ما نسميه طليعة تحمل الجرس وترفع الصوت وتقدم التضحيات التي بدونها لن تزرع الحوافز وتمهِّد الطريق لحركة الشارع.
هذه القوة، أي تلك التي اعتنقت عقائد وإيديولوجيات مناهضة لعقائد الأنظمة الرسمية وإيديولوجياتها، هي بحد ذاتها ممزقَّة ومفتَّتة. صحيح أنها حركات تعمل من أجل التغيير، ولكن أهداف التغيير لدى كل منها تختلف عن الأخرى وقد تقع في دوائر المتناقضات الحادة. ولو لجأنا إلى التبسيط في تصنيفها بين علمانية ودينية، لوجدنا أن كل صنف منها يتوزَّع إلى أصناف أخرى متناقضة أيضاً.
فالقوى العلمانية تتشرذم إلى ثلاث: قطرية وقومية وأممية، ولكل منها جواذبها الفكرية والسياسية.
اما القوى الدينية، فتتشرذم إلى ما يوازي الأديان، والأديان تتشرذم إلى ما يوازي عدد المذاهب في كل دين. ولكل منها جواذبها الإيديولوجية الإلهية المقدسة.
ففي الحكم العام بين النظام العربي الرسمي وقوى التغيير يكتسب النظام العربي الرسمي ميزة التوحد بين أنظمته الحاكمة، وتلك ميزة واضحة المعالم والقرار في هذه المرحلة. بينما قوى التغيير ليست متباعدة، او متناقضة فحسب، بل تتلهى أيضاً في صراعات جانبية أو أساسية فيما بينها. تلك الصراعات تضيف قوة أخرى إلى قوة ذلك النظام.
من الطبيعي أن تتعدد الرؤى الفكرية والسياسية والإيديولوجية لتكون عامل إغناء وإثراء في تكوين الثقافة الشعبية، لكن الخطير فيها أن تلك التعدديات لا تصب في منحى التوحيد السياسي، بل تزيد التفتيت وتغذيه من أجل أن يقتنص كل حزب أو حركة ما يستطيع من الشارع العربي ليقوم بتشكيله على مقاييس مصالحه السياسية التي غالباً ما تتحكم فيه الأهواء التقسيمية القطرية أو الأهواء التقسيمية الدينية أو المذهبية. وتلك الظاهرة بارزة في الموقف من المقاومة الوطنية العراقية. بحيث تلعب أهواء بعض التيارات المحسوبة على حركة التغيير وإيديولوجياتها دوراً سلبياً في وضع المقاومة في العراق في مكانها الصحيح. وهي وإن كانت لا تعيق عمل المقاومة إلاَّ أنها تضع العصي في دواليبها تجعل الاحتلال يكتسب بعض الوقت ليستفيد منه من تحييد قوى كان من الطبيعي أن تكون إلى جانب المقاومة وضد الاحتلال.
ولأن قوى التغيير على تلك الشاكلة فمن الصعوبة بمكان المراهنة على أن تلعب دوراً ما في دفع الحرارة إلى جسد الشارع العربي.
لكن يبقى السؤال الأساس والأهم، خاصة وأن الأمة تخوض صراعاً مريراً ومؤلماً، ستكون نتائجه إذا ما نجح المشروع الاستعماري والصهيوني وخيماً على الجميع حتى على تلك النخب الرسمية الحاكمة، ولن تستثني أية حركة علمانية أو دينية، يبقى السؤال: هل هذا الوضع الراهن يدعو إلى القنوط واليأس؟
استناداً إلى مبدأ التغيير الذي يبتدئ بالطليعة التي تحمل الجرس وتقرعه، وترفع الصوت ولا تخشى، وتقدِّم التضحيات ولا تبالي، يمكننا البدء في البناء لبنة لبنة. فالطليعة لا بدَّ من أن أنها ستحقق نتائج حتى ولو كانت متواضعة فهي التي تشكل الجاذب للشارع خطوة تلو خطوة، وهي التي ستنتهضه وتثير فيه عوامل القوة قطرة فقطرة، ومن دون ذلك ليست لدى أحد عصاً سحرية تقول للشارع العربي «تحرَّك، فيتحرَّك». فمن قدر الطليعة أن تقدِّم الأنموذج والمثال، وستكون تضحياتها «الوقود الحراري» الذي سيقوم بتحريك الحرارة في جسد الشارع العربي.
إن مهمات الطليعة اليوم، في ظل «عربدة التكنولوجيا» الاستعمارية أو الصهيونية، تتمثَّل بـ«استراتيجية الكفاح الشعبي المسلَّح» لأنها الوحيدة القادرة على فرض التوازن في القوى في مراحلها الأولى، ومن بعدها ستختل تلك الموازين لمصلحة المقاومة، وهي تشكل القاعدة والأساس في الانتصار والتحرير. كما أن من مهمات الذين حسموا موقفهم إلى جانب المقاومة أن يستفيدوا من كل بادرة في ممانعة قوى الاستعمار والصهيونية، لعلَّها ترتقي إلى مستوى المقاومة الفعلية بكل الوسائل والأساليب.
إن تاريخية العمل العربي المقاوم، على الرغم مما كان يلاقي من محاربة القوى المتحالفة مع الاستعمار والصهيونية، تدل على أنه كان يشكل الجاذب الأساس للشارع العربي الذي ما إن كان يتحرك مشحوناً بنتائج العمل المقاوم حتى يفرض التراجع على كل وسائل القمع النظامي الرسمي من جهة، كما يفرض على أصحاب الإيديولوجيات على شتى مسمياتهم من الذين يعيقون بشكل أو بآخر أو يعرقلون العمل المقاوم التراجع والانكفاء من جهة أخرى.
تلك هي معادلة التغيير في اتجاهات الشارع العربي التي نراها تلوح في الأفق مراقبة ومواكبة لحركة العمل المقاوم في فلسطين والعرق، وإن الأمر لا يدعو إلى اليأس مما نرى، بل يدعو إلى التفاؤل بالمستقبل الذي تؤكد وقائع ما يجري أنه يقترب من النصر والتحرير.
لقد قالها الرئيس صدام حسين، أمير الأسرى والمجاهدين،. قالها قبل العدوان على العراق واحتلاله لكل موفدي الأنظمة الرسمية العربية، كما قالها لكل الموفدين والوفود الشعبية العربية: إن العراق سيخوض الحرب ضد الولايات المتحدة الأميركية، فيمكنكم الاستفادة مما سوف يحصل.
كما قالها المناضل الرفيق عزة الدوري في رسالته إلى حركات التغيير في الأمة: سيروا وسترون كم هي عطاءات الشعب العربي كبيرة وكريمة.
***

(6): المشهد العراقي في شهر آذار 2006
عيدان يحييهما البعث: تأسيس الحزب في السابع من نيسان 1947، وانطلاقة المقاومة العراقية في العاشر من نيسان 2003

الافتتاحية
البعث في استراتيجية مقاومة الاستعمار يوسِّع دائرة إشعاعه القومي إلى الإشعاع على الأمم
تتميَّز أحزاب التغيير أولاً بمتانة عقائدها وتعبير تلك العقائد عن حقيقة واقع الأمة وأهدافها، وثانياً واقعية تمثيلها لأوسع الشرائح الشعبية في الأمة ومصالحها، وثالثاً أن توازي بواقعية وصدق بين أهدافها ووسائل نضالها. وقد تميَّز حزب البعث العربي الاشتراكي، بشبه إجماع من المحللين والناقدين على أنه نزل بالنظرية القومية من أبراجها النخبوية، أي نزل بالنظرية من التجريد إلى الواقع، ولهذا أصبح «ليس الحزب/ النظرية، بل الحزب/ الفكرة والنضال». لهذا أصبح يمثل نقطة تحول في تاريخ الحركة القومية العربية، ويعود ذلك إلى أنه اعتمد الوصل بين النظرية القومية «الخالصة» أو قومية اللغة والتاريخ، إلى النظرية الشاملة ذات المحتوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
ولأنه جميع بين مسألتين: القومية من جهة، ومحتواها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي من جهة أخرى، واستكمل تميَّزه بحركة حزبية منظَّمة مناضلة، شقَّ طريقه الصعب وفرض نفسه رقماً صعباً في معادلات الصراع بين الأمة وأعدائها. وهذا هو حال الحزب في هذه المرحلة التاريخية الحاسمة على المستويين القومي والعالمي.
على نواصي خيل حزب البعث النضالية يراهن العالم بأسره مترقباً نتائج الصراع الذي يقوده ضد التحالف الإمبريالي والصهيوني والرجعي العربي، ولأنه على مقاييس تلك النتائج سيتحدد مصير العالم بأكمله. فمستقبل العالم الحر مرتهن الآن، في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة، للجهد الذي تبذله المقاومة الوطنية العراقية في مواجهتها للاحتلال الأميركي. هذه المقاومة التي كانت نتاجاً للفكر الاستراتيجي للبعث، وإعداداً من قيادته سابقاً للاحتلال، ومفجِّراً لجذوتها بدءًا من العاشر من نيسان من العام 2003.
وإن كانت مختلف فصائل المقاومة العراقية، من البعثيين والإسلاميين والوطنيين الآخرين وشيوخ العشائر وعلماء الدين، عرباً وأكراداً وتركماناً، مسلمين ومسيحيين وصابئة، وتضحيات أطفال ونساء وشيوخ العراق، تحقق الصمود تلو الصمود، والتضحية تلو التضحية، وإيقاع الاحتلال وعملائه في المأزق تلو المأزق، لا ينفي أن يكون حزب البعث هو مؤسس المقاومة ومهندسها وقائدها. كما لا ينفي الموقع المتميز الذي يحتله الحزب في المقاومة جهد الآخرين وتضحياتهم ودورهم، بل تتكامل الأدوار وتتجمَّع النتائج وتتوحَّد لتزيد لهيب النضال والجهاد لتحرير العراق لهيباً.
إن حزب البعث الذي تتأسس على قواعد التلازم بين النظرية والنضال من أجلها، فهو قد أسَّس على أرضية نضاليته البنى التحتية لـ«أم المقاومات الشعبية» في العالم المعاصر. وبها يحق لنا أن نقول: إن البعثيين يحتفلون اليوم بعيدين:
-في السابع من نيسان من العام 1947، عيد تأسيس البنية النظرية القومية المتلازمة مع إستراتيجية النضال من أجلها.
-وفي العاشر من نيسان من العام 2003، عيد تأسيس المقاومة الشعبية، التي يحق للبعثيين اعتبارها «أم المقاومات»، لأكثر من سبب أنها من خلال انطلاقتها الوطنية العراقية اكتسبت بعدها القومي العربي، ولطبيعة صراعها مع الاستعمار والصهيونية اكتسبت بعدها الأممي.
يستقبل البعثيون هذا العام ثورتهم في العراق وهم يستبشرون بالأمل المشرق في أن يحتل حزبهم موقع الاهتمام الأول في ذاكرة حركة التحرر العالمي، فبعد انطلاقته في المقاومة، غير المسبوقة في التاريخ، موازناً مهمات السلطة السياسية مع مهمات الثورة التحررية، أثبت بجدارة أن البعثي يمكنه أن يستلم السلطة وفي الوقت ذاته تبقى جذوة الثورة متَّقدة في أعماقه.
كما يستقبل البعثيون هذا العام تأكيد التلاحم النضالي بين القيادة والقاعدة الحزبية، فالجميع انتقلوا إلى خندق النضال جنباً إلى جنب، بشكل تتكامل فيه الأدوار على أوضح ما يمكن من العلاقات الرفاقية في توزيع نضالي قلَّ نظيره في التجارب الأخرى. وبرزت تلك التجربة من خلال وقوع القيادة في الأسر التي توهَّمت قيادة الاحتلال أنها حسمت المعركة لصالحها خاصة بعد وقوع الرئيس صدام حسين، الأمين العام للحزب في أسر الاحتلال، فإذا بالخندق النضالي المقاوم يولِّد قيادات تواصل الثورة وتشتعل أكثر. وإذا بالقيادة تتَّخذ من المحكمة الصورية التي شكلها الاحتلال خندقاً آخر للمقاومة، وتحول منبرها إلى منبر مقاوم بكل معاني المقاومة ودلالاتها ووسائلها.
تلك محاكمة قلَّ نظير مستوى الذين يُحاكمون أمامها، من حيث التماسك والصلابة والوضوح الثوري في المواقف، وقد كان الرئيس صدام حسين أمام تلك المحكمة كما عهده فيه البعثيون في مرحلة السلطة من كفاءة واقتدار ووضوح نظري ومستوى عال من الثورية. فهو كان استراتيجياً في السلطة من خلال بنائه لأكبر مشروع نهضوي لم تعرفه الدول النامية، وكان استراتيجياً في الإعداد للثورة وقيادتها، سواءٌ أكان في خندق القتال أم كان في خندق المحاكمة.
مثلما كان العام الفائت والأعوام التي سبقته عام المقاومة بامتياز، كان هذا العام هو عام «أم المحاكم» التي حوَّلها قائد الثوار إلى محكمة للاحتلال وعملائه. وفيها تناسى كل هم شخصي أو عائلي، على الرغم من أنه قدَّم للأمة ثلاثة شهداء من فلذات كبده، كان همه منحصراً في هم الأمة والأمة وحدها. كما أنه لم يستأثر باهتمامه مصيره الشخصي أمام محكمة لا يمتلك مؤسسوها ذرة من ضمير، فقد كان مثال الأب لرفاقه الأسرى الذين هم مجبرون على المثول أمام محكمة لا شرعية قانونية لها ولا شرعية إنسانية.
تتوالى الأعوام أمام البعثيين وتتواصل تجاربهم وتتراكم نضالاتهم، تكل الهمم وتتراخى الجهود، وهم لا تكل لهم همة ولا يتراخى لهم جهد. ترف الجفون خوفاً أمام الآخرين من مواجهة الاستعمار والصهيونية بينما جفون البعثيين تحدق في مصير الأمة وحدها، فيقتحمون حصونهم وجدرانهم وقطعاتهم العسكرية، ويتحدُّون آلتهم العسكرية الرهيبة. وهكذا تكون الطلائع، وهكذا يكون المناضلون، يتساوى في خوض ساحات النضال القياديون والقواعد على حد سواء بتقسيم لأعباء النضال ووظائفه، ويرفد كتف البعثي كتف البعثي الآخر، ويرفد كتف البعثي أكتاف المقاتلين، كل المقاتلين العراقيين، فتتواصل الثورة ويزداد أوارها كلما كانت عوامل التحدي كبيرة، وليس هناك تحد أكبر مما تفرضه إدارة «الأميركيين اليمينيين الجدد»، وليس هناك تحد أكبر من الوقوف في خندق مقاومة الصهيونية العالمية، وصنيعتها في «الكيان الصهيوني» الذي اغتصب أرض فلسطين الحبيبة.
إن حزب البعث في ذكرى تأسيسه الستين يتصدى باقتدار وهمة نضالية عالية لتحالف القوى الاستعمارية والصهيونية والقوى الرجعية العربية والسائرون في ركابهم من العملاء والساقطين في مستنقعات الخيانة، كما يتصدى بهمة واقتدار لكل من يمثلون العوائق الأساسية في منع الأمة من النهوض والتجديد والتغيير من المنتسبين إلى شتى صنوف الطائفية والمذهبية الدينية السياسية وأنواعهم وألوانهم وأشكالهم وروائحهم المضمَّخة بروائح المصالح الخارجية.
وإلى ذكرى أخرى سنرى فيه البعث منتصراً حاملاً راية التغيير في الداخل بعد أن يسجَّل آخر نقاط النصر على عدوان الخارج، نتوجَّه بالنداء إلى كل العرب بأن يعدوا أنفسهم لاستقبال البشرى القادمة بأن يستلحقوا أنفسهم برشق قوى العدوان، كل قوى العدوان، ولو بمثقال ذرة من بارود رصاصة واحدة.
المشهد العراقي في شهر آذار من العام 2006
لا يزال التسابق بين الاحتلال والمقاومة العراقية جارٍ كما هي الحال منذ احتلال العراق على نيران حامية. وإذا كانت إستراتيجية المقاومة واضحة منذ بداية الاحتلال وتقوم بتنفيذها خطوة خطوة وقد نجحت فيها ولا تزال عملياتها تتصاعد حاصدة أرواح جنود الاحتلال وآلياتهم، كما تتصاعد حاصدة أرواح عملاء الاحتلال ومقارهم وأماكن وجودهم، ففي المقابل تتكاثر مآزق الاحتلال وعملائه وتتعمَّق.
مأزق الاحتلال الأميركي في محاكمة الرئيس صدام حسين ورفاقه:
كانت من أكثر وسائل المقاومة دلالة هي محاكمة الرئيس صدام حسين ورفاقه الأسرى، من خلالها نقل الرئيس الأسير سلاح المقاومة إلى داخل المؤسسات العميلة، وكانت نوعيتها وتأثيرها كبيرة وكبيرة جداً على معنويات الاحتلال وعملائه كما كان لها تأثير السحر على الشارع العراقي والعربي والدولي تلك التأثيرات التي عمَّمتها ونشرتها، على الرغم منها، وسائل الإعلام المعادي أيضاً.
من أهم دلالات المحاكمة أنها شدَّت ملايين المشاهدين إلى متابعة وقائعها فاكتشفت الجماهير بعفويتها أن من كان يتم تصويره بالديكتاتورية يتميَّز بالموقف الوطني الصلب الذي لا يساوم على وطنه وأبناء وطنه، وأنه المناضل الذي ترك كل شيء خاص وراءه، حتى خسارته لفلذات من كبده، وتحيَّز للعام الذي له علاقة بمصير وطنه وأمته.
كانت المحاكمة فعلاً مأزقاً آخر من مآزق الاحتلال، والتي ظهرت واضحة في أن المخرج الأميركي الذي يقف في كواليس المحكمة قد فقد صبره تماماً في جلسة منتصف شهر آذار، ولم ير بداً من أن يأمر رئيس المحكمة الأراجوز بقطع الصوت وبالتالي تحويل الجلسة إلى جلسة سرية على الرغم من أن هذا الإجراء ليس قانونياً على الإطلاق. لكن ما همُّ الوالغ في ركل كل ما هو شرعي أو قانوني برجله، ضارباً عرض الحائط تعليمات حتى الذين لا يزالون يدعون إلى التمسك بالقشور تغطية لعورات الاحتلال وعورات عملائه من الخونة والمتآمرين.
الخلاف حول تشكيل الحكومة العراقية يرتبط بلون عمالتها:
يتسابق الحليفان اللدودان، الأميركي والإيراني، ويتنافسان على تشكيل حكومة عميلة يراهن كل منهما على أنها ستكون الأقرب إلى تمثيل مصالحه. وتكون نتيجة التسابق والتنافس، والمساومة أحياناً كثيرة، أقلها تشريع التفاوض بينهما بفتوى من الخامنئي وقبول ورضى من كوندوليزا رايس، وقد تمَّت الصفقة بناء لندائين وجههما كل من عبد العزيز الحكيم، وخليل زاده وهو من يُسمى سفير الاحتلال الأميركي في العراق.
انقضى على الانتخابات التي جرت تحت رعاية الحليفين، الأميركي والإيراني، على قاعدة التنافس الشديد الحرارة، أكثر من ثلاثة أشهر. في الوقت الذي عجز الاحتلال الأميركي عن الحصول على نسبة عددية كافية يستطيع فيها تركيب حكومة ذات أكثرية تستجيب لمصالحه، تلك لنتيجة التي لم تكن مريحة له على الرغم من توسيط السعودية ودفعها كي تؤثر على العامل السني وتقنعه بالانخراط في عملية الانتخابات كعامل تنافسي في مواجهة عملاء إيران، لذلك صبَّت نتائج الانتخابات في مصلحة النظام الإيراني الذي حصل على عدد يؤهله لتشكيل حكومة تستجيب لتعليماته.
من أبرز تلك النتائج أنها ستحدد حصص القوى الأجنبية في الخريطة السياسية والاقتصادية العراقية، ومما زرع القلق في أوساط الإدارة الأميركية هو الإخلال بتوازن عوامل التأثير في العراق خاصة رجحان كفة تأثير النظام الإيراني، فوجدت لها شركاء «غير مرغوب فيهم» في تقسيم «الكعكة العراقية». فهي في حيرة من أمرها، إذ شكَّلت المتغيرات التي فرضتها الانتخابات مأزقاً جديداً للإدارة الأميركية، هذا المأزق الذي أتى هذه المرة من أحد حلفائها في احتلال العراق. ويصح أن نضعه في دائرة التناقضات التي ستتعمَّق بين أطراف التحالف الواحد، وهو يأتي مكمِّلاً للتناقضات التي ابتدأت بين أطراف تحالف النظام الرأسمالي العالمي والتي ستتعمَّق تباعاً في المراحل اللاحقة.
يأتي تأثير التناقض بين النظام الإيراني والإدارة الأميركية في غاية من الدقة والحساسية خاصة أن نتائج توسيعه ستكون أكثر سلبية على وجود الاحتلال المادي والعسكري. تلك السلبية التي تؤرق أوساط البيت الأبيض هي الخوف من أن يبتز النظام الإيراني حليفه الأميركي بالسماح في انطلاق مقاومة ضد وجوده العسكري بعمليات عسكرية. وهذا إن حصل، ونحن نؤيده وندعو إليه، سيكون رسالة «حسن نية» من النظام الإيراني في تغيير مساراته لينتقل من مساومة الأميركيين على حساب «جثة العراق» إلى مقاومته، خاصة إذا ترافقت نوايا النظام الإيراني برسائل توحي بالثقة أنها تغلِّب التناقضات الأساسية على أي تناقض ثانوي آخر، والتي لن يكون تحرير المنطقة كلها من الوجود الاستعماري الصهيوني أكثر أهمية من أية تناقضات أخرى.
وأما الحقيقة التي على النظام الإيراني أن يستوعبها تماماً، هو أنه لم يكن مسموحاً له أن يحلم بجنى مصلحة واحدة من الاحتلال الأميركي للعراق لو لم تثخن المقاومة الوطنية العراقية جسد الاحتلال بالجراح وتملأ دفاتر حساباته بالخسائر، فجعلته أضعف القوى على الساحة العراقية.
ولكن على قاعدة الابتزاز المتبادل بين الحليفين استغلَّ النظام الإيراني عامل الضعف الأميركي الذي لم يستطع أن يركِّب لعملائه الذين يثق بهم أرجلاً حتى خشبية، إذ تبيَّن أن الصفوة منهم، كالجلبي وعلاوي وغيرهم، يفتقدون لأي عمق شعبي أو ميليشيات عسكرية، فلم يبق للاحتلال من عوامل الضغط في العراق سوى قوته العسكرية المباشرة.
فلما أصبحت أداة الاحتلال العسكرية في مواقع الدفاع عن النفس تسلل أصحاب المصالح من المستفيدين من ذبح العراق، ومنهم النظام الإيراني، إلى مواقع القوة والضغط والابتزاز للإدارة الأميركية. ولعلَّ الملف النووي الإيراني هو الأكثر استفادة في وسائل الابتزاز الإيراني للإدارة الأميركية.
وعلى العموم يلعب المتحالفان على الساحة العراقية لعبة الابتزاز المتبادل على حساب العراقيين وأمنهم وكرامتهم الوطنية.
من كل ذلك فقد وقع الاحتلال الأميركي أسيراً «لعفاريت الطائفية والمذهبية والعرقية» التي أطلقها كوسيلة من وسائل حماية احتلاله للعراق. فإذا بها تشكِّل أحد أكثر مآزقه حدة التي حفر لها لتقوية عملائه فإذا به يقع في الحفرة التي حفر. ولكنه حتى الآن لم يتعظ، وليس الأمر غريباً فهو غريق يريد أن يتمسَّك بأية قشة، ولكنه لا يجد إلاَّ القشات التي ستقسم ظهر«بعيره».
تلك هي سياسته منذ البداية، وقد استعرت حرارة الفتنة المذهبية التي يشعلها، والتي جاراه فيها النظام المذهبي الإيراني لأنه المستفيد الأكبر منها، وكانت أكثر ظواهرها بروزاً ما حصل في سامراء:
تفجير مقام الإمام العسكري، وإذكاء نار الفتنة الطائفية:
ترافقت المحاكمة مع جريمة ارتكبها الاحتلال الأميركي بتواطؤ من الأجهزة الإيرانية، من عناصر إيرانية أو من أدوات عراقية تستجيب لإملاءات المشروع الإيراني المذهبي في الأمة العربية.
لقد دلَّت الكثير من الوقائع والمعلومات على احتمال مشاركة إيرانية فعَّالة في تفجير المقام، أما هدفها من وراء عملها فهو تبرير القيام بعملية تطهير مذهبي تصل من بعده هيمنة النظام الإيراني إلى أهم العتبات الشيعية المقدَّسة في سامراء. فلم يتأخَّر عملاء إيران، وبالوثائق الدامغة، بل أسرعوا إلى نقل تلك العتبات من الوقف السني إلى الوقف الشيعي، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على إصرار إيراني، بأدوات عراقية، على تمتين الأسس لفرض واقع الفيدرالية المذهبية التي نصَّ عليها الدستور الأميركي المفروض على العراق.
أما الأهداف الأميركية من وراء مشاركتها في التفجير، فتعوِّل على تعميق الشرخ المذهبي بين العراقيين كخطوة أساسية على طريق تقسيم العراق، فيغدو ضعيفاً في مواجهة الاحتلال الأميركي.
أما العراقيون الصادقون بوطنيتهم ودينهم، الذين رفضوا الاحتلال وكل إفرازاته، فبذلوا كل الجهود الممكنة لمنع انتشار مشروع الفتنة الطائفية، واستطاعوا أن يحاصروا نارها في أضيق الحدود. وإذا كان هذا الأمر جدياً فهو لا يعني أن الحاقنين بنار الفتنة سيرتدعون عن مخططهم، مما يستدعي مضاعفة جهود المخلصين من الذين لا يرون في العراق إلاَّ الوحدة والتحرير.
أعلنها الرئيس صدام حسين في رسالته التي وجهها من قاعة المحكمة إلى العراقيين أن وحدة العراقيين هي سر قوَّتهم قائلاً: «أيها الشعب العظيم بكل ألوان الطيف الجميل.. قوميات وأديان ومذاهب.. لا أفرق بين أحد منكم.. لا في ضميري ولا عقلي ولا لساني.. مثلما كنت لا أفرق بينكم على أساس أي لون سوي الحق والعدل».
كما حمَّل رامزي كلارك، أحد محاميه، رسالة إلى الأميركيين قائلاً: «قل للأميركيين عاجلاً أم آجلاً فإن جناحي العراق سيتوحدان وعندها لن تبقى أميركا أربعاً وعشرين ساعة في العراق».
ومن الأهداف الأخرى أيضاً، نرى أنه لعلَّ في تسعير أوار الفتنة الطائفية في العراق ما يريد الاحتلال الأميركي أن يبتزَّ به العرب، خاصة بعد أن هيَّأ أرضية دفعهم إلى مساعدته في الخروج من المأزق في العراق، أو حماية هذا الوجود من خلال استقدام قوات عربية، يرجو منها الاحتلال أن تكون «سنية» لتوفير التوازن مع الوجود الإيراني «الشيعي».

القمة العربية تعود في الشكل: هروب من المسؤولية والأنظمة العربية تدخل في مدارات الإحراج:
في السنوات التي فصلت بين تاريخ احتلال العراق وانعقاد القمة العربية الحالية، مرَّت الأنظمة العربية بأكثر من توقع ومراهنة. كان احتلال العراق بحد ذاته مأزقاً عربياً، حتى للمتواطئين منهم والوالغين في تقديم سُبُل العون للعدوان الأميركي، لأنهم كانوا يراهنون على احتلال سريع يفرض وقائع جديدة على العرب يدفعهم إلى الاستسلام أنظمة وشعوباً، بحيث تتلطى الأنظمة العربية تحت ذرائع الصعوبة في دفع القوة الأميركية ومواجهتها، وسيتقدمون ببراءة ذمة لشعوبهم التي قد تساءلهم عن امتناعهم عن نجدة قطر عربي والدفاع عنه، بأنهم قدموا النصيحة تحت شعار حسني مبارك حينما حاول إقناع النظام الوطني في العراق بالاستجابة للإملاءات الأميركية ولكنه لم يأخذ بالنصيحة، فقالها مبارك ساعتئذٍ «اللهم إني قد بلّغت».
ولكن هذا ما لم يحصل، فلم يكن الاحتلال سريعاً، بمعنى أنه لم يحقق أهدافه في السيطرة على العراق أمنياً ولا اقتصادياً باستثناء السرقات التي توفِّر كسباً تكتيكياً للمسؤولين المباشرين عن الاحتلال، ولكنها لا توفر الكسب الاستراتيجي، وهي في قلب أهداف الاحتلال الإستراتيجية. إن إفشال أهداف العدو أتى على يد المقاومة الوطنية العراقية السبب الذي دفع بالأنظمة العربية المتواطئة للانتقال من مرحلة المراهنة على فرض وقائع جديدة تأتي بحقائق جديدة إلى المرحلة التي أخذت فيها الأنظمة العربية تتكهَّن حول مصير المقاومة العراقية، وكانت مراهنة على أن قوات الاحتلال الأميركي سوف «تجتثُّها»، أو ربما تستقطب أطرافاً منها وجرِّها إلى مسرح العملية السياسية في العراق، وبالتالي يسهل الضغط، حسبما يتوهمون، على «السُنَّة» وجرِّهم إلى قفص تلك العملية. وحول تلك المراهنة جاء ما سُميَّ بـ«مؤتمر المصالحة العراقية» الذي انعقد في القاهرة في محاولة كانوا فيها يعملون على احتواء «هيئة علماء المسلمين في العراق»، على أن يتم اختبار «المصالحة الموهومة» في انتخابات 15/ 12/ 2005.
تمت تلك الانتخابات ولم تمطر لعرب أميركا ولأميركا ذاتها نتائج تُذكر، إذ كان أكبر الناجحين من العملاء هم الأكراد والتيارات السياسية المرتبطة مع إيران. وبمثل تلك النتائج حصلت متغيرات وضعت الاحتلال الأميركي أمام مأزق جديد يتلخَّص بالخضوع للابتزاز والمساومة الإيرانية. وإن كان المأزق ينال من الاحتلال الأميركي المباشر فإنه شكَّل مأزقاً للأنظمة العربية المتواطئة بشكل غير مباشر، وسيتحول قريباً إلى مأزق مباشر. وذلك المأزق سيبدو واضحاً جداً، وهو أن تلك الأنظمة لم تستفد من مراهنتها على الاحتلال الأميركي فحسب، بل أرغمتها المتغيرات الجديدة التي أتت على حصان نتائج الانتخابات المذكورة، لكي تضعها أمام تحد أكبر، وربما مواجهة مباشرة ستحصل بين الأنظمة الرسمية وبين النظام الإيراني، فوصول الأمن والجيش الإيراني إلى الحدود السعودية والكويتية هو التهديد الأكبر لأمن منطقة الخليج. وبهذا لا نتوهَّم إذا استنتجنا أن تلك الأنظمة ستندم كثيراً على إسقاط النظام الوطني لحزب البعث بشكل عام، والرئيس صدام حسين بشكل خاص، عندما حمى الحدود الشرقية للوطن العربي بقوة واقتدار في معركة «القادسية الثانية». أما أسباب الندم، التي لا تجرؤ إلى الظهور للعلن، خشية ورهبة ورعباً من الأميركيين، إلاَّ أنهم سيندمون على أنهم راهنوا على حماية الأميركيين لهم، وهؤلاء هم الأميركيون لا يقدرون على حماية أنفسهم، وراحوا يأمرون أعوانهم في دول الخليج للمساهمة في تلك الحماية، ونحن نراقب تلك النتائج وذلك المصير الذي انزلقت إليه أنظمة الخنوع والاستسلام، إذ سيكون عنوان المرحلة القادمة «من سيحمي من؟».
تلك هي صورة الواقع الطبيعي للنظام العربي الرسمي الحالي، أما احتمالات مواقفه من خلال القمة الراهنة، فلن تكون في أفضل حالاتها أكثر من اتخاذ قرارات تمسك العصا من وسطها انتظاراً لما سترسو عليه الإستراتيجية الأميركية التي تتم صياغتها مرغمة بفعل أداء المقاومة الوطنية العراقية.
إننا نتوقَّع أن تتم صياغة الإستراتيجية الأميركية على القاعدة الأساسية للنظام التقليدي الأميركي هو التراجع عن الطموحات الإمبراطورية القائمة على حكم العالم مباشرة بالقوة العسكرية إلى صياغة تحالفات سياسية وأمنية واقتصادية مع زميلاتها في منظومة الدول الرأسمالية تحت راية «الأمم المتحدة» الممسوكة بالقرار الرأسمالي مع أرجحية للولايات المتحدة الأميركية ومصالحها مبنية على مكاييل القوة العسكرية والاقتصادية. وهي ستكون من جهة أخرى مبنية على صياغة علاقات الدول الرأسمالية مع منظومة الدول العربية المتواطئة من خلال تقوية مواقعها وتحصينها وحمايتها.
ولذا فمن المرجَّح أن تعود الولايات المتحدة الأميركية إلى عقر دار سياستها التقليدية السابقة مع تحسينات فرضتها، أو ستفرضها، المتغيرات على الساحة العراقية، بوقائع جديدة ستفرز حقائق جديدة، تراكمت أو ستتراكم، بفعل أداء المقاومة الوطنية العراقية.
إن الدور الذي يؤديه النظام العربي الرسمي ليس أكثر من أحجار من الدومينو يركبها بشكل عام اللاعب الرأسمالي، واللاعب الأميركي بشكل خاص، لن ينأى به بعيداً عن الخطر. ولذا نرى أنه إذا أراد مرحلياً أن يكون محصنا عليه أن يبادر، وهو لن يبادر، إلى اللحاق بركب النجاة من خلال الاعتراف بالمقاومة الوطنية العراقية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب العراقي من جهة، ومن جهة أخرى سحب كل أنواع الاعتراف بالحكومة العملية وكل المؤسسات التي انبنت بفعل الاحتلال وأوامره. أما السبب فهو أنه لن يستطيع قيادة العراق في مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي إلاَّ القوة التي ستحرره، وتلك القوة هي المقاومة بشتى قواها، وإن من سيدرأ خطر التسلل الإيراني على الأمن القومي العربي هو ذلك النظام الوطني العراقي ذاته. فمن أجل حماية أمنه سيكون النظام العربي الرسمي متطوعاً لدعمه حتى ولو اقتضى الأمر أن يخوض معركة «القادسية الثالثة» من أجل استئناف حماية الحدود الشرقية للوطن العربي.


(7): النظام الإيراني فوَّت علينا فرص الفرحة بامتلاكه عوامل القوة العسكرية،
والتحالفات الشاذة اللاعب الأهم في تضليل الجماهير
شبكة البصرة: 12/ 4/ 2006
النظام الإيراني اليوم أمام مواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية، وهذا ما يفرحنا، ويثلج صدورنا.
النظام الإيراني اليوم يقوم بمناورات عسكرية في الخليج العربي باستعراض عضلاته أمام الجبروت الأميركي، وهذا ما يجعلنا أكثر حبوراً وفرحاً، فقد انضمت دول أخرى في دول العالم الثالث إلى منظومة الدول التي تتحدي القوة الإمبريالية الكبرى في العالم.
النظام الإيراني يقاوم الآن من أجل تثبيت حق إيران بامتلاك السلاح النووي، وهي خطوة ضرورية ومهمة تفتح الطريق أمام الدول الأخرى لتطالب بحقها من أجل كسر احتكار امتلاك القوة النووية، وحصرها في أيدي المنظومة الدولية، وخاصة الاستعمارية منها.
النظام الإيراني اليوم يريد أن يمتلك القوة النووية لتوفير توازن سلاح الرعب مع العدو الصهيوني.
كلها مظاهر من المواجهات مطلوبة، بل وضرورية لو كان الظاهر منها يترجم النوايا الخفية. ولو كان ذلك كذلك، لحسبناها أفعالاً تستفيد منها أمتنا العربية، من دون أدنى جدال، او حذلقة في الموقف.
ولكن...
هل يوظِّف النظام الإيراني كل تلك المواقف، والمظاهر، من أجل استئصال المشاريع الإمبريالية والصهيونية؟
هل يوظِّفها من أجل خير الإنسانية، ومنها أمتنا العربية؟
وهل يوظِّفها من أجل أن يكون جيرانه العرب في مأمن من غوائل الاستعمار والصهيونية؟
المشكلة أن النظام الإيراني، على غرار عمله لاستئصال الاستعمار التركي سابقاً، القائم على استبداله باستعمار فارسي، عملت فارس التاريخية من أجل الاستيلاء على المنطقة العربية التي كانت تابعة لسلطان الأتراك. أي استبدال السلطان التركي بشاه إيراني.
أعدَّت فارس التاريخية ليس لبناء عوامل الثقة بين المنطقة العربية وجارتها بلاد فارس، وهو ما يعزِّز الاستقرار في العلاقات المتكافئة بين المنطقتين، العربية والفارسية، بل من أجل أن تقوى بلاد فارس على حساب جاراتها. وأن يسيطر شاه «آل فارس» كبديل لسلطان «آل عثمان».
قد يقول البعض إننا ننبش صفحات تاريخ قد انطوت وولَّت، وبالتالي لا علاقة لتاريخ تلك المرحلة بمرحلة نعيشها الآن. ولا جدوى من نبش صفحات التاريخ.
ما كنا لننبشه لو لم نره يعيد نفسه، ويُنتج نفسه من جديد. فكيف يتم ذلك؟
وللإجابة على هذا السؤال، نمهد له بالتالي:
من المنطقي أن تتضافر جهود المظلومين، من دول العالم الثالث، ومنها جهود الأمتين العربية والفارسية. ومن المنطقي أيضاً أن لا تتنافر مصالحهما في مواجهة العدو الأكبر، والطامع الأكبر، فيهما معاً، وهو التحالف الأميركي الصهيوني.
فعلى الصعيد الجغرافي هما جارتان، والجاران لهما مصالح مشتركة في كثير من القضايا الاقتصادية والأمنية والسياسية. وهما أيضاً يُصنَّفان في المحور المقصود الاستيلاء عليه استعمارياً وصهيونياً.
وإذا كانت الجارتان تدينان بالإسلام، بينما العدو المشترك يعمل من أجل تحقيق حلم بناء دولة دينية على مقاييس الحلم التوراتي، فالجارتان معنيتان معاً في منع نفاذ ذلك الحلم.
تلك المصالح المشتركة، تدل بما لا يقبل الشك في أنهما معنيتان بالوقوف جنباً إلى جنب لمواجهة العدو الواحد الذي يعمل من أجل وضعهما في مصير واحد، لأنهما في سلة واحدة أمام ذلك العدو.
تلك الحقائق تقتضي أن تتوحَّد جهود الأمتين من أجل صد العدوان ومنعه.
لذلك، وبناء عليها نرى أن كل قوة تمتلكها إيران يجب أن يتم توظيفها في معركة المصير الواحد الذي يربط مصالحها موضوعياً مع الأمة العربية. ولهذا السبب قلنا إن النظام الإيراني فوَّت علينا فرصة الفرحة عندما نجد أن قوَّتها العسكرية تتنامى. ولأنها تتنامى، ولأن المنطقي أن يكون في قوة إيران قوة لنا فيه ما يدعونا إلى الفرح والابتهاج.
لكن للأسف نجد أن في قراءتنا للمهمة التي يتم توظيف القوة الإيرانية من أجلها تتلخَّص للناظر بعين السطحية والانفعال بأنها مساعد للأمة العربية، كما للأمم الإسلامية، في مواجهة الاستعمار والصهيونية. بينما الناظر إليها بعين الاستراتيجية الموضوعية يراها بمنظار آخر. واستناداً إليه نرى أن بعض التيارات السياسية الإسلامية العربية تنخدع بمظاهر السياسة الإيرانية وخطابها المعلن، وتتحالف مع النظام الإيراني، بشكل مرئي أحياناً ومخفي أحياناً أخرى. وعلى الرغم من أن البعض قد يقرأ تحليلنا وينسبه إلى أغراض وأهواء إيديولوجية، سنقوم به متمسكين بالنظر إليه بعين الموضوعية.
من هذا المنظار سنقوم بتعريف المشروع الإيراني ومعرفة حقائق أهدافه، منطلقين بمصداقية أن تكون إيران جاراً وصديقاً للأمة العربية. وفي الوقت ذاته، سيكون هدفنا كشف المستور الحقيقي من هذا المشروع، لعلَّ في هذا الكشف ما يفيد في إحداث تراجع عند النظام المذكور من جهة، و إلاَّ قد يكون ضوءًا ينير جزءًا من الصورة المخفية عند التيارات السياسية الإسلامية المتحالفة معه من جهة أخرى، وستكون من أهم أهدافه من جهة ثالثة إسهام في توضيح الرؤية لدى شريحة كبيرة من شعبنا الطيب الصادق المنفعل بمظاهر الدور الإيراني تجاه أمتنا العربية. وفي مقالنا هذا سننظر إلى توضيح رؤيتنا من خلال منظارين: إيديولوجي وسياسي.

أولا: المنظور الإيديولوجي الديني للتيارات السياسية الدينية: توافق على التكتيك وتناقض في الاستراتيجية:
وفيه ما يؤكد أن النظام الإيراني يعمل من أجل بناء إمبراطوريته على قاعدة دينية تجذب إليها من يعتقد بصلاحية استعادة عصر الخلافة الإسلامية.
أما المؤمنون بإيديولوجيا المذهب الشيعي الإثني عشري فلهم مصلحة في دعم ومساندة المشروع الإيديولوجي الإيراني. وأما المؤمنون بمذاهب أخرى، كالإخوان المسلمين، فيساعدون على نفاذ المشروع الإيراني من أجل إسقاط الأنظمة العلمانية أولاً، وليكن الأمر عن طريق مذهب ينظرون إليه بعين الريبة، ومن بعدها يتفرًّغون للعمل من أجل بناء دولة دينية على مقاييس فقههم وإيديولوجياتهم المذهبية.
من داخل هذا المنظار تعطي التيارات السياسية الدينية، تلك التي تؤمن بولاية الفقيه كالنظام الإيراني، وتلك التي تؤمن باستعادة الخلافة الراشدة، أولوية لإسقاط الأنظمة العلمانية حتى ولو حصل الأمر على يد الاستعمار والصهيونية. ومن بعدها تعمل لمكافحة الاستعمار حسب طرائقها الخاصة. ولقد تساوت تلك التيارات في النظر الإيديولوجي الاستراتيجي، سواءٌ اكانت تيارات شيعية أم سنية. وليس من برهان أكثر دلالة وواقعية على ذلك، إلاَّ تماثل المواقف بين التيارات السياسية الدينية الشيعية التي توالي النظام الإيراني، كحزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، مع مواقف الحزب الإسلامي في العراق الذي يوالي فكر تيارات الأخوان المسلمين السنة في أنحاء الوطن العربي. ولعلَّ التناغم الحاصل بين التيارين السياسيين الدينيين، الشيعي والسني على طول الساحة الإسلامية وعرضها، يستند إلى هذه الحقائق.
وإذا حاولنا أن نقرأ استراتيجية الطرفين الإيديولوجية، من حيث العمل على إسقاط الأنظمة العلمانية أولاً. أو قراءة ما هو حاصل سياسياً الآن في العراق: تلاقيهما مع بعض أهداف العدوان الأميركي على العراق وسكوتهما على احتلاله، لهو تلاقٍ تكتيكي يستقوي به أحدهما بالآخر حول أولوية إسقاط الأنظمة العلمانية، ويضمر كل منهما التلاقي للتخلص من الاحتلال، أما من بعدها فتبدأ مرحلة صراع بين طرفيهما حول مضمون نظام الخلافة الإسلامية السياسي.
إذا كُتب لهذا السيناريو أن ينجح، فلن يجد أطراف التحالف المذكور ما يجمعهما في مشروع إسلامي واحد، وإذ ذاك سيعود الصراع التاريخي بين المذاهب الإسلامية إلى إنتاج مرارته من جديد. فبالنظر من هذه الزاوية، يكون عامل القوة الذي ينتجه النظام الإيراني الآن موَّظفاً من أجل توفير العوامل المناسبة لإنجاح المشروع الإيديولوجي المذهبي للشيعة الإثني عشرية.
فيأتي تأييد الطرف الحليف من قبل التيارات السياسية الدينية السنية ليصبَّ في مصلحة المرحلية في مشروعهم الاستراتيجي في استعادة الخلافة الإسلامية. تلك المرحلية المتمثلة بخطوتين استراتيجيتين: إسقاط أنظمة العلمانية في العالم الإسلامي، ومن بعدها إسقاط العدو الخارجي المتمثل بالمشروعين الاستعماري الأميركي والصهيوني، ووليدهما الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة.
منطلقاً من هذه الرؤية الإيديولوجية الدينية الاستراتيجية عبر إسقاط النظام الوطني في العراق يسير التنسيق بين المشروعين، الأميركي – الصهيوني، والمشروع الفارسي على قدم المساواة. فيعمل المشروع الفارسي من أجل السيطرة على مقدرات أمتنا العربية لبناء إمبراطورية فارسية، تحت قناع إيديولوجيا دينية لا تعترف للدول بحدودها القومية، بل هي تقوم على قاعدة أن الحدود مفتوحة أمام تصدير الثورة الإسلامية، من منطلق اعتبارها ذات أهداف أممية.
فبعد احتلال العراق، أي بعد إسقاط النظام الوطني العلماني، تقوم استراتيجية النظام الإيراني على إضعاف المشروع الأميركي المعادي من أجل أن تشق تلك الاستراتيجية طريقها. أي وكأنَّه انتقل إلى المرحلة الأخرى من مشروعه، وطريقها في إضعافه ليس من أجل تحرير العراق، بل من أجل إحلال استعمار غربي فيه باستعمار فارسي، والجانب الجاذب فيه للتيارات السياسية الإسلامية الأخرى هو أنه يشهر أهدافه الإسلامية العامة وليست الأهداف المذهبية الخاصة. أما الدلائل عن أهدافه الحقيقية فكثيرة ومتشعبة.
وعن الاستراتيجيتين للحليفين اللدودين، الأميركي والفارسي، لا نجد أكثر من أنه إذا كانت الإستراتيجية الاستعمارية والصهيونية تصدِّر نفسها بقناع من الديموقراطية، فالاستراتيجية الإيرانية تصدر نفسها بقناع من الثورة الإسلامية.
أما عن فهمنا لاستراتيجية التحالف بين النظام الإيراني والتيارات السياسية الدينية الأخرى، وكي لا يفهم البعض ان تحليلنا يستند إلى مفاهيم قومية علمانية تنافس مفاهيم دينية إسلامية، نعلن بأننا نؤمن بأن التعددية والتنوع، هما أصل من أصول تطوير المعرفة الإنسانية، كما هما حق من الحقوق الديموقراطية لكل تيار سواءٌ أكان دينياً أم علمانياً. واستناداً إلى هذا نعترف بحق التحالف السياسي الديني بين المشروعين ومشروعيته:المشروع الإيديولوجي الإيراني ومشروع الإخوان المسلمين الإيديولوجي ببناء دولة دينية، خاصة وأن الأكثرية المطلقة في إيران كما في الأمة العربية تنتمي إلى الدين الإسلامي.
فعلى القاعدة الديموقراطية يحق للأكثرية أن تختار نوع النظام السياسي وجنسه، ومن حقها أن تختار الدستور والتشريع والقوانين الذي تضعه لنظامها السياسي. لذا يصبح من حق الحليفين الإسلاميين أن يتحالفا من أجل استعادة عصر الخلافة الراشدة. كما أن هناك ما نضيفه وهو: لأن الدساتير والقوانين والتشريعات في الدولة الدينية الإسلامية لا يمكن أن تُؤخَذ من مصدر آخر غير مصدريْ القرآن الكريم والسُنَّة الشريفة، وهو أمر ديني لا خيار لأحد فيه، يستتبع أن ترفض الدولة الدينية الإسلامية أي مصدر آخر سواءٌ أكان يعود إلى تشريعات الأديان السماوية العيسوية أو الموسوية، أم إلى مصادر وضعية أخرى.
أما من جهة أخرى فنرى إن في الحق الديموقراطي للتيارات السياسية الإسلامية في إنشاء دولة إسلامية أكثر من إشكالية لا تجعل من خيار التيارين الحليفين خياراً ديموقراطياً، ومن أهم تلك الإشكاليات اثنتان، وهما:
الأولى: لأن في خيار الدولة الدينية ما ينتقص من حقوق الأقليات الدينية الأخرى لذا تنشأ إشكالية التفاوت في حقوق مواطني الدولة الدينية وواجباتهم.
وإذا كان الخطاب التعبوي الإسلامي، وهو خطاب تكتيكي أكثر منه خطاب يعبِّر تمام التعبير عن حقيقة الإيديولوجيا الدينية الإسلامية، يروِّج بأن الفقه الإسلامي مؤتمن على حفظ حقوق الأديان الأخرى، والمذاهب المتفرعة عنها، بينما نرى نحن أن العكس هو الصحيح، ولمن لا يريد الاعتراف بالحقيقة فليذهب إلى مراجعة ما كتبه كبار الثقاة في المذاهب الإسلامية المنتمين إلى مختلف تلك المذاهب.
الثانية: بسبب من التفاوت والتعارض، وأحياناً كثيرة التناقض في تفصيلات الفقه بين مذهب إسلامي وآخر، وقد تصل تلك التفصيلات عند مذهب معيَّن إلى حدود النص المقدَّس الذي لا تنظر إليه المذاهب الأخرى بعين القداسة، يمكن أن تنشأ بين مواطني الدولة الإسلامية الواحدة إشكالية فيها ما هو أمرُّ من الإشكالية الأولى، وهي تلك الإشكالية التي ستنشأ بين مذاهب الفقه الإسلامي حول تعريف ما هو مقدس. فالمقدسات بينها كثيرة والمحرمات أكثر.
صحيح أن المذاهب الإسلامية تقرّ وتعتقد بأن القرآن الكريم والسُنَّة الشريفة هما المصدران الوحيدان والحصريان للفقه الإسلامي، ولكن الخلاف يبتدئ في تفاصيل الفقه لكل مذهب منها. وهناك من يقول إن الشيطان يسكن في التفاصيل. ونحن هنا لن نبذل أي جهد في تحديد تلك التفاصيل لأن في تاريخ العلاقات بين المذاهب الإسلامية أكثر من دليل وبرهان. وإذا كنا نريد أن نأتي بوقائع معاصرة، فكل من المتحالفيْن السياسييْن الإسلامييْن يعرفها أكثر من أي جهة أخرى. و إلاَّ نطلب منهما أن يبرهنا لنا أن بينهما ما يجمع أكثر من عامل مرحلي.
ولكي نستطيع أن نقرِّب إلى الأذهان صورة الإشكالية بوضوح أكثر، نسأل الأحزاب والتيارات والحركات السنية: هل هم متفقون على نصوص فقهية واحدة؟
كما نسأل الأحزاب والتيارات والحركات الشيعية: هل هم متفقون على نصوص فقهية واحدة؟
واستتباعاً نسأل: هل مشروع الدولة الإسلامية الذي يعتنقه الحليف الإيراني مطابق لمشروع الدولة الإسلامية الذي يعتنقه تيار حركة الإخوان المسلمين مثلاً، أو غيرهم ممن يتقاربون مع المشروع الإيراني، أو يقتربون منه؟
كلها أسئلة لن نجيب عنها ونتركها للحليفين. ولكننا سنعتمدها مدخلاً للبراهين السياسية التي سنسوقها من أجل التعليل والبرهان، تلك البراهين التي سنستقيها من واقع المرحلة السياسية الراهنة في واقع التحالف الإيراني الأميركي في العراق، وسائر التيارات السياسية الإسلامية الأخرى ذات العلاقة بالواقع العراقي تحت الاحتلال ، كما عن واقع التحالف، المعلن أحياناً أو غير المعلن أحياناً أخرى بين التيارين الدينييْن: التيار المذهبي الإيراني الشيعي، والتيارات السياسية الفرقية للسُنَّة العرب.
واستناداً إلى تلك الأسئلة، ومنها، ننتقل إلى تحليل الواقع السياسي الراهن لتحليل آفاق التحالفات الشاذة بين النظام الإيراني والاحتلال الأميركي للعراق من جهة، وآفاق التحالف الشاذ بين مختلف التيارات السياسية الإسلامية على أرضية الاستراتيجية الإيرانية في العراق من جهة أخرى.
ثانياً: تأصيل العوامل السياسية للمشروع الإيراني وعملائه، والتيارات السياسية الإسلامية الأخرى، في العراق:
في مرحلة تحالف التيارين السياسييْن الإسلاميين، الشيعي والسني، مع المشروع الأميركي – الصهيوني، أو مرحلة السكوت عن احتلاله للعراق، لا يمكن أن يرقى إلى أذهاننا أنهما جادان فيه، وإنما يستفيدان من خدماته في إسقاط كل الأنظمة الوطنية أو القومية العلمانية أولاً، فهما يحسبان أنهما ينصبان كميناً له يخلعانه حالما تنتهي وظيفته، أي وظيفته حسب منظورهما.
إنها تقيَّة يمارسانها، وهما يحسبان أن العدو المحتل غافل عنها. وللاستطراد أكثر نقول: إن العدو ينصب كميناً لهما، ويعمل على خلعهما معاً بعد أن تستقيم الأمور له. فالعدو أيضاَ يمارس التقيَّة. وهو سيستفيد منهما لاحقاً، ومعاً.
وعلى قاعدة الفرضية التي يستند إليها الحليفان الإسلاميان، التي نستنتجها من قراءة لسياستهما الاستراتيجية المستندة إلى الإيديولوجيا الخاصة بكل منهما، وقد توافقا عليها قبل أن يتحالفا، وهو أن المرحلة القادمة، بعد إسقاط النظام الوطني العلماني في العراق، سيكون مرحلة مقاومة الاحتلال الأميركي، واستناداً إلى فرضيتهما، سيرحل الاحتلال تحت ضغط المقاومة التي ستكون مشتركة بين التيارين الحليفين.
ومن متابعتنا، ومن فرضية طرد الاحتلال ستنشأ الإشكالية بينهما، وهي الإشكالية التي وصفناها بأنها ستكون الأكثر مرارة من الإشكالية الأولى. وهي إشكالية التفاوت في حقوق مواطني الدولة الدينية وواجباتهم، أي بين المسلمين من جهة، والتنوعات الدينية الأخرى من جهة أخرى.
أما الإشكالية الثانية فستتأسَّس على قاعدة التفاوت أو التعارض أو التناقض بين مختلف تفاصيل الفقه الإسلامي بين شتى المذاهب الإسلامية، أي سيبتدئ الصراع الفقهي – الفقهي. هذا الصراع الذي سيتخذ صورة الصراعات الفقهية في التاريخ الإسلامي الذي امتد لألف وأربعماية عام، ولم تنته فصوله حتى هذه اللحظة.
نحن نصدر أحكامنا من خلال قراءة نصوص المتحالفين الإسلاميين، وإذا كانت قراءتنا مغلوطة أو خاطئة أو ناقصة، نسألهما معاً: هل لديكما تصور موحَّد لقيام دولة دينية إسلامية ستخلف الاحتلال الاستعماري الصهيوني لأقطار أمتنا العربية؟
فإذا فقأ المتحالفان حصرمة في أعيننا، وأعلنا ذلك الاتفاق الذي يستند إلى نصوص فقهية وأصول دينية إسلامية، كما أن يُعلنا بأن بإمكانهما أن يؤسسا دولة إسلامية يمكنهما أن يضعا قوانين وتشريعات مشتركة لا تثير الخلاف بينهما، يصبح من حقهما أن يمارسا قاعدة شرعية تقول «إن الحرب خدعة».
ولكن... على من يقرآ مزاميرهما؟
فلا النصوص الفقهية التي وضعها كبار علمائهما عبر التاريخ، ولا النصوص المنشورة لكليهما في تاريخنا الحديث والمعاصر، تجعلنا نطمئن إلى أن تحالفهما مبني على أسس إيديولوجية استراتيجية مُتَّفق عليها، بل هو مبني على أسس مرحلية، يستقوي بها أحدهما بالآخر إلى حين الانتقال إلى مرحلة يتوهمان فيها أنهما سيطردان الاستعمار والصهيونية، ومن بعدها سيبني كل منهما استراتيجيته الخاصة، وستكون تلك الاستراتيجية عامل تناقض آخر سوف تدفعهما إلى اقتتال وصراع حول أي مقدس يريده كل منهما، وتلك مرحلة سوف تكون مُرَّةً وصعبة.
وهنا لا بدَّ من أن نسألهما معاً: إذا كانت الخدعة تجوز على العدو الأميركي – الصهيوني المشترك، فهل من الجائز أن يخدع أحدهما الآخر؟
ولكن ما ننصح به، أن يكونا على حذر لأن العدو أعدَّ كل ألوان الخداع والكذب، ونصب لكليهما فخاً، وكميناً، لا نحسب أنهما سينجوان منه. فكما أنه يتفوَّق في تكنولوجيا السلاح والمادة، فهو يتفوَّق أيضاً بتكنولوجيا الخداع والكذب والنصب والاحتيال، وأعدَّ لها عشرات الآلاف من الاختصاصيين في شتى فروع المعرفة في العلوم الإنسانية.
لقد احتل العدو الأميركي أرض العراق، واستفاد من تواطؤ البعض فيهما، وسكوت البعض الآخر، وأعدَّ العدة لخلعهما معاً. وهو متى استقرَّ على الأرض سيصبح الأقدر بينهما على الإمساك بها، وهو الأقدر على الإمساك بالكتلة الشعبية، بقيادة نخب مذهبية، تلك الكتلة والنخب التي قاما بتضليلها وخداعها، لأنه سيرغبها بما لا يستطيعان، ويرهبها بشتى الوسائل والأساليب، وستكون أساليبه في الترغيب والترهيب ناجعة خاصة وأنهما شرَّعا أمامها إما أبواب الخيانة وإما أبواب الاستسلام والخنوع.
النتائج التي نستشرفها من واقع العراق الراهن في التحالفات الشاذة
تحالفات شاذة من هنا أو هناك، قائمة على التقية و«الخدعة»، تحالفات لا تعرف فيها «من يخدع من؟»، ولا «كيف يخدع الحليف حليفه»، ولا متى ينقلب «الحليف على حليفه»، ولا متى يخلع «الصاحب صاحبه»، تدفعنا إلى القول: إن القوة ورباط الخيل اللذين يعدهما النظام الإيراني سيجري توظيفه ليس في سبيل مصلحة العراق، ولا في مصلحة وحدة الأمة العربية، ولا في سبيل وحدة الأمة الإسلامية، ولا في سبيل الشيعة في العالم بشكل عام، أو الشيعة في العراق والوطن العربي بشكل خاص.
التحالف الشاذ الأول، سواءٌ أكان مباشراً أم غير مباشر، بين التيارات السياسية الدينية الإسلامية، وبين العدو الأميركي – الصهيوني على أرض العراق. وشذوذه يستند إلى تناقض المصالح الحقيقية بينهما. كما يستند إلى مرحليته القائمة على الخداع.
والتحالف الشاذ الثاني، بين التيارات السياسية الإسلامية الآنفة الذكر، وشذوذه يستند إلى التناقض الإيديولوجي بينها. وهو تحالف مرحلي يخدع فيه أحدهما الآخر.
ومن أجل تصويب مسار التحالف بين التيارات السياسية الإسلامية والمشروع الأميركي – الصهيوني، لا يجوز أن تكون شروط حدوده الدنيا أقل من رفضه وإدانته ومقاومته مهما كان مستوى خدماته لهما، لأنه لن يوفِّر خدمات لأحد على الإطلاق. فالتحالف معه أو السكوت عنه، مهما كانت مبرراته وأهدافه، سيكون مرفوضاً بشتى المقاييس، كما لا يجوز السكوت عنه، فهو في حدِّه الأدنى يؤدي خدمات قصوى للمشروع الأميركي الصهيوني.
ومن أجل أن تكون الأهداف الاستراتيجية، بين التيارات السياسية الإسلامية، سليمة لا يمكننا أن نطمئن إليها إلاَّ إذا أخذت بعين الاعتبار وحدة الأمة العربية. ولن تكون الوحدة العربية سليمة إلاَّ إذا أخذت بعين الاعتبار الواقع الحديث والمعاصر للدولة القومية، كحل بديل للدولة الدينية. ولن تكون الدولة القومية سليمة إلاَّ إذا أخذت بعين الاعتبار حرية الأديان والمذاهب كخيار روحي لكل فرد أو مجموعة. ولن يكون الخيار الروحي سليماً إذا لم يعترف للخيارات الأخرى بقدرتها على تمهيد طريق الخلاص في الآخرة.
ولأن التحالفات الشاذة تهمل تلك الحقائق، وما سوف تجره على الأمة من ويلات، لا يجوز السكوت عن كشفها وتعريتها، لأن في السكوت تضليل لمئات الملايين من أبناء أمتنا الطيبين الصادقين.
من أجل كل تلك الأسباب والعوامل والمشاريع والمخططات نقول: إن النظام الإيراني فوَّت علينا فرصة الفرحة في امتلاك إيران، كدولة من الدول النامية، من رباط الخيل التكنولوجى ما يساعدنا على درء الخطر الأميركي – الصهيوني, ولكن هذا لا يعني على الإطلاق أننا نرفض أن تمتلك إيران القدرة النووية، أو أن تمتلك السلاح المتقدم، بل العكس هو ما نتنماه.
على الرغم من أننا نتطلع إلى عالم يسوده السلام، إلى عالم خالٍ من أسلحة الدمار الشامل، فنحن ندعو إلى التمرد على قرار الدول الكبرى في احتكار السلاح النووي، لأنه يتنافى مع أدنى حقوق الشعوب في المساواة بالدفاع عن نفسها بكل وسائل القوة وأساليبها، وأصناف الأسلحة وأنواعها. وبناء على تلك القيمة الإنسانية المجردة، لن نكون إلاَّ من داعمي إيران في امتلاك السلاح بغض النظر عن نوعه أو صنفه. ولكن لكي لا يكون السلاح الإيراني موجَّهاً إلى صدور العرب، أو المسلمين الآخرين، ندعو إيران إلى إقناعنا بأن سلاحها سيكون موجهاً إلى المشروع الأميركي – الصهيوني وحده. وستكون الساحة العراقية هي المختبر الأول والأساسي في الكشف عن نوايا النظام الإيراني الحقيقية. وإذا كنا الآن غير مطمئنين لأكثر من سبب وسبب، ولأكثر من واقع وواقع، ولأكثر من مظهر ومظهر، فالكرة الآن تدور في ملعب النظام الإيراني، والذي سيبقى تقديرنا تجاهه مستنداً إلى حسن الطوية والنية وصدقهما، في دعوته إلى وضع سلاحه الآن، قبل غد في مواجهة «الشيطان الأكبر»، وهو أقرب إلى الأرض الإيرانية من «حبل مياه الخليج العربي» الذي كان مسرحاً لاستعراض القوة أمام بوارج ذلك «الشيطان».

(8): دور المقاومة العراقية أثناء الاحتلال ودورها في تحديد مستقبل العراق
27/ 4/ 2006
عُقدت في مركز الإعلام والتوثيق في مدينة صيدا – لبنان تحت عنوان (العراق تحت الاحتلال إلى أين؟)
حاضر فيها العميد المتقاعد الياس حنا، والدكتور طلال العتريسي، والسيد حسن خليل غريب. وقدَّم الدكتور مصطفى دندشلي المحاضرين، بالتركيز على أهمية القضية العراقية في الخريطة العالمية في هذه المرحلة.
وأكَّد العميد الياس حنا على أهمية أن يمتلك العرب سلاحاً يدافعون فيه عن أنفسهم في عصر سادت فيه المشاريع الكثيرة التي تستهدف الأمة العربية.
كما أكد الدكتور طلال العتريسي أهمية المقاومة العراقية في كبح جماح الاحتلال الأميركي، ودعا إلى وعي أهمية ما يجري في المنطقة وانعكاساته على القضية العراقية.
وألقى السيد حسن خليل غريب مداخلته تحت عنوان (دور المقاومة العراقية أثناء الاحتلال ودورها في تحديد مستقبل العراق ما بعد التحرير). وهذا نص المداخلة:
لقد أصبحت اهداف احتلال العراق واضحة، ودلَّت وقائع الأمور على أن كل ما أشيع عن أسباب، كمثل استعادة الديموقراطية، واستعادة حقوق مذهبية أو عرقية كانت مسلوبة، دلَّت على أنها قشوراً واهية كشفت عنها أكاذيبٌ مارستها إدارة جورج بوش. أوَ ليس تصريح مادلين أولبرايت حول ذلك ما يكفي؟
قالت المذكورة: ان ما يثير قلقى خصوصا هو ان الديموقراطية تتحول الى كلمة سيئة لأنها باتت تنطبق على الهيمنة والاحتلال.
تواطأ مع إدارة بوش عراقيون كشفت وقائع ما بعد الاحتلال أنهم كذبةً ومتواطئين على سيادة بلدهم وكرامته الوطنية. وأكثر هؤلاء ممن قامت أجهزة المخابرات المعادية لعروبة العراق وسيادته الوطنية بإعدادهم وتأهيلهم للقيام بدور الخيانة الوطنية.
فمن أجل احتلال العراق أيضاً تواطأ تحالف واسع شمل إدارة أميركية وصهيونية وأنظمة عربية وغير عربية، ونجحت في احتلاله بفعل القوة العسكرية النظامية، أي بواسطة قوة لا تجد ما يضارعها بين القوى النظامية على المستوى العالمي.
ولأن الحكم الوطني الذي كان يقود العراق له استراتيجيته الخاصة، الذي كان متأكداً أنها تضارع قوة الاحتلال التكنولوجية بل تتفوق عليها، لم يستجب إلى كل أنواع الإغراءات والتهديدات التي قدمتها الإدارة الأميركية عامة، وإدارة المحافظين الجدد بخاصة. واعتبرت في حينه أوساط كثيرة، عربية رسمية، وعربية مثقَّفة ليبرالياً، وأوساط رسمية عالمية، أن في ممانعة العراق للطلبات الأميركية نرجسية قومية تتصف بالرومانسية، واعتبرها البعض الآخر أنها نوعاً من الجنون السوريالي.
بين كذب الإدارة الأميركية وتواطؤ شلة الحاقدين على النهج الوطني القومي لنظام حزب البعث، وصمود البعث على المواجهة على الرغم من قوة الخصم وكثرته، كشفت التجربة عن جملة من الحقائق التي علينا أن نخضعها لميزان المنطق والنقد بغرض الاستفادة منها في رسم صورة مستقبل العراق بعد التحرير.
لقد استهجن البعض واستغرب، في أثناء التحضير للعدوان، طريقة مواجهة نظام البعث للتهديدات الأميركية، وهم يستغربون اليوم ويستهجنون أن يتكلم أحد عن مرحلة ما بعد التحرير. وتلك هي روحية تلك التجربة وأهميتها لأنه لن يستطيع الإحاطة بها إلاَّ من آمن بأهمية استراتيجية المواجهة على قاعدة حرب التحرير الشعبية، ومصداقيتها وصلاحيتها، وعلى هذا الأساس لن نجد الكثير ممن يريحهم الكلام عن مرحلة ما بعد التحرير.
أيتها السيدات أيها السادة
من على هذا المنبر وغيره، نتكلم بلغة الواثق من أن العراق دخل مرحلة التحرير الفعلي. اما مظاهره ومقدماته فتأتي من داخل البنتاغون، ومن داخل البيت الأبيض، ومن داخل الشلة السياسية والعسكرية والسياسية التي خططت لما يعرف بـ«القرن الأميركي الجديد».
فإذا كانت تأثيرات المقاومة العراقية على أرض العراق تتعرَّض إلى «فلترة» الإعلام المعادي للمقاومة، فإن «فلاتر» الإدارة الأميركية الحالية لا تستطيع أن تحجب الحقائق الفعلية عن الساسة والعسكر والشارع في أميركا.
فمن الإعلام الأميركي خاصة والإعلام الغربي عامة نستطيع ليس قراءة ماهيةِ المأزق الأميركي في العراق فحسب، بل نقرأ أيضاً أن الإدارة الأميركية، على الرغم من أكاذيب رئيسها وجوقته المحيطةِ به، سائرةٌ إلى الخروج من العراق على قدم وساق. ولكن
ما يتم التحضير له هو اختيار شكل للانسحاب لا يوحي بالهروب أو الهزيمة حفاظاً على سمعة أكبر جيش في العالم.
لو قلنا إن الإدارة الأميركية فشلت في توفير العامليْن الأكثر أهمية في أهدافها الاستراتيجية، وهما: عامل أمن القوات المحتلة وعملائها أولاً، وعامل السيطرة على ثروة العراق النفطية ثانياً. لن يكون قولنا كاملاً معبراً عن حقيقة المأزق، بل لاستكماله نقول: إن الإدارة الأميركية بدلاً من أن تقبض، وهو هدفها الرئيس والاستراتيجي، نراها تدفع الخسائر الكبيرة من دم جنودها، ودم عملائها، واستنزافاً لميزانيتها بمئات المليارات إن لم يكن بآلافها.
تلك الخسائر دفعت مجموعة أصحاب المشروع الأم إلى التفسخ وتبادل الاتهامات، ومن أكثرها تأثيراً وإيلاماً، متغيرين اثنين:
الأول يشمل بعض من كانوا من المؤسسين والمنظرين له ومن أكثرهم شهرة، فوكوياما وبريجنسكي، وتبعتهما مادلين أولبرايت، التي وجدت في جورج بوش وجهاً أقبح من وجهها.
والثاني ممن خططوا للمشروع عسكرياً أو أيدوه، ومن أكثرهم شهرة السيناتور جون مورثا الذي يتزعم مجموعة من قادة الجيش الأميركي السابقين، ومنهم من خدم في معركة العدوان على العراق واحتلاله.
تقول الواشنطن بوست جريدة أميركية، مستندة إلى معارضة كبار الضباط ودعوتهم للانسحاب من العراق، إن أميركا مهدَّدة بانقلاب عسكري ضد إدارة جورج بوش إذا ما ظلَّ مصراً على متابعة مغامرته في العراق. وهذا النوع من المعارضة لم يحصل في أثناء حرب فييتنام.
يحق لنا أيتها السيدات والسادة أن نتكلم عن مرحلة ما بعد تحرير العراق بالفم الملآن.
تلك النتيجة تجعلنا نتساءل، كما تجعلنا نتعجل الطلب إلى النظام العربي الرسمي، وإلى دول الجوار الضالعة والمساهمة في احتلال العراق، كما نتوجَّه بشكل أساسي إلى من ظل صامداً من تياراتِ وأحزابِ وقوى وشخصياتِ حركة التحرر العربي بعرض رؤيتنا لعراق ما بعد الاحتلال. وكل ذلك على قاعدة أن في تجربة العراق مع الاحتلال ما يفيد وما يجب الوقوف عنده لاستخلاص الدروس والعبر من تجربة الصراع بين الشعوب المستضعفة ضد أكبر قوة استعمارية عرفها التاريخ العالمي.
أولاً: على كل من يرفع اليوم إصبعاً معترضاً في وجه جورج بوش أن يتذكَّر أنه لولا تضحيات المقاومة العراقية بكل فصائلها القومية والإسلامية، التي يقودها البعثيون في الميدان، كما يقودها أمينهم العام من أسره، لكان الاحتلال الأميركي قد كسرها وبتر اليد التي تحملها. وبناءً عليها على الجميع أن يعلموا أنه لا يمكن أن تتفوق الشعوب الموضوعة على لوائح الاحتلال إلاَّ بالمقاومة الشعبية المسلحة.
ثانياً: كل من له أطماع، متسللاً تحت دبابات الاحتلال الأميركي، لاقتطاع حصة من العراق تحت أي اسم أو مسمى، فيدرالي أو غير فيدرالي، مذهبي أو عرقي، أن يعرف أن المقاومة العراقية التي قطعت يد الاحتلال الأميركي، لن تكون عاجزة عن اقتطاع الأيدي الأقل قوة منها.
إن ما يُخشى منه بعد تحرير العراق أن تصمَّ بعض القوى أذنيها عن سماع نداء المقاومة العراقية التي لن ترضى بغير عراق موحَّد يساوي بين الأديان والمذاهب والأعراق على قاعدة نظام يحفظ للجميع حقوقهم كمواطنين في دولة واحدة أن يمتنعوا عن تأسيس بنى سياسية، كمثل ما هو حاصل اليوم، تعمل على تمزيق النسيج الوطني والقومي للعراقيين وتحويلها إلى مجموعة من المذاهب والأعراق والأديان.
إن إصرار من يصر على تكوين عراق يتساكن فيه مواطنوه مذهبياً ودينياً وعرقياً مرفوض بالمطلق، فالمقاومة لا ترى في العراق إلاَّ نظاماً مدنياً تعددياً يحترم الخيارات الدينية لكل مواطن على أن يوحد الجميع مبدأ حماية العراق والمحافظة على ثرواته الوطنية والدفاع عن سيادته.
إن عراق ما بعد التحرير معرَّض للقسمة والتقسيم. وإذا كان هذا الخطر ماثلاً فنحن نرى أن بعد هزيمة المشروع الأميركي الصهيوني في العراق سوف تتوفر ظروف جديدة ومعطيات جديدة تنتج تحالفات جديدة واستراتيجيات جديدة وتتلخص كلها في إلغاء كل المؤسسات التقسيمية التي كوَّنها الاحتلال وعملاؤه وشركاؤه وكل الساكتين عنه والمتواطئين معه.
لن يوفر الاستقرار في الوطن العربي والدول المجاورة للعراق إلاَّ عراق موحد ومستقل تربطه مع جيرانه المصالح المشتركة على قواعد الاحترام المتبادل والمساواة المطلقة. وعلى تلك القاعدة سيكون الجوار العربي والجوار الجغرافي منخرطاً في معركة إعادة توحيد العراق، وأما من سيكون شاذاً ومن سيخرج عن تلك الاستراتيجية فلن ينال إلاَّ التقريع والهوان والعمل من أجل إعادته إلى وعي مستلزمات العصر والأخذ بها.
ثالثاً: إن كل ثورات التحرر في العالم، خاصة تلك التي واجهت الاستعمار وكبحت من هجماته وصدتها، أصبحت رمزاً لكل الثورات العالمية كلها.
هذا السبب يدعونا إلى التساؤل والاستهجان.
لقد سجَّلت المقاومة العربية ضد الاستعمار النصر تلو النصر، بدءًا من الجزائر، مروراً بفلسطين ولبنان، وانتهاءً بالمقاومة العراقية التي تسجل ليس للعرب نصراً فحسب، وإنما تسجل النصر لحركة التحرر العالمي أيضاً.
تنتصر المقاومة العربية، ولا نزال نرفع صور هوشي منه، وفيديل كاسترو، وغيفارا وغيرهم.
من حق هؤلاء أن نرفع صورهم، ولكن هل وصل بنا العقم إلى أن لا نرفع صور العرب الأفذاذ الذين وفَّروا للأمة موقعاً بين الأمم بما خططوا له أو قدموه للإنسانية من انتصارات في مواجهة الاستعمار والصهيونية؟
ليس من المستغرب أن نستورد، أو نقتدي، رموزاً للنضال من التراث الثوري العالمي، ولكن المستغرب أن الأمة تنتج أمثال تلك الرموز أو ما يفوقها تأثيراً، بينما لا نضعهم في موقعهم اللائقة بهم.
أوَ ليس من المستغرب أن تضع بعض حركات التحرر العالمية مقاومة العراقيين وصدام حسين في لائحة رموز التحرر العالمية؟ يحصل هذا بينما نحن نتجادل بين من يعترف برمزيتهم ومن يرفض ظلماً تلك الرمزية؟
أوَ لا تكفيهم رمزيةٌ أنهم حطَّموا أسطورة رامبو الأميركي وأرغموه على الهروب من العراق؟
أوَ لا تكفيهم رمزيةٌ أنهم خططوا لمقاومة عراقية قلَّما عرف التاريخ العالمي مثيلاً لها؟
أيجوز أن يعترف كاسترو، رمز الثورة الكوبية، بأهمية المقاومة العراقية وشدة تأثيرها؟
أيجوز أن تقتدي فنزويلا، وبوليفيا، والبرازيل، وغيرها من دول أميركا اللاتينية، وبقية دول العالم الثالث، باستثناء المرتهنين، أو المرهونين، لإرادة الإدارة الأميركية، بينما لا نرى نحن تلك الحقيقة؟
وهل يجوز أن نبقى خارج نادي الرموز القومية والوطنية في الثورات العالمية؟
وهل آن لنا أن ننتقل من العداء الإيديولوجي لنرفع رموزاً تستحق اللقب إلى لائحة رموز التحرر في العالم؟

(9): المشهد العراقي في شهر نيسان 2006
في ذكرى ميلاد القائد الرمز صدام حسين
من حقنا أن نحتفل بها لأنها احتفاء بأحد أهم رموز الأمة العربية
يتهم البعض حزب البعث بأنه يحتفي بـ«عبادة الفرد»، كلما أظهروا تقديرهم للرئيس صدام حسين، أو كلما هتفوا له. وفي اتهامهم ما يحمل الكثير من الاستغراب. والكثير من التساؤلات وعلامات الاستهجان، نجملها بما يلي:
بين عبادة الفرد والاحتفاء بالرمز وتكريمه، مسافة على الفكر أن يجتازها، وعلى المفكرين، وأصحاب الرسالات التحررية أن ينظروا إليها ليس من زاوية الإيديولوجيا، بل من زاوية القيم الإنسانية الموضوعية التي لا تستطيع أن تفصل بين إنجازات التحرر وصانعيها.
وإذا كانت عصبية الإيديولوجيا تشكل حاجزاً يحول دون الإجماع على رمزية فرد متميز في تاريخ أمته، فالحاجة الإنسانية، كواقع أثبتته أحداث التاريخ الإنساني منذ القِدم حتى الآن، لا تشترط مثل هذا الإجماع.
كان صدام حسين، ولا يزال، ذلك الفرد الذي تحوَّل إلى رمز في تاريخ الأمة العربية. ولكي نثبت ذلك، طبعاً أمام العصبيات الإيديولوجية التي تعامت عن دوره، وراحت تنهش فيه تشويهاً، لا بدَّ من أن نُذكِّر بالعوامل التي تؤكد تصنيفه في لائحة الرمزية.
إذا خرج الفرد من دائرة الاهتمام بحاجاته كفرد، وأدخل في أولوياته العمل من أجل مصالح الآخرين في بيئته الاجتماعية أو الوطنية أو القومية، فيمثِّل في هذه الحالة قمة التعالي عن فرديته ليستبدلها بالحالة المجتمعية، وبذلك التحول يشكل بداية الطلاق مع الفردية ليدخل إلى باب الرمزية.
كثيرة هي الأمثلة التي تؤكد أن صدام حسين خرج من فرديته إلى رمزيته. وإذا كانت عيون الإيديولوجيين لا تريد أن ترى فيه تلك المزية، فهذا عائد إلى حالة من المزاج العدائي الذي يتولد من التعصب والعمى الإيديولوجي.
صدام حسين، منذ أن تولى مسؤولية قيادة النظام السياسي لحزب البعث في العراق، لم ير في السلطة إلاَّ وسيلة للارتقاء بمجتمعه الوطني العراقي إلى درجة النهوض، وللارتقاء بأمته العربية إلى مستوى النهوض والتقدم أيضاً. فكان مشروعه النهضوي القومي أكثر من دليل. ذلك المشروع الذي لم تتبيَّن تفاصيله للكثيرين لأن الآلة الإعلامية الأمبريالية والصهيونية كانت تحول دون ذلك، وهو ما استهوى أصحاب الإيديولوجيات المنافسة، او الكارهة أحياناً، لمشروع حزب البعث القومي.
ولكن، ولأن مجابهة الاستعمار والصهيونية، ومجابهة القطريين والانفصاليين والرجعيين والطائفيين، هي من أولويات مشروع صدام حسين، كأحد أهم قيادات الحزب، تكاثر أعداؤه، وتوسَّعت رقعتهم، فأعملوا تشويهاً به، وتحالف ضده أكثر من تيار وحركة ومشروع.
ولأن الأنموذج الأكثر دلالة، والذي أصبح الأكثر وضوحاً في تاريخ صدام حسين، هو اعتباره أسبقية مواجهة الاستعمار والصهيونية على كل ما عداها من التناقضات الأخرى، باعتبارها التناقض الرئيسي، أثبت صدام حسين أنه رجل تلك المهمة الشجاع، والأطول باعاً في مواجهتهما.
إن المرحلة الراهنة قد برهنت بما لا يقبل الجدل أن قائد تلك المواجهة الأوحد هو صدام حسين وحزبه. فهو الذي أعدَّ لها قبل الاحتلال الأميركي، وهو الذي قادها من الخندق وهو الذي يعطيها زخماً وقوة وهو في أسره. وإذا كانت بعض الأصوات التي أوغلت تشويهاً فيه وبسيرته وبمواقفه قد أعفته من إعلام أحقادها فلأنه لم يبق لديها ما تقوله بعد أن أقرن صدام حسين القول بالفعل. وليس لديها ما تقوله بعد انكشف العهر واللاأخلاقية الذي يتميز به أعداؤه وعملاء أعدائه. ولم يبق لديهم حجة يقنعون به الرأي العام أينما كان.
فصدام حسين الآن هو الفارس العالمي الذي تراهن عليه حركة التحرر العربي والعالمي في بداية مشهودة للكفاح ضد الاستعمار الأميركي ووحشيته التي لم تبق مجال تشكيك.
لقد اكتسبت رموز الثورة العالمية مواقعها في الرمزية من جراء تحقيقها الانتصارات على الاستعمار، وخاصة الاستعمار الأميركي. ومن أكثرهم شهرة: فيديل كاسترو وهوشي منه وتشي غيفارا... أفلا يحق للعرب أن تكون لهم رموزهم في ميدان مكافحة الاستعمار والصهيونية؟
إن صدام حسين أصبح رمزاً لحركات التحرر العالمية، لأنه أصبح القائد الحقيقي لأممية الثورة العراقية ووطنيتها وقوميتها.
فهل بات بوسعنا أن نفخر على العالم بأن الثورة العربية، التي يقودها صدام حسين من خندق المقاومة الوطنية العراقية، هي من أهم معالم ثورات التحرر العالمية؟
وهل بات أمامنا أي مهرب من اعتبار صدام حسين رمزاً للثورة نفتخر برمزيته ونعتز بها؟
صدام حسين رمز لنا، شاء الحاقدون أم أبوا. والاحتفاء بيوم ميلاده احتفاء باكتسابنا موقعاً كبيراً بين حركات التحرر في العالم.
المشهد العراقي في شهر نيسان من العام 2006
تميَّز المشهد العراقي في غضون الشهر الفائت بحصول عاملين بارزين:
الأول استئناف لمتابعة ما يُسمى بتركيز العملية السياسية في أعقاب الانتهاء من الانتخابات المسرحية في 15/ 12/ 2005، أما العامل الآخر فيتعلق بنقلة نوعية لحالة الاعتراض الأميركي ضد احتلال العراق.
أولاً: ألوان العملية السياسية العراقية الجديدة، متنافرة ومتناقضة تؤسس لحالة احتراب دائم
بعد مخاض استمر خمسة أشهر، منذ انتهاء مسرحية انتخابات 15 كانون الأول من العام الفائت، وبعد أن تساومت قابلتاها، أميركا وإيران، على اقتسام الحصص بالوليد المسخ الجديد، وزَّعوا الأدوار بين عملائهم بدءًا من رئاسة الجمهورية ونوابه، مروراً برئيس الوزراء ونوابه، انتهاءً برئيس مجلس النواب ونوابه. وبهذا الاتفاق يكون الذئبان المفترسان قد توزَّعا الحصص السياسية في المؤسسات العراقية، مواقع التأثير في السلطات المشبوهة، وبها نال عملاؤهما جوائز ترضية في سلطة ليس القرار فيها ملك أيديهم.
لا تمثل الولادة حدثاً جديداً يحمل نتائج جديدة للعراق، بل هي نهاية مرسوم لها أن تنتهي كموجب من موجبات حددها قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1546. وهو القرار الذي جاء استجابة لتوفير حماية دولية للاحتلال الأميركي للعراق لقاء مكاسب للدول التي وقَّعت عليه. تلك المكاسب التي لم يكن لها لتبصر النور لولا المأزق الذي أوقعت المقاومة العراقية إدارة جورج بوش فيه بعد أن كانت تهدف للاستفراد بغنائم الاحتلال مستثنية مصالح حلفائها من الدول الرأسمالية.
سيعمل رئيس الحكومة المعيَّن على تشكيل حكومة، وعلى الرغم من أنها ستشهد عقبات وعقبات، إلاَّ أنها ستولد حتماً، فهي حاجة أميركية ملحة، فإدارة جورج بوش في عجلة من أمرها.
وإذا كنا على يقين بأن المقاومة العراقية ستسقط مواقع عملاء الاحتلال كما أسقطت مواقع الاحتلال، نرى أنه ليس ما يستوقفنا، إذاً، هل سيتم تشكيل الحكومة أم سيتأخر، بل ما يستوقفنا هو موقع هذه الحكومة في رسم مستقبل العراق.
إن الحكومة هي أولاً، وقبل أي شيء آخر، لا تمثل سيادة العراق وقراره المستقل، بل هي تغليف لواقع الاحتلال وتمديد في عمره. لذا يعتبر الكلام عنها بمعزل عن دورها المشبوه خدمة للاحتلال وتعتيماً على مآزقه الفعلية، وفرصة من الفرص التي يستغلها إعلامياً لتجميل صورته. وهي تتناقض أيضاً مع وحدة العراق الوطنية، وتتناقض مع عروبته للأسباب والمظاهر التالية:
هي مرفوضة أولاً لأنها انبثقت عن احتلال غير شرعي، احتالت دول مجلس الأمن الدولي على القوانين الدولية لتشريعها حسب القرار 1546.
وهي مرفوضة ثانياً لأنها مطلب أميركي وإيراني عملا على توزيع الحصص فيها بما يتناسب مع أطماعهما في الوطن العربي.
وهي مرفوضة مرة أخرى لأنها جاءت على مقاييس أصحاب المشاريع الدينية السياسية التي تستجيب لمشروع الشرق الأوسط الكبير، واتفاقية سايكس بيكو الجديدة غير المعلنة، كما توفِّر فرصة لدول الجوار الجغرافي لتحقيق أهدافها في تقسيم العراق كأنموذج لتقسيم المنطقة كلها، وفي قلبها الوطن العربي، إلى كانتونات طائفية.
فالحكومة القادمة، إذاً، صورة حقيقية لما هو مرسوم للعراق الذي يعملون على تقسيمه على قواعد طائفية دينية وعرقية. وليس هذا فحسب فهي تجمُّع للمذهبيات الدينية والعرقية، التي مثَّلت، وستمثل، امتداداً للقوى الخارجية الطامعة في الاستيلاء على العراق.
إن المظهرين مترابطان، الاتفاق الأميركي – الإيراني، وتوزيع أدوار عملائهما في مؤسسات السلطة المسخ، بحيث إن استيلاء الحليفين اللدودين على العراق لا يمكن أن يكون سهلاً وميسوراً إذا لم يستند إلى عملائهما في الداخل. كما أنه بغير مقدور العملاء المعادين لوطنية العراق وعروبته الاستمرار في اغتصاب السلطة فيه من دون إسناد من صانعيهما. وعليه نرى أن زعزعة ركائز السلطة العميلة يخدم معركة طرد المحتليْن، والعكس صحيح أيضاً.
وكما أن تحالف الاستعمار والصهيونية لا يمكن إلاَّ أن يكون معادياً للأمة العربية فهو معاد بالمقدار ذاته لوطنية العراق وعروبته، وكما أنه بالقدر الذي تلحق مشاريعهما الضرر بالأمة فإن كل مشاريع التصدير الآتية من الخارج، ومنها جيران العراق بالجغرافيا، من أصحاب المشاريع السياسية الدينية، تلحق الضرر بالأمة أيضاً.
ولهذا السبب جاءت تسمية رئيس للحكومة، كما تسمية رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب، نتيجة تسوية، ومساومة، بين إدارة جورج بوش وإدارة النظام الإيراني. وقد اتفقا على ذلك وكأن الأمر ميسور أمامهما، والطريق سالكة. ولكننا نحسب أن أمامهما العقبات الكبرى لكي يستقر الأمر لهما، فعليهما أن يجتازاها، وأنهما سيعجزان عن تحقيق ذلك، لسبب رئيس هو أن المقاومة العراقية تستهدف، وسوف تستمر باستهداف الاحتلال على شتى أشكاله وأنواعه، وعلى المقدار ذاته تؤدي الواجب المطلوب تجاه ما انبثق عنه من مؤسسات سياسية وأمنية وعسكرية.
إن المؤسسات السياسية التي بُنيت على أساس غير شرعي، تحمل في داخلها التناقضات الكفيلة التي ستتآكلها من الداخل والخارج. فالتناقضات داخل صف المتآمرين من الخارج هي من الأهمية بما يجعل أزمة المتحالفين اللدودين، إدارة جورج بوش والنظام الإيراني، مستمرة ودائمة لأن حصصهما التي ساوما على توزيعها متداخلة ومن الصعوبة بمكان أن يمنعا عوامل الاحتكاك الدائم بينها.
أما عامل عدم الاستقرار الآخر فهي أن توزيع الحصص بين المستفيدين من الداخل ليست قائمة على العدالة والمساواة، بل قائمة على الغنم المذهبي والعرقي، ويكمن في تضارب أهدافها ومقاصدها وغاياتها عامل التناقض الدائم، وهذا ما يؤسس إلى حالة احتراب مستمر في إدارة المؤسسات القائمة على تقسيم الغنائم بين الشلل التي تتبوَّأ السلطات. هذا بالإضافة إلى أنه بسبب استقوائهم بعوامل الخارج، فإنه كلما تضاربت أهداف الخارج وتناقضت تنعكس تآكلاً في مصالح تلك القوى، واختلالاً في موازين العدالة في النهب والسرقة، السبب الذي يُبقي فتيل خلافاتهم الداخلية مشتعلاً في أية لحظة.
وإذا كان تغليف الهزيمة الأميركية مرهون بتشكيل تلك الحكومة من أجل عقد اتفاقيات معها أولاً وتسليمها مهمات الأمن الداخلي ثانياً، فهي ستكون الخطوة الأولى على طريق الهروب الأميركي من العراق، وهي تأسيس لعوامل تآكل تلك المنجزات التي سيتم القضاء عليها بفعل ضربات المقاومة العراقية، ولن تكون المهمة صعبة أمامها بعد الهروب الأميركي.
وبالإجمال فإن مرحلة ما بعد الهزيمة الأميركية، فإن المؤسسات السياسية والأمنية التي رُكِّبت على قواعد التقسيم ستشكل عامل تناقض يثير مخاوف المنطقة كلها، سواءٌ ما رُكِّب منها بفعل إيراني في الجنوب، أم ما رُكِّب منها في الشمال بدعم صهيوني بارز، أم ما سوف يُركَّب منها في الوسط بدعم سعودي خليجي. وإن ما يتم تأسيسه الآن على تلك القواعد الشاذة سيثير أكثر من عامل توتر بين دول المنطقة، لأن تأسيس نظام سياسي عراقي على قواعد التقسيم لهو مشروع لا بدَّ من أن تنعكس تأثيراته السلبية على كل دول الجوار العربي وغير العربي، فهو يهددها بالتقسيم أيضاً، لذا تصبح استعادة وحدة العراق مطلباً أساسياً لتلك الدول السبب الذي يدفعها إلى الانخراط بجدية في العمل على استعادة تلك الوحدة.
ثانياً: مأزق إدارة جورج بوش يسجل تعميقاً نوعياً في الداخل الأميركي:
إضافة إلى أن استطلاعات الرأي التي دلَّت على أن شعبية جورج بوش قد انخفضت إلى 32% فإن حالة الاعتراض والاحتجاج تتصاعد على الصعيدين السياسي والعسكري في داخل الولايات المتحدة الأميركية وتشير إلى تراكم حالة نوعية في المعارضة مما يؤكد على أن تلك الحالة ستسهم بشكل جدي في إرغام إدارة جورج بوش على الانسحاب من العراق، ومن خلال رصد تلك الحالة نسجل المتغيرين الجديين التاليين:
1-على صعيد بداية انهيار المنظومة الفكرية للأميركيين المتطرفين الجدد:
أعلن فوكوياما، المنظِّر الأساسي للمحافظين الأميركيين الجدد، انشقاقه عنهم قائلاً: إنهم، كرمز سياسي، ومجموعة من الأفكار تطور إلى شيء لم يعد بإمكاني دعمه. لذا أشار الى خطأ تصدير الخير إلى العالم بقوة السلاح، ودعا إدارة المحافظين الى التركيز على أدوات السياسة والتخطيط، وأردف الدعوة للتصدي للمجاهدين والمقاومين، كما في العراق وأفغانستان، ليس بالوسائل العسكرية بل بالإقناع السياسي. كما دعا إلى إعادة النظر بموقع المسألة الديمقراطية في السياسة الخارجية الأميركية، واعتماد الواقعية بالتعامل مع الأنظمة الشمولية، أي بإقامة علاقات متوازنة بين الراعي والرعية.
وبالإجمال يرى فوكوياما، مستنداً الى رؤيته الفكرية المستجدة، أن ما تحتاجه واشنطن الآن أفكارا جديدة تتعلق بعلاقة أمريكا ونسبتها للعالم، أفكار تحافظ على دفاع المحافظين الجدد عن فكرة عالمية حقوق الإنسان ولكن بدون الإيمان بإمكانية تحقيقها عبر القوة العسكرية وتغيير الأنظمة وخداع السيادة الأمريكية.
أما بريجنسكي: مستشار الأمن القومي السابق فيعبِّر عن عمق المأزق الذي وقعت فيه الإدارة الأميركية في العراق، ويؤكد أن أميركا في ورطة, دفعته إلى السؤال: لكن إلى أين نتجه؟ وهو يرى فيه السؤال الأصعب وهو يحتاج إلى أحكام استثنائية.
فمن مظاهر تشخيصه للورطة يختصرها بأن الحرب باهظة النفقات إلى حد لا يطاق, والأخلاقية الأمريكية قد تلطخت، والشرعية الأمريكية قد تقوضت عن طريق الانفراد بالقرار, والمصداقية الأمريكية قد تصدعت.
إن ذلك كان نتيجة لضربات المقاومة العراقية التي تعزز صفوفها وتزداد انتشاراً, وهي تحقق تفوقا على الأمريكيين لأنه في حروب الاستنزاف يكون المحتل الأجنبي دائما في الجانب الأضعف. ويخلص بريجنسكي إلى نتيجة تقول: إنها حرب استنزاف وهي حرب لا أرى بأننا منتصرون فيها، وإن «الانتصار» أمر غير محتمل. لذا يطلب أنه إذا كان الرئيس جادا فان الأجدر به ان يوسع دائرة صناع القرار لتشمل أولئك الذين يعربون عن عدم ارتياحهم من المسار الذي اندفعنا فيه.
وبدورها صرَّحت مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، إنها لا تعتقد ان الرئيس صدام حسين كان يشكل تهديدا وشيكا للولايات المتحدة. ولهذا لا يمكن شن الحرب على كل شخص لا نحبه.
وقالت ان الأخطاء السياسية للرئيس الأميركي جورج بوش تثير اشمئزازها من وضع الولايات المتحدة في ما يتعلق بالشؤون الدولية حاليا. موضحة أن العراق سيكون في نهاية الأمر واحدة من أسوأ الكوارث في السياسة الخارجية الأميركية.
وأوضحت ان ما يثير قلقها خصوصا هو ان الديمقراطية تتحول إلى كلمة سيئة لأنها باتت تنطبق على الهيمنة والاحتلال مؤكدة دعوتها لتطبيق الديمقراطية. لكن فرضها يتضارب مع مفهومها، ودعت إلى أنه يجب ان يختار الناس الديمقراطية ويجب ان تأتى من الشعب.
2-على صعيد احتمال انهيار المنظومة العسكرية للأميركيين المتطرفين الجدد:
في الوقت الذي كانت فيه المعارضة الأميركية لحرب فيتنام تتصاعد، ظلت قيادات الجيش الأميركي واقفة على الحياد، ولكن ما يميز المعارضة الأميركية للحرب على العراق هو دخول كبار العسكريين الأميركيين على خط المعارضة الحادة. تشير جريدة واشنطن بوست الأميركية، في تحليل لها عن الوضع في العراق، إلى أنه كان يجب على الرئيس بوش أن يقبل استقالة دونالد رامسفيلد منذ سنتين سبقتا. وقد ازدادت أخطاؤه إلى الدرجة التي أثارت حنق كبار القادة العسكريين في الجيش الأميركي. فطالبوا الرئيس بوش بإقالته، ووصفوا تأييده لوزير الدفاع بالخاطئ، وكان رامسفيلد قد تعرض لانتقادات حادة في الآونة الأخيرة، بلغت ذروتها بعد نقده من قبل ستة من الجنرالات الكبار المتقاعدين من بينهم ثلاثة من كبار القادة السابقين في العراق ورئيس عمليات سابق.
وأوضحت الصحيفة أن النقد الموجه لرامسفيلد من قبل الجنرالات المتقاعدين يهدد بشكل واضح وحدة الجيش الأمريكي، خاصة مع إشارة بعض الجنرالات إلى أنهم يتكلمون باسم بعض ممن لا يزالون في الخدمة.
قال الميجر جنرال جون باتيست الذي كان قائدا للفرقة الأولى مشاة التي تمركزت في تكريت بالعراق: إننا نرهن مستقبلنا وأطفالنا مقابل ثمانية أو تسعة مليارات دولار شهريا" في إشارة إلى تكلفة الحرب.
أما الجنرال غريغوري نيوبولد، وكان أرفع ضابط عمليات في المؤسسة العسكرية قبل حرب العراق، فقد حث الضباط الذين لا يزالون في الخدمة على أن يفصحوا عن شكوكهم بشأن الحرب.
وقال المدير السابق لوكالة الأمن القومي الأمريكي الجنرال المتقاعد ويليام أودم إن غزو العراق قد يكون أكبر خطأ استراتيجي في تاريخ الولايات المتحدة. وقال إنه ينبغي على الرئيس بوش أن يطلب من جنرالاته العسكريين وضع خطة لسحب القوات الأمريكية من العراق في غضون بضعة أشهر.
وأوضح أودم أن بوش لن يتراجع عن موقفه الحالي الذي يدعو فيه إلى مواصلة الحرب على العراق إلا إذا بدأ الجمهوريون في الكونغرس يغيرون من مواقفهم تجاه الحرب مشيرا في هذا الاتجاه إلى عدد من الأعضاء الجمهوريين في مجلس النواب الأمريكي الذين بدؤوا الحديث عن ضرورة فتح النقاش واسعا في الكونغرس حول جدوى الحرب ومن بين هؤلاء النائب عن ولاية كارولينا الشمالية والتر جونز
من واقع المأزق الذي تعاني منه إدارة جورج في تشكيل مؤسسات عراقية عميلة، سياسية وعسكرية وأمنية، ولكنها مخترقة بنفوذ إيراني واضح.
ومن واقع مأزقه الداخلي بعناصره الأساسية، والتي تسهم في تسريع اتخاذ قرار الهزيمة، خاصة وأن الانقسام لم يطول المجتمع الأميركي فحسب، بل دخل أيضاً إلى صف إدارة بوش نفسها، سواءٌ أكانت انقسامات فكرية تشكك بجدوى إيديولوجيا المحافظين الجدد، أم عسكرية ترى أن النصر في العراق مستحيل، تسجل المقاومة العراقية نقاطاً نوعية ستكون مدخلاً لمتغيرات دراماتيكية في المدى المنظور.


(10): بعد هزيمته العسكرية في العراق:
المشروع الأميركي في مرحلة التراجع الفكري والسياسي وهي قمة السقوط التي تسبق الانهيار التام
11/ 5/ 2006
قبل أي شيء آخر لا بدَّ من أن نرفع المقاومة المسلَّحة إلى مرتبتها التي تستحقها، فهي أعلى الأساليب في مكافحة الاحتلال وطرده من الأرض التي احتلها. ثم تليها الأساليب الأخرى من سياسية وفكرية وإعلامية. فأول غيث تقديرنا يقتضي أن تنهمر التحيات كل التحيات إلى المقاتلين بالبندقية والعبوة الناسفة. فللمقاومين العراقيين، على شتى مراتبهم وتعددياتهم نرفع التحية الكبرى قبل أن نبدأ بصياغة المعادلات النظرية التي لولاهم لما كُتبت الحياة لنظريات المنظرين، وأفكار المفكرين، وإعلام الإعلاميين.
فإذا كانت التراكمات الجزئية تنتهي بتحول نوعي، فلا بد أن مظاهره ووقائعه قد ابتدأت في معادلة الصراع بين المقاومة العراقية والاحتلال الأميركي لصالح رجحانه لصالح المقاومة. لقد ابتدأت التراكمات منذ بداية الاحتلال بعد أن أثخن المقاومون جسد الاحتلال بالجراح، وأدَّبوه عسكرياً بما لا يليق بأكبر قوة عسكرية في تاريخ العالم المعاصر. ولمثل هذا السبب الذي يكمن في عنجهية الإدارة الأميركية التي تخشى الاعتراف به، فهي تحاول جاهدة، بمساعدة أهم المخرجين النفسيين والاجتماعيين، لتجميل وجه الهزيمة بشتى أنواع المساحيق. ولهذا نستنتج بأن موازين الحرب الدائرة تؤكد إعلان النصر العسكري للمقاومة العراقية ضد جيوش الاحتلال الأميركي والصهيوني.
ليس نصر المقاومة العراقية وهماً شبيهاً بالنصر المزعوم الذي أعلنه جورج بوش في الأول من أيار من العام 2003، بل هو النصر الحقيقي الذي فرض نفسه في مظاهر الخلل السياسي والفكري الذي أصاب جسد الإدارة الأميركية بندوب عميقة، وهذه هي تداعياته تظهر في أكثر جانب وجهة. أما وقائعه فهي التالية:
لقد ترافقت ثلاثة انعطافات أساسية مع بعضها البعض الآخر، وتجمَّعت آثارها ونتائجها على التوالي، وهي:
الأولى: الانهيار الفكري والسياسي لمنظومة الأميركيين اليمينيين المتطرفين الجدد، والإرباك السياسي العسكري في الإدارة الأميركية.
الثانية: الانهيار العسكري والسياسي في داخل التحالف الدولي الذي جمعته إدارة جورج بوش لتأييد وتدعيم احتلالها للعراق، وإذا كانت معالم الانهيار قد بدأت من إسبانيا منذ أواخر العام 2003، فإنها مرَّت بتداعيات تمثلَّت بانسحابات لدول ضعيفة سياسياً وعسكرياً، والتداعيات المؤثرة تحصل الآن في داخل أهم حلفاء إدارة جورج بوش وأكثرها تأثيراً، وتمثلها إيطاليا وبريطانيا:
1-سقوط إدارة برلسكوني، رئيس وزراء إيطاليا السايق، تحت ضربات الضمير الإيطالي في الانتخابات الأخيرة.
2-في الانهيار السياسي الذي عشَّش في إدارة طوني بلير، والذي لم ينفعه التجديد له في الانتخابات السابقة.
واستطراداً ليعذرنا الشعب الدانمركي، إذا قلنا لإدارة النظام السياسي في الدانمارك، التي جدَّدت لقواتها سنة أخرى في العراق، بأن الفحول البيض عجزت عن الصمود في العراق، فكيف «الخصية السود». كما ليعذرنا الشعب البولندي إذا سخرنا مما يفعله نظامهم السياسي من تمسكه بالركض وراء جورج بوش من خلال إصراره على إتمام رسالته الإنسانية !! تجاه الشعب العراقي من خلال كذبة وخديعة «إعادة إعمار العراق» إذ تفضح الأخبار بأن السبب ليس إنسانياً تحررياً بل الحماس البولندي الرسمي له ثمن يبلغ ثلاثين مليون دولار. يا بلاش؟!!
الانعطاف الاستراتيجي الأول:
الانهيار الفكري والسياسي لمنظومة الأميركيين اليمينيين المتطرفين الجدد، والإرباك السياسي العسكري في الإدارة الأميركية.
أولاً: الانعطاف الفكري: وهو انعطاف استراتيجي فاصل، فستتراكم عوامله بسرعة قياسية في المرحلة القادمة. وأهميته الاستراتيجية آتية من أن الاندفاعة الأميركية التي ظهرت في مشروع الاستيلاء على العالم بمظهر إمبراطوري يقلِّد الإمبراطوريات الكبرى في التاريخ القديم والوسيط سبقها تبشير فكري إيديولوجي كان من أهم روَّاده، فوكوياما، فيلسوف الاستعمار الأميركي الجديد، الذي روَّج لأفكاره لفترة طويلة. وإن الوقوف عند تحولاته الفكرية لها دلالة عميقة في استشراف آفاق مستقبل الصراع بين المقاومة العراقية والاحتلال الأميركي.
لقد تجمَّدت أفكار فوكوياما السابقة في قاعدة فكرية ثابتة تبشر بأن الرأسمالية هي أعلى سقف في التاريخ يمكن أن ترتقي إليه البشرية، وإن الولايات المتحدة الأميركية هي وحدها التي تستطيع أن تحتل مساحة السقف ذاك.
وعلى الرغم من أن فوكوياما كان أميركياً متميزاً إلاَّ أنه كان يوظِّف تميزه في خدمة الرأسمالية الأميركية بتشجيع منها واحتضانها لأفكاره لأنها هي التي وظَّفته من أجل الترويج لها. وهي التي بوَّأته كرسي المفكر المتميز لتصدِّر من خلال قلمه «حرب الأفكار» كمقدمة ضرورية لتصدير مشروعها السياسي والاقتصادي إلى العالم قاطبة. فهي قد مهدَّت كرسي الإمبراطورية الأميركية بأرضية من الأفكار التي تتناسب معها. ولهذا يحق لنا أن نصف المشروع الأميركي بأنه ليس تعبيراً عن آمال حزب أو طائفة، بل كان، باستثناء معارضة عدد من المفكرين الأميركيين أمثال نعوم تشومسكي وغيره، مشروعاً لكل الطبقة الرأسمالية الأميركية بامتياز.
بعد طول تمهيد وتحضير إيديولوجي، فكري وسياسي. وبعد طول إعداد وإنتاج لأضخم ترسانة عسكرية في التاريخ لدعم المشروع الإيديولوجي وتنفيذه. وبعد طول تنفيذ لتفكيك كل التكتلات الدولية المناهضة، أو المتناقضة مع ذلك المشروع، ومن أهمها الاتحاد السوفياتي سابقاً. وبعد محاولة استبدال منظوماتها السياسية السابقة واجتثاث مناهجها الفكرية والسياسية لبناء منظومة أخرى تستجيب لمتطلبات البنية الفكرية والاقتصادية للرأسمالية الأميركية تحديداً. وبعد اجتياحات واحتلالات، من أجل إنجاح المشروع الإيديولوجي الأميركي. وبعد إنجاز معظم مهام تلك «الأجندة»، أعلن فوكوياما أنه قرَّر التغريد خارج «القفص الفكري» الذي أسر نفسه فيه لعشرات السنين السابقة، وقال عن المتطرفين الأميركيين الجدد: «إنهم، كرمز سياسي، ومجموعة من الأفكار تطور إلى شيء لم يعد بإمكاني دعمه».
علينا أن نتساءل: ما هو السبب الذي أقصى فوكوياما عن دعم المشروع الذي كان موظَّفاً كأبٍ فكري له؟
من منطلق الفرضية الموضوعية نستنتج أن فوكوياما قد غيَّر معادلاته الفكرية لأن معادلاته السابقة أثبتت أنها تحمل خللاً منطقياً. ونردف القول إن هذه النتيجة قد تبدو صحيحة لو كان موقع فوكوياما في دائرة الفكر المجرَّد. ولكن هل هو فعلاً يقف في الدائرة تلك؟
إن فوكوياما ليس مفكراً فلسفياً يدرس الظواهر ليبني منظومته الفكرية على أساسها، أي الوصول إلى الحقيقة من أجل الحقيقة. نستنتج هذا خاصة إذا عرفنا أنه يقف على أرضية مشروع إيديولوجي كان هو نفسه من أهم بناته، ومن أهم مخرجيه النظريين. فهو ابن أمين للمشروع الإمبراطوري الأميركي، وأب عطوف على رعايته حتى يستكمل جوانبه التطبيقية، فالغرضية الإيديولوجية إذاً هي القاعدة التي ينطلق منها فوكوياما. لذا سننظر إلى معالجة موقع انعطافه الفكري استناداً إلى تلك القاعدة. وهنا، نقف لنتساءل: لماذا استفاق دماغ فوكوياما على حقيقة جديدة؟
فلكي نجيب على التساؤل نربط استفاقته بالظرف الذي حصلت فيه.
لم تحصل استفاقته في العدوان على العراق في العام 1991.
ولم تحصل في كل ظروف العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني.
كما كانت بعيدة عن رؤيته عند احتلال العراق في العام 2003. وظلَّت نائمة طوال سنوات ثلاث ذاق فيه العراق كل أنواع الإهانة والتدمير الممنهج، والجرائم المنظَّمة...
لعلَّ تلك الاستفاقة حصلت عندما تكاثرت نعوش الجنود الأميركيين، وعربات المعاقين من جرحاهم، ومصحات المصابين نفسياً منهم، وتكاثرت صيحات أمهاتهم وزوجاتهم، صيحات آبائهم وأولادهم.
لعلَّ تلك الاستفاقة حصلت عندما تعسَّر على جيش إمبراطورية الرأسمالية الأميركية أن يوفِّر الحماية لأنابيب النفط التي كان الأميركيون ينتظرون تدفق البترول منها لتمطر على أرض فوكوياما في أميركا ذهباً وخيرات وفيرة.
لعلَّ تلك الاستفاقة حصلت عندما اتجهت موازين الخلل في مالية الولايات المتحدة الأميركية نحو العجز المستمر الذي يتراكم ويتصاعد طالما ظلَّ الاحتلال الأميركي للعراق قائماً.
بل من المؤكَّد أن المقاومة الوطنية العراقية المسلَّحة هي التي كانت العامل الوحيد الذي لا يزرع كل العوائق في وجه الجيش الإمبراطوري فحسب، بل يزيد من تحصينها عمقاً وارتفاعاً أيضاً. وهي السبب الذي دفع الإدارة الأميركية إلى إعلان استحالة إتمام مشروعها، طبعاً من دون اعتراف بالهزيمة.
وهنا نتساءل أيضاً: هل كانت استفاقة فوكوياما معزولة عن أي عمق أميركي يحتضنها؟
من بديهيات الأمور أن فوكوياما لا ينطلق من استفاقته منطلقاً من فرديته، ومن أمانته الفلسفية المجرَّدة، ولأنه ممثل لمجموعة فهو لن يكون منعزلاً عن عمق يرتبط بتيار في داخل المنظومة الفكرية الكبرى.
إن جون مارثا، السيناتور الأميركي الذي أعلن رفضه للحرب والاحتلال بعد موافقته عليهما، أجاب رداً على جورج بوش الذي وصف موقفه بالفردي: بأنه (أي جون مارثا) يمثل مجموعة كبرى من جنرالات الجيش الأميركي، ومنهم من هو موجود في العراق. وقياساً عليه لا نحسب أن فوكوياما يتجرأ على إعلان متغيراته الفكرية لو لم يكن مدعوماً بتيار يقبع في داخل المنظومة الإيديولوجية التي كان ناطقاً باسمها.
إننا على المتغيرات التي أعلنها فوكوياما نستطيع أن نبني استنتاجات تشير إلى أنه عندما يبدأ العامود الإيديولوجي الفكري بالتخلخل سينعكس تداعيات على البناء بكامله، ولا تحتاج تلك التداعيات ترميماً، فالترميم لن ينفعها، بل إن متغيراً استراتيجياً هو الذي سيحول دون انهيار البنيان بأكمله. ونحسب أن فوكوياما قد أشار بوضوح إليه عندما قال: «أن ما تحتاجه واشنطن الآن أفكارا جديدة تتعلق بعلاقة أمريكا ونسبتها للعالم، أفكار تحافظ على دفاع المحافظين الجدد عن فكرة عالمية حقوق الإنسان ولكن بدون الإيمان بإمكانية تحقيقها عبر القوة العسكرية وتغيير الأنظمة».
لن نتوهَّم بأن المنظومة الرأسمالية الأميركية ستغيَّر من بنيانها الإيديولوجي، ولكن المتغير الاستراتيجي الذي عبَّر عنه فوكوياما هو شديد الأهمية. فهو يستعيد الاستراتيجية الإمبريالية الأميركية إلى مواقعها التقليدية، المستندة إلى تصدير المشروع الأميركي بواسطة التأثير الاقتصادي والسياسي، ملوَّحاً بالقوة ولكن من دون استخدامها. وهذا يعني فشلاً للمشروع الإمبراطوري الذي يتمثل بتصدير الرأسمالية لنفسها بواسطة القوة العسكرية المباشرة.
ليس فرض التراجع على استراتيجية المشروع الإمبراطوري الأميركي قليل الأهمية، بل هو في غاية من الأهمية. أما السبب فعائد إلى أن إرباك حركات التحرر في العالم بمهمة تحرير أراضيها بقوة المقاومة الشعبية المسلَّحة يستهلك عوامل الزمن والإمكانيات النضالية التي بدلاً من أن توظفها ضد احتلال مباشر، يمكن أن توظفها في دفع النضال السلمي في التغيير إلى أمام. سواءٌ أكانت أهدافه تغييراً داخلياً، وطنياً أم قومياً، أم كان مرتبطاً بفرض التراجع على الاستراتيجية الرأسمالية في استغلال الشعوب ونهب ثرواتها.
لقد أشرنا في كتابنا «المقاومة الوطنية العراقية: الإمبراطورية الأميركية بداية النهاية»، الصادر في شهر حزيران/ يونيو من العام 2004، تحت عنوان: «احتلال العراق والانقسام العامودي في المجتمع الأميركي»، ما يلي: «إن جملة المتغيرات التي فرضتها الصدمة العراقية، من خلال ولادة المقاومة العراقية بشكل فاجأ المعترضين الأميركيين على الحرب قبل أن يفاجئ إدارة المتطرفين الجدد، سوف تفرض معادلة جديدة على العلاقات الداخلية بين شتى القوى السياسية الأميركية». وجاء في نتائج البحث في الكتاب المذكور ما يلي: إن فجوة ثقافية أخذت تذرُّ بقرنها في وسط المجتمع الأميركي، وبرزت في تيارات فكرية أخذت تميِّز نفسها في أطروحات تدور حول صراع بين نهجين داخل طبقة واحدة:
-النهج الأول الطبقة الجديدة الحاكمة في أميركا، أما النهج المقابل فينحو باتجاه بناء أمة أميركية ديموقراطية ومكتفية ذاتياً:
« استناداً إليه نرى أن الصراع الداخلي الأميركي بين مفهوم بناء الإمبراطورية أو بناء الأمة الأميركية القوية؛ والصراع بين أقطاب الرأسمالية بسبب السيطرة القومية الأحادية القطبية، سيكون، في المستقبل المنظور وليس البعيد، مسماراً يُدقُّ في نعش الحلم الإمبراطوري الأميركي».
لذلك نحسب أن «هناك رؤية أميركية ثالثة تتكون، ولا تزال في طور الولادة، ولا يقتصر تشكيلها على أعضاء حزب دون آخر، بل تجمع أنصاراً من داخلهما معاً،بالإضافة إلى حركة الفكر الأميركي المناهض للأهداف الإمبراطورية الأميركية في تسجيل انتصارات لمصلحة المذهب الرأسمالي... إن ملخص أيديولوجية، ما نسميه بالاتجاه الثالث في أميركا، يرى أن إدارة جورج بوش تمثل تيار المغامرة والغرور في غزو العالم من دون تغطية أخلاقية أو شرعية دولية... لذا ستكون مطالبة الأميركيين –من أصحاب الاتجاه الثالث- بنهاية الحلم الأميركي ليس إنهاءً للجمهورية الأميركية –كما يشير إلى ذلك يوهان غالتونج- وإنما إنهاء الجنوح الإمبراطوري الأميركي هو المقصود، فالإيديولوجيا الإمبراطورية »الآن في طور الشيخوخة وتنوء بمهام الحفاظ على الهيمنة مما تعجز عن المزيد من التوسع«، أي عندما يصبح »التخلص من عبء إقامة وإدامة الإمبراطورية أكثر من المكاسب المتحصلة«.
إن التحول في بعض جوانب الاستراتيجية الفكرية للزمرة الرأسمالية الحاكمة في أميركا الآن، كما عبَّر عنه فوكوياما، واستطراداً كان تعبيراً عن توجهات تيار أخذ ينخر في بنيان تلك الزمرة، هو المقدمة الأساسية التي سينبثق عنها تحول في الاستراتيجية السياسية وتالياً في الاستراتيجية العسكرية. وهذا كله يعني، أقلَّ ما يعني، استراتيجية للهروب من العراق. ولكن لا يعني هذا أيضاً إلغاءً للأهداف الأميركية التي من أجلها احتُلَّ العراق، بل تحاول الإدارة التفتيش عن أبواب أخرى، وهي تعمل على الحصول عليها من خلال بناء إدارة عراقية عميلة، سياسياً وإدارياً وعسكرياً وأمنياً، كما نصت عليه وثيقة «الاستراتيجية القومية للنصر في العراق» التي أصدرها مجلس الأمن القومي الأميركي في 30 تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2005.
ولكن هل ستنجح البدائل الاستراتيجية التي وضعتها إدارة جورج بوش في السيطرة على العراق بالواسطة؟ باختصار نؤكد أنها لن تنجح. ولهذا المقام مقال آخر.
ثانياً: الانعطاف السياسي في داخل النخب السياسية الأميركية: إذا كانت أصوات الاعتراض السياسي الأميركي قد عمَّت بعض النخب المؤثرة في داخل بيت إدارة جورج بوش الحالية، فسنعتمد بعض النماذج منها، ومن أهمها بريجنسكي. وأهميته تستند إلى أنه كان مستشار الأمن القومي السابق. يعبِّر بريجنسكي عن عمق المأزق الذي وقعت فيه الإدارة الأميركية في العراق، ويؤكد أن أميركا وقعت في ورطة,. فتساءل: إلى أين نحن نتجه الآن؟
يختصر بريجنسكي مظاهر تشخيصه للورطة، اقتصادياً وأخلاقياً وشرعية ومصداقية. يقول بأن الحرب باهظة النفقات إلى حد لا يطاق, والأخلاقية الأمريكية قد تلطخت، والشرعية الأمريكية قد تقوضت عن طريق الانفراد بالقرار, والمصداقية الأمريكية قد تصدعت.
لم يستفق ضمير بريجنسكي لأنه متمسك بالأخلاقية وحبه للشرعية الدولية والمصداقية، بل استفاق لأن موازين القوى العسكرية قد مالت لصالح المقاومة الوطنية العراقية. يقول بريجنسكي: لقد أُحبط المشروع الأميركي نتيجة لضربات المقاومة العراقية التي تعزز صفوفها وتزداد انتشاراً, وهي تحقق تفوقاً على الأمريكيين، ويستطرد قائلاً: إنه في حروب الاستنزاف يكون المحتل الأجنبي دائما في الجانب الأضعف. ويخلص بريجنسكي إلى نتيجة تقول: إنها حرب استنزاف وهي حرب لا أرى بأننا منتصرون فيها، وإن «الانتصار» أمر غير محتمل. لذا يناشد جورج بوش قائلاً: إذا كان الرئيس جاداً فان الأجدر به ان يوسع دائرة صناع القرار لتشمل أولئك الذين يعربون عن عدم ارتياحهم من المسار الذي اندفعنا فيه.
ومادلين أولبرايت، وزيرة للخارجية الأميركية سابقاً، من الذين يعربون ليس عن عدم ارتياحهم فحسب، بل يعربون عن نقمتهم أيضاً. وقالت إن الأخطاء السياسية للرئيس جورج بوش تثير اشمئزازها، موضحة «أن العراق سيكون في نهاية الأمر واحدة من أسوأ الكوارث في السياسة الخارجية الأميركية».
ونتيجة لتلك الأخطاء، التي تثير الاشمئزاز، أوضحت ان ما يثير قلقها هو ان الديمقراطية تتحول إلى كلمة سيئة لأنها باتت تنطبق على الهيمنة والاحتلال.
فهل أصوات السياسيين الأميركيين تلك يمكن أن تؤثر على صياغة استراتيجية أميركية جديدة؟
لا نحسب أن جورج بوش، على الرغم من صلافته وغروره وعنجهيته وطاووسيته، سيصم أذنيه إلى الأبد.
ثالثاً: الانعطاف العسكري في داخل دائرة بعض أكبر الجنرالات الأميركيين: غني عن البيان ما تردَّد من مواقف السيناتور جون مورثا، الذي ظهر في بداية إعلانه معارضته للحرب على العراق واحتلاله وكأن مواقفه فردية ومعزولة، وهو الذي دعا إلى سحب الجيش الأميركي فوراً من العراق وإنهاء احتلاله، وتأكَّد أن مواقفه كانت تعبيراً عن مواقف بعض جنرالات الجيش الأميركي المتواجدين في العراق وغيرهم، وأصبحت مواقفه ككرة ثلج تكبر وتتنامى خاصة بعد مواقف الجنرالات الستة الكبار المؤيدة لإنهاء احتلال العراق.
إن كرة الثلج تلك دفعت بجريدة واشنطن بوست الأميركية إلى القول بشكل واضح إن وحدة الجيش الأمريكي معرَّضة للخطر، خاصة مع إشارة بعض الجنرالات إلى أنهم يتكلمون باسم بعض ممن لا يزالون في الخدمة.
ليست الانعطافات الفكرية والسياسية والعسكرية معزولة الواحدة عن الأخرى، بل إنها أخذت تشكل سيمفونية متكاملة، تبدأ في العزف على متغيرات فكرية وتمر بألحان متغيرات سياسية وهي ستنتهي، كما تقول جريدة الواشنطن بوست، بإنتاج ثمارها الاستراتيجية التي لن تكون بأقل من انسحاب للقوات الأميركية من العراق خوفاً من الوصول إلى مرحلة تهدد وحدة الجيش الأميركي.
وبالإجمال، لا يمكننا إلاَّ الإشارة ولو بشكل سريع، إلى أن مظاهر التغيير في استراتيجية جورج بوش أصبحت واضحة في شتى جوانب الأزمات التي تواجهها. ويأتي الهدوء الذي ساد الملف اللبناني السوري، والإرباك في معالجة الملف النووي الإيراني، من أهم تأثيرات المأزق الأميركي في العراق. فالهيجان الذي كان الأسلوب المميَّز للجموح الأميركي تحوَّل إلى هدوء بارز في حركته. والهدوء ليس من شيمه.
فمن يا تُرى دفعه إلى ما وصل إليه؟ فهل هناك غير أن قرونه تكسَّرت في العراق؟
وهل من يتعلَّم من الأنظمة العربية؟ وهل هناك من يتعظ من دول الجوار؟
الانعطاف الاستراتيجي الثاني:
التصدع في العامود الفقري للتحالف الدولي في احتلال العراق يصيب أهم المفاصل الكبرى فيه
هم يكابرون، ويصدقون الكذبة التي صنعوها، مثلهم مثل جحا الذي أشاع بين مجموعة من الأطفال أن مأدبة مقامة عند أحد البيوتات في ضيعته، ولما تراكض الأطفال نحو ما كذب فيه عليهم جحا، راح يركض معهم لعلَّ ما كذب فيه صدق، فخاف أن تفوته الوليمة. ولهذا ضرب المثل «كذب كذبة وصدَّقها». وهذا حال جحا البيت الأبيض مع أطفاله طوني بلير وبرلسكوني.
فإذا كان بعض نخب جحا البيت الأبيض راحوا يحذرونه من مخاطر الكذبة التي أطلقها من أجل احتلال العراق، فإن ضمير الشارعين البريطاني والإيطالي راح يدوي كالمطرقة على آذان برلسكوني فأسقطوه صريعاً لسبب واحد، وهو مخاتلته في إنقاذ الجنود الإيطاليين وإخراجهم من العراق. فجاء برودي، رئيس الوزراء الإيطالي المنتخب، لكي يباشر بسحب الجنود الإيطاليين كما وعد ناخبيه.
وبسحب القوة الإيطالية من العراق تكون القوة الثالثة، الأقوى سياسياً وعسكرياً، قد خلخلت أسس التحالف، فجاء وقعها أشد من وقع المطرقة الحديدية التي كان يشنها جيش جورج بوش على معاقل المقاومة العراقية في أماكن تواجدها.
أما حال طوني بلير، الحليف الأقوى في السياسة والعسكر لجورج بوش، فنام على حرير تجديد رئاسته للحكومة البريطانية في العام الماضي، ولم ينقض عام واحد إلاَّ وتلقى الصدمة الكبرى في نتائج الانتخابات المحلية، وهو ينتظر بقية من وقت لتشييعه إلى السقوط الأخير على الرغم من أنه أجرى بعض التجميل على جدران حكومته المنهارة.
لن تنفعه عنترياته وتهديداته باقتلاع الميليشيات في جنوب العراق لتدعيم موقفه الشعبي الذي انهار تماماً. فمن أفلت عفاريت الميليشيات من عقالها لن يستطيع احتواءها وهو في الموقف الأضعف حيث شكَّلت تلك الميليشيات الجدار الأقوى في حماية احتلاله للعراق.
وليعلم أنه مع الميليشات العميلة لن يسلما من غضب المقاومة التي تتنامى مع غضبة شعبية ستكون عارمة وشاملة، ولا يفصلها عن التنفيذ إلاَّ قلة من الوقت، ستقتلعه فيه وعملاءه في المدى المنظور.
حالة التحول النوعي في حالة الغليان تحدد ميعاداً قريباً للانفجار
في معادلة الصراع بين المقاومة والاحتلال علمية وموضوعية بما لا يقبل الشك. فللصراع موازينه ونتائجه. فإذا كان العمل العسكري آخر حلقات خطة تنفيذ المشروع الفكري والسياسي. ففي نجاحه نجاح لذلك المشروع، وبفشله يشكل نهاية له.
مشروعان متقابلان: مشروع الاحتلال ومشروع التحرير. وكل الدلائل تثبت أن مشروع الاحتلال أصبح في دائرة الاستحالة، وهذا يعني انتصار مشروع التحرير.
فالمعادلة بسيطة ومنطقية، فكلما تداعت استراتيجية الاحتلال وتهاوت أعمدتها ونخر السوس في أسسها، كلما ارتفعت أعمدة القوة في مشروع المقاومة وازدادت قواعدها ودعائمها رسوخاً وثباتاً.
أعمدة الاحتلال تنهار واحدة تلو الأخرى. بدأت في الشارع الأميركي وصرخات صُنَّاع القرار الملحَّة، وتشهد تداعياتها الأخيرة في التحالف العدواني «الميني دولي» المصطنع. وتلك هي بيارق النصر تلوح على سطوح ورمال وساحات ميادين المقاومة الوطنية العراقية.

(11): المشهد العراقي في شهر أيار 2006
لا تزال الأنظمة العربية الرسمية تغط في سباتها العميق
تغييب المرجعية القومية استحضار لمشاريع الخارج في ملء الفراغ السياسي والأمني
قد يرى البعض في التذكير بالثوابت القومية ما يتعارض مع الوقائع الراهنة، فيصفها بالأحلام غير القابلة للتحقق، وتلك هي رؤية اليائسين أو المستسلمين لوقائع الأمور التي تحاول فرضها القوى الطامعة بأمتنا، تلك القوى التي لا يمكنها اختراق أمننا السيادي والاقتصادي إلاَّ من خلال التمزق والفرقة. أما نحن فنرى أن المصالح الوطنية، على الرغم من قطريتها، والقومية، على الرغم من المسافة الشاسعة التي تفصلنا عن تحقيقها، لا يمكن توفير شروط نجاحها إلاَّ ضمن رؤية استراتيجية طويلة النفس تحتاج إلى نضال متواصل.
وكونها استراتيجية أي أنه ليس إلاَّ بواسطتها يمكن الوصول إلى واقع نضمن فيه مصلحة الأقطار العربية منفردة أو موحَّدة، لأن الأمة بغير وحدتها ستبقى ضعيفة وعرضة لمطامع الآخرين، كما أن الضعف الذي تعاني منه يبقى الثغرة التي تتسلل منها مفتوحة يدخل منها كل طامع أو محتل.
إن إصرار القوى الخارجية، ويأتي على رأسها المشروع الأنجلو أميركي والصهيوني، ليس المحافظة على حدود سايكس بيكو بطبعتها القديمة فحسب بل تطبيق سايكس بيكو بحلتها الجديدة القائمة على التقسيم الطائفي والعرقي أيضاً.
ولأن الأمة استحضرت نفسها في المقاومة الشعبية المسلحة، ولأن المقاومة أثبتت جدارتها في تحقيق النصر والتحرير، نرى في وحدة القوى الشعبية العربية المقاوِمة، المفتوحة على التحقق الآن، بداية جدية ستثبت المراحل القادمة أنها قادرة أيضاً على إرغام الأنظمة الرسمية العربية، من خلال جامعة الدول العربية على الرغم من هشاشتها، على اكتساب الثقة بنفسها في العمل من أجل إحداث التوازن واستعادة الدور المفقود، لكي تلجأ الأمة إلى منع أي كان من القوى الخارجية الطامعة التي تملأ في هذه المرحلة الفراغ السياسي والأمني والعسكري الذي تنازلت عنه الأنظمة العربية الرسمية لمصلحة تلك القوى.
الافتتاحية
حكومة نوري المالكي: الحكومة الناطقة باسم مرجعية الاحتلال والمتواطئين معه مشروع لحروب لن تنتهي
هلَّلت إدارة جورج بوش، وطبَّلت حكومة طوني بلير، وصفَّقت الحكومات الغربية الموالية لهما أو المتآمرة بأوامرهما، وزغردت بعض دول الجوار تأييداً للإنجاز التاريخي، وساد إعلام تلك الجهات الهرج والمرج، وكان الجامع بينها التبشير بولادة حكومة نوري المالكي في العراق، كحكومة نقلت العراق إلى عصر الديموقراطية التي تذوَّق العراقيون طعمها المرير، فإذا بـ«الجبل يلد فأراً»، خاصة وأن ولادتها كانت عسيرة وشاقة على رقاب العراقيين ودمائهم ولقمة عيشهم.
ولكي تدفعنا إلى نسيان أن العراق واقع تحت الاحتلال، ومن أجل أن ننشغل بمتابعة النتائج وننسى الأسباب، أجمعت جوقة «الديموكتاتورية» على أن الهدى أطلَّ على العراق بصورة حكومة المالكي، واعتبروها فاصلاً تاريخياً في «العراق الأميركي الجديد» تيمناً بـ«القرن الأميركي الجديد» وتقليداً له، ومنذ تلك اللحظة نام جورج بوش وطوني بلير ملء عيونهما عن شواردها، وتواعدا على اللقاء في أواخر شهر أيار ليبحثا طريقة إنهاء الحرب مرة أخرى وليخططا كيف يتم سحب قواتهما من العراق بعد أن وعدا بأن حكومة المالكي سـ«تشيل الزير من البير»، خاصة وأن عنتر زمانه، نوري المالكي، وعد أسياده بأنه سيقتلع كل من يؤرق جفون السيد ويمنع النوم عنها.
أبشروا بالخير أيها العراقيون، واطمئنوا يا من بهرتكم «ديموقراطية السيد الأميركي» فقد بدأ الغيث يمطر على أرض العراق، بولادة حكومة «جواد المالكي»، ذلك السفَّاح الذي حمَّر يديه بدماء العراقيين في الموصل قبل أن تصل قوات الاحتلال الأميركي إلى بغداد.
أول غيث حكومة «نوري المالكي»، بعد أن خلع اسمه الحركي «جواد المالكي» هو أنه سفح دم العراق والعراقيين باسم «جواد» وسيستكمل مهمته باسم «نوري»، فيا سبحان الله تلك أعجوبة استعارها العميل مما تختزنه جعبة الساحر «جورج بوش»، والقادم من الأعاجيب أمرُّ وأدهى.
من الأعاجيب الأولى هو أن جورج بوش على طريقة انشطار الذرة، شطر العراق، وجعله ثلاث ولايات عراقية تيمناً بالولايات الأميركية وتبريكاً بها. فبدلاً من عراق واحد، يحكم المالكي الآن ثلاثة منه، والحبل على جرار جورج بوش وكل الطامعين بعراق يتشظى كل يوم لينال كل منهم شظية من شظاياه.
بدأنا بتلك الأعجوبة لأنها ستكون مدماكاً وقاعدة أساسية ستتولد عنها أعاجيب وغرائب في المراحل القادمة. وليعذرنا القارئ بأننا سنعالج المسألة وكأن الأمور رست في الميناء الثابت الذي لن يتغيَّر، وكأنَّ ما جرى الآن في العراق هو قدر محتوم، ومن حقنا أن نفترض نظرياً أن ذلك احتمال من الاحتمالات. لأننا من خلاله يتسنى لنا أن نرى مستقبل العراق بوضوح في افتراض أن الاحتلال لن ينهزم، وليرى معنا المخلصون، من خلاله، تلك الكوارث المحدقة بالعراق، وليروا أي مستقبل أسود ينتظره وينتظر العراقيين.
لقد افترس الذئب الأميركي العراق ليلتهمه كله ويترك للثعالب ما تبقى من الفريسة، ولكن بعض من تحالفوا معه، متواطئين ومضمرين الإيقاع به في مرحلة ما بعد إسقاط النظام الوطني في العراق، كشروا عن أنيابهم وكشفوا عن زنودهم التي لولا القوة الأميركية لما نبت على زنودهم لحم ولا عضل حتى ولا وبر. وهل يعتبرون إلاَّ أن في التحالفات خديعة؟
ظهرت الخديعة، وآن وقت استخدامها بعد أن جعلت المقاومة العراقية الاحتلال يئن صارخاً طالباً النجدة والغوث، ساعتئذٍ نبت للثعالب سيقان من قصب، فساوموا وابتزوا وأرغموا العدو الأميركي على أن يأخذوا حصة أساسية من الفريسة.
استناداً إلى تلاقي المصالح وتقاطعها، شرَّع العدوان الأميركي وشركاؤه «فدرلة العراق» لكي يميز كل منهم حصته الصافية من غنيمة الحرب. واتفقوا على تعيين حكومة لكل منهم فيها «أراجوزات»، تحمل الهوية العراقية، أو حُمِّلت لهم، تأتمر بأوامر الأسياد الواقفين في خلفية المسرح، تنتظر كيف تحرك الخيوط لتتحرك تبعاً لأوامر الشد.
ولأن المسماة «حكومة عراقية» تلك التي يرأسها المالكي، لا تمثل سوى إرادة الاحتلال والمتواطئين معه، ولأن ولادتها تمَّت بعد مخاض عسير بسبب رغبة الأطراف المتحالفة بالاتفاق على تقسيم مواقع النفوذ فيها، ولأنها فُصِّلت على قاعدة المساومات، شارك فيها النظام الإيراني على قاعدة «مصائب قوم عند قوم فوائد»، بسبب كل تلك العوامل نرى أن تشكيل تلك الحكومة حسب مقاييس الاحتلال والمتواطئين معه، ينذر بتأسيس مشاكل للعراق وإشكاليات، ويؤسس لحالة حروب مستديمة في داخل العراق من جهة وبينه وبين دول المنطقة كلها من جهة أخرى.
أول تلك الحروب ستكون حروباً عراقية – عراقية، ستنشأ على أرض العراق نفسها بين الفيدراليات الثلاث (الجنوب والوسط والشمال)، وعوامل إثارتها كثيرة ومتشعبة. ومن أهمها النزاع الذي سيدور حول توزيع ثروات العراق، وحول ترسيم حدود الدويلات.
فأول الغيث أن حكومة «نوري/ جواد المالكي» لن تكون حكومة وحدة وطنية بل حكومة تفتيت للوطن، لأنها ستحتاج إلى حماية خارجية بشكل مستمر، فوعودها بتوفير مؤسسات أمنية ودفاعية ذاتية هي وعود «عرقوبية»، لأن تلك المؤسسات إذا لم تكن وقائع الأمور قد أثبتت هشاشتها حتى الآن فاستقراء المستقبل كفيل بإثبات تلك الهشاشة.
أبسط الدلائل والبراهين تؤكد أن المؤسسات الأمنية إذا لم تكن أهدافها وطنية شاملة فهي تحمل تناقضاتها في داخلها. فالمؤسسات الأمنية ستكون حاصل جمع التناقضات التي تنخر في شكل الحكومة العراقية وتكوينها، فهي حصيلة جمع التناقضات الدينية والمذهبية والعرقية، وكل طرف منها سيعمل من أجل تشكيل مؤسسات أمنية تحميه من الطرف الآخر، ولهذا سيؤتى بمؤسسات تقوم على تشكيلات طائفية وعرقية فسيفسائية التركيب والأهداف. وفي مثل تلك الحالة، وإذا تناقضت مصالح الأسياد، وهي ستتناقض حتماً، سيؤمر كل تشكيل بالعودة إلى قطيعه المذهبي أو العرقي. وإذا تناقضت مصالح «الأراجوزات» أيضاً، فسيعود كل تشكيل إلى قطيعه، أما النتيجة الأخيرة فستكون انفراط تلك المؤسسات ودخولها في صراعات عراقية عراقية.
أوَ ليس الأنموذج اللبناني ماثلاً في الأذهان؟ أوَ ليست تجربة الجيش اللبناني في أثناء الحرب الأهلية إلاَّ إنذاراً حقيقياً وواقعياً؟ هل آن لنا أن ننسى تشرذم الجيش اللبناني إلى ألوية يتبع كل لواء لطائفته؟ هل نسينا أن الجيش اللبناني مرَّ في مرحلة ما إلى حالة من الانقسام الطائفي، وتمزَّق إلى لواء شيعي ولواء درزي ولواء مسيحي ولواء سني؟
أنسينا أنه لما اتخذ قرار إعادة توحيد الجيش اللبناني كان من أهم بنوده ضم الميليشيات الطائفية إلى الجيش؟
ما حرق أصابع اللبنانيين، وسيحرقها، لم يدفعنا إلى أن نرى ما يحصل في العراق بعد إسقاط النظام الوطني فيه. فهو لما أدخله الاحتلال الأميركي، برضى وقبول من الانفصاليين الطائفيين والعرقيين، في مرحلة حماية الحقوق والواجبات على أسس طائفية وعرقية، صاغ بمساعدة حلفائه تشريعات وأنظمة ودساتير تعبر تمام التعبير عن الإيديولوجيا الجديدة، وبصياغتها دخل العراق في متاهات التداعيات والانهيارات المستمرة، التي لن تعرف نهاية إلاَّ بالعودة عنها وإلغائها.
وثاني تلك الحروب ستنشأ بين دول الجوار الجغرافي، وتحديداً إيران، ودول الخليج العربي ومحمياته، لأسباب غير خافية على أحد. هذا بالإضافة إلى أنه لن يحمي الاحتلال الإيراني لجنوب العراق الدعم الذي يقدمه للميليشيات الموالية لها، وتعزيز قوة مخابراته التي تغلغلت بشكل كثيف في شتى مفاصل المؤسسات العميلة، والمزيد من الإنفاق المالي الذي تغدقه على المنتفعين، كلها لن تكون بمنأى عن غضبة جماهير الجنوب التي ستزداد نقمتها على تمزيق العراق وإلغاء سيادته الوطنية، وتسليمه لزمرة من الخونة والمارقين. وإن توهَّمت الإدارة السياسية الإيديولوجية الإيرانية أنها ستكون محمية بما بنت، فإن الكرامة الوطنية العراقية التي طُعنت في الصميم، سواءٌ أكانت كرامة أهل الجنوب أم الوسط أم الشمال، التي جابهت أعتى قوى الشر العالمية لن تكون عاجزة عن التصدي لمن تسللوا تحت غطاء دبابات «الشيطان الأكبر» وطائراته، حتى ولو خدعوا العراقيين بحرصهم على حماية الإسلام وتوحيده.
ولأن المشروع الإيراني ليس توحيدياً، أقله على الصعيد الإسلامي، وهو يحمل جنين تقسيم الأمة الإسلامية إلى دويلات مذهبية لا يخفي التاريخ خطورتها، كما أنه واضح المعالم بالعودة إلى أصوله الإيديولوجية، لتلك الأسباب انخرط في مشروع تقسيم العراق لينال «شظية من شظاياه» الفيدرالية.
هذه النتيجة وحدها تبرهن على نوايا التقسيم المذهبي التي يرعاها النظام الإيراني، تلك التي سيطبقها في جنوب العراق، متوهماً أن هوية العراقيين المذهبية فيه ستساعده على الإطباق عليه مستفيداً من العامل الجغرافي.
وثالث تلك الحروب ستنشأ بين الأتراك والأكراد. أما السبب فيعود إلى أن المنطقة لا تستطيع أن تتحمل حالات انفصالية جديدة، خاصة إذا كانت بحجم الحالة الانفصالية الكردية، التي تتمثَّل بقيام دولة كردية في شمال العراق محمية بوجود صهيوني واضح ومكشوف.
وإذا كان من المفيد أن نشير إلى حجم الأضرار التي ستصيب كل المنطقة المحيطة إذا كُتب لتأسيس الدولة الكردية الانفصالية النجاح في شمال العراق، لا يمكننا أن نتناسى حجم الخطر الذي سيهدد الدولة التركية التي ستكون أكثر المصابين بأمنها ووحدة أراضيها، وذلك سيكون متغيراً خطيراً أيضاً سينعكس بشكل يعلو إلى مصاف الزلزال الاستراتيجي لأن فيه معالم واضحة التقسيمات السياسية في كل من إيران وسورية.
قد يقلل البعض من مخاطر قيام دولة كردية في شمال العراق معلِّلاً ذلك بأن الدولة التركية قد تسكت عن قيامها إذا ما توفَّر عامل الضغط الأميركي والصهيوني على الحكومة التركية، خاصة إذا ترافق الضغط بإغراءات نفطية تقدمها «الدولة الانفصالية الكردية» في شمال العراق للحكومة التركية على شكل امتيازات نفطية وعقود اقتصادية، متناسين أن سيادة الدولة التركية ستكون مهددة بقيام «دولة انفصالية كردية» في جنوب تركيا، وفي ذلك خسارة لا توازيها إغراءات اقتصادية أونفطية مهما بلغ مستواها.
ونستنتج من كل ذلك أن ما اعتبره جورج بوش وطوني بلير، نصراً ديموقراطياً تاريخياً في تشكيل «حكومة نوري» لا يقصدان من ذلك إلاَّ أن تلك الحكومة، باعتبارها وليدة احتلال غير شرعي، ستكون «المشجب القذر» الذي سيعلِّقان عليه كل أخطائهما وجرائمهما. وهما بعد تنظيف نفسيهما من أية آثار للجرائم التي ارتكباها في العراق، سيظهر إرغامهما على الخروج الحتمي من كل شبر من أراضيه وكأنه ليس هزيمة لأكبر إمبراطوريات العالم في التاريخ الحديث والمعاصر.
ونستنتج أيضاً أن الوالغين في اقتطاع شريحة من العراق هنا أو هناك، في شماله أو جنوبه، أن «طالع السعد» الذي وفَّره لهم الاحتلال الأنجلو صهيوني، والذي أخطأوا في تقييم نتائجه، ليس إلاَّ «طالع النحس» الذي سيحمل لهم الفشل والخذلان ، حيث سيحبط الشعور بكرامة العراقيين الوطنية، وسيحبط عامل حماية سيادة العراق، كل مراهنة مذهبية أو طائفية أو عرقية.
وأما العراق الذي مزَّقوه بعد أن كان موحداً، سيعود متكامل التوحيد بأرضه وشعبه، وإذا خانهم التصديق فليقرأوا علامات الخيبة والهزيمة بوضوح في وجه أكبر إمبراطور معاصر، وكذلك في وجه رئيس حكومة أكبر إمبراطوريات العالم في العصور الوسطى، وليتساءلوا عمن أغمد خنجره في وجه الإثنين معاً، ولن يسمعوا رداً آخر غير أن الذي فعل ذلك بهما هي المقاومة الوطنية العراقية، التي ستلاحق عملاءهما والمتواطئين معهما وعملائهم إلى أبواب غرف نومهم.
المشهد العراقي في شهر أيار من العام 2006
لم يكن في أداء المقاومة الوطنية العراقية منذ انطلاقتها في أم قصر، واستكمالاً لها في العاشر من نيسان في العام 2003 إلاَّ ما يثلج الصدر ويقلب موازين القوى في استراتيجية الصراع مع الاحتلال الإنجلو أميركي، وإلاَّ ما يجعل أعداد التوابيت العائدة إلى إدارة جورج بوش تزداد وتضيف متاعب جديدة للساكن في البيت الأبيض وزمرته الحاكمة. و إلاَّ ما يجعل الخزينة الأميركية تزداد وتيرة إفلاسها، و إلاَّ ما يجعل صرخات المعارضين للحرب والعدوان، في داخل أميركا وخارجها، تزداد وتتعالى ارتفاعاً. وفي المقابل ترتفع صرخات عملاء الاحتلال وتتعمق أزمتهم لأنهم لا يستطيعون حماية أنفسهم.
وإذا كنا نتابع نتائج نضال المقاومين العراقيين يوماً بيوم، سواءٌ بإبداعات تطوير وسائلهم التي أربكت آلة الاحتلال العسكرية المتطورة، وجعلت جنرالات الاحتلال يئنون تحت وطأة أسلحة المقاومة المبتكرة، وتعجز مصانع أسلحتهم عن اللحاق بالتجديد الذي يضيفه المقاومون من رجال التصنيع العسكري في وسائل المقاومة، فهناك إضافات نوعية على تلك الوسائل وهي تحويل معتقلات الاحتلال وعملائه إلى خنادق سياسية للمقاومة جعلت العدو يقع في شر أعماله عندما توهَّم أن إحالة قيادة الحزب والدولة في العراق ستصب في مصلحته فإذا بإبداعات القادة الواقعين تحت حالة الأسر أو الاختطاف، تحت ظل جناح الرئيس صدام حسين الثائر الأكبر، تحول قيادة الاحتلال في البيت الأبيض إلى أسرى ومطاردين ومتَّهمين بأنهم وفَّروا للمقاومة خندقاً إعلامياً لم يكونوا ليحلموا به. وكثرة النعوش الوافدة من العراق دفعت بأمهات وآباء الجنود الأميركيين إلى الصراخ في أُذُنيْ جورج بوش وإدارته، وبذلك أضافوا عبئاً جديداً دخل منازلهم وغرف نومهم. أوَ لا يصب قانون منع التظاهرت الشعبية في أثناء تشييع جثث الجنود الأميركيين المقتولين في العراق في رؤية المأزق الداخلي لإدارة جورج بوش؟
فالمشهد العراقي في شهر أيار شهد تصاعداً في وتيرة حالة الاعتراض الأميركية الداخلية ضد إدارة جورج بوش، وهي الحالة التي أشرنا إليها في العدد السابق من (طليعة لبنان الواحد) واعتبرناه بداية تحول نوعي، فهي تزداد تراكماً على الرغم من أن اجتماع جورج بوش وطوني بلير، في الأسبوع الأخير من شهر أيار المنصرم، لم يُنتج إلاَّ المزيد من التصريحات العنترية بقرب القضاء على المقاومة العراقية من جهة، و إلاَّ التغني بكبر الإنجازات الديموقراطية بولادة حكومة نوري المالكي من جهة أخرى.
جاءت تصريحات المأزوميْن معاً لتصب في استراتيجية الخروج الذي لا يوحي بهزيمة معلنة لمشروع احتلالهما للعراق، و على الرغم من الابتسامات المصنَّعة في مكاتب علماء نفس المخابرات الأميركية لتخفي وراءها حدة الأزمات المتفاقمة، والتي تزداد أزمة وراء أزمة. فإذا كان الناخب البريطاني قد حسم أمره في الانتخابات البلدية السابقة، فإن طوني بلير يسعى من أجل إيقاف حالة التراجع التي يعاني منها حزب العمال الذي يتزعمه، وظهر الأمر جلياً أن أسباب التساقط كانت تعود إلى تأثير مغامرة طوني بلير في احتلال العراق، ويبدو الأمر واضحاً في أنه لا يعني ما قام بالتصريح به من منبر جورج بوش، وإنما الذي يعنيه ولا يجرؤ على التصريح به، هو برمجة غير معلنة للانسحاب من العراق. وسواءٌ أأشاد طوني بلير أم جورج بوش بولادة الحكومة العراقية العميلة فالسبب يعود إلى أنهما في عجلة من أمرهما لتسليمها أمناً لم يستطيعا توفيره تحت حراب مئات الألوف من جنودهما ومرتزقتهما وعملائهما. وهذا لا يعني إلاَّ أن الانسحاب أصبح في متناول اليد. ولكنهما في الوقت ذاته ينتظران فرصة سحرية قد توفِّر لهما مكتسبات خسراها بحماقتهما وغرورهما كان للمقاومة الوطنية العراقية فضل تكسير غرورهما ليدفعهما إلى رؤية حماقتهما بوضوح.
أما الفرصة السحرية التي ينتظرها المأفونان الغبيان، وهي مصطلحات يستخدمها معارضو الاحتلال الأميركيون والبريطانيون، فتظهر في محاولتهما تأجيج الفتنة الطائفية والعرقية، بمساعدة عملاء إيران من أجهزة مخابرات وميليشيات تمتهن القتل والتخريب.
كما يستغفلان ما تُسمى بأجهزة الأمن العراقية، تشكيلات الشرطة والحرس الوطني، يستخدمها جيش الاحتلال كدروع بشرية ليسقط منهم العشرات كل يوم، لشن حملات عسكرية تتصف بالوحشية الحيوانية بارتكاب مجازر لم تستطع قيادة الاحتلال ولا إدارة جورج بوش إلاَّ الاعتراف بها، كمثل ما حصل في اللطيفية وما يحصل في الموصل والأعظمية وسامراء والفلوجة والرمادي...
لكن عمليات الوحوش بدلاً من ترهيب المواطنين فإنها تزيد من أعداد المقاتلين وتزيدهم شراسة وإيماناً في قتال العدو وعملائه.
لقد شهد شهر أيار عنفاً في بعض المحافظات والمدن والقرى شبيهاً بما جرى في الفلوجة والقائم وسامراء، وهي تمثل عمليات اليائس أو كما نسميها «الخرطوشة الأخيرة في جعبة الصياد» الذي رجع فاشلاً من رحلة صيد. كما أنه على الرغم من العذابات والشقاء التي يعاني منه الشعب العراقي إلاَّ أنه أثبت أنه مستمر في مواجهة الاحتلال ومصمم عليها، مدفوعاً بوعي كامل بأنه لن يخسر إلاَّ الديموقراطية الأميركية التي أمست تثير اشمئزاز مادلين أولبرايت، وسخط فوكوياما، واحتقار نعوم تشومشسكي، وتثير حفيظة أصحاب الضمائر الحية من الأميركيين.
من أهم المتغيرات التي برزت بوضوح في المرحلة السابقة هي تلك الغضبة الشعبية التي تتنامى في البصرة، ومن تابع عيون أهاليها وقبضاتهم وتفرَّس في وجوههم وهم يحرقون آليات طوني بلير العسكرية لعرف أن غضبة البصراويين لن تهدأ ولن يناموا على ضيم الاحتلال. وما تصاعد وتيرة العمليات العسكرية في مناطق جنوب العراق إلاَّ دليل واضح على أن العراقيين لن يتركوا قريباً أو بعيداً يهنأ بوضع قدم على أرض العراق ويكون مطمئناً إلى أنها لن تُبتَر.
إن ما يحصل في البصرة اليوم، سواءٌ أكان موجهاً إلى قوات الاحتلال البريطاني، أم ما يحصل من صراعات بعضها يدور بين ميليشيات الترهيب والسرقة والنهب، أم من حالات اعتراض لوجود الاحتلال وميليشياته، ينبئ بوصول حالة النقمة الشعبية إلى مستوى متقدم ينذر بتحريك المقاومة ضد الاحتلال وعملائه بوتائر أسرع تكون أكثر إيذاء للاحتلال والمتواطئين معه. كما لا بدَّ من الإشارة إلى أن حكومة ومؤسسات تقوم على المحاصصات الطائفية والعرقية تحمل تناقضاتها في ذاتها، وتلك من العوامل التي ستساعد في انهيار كل ما بناه الاحتلال من مؤسسات يتوهم أنها ستحميه وهو الذي أصبح عاجزاً عن حماية نفسه.
إن دفتر محاسبة الاحتلال أصبح أكبر من أن تستطيع حاسبات البيت الأبيض من تدقيقها فهي مليئة بالديون الوفيرة وهو الذي كان مزمعاً على الاستفراد بالعراق وثرواته.
وبإحصاء ما يمكن أن يجنيه من غلال احتلال كان مرهقاً له، تحولت إلى أغلال في عنقه.
فويل له لأنه سيدفع للنظام الإيراني حصته،
وويل له فاتورة دول مجلس الأمن الدولي الموعودين بحصصهم نتيجة تواطؤهم في إنقاذه بالقرارات التي صدَّروها.
وويل له فاتورة عملائه الذين لن يرضوا بعد بالفتات الذي كان محسوباً لهم أن يقتاتوا به.
وويل له من غضبة شعوبه التي استفاقت على كارثة بشرية واقتصادية،
وويل له من ثورة دول أميركا اللاتينية، وما ستفرزه من تداعيات مأساوية ستحترق بها أصابعه عندما تستفيق شعوب دول العالم الثالث لترى الفيل الأميركي قد تحوَّل فأراً هزيمته ممكنة.
فإذا كان الفيل الأميركي قد ناء تحت ثقل أحمال المقاومة الوطنية العراقية وحدها، فكيف به وقد اكتمل تكوين المقاومة الأفغانية، وراحت تؤتى أُكُلها. تلك مصيبة كبرى أصيب بها الإمبراطور الأميركي خاصة وأن الشعب الأفغاني نزل إلى الشارع يرفد مقاومته ويدعمها.
إن أمام جورج بوش وطوني بلير مجلدات من جرائم الحرب التي ارتكباها، وهما معروضان لبيعهما إلى المحاكم الجنائية الدولية كتعويض للشعوب الكثيرة التي تعرضت لعدوانيتهما. ولن يكن عرضهما بالأغلال أمام المحاكم الدولية إلاَّ الثمن الأصغر لكي تستعيد الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة هيبتهما حتى أمام الراكعين في بلاطهما. وسيكون التعويض الأصغر أمام الشعوب التي تعرَّضت لاضطهادهما لكي تعود الثقة بين تلك الشعوب والشعبين البريطاني والأميركي.
المحكمة العراقية المهزلة
بالإضافة إلى تعرية الاحتلال وعملائه حتى من أوراق التوت التي كانت تستر جرائمهم، وهي أكثر من أن تحصى، تبرهن القيادة الوطنية للعراق المأسورة / المخطوفة، أنها كانت جديرة بالحكم، إذ أنها كم تبدو رائعة في مواقفها التي تتحدى الاحتلال وعملائه. وكم تبدو متماسكة وواعية لمهماتها، وشجاعة أقله أنها لا تفكر بمصيرها الشخصي لأنها ربطت مصيرها بمصير أمتها وقضاياها العادلة.
كل جلسة تمر، وأصبح عددها حتى الآن ثلاثين جلسة، أي ثلاثين وقفة تتميز بالعز والجرأة والشجاعة جعلت حتى المعادين أو المضللين يعترفون بها، ويعلنون إعجابهم بأنموذج من القيادات لم يعرفوها عند القيادات الأخرى.
تميَّزت جلسات الأسبوع الأخير من شهر أيار بأكثر من ظاهرة تدعو إلى الاعجاب والاحترام، ومن أكثرها تميزاً الدفاع الجريء والواعي والمتماسك الذي عرضه الرفيق طارق عزيز، ذلك الرجل الذي لم يفقد ذرة من شخصيته المعروفة على الرغم من عذابات السجن والمرض.
كما أن الفصل المميز هو ذلك الدفاع الذي أدَّاه شاهدان غير علنيين من الدجيل في الجلسة الرقم (30):
الأول: وقد أثبت أن ثلاثة وعشرين من الذين زعم الادعاء العام (الموسوي) أنهم أُعدموا، لا يزالون أحياء يًرزقون. ونفى أن يكون أحد من الذين أعدموا لم يتجاوز السن القانونية. والأكثر إثارة انه شاهد المدعي العام جعفر الموسوي واقفا مع شهود الاثبات الاول والثاني والثالث في مركز شباب الدجيل اقيم فيه احتفال ومعرض صور بالمناسبة (ذكرى الاغتيال) وانه كان قريبا منهم وسمع نص الكلام واحدهم يقول: اخوي اخوي نشد حزام على حزام ونخلص من صدام حسين ونحاول اعدامه لأنه اذا بقي يظل سرطانا على الامة العربية والعراق واخواننا في ايران يقولون اصرفوا ولا تقصرون من الدينار الى المليار وانا عندي جماعة .. خبراء في تزوير الوثائق وتعبر على اكبر خبراء العالم .
ويوضح احد المحامين ان القرص المدمج الذي رفضت المحكمة عرضه يتضمن فيلما عن هذه الحفلة وفيها الموسوي مع شهود الزور. وهناك صور ايضا قدمت للمحكمة .
أما الثاني: وأهمية شهادته أنه قال: بعد حوالي شهرين وبعد اربعة ايام من بدء عملية تجريف الاراضي اعتقله رجال الأمن وارسلوه الى الامن العامة في بغداد حيث بقي سبعة ايام وكان معه آخرون من الدجيل وقد اخذوه مع حوالي 20 منهم الى الطبابة العدلية لتقدير اعمارهم ، فمن وجدوه صغيرا اطلق سراحه ومن وجدوه بالغا استبقوه. ومثل سابقه تحدث عن الأحياء من اهل الدجيل الذي ادعت المحكمة انهم اعدموا وذكر بعض الاسماء. ثم تحدث عن حفلة مركز الشباب في الدجيل التي حضرها المدعي العام.


(12): إلى متى المراهنة على قتل البشر وهدم الحجر وقطع الشجر
من أجل مشاريع «إلهية» لا تصمد أمام حقائق التاريخ والمنطق
5/ 6/ 2006
تيمناً بآية جاءت في التوراة تقول: «وإذا دخلتم أرضاً فأبقروا بطون الحوامل، إذبحوا الأطفال، أقتلوا الرجال، أحرقوا الأرض ثم استولوا عليها»،
واستعادة للذاكرة التاريخية في لبنان التي سجَّلت «يوم السبت الأسود»، ذلك السبت الذي دخل في تاريخ لبنان رمزاً لاسلوب القتل على الهوية الطائفية،
نضع صورة العراق، اليوم، بعد الاحتلال الأميركي والزمر الطائفية، فنرى فيه كل يوم سبتاً أسوداً.
نحن لا نحب الافتراء حتى على المفتري، ولا نعتدي على أحد حتى على المعتدي. ولكننا نضع الحقائق للدفاع عن أنفسنا، ولكي نستنير بها لنأخذ الحكم المناسب لها.
فإذا كانت التوراة شرَّعت للصهيونية أساليبها في فلسطين المحتلة على أنموذج دير ياسين. وقد شرَّعتها طوال مراحل احتلال لبنان. وفي الذاكرة الكثير من المجازر، التي ذبح فيها الصهاينة نساءً وأطفالاً ومسنيِّن،
وإذا كانت التوراة قد شرَّعت إحراق الأرض من أجل الاستيلاء عليها، وهو أمر إلهي كما يحسب الصهاينة، وهي تحرق اليوم أرض فلسطين، على أنموذج مجزرة «جينين»، وأحرقت أرض لبنان للوصول إلى «أرز الرب» على أنموذج مجازر العباسية، وأنموذج مجزرة قانا،
وإذا كان جورج بوش يؤمن بحتمية معركة هرمجدون من أجل التمهيد للسيد المسيح بالظهور،
فمستندين إلى هذا البعض من النماذج لكي نستطيع أن نفهم المجازر التي تجري في العراق، من قتل للأطفال، وبقر لبطون الحوامل، واستئصال لكل زرع أو ضرع في الفلوجة، وقبلها سامراء، ومن بعدها القائم والموصل، ومن بعد بعدهما، تلعفر وبيجي والرمادي وبعقوبة وحديثة...
فهل هناك أوجه للشبه بين السبت الأسود في لبنان، ومئات الأيام المماثلة في العراق؟
نحن لا نريد أن ننكأ الجراح في لبنان، ولكننا نريد فقط أن نستفيد من التاريخ ودروسه، وأن نقارن الظواهر هنا وهناك، لكي نعرف أية إيديولوجيا تقف وراءها.
من المعروف أن المؤامرة في لبنان، التي اندلعت في 13 نيسان من العام 1975، كانت تحرض عليها الصهيونية العالمية، ولي أمر الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة. وكانت الأهداف المباشرة من ورائها اقتلاع الوجود المقاوم من لبنان الذي كانت طليعته المقاومة الفلسطينية، أما الأهداف غير المباشرة فكانت تحرِّض من أجل بناء كيانات طائفية تبتدئ في لبنان لتمتد إلى الوطن العربي.
إن تلك الأهداف كانت مدعومة بشلة من اللبنانيين لتقوم بتنفيذ جدولها الزمني، فجاء السبت الأسود إحدى وسائل التنفيذ، إذ كان المقصود منه عملية تطهير طائفي، وهذا ما أدى إلى تطهير منطقة النبعة من كل أتباع المذاهب الأخرى، كخطوة على طريق إنشاء فيدراليات طائفية.
فالذبح والقتل والحرق، كما التطهير الطائفي، جميعها تتلاقى وتتوافق مع ما جاء في التوراة.
وكما هو حاصل الآن في العراق: تأسيس الفيدرالية وتشريعها ودسترتها كانت البداية التي فتحت الأبواب أمامها بتوافق كلي بين الاحتلال الأميركي، وجزء أساسي منه صهيوني، وبين دعاة الشرذمة الطائفية، وقد تكون ذريعتها تمهيداً لـ«انتظارات» أخرى شبيهة بما يعمل جورج بوش على تنفيذه إعداداً لمعركة هرمجدون، ولكن على أساس قواعد مقدسات أخرى. فهل هذا له علاقة بصراعات تقوم على قواعد وعود «إلهية» ينفذها أصحاب نظريات الانتظار؟
فهل ما يحصل الآن في العراق ببعيد عن أيدٍ صهيونية؟
ربما
لقد كشفت التقارير أن جنود الاحتلال الأميركي يتلقون تدريبات في معسكرات العدو الصهيوني، وفي شوارع الأرض الفلسطينية المحتلة. والغاية من تلك التدريبات اكتساب فنون القتل الإيديولوجي التي لا توفر الأطفال والنساء، والحجر والشجر، كما تنص عليها التوراة، التي بشرَّت بمعركة هرمجدون.
وتبرهن وقائع الأمور أيضاً، أن هناك الكثير من الفظاعات التي ارتكبتها أجهزة وزارة الداخلية العراقية التي تغلغلت في مفاصلها مجاميع من تنظيم «قوات بدر»، ولم تخف التقارير مشاركة ضباط إيرانيين في التحقيق مع آلاف المعتقلين «على الهوية».
وإذا ما أضفنا الحقائق التي تؤكد إصرار القيادة الإيرانية، وعلى رأسها المرشد الأعلى للثورة، على متابعة تنفيذ المشروع الإيديولوجي الإيراني.
ويتبيَّن ذلك من الوثائق التي وصلت من العراق، وهي تشير إلى الاتفاق بين المرشد الأعلى وتجمعات من معظم الدول الإسلامية على تأسيس «منظمة المؤتمر الشيعي العالمي» للثورة الإسلامية، والعمل على تنفيذه بمشاركة جميع القوى التي حضرت المؤتمر المذكور. وجاء في إحدى الوثائق المعنونة تحت اسم «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق/ الرئاسة» «بيان سري وعاجل يحمل الرقم 115 تاريخ 8/ 1/ 2006»، ما يلي:
1-ضرورة تأسيس «منظمة المؤتمر الشيعي العالمي» يكون مقره في إيران.
2-تكون مهمات المؤتمر الاستفادة من تجربة العراق وتعميمها على دول المنطقة، ومن أجل ذلك أقرَّ المؤتمرون تشكيل قوات عسكرية غير نظامية، في تلك الدول، وزجها في كافة المؤسسات العسكرية والأجهزة الأمنية والسياسية.
3-تشكيل لجنة متابعة مركزية، وإنشاء صندوق مالي عالمي لدعم نشاطات المجلس المذكور.
وقد تكون الوثائق التي وصلت من العراق، التي تنص على تكليف المئات من الضباط المنتمين إلى «فيلق بدر» للانتشار في دول الجوار العربي للعراق، لتجنيد الأنصار والمؤيدين للمشروع المذكور أكبر دليل على أن المشروع وُضع على سكة التنفيذ الفعلي.
مشروعان يتفقان على أن لكل منهما نصوصاً مقدسة تتناقض في أهدافها، فكانت أرض العراق قاعدة الانطلاقة للمشروعين الإلهيين، ولا ضير في أن يدفع العراقيون الثمن عند من يعتقدون أنهم ينفذون أوامر «إالهية». وهؤلاء هم العراقيون يشكلون الذبيحة التي تُقدَّم أمام هيكل المشروعين المذكورين.
كيف يتم تنفيذ الوعد الإلهي لكل من الطرفين الأميركي والإيراني؟
من جانبه اعترف جورج بوش بمجزرة مدينة حديثة، التي ذهب ضحيتها أربعة وعشرين عراقياً، بين طفل وامرأة ومسن. تلك مجزرة، وغيرها الكثير غير المعلن، ومنها مجزرة الإسحاقي، من صنع «فرق الموت» التي أسَّسها نيغروبونتي. وعلى خلفية اعتراف بوش دعا قيادات الجيش الأميركي المحتل للتشديد على تطبيق «الضوابط الأخلاقية» بين جنود الاحتلال، واعداً بأن ينال المخالفون عقوبتهم التي يستحقونها!!!
ومن جانبه يعمل الطرف الإيراني على تجنيد الميليشيات في أجهزة الحكومة العراقية، وهذا ما تؤكده وثيقة حصلت عليها المقاومة العراقية صادرة عن وزير الداخلية السابق، وموقعة من ابراهيم الجعفري، رئيس الوزراء السابق، وفيها أسماء المئات من ضباط «فيلق بدر» لضمهم إلى مختلف أجهزة الحكومة التي يترأسها الآن نوري المالكي.
يا ناس
رحمة بعقولنا وعواطفنا التي تكاد تنفجر، هذا إذا لم تنفجر بعد، قولوا لسيد البيت الأبيض أنه على قاعدة «السبت الأسود اللبناني»، الذي كاد أن يكون يتيماً في تاريخ لبنان، وإذا وضعنا بعض ما يشابهه في عدد محدود، فإن ملفات البيت الأبيض تمتلئ بآلاف التقارير عما يماثل السبت الأسود في لبنان، وقد تفوقه بشاعة.
مجزرة حديثة، وقتل امرأتين في سامراء، إحداهن حامل، ليست الجريمة الوحيدة التي يجب أن نحاكم الاحتلال على أساسها، بل هاتان جريمتان كان من سوء طالع الجنود الأميركيين الذين ارتكبوهما أنه كانت هناك كاميرا استطاعت أن تصور وقائعهما. أما آلاف الجرائم المماثلة فقد منعت إدارة احتلال العراق من تسجيلها، والدليل هو ارتكاب جريمة قتل واحد وسبعين صحفياً على أيدي قوات الاحتلال الأميركي حتى الآن.
يا ناس
تطل علينا وسائل الإعلام، حتى المتواطئة منها لأنها لا تستطيع أن تتأخر عن ذكر الخبر لأسباب مهنية، بحصيلة يومية تفوق العشرات بل المئات من القتلى، ومن ضمنهم الجثث التي تفنن المجرمون بطريقة قتلها عن سابق تصميم.
فإذا كانت حصيلة السبت الأسود اللبناني قد تجاوزت المئة ضحية، وظلت رمزاً ماثلاً في ذاكرتنا، فإن مجموعة الرموز تلك أصبحت تتجاوز الآلاف في العراق.
فهل تخلو شاشات التلفزة من يوم واحد لا تشير إلى عشرات الجثث المرمية في شوارع معظم مدن العراق وقراه. فأين يضعها جورج بوش؟
أيختزلها بمجزرة الحديثة؟
أيختصرها بقتل ماجدتين من سامراء؟
يا ناس
رحمة بعقولنا، ورحمة بالعراقيين الذين يدفعون الثمن الفادح، ورحمة بالعراق الذي أصبح سلعة للمساومة، وتحول إلى ذبيحة من أجل مشروعين «إلهيين»، نقول: إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء. وتأكدوا أن من في السماء لن يرحم من لا يرحم حتى مناهضيه على الأرض حتى ولو كانت نصوص المشروعين تُنسب إلى الكتب المقدسة.
وإذا كنا لن نراهن على الإطلاق على صحوة ضمير للصهيونية العالمية، وعلى منفِّذ أهدافها جورج بوش، وإذا كان لا ينفع تذكيرهما بأن حلمهما الإلهي هو تزوير وبهتان، وحديث خرافة. فإننا نناشد جار العراق التاريخي، الذي يقتات من جثة العراق تحت ذريعة تنفيذ مشروعه الإيديولوجي، بأن يقف للحظة واحدة أمام نفسه ليتساءل، ولو لمرة واحدة، عن منطقية مشروعه الذي يحسب أنه إلهي، كما تساءل الإمام الخميني: «إنتظرنا ظهور المهدي ألفاً ومائتي سنة، ولم يظهر. وقد ننتظر ألفاً ومائتي سنة أخرى ولا يظهر. وقد ننتظر إلى الأبد وقد لا يظهر».
إن تشكيك الإمام الخميني بالنسبة لنظرية الظهور هي ما تدفعنا إلى تلك المناشدة قائلين: أنتم ترتكبون الجرائم في العراق، وتسكتون عن جرائم «الشيطان الأكبر» فيه، من أجل حلم مقدس، ولأن هذا الحلم كان موضع تشكيك من واضع آليات المشروع، أفلا تحسبون بأن الله سيحاسبكم من جراء خطأ في التقدير أعسر حساب؟
نرى نحن، قياساً على أيديولوجيا الظهور التي نحترم إيمان من يؤمن بها في الفكر الشيعي لأنها على الأقل تبشر بالجهاد من أجل إقامة دولة العدل التي لا مبرر ولا مفهوماً واضحاً لها إلاَّ عن طريق منع الظلم، ومعاقبة مرتكبيه. فهدف الظهور ليس مقصوداً منه ظهور الغائب بشخصه، بل هو مرتبط بهدف إنساني نبيل يعبِّر عن قيمة إلهية عليا.
وقياساً على مضمونها الذي يربط توقيت الظهور بامتلاء الأرض ظلماً الذي يقوم به الظالمون، لأن الغاية من ظهوره هو إعادة العدل، إلاَّ أن المضمون لم ينص أو يدعو المؤمنين بها إلى أن يملئوا هم بأنفسهم الأرض ظلماً. وهل هناك من ظلم أكثر مما ألحقته أو تلحقه سلوكات النظام الإيراني في العراق؟
لقد عقد اتفاقاً مع أصحاب نظرية انتصار الخير على الشر في معركة هرمجدون كتمهيد لظهور السيد المسيح.
وهو يسكت على وحشية ما ترتكبه إدارة جورج بوش، على قاعدة ما جاء في التوراة.
وهو يشارك في أعمال القتل التي أثبتت الوقائع مسؤولية وزارة الداخلية العراقية عنها.
وهو عمل، ويعمل، ويتدخَّل في الشؤون العراقية، على أسس إيديولوجيا نظرية الظهور.
وهو ينفذ مخططه على الصعيد العالمي، ببناء تحالفات سياسية على أسس (منظمة المؤتمر الشيعي العالمي) لتكون أداة التنفيذ الأساسية المدعومة بإمكانيات النظام الإيراني.
ومن أجل كل ذلك، لابد من أن نتساءل: لو سمح الله بظهور الإمام المهدي المنتظر، نتوقَع أنه من غير الممكن، بل من المستحيل، أن يُشرك في إعادة العدل من شاركوا في نشر الظلم، ودفعوا إلى ممارسته بأبشع الأساليب.
أما إذا لم يسمح الله بالظهور فكيف تكون النتيجة؟
يكون من أسهم في نشر الظلم قد وقع أسير أعماله وسلوكاته. وبدون أدنى شك ستكون من الأعمال التي سيُحاسب مرتكبوها يوم الحشر والحساب.
فالأولى، وفي جميع الحالات، أن يقف دعاة نظرية الظهور خارج أي تحالف يمارس الظلم، أو يدعو إليه، أو يضمره في قلبه، أو يخطط له، لأن الظالم والمخطط للظلم والساكت عنه شيطان أخرس. أما المؤمنون الحقيقيون، بحقيقة نظرية الظهور سواءٌ أكانت واقعاً حقيقياً، أم حقيقة رمزية، فليس أمامهم إلاَّ الدعوة إلى العدل وممارسته خاصة بين بلدين متجاورين، وجارين يستحيل عليهما إلاَّ أن تسود علاقات العدالة الإنسانية بينهما.
***
رد على بعض التعليقات التي كتبها بعض قراء (دورية العراق) عن المقال:
لما كتبت مقالي أعلاه لم يكن القصد منه تفضيل مذهب على مذهب، أو دين على دين، وإنما أردت التحذير من خطورة المشاريع الدينية السياسية. أي أن المقدَّس إذا تجاوز مهمته الروحية، أي توليد الاطمئنان النفسي للبشر عن تساؤلاتهم عن مصيرهم في مرحلة ما بعد الموت، يدخل الدائرة المفرغة والحيرة والإرباك الشديدين.
لما كانت المقدسات الدينية متعددة ومتنوعة، تعدد الأديان والمذاهب، ولكل مقدَّس أسبابه ووسائل الدفاع عنه، يُعتبر الغرق في تحديد أي مقدس هو الأصلح لخلاص النفس بعد الموت، عودة إلى صفحات التاريخ السوداء خاصة صفحات القرنين الرابع والخامس الهجريين، وفيهما ساد الصراع والاقتتال بين الفرق الإسلامية حول من هي (الفرقة الناجية من النار). ولأن كل فرقة كانت تحسب نفسها أنها الفرقة الناجية الوحيدة أعطت لنفسها الحق في تكفير الفرق الأخرى، وبالتالي تحليل دمها وعرضها وأموالها. وتحولَّت في تلك المرحلة أنظار المسلمين إلى ما يُسمى (جهاد الفرقة الباغية)، أي أن كل فرقة كانت تحاسب الفرق الأخرى على أنها الباغية، وراحت كل فرقة تنكِّل بالفرقة الأخرى. وحسبت أن الجهاد هو اجتثاث للفرق الباغية. وبالتالي تناسى المسلمون أن الجهاد الذي لا جهاد غيره ليس إلاَّ حماية ثغور المسلمين من الاعتداءات الخارجية.
ومن أجل أن تبرهن كل فرقة على أنها الناجية الوحيدة، استندت إلى فقهائها وعلمائها من أجل تدعيم زعمها بالأحاديث النبوية الشريفة، وبتأويل النص القرآني، لكي تسبغ على نفسها قدسية البراهين والإثباتات. ولهذا السبب كثُر النحل على الأحاديث النبوية حتى بلغت عشرات الآلاف. وتحول القرآن الكريم، تحت صيغ التأويل والتفسير، إلى مجموعة من التفاسير التي تتناسب مع المصالح المذهبية. ومن تلك الأسباب نحذِّر من أن تجرنا روايات وأسانيد، ما اصطُلح على تسميته (الكتب الصفراء)، أي تلك الكتب التي وُضعت من أجل الغاية التي تكلمنا عنها أعلاه.
يكفينا درساً قاسياً أن المسلمين أضاعوا، على الأقل قرنين من الزمن ، في اقتتال داخلي مرير، تحوَّلت في نهايتهما الأمة الإسلامية، وفي القلب منها الأمة العربية، إلى شرذمة من الدويلات المذهبية، تناست فيه العدو الأساس، وانحرفت بمفهوم الجهاد إلى الطريق الخطأ.
ما أشبه اليوم بالبارحة.
إن الغرق في تحديد الفرقة الناجية الآن، بناءً على أسانيد الكتب الصفراء، بينما العدو قابع في عقر دارنا، ليس إلاَّ استئناف لتاريخ كان يجب أن نتعلَّم من مساوئه وسلبياته.
إن استعادة الجدال على قاعدة (الفرقة الناجية) و(الفرقة الضالة) تدخلنا في متاهة (قالوا) و(قلنا)، (برهنوا) و(أبطلنا برهانهم)، وهو جدال عقيم، لأن لكل فرقة براهينها من الأحاديث (الصحيحة) أو الأحاديث (المنحولة)، ولديها من الآيات القرآنية الكريمة ما تستطيع أن تؤوله بلباس لا يبدو بعيداً عن الإقناع.
لهذا يبدو أن النظر إلى ما جاء في مقالي من تلك الزاوية، يصب في المكان الخطأ.
إن ما أردت توجيه الأنظار إليه ليس أكثر من تبيان خطورة المشاريع السياسية الدينية، تلك المشاريع التي تريد أن تجر المؤمنين إلى تحقيق أهداف نخب دينية وسياسية واقتصادية بوسائل استغلال المقدس الديني، وهو العامل الأكثر تأثيراً عند عامة المؤمنين، وهو الأكثر استثارة لعواطفهم.
ليست المشاريع السياسية الدينية حكراً على مذهب دون آخر، بل كل المذاهب الإسلامية تتساوى، فعند كل مذهب منها تيار أو أكثر. فكما عند الشيعة من يدينون بـ(ولاية الفقيه) كمشروع سياسي ديني يعمل على تصدير نفسه كحريص على الإسلام، فعند السُنَّة أيضاً أكثر من تيار سياسي ديني يعمل على تصدير نفسه كحريص على الإسلام أيضاً. أما في الوقت ذاته، وبمراجعة موضوعية لنصوص تلك التيارات، نرى أنها تنحو بنا تجاه الاقتتال المذهبي تحت ذريعة أن نصوص كل منها تستند إلى المقدس الديني الإسلامي.
وإذا كان ردنا الموجز لا يتسع لعناوين هذه المسألة الشائكة، فإننا نشير إلى أن هذه الإشكالية قد قمنا بمعالجتها ببحث فكري سياسي تاريخي إيديولوجي استهلك خمسماية صفحة واستند إلى أكثر من ماية وخمسين مرجعاً ومصدراً، نرى أن الإشارة إلى خطورة الغرق بمتاهاتها يكفي، خاصة في الوقت الذي يوغل الاحتلال فينا قتلاً وتشريداً وتمزيقاً باستثارة النعرات المذهبية، كما هو ماثل في العراق.
أعزائي الذين تابعوا مقالتي، الذين قرأوها، والذين أضافوا ردوداً، أشكر لكم ما بذلتم من جهد.
أرجو أن لا نغرق في التفتيش عن الفرقة التي نحسب أنها الأكثر صواباً، فنكون كمن يستعيد تجربة تاريخية كانت من أكثر مراحل التاريخ العربي والإسلامي دموية، وكانت من أكثرها سوداوية، فعلينا أن نفتش عن وسائل التوحيد، وليست وسائل التفرقة والتشتت. كما علينا أن نضع جانباً خلافاتنا الروحية على قاعدة مذهبية، فالإيمان بالروح هو أسمى من كل الأهداف السياسية التي تعمل بعض الفرق اليوم من أجل تحقيقها على مذبح المقدسات.
يتساوى اليوم في العراق، بالنظر إلى الاحتلال، كل التيارات الإسلامية السياسية: أوَ ليس ما يُسمى بـ(المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق)، السائر بركاب المشروع الإيديولوجي الإيراني، شبيهاً بما يُسمى (الحزب الإسلامي العراقي)، المؤيد من بعض تيارات الإخوان المسلمين؟
فكما هناك تيارات وفرق إسلامية من جميع المذاهب تحالفت مع الاحتلال، هناك أيضاً تيارات وفرق إسلامية من جميع المذاهب تحمل سلاح المقاومة من أجل تحرير العراق.
دعونا أيها الأخوة الكرام نستحضر عوامل القوة في أمتنا العربية. نرفض مبدأ الاحتلال وندعو كل من يؤمن به إلى مقاومته، ونسمي هؤلاء (مذهب الرافضين للاحتلال) إلى أي دين أو مذهب انتموا. وندعو الذين يدينون بـ(مذهب المؤيدين للاحتلال) إلى أن يعودوا عن بغيهم ويفيئوا عن رشدهم، وليعلموا أن (الفرقة الناجية من النار) هي تلك التي تدافع عن الثغور، وتعمل على تحرير العراق من الاحتلال الأميركي.
إن التصنيف، القائم على قاعدة الدفاع عن قيمة إلهية وإنسانية عليا، أي حماية الأرض وتحريرها، هو التصنيف الأكثر قرباً في تجديد قيمنا الدينية والإنسانية والتعبير عنها والمحافظة عليها. وهو التصنيف الذي لا يمكن إلاَّ أن يكون جامعاً لطاقات كل مذاهب الأمة وأديانها وأعراقها. وبغير ذلك ستنفتح علينا أبواب جهنم الدنيا التي هي أشد قسوة من نار جهنم الآخرة.
12/ 6/ 2006

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق