بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 22 يناير 2010

مقالات العام 2005 (1)

مقالات العام 2005


فهرست مقالات العام 2005
(1): حوار مع الأستاذ طلعت رميح حول دراسته عن المقاومة العراقية
(2): في ذكرى رحيل جمال عبد الناصر
(3): فضائية للمقاومة العراقية
(4): هرباً من مآزقه جورج بوش يعظ العالم في خطاب إعادة تتويجه.
(5): المقاومة العراقية هي الناخب الشرعي والوحيد
(6): مهما يكن واقع الانتخابات العراقية ونتائجها فهي ترتبط بمخطط مشبوه
(7): ولادة الثورة قبل السلطة يستوجب المحافظة عليها
(8): حسني مبارك «كاسحة ألغام عربية» أمام المشروع الأميركي
(9): مع سميرة رجب حتى يفيء الحاقنون بنار الفتنة عن غيِّهم
(10): بعد استباحة الديموقراطية الأميركية سيادة العراق، الديموقراطية الغربية تستبيح سيادة لبنان
(11): المشروع الأميركي يهرب من مأزقه في العراق إلى الحضن الأوروبي
(12): الرئيس الفرنسي يعود إلى المنطقة العربية على الحصان الخطأ
(13): «نيرون» أميركا يحرق العالم ويتفرَّج عليه
(14): هدية أبطال المقاومة العراقية في ذكرى الاحتلال الثانية: لقد أرديتم برلسكوني صريعاً في المصحة النفسية
(15): ندوة في فندق الكمودور عن المقاومة العراقية في الذكرى الثانية لاحتلال العراق
(16): من لبنان التاريخ إلى العراق تحت الاحتلال: الطائفية السياسية تستحضر عمقها من خارج الوطن
(17): أنا في المعارضة معارض، وفي الموالاة معارض
(18): عوامل القوة والضعف في الاستراتيجية الأميركية باحتلالها العراق
(19): لم تسقط بغداد فقد ارتفعت فوق هاماتنا
(20): وجهات نظر في ورشة حوار ديموقراطي: «كُتَّاب المقاومة العراقية» يتسجالون حول تحديد يوم لانطلاقة المقاومة العراقية
(21): نشر للديموقراطية في العراق أم نشر للصهيونية فيه؟
(22): وسائل الاحتيال الأميركي لتشريع بقاء الاحتلال في العراق: أساليب «الحرباء القانونية» هي سيدة الموقف
(23): صدام حسين كبير رغماً عن أنوفهم: لكن أين الكرامة العربية؟
(24): إبراهيم الجعفري يرتكب جريمة الجرائم في تاريخ العراق
(25): جورج بوش يمثل أمام محكمة دينونة الشعب الأميركي كخطوة للمحاكمة أمام دينونة «المحكمة الجنائية الدولية»
(26): إبراهيم بوش الجعفري أميركي أكثر من طوني بلير
(27): طوني بلير يغطي بركان الجرائم الأميركية بسعف النخيل
(28): رسالة إلى أبي زياد في الذكرى السنوية لاغتياله
(29): علاء اللامي في نقده المنهج السياسي الاستراتيجي للمقاومة العراقية يبدو كأستاذ يصحح كراريس الطلاب على منهج أهل الكهف
(30): يا لعارهم متواطئين في صياغة دستور للعراق وضالعين وساكتين وجهلة
(31): مهمة ميليس إلى أين؟
(32): رد على علاء اللامي لم يكتمل
(33): المقاومة التي تعفو عن رأس أفعى الاحتلال وتكتفي بقطع ذَنَبها
(34): وحدة الموقف القومي المقاوم أرضية صلبة في مواجهة المشروع الأميركي – الصهيوني
(35): المشهد العراقي في تشرين الأول 2005
(36): المشهد العراقي في تشرين الثاني 2005
(37): محكمة «رزكار محمد أمين» تستنسخ «هسام طاهر هسام»
(38): المشهد العراقي في كانون الأول 2005

(1): حوار مع الأستاذ طلعت رميح حول دراسته عن المقاومة العراقية
3/ 1/ 2005م

نشر الأستاذ طلعت رميح في موقع شبكة البصرة، دراسة تحت عنوان «مراحل استراتيجية تحرير العراق» على حلقتين، نشر الأولى بتاريخ 19 كانون الأول/ ديسمبر 2004م.
قرأنا الدراسة بتمعن لمعرفتنا المسبقة بدور الأستاذ رميح بتأييد المقاومة العراقية والدفاع عنها. ونحن نكن له احتراماً وتقديراً. ولأن في الدراسة ما يوجب التوضيح، جاء ردنا هذا في موقع الحوار بين مؤيِّديْن للمقاومة، إذ يجمعنا سقف استراتيجي واحد. وطريقة الحوار للوصول إلى تشخيص أكثر دقة لواقع المقاومة العراقية هو هدفنا من التوضيحات التي سنسوقها فيما يلي:
بداية، لا بدَّ من أن نثبِّت أن المقاومة العراقية كانت تشكل إطاراً استراتيجياً لفكر حزب البعث العربي الاشتراكي عامة، وللبعثيين العراقيين خاصة. وللرئيس صدام حسين بشكل أخص. وهو السبب الذي دفع بنظام الحزب السياسي في العراق –منذ أن أعلن رفضه للتهديدات الأميركية- لإعداد موجبات التصدي للعدوان الأميركي، وموجبات مقاومة الاحتلال إذا حصل. وكان الإعداد يتم –بسنوات كثيرة قبل الاحتلال- على قدم وساق، شاملاً تدريب القيادات العسكرية على فنون قتال العصابات والشوارع مستفيداً من مميزات حرب التحرير الشعبية، كما أنه يشمل تخزين السلاح المناسب لممارسة هكذا استراتيجية. وقد جاءت المقابلة التي نشرتها أكثر وسائل الإعلام –نقلاً عن الرئيس الأسير- أن اجتماعاً للقيادة عُقِد برئاسته –مباشرة بعد التاسع من نيسان من العام 2003م- ليعلنوا فيه الابتداء بممارسة الكفاح الشعبي المسلح حسبما كان مقرراً قبل الاحتلال.
ولأن الاستراتيجية الأم لحرب التحرير الشعبية كانت المفصل الأساسي بين مرحلتين: مواجهة نظامية تكتيكية لها أغراضها، ومواجهة حرب تحرير شعبية طويلة الأمد لها غرض واحد هو طرد الاحتلال.
من كل ذلك نرى أن بدء مرحلة المقاومة الشعبية قد بدأت في وقت مبكر جداً عما حدده الأستاذ رميح: لقد بدأت في العاشر من نيسان/ أبريل من العام 2003م، متبوعة ببيان قيادة المقاومة والتحرير في الثاني والعشرين من الشهر ذاته، متوَّجة برسالة الرئيس صدام حسين في التاسع والعشرين منه. متبوعة كلها بأول بيان لقيادة قطر العراق في العاشر من حزيران/ يونيو، ومتوجَّة بالمنهج السياسي الاستراتيجي في التاسع من أيلول/ سبتمبر محدداً كل الأهداف الاستراتيجية للمقاومة العراقية التي ذكرها الأستاذ طلعت رميح في دراسته.
لقد قمنا باختصار تلك المراحل، التي اقتضت كتابة مئات الصفحات بشكل خاص في كتابيْنا: المقاومة الوطنية العراقية. الأول: معركة الحسم ضد الأمركة. والثاني: الإمبراطورية الأميركية بداية النهاية. واللذان قامت شبكة البصرة بنشرهما، وكذلك موقع المحرر.
وغاية الاختصار توضيح بعض الجوانب والزوايا التي لا نحسب أن الأستاذ رميح كان يريد إغفالها. ولكنه وقع من جراء ذلك الإغفال ببعض النتائج غير الكافية والتي لا تفسِّر مسارات المقاومة العراقية بشكل دقيق. وتتلخَّص تلك الأخطاء بمسارين أساسيين، وهما:
المسار الأول: معركتا الفلوجة.
المسار الثاني: الرؤية الموضوعية لدور هيئة علماء المسلمين في العراق.
بداية، ولكي نكون موضوعيين، لا بدَّ من أن نعترف لأهمية الفلوجة كأهم نماذج المقاومة العراقية على شتى المقاييس. كما أنه لا بدَّ من الاعتراف بأهمية الدور الذي يقوم به العلماء المسلمون في تشكيل حزام سياسي وشعبي مؤيد للمقاومة. ونعلن الاعتذار –بشكل مسبق- لأبطال الفلوجة وللعلماء المسلمين عن أية هفوة –وهي حكماً ستكون غير مقصودة- تنال من عظمة الأولى أو من تقلل من أهمية دور جماعة العلماء وتضحياتهم.
المسار الأول: معركتا الفلوجة
نستنتج من دراسة الأستاذ رميح أن انطلاقة المقاومة بدأت في معركة الفلوجة الأولى، وهذا يعني أن المقاومة العراقية لم تصبح مؤثِّرة إلاَّ ابتداء من الأول من نيسان/ أبريل من العام 2004م. أي أن مسافة السنة الماضية لم تكن ذات بال. وإذا كان الأستاذ قد أرَّخ لإيجابياتها، فإنه قد قام بتجهيل هوية المقاومين الذين قاموا بأودها، طبعاً كان أبطال الفلوجة جزءًا منها. وهنا لم نقف عند مسألة التجهيل في الحلقة الأولى لأن الكلام جاء بصيغة التعميم الموضوعي، ولكن ما فاجأنا أن التجهيل لم يأت من حكم موضوعي بل كان مبيَّتاً (ونعتذر لعبارة التبييت) وهذا ما ظهر عندما انتقل الأستاذ من التعميم إلى التخصيص في القسم الثاني من الدراسة. وهنا أصبح من حقنا –كمتابعين لنشاط المقاومة العراقية- أن نلفت النظر إلى تلك الهفوة.
إن أنموذج المقاومة في الفلوجة هو في القلب. وهو أشد ما أثار غبطتنا، وأكثر ما جعلنا نفخر ونرفع الرأس به، لأنه تجاوز كل تقديراتنا المتفائلة. ولكن هذا الأنموذج كان حلقة أساسية في استراتيجية ولم يكن الاستراتيجية كلها. فالاستراتيجية هي حرب التحرير الشعبية أولاً، وإن أبطال الفلوجة كانوا داخل الخطة العامة ثانياً، فهم تميَّزوا بالتطبيق الخاص بهم من ضمن الاستراتيجية التي انضووا تحت لوائها منذ احتلال العراق.
وكما أن معركة (ديان بيان فو)، في فييتنام، كانت معلماً تاريخياً في الصراع الفييتنامي ضد الاحتلال الأميركي والفرنسي، إلاَّ أنها كانت جزءًا أساسياً من تاريخ المقاومة الفييتنامية. فوضعها الفييتناميون في موقعها اللائق بها في التاريخ من دون أن تسمح باختزال تاريخ المقاومة الفييتنامية بها. وهنا لا يجوز إلاَّ أن نضع أنموذج الفلوجة في موقعها اللائق بها، ولكن علينا أن لا نسمح باختزال تاريخ المقاومة العراقية بها.
المسار الثاني: لن نؤاخذ الأستاذ رميح على النقاط والفواصل التي نراها خاطئة في دراسته. وإنما سنقف عند الهفوة الأساسية، والتي لا نحسب أن الأستاذ قد قصدها، ولكن مظاهر النص قد أوحت بها. ومظاهر الإيحاء تتركز حول التصوير وكأن قيادة المقاومة، إعداداً استراتيجياً ولوجستياً، كانت معقودة اللواء لهيئة علماء المسلمين، والتي توحي بأنه لولا دورهم لما استعاد الشعب العراقي حيويته وقواه المعنوية. وهو يصور ذلك، بإشارة سريعة حول تعرض العلماء لملاحقات أو مضايقات في خلال عهد نظام حزب البعث. وكأنه يريد أن يقول بأن من يقاوم هم من تعرضوا للظلم والملاحقة.
وهنا، نرى أنفسنا ملزمين بأن نلقي ضوءًا حول العلاقة التي كانت تربط بين نظام الحزب من جهة والحركات والقوى الدينية من جهة أخرى.
كان المقياس لعلاقة حزب البعث، بقيادة الرئيس صدام حسين، مع التيارات الدينية والمذهبية هو مدى قرب مواقف تلك الحركات أو بعدها عن المقاييس الوطنية والقومية. فارتباط العراقي بمذهبه أو دينه خيار شخصي لا تعني سياسة الدولة أو فكر الحزب من قريب أو بعيد. فلكل خياراته الروحية الخاصة به. وعلى الدولة أو الحزب أن يحترم تلك الخيارات. أما ما كان خاضعاً للمحاسبة والمساءلة هو ولاء العراقي لدينه أو لمذهبه على حساب ولائه لوطنه. وعلى مقاييس تلك القاعدة أعلن الحزب بشكل علني ومكشوف أنه لا مكان لعراقي يختار الولاء السياسي لمذهبه أو دينه على حساب الولاء للعراق، بما يعني واجبه في حمايته والدفاع عنه وتحريره من الاحتلال. وقد تساوت بعض الحركات الدينية السياسية، من السنة والشيعة، في الانحياز إلى الدين أو المذهب على حساب الولاء للعراق. وهؤلاء هم –وحدهم- الذين تعرَّضوا لملاحقة السلطة. وهؤلاء هم أنفسهم، من الحركات السياسية الدينية، السنية والشيعية، قد وقعوا في مستنقع الخيانة؟
أما هيئة علماء المسلمين، يا أستاذي، (ويبلغ عددهم 2000 كما جاء في دراستك)، وهم يرشدون في (6000 جامع كما جاء في الدراسة ذاتها)، فلم يكونوا هدفاً لسلطة الحزب والدولة. والدليل على ذلك أنهم –مع المساجد التي يرشدون فيها- كانوا في داخل العراق وليس في خارجه. وكانوا ينشطون في العراق وليس في خارجه. ولم يكن أيٌّ منهم معتقلاً أو ملاحقاً. أما من كان صاحب مشروع سياسي، أي يريد أن يفصِّل النظام السياسي في العراق على مقاييس مذهبه دون النظر إلى مصلحة تعددية المذاهب والأديان في العراق، فهو وحده الذي كان يتعرَّض للمساءلة. وهل يجوز غير ذلك؟ أم أنه من الجائز أن يغني كل صاحب مذهب على إيقاع مذهبه؟ ولا شك فأنت أدرى بما ستؤول إليه حال العراق إذا فصَّله حزب البعث على مقاييس المذاهب والأديان. وهل هناك ما يؤرقنا اليوم أكثر من مخطط الاحتلال في تقسيم العراق إلى فيدراليات تناسب مصالح الطوائف؟
أما عن بيت القصيد، أي الإيحاء بأن هيئة علماء المسلمين وكأنها القائد الفعلي والمؤسس للمقاومة، فنقول:
إن في دور الهيئة ما يثلج قلوبنا، وهو الشمعة المضيئة في ليل مواقف الأنظمة الإسلامية، والحركات الإسلامية العميلة للاحتلال، والمرجعيات الدينية التي تستجيب لإرادة السلاطين في الفتوى والتوجيه. إننا نثمِّن الدور الريادي الذي تقوم به هيئة علماء المسلمين في العراق، ونحن لن ننسى التضحيات التي يقدمونها من دمهم وحريتهم وحياتهم، وهناك أشياء كثيرة مما يقومون بتقديمه. وإذا كان لا يحق لنا بأن ننكر عليهم ما يقدمونه من تضحيات فحسب، بل أن نعترف لهم بالفضل أيضاً، لكن لا يجوز –في الوقت ذاته- أن نوحي بأنهم قادة المقاومة الوحيدين.
إنطلقت المقاومة –بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي- ولم تتأخر هيئة علماء المسلمين في العراق -كما بعض الحركات الإسلامية- من الالتحاق بها. وهذا أمر لا يستطيع أحد أن يتنكر له إلاَّ من باب التعصب والذاتية.
على كل حال، كان ما كتبناه هو آخر ما كان يمكن أن نوليه اهتماماً حرصاً على العطاءات الكبرى التي يقدمها العراق، تحت قيادة مقاومته الباسلة. وحرصاً منا على أن لا نخدش شعور أي مقاوم كان مهما كانت هويته الدينية والمذهبية والعرقية والسياسية والإيديولوجية. لكننا على يقين من أن كل هؤلاء في القلب والمهجة وحدقة العين. وليعذروننا على ما جاء في حوارنا مع من نحب ونحرص عليه كحرصه على المقاومة العراقية.

رد من طلعت رميح على حسن غريب
تفضل اخى الاستاذ حسن خليل غريب بالاهتمام بدراستى المنشورة على موقع مفكرة الاسلام ،حول استراتيجية المقاومة العراقية كما ارصدها واراها من بعيد بطبيعة الحال. وكان حوار الاخ غريب معى عبر شبكة البصرة -المقاومة - هو حوار متميز يصلح ان يكون نموذجا للحوار بين اصحاب الطريق الواحد والهدف الواحد ولا اقول الهدف المشترك او الطريق المشترك.
وبدا لى من خلال ما تفضل به اخى من تعليق ان الامر بحاجة الى مزيد من التوضيح، اجمله فى هذه الملاحظات :
1- اننى والحمد لله ،وفى الوقت الذى كان ينوح فيه النائحون ،ويرتبك فيه المحبون والمخلصون للامة ،وتصل فيه المؤامرة ذروتها بسقوط بغداد –كما سمى لحظتها –خرجت اخى الكريم لاكتب واوزع على نطاق واسع فى نفس اللحظة ،يوم 9 سبتمبر، ان بغداد احتلت ولم تسقط ،وانى ارى المقاومة الان تبدأ وعلى الفور ،كما انى تصديت لهيكل حين تحدث عن قصة لقاء الرئيس صدام مع مندوب العراق فى الامم المتحدة الاسبق وكان مفاده ان الرئيس صدام حسين لم يرتب للمقاومة ، ،وكتبت ردا عليه بان المقاومة العراقية لم تحدث عفويا وانما هى مقاومة مخططة ومنذ وقت طويل .
بقى هنا ان نشير اننى لم اتحدث فى الدراسة عن موعد اشتعال المقاومة لان ذلك امر معروف ،ولعل تحديدى لاستراتيجية للمقاومة وتكتيكاتها فيه الكفاية للادراك اننى ارى ان المقاومة منظمة ومن قبل .اقول ذلك توضيحا لما جاء فى ملاحظتك بان المقاومة بدات فى وقت مبكر عن ما حددته انا فى الدراسة.
2- الامر الثانى اخى الكريم اننى لم اعتبر معركة الفلوجة الاولى هى بداية المقاومة لكنى توقفت عندها فى الدراسة لانها معركة متكاملة خلال المرحلة الاولى -من مراحل الاستراتيجية الشاملة لتحرير العراق - يمكن من خلال رصد تكتيكات المقاومة واستراتيجيتها فى خوضها اعطاء دلالات واضحة لما اقصده بمميزات وطبيعة العمل المقاوم واستراتيجيته وتكتيكاته فى تلك المرحلة .
3- هنا ناتى الى الملاحظة التى اشار اليها اخى الاستاذ حسن ،الا وهى اننى جهلت فصائل المقاومة ولم احدد هوية المقاومين فى الفلوجة ولما انتقلت للتخصيص فى الجزء الثانى اشدت بدور هيئة علماء المسلمين .وهنا يبدو لى ان الامر يحتاج الى بعض التوضيح من عدة جوانب :
أ : اننى ظللت ايضا فى الجزء الثانى اتحدث عن المقاومة دون الاشارة الى اى فصيل ،وهو امر لم يات عفو الخاطر ،بل انى قصدته تماما ،حيث اننى ارصد ملامحا عامة وكذلك لاننى اخاف من التشديد على تقريظ قدرة طرف وانس الاخر ، وكذلك لاننى فضلت عدم الدخول على فكرة هوية هذا الطرف او ذاك ،بما يطيل الدراسة وربما يخل ببنائها العام ،وينحرف بها الى تفاصيل قد تتيه القارئ عن الافكار الجوهرية .
ب : اننى اخى الفاضل عندما تعرضت الى هيئة علماء المسلمين ودورها ،لم اتعرض لها كقيادة للمقاومة ولم اشير الى ذلك لا صراحة ولا تلميحا –كما تصورت ذلك واشرت اليه فى تعليقك الكريم -بل اشرت اليها باعتبارها واجهة سياسية علنية تدافع عن الخط المقاوم، واشرت الى واقع تصديها للاعلان عن موقف رافض للانتخابات ، واوضحت كيف ان تصديها العلنى لرفض الانتخابات كان عاملا مفصليا فى ارباك خطة الاحتلال وفى وضعه فى مواجهة مع حلفائه ،ولا يعنى ذلك ايضا .
ج : ولا ارى فى ذلك ما يضير احد ،او يقلل من عطاء احد ، خاصة وان الجميع يعرف حدود دور الهيئة ومحدداته ،واعتقد اخى الكريم ان من الواجب من جانبى يقتضى رصد تحرك هؤلاء الاخوة القابضين على الجمر وايضاح دورهم الذى تفضلت بالاشارة اليه انت ايضا.
ح : يبدو لى ان ما اثار هذه الملاحظة من طرفك هو حديثى عن ان الهيئة لم تكن موجودة من قبل ،او ان الحركة الاسلامية فى وسط العراق لم يكن لها تمثبل سياسى بينما الشيعة المذهبيين والاكراد اتاحت لهم ظروف الحصار الجوى تشكيل هيئات ومنظمات لهم ،فلما اشدت بالهيئة فقد تصور اخى اننى احاول الاشارة الى ان من يقاومون الان هم من تعرضوا للاضطهاد – كما اشار بوضوح الى ذلك -وذلك امر لا يخطر ببالى استنتاجه ،خاصة واننى اخى صاحب المقولة فى يوم قرار حل الجيش العراقى وحزب البعث ،ان قوات الاحتلال حاولت ضرب اهم قوتين فى المقاومة القادمة بضربة استباقية ،لكنها بذلك قصرت الطريق على تلك القوتين للانتقال فورا وبزخم اعلى الى المقاومة ،وهذا ما ينقلنى الى الامر الثلث فى الملاحظات .
3- والملاحظة الثالثة اخى اننى شددت على ان جوهر النجاح للمقاومة فى المرحلة الثانية الراهنة من مراحل استراتيجية تحرير العراق ،يتوقف على قدرتها على توحيد صفوفها وتوسيع مجالات تعاونها لكى تتمكن من تاسيس اشكال اوسع من التنظيم السياسى والجماهيرى والعسكرى والدعائى .
وهنا اخى يبدو لى ان الشرط الاول لنجاح ذلك هو ان يكون هناك حوار جدى واستفادة من التجربة التاريخية لحزب البعث فى الحكم ،وبشكل خاص فى مجال الاهتمام بالتنظيمات والتجمعات الشعبية الاخرى .
وانى اشدد اخى الكريم على ان الاهتمام فى المرحلة السابقة من الحكم بالتنظيمات ذات الطابع الشعبى الاسلامى لم يكن على المستوى المطلوب لمواجهة التحديات ،وان الحركة الاسلامية لم تحصل على شرعية عملها فى العراق ،واذا كنت انا ، قد اشرت فى دراستى الى عدد علماء الهيئة ودورها وامتداد مساحة سيطرتها على المساجد ،فذلك شىء واعطاء الهيئة دور سياسيى خلال مرحلة ما قبل الاحتلال ،باعتبار ان الدين ليس منبت الصلة بالحياة بكافة مجالاتها شىء اخر .
وفى كل الاحوال فان الحوار الاساسى هو حول استراتيجية المقاومة العراقية ،التى انحنى لها اجلالا وتقديرا واكرر فى هذه المناسبة ما قلته وسمعه وشاهده الناس على قناة الجزيرة، من انه شرف لمثقف مثلى ان يقبل حذاء مقاوم ومجاهد عراقى .
ولك وللاخوة فى موقع البصرة كل الاحترام والتقدير
طلعت رميح السبت 27 ذي القعدة 1425 / 8 كانون الثاني 2005
***

(2): في ذكرى رحيل جمال عبد الناصر
في الليلة الظلماء يُفتقد البدر. ونحن نفتقد جمال عبد الناصر في مثل المواقف الصعبة التي تمر بها أمتنا العربية. ومن أصعبها –في هذه المرحلة- قضيتيْ العراق وفلسطين.
نفتقد الزعيم الراحل من زاويتين: الأولى لنرى منها شدة التآمر على الأمة العربية بمساعدة من المحسوبين عليها، أنظمة وحركات. والثانية لنرى منها أن وضع الثوريين في الأمة بألف خير.
بداية نلفت نظر المتآمرين، وبعض المضلَّلين، لنقول لهم –رداً على النعي الذي أعلنوه بحق الفكر القومي- إن الحركة العربية الثورية المنضوية تحت لواء الفكر القومي العربي تسير على طريقها الطبيعي –والطليعي- وتشكل –الآن وفي أحلك الظروف- التحدي الأكبر في مواجهة كل المؤامرات وكل مشاريع الهيمنة على الأمة ومقدراتها.
ففي فلسطين، أيها الراحل الكبير، تنتعش آمال المحرِّرين يوماً أكثر من أي يوم مضى. ولن يخدعنا حجم التآمر وكثرة المتآمرين. فقوة الرفض الشعبي، وقوة المقاومة وإرادتها تزداد يوماً فيوماً. والعدو الصهيوني يزداد توتراً وعصبية فهو لم يستطع أن يحتوي أو أن يجهض حالة الرفض الفلسطيني. وآماله وأحلامه ومخططاته أمست من دون أفق منظور. فهو وإن كان يقاتل فصائل منظمة التحرير، وهي خارج أرض فلسطين، فها هي أصبحت في عقر احتلاله، ولم تدعه، منذ أول يوم انطلقت فيه انتفاضة "أطفال الحجارة" يسترخي ليرتاح. ولم تشكل له كل الاتفاقات التي وقعتها الإدارات الرسمية (كمب ديفيد، وأوسلو، ووادي عربة) أية حصانة أو حماية.
وفي العراق، خدعت نتائج الحرب النظامية أبصار "إدارة الشر الأميركية"، ولم تدع المقاومة العراقية، بقيادة صدام حسين، لها أي فسحة من الأمل تدوم لأكثر من أيام. إذ كانت الحرب الحقيقية التي أعدَّ لها حزب البعث تحت قيادة الرئيس الأسير صدام حسين، مما لا تستطيع القوات النظامية أن تواجهها أو تحتويها أو تجهضها.
أيها الراحل الكبير، نقف في ذكرى ميلادك لنتساءل: كيف يا ترى نقوم بتفسير تلك الجوانب النضالية المضيئة على ضوء أوراق النعي التي وزعتها أكثر من جهة –نادبة الفكر القومي العربي والحلم القومي- ومعتبرة حركة الثورة العربية حلماً عاش لفترة وانتهى؟
من المنطلقات المغلوطة التي يقع فيها الكثيرون أن الفكر القومي، والحركات الفكرية القومية، كما الأنظمة التقدمية (المصطلح الذي كان سائداً حتى أوائل السبعينيات من القرن العشرين) هي القاعدة، بينما الحركات والأنظمة العربية الأخرى كانت الاستثناء. فلما مُنيت الأنظمة التقدمية بعدد من التراجعات نتيجة حدة التآمر ضدها وكثرة المتآمرين من الخارج والداخل، قامت أكثر الأوساط الرسمية، وأكثر الحركات الأممية –ماركسية وإسلامية- بإعلان موت الفكر القومي العربي.
ونرى أنه من المهم أن نصحح تلك النظرية فنقول:
إن النظام العربي الرسمي، هو نظام نخبوي، وهو القاعدة وليس الاستثناء. بينما الأنظمة التي نادت بالفكر القومي، وعملت على هديه، هي الاستثناء في حياة الأمة. أما كيف نبرر تلك الرؤية تاريخياً؟
في الفسحة التاريخية القصيرة، التي فصلت بين الانتقال من النظام الرسمس العثماني إلى النظام العربي الرسمي الذي صاغته استراتيجية سايكس – بيكو، لم تدع النظام الاستعماري الحديث يقع فريسة الارتباك في كيفية تشكيل أنظمة قطرية، لأن موادها كانت جاهزة ومستعدة لتغيير البندقية من كتف إلى آخر، ولم يكن رائدها ومرشدها أكثر من تأمين مصالحها الطبقية. فكانت النخب العائلية والعشائرية والاقطاعية، التي كانت حاكمة في ظل النظام التركي، جاهزة لتشكيل سلطات قطرية حسب مكاييل الدول الاستعمارية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى. وهكذا انعقد التحالف النخبوي العربي والانتدابين البريطاني والفرنسي. فتأسس النظام الرسمي القطري على امتداد الساحة العربية.
على مقاييس التلاقي بين مصالح النخبويين العرب والنظام الاستعماري الحديث سارت شؤون النظام العربي الرسمي ميسورة ومن دون عراقيل، وكانت تمتثل لمخطط سايكس - بيكو من دون مقاومة أو اعتراض.
وعلى خلاف المألوف الذي ارتاده التحالف المذكور، كانت الحركة الفكرية القومية العربية تشق طريقها، وتطمح إلى المزيد من التعميق والتخطيط للانتقال من النظرية الفكرية إلى تطبيقها في حركة نضالية سياسية. ولم يُسدل الستار على مؤامرة تقسيم فلسطين، بعد أن احتلتها الصهيونية العالمية بتواطؤ اشتركت فيه قوى الاستعمار التقليدي والجديد مع سلطات النظام العربي الرسمي، إلاَّ وبرزت إلى الساحة القومية العربية قوتان اخترقتا جدار التقليد السياسي والفكري كما جدار الأنظمة. وهاتان الحركتان هما: حزب البعث العربي الاشتراكي والحركة الناصرية.
منذ تلك النقلة، على صعيد الفكر والنضال، خاصة عندما التقت الحركتان على صعيد الانتقال بالفكر القومي العربي إلى حيز التنفيذ، وكانت الوحدة السورية المصرية أكثرها استثارة لمخاوف التحالف المذكور ، فتكاثرت المؤامرات ضدهما وتسارعت من أجل حماية جدران النظام العربي الرسمي من الانهيار.
وبمثل هذا التفسير التاريخي نذكِّر بأن الحركة القومية العربية كانت استثناء في حياة الأمة وليس العكس. وإن كل مظاهر تراجعاتها الظاهرية إذا قمنا بقرائتها قراءة عميقة، لا تعني –على الإطلاق- موت تلك الظاهرة. وإنما من الموضوعية أن نصفها بأنها تراجعات مؤقتة على صعيد الموقع السلطوي، وهي شكَّلت فرصة وامتحاناً للقوتين –البعثية والناصرية- لمراجعات جادة. وسنرى الأثر الإيجابي لتلك المراجعات على صعيد مواكبتهما لقضيتيْ فلسطين والعراق.
إذا كانت هذه الرؤية تقتضي منا المزيد من تسليط الأضواء عليها، فإنما الكتابة عنها الآن بإيجاز لأنها أتت في معرض إحياء ذكرى الراحل الكبير جمال عبد الناصر من خلال تكريمه، واستذكاره- بمناسبة عيد ميلاده.
فكل عام وأمتك، التي انتصرت لها بفكرك ونضالك، بخير.
وكل ميلاد وأمتك تسلك طريق النضال أيها الراحل الكبير. ونحن لا ننسى، بمناسبة راحل كبير من رجالات أمتنا العظماء، صدام حسين أمير الأسرى في سجون الاحتلال الأميركي في العراق.
فمن جمال عبد الناصر إلى صدام حسين مسافة كانت –ولا تزال- مليئة بالنضال والتضحية والصراع مع العدو الأميركي بالذات، راعي العدو الصهيوني، الذي خطط –منذ الخمسينيات من القرن الماضي- من أجل القضاء عليهما. وهو مستمر ولكنه لن يفلح.
***

(3): فضائية للمقاومة العراقية
في 21/ 1/ 2005م
عندما قرَّر الإمبراطور الأميركي أن يغزو العراق ويحتله أتَّخذ جملة من الأجراءات والأوامر والتعليمات والفرمانات يأمر فيها كل من لاذ بحماية مشروعه الاستعماري والإمبراطوري أن يحفظوا في جعبهم وأدراجهم ومخططات عملهم أولويات يطيعونها وينفذوها. وتلك التعليمات ذات علاقة بالخطة الإعلامية الاستراتيجية المرفقة بالإعداد للعدوان على العراق واحتلاله.
انبرت تلك الأوساط، وهي كثيرة جداً، إلى تنفيذ تعليمات الامبراطور. وقلما كان المتابع للعدوان على العراق يجد وسيلة إعلامية –صغيرة أو كبيرة- تخرج عن تعليمات الإمبراطور.
أما تلك التي كانت تريد –ظاهرياً- أن تقف إلى جانب حق العراق فكانت تنصح قيادته بالاستسلام. وتبيَّن أن مهمتها كانت مرسومة ومخططة ومأمور بها. أما الغاية فهي توفير الخسائر على جيوش الإمبراطور.
كانت كتلة المؤسسات والأفراد، من إمبراطوريات إعلامية عربية وإسلامية، مقرؤة أو مسموعة، تنتشر على طول مساحة الإعلام العربي والإسلامي. بعضها رسمي وبعضها ذات هوى إيديولوجي والآخر منها ملك خاص لأباطرة إعلاميين عرب يصفون أنفسهم بالديموقراطيين.
إلى جانب هذه أو تلك من المؤسسات، اتَّخذ الامبراطور الأميركي خطة رديفة يعمل فيها على أساس تجفيف كل الموارد الممكن أن تساعد العراق على تأسيس أية منظومة إعلامية تروِّج لوجهة نظر الحركات الوطنية أو القومية، ومن أهمها حزب البعث العربي الاشتراكي، أو تدافع عن الحقوق الوطنية أو القومية للعراق.
ومع كل تلك الإجراءات من الحصار الإعلامي التي أحكمت إغلاق نوافذها خطة الإمبراطور الأميركي فبدا للعيان وكأن مخطط العدوان على العراق واحتلاله قد نال علامة النجاح بامتياز، خرجت عن كل الحسابات المألوفة خطة المقاومة العراقية، فأسست لأكبر فضائية إعلامية غطَّت الكرة الأرضية بأكملها فدخلت كل البيوت وأسمعت صوتها لكل الآذان، فأقنعت العالم الحر –من أقصاه إلى أقصاه- بأن فضائية المقاومة العراقية هي فضائية العالم الحر بامتياز.
وهنا كيف تجاوزت المقاومة العراقية كل تلك الحواجز التي نصبتها خطة إمبراطورية الشر الأميركية لمنع صوت العراق الحر من النفاذ إلى آذان الكون بأسره، وفشل في التعتيم على كل ما يجري في العراق؟
كثيرة هي المؤسسات الإعلامية التي ساندت كل ثورات العالم. وكثيرة هي القوى التي شاركت كل ثورات العالم وتحملت معها شتى أنواع الأعباء العسكرية والسياسية والإعلامية. لكن قليلة وأقل من قليلة تلك التي وقفت إلى جانب العراق وثورته. وخيِّل للإمبراطور الأميركي أنه ناجح لا محالة في معركة الإعلام، وهو سيكسب المعركة العسكرية من خلال كسبه للمعركة الإعلامية والعسكرية، إلى أن فاجأته فضائية للمقاومة العراقية راحت ليس لتكشف الزيف والتضليل والكذب والخداع عن ادِّعاءاته فحسب وإنما لتفرض نفسها على كل المؤسسات التي جنَّدها الإمبراطور الأميركي لتغطية أضاليله أيضاً.
أما فضائية المقاومة العراقية فقد كانت ذات رأسمال كبير وضخم لن تقدر كل وسائل العدو الأميركي وقواه على تجفيف مواردها لأنها ليست مظاهر لقوى مادية، بل لأنها ذات أصول روحية لن تستطيع قوى الرأسمال المادي أن تكشف مصادرها ومنابعها.
مورد واحد للمقاومة توظفه لتأسيس فضائيتها. فهي لم تعتمد –منذ رفضت قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق تهديد الإمبراطور الأميركي ووعيده- على إمكانيات تكنولوجية متقدمة بل راهنت على المخزون الرئيسي والأساسي الذي يمتلكه المؤمنون بحقهم في العيش بكرامة في وطن.
فالمورد الوحيد هو الشعور بالكرامة الوطنية والإنسانية أولاً، والإرادة في الدفاع عنها. وهذا مورد لم يخضع لأية مادة أولية مما يستخدمه عبيد الرأسمال في صناعاتهم المادية. وإنما مادته الأولية تجري في عروق الإنسان الذي يدافع عن وجوده وكرامته وحريته. ولأن تلك المادة الأولية تجري في أوردة العراقيين وشرايينهم فقد تحولت إلى إرادة في الشهادة، فكانت إرادة الشهداء في الموت من أجل قضيتهم تشكل المورد الأساس في تمويل فضائية المقاومة العراقية.
وهكذا فلن تستطيع إرادة الشر الأميركية، بمساندة ومؤزارة كل مؤسسات الإعلام الذي ينتسب إلى الهوية العربية، أن يخمدوا جذوة الثورة في نفوس العراقيين –على شتى انتماءاتهم وأطيافهم ومن يشاركهم من العرب- وستبقى دماء من استشهد، أو من ينتظر، مورداً لن ينضب لتمويل (فضائية المقاومة العراقية). وستبقى الحقائق التي تستند إليها تلك الفضائية مصدراً أساسياً يفرض نفسه بقوة على كل إدارة الشر الأميركية والبريطانية ومن لفَّ لفُّهما من حلفاء دوليين أو مسلمين أو عرب. وستبقى الكف الأقوى الذي يصفع وجوه المـتأمركين من مؤسسات إعلامية على شتى صنوفها وألوانها ومشاربها. فتحية من أعماقنا إلى (فضائية المقاومة العراقية).
***
(4): هرباً من مآزقه جورج بوش يعظ العالم في خطاب إعادة تتويجه.
في 22/ 1/ 2004م
عندما نظرت إلى جورج بوش وهو يخاطب الأميركيين والعالم، بمناسبة إعادة تتويجه، تذكرت صورته –في الأول من أيار من العام 2003م- وهو يعلن انتصاره في العراق.
كان حينذاك يظهر بصورة المنتصر الفعلي لأنه شُبِّه له أن الجيش الأميركي قد انتصر بعد دخوله بغداد. أما صورته في يوم إعادة تتويجه فأبرزته كممثل ماهر يخفي مظهره صورته الحقيقة التي هو عليها فعلاً لأنه يذوق الأمرّين في بغداد كما في كل مدن العراق.
حاله الحقيقية هو أنه أكثر من مأزوم ومنهزم ومنزلق في كثير من المآزق. وإذا كانت صورته الظاهرية تدل على خفاياه الحقيقية فإن ابتسامته العريضة التي ظهر بها ليست إلاَّ للتضليل والتزييف. فإذا كان التضليل ينطلي عليه فهو لم ينطل على الأعداد المليونية من شعبه الأميركي.
أما لماذا ظهر «جورج الصغير» على تلك الحالة؟
وعندما نحاول تفسير الأسباب، نجزم بأننا لا نزيد عليها أكثر مما أراد المخرجون أن تكون عليه صورة «إمبراطور أميركا» في يوم «إعادة تتويجه». وإذا كانت أمه «بربارة بوش»، التي جاءت لتشهد حفل تتويجه، قد صرَّحت بدون خجل –منذ أكثر من عام- أنها ترفض تشويه صباحها الجميل بسماع أخبار جثث الجنود الأميركيين، فلا شك بأنها هي التي أمرت المخرجين الذين درسوا كل تفاصيل ظهوره أمام الشعب الأميركي، بأن تظهر على وجهه علامات السعادة والحبور وكل ما يتطلبه الغرور من تفاصيل، فظهرت بناء لتعليمات المخرجين كما ظهرت أمام العالم على شاكلته التي ظهر عليها.
لم يستطع آباء الجنود القتلى وأمهاتهم إلا أن ينغصوا عليه، وعلى أمه، حفلة تتويجه الجميل، فتجمعوا في المكان المخصص لقسم اليمين، لكي لا يمر يومه الجميل جميلاً. بل أن يشم –على الأقل- ما نقله له رجال مخابراته من أن هناك من أتى ليبكي ولده القتيل في العراق، وجاءك من ينتظر جثة ابنه التي ستعود إليه من العراق. لم يتركوه يهنأ، ولم يتركوا أمه «بربارة» تهنأ أيضاَ. لقد رفعوا اللافتات التي تدل على أن رئيسهم هو أكبر الطغاة في العالم على الإطلاق.
أيها الامبراطور الممثل، المثقل بهزائمك، لن تخدعنا كل وسائل الإخراج المسرحي في أن نراك على عكس الصورة التي أعدُّوك للظهور عليها. لقد قرأك العارفون بحقيقة وضعك التعيس. لقد قرأوا كل تقاسيم وجهك. وقرأوك في خطابك. فماذا قرأ العارفون في ذلك الخطاب؟
لم تشمل القراءة ما سمعوه فحسب، وإنما قرأوا ما لم تقله أيضاً.
ما لم يسمعه العارفون في خطابك، هو أنك لم تُشر إلى المآزق بأية كلمة. فأين أفغانستان وحلمك (الكارازاي) فيه؟ أين بن لاذن؟ وأين القاعدة؟ وأين 11 سبتمبر؟
أين العراق والمقاومة العراقية؟ أين أخبار جثث جنودك ممن أرسلتهم إلى الموت بسابق تصور وتصميم؟ أين جثثث جنود حلفائك؟ أين حلمك في «علاوي» العراق؟ وأين حلمك من كل الخونة الذين وعدوك بأن يتوجوك إمبراطوراً على وطنهم، وفي وطنهم؟ فلا أصبحت أنت أنطونيوس ولا استطاع أن يكون الخونة «كليوبترا»؟
لماذا أيها الامبراطور المتوِّج على جماجم ضحاياك في أفغانستان والعراق وفلسطين، وجماجم جنودك، لم تلفتك أكثر القضايا إرهاقاً لك، ولأمك التي تخاف على مناصبك من الضياع، فلم ترشقهم بكلمة من مثل كلماتك النارية المليئة بالتهديد والوعيد؟
هل أكلت تلك القضايا التي أدمت أنفك وأنف وزير دفاعك من لسانك شيئاً؟
هل أُصبت بالحساسية من غبار صحراء العراق، وهل أصابك طلع نخيله بالحساسية؟
هل امتنعت عن ذكرها في خطابك تضليلاً وحرفاً لاتجاهات التفكير بالمآزق التي أقضت مضجعك؟ ولكي لا تشوه يوم تتويجك الجميل؟
أيها الامبراطور الذي يريد أن يبني عرشه على جماجمنا؟ لماذا تهرب إلى الأمام؟
لن ندعك تنام على وسادة وثيرة، لأن جماجمنا ستنتقم منك، ولن توفرك. لن ندعك تحلم بأن يكون جنودك هم هدف مرمانا الوحيد، بل أنت وكل عصابتك، هم هدف أساسي لذلك المرمى.
لن تسلم حتى ولو حولتنا إلى جماجم، لن تسلم إذا غزوت الفلوجة وقتلت أطفالها لأنهم مشروع ثوار سيأخذون الثأر لآبائهم الشهداء. ولن تموت جماجم الماجدات في الفلوجة عندما قتلتهن خوفاً من أنهن سيحملن بثوار جدد. فجماجم ماجدات الفلوجة سيحملن أيضاً، وسيحملن بتواصل لكي تستطيع يد –في يوم ما – من الوصول إليك وإلى عصابتك.
لأنها ستحمل وستلد وستنتقم، وسوف يحترق قلب «بربارة بوش» وعينيها وأذنيها، وسوف ترغم جماجم ماجدات العراق اللواتي سحلهن «جورج الصغير» تحت جنازير دباباته، وقوة عصف صواريخه. فلقد قال الله تعالى «وبشر القاتل بالقتل ولو بعد حين».
أما أيها الإمبراطور الطاووس، فلن تخدعنا بسمتك ولا استرخاؤك ولا تكاليف تتويجك الباهظة التي سرقتها من فم الجائعين من الأميركيين. لن تخدعنا لأنك أحرقت روما العالم ورحت تتفرج عليها بابتهاج. ولن يخدعنا ما قرأناه في خطابك.
لقد ظهرت في خطابك واعظاً مرشداً وكأنك خارج من محراب كنسي، أو محراب جامع. ورحت تلقي مواعظك عن الديموقراطية في العالم والطغاة في العالم، وكأنك رسول أتى ليقتلع الطغيان.
أيها المبشر الممثل، لن تخدعنا عباءة تبشيرك، ولن تخدعنا سبحة الثعلب، ف«غبي من يصدق أن للثعلب دينا».
رحت تسترسل بمواعظك التي تلقيها على البشرية وتهدد الطغاة. ونسيت الشعارات التي رفعها آباء الجنود الأميركيين المقتولين وأمهاتهم وقد سجلوا فيها على مسافة قريبة من مكان تتويجك «جورج بوش هو أكبر الطغاة في العالم». لقد نسيت ما قالته والدة الجندي الأميركي/ وحش سجن أبو غريب عندما وجهت تهمة التعذيب إليك وإلى وزير دفاعك. واعتبرت ابنها ضحية قراراتك وتعاليمك.
أيها الثعلب الذي ظهر بثياب الواعظ. أيها الثعلب الذي حمل السبحة ليبشر بالقضاء على الشر، ويبشر بالسلام والمحبة، ويدعو دول العالم لمساعدته في مهمة قذرة. لم تكن عظتك ذات غرض أكثر من أن تخدع الديكة ليصدقوك ويقعوا فريسة لك.
لقد كان وعظك خدعة لم تمر إلاَّ على السذج والأغبياء. وهي لن تخدع أحداً. فأنت مخادع مأفون. وقد عرفك مواطنوك قبل أن يعرفك الآخرون. فما عليك إلاَّ أن تكفر عن ذنوبك وأن تكشف اللثام عن وجهك القبيح. فهل أتيت بثياب الواعظ لكي تجمل وجهك القبيح. التي لا تراه أمك وحدها إلاَّ جميلاً؟
لم يصدق أحد ما جاء في عظتك، لأنهم تأكدوا بأنك كاذب مخاتل جبان. وأنت تظهر لهم اليوم ما أظهرت عكسه في أيار من العام 2003م. فشعبك كشف الغطاء المزيف الذي ترتديه، وحلفاؤك كشفوا الغطاء عن نواياك الخبيثة، ونحن نعرفك حتى قبل أن تعتدي على العراق وتحتله. فاخلع ثوبك المزيف لنراك على حقيقتك ولكي نقول –لمرة واحدة- أنك صادق.
***

(5): المقاومة العراقية هي الناخب الشرعي والوحيد
23/ 1/ 2004م

«كل ما قام على قاعدة غير شرعية فهو غير شرعي» والعكس هو الصحيح. وتلك قاعدة لا بد من الإشارة إليها في معالجة موضوع العلاقة بين الانتخابات والمقاومة في العراق.
بين الانتخابات في العراق والمقاومة مسافة الشرعية أو اللاشرعية. وحتى لا نضيع عن جادة الطريق الصحيح، أو نضيع في متاهات الحوار بين تفضيل الديموقراطية ورفض الديكتاتورية فنلبس الانتخابات في العراق، التي يروِّج لها جورج بوش وأزلامه ومأجوروه، سروال الديموقراطية وقميصها، نعيد التأكيد على أن الاحتلال هو غير شرعي بكل المقاييس، وهذه مسألة لا يختلف عليها إثنان، فتكون –قياساً على ذلك المبدأ- إفرازات الاحتلال –بمن فيها الأدوات العراقية- لا تمثل الشعب العراقي شرعاً وقانوناً وأخلاقاً، والانتخابات التي ينظمها الاحتلال الأميركي في العراق –تحت قبعة «العم سام»- انتخابات غير شرعية بكل المقاييس أيضاً.
بين شرعية المقاومة ولا شرعية الاحتلال تحاول شتى أبواق الدعاية والإعلام الأميركية، أو المتأمركة- أن تستغفلنا، وتعمل جاهدة على أن تثبت شرعيتها بكل الوسائل والسبل، من دعايات النفاق والكذب والدجل، وهي، بها، تصيغ لائحة متكاملة ل«شرعة حقوق العدوان».
لقد غابت المقاييس والمكاييل المنطقية والإنسانية، وحلَّت مكانها مقاييس الميكيافيلية التي تفصِّلها دول الشر والعدوان على طبق مصالحها. والتي ينخدع فيها البلهاء وقصيرو النظر مم ترتبط مصالحهم بما يلقيه إليهم به الميكيافيليون من فتات الموائد.
لقد انخدع البلهاء، أو انصاعوا خوفاً من تهديد ووعيد، أو طمعاً بما يتركه الأسد من فريسته، وتعددت أهواؤهم ومشاربهم، وتعددت ألوانهم وأحجامهم. البعض منهم لبس العباءة والعمامة، والبعض الآخر لوَّن تعاليم ماركس لتصلح لباساً للرأسمالية والاستعمار، والبعض الثالث وقف على سطوح إمبراطوريته الإعلامية رافعاً راية الديموقراطية نابذاً الديكتاتورية وهو يمنع على أي صوت النفاذ إلى إمبراطوريته، وكأن الديموقراطية عنده أن يرفع صوته لوحده، وكأنها حرية قمع أي صوت آخر. أما البعض المضلل فحدِّث ولا حرج، فهو يردد ما يسمع.
بين شرعية الاحتلال والمقاومة، لا يمكن للمراقب العادل، كما لا يمكن للقاضي العادل، أن يتجاهل الحقيقة الثابتة التالية:
لا يكتسب الاحتلال أي نوع من أنواع الشرعية وبكل المواصفات والمقاييس. سواء كانت تلك المقاييس أخلاقية أو إنسانية عامة أو خاصة، أو قانونية دولية أو قانونية وطنية. وما ينطبق على الاحتلال ينطبق على كل عملائه وإفرازاته وكل من يؤيده أو يساعده. وما ينطبق على الاحتلال ينطبق على كل ما يفرضه من قوانين عامة أو خاصة، دولية أو وطنية.
فالاحتلال غير شرعي، وكل بناه السياسية، حتى وإن أخرجها بتلبيسه ثوبها لعراقيين، ليست شرعية. فمن قرَّر إجراء انتخابات في العراق ليفصِّل على مقاييسها ثياباً ومظهراً شرعياً، سواء نالت تلك العملية موافقة دولية، كمثل قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 1546، أو ما نال موافقة عربية حصل عليها تحت الإذعان، لن تعطي تلك العملية أي غطاء شرعي، ولأنها ليست شرعية فهي ليست ديموقراطية.
وفي المقابل، فالمقاومة العراقية تكتسب الشرعية بامتياز بكل المقاييس والاعتبارات. سواء كانت تلك المقاييس أخلاقية أو إنسانية عامة أو وطنية خاصة. سواء كانت القوانين والأعراف دولية أو وطنية خاصة. فكل ما يصدر عن المقاومة من وسائل وأساليب في طرد الاحتلال، سواء كان موجهاً ضد جنود الاحتلال مباشرة، أو كان موجهاً لعملاء الاحتلال من هيئات أمنية وعسكرية وسياسية، أو ما كان موجهاً لقوانين فرضها الاحتلال أو تلك التي تلطى بفرضها تحت عباءة العراقيين المؤيدين له، ليست ذات شرعية على الإطلاق. وحيث إن الانتخابات العراقية المزمع تمثيلها على مسرح الأرض العراقية هي من وضع الاحتلال آخذاّ توقيع عملائه الدوليين والعرب والعراقيين هي من إنتاج الاحتلال فهي غير شرعية. ولأنها ليست شرعية فهي ليست ديموقراطية. ولتلك المواصفات والوقائع نحكم بما يلي:
الانتخابات في العراق ليست شرعية ولا ديموقراطية. ولأن المقاومة شرعية، فنضالها ديموقراطي، وهذا ما يضفي شرعية على موقفها من الانتخابات العراقية. وبها تكون المقاومة العراقية هي الطرف الوحيد الذي يقرر إجراء انتخابات في العراق أو يرفض قيامها.
ولأن المقاومة شرعية، فهي الممثل الوحيد للشعب العراقي، فيكون صوتها هو الصوت الشرعي الوحيد، سواء جاء ذلك الصوت في صناديق المسرحية الخارجية، أو سواء جاء في صندوقة الاقتراع الداخلية.
ولأن المقاومة رفضت الانتخابات سيكون صوتها هو الصوت الواحد والوحيد الذي يكتسب الشرعية. ولأن المقاومة العراقية رفضت الانتخابات التي فرضتها إدارة الشر الأميركية يكون صوتها هو الصوت الديموقراطي والوحيد. أما باقي الأصوات فهي لا تمت إلى الشرعية أو إلى الديموقراطية بصلة.
ولأن الأمر هو على تلك الصورة لأصبح من اللازم على كل من يدافع عن إجراء الانتخابات في العراق أو يدفع إلى المشاركة فيها أن يسكت وأن يخرس، لأن صوت المقاومة هو أعلى تلك الأصوات وأكثرها تمثيلاً لإرادة الشعب العراقي.
ولأن المقاومة رفضت إجراء انتخابات في العراق تحت ظل الاحتلال الأميركي وعملائه، وهي التي ستقرر وقت إجرائها بعد تحرير العراق من كل أثر للاحتلال أو لعملائه، لأصبح على الشعب العراقي أن ينتظر تعليمات المقاومة التي ستحدد الوقت المناسب والأكثر توفيراً لتطبيق شروط الشرعية وشروط الديموقراطية، وهي تتلخص بشرط واحد وبيئة سياسية وعسكرية وأمنية، لا يمكن أن تكون أقل من سقف تطهير العراق من الاحتلال.
وانتظاراً لأن تستجيب كل القوى والأدوات لنداء المقاومة الشرعي والديموقراطي، على الكل أن يأخذوا تهديد المقاومة القاضي بمقاومة الانتخابات على محمل الجد والمسؤولية.
***

(6): مهما يكن واقع الانتخابات العراقية ونتائجها فهي ترتبط بمخطط مشبوه
3/ 2/ 2005م
من وسائل احتيال وخداع الإدارة الأميركية لتأخير استحقاق هروبها من العراق أعدَّت لمسرحية انتخابات أتقن مخرجوها إظهارها بصورة جميلة، فراحت تموه على الرأي العام في شتى مفاصله، ولكن فات المخرجون أن يلجموا جورج بوش عن التسرع في إعلان نتائجها قبل أن تحصل. لقد حرق جورج بوش مراحل السيناريو حين أعلن عدة قضايا كان من المفضَّل عند المخرجين الأميركيين أن تُعلَن في وقتها المخطط لها حتى تبدو الانتخابات واقعية. ولكن شدة الألم التي أصابته من قوة الضربة التي تلقاها في إسقاط طائرة أردت العشرات من جنوده في منطقة «الرطبة» أجبرته من أجل امتصاص نقمة أهالي الجنود القتلى بإعلانه أن الانتخابات العراقية وإرساء الديموقراطية في العراق كانت السبب التي من أجلها يدفع الجنود الأميركيون الثمن، فالانتخابات رسالة إنسانية يضعها جورج بوش وإدارته قناعاً يخفي من ورائه أنياب «دراكولا» الذي لا رسالة له سوى امتصاص دماء الشعوب، كما امتصاص دماء الأميركيين.
وكمثل رئيسه الأميركي وضع طوني بلير، التابع البريطاني لإدارة جورج بوش، ظهر على التلفزيون ليعلن أن الديموقراطية في العراق تستأهل دفع أرواح بضع عشرات من القتلى البريطانيين أردتهم زنود المقاومة العراقية مع طائرتهم (سي 130) الشديدة التحصين في مواجهة الصورايخ المضادة، ولكنها لم تستعص على صاروخ المقاومة العراقية.
كانت طريقة إخراج الانتخابات في العراق بغاية من التمويه لولا أن فرضت المقاومة على المخرجين تقديم بعض مراحل السيناريو قبل أوانه، فأعلن المتبوع والتابع نتائجها قبل حصولها. وذلك الإعلان يتضمن التفاخر والتباهي بأن الاحتلال أخذ يقطف نتائج رسالته الإنسانية !!! في تصدير الديموقراطية إلى العالم، وبشكل خاص العالم العربي، وبالأخص منه العراق.
أياً تكن الوقائع التي حصلت على أرضية الانتخابات الأميركية في العراق فالمطلوب أن تكون مموهَّة بالنجاح لتبرير الغزو والاحتلال بعد أن افتضحت الأسباب المعلنة سابقاً وشكلت فضيحة جديدة لمصداقية «دراكولا أميركا». وهي «مخلاة» جديدة لجمع التبرعات من العالم لمساندة الإدارة الأميركية على تجاوز مأزقها في العراق. فراحت إلى من تطلق عليهم اسم دول «العالم الحر» تستجديها المساعدة المالية والعسكرية للتخفيف من عامل الإرهاق الذي يصيب الجنود الأميركيين والإرهاق الذي يصيب الخزينة الأميركية، وذلك كله ليوحي بأنه يطبق الشروط التي نصَّ عليها القرار (1546).
ونحن نؤكد، هنا، على أن ما فشلت فيه الإدارة الأميركية في السابق لن يكتب له النجاح بعد مسرحية الانتخابات. فعلى الرغم من أن عدداً من الأوساط الدولية وعلى رأسها كوفي عنان راحت تعتبر الانتخابات في العراق خطوة إيجابية متناسية لا شرعيتها بشتى المقاييس، على الإعلام الصديق للمقاومة العراقية أن لا يغفل التنديد بلا شرعيتها في الأساس والمبدأ لأنها جرت تحت سلطة احتلال، والاحتلال غير شرعي. ولهذا نرى أن الامتناع عن الغرق في عدد من التفاصيل، كمثل عدم تمثيلها لشتى فئات الشعب العراقي، أو أن نسبة المشاركين فيها كانت دون السقف المطلوب، مسألة في غاية من الأهمية. ولكي لا تبتعد بنا التفاصيل التجميلية للوجه القبيح عن رؤية القبح فيه.
وفي معرض استشراف واقع تلك الانتخابات، وظيفة وهدفاً، لا بدَّ من أن نحذِّر من الانجرار إلى متاهات من كان مع الانتخابات ومن كان ضدها، من سيفوز ومن سيخسر. وإن الانجرار وراء تلك المتاهات والغرق في التناظر والتناحر واستشراف نوع الحكومة التي ستنبثق عنها. ومن سيكون رئيساً للجمهورية ومن سيكون رئيساً للحكومة، وما هي الطريقة التي سيبتكرونها لتمثيل السُنَّة حتى تحوز على إجماع وطني. كل تلك التفاصيل ليست أكثر من وسائل تجميلية تغطي وجه الذين قفزوا فوق مبدأ «خيانة الوطن» عندما شاركوا في انتخابات تحت حراب الاحتلال وعملائه، هذا مع العلم أن نتائجها مرسومة سلفاً على قاعدة تمويه من هنا أو هناك للوجوه القبيحة ذاتها التي تحمل طعم (مجلس الحكم العميل) المنحل ورائحته ولونه.
من أهم مآزق الإدارة الأميركية هي أنها قامت باحتلال العراق وهي تفتقد الشرعية الدولية والإنسانية والأخلاقية. ولما لم يكن لديها من الوسائل والأساليب والذرائع التي تدافع بها عن وجودها في العراق، راحت تنسج قناعاً يوحي للمراقب بأن احتلالها العراق كان شرعياً. فكانت من تلك الأقنعة مسرحية الانتخابات، ولجر وسائل الإعلام إلى خارج دائرة الحوار عن شرعية الاحتلال أو لا شرعيته، تعمل وسائل الإعلام –في هذه المرحلة- على جذب الأنظار خارج القضية الأساسية، بما يعني سلب المقاومة العراقية شرعية انطلاقها ووجودها وعملياتها، أي إخراج المعادلة عن ثنائية «الاحتلال والمقاومة» إلى ثنائية أخرى «الحكومة العراقية والمتمردين».
وكي لا تنجر وسائل الإعلام وراء قنبلة تمويه «مسرحية الانتخابات»، لتحويل ثنائية الصراع إلى خارج دائرتها الحقيقية، لا بدَّ من أن الوقوف من الانتخابات العراقية موقفاً وحيداً من دون الغرق بتفاصيله هو أنها انتخابات غير شرعية بكل المقاييس، وهي والاحتلال صنوان لا يفترقان. وحسم الجدل من حولها والكشف عن مساحيق التجميل التي تريد أن تُظهر «اللص بريمر» بلباس مجرم المخابرات «نيغروبونتي»، و«مجلس الحكم» السابق بلباس حكومة علاوي، و«حكومة علاوي» بلباس الحكومة التي ستخلفها بعد الانتهاء من عرض «مسرحية الانتخابات».
فعودة إلى بدء نرى أن المطلوب هو أن يركزالإعلام الصديق للمقاومة، على مخاطبة الرأي العام من خلال ثنائية «المقاومة والاحتلال»، ووضع حد للغرق في إعطاء تلك المسرحية أكثر مما تستأهل من الاهتمام.
ولما قلنا إن الناخب الشرعي والوحيد هو المقاومة العراقية. وكان قرارها الكشف عن عمق التزييف لتمرير انتخابات يموِّه بها الاحتلال على وجوده غير الشرعي من خلال ما قامت به من عمليات عسكرية، سوف تبقى المقاومة ذاتها العامل الأساس في القيام بدورها في تأكيد المعادلة الثابتة «المقاومة والاحتلال» على قاعدة المواجهة المستمرة بين طرفيها. وكل ما هو خارج تلك المعادلة والمواجهة فهو إما ساذج أو غبي أو متواطئ. ولن يغفر التاريخ لأحد يحاول التزييف أو الهروب أو ابتكار الأعذار بإمكانية تحرير العراق على غير قاعدة مقاومة الاحتلال حتى النصر.
وما أخذ يطوف على سطح إعلام المتواطئين، من أنظمة عربية أو إقليمية، أو من بعض القوى الحزبية والسياسية الحالمة الموهومة، من أن الانتخابات العراقية تشكل بداية إيجابية لبناء عراق موحد ومستقل، أو أن الانتخابات العراقية تشكل نقطة البداية لخروج قوات الاحتلال من العراق، لهو استغفال جديد لعقولنا.
كما نخاطب بعض المخلصين الصادقين في مواقفهم من المقاومة والاحتلال، من هيئات وتجمعات وقوى، أن لا يراهنوا على أية مصداقية في النوايا والمواقف، سواء كانت تشمل قوات الاحتلال وممثلهم «نيغروبونتي»، أو المؤسسات الدولية «كوفي عنان»، أو وعود من هذا النظام أو ذاك. على أن تكون مراهنتهم الشرعية والوحيدة ذات المصداقية المطلقة ممثَّلة بالمقاومة العراقية ومنهجها السياسي الاستراتيجي.
***

(7): ولادة الثورة قبل السلطة يستوجب المحافظة عليها
يشكل رحيل ياسر عرفات، رائد الثورة الفلسطينية المعاصرة، مفصلاً مهماً في الاستفادة منه في تحديد مهام الثورة الفلسطينية في المرحلة الراهنة. ولكي تكون الاستفادة، بعد رحيله، قابلة للتطبيق –في هذه المرحلة التي تُعاد فيه صياغة الوضع الفلسطيني- يمكننا أن نحدد عدداً من الثوابت التي تقينا من الوقوع في العثرات، وتشكل مكيالاً نقيس عليه خطوات المستقبل.
من أولى الثوابت التي نرى أن على قادة الرأي والسياسة والفكر، على الساحتين الفلسطينية أولاً والعربية ثانياً، أن يضعوها أرضية تصحح كل المواقف السياسية والتنظيمية، هي أن القضية الفلسطينية ليس فرعاً للصراع العربي الصهيوني بل هي أصل، وكل ما نتج عنها ليست إلاَّ فروعاً. ولهذا نرى أن كل ما يخرج من مواقف بعيداً عن تلك الحقيقة / الثابت لن يصب في مصلحة القضية المركزية.
ومن ثاني تلك الثوابت هي أن الحالة الثورية التي أسَّسها ياسر عرفات تحت مسمى «حركة فتح» كانت الأرضية التي أعادت إنتاج مسار القضية الفلسطينية ووضعته على «سكتها» الصحيحة. أي أنها خلَّصت القضية الفلسطينية من بين أيدي النظام العربي الرسمي ووضعتها بين أيدي الجماهير على خطى الكفاح الشعبي المسلح.
ومن ثالث تلك الثوابت تبرز من أنه لا بدَّ للحالة الثورية والحركة الثورية من أن تتمركز حول نواة أساسية تشكل الضامن لوحدة الثوريين في إطار تنظيمي متماسك يمنع النواة والكتلة التي تتشارك معها من التشظي تحت شتى الأسباب والعوامل.
وقد عملت المخططات المشبوهة من أجل إعادة الحالة الثورية إلى «سجون النظام العربي الرسمي»، وجهدت من أجل إخراج المقاومة من الساحة اللبنانية، وافتعلت حرباً أهلية لسنين طوال من أجل ذلك الغرض. وقد نجحت في ذلك على إثر العدوان الصهيوني على لبنان في العام 1982م.
بعد خروج قيادات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، في العام 1982م، سلكت الصهيونية مع الإمبريالية الأميركية، أساساً، طريق سلب القضية الفلسطينية سر قوتها، أي سلبها المسار الثوري وإعادتها إلى حظيرة النظام العربي الرسمي. وبسبب من عوامل كثيرة شديدة التعقيد أُسرت، بعد اتفاقية أوسلو في العام 1993م، الهيئات القيادية في جزء من الأرض الفلسطينية. وفي مثل تلك المتغيرات كانت تراهن الأوساط الصهيونية على وضع تلك القيادات تحت مطرقة حديدية تجبرها على التنازل عن مسار الثورة، ولكن ياسر عرفات كان يحول دون الوصول إلى ذلك الهدف، وإن كان الأمر يتم على طريقته الخاصة.
فكانت تلك المهمة التي وازن فيها الثائر الراحل بين مهمات السلطة ومهمات الثورة من أهم العوامل التي أحبطت محاولات تمزيق الجسم «الفتحوي» فبقي متماسكاً. وأحبطت محاولات تمزيق وحدة مؤسسة منظمة التحرير الفلسطينية فاستمرت تلعب دور الضامن للوحدة بين شتى الفصائل. حتى ولو كان هناك الكثير مما يُقال عن انحياز جزء كبير من الجسم الفتحوي أو جسم منظمة التحرير الفلسطينية إلى جانب الدفاع عن السلطة وامتيازاتها على حساب الثورة، نرى أن الأوان لم يفت بعد من أجل المحافظة على جوهر الثورة.
نعيد التذكير بتلك الحقائق لأن ما نسمع به –في هذه المرحلة- فيه ما يخيفنا ويدعونا إلى إبداء الرأي في قضية استهلكت معظم سنوات عمرنا في الإسهام بالنضال من أجلها، ليس ترفاً فكرياً ونضالياً، بل لأن في مسارات حسمها ما يؤذي العمق القومي العربي، وينال منه بشكل سلبي أو إيجابي.
إن ما أبقى جذوة النضال الفلسطيني مستعرة لم يكن إلاَّ على أرضية وحدوية فلسطينية متعددة الاتجاهات والرؤى، تعمل على قاعدة منع التفريط بالوحدوية الفلسطينية أولاً وقبل كل شيء. ومن أجل ذلك أفرزت تلك الأرضية عدداً من المؤسسات الفلسطينية التي ضمنت بقاء تلك الوحدة وحافظت عليها، وهي لا تزال مستمرة حتى الآن. ونحن، على الرغم من أن الشعب الفلسطيني قد أفرز –بعد الانتخابات الفلسطينية الأخيرة- قيادات جديدة نالت رضى البعض ولم تنل رضى البعض الآخر، نقول بأن هذا شأن فلسطيني لا يعنينا منه كعرب أكثر من أن يحافظ على وحدوية فلسطينية من أهم همومها الاحتفاظ بالحالة الثورية والمحافظة عليها.
بدأت سمات المرحلة، التي لا تزال في طور المخاض، تبرز للعلن بنشاط ملفت للنظر أخذت الإدارة الأميركية تمارسه بشتى الوسائل والأساليب. وارتفعت وتيرة مطالبة السلطة الجديدة، التي أعقبت الانتخابات الرئاسية في التاسع من كانون الثاني ، من أجل محاربة ما تسميه تلك الإدارة بـ«الإرهاب»!!
ولم تقف وسائل الإدارة الأميركية في ضغوطها عند حدود «السلطة الفلسطينية» بل راحت تمارس كل أنواع الضغط على الجوار العربي لفلسطين من أجل «اجتثاث» كل احتضان للحالة الثورية. وتبدو الإدارة الأميركية في عجلة من أمرها لإنجاز مخططها المشبوه بالنسبة للقضية الفلسطينية لعلَّها، بإنهائها، تحصل على بعض الارتياح والتقاط الأنفاس في مأزقها الكبير في العراق.
ليست الحرارة الأميركية في متابعة الملف الفلسطيني ببعيدة عن فصل قضايا الثورة العربية وتمزيقها من أجل إسكات أو إهماد ما هو مشتعل حيثما تستطيع ذلك، والسبب هو أن ما تستطيع إخماده يساعدها على التفرغ للملفات الأكثر سخونة. ولأن أشد ما يؤرقها هو الحالة الثورية في العراق تعمل الإدارة من أجل تقديم تنازلات هنا أو هناك حتى تتفرَّغ للملفات الأكثر سخونة. وما دعوة كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأميركية، لشارون، رئيس وزراء العدو الصهيوني، لتقديم تنازلات مؤلمة إلاَّ محاولة لهضم الملف الفلسطيني مرحلياً من أجل التفرغ للملف العراقي الذي وإن انتصرت فيه سيبقى إغلاق كل الملفات الأخرى سهل المنال.
ومن هنا يُخشى أن تقدِّم الإدارة الأميركية، من خلال الضغط على شارون، تنازلات للطرف الفلسطيني وهي لن تكون إلاَّ تنازلات مرحلية لن تغني القضية الفلسطينية من جوع. ولأننا نخشى من وعود «خُلَّبية» ندعو الفلسطينيين إلى الابتعاد عن الفخ المنصوب.
وإذا كان من غير الواقعي أن يتخلى الفلسطينيون عن المفاوضات استناداً للوضع المرحلي إلاَّ أنه من الخطورة بمكان أن يفهموا رسالة «دموع التماسيح الأميركية» على غير حقيقتها. وإذا كان عليهم أن يحملوا «غصن الزيتون» بيد فعليهم أن لا يفرِّطوا ب«بندقية الثورة»، بل عليهم أن يتشبثوا بها، لأنها هي الوسيلة الوحيدة التي تُبقي القضية الفلسطينية على قيد الحياة وتحول دون تصفيتها.
وإذا كانت ديبلوماسية الإدارة الأميركية تنوب اليوم عن «وحشية شارون» فليست إلاَّ ديبلوماسية لكسب الوقت من أجل هضم «الفريسة العراقية». لا يجوز للطرف الفلسطيني أن يكون أقل ذكاء ليلعب ورقة «المقاومة العراقية» ويوظفها لصالحه بأن يدع المخطط الأميركي أسير نفسه متخبطاً وحائراً في كيفية الخروج من مآزقه.
وليس ما هو مطلوب من الأمناء على القضية الفلسطينية إلاَّ أن يحافظوا على الثوابت التي وضعتها الثورة الفلسطينية في غرف نومهم، فالتفريط بها لن يجعلهم إلاَّ خائفين في تلك الغرف. وأن لا ينسوا –على الإطلاق- أن الثورة هي التي أنتجت سلطة حتى ولو كانت منقوصة، فالمحافظة عليها –على قاعدة حماية الوحدة الوطنية- يعني الحؤول دون تصفية القضية الفلسطينية إلى الأبد.
***

(8): حسني مبارك «كاسحة ألغام عربية» أمام المشروع الأميركي
إن حسني مبارك وريث شرعي وأمين لنظام أنور السادات. لقد بدأ الأخير خطوة الألف ميل في مسيرة الاستسلام للمشروع الصهيوني بتدريب وتوجيه وتخطيط «عزيزه» هنري كيسنجر. وتابع حسني مبارك تلك الخطوات باتجاه كسح الألغام من أمام مشاريع أعزائه الكثيرين من رؤوساء الإدارة الأميركية. وكان أكثرهم خطورة المشروع الذي ينفِّذه جورج بوش «العزيز الأهم» لحسني مبارك. فإذا كانت الخطوة التي اتخذها السادات في فصل مصر عن الجسم القومي من خلال اتفاقية «كامب ديفيد» خطيرة، إلاَّ أن الأكثر خطورة هو الدور الذي لعبه، ويلعبه، حسني مبارك.
فهو «ولاَّدة» لأكثر من اتفاق مع العدو الصهيوني. كما هو «ولاَّدة» الإشراف على تكثير «نسل تلك الاتفاقية» المشؤومة. فهو كان عرَّاباً لكل الاتفاقيات اللاحقة ك«اتفاقية أوسلو»، و«وادي عربة». كما أنه ال«ولاَّدة» لأكثر من قرار، وأكثر من تسوية، وأكثر من اتفاق وراء الكواليس في مسلسل التآمر على العراق. ولعب حسني مبارك دور ال«فزَّاعة» للعراق قبل العدوان عليه، وقبل احتلاله، فكان «نقَّالة» للتهديدات الأميركية إلى الرئيس صدام حسين بقصد دفعه للاستسلام إلى أحضان المشروع الأميركي الصهيوني. وإننا لن ننسى، بعد الرفض القاطع الذي واجهه به الرئيس صدام حسين، عبارته المشهورة: «اللهم إني قد بلَّغت».
وكان قد لعب الدور ذاته في العام 1990م، ولكن عن طريق الخداع، على طريقة الخداع الأميركي. فهو، منذ العام 1990م، وتحديداً منذ الثاني من آب، مارس سلسلة طويلة من المهام المشبوهة والمسؤوليات التآمرية على أكثر من صعيد وأكثر من ساحة.
لقد ابتدأت مهمته الأميركية، بشكل معلن، منذ أن «فبرك» قمة عربية، في الثامن من آب من العام 1991م، كانت مثال التواطؤ مع الإدارة الأميركية حينما منع تعريب الأزمة بين العراق والكويت، والتي كانت مؤهلة لإنهائها في داخل البيت العربي. وكانت البداية لتدويلها حينما استصدرت الإدارة الأميركية العديد من قرارات مجلس الأمن. فكانت مسألة التدويل إجهاض لتجربة المؤسسات السياسية العربية، وكان من أهمها مؤسسة «القمة العربية». ونحن نرى، على الرغم من قصورها، أنها كانت رمزاً وحدوياً يمكن تطويره وتجديده وتعميقه. أما خطورة الإلغاء فهي إحداث فراغ وحدوي عربي، حتى ولو بشكليته، يسمح للعولمة الأميركية بإملائه. وكانت تلك من أهم ما يستند إليه «مشروع الشرق أوسطي الكبير». ذلك المشروع الذي، بواسطته، تسيطر الإدارة الأميركية على القرار العربي وتستفرد به.
وتحت منهج تدويل القضايا العربية يستمر حسني مبارك بلعب دور الـ«فزَّاعة»، والـ«خوَّافة» لسوريا. فقد نقل أمينه المخابراتي عمر سليمان إلى القيادة السورية الإنذار تلو الإنذار من الإدارة الأميركية من أجل دفعه للاستسلام أمام شروطها وتهديداتها لكي ينحر «الأمن القومي العربي» في سبيل خلاص رأس الإمبراطور الأميركي المعلَّق على حراب المقاومة العراقية، كما هو معلَّق على حراب المقاومة الفلسطينية.
لقد أنجز حسني مبارك، «خوَّافة العرب»، و«كاسحة الألغام» أمام القطار الأميركي الصهيوني، مهمته –بجدارة- في كسح ألغام المقاومة الفلسطينية في كواليس «مؤتمر شرم الشيخ»، مما جعل الإمبراطور الأميركي يتنفَّس الصعداء، وليجعله مرتاحاً، منفرج السريرة في خلال زيارته لأوروبا في أواخر شهر شباط من العام 2005م. ولأنه ك«حكيم» للعرب أنجز مهمته في فلسطين، كلَّف أمين سر مخابراته ك«دوَّارة» كفؤ في الذهاب إلى دمشق لمتابعة مهمة معلِّمه لينقل إليها، للأسف، ليس تضامن مصر عبد الناصر إلى سوريا «جول جمَّال»، بل نقل إليها ب«حكمة»، وب«تخويف»، وب«تهديد» نصائحه التي حفظها عن ظهر قلب. وقد مهَّد لمهمة موفده قائلاً من دون خجل: «سوريا لن تقوى على مواجهة الضغوط».
كانت الإدارة الأميركية، وربيبتها الصهيونية العالمية عالقة بين مأزقين: مأزقها في الأرض الفلسطينية المحتلة حيث كانت انتفاضة «أطفال الحجارة» تتحوَّل بسرعة لافتة إلى «مقاومة مسلحة». ومأزقها الكبير في العراق، حيث المقاومة العراقية تستنزف، بكفاءة لافتة، دم جنود الاحتلال وحياتهم، كما تستنزف مئات المليارات من دولارات المكلَّف الأميركي.
وبالإضافة إلى مأزقيْها، كانت علاقات الإدارة الأميركية مع حلفائها من أنظمة الرأسمالية الأوروبية في غاية من السوء. أما ذلك السوء فهو عائد إلى استفراد الإدارة بالقرار الدولي، ونتيجته أودت بالعالم كله إلى أسوأ حالاته. فأينما حلَّ الجندي الأميركي يحوِّل المكان إلى خراب ودمار، وحرب وموت. السبب الذي دفعه إلى حياكة قرار يعود فيه إلى المجتمع الدولي من أوروبا، كأهم بواباته. وثمناً لهذا الرجوع كان عليه أن يدفع شريكه شارون، رئيس وزراء العدو الصهيوني، إلى تقديم تنازلات في غزة وأريحا لتهدئة الوضع هناك، من أجل أن يتفرَّغ كلياً لمواجهة مأزقه في العراق من جهة، ولكي يعطي للأوروبيين دوراً ومساحة في حل النزاع الفلسطيني -الصهيوني. كما كانت الهجمة تجاه لبنان وسوريا، التي شارك الأوروبيون، وعلى رأسهم فرنسا، تستهدف الحصول على مكسبين: أوروبي – فرنسي بإعادتها إلى المنطقة من بوابة حلفاء فرنسا في لبنان. أما المكسب الآخر، فهو تجريد سوريا من أوراق الأمن القومي العربي الذي يتعلّق بأمن المقاومة العربية في لبنان وفلسطين، وتأتي المقاومة العراقية من أهمها.
وكي لا تظهر الهجمة وكأنها شبيهة بهجمة «صليبية» كان «العراب المصري»، حسني مبارك هو القشرة التي عليها أن تُظهر للعالم أن ما يجري لا علاقة له ب«الصليبية». وهكذا تولَّى «ولاَّدة» الاتفاقات والمبادرات دور «الفزَّاعة» من جديد تجاه سوريا.
وإذا كان مما يمكن أن نقوله لحسني مبارك، فهو ليس أكثر من أن الكرامة العربية تقتضي مواجهة الخطر الأميركي، والاجتياح التوراتي الصهيوني للمنطقة، مهما بلغ الثمن وغلا.
كما نقول له إن القوة الأميركية لا تثير الفزع في نفوس أصحاب الكرامة الوطنية والقومية، هذا على مستوى القيم. أما على صعيد الميزان الواقعي فنقول إن تلك القوة ليست إلاَّ نمراً من ورق، وإذا أردت أن تتأكد فيمِّم وجهك تجاه «قبلة» المقاومة العراقية فتُنبئك «الخبر اليقينا».
أما إلى دمشق فنقول: دعوا جورج بوش يدخل إلى الأرض السورية، وليرى أن جنوده لا يستطيعون أن يركبوا على خازوقيْ المقاومة في العراق والمقاومة في سوريا في وقت واحد. وما لنا إلاَّ أن نستشهد بما قاله المفكر الأميركي، إيمانويل تود: »أميركا ليست تلك القوة العظمى، ولا يمكنها -في المرحلة الراهنة- أن تُرهب سوى الدول الضعيفة، وإذا أصرَّت على أن تثبت قوَّتها الهائلة، فإنها لن تفلح أكثر من أن تكشف للعالم عن عجزها«.
***

(9): مع سميرة رجب حتى يفيء الحاقنون بنار الفتنة عن غيِّهم
في 1/ 3/ 2005م
بعد نشرها مقالاً في موقع «المحرر» وفي مواقع أخرى، تحت عنوان «ما قبل وبعد إعلان نتائج الانتخابات في العراق» تعرَّضت سميرة رجب، الكاتبة البحرينية، إلى ردود أفعال عديدة من قبل أوساط بحرينية راحت تحقن بنار الفتنة بدلاً من الرد عليها بموضوعية على ما اعتبروه مساساً بالمرجع الشيعي «علي السيستاني». فلو مُورست الردود على ذلك المستوى بين أصحاب «الرأي»، و«الرأي الآخر»، لما كنا قد لجأنا إلى ردنا هذا. أما وأن يتعرّض أصحاب الرأي إلى هجمة على ذلك المستوى فلا نرى أنفسنا خارج تلك الهجمة، بشكل مباشر أو غير مباشر.
وفي المقارنة بين أسلوب الكاتبة –التي نحترم- وبين أسلوب الردود التي وصلت إلى درجة من الانحطاط في مواقع عديدة للأنترنت، والتي قمنا بمتابعة جزء منها، وعجزنا عن متابعة أكثرها لأنها لا تمت إلى مبادئ الرأي الواعية بصلة، اخترنا أن نقف إلى جانب سميرة رجب. وفي موقفنا هذا نحاول أن ندعو المتعقلين من الحريصين على وحدة الأمة واحترام كتَّابها ومفكريها أن يلملموا ما بدت تفوح منه رائحة العفونة التعصبية.
أما حول ما أثارته الكاتبة فنعلن موقفنا إلى جانبها، كما نتوجَّه إليها قائلين:
سميرة رجب، لا تهني ولا تحزني، فأنت الأعلى من الحاقنين بنار الفتنة لأن الحجة فاتتهم، وغلبهم عار التعاون مع «الشيطان الأكبر». فلم يعد لديهم ما يدفعون التهمة عن أنفسهم غير الهجوم على الشرفاء من أبناء هذه الأمة.
فإن يستغفلنا أحد فلن يخرج إلاَّ بسلة فارغة لأن العقل الذي وهبنا الله هو خير حصانة لنا. وإن حاول أحد أن يُبعد أحداً –مهما علت رتبته- عن مواقع النقد، إذا أخطأ، فهو يسطو على سلطة ليست له.
ولا ينسى المدافعون عن السيستاني ورمزية موقعه أنهم لم يوفروا رمزاً –يخالفهم الرأي والرؤية- إلاَّ وانتهكوا حرمته. ولم ينج صاحب رأي أو موقف أو رئاسة من دنس أقوالهم وأفعالهم. أًلم يتعاونوا مع «الشيطان الأكبر» كرهاً بمن كرهوا؟؟!! أًلم يعمهم حقدهم عن تبرير جريمة احتلال بلدهم، وهو بلد عربي ومسلم؟؟!!
سميرة رجب
لم تكتبي أكثر مما أراد الإمامان علي بن أبي طالب وابنه الحسين –شهيدا الحق- أن يقولاه للسيستاني وللذين يقلِّدونه. وإذا كان مما نردده الآن من قبيل التكرار، لكنه من التكرار المفيد، فنردد قولة الإمام علي: «إذا فعلها بن الأصفر لأفعلنَّها». وهل كان على السيستاني ومقلدوه أن يفعلوا غير ما قاله الإمام؟؟!!
هل كان «معاوية بن أبي سفيان» يا سميرة ممن يأمنه «علي بن أبي طالب» على مستقبل الإسلام؟ ولماذا قاتله؟ ولأجل ماذا كان لا يريد أن يوقف الحرب معه فحسب، بل وأن يتعاون معه أيضاً؟ أليس السبب الوحيد هو أن يقاتلا «ابن الأصفر» معاً؟
لماذا لم يترك «الإمام» «ابن الأصفر» لكي يغزو الشام فيُسقط الديكتاتور «معاوية ابن سفيان»؟ ألم يكن بمقدوره أن يترك «ابن الأصفر» يُسقط الطاغية «معاوية» ومن ثم يتوجَّه بنداء للمعتدي للخروج من الشام؟
لماذا فضَّل «الحسين بن علي» أن يواجه جيش «يزيد بن معاوية» مع الفارق الهائل بين عدد أصحابه وأهله وعدد جيش يزيد؟؟
ألم يكن باستطاعة «الحسين» أن يدرأ «المعسور اليزيدي» ب«ميسور المبادئ الحسينية»، أي «المعسور الأميركي» ب«الميسور السيستاني»؟ لم يفعلها «الحسين»، ولكن «السيستاني» فعلها.
نحتفل كل عام بذكرى عاشوراء، ذكرى انتصار «الدم على السيف»، ذكرى «هيهات منا الذلَّة». و نحتذي –حتى اليوم- بخطى «الحسين» ونفخر ببطولته ونعمم مواقفه. ونستنكر دخول جيش «يزيد» إلى الكوفة. ونسفِّه أهل «الكوفة» الذين باعوا «بيعتهم للحسين» بعشرين من الفضة. ونشتم «أهل النفاق» لأنهم تخلوا عن تلك البيعة.
أما اليوم، فقد تخلى «السيستاني»، و«السيستانيون» عن مبادئ «علي بن أبي طالب» فاستقبلوا «أبناء الأصفر» أيما استقبال تحت ذريعة «درء المعسور بالميسور». وبرروا لأهل الكوفة «شرعية» دخول جيش «يزيد العصر» إلى الكوفة والنجف وكربلاء.... وراحوا يطاردون أصحاب «ابن عقيل» من الذين يدافعون عن «الحق» والأرض، وراحوا يسلمونهم ل«جيش ابن الأصفر».
«يا ليتنا كنا معك سيدي، فنفوز فوزاً عظيماً»، تلك الدعوة المخلصة الصادقة أصبحت، مع أصحاب «ابن زياد» العصر، بدون مضمون. وراح من أيَّد الاحتلال الأميركي، يشوِّهون معانيها لكي يغطوا تخاذلهم وخوفهم من مناصرة الحق. وهؤلاء هم يقومون بالحقن والتعبئة ضد «كلمة حق» قالتها سميرة رجب في وجه «مجتهد خاطئ».
وهنا يحق لي أن أوجَّه لكل الذين حملوا «قميص أخطاء السيستاني»، عودوا إلى رشدكم فأنتم تسهمون في تضليل ضمير الأكثرية الصامتة من الشيعة. وأنتم –دفاعاً عن مواقفكم ونزواتكم وحقدكم- تغلِّفون «الحق» بقشرة من الأسباب المردودة. فاقلعوا عن إشعال نار الفتنة فأنتم لا تمثلون كل الشيعة. وإذا كنتم ممن يعجزون عن الحجة لتستعينوا بالافتراء على سميرة رجب، من خلال ادعائكم بأن «جيوبها» مملوءة بـ«بونات النفط»، فأنتم توجِّهون التهمة إلى غير مكانها الصحيح. وأنتم تمارسون على أساس «أظن بالناس، كما أظن بنفسي». فليس أمامكم إلاَّ أن تلاحقوا «بطرس غالي» وابنه، و«كوفي عنان» وابنه. وأن تلاحقوا جورج بوش «الشيطان الأكبر» مع أبيه وأصحابه في الإدارة الأميركية. واختصاراً سوف تزودكم المخابرات الأميركية –في المستقبل القريب- بكل اللوائح الحقيقية للمستفيدين، والسارقين والناهبين من صندوق «النفط مقابل الغذاء». لأنها ستكشف كل «لص» إذا لم يأتمر بأوامرها.
أما أنتم أيها الحاقنون –جميعاً- في مواقع الأنترنت، والصحف، والحسينيات، والأندية العامة، ضد سميرة رجب، فلن تقنعنا غيرتكم على المرجعية الشيعية. فنحن نشتمُّ من «جيوبكم» كل الروائح ما عدا «المال الحلال» و«الغيرة الصادقة». أما «الغيرة الصادقة» فلن يمثلها إلاَّ أولئك الجريئون على قول «كلمة حق في وجه عالم ظالم».
أما رمزية الشخص فلن تحميها إلاَّ حصانة الموقف. وإذا كان الموقف سليماً فعلى الجميع يقع واجب حمايته. وإذا كان ذو علاقة بمحاباة أو مجاملة، أو نتيجة ضغط أو إكراه، أو نتيجة حجب الرؤيا الحقيقية عن صاحب الرأي، فلن يُعتدَّ برمزيته. ومن أجل هذا السبب ارتفعت ألسنة الحق في كشف فتاوى/ مواقف «فقهاء السلاطين» إذ لم تعفهم رمزيتهم من قول «كلمة حق في وجه فقيه ظالم».
فهل يظن الحاقنون بنار الفتنة أن ظاهرة «فقهاء السلاطين» قد انتهت؟
كنا أول المباركين –منذ أكثر من سنة- لموقف «السيد السيستاني» عندما أعلن شجبه لتشكيل أية سلطة، أو أي تعديل في القوانين والشرائع، في ظل الاحتلال. واتَّخذ هذا الموقف بناءً لمقولة فقهية وقانونية تقول: «ما بُنيَ على فاسد فهو فاسد». وباركنا موقفه لأنه الموقف الحق والجريء. ومن حقنا اليوم أن لا نبارك موقفه الذي دعا فيه إلى المشاركة في الانتخابات العراقية تحت تبعة الدخول إلى النار. فكان الموقف مستهجناً وصافعاً. ولأنه لا علاقة له بالمبادئ الإسلامية ولا الإنسانية، وخارجاً بشكل واضح عن مقولة «ما بُنيَ على فاسد فهو فاسد». فالانتخابات تحت ظل احتلال «غير شرعي»، فهي «غير شرعية»، وهذا ما لا يجوز لموقع رمزي أو غير رمزي، ديني أو وضعي، أن يجرنا إليه.
فهل لا يجوز لنا أن نقول بأن السيستاني قد جامل أو راعى السلطان؟ والسلطان هو، هنا، إما «الاحتلال الأميركي»، أو «الاحتلال البريطاني»، أو «عملاء الاحتلال» من الذين دخلوا إلى العراق على دبابة أميركية، أو علم إيراني. وهل يمكن لهؤلاء وأولئك أن يفسروا لنا ما قالته كوندوليزا رايس، وزيرة خارجية إدارة جورج بوش: «لولا دعوة السيستاني للعراقيين بالصبر على الأمريكان لكان الأمر مختلفاً»؟؟
فبين الموقف المبدئي السابق، والموقف الجديد المُستهجَن، مسافة فاقعة وواضحة ومكشوفة، كان لا بدَّ لكل صادق في هذه الأمة من أن يلاحظه. ومن الخطأ أن لا يشير إليه تحت طائلة الاتهام على قاعدة «من رأى منكم منكراً فليقومه بسيفه، أو بلسانه، أو بقلبه، وهو أضعف الإيمان». ولم تفعل سميرة رجب أكثر مما يرتبه عليها واجبها الديني أو الوطني أو القومي أو الإنساني.
وختاماً نتوجه بنصيحتنا إلى «النافخين بأبواق الفتنة»، من الذين يردّون على الكاتبة البحرينية «سميرة رجب» أن يبتعدوا عن ممارسة ما لا خير فيه لمصلحة الأمة جميعاً إذ يكفيها الاحتلال الوحشي الذي يمارسه أكثر من ابن أصفر واحد، فهم يتكاثرون. أما نحن فنتمزَّق ونتفتت.
وأما إلى «سميرة رجب» فنقول: نحن معك، ولسنا ممن ينتاب جسمهم الضعف. ولن نخشى أن نعلن كلمة الحق. فمن حقك أن تكتبي، وأن تفكري، وأن توجهي، طالما أنت تنطلقين من دائرة الإخلاص لهذه الأمة. ولم نر في كل ما تكتبين إلاَّ جهداً يقتضي منا تقديم الشكر، وإعلان التشجيع. كما أننا لا نرى في كل ما تكبين إلاَّ التهذيب والاحترام لآراء الآخرين، باستثناء الذين يقعون في دائرة «العمالة للاحتلال الأميركي - الصهيوني» فهؤلاء لا يستحقون لقب أصحاب«الرأي الآخر». لأن العمالة والخيانة لا يحوزان على الحق الديموقراطي في «فعلتهم» ولا في «آرائهم». لأن الرأي الآخر هو وجهة نظر تستحق الاحترام، ولم تكن العمالة للأجنبي -في أي يوم من الأيام- «وجهة نظر».
***

(10): بعد استباحة الديموقراطية الأميركية سيادة العراق، الديموقراطية الغربية تستبيح سيادة لبنان
في 5/ 3/ 2005م
منذ أن اتَّخذت الإدارة الأميركية قرار احتلال العراق مهَّدت لقرارها بتأمين غطاء عراقي من المعارضين العراقيين الذين كانوا يعيشون في كنفها ورعايتها وتمويلها وحضانتها. وأفلتت الزمام ل«معزوفة» الديموقراطية. فحملت قميصها، وحمَّلته ل«جوقة الندَّابين» من عملائها.
وتحت عباءتهم التي يلبس مثلها غازي الياور، الرئيس المفروض على العراق بقوة «الديموقراطية الأميركية» غزت العراق واحتلته بقوة جيشها، المملؤة قطعاته بعشرات الآلاف من «المرتزقة». ووكَّلت «عباءاتها» العراقية بحماية «أسلابها» من غزو العراق. فكانوا كمن وصفهم الشاعر المتنبي: ب«الخصيان». بينما كان «بول بريمر» الحاكم الفعلي للعراق من جهة، والماسك بخيوط «الماريونت» العراقيين يحركهم كيفما يشاء من جهة أخرى. وراح، تحت عباءة الديموقراطية، يحكم العراق على قاعدة «كل شيء في خدمة الرأسمالية الأميركية». وانطلت الحيلة على المضلَّلين، أو على العارفين بخفايا المشروع الأميركي الحقيقية، وظلَّ شعار الديموقراطية مرفوع الراية، فمارس بول بريمر تحتها كل مشاريع الاجتثاث: من «اجتثاث فلسفة حزب البعث»، إلى «حل الجيش العراقي» كإفراز لتلك الفلسفة، إلى «اجتثاث» كل ما له علاقة بمبادئ السيادة الوطنية.
لكن، عندما واجهته المقاومة العراقية، وصدَّته، ومنعته، من النجاح على شتى الوجوه، راح يلعق دماءه من جنود ومال، ووجد نفسه منصاعاً لتغييب صورة هزيمته في العراق، فراح يغطيها بخطوة «الهروب إلى الأمام». فكانت الساحة اللبنانية مكاناً مناسباً وآمناً لتجميع كل القوى التي تخلَّفت عن مشاركته في احتلال العراق. وللأسف فقد انجرفت كل القوى الرسمية الخارجية، مسنودة من القوى الرسمية العربية، في مخطط جورج بوش لمساعدته في سياسة «الهروب إلى الأمام»، وتجاوز «روزنامة أولوياته» التي كان يريد من بدئها في العراق، إذ كان يرى أن نجاحها في العراق يعفيه من خوض حروب أخرى لكل مراحلها اللاحقة في إيران وسوريا ولبنان.
وللأسف، ونقولها بصوت عالٍ، فقد نجحت الإدارة الأميركية في تجميع أصوات النظام الرسمي الدولي والعربي حول تطبيق مضمون القرار (1559) والذي يهدف إلى تدويل القضية اللبنانية، كخطوة أساسية من خطوات «اجتثاث» السيادة والكرامة الوطنية، وكخطوة من خطوات «التآمر» على حركة المقاومة العربية.
لم يتعلَّم بعض أقطاب المعارضة اللبنانية من دروس شكل «الديموقراطية الأميركية» ولونها في العراق، فانجرفوا في تيار مشروع اليمين الأميركي المتطرف، وتوهَّموا –بعد أن أسقطت حكومة عمر كرامي نفسها- بأنهم حققوا نصراً كاسحاً ماسحاً. ونخشى أن يكون قد ركبهم الغرور وراحوا يروِّجون بأن «سحر الديموقراطية» هو المنتصر.
نريد أن نسجِّل أن الديموقراطية مسألة لا نختلف على أهميتها في حياتنا السياسية. لكن ليست الديموقراطية وصفة إذا تناولها الإنسان تحوله بقدرة سحرية من لا ديموقراطي إلى ديموقراطي. كما أنها ليست وصفة يقررها طبيب من هنا أو هناك، أو هي ليست بضاعة للتصدير يتم توزيعها على اللبنانيين فتحول اللا ديموقراطي منهم إلى ديموقراطي.
ونحن نفهم –أيضاً-أن ليس أنموذج الديموقراطية التي يفهمها أقطاب المعارضة اللبنانية هي مما يحوز على إجماع اللبنانيين وهذا لا يعني أن ديموقراطية الموالاة هي الحل المطلوب، حتى ولا ديموقراطية التيار الثالث أو الرابع. بل الديموقراطية هي عملية ثقافية، اجتماعية سياسية، متواصلة تستهلك حياة العديد من الأجيال تتعلَّم فيها –بالنظرية والتطبيق-ديموقراطيتها التي تتناسب مع سماتها ومصالحها الخاصة على أن تأخذ بعين الاعتبار أن لها علاقة لا يمكن أن تنفصل عن سمات المجتمعات الأخرى ومصالحها.
وهنا، لا نستطيع إلاَّ أن نستغرب، ونستهجن، أن يكون شعار الديموقراطية الذي يرفعه الرئيس الأميركي، جورج بوش، هو الحل الذي نركض وراءه. إذ أنه من الطبيعي أن يروِّج رئيس أخطر مشروع يتم تصديره للعالم لشعاره، ولكنه ليس من الطبيعي أن يخدعنا هذا الشعار. وإذا كان الإجماع الدولي يشكل سبباً في خديعتنا، فنقول: ليس الإجماع الدولي مستنداً لعشقه وغيرته على الديموقراطية في بلادنا، لأن غيرته المفاجئة على الديموقراطية في لبنان نابعة من مصالح الشركات الصناعية الكبرى في تلك الدول. وإذا كنا نريد أن نعرف من هو حريص عليها، فلن تكون الأنظمة الرسمية مصدراً لمعرفتنا، وإنما نأخذ الصورة الحقيقية من موقف شعوب تلك الأنظمة، فهي الأكثر مصداقية لأنها منفصلة عن حسابات المصالح ومكاييلها. ولن نتناسى أن ضمائر تلك الشعوب قد أدلت بأصواتها في انتخابات البرلمان الأوروبي، منذ عام تقريباً، إلى جانب ديموقراطية حقيقية.
إن ديموقراطية النظام الأوروبي الرسمي، كما النظام العربي الرسمي، تكيل القضية الواحدة بمكاييل عديدة من دون ربطها بالمبدأ الديموقراطي الإنساني العام. و إلاَّ كيف تفسر تلك الأنظمة تأييدها لانتخابات في العراق تحت حراب مئات الآلاف من جنود الاحتلال، ومن ضمنهم عشرات الآلاف من «المرتزقة». بينما ترفض إجراء انتخابات في لبنان في ظل وجود عربي، ولنقل إن وجوده يتنافى مع النظام الديموقراطي في لبنان. وهنا، لا بدَّ من أن نتساءل: هل العدالة في استخدام المكاييل جريمة؟ لماذا لم نطالب إدارة جورج بوش بسحب جنودها من العراق قبل إجراء انتخابات فيه؟
لم يتخذ مجمَّع النظام الرسمي، دولياً وعربياً، موقفاً مبدئياً فحسب، وإنما –الأنكى من كل ذلك- أنه بارك خطوة الانتخابات في العراق أيضاً، واعتبرها خطوة على الطريق الصحيح. فبالحد الأدنى في موازنة المسألتين يجب على ذلك المجمَّع: إما أن يرفض ما جرى في العراق، وبه يمكنه أن يرفض ما قد يجري في لبنان. وإما –واستناداً إلى ما قبله في العراق وباركه-أن يقبل مثله في لبنان ويباركه أيضاً. ويزول استغرابنا إذا عرفنا، ونحن نعرف أساساً، أن قوة «الإمبراطور الأميركي» فرضت ليس «قانون القوة يغلب قوة القانون» فحسب، بل إن «قانون القوة يصادر قوة الالتزام الأخلاقي» أيضاً، وهو أشد أنواع الجرائم التي يمكن محاسبة كل مرتكب لها، ليس بتهمة «مجرم حرب» فحسب، بل بتهمة «جرائم بحق الإنسانية وقيمها» أيضاً.
إن مدخلاً لتعريف المسألة الديموقراطية الأوروبية، التي جاءت لتساند «الديموقراطية على طريقة اليمين الأميركي المتطرف»، أمراً مهماً لتشريح مسارات الديموقراطية التي تسلكها الإدارة الأميركية في لبنان.
منذ اغتيال المرحوم رفيق الحريري، ابتدأت مظاهر استباحة «سيادة لبنان»، تحت نظر المعارضة اللبنانية وأبصار النظام العربي الرسمي. و لا بدَّ، هنا، من أن نتنبَّأ أنه –منذ الآن ولاحقاً-لن تكون أية سلطة لبنانية تأتي بتوافق مع المشروع الأميركي إلاَّ معرَّضة «لانتهاك مسؤولياتها السياسية والأمنية» تحت سمع المجتمع الدولي وبصره، ولن تجد تلك السلطة نصيراً لها.
ومن أهم تلك المظاهر: قدوم رئيس جمهورية فرنسا إلى لبنان للقيام بواجب التعزية باستشهاد رئيس سابق للحكومة اللبنانية، باعتباره صديقاً شخصياً له، وكأن علاقات الدول الرسمية قائمة على أسس من شبكة الصداقات الخاصة. وكأن العلاقات الرسمية بين الدول أصبحت بلا ضوابط ومن دون روابط. وغداً إذا توفي، في فرنسا، صديق لرئيس جمهورية لبنان يمكنه أن يركب طائرته فينزل في مطار «شارل ديغول» ويذهب للقيام بواجب العزاء ثم يعود أدراجه إلى لبنان من دون حسيب ديبلوماسي فرنسي ولا رقيب.
وعلى مثاله، تصرَّف مسؤولون عرب وأجانب، فكانت الخطوة الأولى في «استباحة صلاحيات السلطات اللبنانية»، وهي مهما كانت مواقفنا منها، تُعدُّ «استباحة للسيادة اللبنانية».
أما الوجه الحقيقي ل«لبنان الغد»، ل«لبنان الذي استعاد استقلاله في اليوم الذي استقالت فيه حكومة عمر كرامي»، لـ«لبنان الأرز» كما يحلو لمسؤولين أميركيين أن يصفوه، فأصبح واضحاً من حركة «انتهاك سيادة لبنان» التي قام بها، ولا يزال يقوم، وسوف يستمر بالقيام بها (داوود ساتر فيلد)–إذا بقي الحال على هذا المنوال-هي حركة «اجتثاث لسيادة لبنان». أليس تدويل المسألة اللبنانية، أو قل أمركتها بموافقة النظام الرسمي الدولي والعربي، إلاَّ وجهاً من وجوه تطبيق «الشرق أوسطية» خطوة خطوة؟
لقد تحوَّلت السفارة الأميركية إلى قصر للرئاسة، وقصر للحكومة، وقصر لمجلس النواب اللبناني، وهي كلها –سواء اتفقنا مع سياساتها أو اختلفنا-تمثل رمزاً «لسيادتنا وكرامتنا الوطنية». وراحت تدير كل أنواع التوجيه والتحريض وتوزيع الأدوار، والإشراف على التظاهرات والاعتصامات، إدارة سياسية وأمنية ومالية. أليس تلك الفعلة إلاَّ «انتهاكاً لسيادة لبنان وكرامته».؟ وإذا أصبح لبنان مجرَّداً عنهما، لنال الغرم كل اللبنانيين بكل أطيافهم السياسية والطائفية. أليس هناك من ردة فعل تثأر لنا جميعاً؟
إن مثال «بريمر» في العراق يتكرر في لبنان الآن. ف«ساتر بريمر»، خطة وهدفاً ووسائل، يحمل «ديموقراطية اليمين الأميركي المتطرف» من «منطقة السفارة الأميركية الخضراء في بيروت» ليشرف على انتخابات لبنانية تكون مثالاً للديموقراطية التي يبشِّر بها رئيسه، طبعاً تحت يافطة «احتلال سياسي أميركي» متخفٍ تحت «لحاف أوروبي، ممثلاً بالنظام الفرنسي» كتمهيد ل«احتلال أمني» كما بشِّرتنا بها وزيرة خارجيته (كوندوليزا رايس)، وهو الحل الحقيقي، لما بعد إخراج القوات السورية «فوراً !! » من لبنان، الذي أرادت أن تبشرنا به من أجل «لبنان أفضل بدون السلطات اللبنانية الحالية». ونتساءل هنا: هل هناك «شركات أمنية خاصة» لم تنل نصيبها من «الكعكة العراقية» وتعمل (كوندوليزا رايس) لتأمين حصة لها في «الكعكة اللبنانية»؟
إننا –في نهاية المطاف-لا نحسب، أو نتوهم، بأن يكون وضع ال«لبنان الأفضل» تحت قيادة «ساترفيلد» أفضل من «العراق الأفضل» تحت قيادة (نيغرو بونتي).

(11): المشروع الأميركي يهرب من مأزقه في العراق إلى الحضن الأوروبي

في 7/ 3/ 2005م
شنَّت الولايات المتحدة الأميركية في 20 آذار من العام 2003م عدواناً واسعاً على العراق منفردة، تساندها حكومة بريطانيا بزعامة طوني بلير، بعد أن عجزت عن الحصول على تأييد دولي. وبسبب من الممانعة الأوروبية، بزعامة فرنسا وألمانيا، لم تستطع الإدارة الأميركية برئاسة جورج بوش الإبن استصدار قرار من مجلس الأمن كغطاء دولي للعدوان. و على الرغم من ذلك فقد قامت تلك الإدارة بشن عدوانها من دون غطاء شرعي دولي، وكانت تتوهم أنها باحتلال العراق بسرعة نتيجة تفوقها التكنولوجي، تضع العالم أمام الأمر الواقع، فتحصل على التأييد ساعتئذٍ من خلال التلويح للأطراف الممتنعة بحرمانهم مما أصبح يُعرف ب«كعكة العراق». وهذا ما حصل في شهر أيار من العام 2003م. ولم يستمر الوضع أكثر من شهر واحد كانت فيه المقاومة الشعبية المسلحة، بقيادة حزب البعث، قد انطلقت وأثبتت جدارتها بسرعة قياسية لم يكن أحد يتصورها.
فانقلبت الموازين، بسرعة، وراحت الآلة العسكرية الأميركية تغرق في رمال العراق من خلال الضربات التي كانت توجَّه إليها من المقاومة العراقية. وقد ركزَّت المقاومة –استراتيجياً- على مفصلين مهمين، أو فلنقل مقتلين، وهما: إنزال الخسائر الفادحة في أرواح جنود الاحتلال من جهة، وتكبيد الخزينة الأميركية مئات المليارات من الدولارات من جهة أخرى، والحبل على الجرار.
أما على صعيد الخسائر البشرية، وهو المأزق الذي لم تحسبه تلك الإدارة، فقد بلغت –حسب الإحصائيات التي أعلنتها رابطة المحاربين الأميركيين القدامى- 48733 جندياً ما بين قتيل وجريح. وتلك الإحصائيات تتناقض مع ما أعلنته قيادة الاحتلال الأميركي عن سقوط 1500 قتيلاً حتى الآن. أما أسباب تعتيم الإدارة الأميركية على خسائرها الحقيقية فهو الحؤول دون معرفة الشعب الأميركي لتلك الحقيقة. وهو –بمجرد معرفتها- سيصعِّد من معارضته للاحتلال، وستزداد ضغوطه على إدارته لسحب الجنود الأميركيين من العراق.
أما الوسائل التي تعتمدها الإدارة الأميركية، في تقليل الخسائر، فهي كثيرة:
-أنها تعتمد في إحصائياتها على الجنود الذين يحملون الهوية الأميركية فقط. وحتى على هذا الصعيد فهي لا تعلن الأرقام الحقيقية لقتلى هذه الفئة.
وإذا علمنا بأن الإدارة الأميركية قد جنَّدت في صفوف جيشها عشرات الآلاف ممن أعطتهم وعوداً بتجنيسهم فيما لو شاركوا في القتال.
وإذا علمنا أن الإدارة تستعين بعشرات الآلاف من المرتزقة الأميركيين والبريطانيين ومن جنسيات أخرى، من الذين تجندهم «الشركات الأمنية الخاصة» لقاء أجور مرتفعة. والإدارة غير ملزمة بهم أو غير مسؤولة عنهم.
وإذا علمنا بأنها تعمل على «خصخصة الحروب» على طريقة اقتصاد السوق، أي تلزيم ساحات القتال للشركات الخاصة، التي تتولَّى مهمات العدوان على الدول التي تقع ضمن أهداف المشروع الأميركي الخبيث. وهي بالتالي تبتعد عن الارتهان للمشاعر الشعبية في أميركا. ولأنها غير مسؤولة عن الإعلان عن خسائرها البشرية كما تقتضي العقود التي توقعها مع تلك الشركات، تتبيَّن لنا أساليب الخداع التي تتبعها إدارة جورج بوش ووسائله للهروب من إعلان خسائرها البشرية الحقيقية.
أما حول خسائرها المادية، فتبدأ حكاية المغامرة الأميركية في العراق على قاعدة ما أعلنه أركانها والمخططون فيها إلى أن أميركا لن تتحمَّل سنتاً واحداً في نفقات الحرب، وكانوا يراهنون على احتلال العراق ليس لكي يغطي البترول العراقي تلك النفقات فحسب، بل إنه سيدر أرباحاً تُنفق لصالح الشعب الأميركي أيضاً.
أما بعد العدوان وإنجاز الاحتلال العسكري، فلم تدع المقاومة العراقية، التي انطلقت، في العاشر من نيسان من العام 2003م، مجالاً للاحتلال العسكري بأن يحقق أهدافه السياسية والاقتصادية. وهي قد أعلنت أنها ستلحق الخسائر البشرية في صفوف جنوده بما لا يدعهم يستقرون، وبما لا يدع الإدارة الأميركية قادرة على حماية أرواح جنودها من جهة، وبما لا يدع سلطات الاحتلال قادرة على نهب ثروات العراق النفطية من جهة أخرى. وهي بذلك قد أوقعت تلك الإدارة نهباً للطعن في خواصرها من قبل أوساط واسعة، شعبية ورسمية وسياسية، من الشعب الأميركي، وتزداد الصرخة الأميركية كلما أظهرت المعلومات حقيقة الخسائر بين الجنود. وكلما أحال جورج بوش طلبات أخرى بصرف عشرات المليارات من الدولارات من الخزينة الأميركية لتمويل نفقات الحرب الباهظة. وقد تجاوزت –حتى هذه اللحظة- المائتي وخمسين ملياراً من الدولارات. وهي لو خُصِّصت لخير البشرية لأنقذت مليارات البشر من الجوع والفقر. أو لو أنفقتها الإدارة الأميركية على تنمية الأوضاع الاجتماعية المزرية لعشرات الملايين من الأميركيين، لأنقذتها من الفقر والحرمان.
نتيجة هذا المأزق الحاد الذي تقف عليه إدارة جورج بوش، ولأنها لا تستطيع أن تتحمل كل تلك الخسائر بالروح والدولار، راحت تستنجد -تبعاً لنصائح كبار السياسيين الأميركيين، ومنهم كبار مجلسيْ النواب والكونغرس- بالدول الأخرى التي مانعت الحرب ضد العراق، من أجل الحصول على مساعدتها بالمال والرجال.
فهل تنجح الإدارة الأميركية –اليوم- بما فشلت فيه بالأمس؟
نحن على درجة من اليقين بأن نادي الدول الرأسمالية متفقون على «حلب» كل قطرة من اقتصاديات العالم النامي أو المتخلف لوضعها في خدمة مصالح شركاتها وبيوتاتها المالية. لكن هذا لا يعني أنها متفقة حول كل شيء، وإنما حقيقة الأمر أن مصالح تلك الدول تتضارب وتتناقض، بحيث تشكل نقاط انطلاق لتناقضات في المواقف السياسية. ولأن المشروع الأميركي الراهن، بصيغته التي ينفذها جورج بوش، لا ينظر لأية مصالح أخرى «خارج ذاته» وخارج مصالحه، فقد عكَّر صفو العلاقات بين أعضاء النادي الرأسمالي حول قضية العراق. وهكذا افترقت الصفوف إلى أن اكتشف أصحاب المشروع «اليميني الأميركي المتطرف» أنهم سيخسرون كل شيء: العراق بفعل من المقاومة العراقية وتأثير منها، وحلفائه الدوليين الذين أقصاهم عن الاستفادة من «كعكة العراق»، أُجبر على تغيير سياسته الدولية، كمدخل لاستكمال مشروعه في العراق. فأتى جورج بوش إلى أوروبا، في شهر شباط من العام 2005م، ليسوِّق استراتيجيته الجديدة وهو يعرف أنه متى أنهى المقاومة في العراق، سيستعيد استكمال «مشروع اليمين الأميركي المتطرف». فهل تقع الدول التي استقبلته في «فخ الخداع» أم أن الصورة الحقيقية غائمة أمامهم؟
تلك مرحلة جديدة من الاتجاهات الأميركية الخادعة التي غيَّرت فيها الإدارة الأميركية في تكتيكاتها السياسية، من دون تغيير في ثوابت مشروعها الإمبراطوري، لكي تعيد ترتيب العلاقات الدولية بما يساعدها على مواجهة مأزقها في العراق. وهي تواجه الآن المرحلة التكتيكية الجديدة بوسيلتين:
الأولى: المزيد من الضغط العسكري والأمني على المقاومة العراقية على الأرض العراقية.
أما الثانية: فتعمل فيها على الحصول على المزيد من الدعم السياسي، العربي والدولي، لتكبيل المقاومة العراقية بالمزيد من الحصار السياسي والإعلامي.
فعلى صعيد الضغط العسكري والأمني على المقاومة العراقية تقوم قوات الاحتلال بمواجهات شرسة في شتى محافظات العراق من حصار للمدن تمارس فيها -بعيداً عن أعين وسائل الإعلام-أقذر وسائل التنكيل بالأهالي، وتقوم باعتقال الآلاف منهم، كما تستخدم الأسلحة المحرمة دولياً، كتلك التي تم تصنيعها من اليورانيوم المنضَّب، والقنابل الانشطارية، والغازات السامة. وتلك الوقائع لم تتجاهلها منظمات حقوق الإنسان في تقاريرها ومنها منظمات أميركية الجنسية.
وفي المقابل تنشط المقاومة-في شتى محافظات العراق من دون استثناء وهذا لا يقلل من حقيقة أنها أكثر نشاطاً في محافظات الوسط. ونشاطات المقاومة توقع المئات من الخسائر البشرية في صفوف قوات الاحتلال، ومئات الآليات، ولا تنجو طائراته من الاستهداف والسقوط. وتلك الخسائر تحجبها قيادة الاحتلال عن أسماع الرأي العام وأنظاره لئلا تستثير الرأي العام الأميركي، وتستثير خوف العائلات الأميركية على أبنائها.
ومن الملفت للنظر أن تلك القوات أخذت -من أجل التقليل من خسائرها البشرية-تعتمد على قوات «الشرطة العراقية العميلة»، و«قوات الحرس الوطني»، و«قوات المرتزقة» التابعة للشركات الأمنية الخاصة. وغالباً ما تعلن وسائل الإعلام عن سقوط عشرات العراقيين قتلى مع إغفال انتسابهم ل«قوات الشرطة أو الحرس الوطني». وتلك اللعبة الإعلامية تهدف إلى تشويه أعمال المقاومة العراقية والتشويش عليها، لأن ما يعلق في ذهن المتابع البريء هو أن نتائج أعمال المقاومة تضر بالعراقيين وحدهم. أما حول سقوط قتلى في صفوف «المرتزقة» فليست قيادة الاحتلال ملزمة بالإعلان عن أعدادهم، وكذلك الجنود الذين التحقوا بجيش الاحتلال طمعاً بالحصول على الهوية الأميركية كشرط يرغمهم على الالتحاق بصفوف الجيش الأميركي للقتال في العراق. وهي تترك شأن القتلى من «المرتزقة» إلى الشركات التي جنَّدتهم. أما طالبو الحصول على الهوية الأميركية، فهي تتخلَّص منهم بالعديد من الطرق والوسائل، وقد أشارت إليها بعض وسائل الإعلام المحايدة. ومن تلك الوسائل دفنهم في الصحراء في مقابر جماعية، أو إلقاء جثثهم في مياه نهريْ دجلة والفرات. وقد اكتشف الرعاة وصيادو الأسماك العراقيون تلك الظاهرة، لكن لم تهتم بها وسائل الإعلام ولم تعرها انتباهاً.
أما مرحلة الهروب السياسي إلى الأمام، والتي تزعَّمها جورج بوش بنفسه -مدعوماً بحذاقات وزيرة خارجيته كوندوليزا-فقد اتَّجهت نحو أوروبا بحيث وزَّع فيها الرئيس الأميركي آلاف الابتسامات ليوحي بنجاح مهمته التي قام بها تحت شعار «إن الخلافات مع أوروبا -حول الحرب ضد العراق- قد أصبحت من الماضي». وبما في ذلك الشعار من إيحاء بتخويفنا، نرى أن جورج بوش لم يحصل على النتائج التي توخاها من جولته الأوروبية. وهنا لن نبني استنتاجنا على معلومات بل على مكاييل الثوابت في كل من المشروع الأوروبي والمشروع الأميركي.
لقد حصل جورج بوش على إجماع أوروبي فيما له علاقة بالتحريض ضد سوريا حول الملف اللبناني. ومن يتابع يلفته إعلانات شتى أوساط الأنظمة الرسمية في أوروبا بدعوة سوريا للخروج من لبنان. وما نريد أن نلفت إليه هو ما لم يعلنوه. وما لم تعلنه تلك الأوساط الرسمية –باستثناء طوني بلير-أي شيء عن العراق. وهذا ما يفسر أن النظام الرسمي في أوروبا –تحت ضغط أصحاب الشركات الأوروبية الخاصة-أمل أن يقدِّم شيئاً لرئيس الإمبراطورية الصناعية في العالم لعلَّ أصحاب الشركات الصناعية والتجارية الأوروبية يحظون بفرصة عقد هنا أو هناك.
أما عن الموقف السياسي الأوروبي من القضية العراقية، ولأنه كان محجوباً عن الإعلام، فلا نحسب أنه خضع لأي تغيير. وإن الحماسة التي أبداها ممثلو النظام الرسمي الأوروبي، في ملفيْ فلسطين من جهة، والملف السوري –اللبناني من جهة أخرى، لا تُنبئ بأن تغييراً ما قد حصل في الموقف السياسي الأوروبي من الملف العراقي. وهنا يُطرح السؤال التالي:
لماذا أبدى النظام الرسمي الأوروبي حماساً بالنسبة للملفين الفلسطيني، والسوري – اللبناني؟
لقد أقصت الإدارة الأميركية -باستسلام من دول النظام العربي الرسمي-أوروبا عن أي ملف شرق أوسطي لتبقى اللاعب السياسي الوحيد في تلك المنطقة، بما يعنيه احتكاره من نتائج مستقبلية على احتكار سلة المصالح الاقتصادية. ولهذا كانت الإدارة الأميركية تمانع في إعطاء أي دور للاعب أوروبي، بما فيهم فرنسا التي فرضت نفسها في دور واحد في لبنان، وهو اتفاق تفاهم نيسان من العام 1996م، فيما له علاقة في ملف الصراع اللبناني –الصهيوني. ولأن ليس في هذا الدور ما يعزِّز الموقع الفرنسي، كانت فرنسا تضع عينها على أول فرصة تعمل على التقاطها من أجل الحصول على موقع قوي. ويبدو، من سياق الأمور، أنها التقطت فرصتها الأولى في الملف اللبناني – السوري. تلك الفرصة كانت ممنوعة عنها، بحيث كان الراعي الأميركي يحول دونها والحصول عليها. والسبب معروف. أما لماذا ارتضى المشروع الأميركي إشراك فرنسا بهذا الملف، ولماذا وافقت فرنسا –الممانعة للمشروع الأميركي في العراق-بأن تتشارك معه في هذا الملف؟
إن حرارة فرنسا وشوقها، للحصول على موقع في الوطن العربي، وجدت جاذباً لها في البوابة اللبنانية لما لتاريخية العلاقات الفرنسية -اللبنانية من تأثير. ولما كُسر الحظر الأميركي عن ذلك الدور، نحسب بأن فرنسا قد شعرت بأنه من الخطأ أن تفوِّت فرصة تاريخية قلما يجود بها الكرم الأميركي. وغطست فرنسا، موحية وكأنها تقدِّم تنازلات للأميركي في الملف العراقي، ونحسب أن في هذا الاستنتاج ما يتناقض مع أسس الخلاف الفرنسي -الأميركي حول العراق.
أما الحرارة التي غلَّفت الكرم والعطاءات الأميركية التي لم تجود بها في السابق، لأي نظام أوروبي، فالجواب عنها يأتي من حقيقة مأزق إدارة جورج بوش في العراق. وهي تأتي تحت غلاف هروب الإدارة الأميركية من ذلك المأزق لصناعة بؤر توتر أخرى في المنطقة، بحيث تحصل منها على مكسبين: الأول، بما تثيره غبار فتنة أخرى في المنطقة من تعتيم على ما يجري في العراق. بحيث تجذب الأنظار عن تناول جرائمها الجديدة التي تنفذها في مدن المنطقة الوسطى في العراق، وبما يحوِّل الأنظار عن خسائرها البشرية والمالية التي تتصاعد يوماً بيوم.
أما الثاني، فهو من قبيل الضغط على سوريا كآخر بوابة منفتحة باتجاه العراق من دول الجوار. وكما يظهر أنها لم تنفِّذ كل الإملاءات التي حملها إليها كولن باول في السابع من أيار من العام 2003م.
ومن أجل كل ذلك، وعلى قاعدة «تجفيف المستنقع» لمنع حصول المقاومة العراقية على أية بوابة تؤمن لها استقواء بالجدار العربي، تقوم إدارة الشر الأميركية بتجفيف آخر قطرة من مياه الجوار الجغرافي للعراق من خلال البوابة السورية.
ومن أجل تحقيق نجاح لهذه الخطة قامت إدارة الشر الأميركية بتقديم تنازلات شكلية لأنظمة أوروبا الرسمية، في لبنان وفلسطين، من أجل الحصول على مقابل في الضغط على سوريا. وهي توحي من أجل إغراء السلطات السورية بأنها عازمة على فتح بوابة التفاوض بين سوريا والعدو الصهيوني. ولم تكتف إدارة جورج بوش بطلب الحصول على تأييد أوروبي في تلك المسألة، بل جنَّدت كل مفاصل القوة في النظام العربي الرسمي من أجل استكمال طوق الحصار المفروض على سوريا. وما دور كل من مصر والسعودية وقطر، حيث يبدو أن «صبرهم قد نفذ» قبل صبر جورج بوش، إلاَّ أداة تصب في مصلحة الإمبراطور الأميركي.
إن مقارنة بين مشهد ما قبل العدوان الأميركي على العراق، بتاريخ 20 آذار/ مارس من العام 2003م، الذي قام به الوسطاء العرب بتمثيل دور الناقل للتهديدات الأميركية ب«الويل والثبور، وعظائم الأمور» يكرر نفسه الآن. ولكن الناقل لم يتغير، ومضمون التهديدات لم يتغيَّر، ولكن التغير كان في «المنقول إليه».
لقد رفض العراق تهديدات جورج بوش، وطوني بلير، وكل «الناقلين العرب»، ولم يرضخ لتسليم إرادة القرار الوطني العراقي للإمبراطور الأميركي. ولم يُسلِّم بالتنازل عن الكرامة الوطنية، على الرغم من معرفته بأن العدوان حاصل. فالعراق يعرف أن الاحتلال واقع سواء رضخ للإملاءات الأميركية أم قاوم ذلك الرضوخ، فاختار الانتصار للكرامة الوطنية مستنداً إلى إرادة العراقيين في القتال، وهذا ما حصل فعلاً، وكان الخيار العراقي صائباً لأنه يمرِّغ –الآن-أنف أميركا في وحل الهزيمة والذل.
***

(12): الرئيس الفرنسي يعود إلى المنطقة العربية على الحصان الخطأ
13/ 3/ 2005م
كان «جاك شيراك»، الرئيس الفرنسي، أول من كشف مخطط «اليمين الأميركي المتطرف»، برئاسة جورج بوش، فتولى قيادة محور الممانعة في وجه المخطط الأميركي الزاحف إلى العالم عبر البوابة العراقية. وفي خطوته، تلك، استقطب احترام الضمير العالمي الذي ملأت مظاهره، وتأثيراته، شوارع العالم بملايين من الشعوب الغربية، التي هتفت في وجه «جزار البشرية»، جورج بوش وأركان إدارته. وأسقطت تمثاله في شوارع لندن، وطالبت بإسقاط مشروعه، ودعته إلى سحب «مرتزقته» من العراق.
ولأنه كان عارفاً كل وسائل الخبث والخداع الأميركي، صمد الرئيس الفرنسي أمام تهديدات جورج بوش، والماريشال رامسفيلد، واتهامهما ل«فرنسا» بالعجوز. وظلَّ صامداً على مواقفه حتى عندما أقفلت الشركات الأميركية الكبرى أبوابها في وجه عروض الشركات الأوروبية ومناقصاتها. وحرمتهم من عقود «إعادة إعمار العراق»!! بعد أن دمَّرته عصابات المرتزقة واللصوص بقيادة القوات الأميركية وإشرافها.
وكانت قد تراكمت –قبلها- عمليات إبعاد «فرنسا السياسية»، مع الكثير من الدول الأوروبية عن مسرح المنطقة العربية، ومنعت عنها لعب أي دور سياسي في قضايا المنطقة الساخنة، خوفاً من الوصول إلى ضفاف بحر النفط العربي وضفاف بحر الاستهلاك العربي.
ولكن كل الأبواب المقفلة لم تدفع بفرنسا خاصة وأوروبا عامة إلى اليأس، وفقدان الصبر، فقد كانت تراهن على متغيرات ما قد تحصل في المنطقة لتستعيد نفوذها وصداقاتها، وبهما تستعيد دورها الاقتصادي من جديد. ولكن، على الرغم من الصمود التاريخي، ظهر –ومنذ أوائل العام 2004م- أن صبر جاك شيراك قد نفذ. والاستغراب من هذا النفاذ هو أن الرئيس الفرنسي الذي كان يستعين على صبره بالرؤية الاستراتيجية لمستقبل أفضل وأثبت للعلاقات العربية الأوروبية بعد أن يُسقط الرفض العربي الشعبي مشروع «اليمين الأمريكي المتطرف»، بدا أنه فاقد الصبر. ويبدو أنه التقط فرصة ظنَّ أن عليه التقاطها في الوقت المناسب وهو خائف أنها لن تتكرر مرة أخرى. أما تلك الفرصة فهي تلك التي لوَّح بها جورج بوش للأوروبيين من أجل الحصول على مساعدتها لإنقاذه من مأزقه في العراق. ففي محاولة منا سنحاول التقاط بعض جوانب تلك الفرصة لعلَّنا نلتقط معنى حقيقياً للأسباب التي من أجلها أفسح جورج بوش فرصة أمام الأوروبيين للعودة إلى المنطقة العربية، والتي جعلت الرئيس الفرنسي يمتطي صهوة «الحصان الأميركي» في العودة.
ففي تاريخية العلاقات الأميركية - الأوروبية نقرأ معاناة النظام الرسمي الأوروبي من صده ومنعه عن الدخول إلى المنطقة النفطية على الأرض العربية. وقد أصبح حلم العودة صعباً ومملؤاً بالعوائق والموانع الأميركية. فكانت تلك العوائق التي غرسها الاستفراد الأميركي بداية نهاية النفوذ الأوروبي في المنطقة. وكانت أسبابها معلَنة، وجاءت كما شخَّصها ريتشارد نيكسون، الرئيس الأميركي الأسبق، كاتباً: « بعد الحرب العالمية الثانية، كان الشرق الأوسط، منذ زمن بعيد، يشكِّل ملتقى للطرق المودية إلى آسيا وأفريقيا وأوروبا، وأصبح نفطه الآن دم الحياة الذي يسري في عروق الصناعة الحديثة. كما أصبحت الآن، أكثر من أي وقت مضى، مسألة من يسيطر على ما في الخليج العربي والشرق الأوسط تشكل مفتاحاً بيد من يسيطر على ما في العالم». وعلى خطى تلك الاستراتيجية سارت كل الإدارات الأميركية، ولا تزال مستمرة منذ نصف قرن حتى اليوم.
استفاق جاك شيراك، الرئيس الفرنسي، فجأة على دعوة من جورج بوش، الرئيس الأميركي، التي أعطى موافقة فيها على عودة أوروبا عامة، وفرنسا خاصة، إلى المنطقة النفطية من بوابتيْ فلسطين ولبنان. فرأى أنه من الخطأ أن يفوِّت تلك الفرصة. ولأننا لا نتوهَّم بأن تتخلَّف الرأسمالية، أياً كان لونها أو جنسها، عن ملاحقة مصالحها، فلن نلوم النظام الفرنسي بأن يلاحق مصالحه، كلما لاحت له فرصة مناسبة. ولكن هل الفرصة التي التقطها الرئيس الفرنسي هي تلك الفرصة المنشودة، والخالية من غلاف الفن الأميركي في الخداع؟
هنا نريد أن نضع تصوراً ننصح به فرنسا «البلاد التي صدَّرت مبادئ الديموقراطية إلى الثقافة العالمية الحديثة عبر ثورة العام 1789م على ظلم الكنيسة والإقطاع والملكية» لنبرهن فيه على مواطن الخلل التي تسير عليها الخطى الفرنسية نحو المنطقة من جهة، وتؤشر على المنزلقات الخطيرة التي تسهم فيها فرنسا في قيادة المنطقة نحوها من جهة أخرى.
بداية نعتقد بأن الرئيس الفرنسي اعتمد، في «إعادة دخول» فرنسا إلى المنطقة، على مرتكزين أساسيين:
الأول: الفرصة التي أتاحها الرضى الأميركي لمثل ذلك الدخول. تلك الفرصة التي كانت ممنوعة عليها منذ العدوان الثلاثي على قناة السويس في العام 1956م.
الثاني: الاستفادة من علاقات الصداقة القديمة التي تربط فرنسا «الانتداب» مع تيار من اللبنانيين. وتعزَّزت بعد خروج بعضها إلى اللجوء إلى خارج لبنان.
الأول: الفرصة التي أتاحها الرضى الأميركي، وكانت محجوبة منذ العدوان الثلاثي على قناة السويس في العام 1956م.
أما بالنسبة إلى الفرصة التي أتاحتها الإدارة الأميركية فليست مرتبطة بقناعة بتطبيق مبدأ العدالة والمساواة في المصالح بين أعضاء نادي الدول الرأسمالية، بل هي حاجة ضرورية لإدارة مشروع «اليمين الأميركي المتطرف». وتبدأ حكاية غيرة أصحاب المشروع على توزيع العهود والعقود لأوروبا، ومع أوروبا، وعلى رأسها فرنسا، إلى متغيرات تكتيكية كان لا بدَّ لها من أن تحصل نتيجة عوامل عدة، ومن أهمها:
-فشل الإدارة الأميركية في السيطرة على العراق بعد انطلاقة المقاومة الوطنية العراقية.
-وثانيها الضغط الذي مارسته -على إدارة جورج بوش- أوساط سياسية واسعة من نخب أصحاب المشروع ذاته في داخل الحزب الجمهوري الحاكم، ناهيك عن نصائح نخب الحزب الديموقراطي، بحيث أجمعت النخبتان على تحميل إدارة جورج بوش مسؤولية التقصير في الحصول على إجماع دولي لعدوانها على العراق. ووصفته بأنه تقصير متعمَّد لأنه منطلق من عنجهية الإدارة الأميركية الحالية وغرورها اللتان دفعتا بها إلى مغامرة في العراق من دون حماية شرعية دولية.
ولما كانت الإدارة الأميركية قد أصمَّت أذنيها ضد تلك النصائح في بداية أيام العدوان على وقع انتصاراتها النظامية على الأرض، خاصة وأنها أنجزت الاحتلال بالتوقيتات التي حددتها غرفة العمليات في البنتاغون. أما بعد إنجازها فراحت تهدد «فرنسا العجوز» وتتوعدها من جهة، وتسفِّه الدعوات الأميركية، الناصحة لها بالاحتماء بجدار من الشرعية الدولية من جهة أخرى. ولما تصاعدت أعمال المقاومة العراقية وظهرت نتائجها في تدفيع الاحتلال خسائر جسيمة في أرواح جنوده واستنزاف لموازنة الخزانة الأميركية، «راحت السكرة، وعادت الفكرة» إلى إدارة جورج بوش، فأعادت حساباتها واقتنعت بالنصائح التي كانت قد رفضتها قبل أقل من عامين. وقرَّرت إحداث تغييرات في تكتيكاتها، بما لا يؤثِّر على خطتها الاستراتيجية في احتواء العالم والسيطرة عليه، فدخلت من خلال البوابة الفرنسية وهي تعرف شهية الشركات فيها وشوقها للعودة إلى الأسواق العربية. فأغدقت الوعود ووعدت بالعقود. فوقعت الإدارة الفرنسية في أفخاخ الخديعة الأميركية، وراحت تمالئها وتتودَّد إليها. وقد وصل الأمر بوزيرة الدفاع الفرنسية إلى الإعلان أنها مرتاحة لعودة الدفء إلى العلاقات الفرنسية – الأميركية متناسية أن جورج بوش أدخل العالم إلى نار جهنم، كما صرَّح رئيسها قبل أشهر. فهل نار جهنم تحوَّلت إلى نار الجنة لتنعم الوزيرة الفرنسية بدفئها؟
تأكَّد أن الإدارة الفرنسية قد خُدعت منذ اللحظة التي صاغت فيه فرنسا وأميركا القرار (1559). فكان ذلك القرار يمثِّل أول شراكة سياسية أميركية – فرنسية تجاه المنطقة. ولأننا نعتبر أن القرار المذكور هو استئناف للقرار (1546) الخاص بالعراق، ولسنا ندري هل نوايا فرنسا ومواقفها الممانعة، سابقاً، ضد احتلال العراق قد لحستها، أم أنها تحاول فصل المسارين العراقي – (السوري – اللبناني). ولأنه لا مظاهر محسوسة تدل على تغيير تلك المواقف، فلن نقف عند دلالات خطورتها فيما لو حصلت.
لكن، ولأننا نعلم أن المخاطر تحيط بمصالح فرنسا نتيجة مشاركتها بإصدار القرار (1559) من جهة، ولأنها لا تصب في مصلحة لبنان فحسب، بل تستأنف أزمة داخلية لم يمض على انتهائها زمن طويل أيضاً، من جهة أخرى، سنحاول –في الفقرات الآتية-أن نفسِّر الأمور أمام الرأي العام الفرنسي واللبناني.
بداية، لن نعطي دروساً للرئيس الفرنسي، الذي أثبت أنه يرى مصالح فرنسا من منظار استراتيجي في خلال مناقشة القضية العراقية قبل العدوان على العراق، ولكننا نوجِّه أنظار أوروبا عامة وفرنسا خاصة، أننا من داخل الحركة الثورية العربية لا ننظر للعلاقات بين الدول بمنظار رومانسي بل كعلاقات مبنية على قاعدة المصالح الاقتصادية، لكن على أن تكون تلك القاعدة مؤسسة على قيم العدالة والاحترام بين الدول. ونؤمن -أيضاً-بأن كل العلاقات التي تنبني على غير تلك الأسس ستُلغيها نضالات الشعوب التائقة للتحرر. فالعلاقات القائمة بين الدول تصبح أكثر ثباتاً واستمرارية إذا كانت تلبي مصالح الشعوب وعلى أن تكون قائمة على أسس العلاقات الإنسانية. أما تلك المؤسسة على قاعدة مصالح المؤسسات الرأسمالية فهي عرضة للاهتزاز والانهيار في أي وقت تنخرط فيه الشعوب في الدفاع عن مصالحها. ولا يغيب عن بال الرئيس الفرنسي أن عصر المقاومة الشعبية قد أصبح إيديولوجية ثابتة لحركات التحرر العالمية، في مواجهة الآلة العسكرية النظامية، التي انطلقت من الوطن العربي وراح يقطف ثماره ولا يزال.
فإذا كان على الرئيس الفرنسي أن يغلِّب مصلحة فرنسا فهو يخطئ عندما يقيس تلك المصلحة على موازين مصالح الشركات الفرنسية الكبرى. ونحن ندعوه إلى العودة لسماع رؤية الحركات والتيارات التحررية الفرنسية، وننصحه بأن لا يغفلها، فهي قد حدَّدت اتجاهاتها ووقفت في الموقع المضاد لمشروع «اليمين الأميركي المتطرف». ونحن في دعوتنا له لا يحدونا أي وهم أو «رومانسية»، إذ يكفي أن يستعيد، الرئيس الفرنسي، ذاكرة فرنسا التاريخية، فرنسا التي تحررت -في العام 1789م-من قوة الرأسمال الاقطاعي والكنسي والملكي. فمضامين الثورة الفرنسية لم تنتصر -في ذلك الوقت- إلاَّ لأنها انحازت إلى مصلحة الشعب الفرنسي وثار ضد مصالح الطبقات المهيمنة عليه سياسياً، والمنتفعة من جهده الانتاجي في بناء الثروة الوطنية الفرنسية.
إستناداً إليه نرى أن الرئيس الفرنسي، في محاولة استعادة دوره في الوطن العربي، ركب الحصان الخاطئ: الحصان الأميركي الذي خُدِع بمصداقيته، ودلائل ذلك الخداع تتمثَّل بأنه بعد أن يتمكَّن –وهو لن يتمكَّن- في تثبيت أقدامه في قلب منطقة البترول وعلى أطرافها سيرمي فرنسا إلى حافة التاريخ من جديد. أما الحصان الثاني فهو حصان الشركات الفرنسية والأوروبية الكبرى التي لن تنتصر له إلاَّ بمقدار ما يُذعن لتأمين مصالحها، التي نعمل من أجلها حتى لو كانت تصب خارج إرادة الشعب الفرنسي التواقة نحو تعميم مبادئ الحرية والعدل والمساواة بين أفراد الشعب الفرنسي من جهة، وبين فرنسا والعالم الآخر من جهة أخرى.
الثاني: الاستفادة من علاقات الصداقة القديمة التي تربط فرنسا «الانتداب» مع تيار من اللبنانيين.
لو كانت تلك العلاقات السابقة قائمة على قاعدة وطنية شاملة لما كنا قد رفعنا صوت الاعتراض على مثل تلك العلاقات. ولكن لأنها مبنية على ذهنية ما قبل نظام المتصرفية في جبل لبنان نرى أنفسنا ملزمين بتوجيه الأنظار إلى خطورة مثل هذا التحالف على كل من مصالح فرنسا ومصالح لبنان معاً.
لا نحسب أن ثقافة الرئيس شيراك خالية من حقائق العلاقات اللبنانية الفرنسية قبل تشكيل «نظام المتصرفية في جبل لبنان»، وأثناء تشكليه، وبعده. وإذا كنا نعيد التذكير –كما نفعل في مقالنا- فإنما الهدف هو أن ننذر مما يُحاك للبنان في القرن الواحد والعشرين.
كانت القواعد التي انبنت عليها فلسفة «نظام المتصرفية»، في العام 1860م، قائمة على تلاقي مصالح قسم من اللبنانيين مع مصالح بعض القوى الخارجية. فأما اللبنانيون فشعروا أن هروبهم من الأخطاء التي كانت تمارسها سلطات النظام العثماني يشكل مخرجاً سليماً لهم. وهم حينما اتخذوا قراراهم لم يكونوا على دراية بأنهم سيكونون بمنجى عن خطر آخر ينتظرهم وهو تكريس مبدأ الطائفية السياسية التي لا تنظر بعين الاهتمام لحدود الوطن الجغرافية أو السياسية أو السيادية من جهة، والوقوع بين أيدي «ديكتاتورية الأطماع الخارجية» من جهة أخرى. أما الفلسفة التي تستند إليها الأطماع الخارجية فتقتضي بناء ركائز شعبية محلية تساعدها –بحكم الحاجة للحماية- على تثبيت أقدامها العسكرية والسياسية والأمنية كشرط أساسي لممارسة النهب الاقتصادي للثروات الوطنية لتصب في مصلحة الطبقات الرأسمالية لتلك القوى الخارجية.
لذلك كانت العودة الفرنسية إلى لبنان على صهوة حصان «الطائفية السياسية»، وعليها أن لا تنخدع بالتلاوين الطائفية لمؤيدي القرار (1559). أما الخديعة الكبرى في تلك التلاوين فهي المراهنة على أن تكون الطائفية مركب صحيح لتعود الديموقراطية على متنه. وذوو المنطلقات الطائفية لن يكونوا ديموقراطيين إلاَّ بالقدر الذي يأكلون فيه من جرف الطوائف الأخرى. وإذا كانت فرنسا ال(1789م) تعمل على العودة إلى لبنان عبر بوابة الطوائف فهي ستكون شريكة أساسية في تفسيخه وتفتيته. وكنا نتمنى على «فرنسا» التي نخاطبها أن تنصح أصدقاءها في لبنان للحوار على قواعد وطنية، لا أن تعمل على إشعال فتيل الفتنة الطائفية في سبيل أن تنال حصة منقوصة لها في لبنان، بدلاً من أن تكسب لبنان كله. وهنا، لا نستند في نصحنا على أوهام، فحبذا لو قرأ الرئيس الفرنسي خطابات التعبئة والتحريض التي تنتشر في لبنان الآن، وهو باستطاعته أن يحصل من مصادره الموثوقة على حقيقة الوضع السائد في هذه اللحظة الراهنة. ولو فعل ذلك –وعليه أن يفعله- لوجد أن اتجاهات مرحلة الاحتقان تقود لبنان إلى إنشاء «متصرفية» جديدة تحتمي فيه الطوائف اللبنانية بعوامل خارجية على حساب وحدة لبنان وسيادته وهذا ما يتنافى مع تقاليد فرنسا التي طلَّقت كل أنواع الاستعمار الاحتلالي والاستيطاني.
إن الرئيس الفرنسي، يعرف أكثر من غيره أن قواعد اللعبة الرأسمالية العالمية تقتضي أن يبلع «الحوت الكبير» كل «الأسماك الصغيرة»، أو فلنقل كل الأسماك الأقل قوة منه. واستناداً إليه نحذِّره من أن «الحوت الرأسمالي الأميركي» يستغل «السمك الفرنسي» ويستفيد منه في تجميع «الأسماك اللبنانية» فيلتهمناها معاً، ومن بعدها يأتي دور «السمك الفرنسي» فيصطاده من دون أية مقاومة.
وهنا نرى أنفسنا ملزمين أمام حركة التحرر الفرنسية التي تعي بعمق أهداف مشروع «اليمين الأميركي المتطرف» أن نحذِّر الرئيس الفرنسي من أنه سيترك بعد «مغامرته» بالانخداع ب«ابتسامات» جورج بوش التي وزَّعها بسخاء في العواصم الأوروبية من أنه سيترك عبئاً ثقيلاً للشعب الفرنسي عليه أن يعالجه ويكافح ضده ويتمثَّل بالآتي:
الأول: تشويه وإعادة تشويه حركة التحرر العربية، ومنها في لبنان، بإعادة بناء النظام اللبناني خاصة، والنظام العربي الرسمي عامة، على قاعدة الطائفية السياسية التي كافح الشعب الفرنسي لمئات من السنين ضدها.
الثاني: إقواء مشروع «اليمين الأميركي المتطرف» بعد أن تأكدت معالم هزيمته في العراق على أيدي المقاومة الوطنية العراقية.
وهنا نعيد التأكيد، على أن انطلاقة المقاومة العراقية قد خلَّصت الدول والأنظمة الممانعة للمشروع الأميركي، والتي وجدت فيه تلك الدول أساساً لإنقاذها من «الحوت الأميركي»، تبقى هي الحقيقة الأكثر سطوعاً والأكثر تأثيراً في خلاص العالم من «الأمركة». كما ننصحه بأن تأثير النظام العربي الرسمي آخذ في الزوال، كما أن الطائفية لن تبقى ممراً ل«الاستقواء» بالخارج فالحقائق الوطنية والقومية تبقى الأكثر ثباتاً. وهي، على الرغم من المظاهر الخادعة التي تطفو على السطح، تحفر خنادقها وأسسها في الأرض العربية. وتلك هي الحقائق التي يرفض الرأسمال العالمي النظر إليه، لأنه لا ينظر إلى أية حقيقة «خارج ذاته»، لكنها –على الرغم من ذلك-هي التي تبدو الحصان الرابح في المستقبل.
ولأن المقاومة الشعبية آخذة في تعميق نفسها، والبرهان على أنها الحصان الأبيض الذي يسلك الشعب العربي -على صهوته- طريق التحرر، نرى أن على الرئيس الفرنسي أن يسلك طريق تأييد هذا الخط ويراهن على جديته وتأثيراته ونتائجه، لأنه لن يخسر حتى لو خسرت شركاته –مؤقتاً-بعض العقود مع شركات جورج بوش ورامسفيلد وديك تشيني.
وهنا لا بدَّ من أن نسدي النصيحة الأخرى، وهي ليست الأخيرة، بأن ركوب الرئيس الفرنسي لحصان الطائفية في لبنان هو الحصان الخطأ. وعليه أن لا ينخدع بما رآه –إعلامياً- لأنه قد يغرق في المأزق اللبناني، وهنا لن تستطيع إدارة جورج بوش من إنقاذه، لأنها لا تريد له إلاَّ أن يغرق، فيصبحا متساويين في الغرق. فليس للإدارة الأميركية ما تخسره الآن فهي غارقة تحاول الخلاص بواسطة القشة الفرنسية، ولن تفلح، فإذا نجحت ستستفرد بحكم العالم، وإذا غرقت السفينة الأميركية فلن تأسف إدارة جورج بوش على السفينة الفرنسية.
***

(13): «نيرون» أميركا يحرق العالم ويتفرَّج عليه
11/ 3/ 2005
يروي تاريخ «نيرون»، إمبراطور روما في أواسط القرن الميلادي الأول، أنه كان يشارك بتمثيل المسرحيات، والعزف على الناي والأرغن. وكان النظارة من الرومان يغتبطون إذ يشاهدون إمبراطورهم «يُعنى بتسليتهم، ويركع على المسرح أمامهم، ويطلب إليهم أن يصفقوا له حسب مألوف عادتهم». ومن كثرة إنفاقه أفقر خزانة الدولة. وأحاط نفسه بطائفة من قرناء السوء ذوي الغلظة والفظاظة.
لم يجد «نيرون» في روما إلاَّ العيوب. ولأنه كان ينظر إلى نفسه على أنه إله وفنان، أو هكذا كان شيوخ روما يرونه ويخاطبونه، كان يحلم بإعادة بناء روما من جديد ليسميها «مدينة نيرون». ويُقال أن إحراق روما لم يكن بعيداً عن فعل يديْ «نيرون». ولكي يدفع التهمة عن نفسه ألصقها بطائفة من المسيحيين من الذين يحقد الشعب عليها. فعثر على جماعة من الفجَّار والسفلة، وأغراهم على أن يعترفوا بأن تلك الطائفة هي التي أشعلت النار في المدينة. وأُدين أفرادها بتهمة أنهم يكرهون الجنس البشري كله. واستخدم «نيرون» في إعدامهم أفانين من القسوة المتناهية، ومنها أنه تركهم للكلاب لكي تلتهمهم، وصلب البعض، ودفن البعض أحياء، ودهن أجسام البعض الآخر بالمواد الملتهبة وأُشعلت فيها النيران.
ونظَّم «نيرون» مدينة روما –بعد إحراقها-على الشكل الذي كان يحلم به. وازداد إسرافه وكثر ظلمه وكثرت أخطاؤه، فثار الشعب عليه. فهرب خائفاً. وأمام ما سمع من قسوة الوسائل التي ستُتَّبع في تنفيذ الحكم بإعدامه الذي أصدره «مجلس شيوخ روما» فضَّل الانتحار. فطعن نفسه بخنجر في «حلقه»، ولكن يده اضطربت، فساعده أحد معاتيقه على أن يدفع «سن الخنجر إلى نهايته». وهكذا مات «نيرون»، الإله – الفنان، غير متَّعظ بمن سبقه من أباطرة العالم.
لم يكن «نيرون» روما هو الأول من أمثاله في التاريخ، ولن يكون آخرهم. فنيرون موجود في كل العصور، طالما أن لدى النخب في المجتمعات طموحاً ببناء إمبراطوريات تسخِّر شعوبها، والشعوب الأخرى، من أجل مصالح بذخها وملذاتها. كما أنه ليست نهاية أي «نيرون» آخر بأفضل من نهاية «نيرون» روما.
وعلى خطى «نيرون روما» يسير «نيرون واشنطن» مع فارق وحيد. فإذا كان «نيرون الأول» قد أحرق روما، كعاصمة للإمبراطورية الرومانية ليعيد بناءها على الأنموذج الذي يُرضي ساديته، فإن «نيرون الثاني»، أحرق «ناطحات السحاب في نيويورك»، كما برهن الكاتب الفرنسي «تييري دي ميسان» كفاتحة تبرر له «إحراق العالم» ليبنيه على الأنموذج الذي يُرضي سادية أصحاب أكبر إمبراطورية صناعية في العالم. فتتكاثر ملياراتهم، ويزداد ترفهم وبذخهم، ويشبعون –حتى التخمة- من دعاراتهم وفسقهم فتزداد شهيتهم لامتصاص دماء الشعوب حتى آخر قطرة.
وهكذا تبتدئ حكايات الإمبراطوريات الكبرى في التاريخ، تلك الإمبراطوريات التي تقوم على إيديولوجيات الطبقات الاقتصادية، فتستعبد الشعوب، وتلقى مباركتها، وتجد من يركع أمام أباطرتها تستجدي منه النعمة، وتسبِّح بحمده، وتشكره لأنه إله يستحق العبادة. فعصاه قادرة على التأديب، ولأن كلمة منه إما أن تحمل الحياة أو تحمل الموت. وسلطانه لا يُقهر، وهو القاهر الوحيد الجبار، من يستطيع أن يأمر غيره، ومن يستطع أن يرهب الآخرين غيره؟
يا «نيرون أميركا»، يا ملهم العالم وآمره. يا آمر ال«حلف الأطلسي». ويا قاهر «حلف وارسو». أيها الجبار العنيد، من مثلك يستطيع أن يوزِّع هبات «الديموقراطية» غيرك؟ من يستطيع أن يعزف على الأرغن أمام الجماهير الشاخصة، بآذانها، إليه؟ من يستطيع غيرك، إذا عزف على أرغن الدولار، على أن يُضحك عبيده؟
لا تتخلى يا «نيرون واشنطن» عن النظر إلى عبيدك، وعتقائك، بعين الرأفة. من غيرك يستطيع أن يوزِّع البسمات يميناً وشمالاً لكي يُطمئن قلوب الخائفين الخاشعين من رهبته؟ من يستطيع أن يوزِّع الضحكات فتصل صداها إلى أوروبا تارة وإلى الشرق الأقصى تارة أخرى؟ من يتجرأ على أن يقول أن بسمتك ليست إلاَّ عطفاً ورأفة بعبيده؟ في يدك الاستعباد، وبيدك العتق. أنت من تسمح للعالم أن يكون حراً، وبدون نشرك للديموقراطية عبثاً يكون جهد الآخرين. برضاك يمر «الجمل الديموقراطي» من «سُمِّ الإبرة»، وما لم تضع إمضاءك الكريم عليه لا يمكن أن يكون ديموقراطياً. فسبحانك يا «إله الديموقراطية» ما أعظم شأنك.
يا «نيرون واشنطن»، أيها الشاغل على مسارح أميركا وأوروبا. لقد استعرت «أرغن نيرون روما»، ونايه. رحت تنتقل من مسارح نيويورك إلى مسارح أوروبا، لكي تثلج قلوب «النظارة» في أميركا وأوروبا وهم يرون «إمبراطورهم يُعنى بتسليتهم»، فيأسرهم بابتساماته التي يوزعها يميناً ويساراً، لينتزع منهم التصفيق الحاد. أليس هذا ما كان يفعله «نيرون روما» متنقلاً –بعد إحراق مدينته-بين اليونان وبينها؟
لم يفكر «نيرون روما» أن أحداً من مواطنيه، وعلى رأسهم مجلس الشيوخ في روما، سيتجرأ على إمبراطوره «الإله الفنان». فراح يعيث فساداً وقمعاً. وكانت الأنظار ترنو إلى «نيرون الإله» لتحظى بنظرة إلى وحهه. وكانت الألسن تتسابق في الثناء عليه بالحمد والشكر طالبة الغفران من جبروته. وتتسمَّر «الدمى» في مقاعدها حتى ينتهي إمبراطورهم من «معزوفته» حول الديموقراطية، فيسبِّحون بإنسانيته، ويشكرونه على عطاءاته.
أنت غارق –اليوم- يا «نيرون واشنطن» في أحلام «نيرون روما». بين يديك الخصيان والعبيد، القريبين منك والبعيدين. ومن يلومك على تأديب هذا، أو تعذيب ذاك؟ تأمر هذا بأن يتجرَّع السُم، وذاك بأن يدهن جلده بالنفط لتشتعل النار فيه. وماذا يهم جلالتك إذا كان يملك هذا القدر من العبيد والجبناء من كل صنف ولون. فكل هؤلاء لا يفكرون بأن «سبارتاكوس» ينمو ويحضِّر نفسه للثأر لهم. لكنهم أيها «الإله - الفنان» لا يستأهلون أن يصبحوا أحراراً، لأنهم يرفضون حتى التلميح إلى اسم «سبارتاكوس» فهم قد ألفوا العبودية، واستأنسوا بها.
أيها «الإله - الفنان»، يا «نيرون واشنطن»، لقد عاد «صلاح الدين»، و«المثنَّى»، و«القعقاع»، و«المعتصم». وهذا «خالد»، و«علي» رافعون سيوفهم على أرض العراق. وذاك صدام حسين، الثائر في أسره، والثائر –برفاقه- على كل شبر من أرض العراق.
وهذا يوسف العظمة لمنتظر على تلال ميسلون.
وهذا عبد الناصر يرصد حركتك في «بور سعيد».
وشهداء المقاومة الفلسطينية –من كل الفصائل- ينتظرون على كل أرض عربية ارتوت من دمائهم. والشيخ أحمد ياسين يرقب حركتك على تلال أريحا وغزة، وحيفا ويافا.
ولا تنسى أن تسأل شارون «نيرون الصهاينة» عن كل شبر في لبنان روته دماء الشهداء.
يا «نيرون واشنطن» إننا نرى في الأفق «سبارتاكوس العربي» يحضِّر لولادة «سبارتاكوس أميركا». وهو قد بشَّر بولادة «سبارتاكوس الأوروبي». فابشر بقرب النهاية البائسة. ولعلَّك تجد بعض عبيدك يأويك في كوخه، ولعلَّه يساعدك على أن يدفع «سن الخنجر إلى نهايته» في حلقك عندما ترتجف يدك عن القيام بمهمتها الحتمية في الثأر لنا فيك.
وإذا كانت ديموقراطية أصحابك الذين يملكون أكبر الإمبراطوريات الصناعية في العالم، والذين يملكون «الإيديولوجيا النيرونية» في إحراق «العالم» من أجل مصالحهم، فإن محاكم «جرائم الحرب» لن تعفو عنك، كما أنها لن تعفو عنهم.
فاحرق يا «نيرون» ما شئت، فأنت لا بدَّ من أنك واقع في شر أعمالك.
***
(14): هدية أبطال المقاومة العراقية في ذكرى الاحتلال الثانية:
لقد أرديتم برلسكوني صريعاً في المصحة النفسية
جورج بوش وإدارته، وعملاؤهما الدوليين، هما الطرف الوحيد الذي لم تكن لديه قناعة بأنهم يمتلكون أقبح وجه عرفه التاريخ البشري. وراحوا يدركون –متأخرين-بأنهم يمتلكونه فعلاً، لذا عيَّن الرئيس الأمريكي (كارن هيوز) مستشارته المقرَّبة، إلى جانب كوندوليزا رايس في وزارة الخارجية، موكلاً إليها مهمة حساسة تقضي بتحسين صورة الولايات المتحدة في الخارج. وهي، قبل أن تبدأ مهمتها، يظهر الفشل الذريع الذي يحصده جورج بوش في «تجميل صورة أميركا» أمام عملائه، فهل ينجح في تجميلها عند الذين يكرهونه بعد أن فشل في تجميلها عند من يحبونه؟
ليس من غريب الصدف أن يتهاوى «تحالف الشر» الذي بنته «إدارة بوش» الشريرة لغزو العراق واحتلاله، فكل إناء ينضح بما فيه. فقد تقلَّصت رقعة الداعمين للعدوان الأميركي على العراق من 38 دولة إلى 24. وإناء تلك الإدارة جمع من حوله شتى أنواع عملاء المافيات العالمية، المنخرطة في صفوفها أو تلك التي تقدم لها الخدمات المأجورة. إذ تجمَّع في إناء الإدارة كل رؤوساء الدول أو الحكومات الخارجة على الشرعيات القانونية والدينية والأخلاقية ممن أصمّوا آذانهم عن نداءات شعوبهم، وأسهموا في العدوان على العراق واحتلاله خلافاً لتلك الإرادات الشعبية. وإن دلَّ هذا على شيء فإنما يدل على هشاشة دعوات «إدارة بوش» لنشر الديموقراطية في العالم وخداعها وكذبها على «ذقون الأغبياء والسُذَّج» من المخدوعين بقشور تصريحات جورج بوش ودعواته. إذ كيف للحكومات التي تضرب بإرادة شعوبها «عرض الحائط» أن تكون صادقة في دعم «إعادة إعمار الديموقراطية في العراق» بشكل خاص، وفي بقية الدول العربية بشكل عام؟؟؟
ليست الدول التي شاركت في «تحالف الشر» ضد العراق جاهلة لصورتيْ «الكاوبوي» و«رامبو» الأميركيين القبيحتين. بل هي تعلم جيداً قباحة تلك الصورة، وإنما السبب الذي جعلها تتعامى كان عائداً لأسباب عديدة، من أهمها: شراهة البعض لغرف ما يستطيعون من الدولار على حساب المبادئ الإنسانية وقيمها، وانخراط بعضها في «تحالف المافيات العالمي»، وانجرار بعضها الآخر ممن تحتفظ مخابرات ذلك التحالف من فضائح لهم في أدراج وثائقها. وقد جمعتهم وعود رامسفيلد –وزير دفاع مشروع «القرن الأميركي الجديد»- وديك تشيني –أمين صندوق أصحاب المشروع- بـ«النصر العسكري السريع». وكأن ذلك النصر الموعود سيضع العالم أمام حقائق الوضع الميداني وتُطوي صفحات كل المتورطين في ذلك العدوان والاحتلال اللاشرعي واللاقانوني واللاأخلاقي. وبه –أيضاً- كانوا يتوهمون بأن أصوات المعارضات في داخل الدول المتواطئة ستتلاشى، عندما يعود الإمبراطور جورج بوش إلى واشنطن منتصراً، وتذوي. فيهنأ رؤساء المافيات بغنائمهم، كما يهنأ المتواطئون بحصصهم من تلك الغنائم. أما وقد أصبحت الوعود سراباً عند «الواعد»، فكيف يكون الأمر عند «الموعود»؟
فبوركت اليد التي جعلت من «الواعد» كذَّاباً، ومن «الموعود» مأزوماً لا يدري كيف يخفي الحقيقة عن شعبه الذي داس ب«حذائه» «شرف الديموقراطية». وهذه هي الصورة الحقيقية التي أدركها المأجورون من عملاء المافيات. ولنبدأ باستعراض مظاهر الصراع الدائر –الآن-بين أطراف «تحالف الشر» العدواني.
برلسكوني، رئيس الحكومة الإيطالية، المخدوع، أو المتواطئ، يكاد ينفجر من المأزق الكبير الذي وقع فيه، أو الذي أوقعه فيه جورج بوش وطوني بلير -رئيسا «تحالف الشر»- ويبدو واضحاً أن «صبره قد نفذ». فيا للمسكين كم أصبح وضعه النفسي صعباً. ومن أكثر المراحل حراجة التي يمر بها المسكين، والتي هي أقسى عليه من خسارته البشرية في العراق، هي الأزمة التي بدأ يعاني منها منذ يوم الثلاثاء، بتاريخ 15/ 3/ 2005م. ومن أهم مظاهرها هي أن كذبه أصبح معلناً، وممارسة عبوديته لجورج بوش وطوني بلير أصبحت بأكثر مما تحتمله أكتاف برلسكوني المسكين.
صرح برلوسكوني لمحطة التلفزيون الرسمية الأولى (راي) الثلاثاء، بتاريخ 15/ 3/ 2005م، أن روما ستبدأ اعتباراً من أيلول/سبتمبر المقبل سحب قواتها تدريجيا من العراق. فأثارت تصريحاته مخاوف طوني بلير، رئيس الوزراء البريطاني، من احتمال استدعاء القوات البريطانية لتحل محلها، مما سيؤثر سلبا على الانتخابات البريطانية التي ستجري بعد شهرين. خاصة أن تصريحات برلسكوني دفعت المعارضة البريطانية لمطالبة بلير بسحب قواته من العراق بخطوة شبيهة بخطوة برلسكوني. وقد تكون تلك الظاهرة قد أجبرت بلير على الضغط على بوش الذي مارس ضغطاً على برلسكوني. وهكذا نرى أن البعض، من تحالف الشر العدواني، يضغط على البعض الآخر، فنعيش الآن مرحلة ضغط مرتفع ستتساقط، بفعله رؤوس العملاء الدوليين للإدارة الأميركية أولاً، أما رأسها هي، فالحبل على الجرار.
من كثرة الأرق، وشدة الصداع الذي انتاب طوني بلير، لم ينتظر برلسكوني لكي يصحح بنفسه ويبلع تصريحه المقلق، بل راح يصحح عنه، من دون توكيل أو تفويض، لأن برلسكوني لا يزال قاصراً أمام رؤوسائه وآمريه.
فيوم الأربعاء، بتاريخ 16/ 3/ 2005م، قال متحدث باسم بلير إن التصريحات التي نسبت إلى برلسكوني حول انسحاب القوات الإيطالية من العراق «أسيء تفسيرها»، وقال المتحدث: «الواضح هو أن ملاحظات رئيس الوزراء برلوسكوني فسرت بشكل خاطئ». وفيما يتعلق بالموعد الذي تحدث عنه برلسكوني حين قال: «إن سحب القوات الإيطالية سيبدأ في أيلول/سبتمبر»، قال بلير إن ذلك الموعد «هو مجرد مرجع لحقيقة أنه بحلول أيلول/سبتمبر، نأمل في أن تكون قوات الأمن العراقية في وضع أفضل بكثير، ولكن ذلك لا يعني جدولا زمنياً اعتباطياً للانسحاب». ولا يفوتنا أن نخاطب طوني بلير بما قاله الشاعر العربي:
قالوا إن «العميل» سيقتل مربعاً فابشر بطول سلامة يا مربع
وجاء جورج بوش، الجالس على الخازوق الأكبر، لينقذ طوني بلير، أكبر عملائه، لكي يجبر برلسكوني على التراجع فيصحح تصريحاته، قائلاً: إن سياسة إيطاليا في العراق لم تتغيَّر لأن إيطاليا لن تنسحب إلاَّ بالتشاور مع باقي الحلفاء. وأعلن الرئيس الأميركي عن لهفة حلفائه في الخروج من العراق. ونقول له إنك صدقت –هذه المرة- يا جورج. كيف لا وأن ما تسمونه قوات التحالف قد تناقصت أعداد أطرافه من 38 دولة في بداية الغزو إلى 24 دولة فقط.
وعلى خطى أسياده، وامتثالاً لأوامرهم، وبعد التصريحات البريطانية، وفي روما أعلن رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني أنه ابلغ الرئيس الأميركي جورج بوش في مكالمة هاتفية أنه يرغب في بدء سحب القوات الإيطالية وقوامها 3300 جندياً من العراق في أيلول/سبتمبر، «إذا كان ذلك ممكناً»، كما صحَّح مكتب برلسكوني.
طريفة والله ديموقراطية المافيات. والأطرف منها امتثال العملاء لأسيادهم، فهم قد وقَّعوا على عقد يعلنون فيه عن إذعانهم المطلق للأوامر التي تردهم من قادتهم تحت طائلة المسؤولية بنشر غسيلهم «النظيف» في كل وسائل الإعلام، ليتلقوا عقوبة محاسبتهم من شعوبهم. فيا حسرتي عليهم، فهم في تلك الساعة لن يهنأوا بصرف المال «الحرام» الذي جمعوه على حساب دماء الشعوب، نساء وأطفالاً وجوعى وعطشى. وليس آخرهم شعب العراق الذي اصطفته نعمة جورج بوش واختارته ليكون قرباناً أمام مذبح تحالف المافيات العالمي مع «اليمين الأميركي المتطرف».
لقد حانت ساعة الحساب أيها المساعد على الولوغ بدم الشعب العراقي، يا سيلفيو المسكين. فاسمع صوت رومانو برودي، زعيم المعارضة الإيطالية، يدعوك، إلى توضيح التضارب في تصريحاتك حول انسحاب القوات الإيطالية من العراق. إسمعه داعياً لعدم التلاعب بكرامة إيطاليا. ومطالباً رسمياً أن توضح حكومتك موقفها أمام البرلمان في ظل الجدل الكبير الذي أثارته تصريحاتك الأخيرة حول سحب الجنود الإيطاليين من العراق.
إسمع أيها المسكين، العالق بين نيران رؤسائك ونيران صوت ضمير إيطاليا. إسمع صحيفة (لا خورنادا) المكسيكية في مقالها الافتتاحي كاشفة فيه أوجه هزيمة المشروع الأميركي، مشيرة إلى أنها هزيمة للسياسي اليميني الكبير برلوسكوني أمام الرأي العام لدولته. وهي تدعوه ليسمع صوت ضمير شعبه الذي يعارض بشكل كبير الاشتراك الإيطالي في المغامرة الاستعمارية في العراق، فضلا عن الهزيمة في الجبهة العراقية. كما تعد كذلك هزيمة لحكومة الرئيس الأمريكي (جورج دبليو بوش) الذي خسر قطبين رئيسيين للتحالف الذي صنعه لتدمير العراق والسيطرة عليه، واللذان يتمثلان في رئيس الحكومة الإسباني السابق (خوسي ماريا أثنار)، وهو على أبواب خسارة برلوسكوني، ليبقى وحيدا في حملته دون صحبة ذات أهمية تُذكر سوى رئيس الوزراء البريطاني (توني بلير) ، الذي يبدو أن قدرته على تخطي الأزمات الشديدة والمخزية ليس لها حدود.
وأردفت الصحيفة أن برلوسكوني قد وجد نفسه مضطرا لإخطار رؤسائه باضطراره لاتخاذ خطوة الانسحاب إزاء هذا الوضع وإزاء عدم تمكن القوات الإيطالية من التصدي للمقاومة الوطنية التي تزداد قوة يوما تلو الآخر، والتي لم يجد حيالها المحتلون خياراً سوى البقاء خلف أسوار معسكراتهم معظم الأوقات.
ومن جانبنا نبارك للأيادي الحديدية، وللزنود السمر التي دخلت إلى مهاجع رؤساء الشر في العالم، وهي تقضي على أحلامهم وتحولها إلى كوابيس.
نبارك لها أنها ستُدخل برلسكوني إلى مصحة المجانين في القريب العاجل. وهو يستعد الآن لوضع القيود بين يديه صاغراً، فبشِّر القاتل، ومن يساعده أو يأويه أو يسكت عنه، بالقتل –وأقله بالجنون- ولو بعد حين.
نبارك لقيادة المقاومة وحزب البعث، ولكل المقاتلين في العراق –فصائلاً ومجموعات- أنهم قدَّموا لنا –بمناسبة الذكرى الثانية للعدوان على العراق- رأساً من أهم الرؤوس التي تساند «مشروع الشر الأميركي»، فمن بعده يأتي دور طوني بلير، «التابع الأمين». أما جورج بوش، فله الحساب العسير أمام شعبه، بما تفرِّط يداه بأرواح أبنائه، وتوظيف لقمة عيشه في مشروع احتلال العراق الذي لم يجن منه إلاَّ الشوك والحسرة.
***
(15): ندوة في فندق الكومودور
عن المقاومة العراقية في الذكرى الثانية لاحتلال العراق
بمناسبة الذكرى الثانية للعدوان على العراق واحتلاله دعت «لجان دعم المقاومة في فلسطين والعراق» إلى ندوة في فندق الكومودور في بيروت، بتاريخ 20/ 3/ 2005م، حضرها الأستاذ راضي فرحات، ومعن بشور، وهاني فاخوري، وحشد كبير من مؤيدي المقاومة في العراق وفلسطين من الفعاليات الثقافية والسياسية والحزبية. وحاضر في الندوة الأستاذ نجاح واكيم رئيس حزب الشعب، والأستاذ حسن خليل غريب الباحث والكاتب اللبناني. وقدَّم الشاعر عمر شبلي المحاضرين، مستهلاً كلمته بتوجيه تحية للمقاومة العراقية، كطليعة لحركة التحرر العربية والعالمية، داعياً إلى استثمار بطولاتها في معركة المواجهة التاريخية مع الاستعمار. كما أعلن عدداً من الوسائل والسبل التي تدعمها على المستوى القومي العربي.
أما الأستاذ نجاح واكيم فقدَّم كلمة غير مكتوبة، نقتطف منها ما يلي:
إن استراتيجية الولايات المتحدة معروفة ومقرؤة. ولن أتحدث عن المقاومة لأن الأستاذ غريب قد تناولها وألقى الضوء عليها. ولكنني أتساءل: هل تنجح المقاومة؟ هل تفشل؟ ماذا ينقصها لتحقق أهدافها؟ هل الكيانات العربية قادرة على العيش في المرحلة الجديدة لهذا النظام العالمي الذي يرسم خرائط المنطقة كما يشاء؟
إن المقاومة في فلسطين والعراق لن تنتصرا إلاَّ إذا حاولنا أن نخرج من حالة الانكفاء التي يعيشها الشارع العربي. ومن دون ذلك أقول: حيث لا تُوجد مقاومة فالبلد محتل.
فأميركا تشن حرباً شاملة: على هويتنا العربية والإسلامية، فهل ننتظر الاحتلال المباشر لكي نقاوم؟ وكيف نبدأ حرب استنزاف ضدها؟
القتل الأميركي للشعب العراقي مستمر. فالرد في أن نقتل من يقتلنا. والمهم أن نقاتل الأميركيين أينما كان. ففي لبنان يمكننا أن نعطي أمثولة في منع خضوعه للمشروع الأميركي. ومن أسهل الأمور أن نسب الأنظمة العربية. وعلينا أن نعترف أن في بعض الأنظمة وطنيين: فهذا الرئيس صدام حسين يقود مواجهة ضد الأميركيين في العراق. وكذلك بشار الأسد يقف في مواجهة المد الأميركي.
في مواجهة الديموقراطيين الجدد في لبنان، كيف نبني أنفسنا لنمنع الهزائم؟
علينا أن نطور مفهومنا للعروبة، أن نطور أسلوبنا ونرتقي به إلى أكثر من تظاهرة احتجاج. لقد قامت فرق من الأميركيين باستطلاعات للرأي في المجتمع العربي، فحصلوا على نتيجة كشفت عن أن الشعب العربي يعرف كيف يحتج ولا يعرف كيف يقاوم. فدخلوا المنطقة وهم غير آبهين. تلك المسألة تدفعنا للتساؤل: كيف ننتقل من مرحلة الاحتجاج إلى مرحلة المقاومة؟
من مساوئنا أن كلاً منا يريد أن يغير العالم، وهو لا يريد أن يتغيَّر. نحن بحاجة إلى العروبة الآن أكثر من أي وقت مضى. فهم يعملون على إشعال لبنان لعزله عن العروبة. فعلينا أن نعمل لاستعادة العروبة. فكيف نستعيدها؟
نستعيدها بأن نجدد في مضامينها وأدواتها. وبدون التمسك بها، هناك موجة من الحروب الأهلية قادمة إلى كل مكان في الوطن العربي.
حيث يوجد علم أميركي توجد «إسرائيل»، ونحن نغض الطرف عنها. ف«إسرائيل» موجودة في كل عاصمة عربية، لذا كل عمل يوجَّه إلى أميركا كأنه موجَّه إلى «إسرائيل». ومقاومتنا للمشروع الأميركي في لبنان هي هدية للذين يقاتلونها في العراق.
أما كيف نرى التجديد في حركة الثورة العربية؟
علينا أن نغير أنفسنا أولاً قبل أن نغير الآخرين. بحيث يخرج كل تيار من كنيسته، ونفكر من جديد لإطلاق تلك الحركة، من خلال الشارع والنضال فيه. وهذا ما يدعونا إلى تأييد التظاهرتين في بيروت التي شارك فيها الشباب بفعالية حيث كنا نحسب أن الشباب انفصلوا عن قضاياهم، فأنا أرى أنهم سينقلبون على زعمائهم، الذين رفعوا شعار السيادة، وعليهم أن يعلموا أن السيادة هي بالاتحاد مع العروبة.
أنا خائف الآن أكثر من أي وقت مضى. وعلينا أن نمنع عن لبنان مرارة الكأس، لأن هزيمتنا فيه أمام المشروع الأميركي ستنعكس سلباً على الجميع.
ومن هنا أعلن أن العراق هو ستالينغراد العرب. ففيه معركة الفصل بين هيمنة المشروع الأميركي ومنع تلك الهيمنة.

نص الكلمة التي ألقاها حسن خليل غريب
أيتها السيدات والسادة
تمر الذكرى الثانية للعدوان على العراق، ولا يزال مستمراً. وتقف في مواجهته أكثر مقاومة شعبية في تاريخنا الحديث تثير الدهشة والإعجاب، لأنها ليست تحول دونه وتحقيق أهدافه فحسب، وإنما تمرِّغ أنفه وتدميه أيضاً، وتضعه في أكثر مآزقه حرجاً. فحقٌّ لنا، نحن العرب، أن نفتخر بأننا خرجنا من نفق الهزيمة التي كانت تلاحقنا كالظل.
إن أكثر ما يثير اهتمامنا هو أن معركة المقاومة ضد الاحتلال في العراق ستنعكس سلباً أو إيجاباً ليس على الوطن العربي فحسب، وإنما على النظام العالمي أيضاً. وهو ما يجعل حركات التحرر في العالم أكثر اهتماماً بها وبنتائجها.
قبل المقاومة العراقية كانت أجواء الهزيمة لا تزال ترخي بظلالها على النظام العربي الرسمي، ويتصرَّف أربابه على قاعدة «اليد التي لا تستطيع أن تعضها فقبِّلها»، وبمثل تلك الاستراتيجية لا يزال ذلك النظام يعيش في عصور أهل الكهف.
غداً، وليس غداً ببعيد، سيستفيق أصحاب الأنظمة ليجدوا أن عملتهم أصبحت بدون أية قيمة. وسيجدون أنفسهم في غاية من التخلف عن ركب عصر المقاومة الشعبية. العصر الذي يستند إلى قوة إيمان الشعوب بكرامتها الوطنية، وبطاقاتها المخزونة المكبوتة بـ«ظلامية الأنظمة» الرسمية.
لقد راهن الكثيرون على أن نظام البعث في العراق، بقيادة أمير الثورة العالمية صدام حسين، هو نظام كتلك الأنظمة التي نعهد فيها «كثرة في الجعجعة والقليل من الطحين»، «كثرة من الديكتاتورية والانفصال عن قضايا الأمة وهمومها في الديموقراطية»، وبنت الكثرة أحكامها على تلك النغمات. لذلك لم يُفاجأ الكثيرون باحتلال بغداد السريع لأنهم كانوا يفصِّلون النتائج على مقدماتهم. وهذا –حسب المنطق الصوري-منطقي. ولكن لامنطقية القياس جاءت لتؤكدها وقائع ما حصل ما بعد احتلال بغداد، وإسقاط نظام البعث السياسي.
لقد أثبتت وقائع مرحلة ما بعد احتلال بغداد أن كل المقدمات التي بنى عليها الكثيرون أحكامهم كانت غير صحيحة، فأصبحت الأحكام –أيضاً- غير صحيحة. وتبيَّن أن ما كان يعد له نظام البعث، من أجل مواجهة العدوان، ليس له علاقة أو أي ارتباط بالمواجهات التقليدية، بل كانت مما لم يعهده النظام العربي الرسمي، أي الاعتماد على الآلة العسكرية النظامية. أما ما هو غير تقليدي في أسس المواجهة فكان الاعتماد على سلاح «إيمان الشعب بكرامته الوطنية». ولما كان هذا السلاح «رومانسياً» في نظر البعض، هزأوا وسخروا من فعاليته. وعلى الرغم من ذلك فقد جاءت الأخبار والوقائع لتنبأنا بالخبر اليقين، فاسألوا سواعد المقاتلين في العراق، واسألوا جورج بوش وتطلعوا إلى قسمات وجهه، واسألوا أهالي الجنود الأميركيين، واسألوا برلسكوني، واسألوا جاك شيراك الذي أخافته نار جهنم العراق التي أججها جورج بوش وهو لا يدري كيف يقفلها.
لقد استباح مشروع «اليمين الأميركي المتطرف»، بدفع من الصهيونية العالمية، وبإغراء من أكاذيب عملائه من العرب والعراقيين، أرض العراق. ووعدت إدارته الأميركيين بالاستيلاء على «سمن العراق وعسله»، كما وعدت الجنود المشاركين في العدوان عليه ب«جنات النعيم» يعودون بعدها إلى بلادهم أبطالاً سيخلدهم التاريخ. كما وعدت عملاءها من العراقيين بنعيم السلطة، فارتضوا حتى ولو كانوا «خُشُباً مسنَّدة». أما الحصيلة التي نالها كل مشارك، فكانت كالتالي:
-سمن العراق وعسله، ونفطه، الذي كان سينير جيوب المتربعين وراء مكاتب شركاتهم الكبرى، أشعل النار في قلوبهم، وهم لا يعرفون –الآن-كيف سيطفئونها حتى لا تستنزف آخر سنت وظَّفوها في تجارتهم الخاسرة. فبدلاً من تغطية تكاليف الغزو من عائدات البترول، هم يفتشون الآن عن وسيلة لوقف النزيف في ميزانية أميركا التي استهلكت تكاليف العدوان أكثر من مايتين وخمسين ملياراً من الدولارات لو وظَّفتها إدارة جورج بوش في سد حاجة الشعوب الفقيرة لقضت على أسباب الإرهاب الحقيقية. فادفع يا جورج بوش، والحبل على الجرار.
-لم ينعم جنود الاحتلال باكتساب لون البرونز من شمس العراق، فأرضه تحولت إلى مقابر جماعية لمرتزقتهم. ولم يسبحوا في مياه دجلة والفرات لأنهم حوَّلوها إلى مقابر لجنودهم المرتزقة والحالمين ب«الغرين كارد». فقيادة قوات الاحتلال تتخلص منهم لإخفاء الأعداد الحقيقية لخسائرها، وهي –الآن- بعد اكتشاف مقابر جنودها في العراق استحدثت لهم مقابر جماعية في باكستان لتخفي الإدارة الأميركية خسائر قتلاها الحقيقية فيها. وأما من لا تستطيع الإدارة إخفاء جثثهم فلم يعودوا إلى أميركا أبطالاً، بل عادوا ملفوفين بالعلم الأميركي، أو عادوا على عكازات، أو على عربات المعوقين، أو عادوا معتوهين إلى مصحات المجانين وعيادات الأمراض النفسية.
أما عدد كل هؤلاء، استناداً إلى «جمعية قدامى المحاربين الأميركيين»، فقد بلغ -منذ بداية العدوان حتى قبل شهرين مضيا-(48733) معطوباً من أصل ماية وخمسين ألف جندي. وهنا لا تعليق لي على الأمر، بل أحيله إلى الخبراء العسكريين لعلهم يفيدوننا بشتى معاني ودلالات تلك الإحصائيات.
إذا كانت الفسحة الزمنية للندوة ستحول دون تعداد ما تعرض له العراق، شعباً وأرضاً وبنى تحتية صناعية وعلمية واجتماعية واقتصادية وسياسية، إلى تخريب ودمار بما يدمي القلب من الألم الشديد، دعونا نلقي نظرة على دفتر حسابات التاجر الأميركي الذي ظهر أنه غبي، فقد نقل رأس ماله لاستثماره على أرض العراق التي تتفجَّر فيها أجساد العراقيين لتمنعه من تحويلها إلى سوق للاستهلاك.
نتيجة للخسائر البشرية والمادية الكبيرة وجدت إدارة «اليمين الأميركي المتطرف» أنها تدفع من دون أفق بالتعويض عن تلك الخسائر. فإذا كانت أسر الجنود القتلى والمعوقين والمعتوهين ترضى بقبض نصف مليون دولار كتعويض عن فقدان الحياة، فإنهم يعرفون أن أبناءهم يقاتلون في العراق من دون قضية وطنية أو طبقية أو أخلاقية. فإذا سدَّدت الإدارة فواتيرها المستحقة لأهالي الجنود، فهي أمام مأزق لا تستطيع أن تواجهه وهو كيف تعوِّض رأسمال الشركات التي اشترت أسهماً لتمويل العدوان على العراق. فأزمة الإدارة الآن هي أزمة التاجر، الذي لو استمر في تمويل طاحونة الحرب في العراق، لكان من الأغبياء. ولا أحسب أن التاجر الأميركي غبي، فهو سيوقف تمويل حرب خاسرة، والنتيجة أنه سينقلب على الوسيط، إذا لم يتخلَّص منه بأية طريقة من الطرق، وهنا اسمحوا لي أن أخمِّن بأن الحرارة التي يتحرك بها جورج بوش ووزيرة خارجيته كوندوليزا إلى هنا أو هناك، ولا ينفصل الملف اللبناني عن مجمل المخطط، ليس الغرض من وراء تلك الحرارة إلاَّ دفاع عن رؤوس سيطيح بها رؤوساء الشركات استيفاءً لرساميلهم التي دفنتها «إدارة الشر الأميركية» في صحراء العراق.
قد يشعر البعض منكم أنه بحاجة إلى إشارات من التطمين حول واقع المقاومة العراقية الآن. لذا لم أستعرض نشاطها لأنني وجدت بالنتائج التي تؤديها وتحققها، كما أشرت إلى انعكاساتها على الصعيدين الأميركي والعالمي، أكثر من إشارة التطمين، وفيها ما يدعو إلى الاطمئنان المطلق. أما فيما يتعلَّق بواجب دعمها فالصورة سوداوية، لأن العرب قد تركوا الأبطال العراقيين لوحدهم، وهم لا يشعرون بأن الواجب القومي يحثهم للمشاركة في مقاومة ترفع رؤوسهم عالياً. وفي تلك الصورة نجد النظام العربي الرسمي يعمل على قتل ضمير الأمة الذي يمثله عصر المقاومة الشعبية في فلسطين ولبنان والعراق. كما نجد أن تيارات الحركة العربية الثورية قد رضخت لإملاءات أنظمتها الرسمية تارة، وللخلاف حول جنس ملائكة المقاومة العراقية تارة أخرى، وعلى العموم فحركتها تميل نحو البرودة التي تنخفض كثيراً عن درجات الحرارة التي تميَّز بها الشارع العربي في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.
وباختصار نرى أن التقصير ضارب بأطنابه، بينما المطلوب أن ندين التقصير الأكبر من الشارع العربي وحركاته الحزبية، وندعوهم إلى أن يؤمنوا وسائل الدعم بما يليق بها كمقاومة ستضع على رؤوسنا أكاليل الغار. وبمرارة أقول: فلننظر إلى شوارع أنقرة وأثينا ولندن وباريس وروما، والأكثر مرارة هو أن يتظاهر الأميركيون، في واشنطن، ضد احتلال العراق بينما رياح القطبين الباردين تلفنا من رأسنا إلى أخمص قدمينا، وليس لسبب إلاَّ خوفاً من أن نصاب بنزلة صدرية أو زكام تحدثه خراطيم مياه المخابرات وضربات عصيهم ودخان قنابلهم الوهمية.
فإذا كانت سُحب الدخان التي أطلقتها ورشة الإعلام الأميركية فوق لبنان وسوريا وفلسطين من أجل التعتيم على حقيقة ما يجري في العراق الآن، فعلينا أن لا ننسى أن قوات الاحتلال الأميركي تواجه معارك شرسة لا تقل تأثيراً عن المعارك التي خاضها أهلنا في الفلوجة. وفي تلك المعارك التي تدور منذ شهرين، في الرمادي وبعقوبة والقائم وتلعفر وغيرها، يتساقط فيها الأطفال والنسوة ويستشهدون تحت ركام منازلهم. بحيث تأتي عمليات القصف بالطائرات للمنازل الآهلة ضغطاً على المقاتلين الذين أثخنوا قوات الاحتلال بالجراح وأسقطوا بينهم مئات من القتلى، ومئات من الآليات. تلك الآليات لا تزال شظاياها تتطاير تحت ضغط زنود المقاومة العراقية. فهي لا تزال تتشظى على الرغم من أن مهمة تصفيحها قد لُزِّمت إلى شركات صهيونية من مكاتبها في تل أبيب.
أما ما خلا ذلك، فللمقاومة العراقية خصائص ومميزات نذكر الاستراتيجي منها:
أولاً-للمقاومة منهج استراتيجي –سياسي وعسكري-معلن وهو أنها ستسمر حتى إخراج، وليس خروج، آخر جندي محتل أو متعاون أو متواطئ معه. وأما ما يعلنه أرباب إدارة بوش، فهو كذب وخداع للشعب الأميركي. أما نحن فعلينا أن لا ننخدع بكلام رئيس وصفه شعبه بالخادع والكذاب.
ثانياً-وللمقاومة منهج جبهوي، إذ أنه على الرغم من أن حزب البعث قد أعد للمقاومة كل مستلزماتها وهو في السلطة، فإن المقاومة الآن تتمثَّل بتعاون وتنسيق بين شتى الفصائل على أساس شمولي سواء في انتشارها على كل الرقعة الجغرافية العراقية أو في انخراط كل العراقيين في صفوفها. وهي وإن كانت أكثر نشاطاً في وسط العراق إلاَّ أن شماله وجنوبه يعرفان الكثير من العمليات النوعية. وهي شمولية على صعيد الهوية السياسية والدينية والمذهبية والعرقية، بحيث تجمع المنخرطين فيها الثوابت الوطنية والقومية. فليس بينها من هو طائفي أو مذهبي أو عرقي. لذا تتميَّز بفرادتها الجبهوية وتصل إلى الحدود التي توجه فيه قيادة المقاومة والبعث إلى تجاوز كل ما هو فئوي، وتدعو إلى التنسيق والتكامل بين شتى الفصائل على شتى المستويات، وتدعو البعثيين إلى تقديم كل الإمكانيات المتاحة –وبدون تمييز- لكل من يريد الانخراط في صفوف المقاومة.
وتتميَّز المقاومة العراقية بنشاطها الكثيف، وهذا النشاط لا يقل تعداد عملياته في أسوأ حالاته عن عشرات العمليات. وهذا يتأكد من خلال تصريحات قادة العدو. وتتميَّز بأن مقاتليها ذوو حرفة وخبرة على شتى المستويات العسكرية والسياسية.
وإذا كانت وسائل «إدارة الشر الأميركية» تعمل على نسبة قيادة العمل إلى هذا العنوان أو ذاك، وتحديداً تغليب التلاوين الإسلامية فليس إلاَّ من أجل طمس هوية المقاومة الوطنية، والإيحاء بأنها قادمة من الخارج أو من دول الجوار، للحؤول دون الاعتراف بشرعيتها الوطنية أولاً، ولتجميع كل العوامل التي تثير المخاوف والهواجس لدى الرأي العام الأميركي والعالمي ثانياً. فهي قد برَّرت عدوانها على العراق بوجود أسلحة الدمار لشامل من جهة والإرهاب الدولي من جهة أخرى. فإذا كان الكذب في الملف الأول قد أعلنته الإدارة بلسانها، فلم يبق أمامها إلاَّ الملف الثاني، كما أنها –من خلال-هذا الملف تستطيع أن تمارس ما تريد من أعمال تشوه به شرعية المقاومة الوطنية العراقية من أجل خلخلة النسيج الوطني العراقي.
أما ما يجب أن نعترف به، وهو ما لا نخفيه، بل نعلنه جهاراً، فهو أن مشاركة العرب والمسلمين من غير العرب ليس إلاَّ واجباً قومياً وإنسانياً. ونحن نضرع إلى الله أن يكون عدداً منهم في ساحة القتال ضد العدو الأميركي، ليس إلاَّ أن هذا واجب نرى أننا لا نزال مقصِّرين فيه.
استخلاصاً من الدرس العراقي في الصراع الدائر بين زيف الأهداف الأميركية المعلنة وحقيقة تلك الأهداف لا بدَّ من أن نستفيد منها في لبنان. ففي الوقت الذي بدأ فيه تسونامي الأميركي يجتاح لبنان وسوريا، نحن نرى أنه في بيدرنا اللبناني –كجزء من البيدر العربي- تلتبس الأمور، فعلينا أن نتميَّز بالحذر الشديد لأن قمحنا –اليوم- ملتبس بين شعارات تُرفع هنا أو هناك، ومن أهمها:
بين ما هو حق للبنان واللبنانيين، وما هو يصب في مصلحة المشروع الأميركي.
بين ما هو حق سياسي للبنانيين في الديموقراطية، وما هو واضح أو مخفي في ديموقراطية المشروع الأميركي.
أيتها السيدات والسادة
في الذكرى الثانية للعدوان على العراق، وفي مناسبة عيد الأم والطفل، نقف إجلالاً أمام عظمة الأم العراقية والطفل العراقي لما يلقونه من صنوف الإذلال والمهانة والتعسف وإرهاب المرتزقة من زبانية جورج بوش وطوني بلير. وإننا لنكبر فيهن طول الصبر والتضحيات، وهن، مع أطفالهن، تعانين العراء والتجويع والتظليم والترحيل والتهجير والتقتيل والاستشهاد والسجن والملاحقة. كما أنهن يتعرَّضن في هذه اللحظة بالذات إلى الانتقام الجماعي بتدمير المنازل على رؤوسهن في محاولة للضغط على المقاومة.
كما نوجِّه التحية إلى كل الأسرى والمعتقلين، من قيادات المقاومة والحزب وعلى رأسهم صدام حسين، الرئيس الشرعي للعراق، والقائد الفعلي للمقاومة العراقية.
كما نوجِّه التحية إلى كل أبطال المقاومة العراقية، بشتى انتماءاتهم، بمن فيهم كل من يدعو إلى الله في قلبه لنصرة تلك المقاومة، ولا نستثني حتى ذلك الذي يكفي المقاومة شره.
***

(16): من لبنان التاريخ إلى العراق تحت الاحتلال:
الطائفية السياسية تستحضر عمقها من خارج الوطن
بتاريخ 4/ 4/ 2005م
من الإمبراطورية الدينية التي كانت تقوم على حكم الدين الواحد، أو المذهب الواحد؛ إلى الدولة الوطنية، وهي ابتكار الفكر السياسي الحديث، التي تقوم على أساس حكم التنوعات الدينية والمذهبية؛ ابتكر الطائفيون وسيلة يحافظون فيها على امتيازاتهم؛ فكان حكم أنظمة الطائفية السياسية، الحل الوسط للجمع بين مفاهيم الإمبراطورية الدينية ومفاهيم الدولة الحديثة.
وهنا نقصد بالإمبراطورية الدينية تلك الدولة المفتوحة الحدود ليتبادل أبناء الدين الواحد، عوامل الاستقواء للضغط على الدولة الحديثة، أي الدولة الوطنية، من أجل المحافظة على حقوقهم الفئوية. وقد توصلت إلى قناعة بأن مصطلح «الإمبراطورية الدينية»، أصبح فضفاضاً بعد دراسة تاريخ تلك الإمبراطوريات، وأرى من الأصوب أن نستخدم مصطلحاً آخر، وهو «الإمبراطورية المذهبية الدينية». كما نقصد بالدولة الوطنية، أي الدولة الحديثة، فهي تلك الدولة التي تجمع مصالح مواطنيها في سلة الحقوق والواجبات فتساويهم وتعمل على تأمين قواعد العدالة بينهم.
لقد قنعت الأكثرية الساحقة من المتدينين بصلاحية الدولة الوطنية الحديثة، وهم لا يرون لها بديلاً، لأسباب عدة من أهمها:
-عمَّ أنموذج الدولة الوطنية الكرة الأرضية وأصبح من المستحيل إعادة إحياء الإمبراطوريات الدينية، إذ أن المجتمع العالمي أصبح يشكل حماية لحدود الدول.
-لم تكن الدولة الدينية –في يوم من الأيام- حلاً لحقوق المذاهب المتفرعة عن الدين الواحد. إذ كانت الإمبراطورية الدينية تؤمن حقوق الذين ينتمون إلى المذهب الحاكم. فكانت المذاهب الأخرى تحصد الملاحقة والتضييق، وأحياناً الاجتثاث.
أما، وعلى الرغم من كل ذلك فنجد هنا وهناك، في عصر الدولة الوطنية، من ينشدُّ إلى تغليب المصالح المذهبية على المصالح الوطنية. أما لهذه الظاهرة من سبب؟
في صراعات «الإمبراطوريات المذهبية الدينية» مع المذاهب الأخرى التي تنتمي إلى الدين نفسه، أو مع المذاهب الأخرى المتفرعة عن دين آخر، كانت المذاهب المُضطَهَدَة تلجأ غالباً إلى طلب الحماية الخارجية من القوى التي تنتمي إلى مذهبها، وإذا لم تجد فكانت تفتش عن حماية خارجية بغض النظر عن انتمائها للمذهب ذاته لطلاب الحماية. وإذا كان من المطلوب أن نسمي الأشياء بأسمائها، فليس لدينا أفضل من تجربة «متصرفية لبنان» التي انقضى عليها قرن ونصف القرن تقريباً. تلك المتصرفية التي شكَّلت ملاذاً آمناً للمذهبيات اللبنانية المضطَهَدة في تلك المرحلة. وكانت تخضع إلى «بروتوكول» خاص ينظِّم شؤونها الداخلية تحت حماية أجنبية يقف على رأسها القوتين الاستعماريتين لتلك المرحلة، وهما: بريطانيا وفرنسا.
ولأن المتصرفية، التي كانت تخضع لحماية خارجية، لم تكن تستند إلى تجانس متكامل في الدين والمذهب، بين طالب الحماية وباذلها، لا نستطيع أن نحمَّلها مصطلح «المصلحة الدينية أو المذهبية» فكان مصطلح «الطائفية السياسية» هو الأقرب لوصف الواقع، ففيه تتبادل مجموعة من المذاهب مصالح مشتركة تلتقي مع مصالح لقوى خارجية لا تكون فيه مقاصد حماية الطائفة «حماية إيديولوجية» بل تقبض لقاء تأمين الحماية الخارجية ثمناً مادياً، سياسياً أو اقتصادياً أو أمنياً، تكون في الغالب الأعم مؤقتة ومرحلية، ولا تمثل، أو لن تمثل، قانوناً ثابتاً أو يحمل طابع الاستقرار. فهو مستمر طالما استمر تلاقي المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية، ويتفسَّخ ويتفتت إذا افترقت تلك المصالح. فالغاية ليست إيديولوجية فكرية بل الغاية من طلبها تلبية لمصالح سياسية تقطف جناها نخبة الطوائف المحلية من جهة والقوة الخارجية التي تؤمن الحماية من جهة أخرى. ولهذا صحَّت تسميتها بنظام «الطائفية السياسية»، أي تسخير الإيديولوجي الطائفي لخدمة المصلحي السياسي.
إن أقصر الطرق أمام النخب الطائفية، من السياسيين، لضمان استمرار بقائها في صف المشاركة في السلطة؛ وأكثر ضماناً لبقائها ممثلة لشريحة من المواطنين بإلغاء دور «الكفاءة الشخصية»، وضرورة امتلاك «برنامج سياسي»؛ هو توزيع المغانم بين «كارتل النخب الطائفية» التي تقوم غالباً على النفوذ العائلي التاريخي. وما الصراعات بين النخب العائلية في الطائفة والزعماء الروحيين فيها إلاَّ ما يؤكد غلبة المصالح السياسية والاقتصادية على مصلحة «الإيديولوجيا المذهبية». و إلاَّ –إذا كانت لمصلحة «إيديولوجيا الطائفة» الغلَبَة- لأصبح من واجب النخب السياسية في الطائفة أن تُسلِّم القيادة للزعماء الروحيين. وحيث لا يثبت العكس على أرض الواقع فإن رفع شعار «حماية حقوق الطائفة» لهو لغو من الكلام الذي يُراد به التضليل. ففيه استغلال للزعماء الروحيين من جهة، واستغفال لعقول أبناء الطائفة من جهة أخرى.
كان يمكن لحركة الفكر السياسي العربي أن تستفيد من تجربة «نظام الطائفية السياسية» في لبنان، من أجل تثبيت قاعدة «النظام السياسي الوطني»، ولكن ما يمنع الاستفادة من سلبياتها يعود إلى ما يلي:
-مصلحة «النخب الطائفية» تتغلَّب على مصلحة «المواطنية». وإذا كانت تلك النخب تستند إلى تُراثها العائلي، وهو مضمون تمثيلها في أي «نظام سياسي حاكم» لأنه –من داخل المنظومة الثقافية الشعبية السائدة- لن تجد من ينافسها بغض النظر عن إمكانياتها الذاتية وكفاءاتها. هذا بالإضافة إلى تلاقي مصالح أبناء العائلات مع مصالح الزعماء الروحيين، فهما يتبادلان خدمات الاستقواء لضمان استمرارية زعامة كل منهما.
-مصلحة «القوى الخارجية» في تثبيت أقدامها على أية بقعة، وفي أية دولة، على ركائز داخلية تضمن استمرار نفوذها السياسي والأمني والاقتصادي في تلك الدولة. ويُعتبر تأمين وجود ملاذ آمن من أبناء تلك الدولة من أهم مقومات الضغط التي تستخدمها من أجل بناء علاقات لا تهتز في كل لحظة. وبهذا المعنى نرى أن ظاهرة «الطائفية السياسية» هي من أهم «أحصنة طروادة» التي تتسلل منها الأطماع الخارجية إلى داخل الأوطان والدول.
ولأننا، نحن اللبنانيون المنتسبون إلى إحلال «نظام المواطنة» في الدولة الحديثة مكان «نظام الطائفية السياسية»، أرهقتنا المعاناة، ولا تزال ترهقنا، من «نظام محاصصة الطوائف»، وجدنا أنه لا بدَّ من الاستطراد حوله، حتى ولو بكثير من التكثيف، لأننا نرى في عراق ما بعد الاحتلال الأميركي ما يدفع بنا إلى إطلاق صفارة الإنذار بقوة. فالعراقيون ممن يشكلون تيارات تقوم على تحويل العراق من «نظام سياسي» كان منحازاً إلى تغليب «نظام المواطنة» على «نظام المحاصصات الطائفية» يقومون –الآن وفي هذه اللحظة بالذات- بالانحدار تجاه بناء «نظام طائفي سياسي في العراق» في الوقت الذي نرفض فيه، نحن اللبنانيون، وجود «نظام طائفي سياسي في لبنان» لخطورته الشديدة على مصالح المواطنين، كل المواطنين.
وعلى الرغم من أننا لسنا من المتفائلين في أن تسمع تلك التيارات التي توغل في النهش في النسيج الوطني العراقي لتفتيته وتفسيخه، سنعمل على تشخيص ما يجري في العراق الآن بعد أن أنجزت قوات الاحتلال الأميركي «مسرحية الانتخابات». وهي تقود الآن مسرحية من نوع آخر يقوم على أسس «نظام الديموقراطية الطائفية والعرقية»، وهو أخطر ما في مشروع الاحتلال الذي يقوم على تفسيخ العراق وتفتيته. والأخطر من كل ذلك هو أن «المتسترين» برداء «مصلحة الطوائف والعرقيات» يستخدمون سياسة «لحس المبرد». وسياسة لحس المبرد تلك هو أن القطط «المذهبيين والعرقيين» يلحسون المبرد فيتفجر الدم العراقي، وهم يحسبونه «دماً ديموقراطياً» أوصلهم إلى المواقع التي يحتلونها، فيزيدون من «اللحس» فيتفجر المزيد من الدم، بينما الدم هو دم وطنهم الذي سيأتي «القط الأميركي» ليلعقه بكامله، ولن يترك لهم شيئاً. فيستفيقون إلى أنهم –في الوقت الذي قلبوا فيه «نظام المواطنة»-غارقون في متاهة توزيع الحصص الطائفية والعرقية، فيضيع الوطن كله، ولن يجدوا فيه موقعاً لقرار ذاتي إلاَّ وفوق كل قرار مندوب أميركي يأمر وينهي متفرجاً على عراقيي الاحتلال وهم يقتتلون حول توزيع دماء هي دماء وطنهم الذي كان يجمعهم.
لما تقوم به التيارات الطائفية السياسية في العراق أصول تاريخية. حتى ولو لم تكن بعيدة، إلاَّ أنها ذات جذور تاريخية، فهي ظاهرة لم تُولد منذ الاحتلال الأميركي للعراق، أو قبله بقليل.
يعود بناء جذور تلك التيارات إلى ما قبل أقل من نصف قرن. في تلك المرحلة التي عملت فيها نخبة من رجال الدين الشيعة إلى الانقلاب على الأسس المعرفية الشيعية التقليدية. أما الأسس التقليدية فهي تحريم المشاركة في أي نظام سياسي قبل «ظهور الإمام المهدي المنتظر». وأما مظاهر الانقلاب فتعود إلى أنه «لا يجوز للشيعي أن يغيب عن سياسة أمور المسلمين»، بل يمكن ابتكار مصطلح «نائب الإمام»، وهذا النائب هو «الفقيه». فأخذت نظرية «ولاية الفقيه» تعم وتنتشر إلى أن قُيِّض لها أن تُطبَّق في إيران على يد «الخميني».
ونظرية «ولاية الفقيه» ليست نظرية إسلامية بقدر ما هي «نظرية شيعية» تسوِّغ للشيعي العودة للانخراط في العملية السياسية. ولأن إيديولوجيا تلك النظرية ذات منبت ديني، جاءت لا لإحياء الدولة الدينية الإسلامية بل لإحياء الصراعات التاريخية بين السنة والشيعة، أي بين الدولة الصفوية في بلاد فارس، والدولة العثمانية ورأسها في تركيا.
فلو كانت اتجاهات نظام «ولاية الفقيه» في إيران وطنية تعترف بحدود الدولة الوطنية الحديثة لما كانت قد أثارت كل الإشكاليات التي نعتقد أنها قد أثارتها على صعيد إعادة إحياء الصراع التاريخي بين السنة والشيعة، أو إعادة إحياء التناقض بين مفاهيم الدولة الدينية التي لا تعترف بالحدود بل تؤمن بأن «ليس للشيعة وطن» والدولة الوطنية التي اعترفت بحدود جغرافية على قاعدة القوميات.
فمن مراحل التكوين الأولى ل«نظرية ولاية الفقيه» ظهر أن نقل الشيعة من عصر إلى عصر تتم على قاعدة، ليست مشاركة الشيعة في أي نظام سياسي تقوم على اعتراف بحدود أو بحقوق لأحد، بل كانت تستند إلى تأسيس نظام سياسي شيعي يقوم على قاعدة تطبيق «الفقه الشيعي» من جهة، وعلى قاعدة تجميع الشيعة أينما كانوا حول ذلك النظام من جهة أخرى. فإذا كانت تلك النظرية قد انطلقت من العراق على أيدي «حزب الدعوة» إلاَّ أن تطبيقاتها الفعلية قد انطلقت في إيران. ولهذا كان عدد من نخب «المرجعيات الدينية» في العراق على استعداد للاستفادة من خدمات النظام الإيراني كون أكثرية الإيرانيين من الشيعة وكون إيديولوجيا النظام مؤسسة على الفقه الشيعي. وانطلاقاً من هذه النقطة انبنت علاقات عميقة بين «النخب المرجعية العراقية» والنظام في إيران. وكانت تلك العلاقات تقوم على أساس تبادل عوامل الاستقواء: أطماع إيرانية في العراق بحاجة إلى مرتكزات داخلية. وأطماع شيعية عراقية بحاجة إلى عوامل قوة خارجية ترتكز عليها في فرض ضغوط على أي نظام سياسي في العراق للحصول على حصتها في حكم الدولة. وهنا علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن نشأة «حزب الدعوة» لم يكن مرتبطاً بمعارضة «نظام حزب البعث السياسي» لأن نشأة «حزب الدعوة» كانت سابقة لاستلام حزب البعث السلطة السياسية، ليس في العراق وحده، بل في سوريا أيضاً. وتلك مسألة لا تخفى على المراقب الموضوعي. بل كانت نشأة «حزب الدعوة» تتناقض مع وجود نظام علماني، أي نظام علماني سواء كان بعثياً أو غير بعثي. وتلك حقيقة تثبت أن النخب الشيعية العراقية، دينية أو مدنية، كانت تعمل من أجل الحصول على حصتها على قاعدة توزيع الحصص على «قاعدة الطائفية السياسية».
تلاقت مصالح «النظام الجديد» في إيران مع مصالح النخب الشيعية في العراق. وكانت مصلحة النظام في إيران أن تحرِّض شيعة العراق بمفاهيم تستند إلى «الإيديولوجيا الشيعية»، أي تلاقي مصالح الشيعة –أينما كانوا- على أسسها. ومنذ تلك النقطة كان لا بدَّ للنخب الشيعية في العراق، ومن أهمها «حزب الدعوة»، من أن تنتهج طريقة «الطائفية السياسية»، بحيث حملت «قميص الديموقراطية» المسلوبة عن «شيعة العراق»، وكانت من أهم مظاهرها المطالبة بحصة الشيعة في شتى إدارات الحكم والدولة العراقية. ومن يعود إلى «إعلان الشيعة» الذي صدر في لندن، في حزيران من العام 2002م، يرى أن ديموقراطية الموقعين على الإعلان تدعو إلى إلغاء «نظام المواطنة» واستبداله بنظام «المحاصصة الطائفية».
ولكي لا نبتعد عن تشخيص علاقة النظام السياسي في إيران بتلك الأوساط الشيعية، نوجِّه الأنظار إلى أن كثرة من الذين وقَّعوا «إعلان الشيعة» هم من الذين هربوا إلى إيران منذ اللحظات الأولى لاندلاع الحرب بين العراق وإيران منذ أوائل الثمانينيات من القرن الماضي.
لقد استقبلت إيران عشرات الآلاف من الهاربين العراقيين. وهناك أسست مرجعياتهم –تحت قيادة محمد باقر الحكيم وأخيه عبد العزيز- مجلساً سياسياً أطلقوا عليه اسم «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية»، وفيلقاً عسكرياً أسموه «فيلق بدر». وكانت مهمات القوتين السياسية والعسكرية العمل من أجل قلب نظام الحكم السياسي في العراق بتعاون ودعم وإسناد من النظام الإيراني.
ولأن التيارات الطائفية السياسية لا تجد مصلحتها «خارج ذاتها»، فهي مشدودة إلى مصالح النخب فيها أكثر من أي شيء آخر، لذا فهي غالباً ما تتجاوز الحدود الوطنية إذا ما وجدت أن الخارج يساعدها على الوصول إلى مكتسبات فئوية. ولهذا وجدنا أن تكوين الطائفية السياسية في العراق وجدت مصلحة لها في الاستناد إلى الجدار المذهبي الإيراني في بداية الأمر، واستكملته بالاستناد إلى الجدار الخارجي الأميركي في نهاية الأمر، وبمثل الجمع بين المسندين المتناقضين لا نستطيع أن نفهم اتجاهات تلك التيارات إلاَّ أنها تيارات عابرة للأوطان. وهي في الوقت الذي تستبيح فيها قيم السيادة الوطنية، بالتعاون مع هذا تارة، والتعاون مع ذاك تارة أخرى، تكون أقرب إلى مصالح أطرافها الفئوية أكثر من اقترابها من مصلحة الطائفة التي تمثلها، أي تدَّعي تمثيلها.
فإذا كانت أمثولة «متصرفية جبل لبنان» لا تزال حاضرة في أذهان اللبنانيين، ويعرفون أسباب وعوامل تكوينها التاريخية كما أنهم يعون مدى خطورة تطبيقها في الوقت الراهن، فهل لتيارات الطائفية السياسية الشيعية أن تعي خطورة بناء «متصرفيات مذهبية وعرقية» في العراق؟
وحتى نكون موضوعيين، نرى أن اتجاهات تيارات «الشيعية السياسية» في العراق لا تختلف عن اتجاهات التيارات السنية التي تقود خطواتها تيارات «السنية السياسية» التي تستر نفسها بغطاء الدين وتبرر علاقاتها مع الاحتلال الأميركي بحجج لا تستطيع أن تقنع ثوابتنا الوطنية والقومية. فقد انطلقت تلك التيارات من تحريم الدفاع عن الأنظمة العلمانية، التي تعبرها كافرة. ولهذا لم تقاوم تلك التيارات السنية السياسية الاحتلال الأميركي، وتستند إلى قاعدة فقهية مضمونها «إن قتال قوات الاحتلال هي دفاع عن نظام علماني كافر»، فهم –على أساس تلك القاعدة- يفسحون المجال للاحتلال الخارجي بأن يُسقط «النظام الكافر» كخطوة أولى يقومون باستكمالها في الإعداد لمقاومة الاحتلال كخطوة لاحقة.
لقد وقعت تيارات «السنية السياسية»، في شر تقديراتها حول احتلال العراق ومشاركتها في المؤسسات السياسية المؤيدة للاحتلال. فقد كانت مواقعها ضعيفة، ولم تجد من حولها التفافاً سنياً يعزز مواقعها ويقوي أوراقها عند القوى الأخرى من الذين انزلقوا في تأييد الاحتلال ومساندته وتعزيز مواقعه. وجاءت نتائج «مسرحية الانتخابات» لتقصيهم كلياً عن مواقع التأثير في التراكيب السياسية والأمنية للاحتلال. لذا نعتبر أن إقصاءً قسرياً لتيارات «السنية السياسية» عن لعبة توزيع الحصص في ما بعد «مسرحية الانتخابات» الأميركية في العراق هو الذي واجه تلك التيارات. فهي لم تكسب الاحتلال وخسرت الشارع السني. لذا تقف على هامش تاريخ العراق. فهي أضعف من أن تحصل على حصة سياسية في الوضع الراهن، وأبعد من أن تفكر بالحصول عليها في نظام ما بعد تحرير العراق. أما عن الدور الذي لعبته قبل الانتخابات فلا يقل خطورة عن دور «الشيعية السياسية»، وهي تتحمل مسؤولية أنها قد شرَّعت بناء علاقة سلمية مع الاحتلال الأميركي طمعاً بالحصول على حصة في نظام سياسي محكوم بالمصالح الاستعمارية. فاستناداً إليه لعلَّ وعسى يتنبَّه من لم يلحقهم التهميش إلى أن مصيرهم، عندما ترفضهم جماهيرهم، وهي ليست ببعيدة، لن يكون أفضل من مصير الذين سبقوهم.
ونحن نتكلم عن «طائفيتين سياسيتين» في العراق بين السنة والشيعة نعتذر للعراقيين الذين اختاروا طريق الدولة الوطنية من أننا لا نقصد تعميق ما يجري بقدر ما نريد أن نلفت إلى خطورته. فالتحذير من وجود السم لا يعني استخدامه.
لذا نرى أن انتشار سموم «الطائفية السياسية» في العراق اليوم يسري بسرعة تواكب التسريع في استكمال المخطط الأميركي، ولن يكون إلاَّ مساعداً له للخروج من مأزقه. ومن أوضح تلك المظاهر هو تلك الحوارات التي تتم بين مجموعة من «الطرشان» الذين يتحاورون حسب ما يحسبونه «قواعد ديموقراطية»، بينما واقع الأمر –كما نرى- أنها تفصَّل على مقاييس الحصص الفئوية، المذهبية والعرقية، من دون أن تأخذ المصلحة الوطنية العامة مقياساً للخروج من أزمة تشكيل مؤسسة سياسية تحكم العراق.
إن مخاطر ما يجري في عراق ما بعد «مسرحية الانتخابات» هو تكريس فعلي لتقسيم العراق على الطوائف والعرقيات. وهي تتم بإلهاء قسم لا بأس به من العراقيين وجعلهم يتنافسون على اقتسام العراق، نظاماً سياسياً وأرضاً وطنية لها حدودها الجغرافية المتفق عليها، تلك المقدمة تعفي الاحتلال الأميركي من عبء مواجهة وطنية جدية. لكن نتائج حوار «الطرشان» تلك ستكوي المتحاورين بالكثير من الآثار السلبية التي لا بدَّ من أنها ستعيث بهم ويحصدون المزيد من التفتيت في صفوفهم كلما حسبوا أنهم اتفقوا.
فعلي صعيد الحركة والنشاط التي تبذلها التيارات «الطائفية السياسية» في العراق لوضع الكيان الوطني العراقي أمام واقع الانقسام والتفتيت في نسيجه الوحدوي، نرى أنها لن تحقق من النتائج التي تكتسب صفة الثبات لأن مشروع التفتيت المذهبي لن تتوقف تداعياته عند نتائج ما حسبوه حقوقاً ديموقراطية لطوائفهم، وأخذوا يستمرئون طعم «الوصولية السياسية» لنخبهم، بل سيفرِّخ الواقع الجديد الكثير من الإشكاليات التي ستدعهم يتلهون بها ويتصارعون داخل بيتهم العراقي لمعالجتها، وكلما وصلوا إلى ما يحسبونه حلولاً ستقودهم إلى مآزق ومشاكل أخرى. ومما نتوقعه في المستقبل القريب:
-ليست التيارات السياسية مستقلة القرار. وهم لم يحسبوا أن الدعم الخارجي ليس مجانياً، بل يجب أن يكون مدفوع الثمن.
فأما الثمن الذي يجب أن يتم دفعه للجانب الإيراني، من خلال ادَّعائه حماية الشيعة في العراق، فلن يكون أقل من جر للشيعة في العراق إلى تغييب قيم السيادة الوطنية. وهذا التغييب لن يكون بمصلحتهم على الإطلاق. لأنه –كما أثبت الواقع-لا يعمل النظام الإيراني على قاعدة حماية الإيديولوجيا الشيعية، كما يتباكى ظاهرياً، و إلاَّ لما كان يتعاون بشكل سافر ومكشوف ومعلن مع المشروع الأميركي الذي ينفذه تحالف من الطبقيين الرأسماليين الأميركيين مع التيار المسيحي المتشدد الذي لا يرى في الشيعة إلاَّ مصدراً للشر يجب القضاء عليه في «معركة هرمجدون» التي تنص عليها التوراة. كما يضم التحالف الصهيونية العالمية التي تعمل، ليس من أجل إحياء دولة اليهود الكبرى «من الفرات إلى النيل أرضك يا إسرائيل» فحسب، بل من أجل استعباد العالم واحتوائه تحت سلطة حكم «شعب الله المختار» أيضاً. ولأن الإيديولوجيا الشيعية تتناقض –كلياً- مع أطراف ذلك التحالف تكون «الطائفية السياسية» في العراق مخدوعة بصدق نوايا العامل الإيراني.
وما له علاقة بعامل الإسناد الأميركي، فهو يستوفي أجره حالياً من نهب ما يستطيع نهبه من بترول العراق، وإن تكديس الثروة التي حصل عليها «بول بريمر» لوحده تتجاوز مئات الملايين من الدولارات. وإذا لم يكن هذا هو الثمن الفعلي، بل يأتي لمصلحة الأفراد الذين يشاركون في السطو على خيرات العراق؛ فيجب أن لا يغيب عن البال، وخاصة المخدوعين من تلك التيارات العراقية، أن الإدارة الأميركية التي صرفت حتى الآن أكثر من مايتين وخمسين مليار دولار من أجل احتلال العراق، يكونون من السذاجة أن يصدقوا أن الأميركيين أنجزوا «مسرحية الانتخابات» في العراق من أجل أن يعيدوه إلى تلك التيارات العراقية وينسحبوا «مشكورين». أفلا يعلم أولئك المخدوعين، وهم ليسوا بمخدوعين، بل يريدون أن يخدعوا عقول السذَّج، أن الرأسمالية لا توظف سنتاً واحداً من دون الحصول على الأرباح المضاعفة. وعلى من يفقه الحساب من العراقيين المتورطين في دعم الاحتلال أن يقدموا كشفاً بالمبالغ التي أنفقتها إدارة جورج بوش –حتى الآن- ويحسبون لنا الفوائد المترتبة على رأس المال الأساسي. فهل يرى هؤلاء أقل من أن العراق، بثرواته وناسه، سيبقى مرهوناً للرأسمال الأميركي لعشرات السنين؟
-تداعيات نتائج «مسرحية الانتخابات» على وحدة العراق أرضاً وشعباً:
من خلال واقع «لحس المبرد» الذي تمارسه التيارات «الطائفية السياسية» العراقية، من خلال التلذذ بلعق الدم العراقي الذي يسيل من جراء تطبيق «ديموقراطية الانتخابات الأكذوبة» ينخرط الداعمون للاحتلال وحماته في سلسلة لن تنتهي من المقايضات والمساومات على احتلال المواقع في المؤسسة السياسية المسخ التي يرسم حدودها ونتائجها الاحتلال الأميركي لوحده. وهو يتابع رسم الصورة التي يريدها على قاعدة «اتركهم يأخذون كامل حريتهم في المساومات» ولكن عند التشكيل الفعلي لن يكون لهم قرار مستقل يبتعد عن تشكيل «مؤسسة سياسية وأمنية» لا تحقق كل الأهداف التي لأجلها تدفع الإدارة الأميركية الدم والمال.
بمثل تلك السياسة الخادعة يدع الاحتلال عملاءه يتلهون ب«مرقة الديموقراطية» على أمل احتكار اللحم والعظم لنفسه. وهو ليس آبهاً بما يحصل من تفتيت في داخل العراق فحسب، بل يعمل على إحداث المزيد منه أيضاً. فتكون خدعة الاحتلال بنشر «الديموقراطية الكلامية» مدخلاً يتغنى به عملاؤه لتبرير فعل الخيانة أمام المؤيدين لهم في أنهم أوصلوا «الطائفة» إلى حقوق سياسية خادعة. ولن يتبقى للمؤيدين من «مرق» الحقوق شيئاً، لأن اللحم والعظم للاحتلال، وال«مرق» لعملائه، أما المؤيدين فلهم أوهام «حقوق الطائفة» في ممارسة القشور من حرياتهم السياسية والدينية. أما الأمن والرغيف والكرامة الوطنية فعليهم السلام لأن التضحية بها من أجل سلامة «نخب الطائفة السياسيين والدينيين» الذين يحمون «كرامة الطائفة» هو غاية المنتهى في غابة من المستسلمين الطيبين لتقليد أولئك الزعماء والوكلاء من كل صنف ولون.
فعلى صعيد المكتسبات الطائفية ستكون النخب هي الكاسب الأكبر. ولن تكون الأكثرية الساحقة إلاَّ الخاسر الأكبر، وهنا نسجل بداية تأسيس لصراع لن تطول مدة اندلاعه بين «الخادعين» من صفوة النخب «الطائفيين السياسيين والدينيين»، و«المخدوعين» من المؤيدين الذين يدفعون الثمن من حياتهم وأمنهم ولقمة عيشهم.
أما التداعيات على الصعيد الوطني العراقي، فحدِّث ولا حرج. فالطائفية السياسية التي تضحي بالوطن كله، فهي في الموقع الذي لا يأسف على إحداث شروخ بين طوائف الوطن سواء كانت مذهبية دينية أو تعددية عرقية. وتلك تأسيس لفتن جوَّالة تعمِّق الشروخ بين الإثنيات في الوطن الواحد. وما تقوم به أجهزة المخابرات الأميركية في معظم مناطق العراق، من اغتيال واغتيال مضاد، بتفخيخ سيارة هنا تطال مواطنين من الشيعة، أو تفخيخ هناك تطال مواطنين من السنة، لبعيد عن استعجال قوات الاحتلال في تعميق الشروخ المذهبية.
ومن أكثر مظاهر الوقائع خطورة هي تلك التي تتسابق فيها «الطائفية السياسية الشيعية» مع «الانفصالية الكردية» في الإعداد لإنجاح مشروع «الفيدرالية في العراق»، وتلك هي مقدمة لتقسيمه بين الإثنيات العرقية، كخطوة على طريق تقسيمه بين الإثنيات المذهبية.
فإذا كانت التيارات العرقية، وهي تحديداً التيارات الكردية، قد وحَّدت صفوفها في سيطرتها على منطقة جغرافية، إلاَّ أنها لم تخرج من مأزقها لأن منطق الانفصال عن الوطن يتولَّد عنه المزيد من التداعيات في المستقبل القريب. لأن الانفصال الجزئي لن يبقى ثابت الحدود الجغرافية والسياسية والاقتصادية. فعلى الانفصاليين الأكراد أن لا يهنأوا بما حصدوه حتى الآن؛ فهناك عوامل اشتباك ترتسم معالمها في الأفق، هذا إذا لم تكن قد بدأت تتعمق في عدد من الوقائع. ومن أهمها:
-أن الأنموذج الانفصالي الكردي في شمال العراق سيكون مشروع تصادم بين الأكراد ودول الجوار الجغرافي. وقد بدت ملامحه واضحة في مدينة القامشلي في شمال سورية، وتعزَّزت بالتهديدات التركية والتحذير من خطورة تثبيت تلك الانفصالية على الأمن التركي الداخلي.
-كما أن الدوائر التي يتشارك فيها الأكراد والتركمان والعرب في داخل العراق. ومسألة حسم قضية مدينة كركوك ليست من المسائل السهلة الحلول. فهي ستكون نقطة ساخنة ليس بين العراقيين فحسب، بل هي مشروع صراع جدي بين الأكراد والأتراك أيضاً، والسبب سياسي واقتصادي معاً.
-سيكون تحويل شمال العراق إلى دولة كردية – صهيونية، ووقائعه أصبحت أكثر ثباتاً ورسوخاً، وتتم تحت رعاية الاحتلال الأميركي وحمايته، مشروعاً جدياً لصراع كردي عربي ستلعب سورية فيه دور المقاوم الرئيسي.
وتلك من صور الصراعات التي ستصبح أكثر سخونة في المستقبل القريب، وفيها ستجد الحركة الانفصالية الكردية نفسها أمام الكثير من الخصوم العراقيين والإقليميين. ويحق لنا أن نقول لهم إن الانفصالية العرقية ليست الحل للمشكلة وإنما هي بداية لسلسلة من المشاكل. وإذا كانت الإمبريالية والصهيونية تؤمن الحماية لمشروعهم في هذه المرحلة هي لا تستطيع أن تؤمنها إلى الأبد.
وفي نهاية المطاف نرى أن المشروع الأميركي، من أجل ترسيخ أقدامه في العراق، قد اتَّخذ «مطايا» من العراقيين مستغلاً قابلية «الطائفيين السياسيين» في تمزيق الوطن العراقي من أجل مصالحهم الضيقة والملوَّثة بالخيانات المتتالية، ليمرِّر على ظهورهم كل أهدافه ومراميه وأغراضه ومصالحه. ولأن قابلية الطائفية السياسية مفتوحة على سلوك شتى الخطايا بالاستقواء بالخارج، أفلت المشروع الأميركي «العفاريت الطائفية» من قمقمها لتنوب عنه في تمرير أهدافه بثياب وطنية.
وحيث إن أهداف المشروع الأميركي في العراق، ووسائله لتمرير هذا المشروع، لا يختلف عن المشروع القابع في لبنان، أهدافاً ووسائل، نرى من المفيد جداً أن يرى العراقيون التجربة التاريخية ل«نظام المتصرفية في جبل لبنان» من منظار خطورتها النظرية، ويكبحوا جماح شبقهم الوصولي للسلطة على حصان الخارج، لأنهم سينتجون «أنظمة متصرفيات» أخرى في العراق. وأن ينظر اللبنانيون إلى واقع اللحظة الراهنة التي يصوغ فيها الاحتلال الأميركي، كأداة لتمرير مشروع «المحافظين الأميركيين الجدد»، وليروا خطورة التمزيق في وحدة العراقيين التي أحدثها ويعمل على تعميقها في العراق. وتلك هي النتائج الوخيمة التي تنعكس على الأوطان بسبب الاستقواء بالخارج. ولعلنا بذلك نوجه أنظار الحركة القومية العربية والمناضلين في صفوفها إلى إلقاء المزيد من الأضواء على خطورة ظاهرة «الطائفية السياسية» التي تمثل «حصان طروادة الخارج» في غزونا في عقر دارنا. وكل هذا يؤكد أهمية نشر الوعي القومي والوطني، والعمل من أجل تطبيقه في مناحي حياتنا على الصعد الفكرية والسياسية والأمنية والاقتصادية. وقطع الطريق على كل مغريات الخارج القادمة إلينا تارة على حصان ديموقراطي، وتارة أخرى على حصان «اقتصاديات السوق»، وتارة ثالثة على حصان «العصرنة والتحديث»، وتارة رابعة على حصان لا نعرف ماذا يحمل إلينا من بضائع فاسدة مغلَّفة بما حلا وطاب للأنظار المغفَّلة.
وحتى لا تكون الصورة سوداوية تقود إلى الإحباط، فنحن لا نرى أن واقع الأمور يحددها الاحتلال مع المتعاونين معه. فإن القرار يبقى، أولاً وأخيراً، بيد إرادة المقاومة العراقية، كما بيد أية مقاومة تنشأ هنا أو هناك، مقاومة يجب أن تعم كل أقطار الوطن العربي. وطالما أنها تتحرك فليس هناك أي عائق يمنعها من إحباط أهداف المحتلين وعملائهم، وإجهاض أية محاولة احتلال أخرى.
إن معالم المشروع الأميركي، الذي يحمله «ساترفيلد»، نائب مساعد وزيرة الخارجية الأميركية، إلى لبنان، ستظهر تأثيراته الوخيمة على الواقع اللبناني، إذا ما سُمح له بالعبور. لكنه لن يعبر –حتماً-فكل الزنود العالمة بخطورته ستكون له بالمرصاد.
وإن ما نراه من واقع الهيمنة على بعض مناطق العراق، يؤمنها وجود التيارات السياسية المذهبية، ليس هو الواقع الذي سيستمر. فتلك الوعود الوردية لا بدَّ من أن تتكشف وتظهر على حقيقتها لأن تلك التيارات ستكون عاجزة عن تحقيق الوعود التي أغدقتها على مؤيديها. كما أن وعود الاحتلال كاذبة بما لا يقبل الشك. فسيصل أولئك إلى مرحلة يجدون أنفسهم في سلسلة دائمة من المشاكل والصعوبات التي تدفع بهم إلى سلوك طريق مقاومة الاحتلال ومقاومة الذين مارسوا الخداع عليهم أيضاً.
***

(17): أنا في المعارضة معارض، وفي الموالاة معارض
في 31/ 3/ 2005م
يسمونه البعض تياراً ثالثاً، ويحلو للبعض الآخر أن يتمايز عن المعارضة والموالاة معاً. أما الحقيقة فهو أنه لا تمييز بين المعارضة والموالاة. والسبب يعود إلى خصائص يتميَّز بها المجتمع السياسي في لبنان، ومن أهم تلك الخصائص أن النظام السياسي يحكم على أساس الطائفية السياسية بحيث تبقى فيه التجمعات السياسية مشدودة إلى مصلحة الطائفة على حساب مصلحة الوطن. وعلى تلك المحاصصة تُولد تحالفات وتغيب تحالفات، فليست لدى أي تجمع برامج سياسية وطنية تجمع، بل في مشاريعها ما يفرق وما يفتت. وإن ما نراه يطفو على السطح مما يوحي بأنه يجمع لا يتم إلاَّ على قاعدة التوافق على شعارات مرحلية قصيرة النفس يتفق حولها المتحالفون على منع ضرر مشترك، أو بغية الحصول على مكاسب فئوية، ومن بعدها تتفكك التحالفات فتتقاطع الخنادق مرة أخرى.
من يكون في الحكم، والطوائف التي تؤيده على قاعدة استفادة النخب فيها من مغانمه تقف في صف الموالاة، ومن هي مغبونة في الاستفادة من مغانمه تقف في صف المعارضة. وهكذا تنبني التحالفات وتتفسَّخ في متوالية هندسية لا قواعد لها ولا أسس. ومنها نستنتج بأن النظام الديموقراطي في لبنان ليس أكثر من ديموقراطية للطوائف، ولأن الطوائف تدين بالولاء والتأييد للنخب العائلية فيها أولاً، أو المالية والاقتصادية ثانياً، والأكثر ذكاء من بينها –من الذين يجيدون التمثيل فيظهرون أنفسهم على أنهم حماة الطائفة والرادين الغوائل عنها- ثالثاً، يكون النظام الديموقراطي في لبنان هو ديموقراطية النخب الطائفية.
واستناداً إلى هذه المقدمة سنقوم بتفسير ما يدور على الساحة اللبنانية الآن. وهنا نتساءل:
هل ما يدور الآن على ساحة لبنان له علاقة بمسألة الحريات الديموقراطية؟
وهل له علاقة بمطالب تطال المصالح الشعبية الجائعة؟
وهل تتميَّز المعارضة عن الموالاة ببرنامج سياسي واقتصادي وإصلاحي متقدم على ما تمارسه السلطة الآن، وقبل الآن، وقبل ما قبله؟
وهل الذين يقفون في جانب الموالاة هم من الذين يدافعون عن برنامج إصلاحي سياسي واقتصادي واجتماعي؟
وهل الخلاف بين الإثنين هو خلاف على ظلم ورقابة شديدة تمارسها أجهزة أمنية؟
وهل المعارضة، إذا وصلت إلى سدة الحكم، ستقوم بإصلاحات أمنية تدعم الحياة الديموقراطية؟
وهل كانت معارضة اليوم محرومة من مغانم الحكم؟ وهل لا جذور لها في إرساء دعائم حكم المخابرات، والتبذير والسرقات، وقمع الشعب وتسييره على الريموت كونترول؟
هل كان بعض المعارضين بعيدين عن استقدام حماية خارجية في مراحل الحرب الأهلية في لبنان؟
وهل عجين الحكم إلاَّ من طحين المعارضين والموالين معاً؟
هل تبدَّلت الوجوه الحاكمة والمعارضة طوال عشرات السنين؟ وهل تناسى الذين كانوا في الحكم، وهم اليوم في الصف المعارض، أن المواطن في لبنان كان يئن من شدة الألم من وطأتين: وطأة لقمة العيش، ووطأة حرياته الديموقراطية؟
كلهم يتحملون المسؤولية، وكلهم موالاة بالمعنى الواقعي، أي الموالاة لمصلحة الطبقات التي ينتمون إليها، فهم يتصارعون عندما تنتقص جبنة طرف منهم، ويتفقون على الشعب كلما عدلوا في توزيع الجبنة على طبقاتهم.
عندما يتم توزيع الجبنة بينهم، يتباهون بديموقراطية الوفاق. ويتغنون بالنظام الديموقراطي الفريد من نوعه. وعندما يختلفون ويصعب عليهم التوافق يستدرجون الخارج، أو إن الخارج يكون جاهزاً للتدخل خاصة وأن لكل مصالحه وهو بحاجة إلى ركائز لبنانية، فيوكِّلونه حَكَماً، وإذا بالحَكَم يأكل الجبنة كلها ولا يترك لأحد منهم شيئاً.
تلك حكاية الصراعات في لبنان التي لا تنتهي. أما هل يتعلَّم اللبنانيون من الدروس؟
فهم فئتان: طبقة من النخب العائلية والمالية والذكية، وطبقة العامة من الشعب. أما أبناء النخب فهم في واد ومصالح الشعب في واد آخر. وإذا كان هذا ليس من المستغرب، فسُلَّم الطبقات موجود في كل عصر وكل مصر، أما المستغرب فهو أن عامة الشعب تلحس المبرد تحت وقع خطابات النخب الحاكمة، وتسير هاتفة بحياة حماة المذهب والطائفة. وليس هذا فحسب، بل إنها تعيد انتخابهم حتى ولو وصلوا إلى حافة القبر، إذ أن ديموقراطية القدر –ساعتئذِ- هي التي تعفي الشعب من القيام بمسؤوليته.
وحتى لا نكون من الواهمين وممن يقفزون فوق واقعية الواقع، نعتقد بأن إعادة إنتاج الزعامات التي أثبتت أنها لا تكترث بمصالح العامة من الناس، يكون واقعياً ولا يصدم مضمون الديموقراطية التي نعتقد بها، فيما لو كانت تلك الزعامات من النوع الذي يمتلك برنامجاً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً لا تلهوه عن متابعة النضال من أجله أية مغريات طبقية أو شخصية. لكن ولأن العكس هو الذي يحصل هو ما يدفعنا إلى الاستغراب. فنحن –من مفاهيمنا الإصلاحية المرحلية- لا نحسد من وُلِد وفي فمه «ملعقة من ذهب» أن يُورِّث أبناءه تلك الملعقة، لكن على أساس أن لا يطمع الوارث بتكبيرها على حساب «ملعقة الخشب» الشعبية، هذا إن وُجدت.
على قاعدة مظاهر الصراع الدائر في لبنان اليوم، هذا إذا أجَّلنا الكلام عن المخفي منه وهو أعظم، نسجل التحليل التالي:

أولاً: مظاهر الصراع وأسبابه الداخلية:
خلافاً لما يظهر للعلن من تداخل للخنادق والتحالفات، بما يوحي بأن تداخل الخنادق الطائفية هو صورة مشرقة للتلاحم الوطني، ندعو من كل قلبنا أن يكون المقياس الوطني هو ما ألهم زعماء التحالفات إلى نسج الحلم الوطني الذي ننشده.
فالكل يحمل علم لبنان ويدعو إلى استقلاله وسيادته وحريته.
والكل يُنشِد النشيد الوطني اللبناني.
والكل يتغنى بطلب الحرية والديموقراطية حبيبة قلوبنا وتاج رؤوسنا وحلمنا الكبير منذ الصغر. حرية الطبقات الفقيرة وحقوقها، حرية الجماهير الواسعة. تلك الجماهير –ويا للأسف-لا تشعر بحريتها إلاَّ عندما يقتضي أمر مصالح النخب فيها أن تنزل إلى الشوارع هاتفة تغني نشيد الوطن، وتنزل إلى الشارع هاتفة تنشد نشيد الطائفة.
ومن غرائب الأمور أن النخب السياسية في بلدنا، و«آخ يا بلدي»، لا تقبِّل أيادي مرجعياتها الطائفية إلاَّ عندما تريد أن تحقن أتباعها بمزيد من الحُقَن السحرية، لزيادة مفاعيل تسارعها إلى الشارع لتحدث المزيد من التأثير.
لطالما أُهملت المرجعيات الطائفية، ولطالما هُمِّشت، ولطالما وُضعت على كراسي النسيان. ولطالما نُصحت بأن لا تتدخل في شؤون الدنيا لأن لتلك الشؤون أسيادها. ولكن عندما يحتاج الأمر إلى تهييج وتهييج مضاد، تدفع النخب السياسية والاقتصادية بتلك المرجعيات إلى الواجهة لتستقوي بخطابها، وتدعِّم مواقفها. وتلك مسألة طالما عرفتها علاقات رجال الدين برجال السياسة على مستوى كل الطوائف في لبنان ومذاهبه. ولمن لا يصدق فليرجع إلى التاريخ وهو خير الشواهد.
لطالما أُهمِلت مصالح عامة الشعب، وضُرِبت عرض الحائط، ولكن عندما يحتاج الأمر إلى استعراض عضلات النخب، تأمر مواليها بالنزول إلى الشارع. أليست تلك الوسائل هي التي رسمها السلف للخلف. وإذا كانت تلك الحقائق كاذبة فليجيبنا أولي الأمر من النخب كيف كانت حروب الطوائف تجري على طول إمارات جبل عامل وجبل لبنان وكسروان وعكا؟
ألم تكن حشود الموالين من عامة الطوائف، من المنتمين للمذاهب، تدفع الثمن من دمها وأرزاقها وحياتها؟ ألم تكن البطولات تدخل سجل التاريخ لصالح الزعامات والأمراء والمشايخ؟
بلى، كان التاريخ يغفل تلك التضحيات والبطولات من سجل العامة لكي تسطو عليها الزعامات وتسجلها لنفسها.
ألم تكن متصرفية جبل لبنان، في العام 1860م، إلاَّ أنموذج واضح؟ ألم تكن إلاَّ وصمة في تاريخ الطوائف؟ ألم تكن إلاَّ تسوية بين أمراء الطوائف على حساب دماء العامة من الشعب؟ ألم تسبقها دماء غزيرة دفعها الأبرياء من الطوائف كافة؟ وهل كان هذا الأنموذج ثابتاً؟ وهل يحقق مصالح البشر في عصر الشعوب الوطني والقومي؟
سواء تجاهل البعض أو أغفل تلك المحطة التاريخية، تظهر أدوات الصراع في لبنان واضحة الآن بما لا يميزها عن تلك التي سبقتها حتى وإن لبس البعض أزياء الحداثة والعصرنة: لم تتغيَّر هوية المتصارعين وأهدافهم، كما لم تتغيَّر وسائل استقوائهم بالخارج. وما تغيَّر هو أن الإمبراطورية العثمانية التي كانت تحصل تحت سقف نظامها السياسي الصراعات التاريخية أصبحت تُعرف اليوم ب«السلطات اللبنانية»، أما اللاعبون المحليون فلم ينالوا من التغيير إلاَّ القشور الحضارية التي قلَّدوا فيها الحضارة السياسية الغربية. تلك الحضارة التي انبنت على أنقاض المفاهيم السابقة وانقلبت عليها، أما نحن فأخذنا تلك الوسائل من دون أن ننقلب على مفاهيمنا السابقة. فأدوات المعرفة عند النخبة لم تتغيَّر وكذلك طرق معالجة مشاكلنا المعاصرة. ونحن نرى أن نتائج ما يحصل من صراعات في لبنان ستصب في النتائج ذاتها التي يدلنا التاريخ عليها.
ولهذا نقول: ما أشبه اليوم بالبارحة. تحالفات تقوم على أساس:
-مظاهر وحدوية وطنية، وباطنها إعادة توزيع الغنائم بين النخب العائلية والاقتصادية.
-مظاهر ديموقراطية ولكن على أساس ديموقراطية توزيع الحصص بين الطوائف.
-تغليب الاستقواء بالخارج على الحوار الداخلي.
شارك الكثيرون من أطراف المعارضة أطراف الموالاة في مغانم الحكم. وأسهم الكثيرون بالكثير من الصمت حول انتهاك الحريات الديموقراطية، ولحسن الحظ لم يمر بعد وقت طويل لننسى قانون الطوارئ الذي منع قيام تظاهرات واحتجاجات. ولن ننسى أن ذلك القانون كان بمباركة ممن هم الآن في كراسي المعارضة. فلم يكن قانون الطوارئ مرفوضاً لأن الكراسي في الموالاة كانت ثابتة، وكانت حصصهم غير منقوصة. فحق الحريات للجماهير مرتبط بمصالح النخب العائلية والاقتصادية والمالية. أما وأن الحصص قد تناقصت فهذا ما يثير النخب ويدفعها إلى صفوف المعارضة. وهذا ما يوجب حقن الجماهير واستثارتها، تلك الجماهير التي كانت تُعتَقل وتُسجن، ويتم تسليمها –بتواطؤ من الكثيرين الذين يتباكون اليوم على ضياع الحريات الديموقراطية ويهاجمون سلطة المخابرات-إلى أجهزة المخابرات. ولم يجرؤ أيٌّ منهم على القول بأنه يرفض ليس ما يجري فحسب، بل وأن يمارس هو دور المخابرات والبوليس الذي يعتقل ويسلم من يعتقل إلى تلك الأجهزة.
فهل إذا عاد هؤلاء إلى كراسيهم، التي فقدوها عندما تناقضت مصالح أجهزة المخابرات العليا مع مصالحهم، سيعودون إلينا بنعيم الديموقراطية؟
إننا نشك بذلك، لأننا لن نتوهم أن يأتوا إلينا بها، وإنما نحن واثقون بأنهم سيأتون على دبابات ديموقراطية السلطة التي يعملون للجلوس على كراسيها. وساعتئذٍ ليتجرأ أحد ويرشقها بحجر.
ويدور الدولاب، كما تدور عجلة التاريخ، ويبقى الوضع ثابتاً والعراك مستمراً بين «موالاة ديكتاتورية» و«معارضة ديموقراطية». ويتناوب أبناء العائلات وأصحاب المصارف والرساميل المكدَّسة الأدوار. فيمثِّل بعضها المطرقة والبعض الآخر السندان، ويبقى المواطن أسيراً بينهما مادة جامدة تتحمل ضربات المطرقة فيتلقاها السندان بحنانه المعروف. ألم يكن المواطن وقوداً لنزوات أولياء الأمر طوال عهود الأمراء والمشايخ والإقطاعيين؟ وهل تغير وضعه في عهود «الديموقراطية والديموقراطيين» الجدد؟
أنا لن أكون موالياً لسلطة سياسية، ولن أكون معارضاً في صفوف المعارضة. فثنائية السلطة والمعارضة ثنائية التقاتل من أجل التناوب على الأدوار. فالسلطة لا تعمل على تطبيق برنامج سياسي يهتم بمشاكل المواطنين وهمومهم، وكذلك المعارضة. إن طرفيْ الثنائية غائبان عن هموم المواطنين. فأنا مع معارضة تمتلك ذلك البرنامج على أن يكون واضحاً بما فيه الكفاية. وأنا ضد السلطة طالما هي غائبة عن ذلك الهم.
وإذا كان هناك من النماذج التي يمكنني أن أقارنها مع ما يجري في لبنان الآن، فلن أجد أفضل من أنموذج الصراع الذي يدور بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي في الولايات المتحدة الأميركية. ففي ذلك الصراع يتبنى الحزبان إيديولوجيا رأس المال، وكلاهما متفقان على استغلال الشعب الأميركي. فمن يصل –منهما-إلى السلطة لن يتجاوز عمله تعزيز دور الشركات الكبرى التي كلَّفته بدور المحامي عن حقوقها. وهكذا نعتبر ديموقراطية الحزبين الأميركيين ديموقراطية حق الشركات في نهب ثروات الشعب الأميركي ومقدراته. أليست «ديموقراطية اقتصاد السوق» إلاَّ تعبيراً عن حق الشركات في المنافسة؟ أليست خصخصة القطاع العام إلاَّ وسيلة من وسائل النهب المنظَّم؟ أليست خصخصة «قطاع الوظيفة العامة» إلاَّ فسح في المجال للحزبين المتنافسين بتبديل وتغيير الموظفين لتعيين من هم أكثر ولاء للحزب الحاكم؟
أما هل لتلك الطريقة في إدارة الديموقراطية على الطريقة الأميركية ما يشبهها في الحالة اللبنانية؟
بلى هناك ما يشبهها، على الأقل في ما يدور حول قطاع أجهزة المخابرات. فنحن لسنا من السذاجة لتجذبنا شعارات المعارضة ومطالبتها بإقالة أجهزة مخابرات السلطة السابقة. لأن المعارضة لن تلغي هذا الجهاز، وإنما ستأتي بجهاز آخر يكون موالياً لها، ومدافعاً عن ديموقراطيتها. أما التجديد فيه فلن يكون أكثر من «خصخصته»، بالتعيين ممن يثقون بأنه سيحميهم، وليس المطلوب أن يحمي الوطن. فنحن مع شعارات المعارضة أن أجهزة المخابرات قد أساءت، وإساءتها جاءت على قاعدة وظيفتها التي حددتها لها تيارات السلطة الحاكمة، بمن فيهم بعض أمراء المعارضة ومشايخها. ووظيفتها، بدلاً من أن تكون حماية للأمن الوطني، كانت حماية لأمن النظام في وجه معارضيه. وهنا نحن نؤيد المعارضة في التعديل والتبديل ليس في مواقع الأشخاص، بل في تحديد واجب الأجهزة في حماية أمن الوطن والمواطنين.
وعلى قاعدة تحديد وظيفة أجهزة الأمن نتحول إلى معارضين أو موالين. لكننا لن نتوهم بأن يستفيق طرفا «الموالاة - المعارضة» على مصلحة الوطن لأن طبيعة النظام اللبناني تغلِّب مصلحة النظام على مصلحة الوطن، ولأن عجين النظام «السلطة» هي من طحين النظام الطائفي السياسي، أي طحين مصالح «أمراء الطوائف» من عائلات وبيوتات مالية.
لذا فنحن لسنا مع «الموالاة - المعارضة» بتركيبتها الهشَّة القائمة على التسويات، لأن التسوية لن تكون لحسابنا، وإنما ستقطفها «معارضة اليوم» لأنها ستكون «سلطة الغد» كنسخة «طبق الأصل» لكل السلطات التي تناوبت على الحكم في لبنان منذ العام 1943م ولا تزال. وقد تستمر إلى أن نستبدل «نظام المحاصصة بين الطوائف» إلى نظام «كلنا للوطن» و«الوطن للجميع». وقد تستمر إلى أن نستبدل «نظام أعلام الطوائف» بـ«العلم اللبناني» مضموناً وروحاً، إيماناً وعقيدة، وليس شكلاً تكتيكياً على الطريقة التي يتبارى بواسطتها كل «المتجاملين»، وكل «الذين يقبِّلون بعضهم بعضاً» أمام عدسات وسائل الإعلام.
فتعالوا أيها اللبنانيون لنخطو معاً الخطوة الصحيحة الأولى تجاه بناء أطر سليمة لنظام ديموقراطي لبناني. من دون أن نكون قطريين منغلقين تتجاذبنا عوامل الخارج فتغرينا بآخر الأزياء الجديدة، كما تتجاذبنا تزاويق «الماكياج» التي لو تعرَّضت لنور الشمس فيظهر الوجه القبيح، وفيه ما يخيف وما يجعلنا ننام داخل دوامة من الكوابيس والرؤى التي تقشعر لها الأبدان.
وتعالوا أيها اللبنانيون لنقدِّم حصاداً من تجربتنا للأجيال الشابة التي، فيما لو أخذنا بيدها تجاه بناء وطن لبناني مرتبط بمحيطه العربي، لأعطتنا كل ما لديها من حيوية ووعي وطاقات فيها ما يدهشكم ويدهشنا.
أما جانب الاعتراض عندنا حول امتناعنا للانخراط في الموالاة والمعارضة، مما له علاقة بالتجاذبات «العربية» و«الدولية» على الساحة اللبنانية، ففيه من المبدئية القومية أكثر بكثير من «المصلحية السياسية» المرحلية التي تقصِّر عن رؤية الصورة بشكل واضح. وإلى أن نتناول ذلك الجانب بمقال آخر، لا يمكننا إلاَّ أن نعلن محذرين من خطورة اجتياح أميركي جديد للأمة العربية من البوابة اللبنانية. وعلى «أهل بيزنطية» أن لا يضيعوا الوقت بالجدال حول «جنس الديموقراطية» بحماية الاجتياح الأميركي، لأن العدو سيجتاح بيزنطية بما فيها. فلا ينفع أهلها –ساعتئذٍ- أن يكون جنسها «ذكراً أو أنثى».
***
javascript:void(0)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق