بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 22 يناير 2010

المقاومة الوطنية العراقية (معركة الحسم ضد الأمركة) (1)

كتاب المقاومة الوطنية العراقية
معركة الحسم ضد الأمركة


الإهـــداء

إلى أبطال المقاومة الوطنية العراقية
الذين ما إن ابتهج الأميركيون الغزاة بإسقاط تمثال القائد العربي صدام حسين في التاسع من نيسان من العام 2003م، حتى كانت سواعدهم تمتشق البنادق في العاشر منه( ) لتصليهم ناراً لاهبة.
والذين توهَّم الغزاة، وعملاؤهم، أنهم انتهوا بزوال السلطة فإذا بهم يبرهنون، بجدارة، على أنهم أبناء للثورة.
و العراقيين الذين اختاروا طريق الجبهة الوطنية لمقاومة الاحتلال( ).
و الذين توافدوا للدفاع عن أمتهم العربية على أرض العراق، حيث مواقع النضال والجهاد، فأعطوا للمعركة عمقها القومي والإنساني.

حسن خليل غريب


محتويات الكتاب
مقدمة الكتاب…………….....…………………………………….………..11
الفصل الأول
مقدمات فكرية حول مفاهيم النصر والهزيمة
تمهيد……………......……………….…………………………………… 15
أولاً: المفاهيم التقليدية للنصر والهزيمة مزاجية وليست فكرية أو فكرية سياسية.....................18
ثانياً: إسهام في تعريف مفهوم جديد للنصر والهزيمة. ……......................…………...19

الفصل الثاني
تاريخية الصراع بين الأمة العربية والاستعمار
أولاً: نظرة تاريخية حول الأهداف الإمبريالية في المنطقة العربية…..........................….25
ثانياً: حقيقة الأهداف الإنجلو أميركية نقيض للحقوق الوطنية العراقية.......................27

الفصل الثالث
آليات قرار الحرب الأميركية ضد العراق
أولاً: مراحل الإعداد الأميركي للعدوان على العراق………..................…………...31
1-على صعيد المؤسسات الفكرية الموجِّهة للإدارة الأميركية.
2-على صعيد تأمين الذرائع لتغطية العدوان.
ثانياً: الإدارة الأميركية تنفِّذ العدوان من دون غطاء شرعي دولي أو إنساني……....….41
ثالثاً: الوقائع الأولى للعدوان العسكري على العراق ونتائجه……….........................43

الفصل الرابع
موقع الفكر المقاوم في استراتيجية حزب البعث (49)

الفصل الخامس
مرحلة تطبيق البعث للمقاومة الشعبية في العراق
تمهيد تاريخي سياسي……………..............…………………………………………...53
أولاً: كيف يقوم الحزب بأداء موجبات مرحلة الكفاح الشعبي المسلَّح........................55
ثانياً: الأهداف الميدانية لحركة المقاومة الوطنية العراقية…............................…………56
1-استهداف جنود وتجمعات قوات الاحتلال الأميركية والبريطانية.
2-استهداف كل وجود صهيوني.
3-منع قوات الاحتلال من الاستفادة من تصدير النفط.
4-منع قوات الاحتلال من استخدام مطار صدام الدولي، والمطارات العراقية الأخرى.
5-مقاومة تشريع عمل ما يُسمى بمجلس الحكم الانتقالي.
ثالثاً: انعكاسات أعمال المقاومة، وتأثيرها، على مواقف دول العدوان، وعلى المواقف الدولية والعربية…………………………....................................……………73
1-تأثيرها في الولايات المتحدة الأميركية والبريطانية.
أ-تأثيرها على قرارات الإدارتين الأميركية والبريطانية وأهدافهما.
ب-المعارضة الأميركية تتلقَّف مأزق الإدارة في مواجهة المقاومة العراقية.
ج-إنكشاف كذب مبررات الحرب الأميركية على العراق.
د-تأثيرها على واقع جنود قوات الاحتلال العاملين في العراق.
هـ-تأثيرها على أهالي الجنود المشاركين في الاحتلال.
2-نقاط القوة والضعف في وضع قوات الاحتلال.
3-وسائل التخفيف من المأزق الأميركي في العراق.
رابعاً: انعكاساتها على المستوى الدولي………………..................………………….99
خامساً: انعكاساتها على المستوى العربي…….....................………………………105
سادساً: المقاومة العراقية تجر إدارة العدوان إلى حافة الإفلاس.............................…108

الفصل السادس
رؤية في صياغة أسس جبهوية وطنية وقومية في تجربة المقاومة العراقية
تمهيد……………………...........……………………………………………………111
أولاً:تأثيرات المقاومة العراقية في وقف تنفيذ أهداف الاحتلال….............................114
1-المشهد العام في ظل غياب المقاومة.
2-المشهد الراهن في ظل وجود المقاومة.
ثانياً: قراءة فكرية سياسية في وطنية المقاومة عند حزب البعث….........................…121
ثالثاً: رؤية مستقبلية حول اتجاهات المقاومة العراقية…….....................……………127
رابعاً: رؤية مستقبلية حول ضرورة قومية دعم المقاومة الوطنية العراقية…….......….129
خامساً: رؤية مستقبلية حول اتجاهات النظام السياسي بعد مرحلة التحرير………….134
في نتائج البحث.
الملاحق
1-رسائل الرئيس صدام حسين……………………………............…………143
2-بيانات حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق…….......................…….161
3-بيانات قيادة المقاومة والتحرير في العراق………......................…………...187
4-فصائل مشاركة في المقاومة العراقية………….......................……………...201
5-ملاحق متفرقة…………………................………………………………..217


المقدمة
سألني أحد الأصدقاء، بعد أن عرف بأنني أُعِدُّ دراسة عن المقاومة الوطنية العراقية، قائلاً: أليس من المبكر أن تُعِدَّ دراسة عن ظاهرة لا تزال في طور التكوين؟
أثارت الملاحظة لديَّ مخاوف من الوقوع في مرحلية العمل الصحفي ويومياته الإخبارية. فالخبر يتسابق مع التحليل وإذا سبقه يفقد التحليل أهميته. فإذا لم يكن التحليل سابقاً الخبر، ويتميز باستشرافه المستقبل، فلن تكون الدراسة بذات جدوى.
كنت واثقاً من أن المقاومة العراقية ليست ظاهرة تكوَّنت في ساعة الصدمة التي ولَّدها الاحتلال الأميركي – البريطاني لأرض العراق، بل سبقته بأوقات طويلة. فالمقاومة في العراق نتاج استراتيجي، وليس نتاجاً مرحلياً. وتستند استراتيجيتها إلى أنها تمثل أحد الأسس الفكرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، وترسَّخت في تربية البعثيين النضالية، على امتداد عشرات السنين أسهموا فيها بدور فاعل في تاريخ المقاومة الشعبية لكل مظاهر الاستعمار: في فلسطين، ولبنان، والأردن؛ وهذا هو –الآن- يمارسها –بكفاءة لافتة- في العراق.
وتستند الاستراتيجية النضالية للحزب إلى تُراث عربي تاريخي عريق، تراكم عبر العصور؛ كما تستند إلى تجربة عراقية خاصة، وكان من أهمها ثورة العشرين التي واجه فيها الشعب العراقي الاحتلال البريطاني.
وردَّاً على المتسائلين، أو المشككين، حول أسباب ظهور المقاومة العراقية تحت صيغة أنها منظمة أو هي نتيجة ردود فعل فردية، جئنا –من خلال دراستنا هذه- لنكشف أن المقاومة العراقية تقوم على أساس فكر استراتيجي وليس ردة فعل تكتيكية، كما أن الإعداد لها سبق العدوان الأميركي بسنوات طويلة.
مستنداً إلى العمق الاستراتيجي للفكر المقاوم عند حزب البعث العربي الاشتراكي ، تخلَّصت من مرحلية الخبر الصحفي ويوميته. ووظَّفته للبرهان على صحة تلك الاستراتيجية، وبذلك ضمنت للدراسة عن المقاومة العراقية ثباتاً استراتيجياً في الرؤية والتحليل، وحتى الخبر أسهم في إضفاء مصداقية وثبات على نتائج الدراسة، وبذلك ابتعدت الدراسة عن أن تكون مجرد وظيفة خبرية.
بعد أن ابتدأت عمليات العدوان العسكري على العراق، ومن منظار المتابعة الخبرية والخطابية، وترقباً لتحقيق أمنيات طالما غلَّبها المتابعون لمجريات حرب المواقع العسكرية، حدث ما حسبه كل المراقبين أنه من المفاجآت التي لم يكونوا يتوقعونها، وتمثَّلت المفاجأة بدخول جنود الاحتلال الأميركي إلى بغداد، في الوقت الذي كانوا ينتظرون فيه صموداً أكثر وقتالاً أكثر يلحق بجيوش الغزاة الخسائر الفادحة. وكان البديل من كل تلك التوقعات أن الاحتلال حصل في وقت سريع، قابله اختفاء سريع لكل مظاهر القوات العسكرية العراقية النظامية. وهذا ما أثار علامات التعجب والاستهجان، وعلامات الخيبة، عند الصادقين في محبة أمتهم العربية.
لكن بعد تواتر الأخبار عن عمليات المقاومة العراقية، هدأ روع الجماهير العربية، وتبدَّلت علامات السخط إلى مظاهر من الإعجاب والتشجيع لتلك الظاهرة.
وما كان ملفتاً للنظر هو تحول مظاهر الخيبة والتنديد، إلى مظاهر الإعجاب والتشجيع، لكن من دون أن يقوم أحد بتفسير لذلك الانتقال المفاجئ. أما نحن فكنا نملك تفسيراً لمثل تلك المتغيرات التي أحاطت بظاهرة المقاومة العراقية. ومن أجل توضيح تلك المساحات من الرؤية الغائبة عن أنظار الكثيرين ووعيهم، جاءت هذه الدراسة كمحاولة هدفها ملء تلك المساحات. وتمثَّلت مهمة البحث بتسليط الأضواء على ما كان خافياً، أو ما هو غائب -بالفعل- عن مدى الرؤية عند معظم المراقبين، الذين سخطوا ثم أُعجبوا.
إن المساحة الغائبة عن رؤية الصراع الأميركي - العراقي، هي من مهماتنا التي سنعمل على الكشف عنها. ويقوم أسلوب الكشف، مستفيداً من الخبر الصحفي والخطاب التعبوي، على مراجعة فكرية استراتيجية يستند إليها النظام السياسي الذي كان قائماً في العراق قبل الاحتلال. وهنا نرى أن مظاهر التصادم العسكري ووقائعه، الذي دار على الساحة العراقية، بشكل حرب المواقع النظامية، غيَّبت كل أشكال الصراع الأخرى التي تدعو إليها استراتيجية حزب البعث العربي الاشتراكي.
وجدنا أن تلك الأشكال هي ذات مضامين فكرية استراتيجية نظرية، ومظاهر نضالية عملية تمظهرت في تاريخ الحزب منذ الإعلان عن تأسيسه في العام 1947م.
بعد أن قلبت مظاهر المقاومة الشعبية في العراق موازين المزاج الشعبي، والثقافي والسياسي، أيضاً، راحت التحليلات، بالإضافة إلى المتابعات الخبرية تتساءل: هل المقاومة العراقية ردة فعل ضد فشل أساليب قوات الاحتلال في ضبط الفلتان الأمني، وانتشار السرقة والنهب، كما غياب الخدمات العامة من مياه وكهرباء وهاتف، ونتيجة اتخاذ قرارات عشوائية لإدارة الاحتلال المدنية بحل أجهزة الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية والقضائية، أي كل ما له علاقة بحياة الناس ولقمة عيشهم؟ أم أنها تأتي في سياق آلية مقاومة استراتيجية للمشروع الامبريالي الصهيوني؟
تكاثرت التحليلات وتضاربت، وكثرت التنبوءات حول تحديد زمن تنتهي فيه تلك الظاهرة، فربط البعض استمرارها بإنهاء مرحلة الفوضى، وإعادة الخدمات العامة، أو بتأمين لقمة العيش لملايين العائلات التي فقدت مورد رزقها.
وربطها البعض الآخر بأنها ردَّة فعل يائسة يقوم بها المستفيدون من النظام السياسي السابق، يمكن القضاء عليها، من خلال اعتقال رئيس جمهورية العراق، صدام حسين، مروراً بتصفية القيادة السابقة، انتهاءً بالقضاء على أي تأثير لحزب البعث العربي الاشتراكي في الحياة العامة العراقية.
حتى القوميون الصادقون، لم يحسبوا -في غمرة توقعاتهم وتحليلاتهم- أن هناك عوامل مبدئية استراتيجية أسهمت في صياغة مبكِّرة لظهور المقاومة العراقية. فربط البعض ولادتها ومصيرها بمظاهر محض مادية، فظهر وكأنهم يصورون بأن قتال العراقيين لقوات الاحتلال لم يكن إلاَّ من أجل تأمين بعض الخدمات، من ماء وكهرباء وهاتف وعدة ليترات من البنزين. وهنا نتساءل: إذا صدق المحتلون بتأمين كل تلك الخدمات، فهل تتوقَّف المقاومة ضدهم؟ وهل تحول الوطن إلى نقطة من الماء ومصباحاً من الكهرباء، وعدة ليترات من البنزين؟ أوَ ليس للكرامة الوطنية موقع عند العراقيين؟
وهنا نشير إلى أن الذين ربطوا انطلاقة المقاومة العراقية بالعوامل المادية، خاصة أولئك الحاقدين والمتورطين بمخططات الاستعمار الجديد، تناسوا أن من أهم دوافع الذين يقاتلون الاحتلال هو الدفاع عن كرامتهم الوطنية وقرارهم المستقل في اختيار النظام السياسي الذي يريدون، وحماية ثروتهم الوطنية ضد أساليب النهب الأميركي المنظم.
فدفاعاً عن المفاهيم الوطنية والقومية، والشرف الوطني، التي يتمسك بها العراقيون، جاء البحث لكي يكشف الزيف عن الادعاءات التي يعمل الحاقدون على نظام البعث في العراق، ومنعهم من أن يوغلوا تضليلاً على عقول الجماهير، ولكي يكشف نواياهم الخبيثة وحقدهم الدفين التي تدفعهم لتغطية جريمة احتلال العراق وتبرير شرعيته.
لعلَّنا منهجياً نكون قد تجاوزنا المآزق التي يضعنا أمامها الخبر الصحفي، ولعل نتائج البحث تنجح في الارتفاع بوعي الرأي العام العربي والدولي، في النظر إلى ما جرى في العراق، إلى المستوى الفكري والاستراتيجي النضالي الذي يشكل البوصلة النضالية لحزب البعث في مواجهة الاستعمار، بما يلقي أضواء كاشفة يتضح معها ما كان يعده البعض مفاجآت، تدعو إلى السخط حيناً وإلى الرضى والاعجاب أحياناً أخرى.
إن نتائج نضال المقاومة العراقية، وإن لم تنته فصولاً حتى الآن، فإن معالمها أصبحت واضحة للعيان، فهي قد فرضت نفسها عاملاً أساسياً في منع القوات الغازية من الاستقرار، وفي معادلة رسم مستقبل العراق بعد إنهاء الاحتلال. وإن الحكم على تأثيرها لم يعد غامضاً أو خاضعاً لـتأثيرات غير محسوبة، لأنها رسمت الخط الاستراتيجي الذي سوف يفرز نتائج واضحة وثابتة والتي لن يغيِّر تسارع الأحداث مما أصبح متوقعاً منها، أما تلك النتائج فهي إزالة الاحتلال وعملائه، وإنهاء كل المظاهر التي أفرزها. فلا يمكن –إذاً- أن يتجاوز تسارع الأحداث تلك النتائج التي توقعت هذه الدراسة حصولها. وهذا ما يشكل حصانة لها ضد أن تكون مجرد متابعة مرحلية، وهذا ما يعطيها أهميتها في الرؤية الاستراتيجية لظاهرة اعتبر الكثيرون أنها مؤقتة.
أما أهداف الدراسة ووسائلها فكانت التالية:
لم تكن من مهمتنا في هذه الدراسة أن نقوم بمقارنة توثيقية رقمية لموازين القوى العسكرية بين أميركا والعراق، ولكنها اهتمت بتوضيح رؤيتنا حول تحديد العوامل التي تبيِّن إمكانيات تحقيق نصر أو إلحاق هزيمة بين الطرفين المتصارعين.
في موازين القوى العسكرية، على مستوى العالم، هناك اعتراف بتفوق القوة العسكرية الأميركية، بمقارنتها مع الدول الكبرى، على شتى الصُعُد. ونرى أنه من السذاجة أن يسمح أحد لنفسه بالدخول في مجال المقارنة بين القوتين العراقية والأميركية، فهناك مسافة كبرى بينهما، ولهذا لن تستطيع القوة العراقية النظامية أن تصمد كثيراً في حرب المواقع أمام القوة الأميركية. ففي ظل مثل تلك المعادلة تنتصر القوة الأميركية، بدون شك. وفي المقابل ينهزم العراق بالتأكيد. لكن في رفض الطرف العراقي الرضوخ للإملاءات الأميركية، وهو الأضعف في الصراع العسكري، ما يدفعنا لطرح الأسئلة التالية:
إذا كانت نتائج الصراع العسكري النظامي واضحةً على ما قمنا بتحديدها، فلماذا أصرُّت القيادة العراقية على خوض الصراع مع قوة عسكرية تعرف نتائجه مسبقاً؟ أوَ ليس الإصرار على ذلك إلاَّ حالة واضحة من العبثية؟ ( ).
أوَ ليس الخطاب السياسي أو التعبوي إلاَّ رومانسياً؟ ذلك الخطاب، الذي يحسب فيه أصحابه أنهم يمتلكون مقدرة على إلحاق الهزيمة بالطرف الآخر على الرغم من أن ميزان القوى يميل -بشكل لا شك فيه- لصالح الطرف الآخر؟( ).
استناداً إلى مضمون إيديولوجيتهم الإعلامية والسياسية يتهم»الواقعيون« كل من يُصرُّ على مواجهة القوى العسكرية الكبرى بالرومانسية والسوريالية، ويدعونهم إلى أن لا يقودوا شعوبهم إلى حروب مع تلك القوى، لأن نتائج الإصرار تجر إلى كوارث مادية وإنسانية على شعوبهم.
وبين من يُصرون على قتال الخصم، بشعارات رومانسية ومن يصرون على الواقعية، مسافة حدَّدها -من يحلو للبعض أن يطلقوا عليهم صفة الرومانسيين- بعقلانية تستند إلى الدفاع عن القيم الإنسانية، بينما لم يستطع الواقعيون التقاطها. تلك المسافة تملؤها قيمة الدفاع عن السيادة الوطنية بملحقاتها بالحق في الحرية والمحافظة على الكرامة الإنسانية وحرية التصرف بالثروات الوطنية، وحرية اختيار الأنظمة السياسية…
وإذا كانت موازين القوى العسكرية هي التي تحدد نتائج النصر والهزيمة، ولكننا لا نحسب أن نتائج استخدام القوة العسكرية هي التي تحدد أسس العدالة بين شتى مستويات البشر، أفراداً وجماعات ودولاً -ولن تحققها- لأن مقولة الحق للأقوى تتنافى مع قيم الحرية والعدالة والمساواة. وشتى القيم الإنسانية الأخرى، من الحق بالمحافظة على السيادة الوطنية، وحرية التصرف بالثروات الوطنية، والحق في اختيار النظام السياسي.
ولأن استخدام القوة هو من الوسائل / المتغيرات، بينما القيم الإنسانية التي تحكم علاقات الإنسان بالإنسان هي من الثوابت، نكون بغاية من التعسف إذا ما قمنا بتثبيت المتغير المؤقت (الخوف من مواجهة عدوان القوى الكبرى)، وبتغيير الثابت وتحريكه (التنازل عن الحقوق الوطنية لقوى العدوان).
ولأن الداعين إلى الواقعية يغيِّبون العوامل القيمية عن التقييم، قمنا بدراستنا هذه بالدفاع عن رؤيتنا وقناعتنا من خلال دراسة واقعية ميدانية معاصرة، وهي موضوع المقاومة الشعبية في العراق ضد الاحتلال الأميركي – البريطاني.
أما لماذا أعطينا للمقاومـة العراقيـة صفة الوطنيـة؟
نطرح هذه الإشكالية في مواجهة الذين يستغربون أن تُعطى صفة الوطنية لمقاومة يقودها حزب يستند في إيديولوجيته إلى عمق قومي عربي. وهنا نرى أنه من بديهيات الأمور، أن يقود العراقيون –في هذه المرحلة- العمل المقاوم ضد قوات الاحتلال التي قامت باغتصاب أرضهم، وتعمل على ترتيب البيت العراقي –سياسياً واقتصادياً- بما يسمح لها بسرقة ثرواتهم الوطنية.
لذا تستند وطنية المقاومة العراقية إلى أن مقاومة الاحتلال هي أولاً مهمة أساسية من مهمات العراقيين. فإذا ما أحسنوا تنظيمها والقيام بموجباتها يأتي دور الآخرين، من تيارات وقوى وتجمعات شعبية قومية عربية، بالمساندة والمساعدة والمشاركة. وإذا ما أحسنت القوى القومية القيام بدورها القومي، في إسناد المقاومة العراقية –كفصيل من فصائل الثورة العربية- يأتي دور الإسناد الأممي الإنساني.
فعلى أسس وطنية المقاومة العراقية وقوميتها، إذاً، تتلقى إسناداً عالمياً وإنسانياً. لأنه من غير المنطقي أن يكون الشارع القومي العربي أكثر حيوية من الشارع الوطني العراقي، وأن يكون الشارع العالمي أكثر حيوية من الشارع القومي العربي.
استناداً إليه، نرى أن العمل المقاوم العراقي –على قاعدة وطنيته- يشكل المدخل الرئيس لولوج البوابة القومية، وبالتالي العالمية.
إن صفة الوطنية التي نطلقها على المقاومة العراقية مدخل أساسي نستند إليه في تعميم فكر المقاومة القومية وثقافتها؛ وهذا هو واقع الحال التي كانت،ولا تزال، عليه –بأشكال مختلفة- المقاومتان الوطنيتان الفلسطينية واللبنانية، وهما التجربتان السابقتان، لكي نستعين بنتائجهما، ونقوم باستنتاجات مفيدة من خلال دراستهما كتجربتين وطنيتين اتَّخذتا عمقهما القومي في مقاومة الاحتلال الصهيوني.
من أولى الاستنتاجات التي أفادتنا بها المقاومتان الوطنيتان، الفلسطينية واللبنانية، أنهما استندتا –أساساً- إلى الجهد المقاوم للشعبين الفلسطيني واللبناني، وبثقل من فعلهما الوطني فتحتا البوابة القومية في الإسناد والدعم والمشاركة.
أما ثاني تلك الاستنتاجات، فكان حرصهما –على الرغم من بعض الالتواءات التفصيلية- على ممارسة الفعل المقاوم على قاعدة الإجماع الوطني، وبذل الجهد للمحافظة عليه كإطار طارد لكل أنواع الأغراض الفئوية.
ولعلَّي أكون قد وفيَّت –من خلال هذه الدراسة- إلى أبطال المقاومة العراقية حقاً لهم، وهي كلمة صادقة تُقال في مقدماتها التاريخية والفكرية، وواقعها الراهن المشرِّف، ونتائجها المستقبلية التي تبشِّر بالخير على العراق والأمة العربية والعالم أجمع،
وعادة ما تكون كلمة الحق فقط أضعف الإيمان، وهذا ما يحدو بنا إلى أن نتطلَّع إلى المشاركة والدعم والاسناد.
لبــنان في أيلول / سبتمبر 2003م حسن خليل غريب



الفصل الأول
مقدمات فكرية حول مفاهيم النصر والهزيمة

تمهيــد
في كل صراع طرفان، ولكل طرف أهداف يحسب أنها مشروعة، فيقوم بالهجوم لتحصيلها من سالبها، أو بالدفاع لمنع سلبها من قوة أخرى. ويتم الصراع، عادة، بين الطرفين بوسائل عديدة، منها الصراع الإيديولوجي والفكري والسياسي، ومن أهمها التصادم العسكري الذي يعد له الطرفان كل الإمكانيات المادية، وتشمل الرجال والآلة والمال؛ وهي تشكِّل، عادة، عنصراً أساسياً في تحديد اتجاهات الصراع الميدانية.
ولأن الحرب العسكرية هي أحد وجوه الصراع بجوانبه السياسية والإيديولوجية والفكرية والثقافية، فإن نتائجها لن تكون حاسمة إلاَّ إذا أحدثت تغييراً في الاتجاهات السياسية والفكرية والإيديولوجية للخصم الخاسر عسكرياً. لذلك على الفريق الضعيف –في حسابات الموازين المادية- أن يضع قوَّة حقه عاملاً من عوامل تعديل موازين القوى في الصراع. وهذا ما لا يجعله يفرِّط به، ويحفِّزه إلى الدفاع عنه بشتى الوسائل والسبل.
وهنا، يمكننا أن نطرح التساؤل التالي: هل يمكن أن نطلق على كل من يتمسك بحقه، ويصر على الدفاع عنه، على الرغم من معرفته المسبقة بنتائج الصراع العسكري النظامي، بالرومانسية أو السوريالية؟
وهل يجوز –تحت حجة الواقعية- أن ندعو كل الضعفاء، بالموازين العسكرية النظامية، إلى التنازل عن حقوقهم الوطنية؟
إن مثل تلك الدعوات تخالف أدنى الحقوق في حماية القيم الإنسانية والدفاع عنها. ولهذا يكون السكوت عن مظالم يلحقها الآخر القوي، مادياً، بالضعيف الذي يتسلَّح بقوة حقه، منافٍ للقيم الإنسانية، فكيف بالأحرى يكون موقفنا ممن يتنازل عن حقه تحت ذريعة ضعف مقدرته العسكرية، وخوفاً من قوة الخصم؟
لا بُدَّ، في حساب موازين الصراعات بين الأقوياء والضعفاء، من أن نحسب أن قوة الحق هي من القيم الإنسانية التي لا يمكن إغفالها من موازين القوى، بل هي من الموازين القيمية الإنسانية التي تحصِّن صاحب الحق كي لا يتنازل عن حقه. وهي التي تلعب دوراً أساسياً في تحديد مفاهيم النصر والهزيمة.
ولأننا أمة تواجه سلسلة من الصراع المستمر مع قوى الاستعمار الخارجي،
ولأن تلك المفاهيم تلعب دوراً مهماً في التأثير على مضمون خطابنا السياسي وبنية مجتمعاتنا الثقافية والفكرية،
ولأن لتلك البنى تأثيراً في ترسيم حركة مجتمعاتنا النضالية، ولأن مفاهيم النصر والهزيمة، التي يستند إليها خطابنا السياسي أصبحت قاصرة عن تجديده بما يتناسب مع معارك الدفاع عن حقوقنا، وبما يتناسب مع تجارب الأمة النضالية،
بات من الواجب علينا أن نسهم في صياغة مفاهيم جديدة للنصر والهزيمة.
بداية، نرى أن من علامات النصر أن يرغم القوي خصمه على الاعتراف له بمشروعية أهدافه. فإذا أرغم خصمٌ خصمَه، على الاستسلام من دون الاعتراف له بمشروعية أهدافه- يبقى النصر مبتوراً. فكيف إذا كان الاستسلام لم يتم أصلاً؟
استناداً إلى ذلك، عندما يعجز الضعيف في الدفاع عن حقوقه، لغياب التكافؤ بموازين العوامل المادية، ولكنه يرفض التنازل عنها، ويصر على استعادتها بشتى وسائل الممانعة المتاحة، يعني أن النصر لم يكتمل للخصم المنتصر، والهزيمة العسكرية تبقى ناقصة الشروط بالنسبة للطرف المهزوم. أما البراهين على ذلك، فكثيرة، ومنها الأمثلة التالية:
ربحت الصهيونية، عسكرياً، على الشعب الفلسطيني –منذ بداية تأسيس كيانها على أرض فلسطين- وعملت جاهدة على انتزاع اعتراف الشعب الفلسطيني بمشروعية كيانها. لكن هذا الشعب، على الرغم من خسارته معاركه العسكرية التي تمظهرت في أكثر من منازلة أو معركة، لم يعترف للصهيونية بمشروعية أهدافها. ولما كانت قيم الوطنية والسيادة على الأرض والحق بالعيش المستقل هي من القيم التي تمثل حقوق الشعب الفلسطيني من جهة، ولما كان الاغتصاب هو الوسيلة التي استخدمتها الصهيونية من جهة أخرى؛ أعطت قوة الحق، التي يمتلكها الشعب الفلسطيني في مواجهة وسائل الاغتصاب، شحنة من الإيمان للنضال من أجل استعادة الحق المسلوب. فأضافت تلك الشحنة، إلى موازين القوى، عاملاً دفعه إلى رفض التنازل عن الحقوق والقيم، فانخرط بسلسلة من وسائل المقاومة الفكرية والسياسية والعسكرية ضد العدو الصهيوني. ولما لم يتوقَّف الصراع، حتى الآن، بل هو قائم ومتجدد –منذ أكثر من خمسين عاماً- نجد ما يدفعنا إلى القول بأنه لهذا السبب وحده، نحسب أن الصهيونية لم تسجل نصراً كاملاً، بل إن الشعب الفلسطيني لم ينهزم أيضاً.
وكمثال آخر، انتصرت الصهيونية، عسكرياً، في حرب العام 1967م، على الجبهة المصرية؛ واستثمرت نصرها في سبيل إرغام مصر على الاعتراف لها بحق اغتصاب الأرض العربية؛ لكن مصر امتنعت عن الاستجابة للإرغام الصهيوني، ومارست حرب الاستنزاف المشهورة. فمصر تكون بذلك قد انهزمت بالمفهوم العسكري النظامي، لكنها بامتناعها عن التنازل عن الحقوق، خاصة بعد أن ابتدأت حرب الاستنزاف ضد العدو على قناة السويس، كوجه من وجوه المقاومة، تكون قد جرَّدت النصر الصهيوني العسكري من اكتمال شروط تحققه، وتكون –بما أقدمت عليه- قد جرَّدت الهزيمة المصرية من بعض شروط اكتمالها.
أما في العام 1973م، فقد حققت القوات المصرية نصراً عسكرياً –ولو كان غير كامل- على القوات الصهيونية، وكان عليها لكي تسجِّل نصراً كاملاً أن تمنع الصهيونية من تثبيت ما سرقته من حقوق عربية. لكن، على الرغم من تحقيق النصر العسكري المصري، دخلت الحكومة المصرية في سلسلة من المفاوضات كان من نتائجها الاعتراف بشرعية الاغتصاب الصهيوني للأرض الفلسطينية، فتكون بذلك قد ألغت نتائج حرب العام 1973م، وجرَّدتها من شروط الانتصار، وحوَّلت نتائجها إلى هزيمة عندما تنازلت للعدو عن الحقوق الوطنية والقومية؛ علماً أن مصر –التي أشرفت على إدارة قطاع غزة بعد حرب العام 1967م- ليس لها الحق، بموجب الواجب القومي نحو القضية الفلسطينية وموجب المستلزمات القانونية، أن توقِّع اتفاق سلام مع الصهيونية دون ضمان حقوق الشعب الفلسطيني.
ولما كان الهدف الصهيوني، من استخدام وسائل القوة، الحصول على تنازلات من الفلسطينيين والمصريين، في العام 1967م، ولما لم تحقق الصهيونية تلك الأهداف، فإنها لم تسجل نصراً كاملاً. ولما امتنع الفلسطينيون والمصريون عن تقديم تلك التنازلات يكونون كمن جعلوا الهزيمة غير كاملة.
لكن لما اعترفت مصر بمشروعية الأهداف الصهيونية –على الرغم من النصر العسكري المصري في العام 1973م- تكون، على قاعدة ذلك الاعتراف، قد ألغت انتصارها العسكري وسجَّلت هزيمة فكرية وإيديولوجية، وهزيمة قيمية إنسانية.
ليست، إذاً، نتائج العمليات العسكرية النظامية هي التي تحدد مفاهيم النصر والهزيمة، بل الرضوخ والتنازل عن الحقوق أو رفض التنازل عنها هي التي تحددها.
استناداً إلى ذلك، نرى أنه لا بُدَّ، أمام حركة الفكر العربي، من نقد تلك المفاهيم، كخطوة على طريق صياغتها من جديد على ضوء التجارب النضالية للحركة الثورية العربية. ولهذا سنعمل على الإسهام في تلك المهمة.

أولاً:المفاهيم التقليدية للنصر والهزيمة قاصرة عن التعبير عن تجارب الأمة النضالية:
وكأن القوى الخارجية المعادية للأمة قد أسرت بنيتنا الثقافية في دائرة الحرب النظامية؛ فتناسينا، في خطابنا الفكري والثقافي والسياسي، أن في حياة الأمة مجموعة من التجارب / الدروس النضالية، تبتدئ من تجربة الجزائر، وتمر بتجربتيْ المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وتنتهي –في هذه المرحلة- بتجربة العراق.
بين المسألتين: الحرب النظامية، وحرب التحرير الشعبية، مسافة دفعت ببنيتنا الفكرية إلى نقد الأنظمة من دون أن نولي اهتماماً لدور الشعوب، التي أثبتت التجارب القومية والعالمية دورها المؤثر في حركات التحرير.
فبمثل الآليات النقدية الفكرية والثقافية السابقة تحوَّلت بنية المجتمع العربي الثقافية إلى بنية مهزومة، وانطبعت حركة العرب الثقافية –منذ هزيمة الأنظمة العربية في حرب فلسطين في العام 1948م- بأدب وفكر الهزيمة. فأصبح من السائد كأن العرب لم يعرفوا النصر بل هم من الشعوب التي لا تعرف إلاَّ الهزائم.
انعكس المناخ الفكري والثقافي والشعبي -حول ما يحلو للبعض أن يصفه بهزيمة النظام العراقي في الحرب الأخيرة- على تقييم الخطاب الفكري والسياسي والثقافي لما حصل في العراق، منذ التاسع من نيسان من العام 2003م.
لقد نال الحدث الغامض الذي أحاط باحتلال بغداد قبل أن يحين الموعد العملي لسقوطها –كما كان يحسب معظم المراقبين- كل الاهتمام عند أكثر الأوساط الحزبية والشعبية والرسمية، وكأن ذلك شكَّل حسماً للمعركة، وُضعت فيها تيجان النصر على هامات الأميركيين، ونال العرب –هذه المرة- هزيمة أخرى في العراق.
في تلك المرحلة حسب معظم المتابعين للحدث أن رايات النصر والهزيمة –التي وزعها جورج بوش- كانت النتائج النهائية للحرب التي دارت رحاها على أرض القطر العراقي. ولكن لما تواترت الأنباء -بعد أقل من أسبوعين من احتلال بغداد- عن قيام عمليات عسكرية –على قاعدة حرب العصابات- تقوم بها مجموعات عسكرية عراقية، انشدَّت أنظار الجميع –من جديد وبشيء من الاعجاب- باتجاه الفعل العراقي المقاوم ضد قوات الاحتلال الأميركي – البريطاني. وأدرك المراقبون أن ما أعلنه جورج بوش لم يكن يعبِّر عن الواقع، لأن ظهور المقاومة الشعبية يشكل استمراراً لتلك الحرب، ولكن بوسائل غير نظامية.
هنا نتساءل كيف حصل هذا التغيير في الأحكام بمثل تلك السرعة؟
بسرعة تغيير الأحكام، تساوت الجماهير الشعبية، والمنظمات الحزبية والثقافية والفكرية. وليس هذا التساوي مما يمكن أن نهمله، بل من الواجب أن نفتِّش عن تفسير له.
إن السرعة في تغيير الأحكام من ظاهرة واحدة، يتم بين ليلة وضحاها، ليس إلاَّ مستوى من المزاج والأحكام المزاجية، وهي من انعكاسات منهج التفكير الذي يشكل خصوصية في العقل العربي الراهن. هذا العقل الذي لم يرتق، أو لم تستطع المؤسسات الفكرية أن ترتقي به إلى المستوى الناضج الواعي والموضوعي. وتتمظهر حالات القصور في سرعة تغيير الأحكام حول حدث محدد، كمثل ما حصل من تغيير في الأحكام بعد احتلال بغداد. بحيث تحوَّلت الأحكام من الاستغراب والاستهجان والسخط أحياناً حول نتائج ما سُمِّي –في وقته- بالهزيمة العراقية، إلى الاعجاب والتشجيع بعد تمظهر المقاومة العراقية –على قاعدة حرب العصابات- أما السبب في مثل ذلك التغيير السريع فيعود إلى عامل المزاج –الذي أسهمت في تكوينه آليات التفكير التقليدي لمفاهيم النصر والهزيمة، ولم يأخذ بعين الاعتبار عامل التحليل العقلي، الذي من الواجب أن يستند إلى آليات جديدة مُستَخلَصة من تجارب السنوات الخمسين التي تفصلنا عن حرب فلسطين في العام 1948م.
ونرى أن الخروج من مزاجية الأحكام، المبنية على آليات الخطاب الفكري الثقافي السياسي التقليدي، يتم من خلال وضع مفاهيم جديدة، تأخذ بالاعتبار قيم الحق في الدفاع عن الأرض الوطنية بشتى السُبُل المتاحة، ومنها وسائل الكفاح الشعبي المسلَح، وقيم الممانعة في التنازل عن تلك الحقوق، مهما كانت الضغوط العسكرية النظامية للقوى المعادية، كما الممانعة في الاعتراف للدول الغاصبة بمشروعية أهدافها مهما بلغ الثمن من النضالات والتضحيات.

ثانياً: إسهام في تعريف جديد لمفاهيم النصر والهزيمة
حان الوقت لأن ترتقي الحركات الحزبية والثقافية والفكرية من مستوى المزاج إلى المستوى الفكري الاستراتيجي. ونُعيد أسباب المساواة، في إطلاق الأحكام بين الشعبي والثقافي والفكري، إلى تقصير في المفاهيم الفكرية العامة، أو المفاهيم الفكرية السياسية الخاصة، التي نستعين بها في إطلاق الأحكام على الظواهر. وتتحمَّل الحركة الفكرية العربية مسؤولية القصور، لأنها لم تجهد نفسها من أجل إعادة النظر في المفاهيم الفكرية والثقافية والسياسية ذات العلاقة بحركة النضال القومي العربي، فانعكس القصور سلباً على الواقع الثقافي العربي بشكل عام، وعلى ثقافة الجماهير الشعبية بشكل خاص.
على الرغم من التجارب المهمة التي حصلت على الصعيد القومي، التي تتمظهر بوسائل الكفاح الشعبي المسلَّح، والنتائج الإيجابية التي حصلت عليها بعض الأقطار العربية، ظلَّ الفكر العربي المعاصر مأسوراً في داخل مفاهيم تقليدية تحصر وسائل الصراع بين الأمة وأعدائها في موازين القوى العسكرية التقليدية، والاقتصار على نتائجها في صياغة مفاهيم النصر والهزيمة. ولم يرتق إلى دراسة عوامل الكفاح الشعبي المسلَّح، كعوامل أثبتت جدارتها في حساب موازين القوى.
نحسب، هنا، أنه لو قامت الحركة النقدية الفكرية العربية بالنظر إلى تلك المفاهيم، برؤى جديدة تتناسب مع تجربة الشعب العربي النضالية، فسوف تعمَّقها في الثقافة العربية الشعبية، وتنقل الأحكام –حول النصر والهزيمة- من مستوى المزاجية إلى مستوى الأحكام الواعية والموضوعية؛ وبذلك، تنتقل بالثقافة العربية من الإيمان بثوابت جائرة تحمِّل العرب وزر هزيمة دائمة لم تحصل، ومن تحميلها وزر الاعتراف للقوى المعادية بنصر لم يكتمل.
لهذا السبب سنحاول –من خلال هذه الدراسة- القيام بإسهام للتجديد في مفاهيم النصر والهزيمة، وبناءً عليه، سننتقل إلى دراسة مرحلة ما بعد الإعلان الأميركي عن انتهاء الحرب في العراق في أول شهر أيار / مايو من العام 2003م.
ليس من المستغرَب أن تعلن قوى الاحتلال، وتلك التي تستند في تقييماتها إلى مكاييلها الخاصة التي لا تستقيم مع قيم الثورة، أنها انتصرت، وألحقت هزيمة بالعراق. ولكن المستَغرَب أن يتبنى الخطاب العربي الناقد، سواء الصادق منه أو المتلوِّن، منطق إعلان الهزيمة.
لم تكن الهزيمة وصفاً يطول تجربة الصراع العراقي – الأميركي، فحسب، بل إن الحديث عنها –أيضاً- أصبح حقيقة فكرية سياسية تستخدمها كل تيارات حركة التحرر العربية في وصف نتائج كل الصراعات السابقة بين الأمة العربية وأعدائها. وأصبح أدب الهزيمة سمة من سمات الخطاب العربي. وأصبح الترويج له، سواء كان صادراً عن سلامة الطوية أو سوئها، يسهم بشكل غير مباشر في تأسيس حالة انهزام نفسية تنعكس آثارها على ثقافة الجماهير الشعبية. فتكون تيارات حركة التحرر العربية -بتثبيتها لمثل ذلك الخطاب- كمن تضع في مواجهة نضالاتها الكثير من العوائق ومن أهمها زرع روح الانهزام واليأس في نفوس الجماهير التي تشكل المعين الرئيس في رفدها بالبُنى البشرية الأساسية.
وحيث إن تيارات حركة التحرر العربية لم تعلن يأسها، وهي بحاجة إلى المعين الجماهيري لمتابعة النضال، وحيث إن الجماهير اليائسة لن تناضل، فعلى تيارات حركة التحرر العربية أن تحافظ على وسط جماهيري يتمتع بحد أدنى من المعنويات. ومن أجل تلك الغاية نرى أن عليها أن لا تزرع منطق الهزيمة النفسية من خلال خطابها السياسي والفكري الذي اعتادت على ممارسته نقداً لتجاربها الخاصة أو تجارب الآخرين.
تدفعنا تلك الرؤية إلى تفسير السبب الذي يسوِّغها. ويسوَّغ الموقف الذي يرفض الترويج للهزيمة وأدبها، وتغيير مفاهيمها كمصطلح سياسي. وبناء عليه إلى ماذا نستند في اتخاذ هذا الموقف، وكيف نعمل من أجل التأسيس لمفاهيم جديدة؟
لا شك في أن تأسيسنا لمفهوم جديد لمعاني النصر والهزيمة سوف يثير استغراب الأكثرية من حركة الناقدين لشتى تجارب الأمة العربية. خاصة أن الخطاب السياسي والفكري المرحلي، انتهج خطاً مسكوناً بهاجس الهزيمة. ويتَّسم هذا الخط بمنهجية الإلغاء لكل نتائج التجارب السابقة، السلبي منها والإيجابي،و رفض تفسير الأمور على واقعيتها من دون مبالغة في تسقيط التجارب بالكامل أو في تثبيتها بالكامل.
وهنا نتوجَّه إلى تيارات الحركة الثورية العربية بما يلي: يعتمد الخطاب العربي السائد حدَّيْن لنتائج تصادم القوى العسكرية النظامية:إما هزيمة كاملة أو نصراً كاملاً. وهذا صحيح في المقاييس المادية، إذا انتهى الصراع بالاعتراف بمشروعية أهداف المنتصر أولاً. وثانياً، إذا توقَّفت حركة الصراع، ضده، بكل أشكالها.
وعلى هذا الأساس، إذا كان فقدان التوازن بالقوى العسكرية هو الذي يحدد نتائج الصراع بين خصمين، فعلى القوى التي لا تمتلك ما يوازي قوة خصمها على الصعيد العسكري أن ترضخ لشروطه؛ ويصبح من الجنون أن يقدم الضعيف على الدخول في حرب خاسرة سلفاً. وفي مثل تلك الحالة يبقى الحق للقوة، مما يلغي كل القيم الإنسانية ذات العلاقة بالعدل والمساواة، وقيم احترام إرادة الشعوب في المحافظة على استقلالها وحريتها في بناء الأنظمة السياسية التي تختارها بنفسها….
وإذا أصبح استسلام الضعيف، من دون مقاومة، إلى إرادة القوي قيمة من القيم الإنسانية. يعني كل ذلك أن على الشعوب الضعيفة أن تسلِّم كل مقدراتها إلى من يمتلك وسائل القوة العسكرية،
ولما كانت القوى الكبرى، التي تمتلك الإمكانيات العسكرية، تحول دون أن يمتلك أي شعب من الشعوب من وسائل القوة النظامية، ما يتيح له الدفاع عن نفسه، وبشكل خاص دول العالم الثالث، ويأتي على رأسها دول الوطن العربي،
يعني ذلك أن العرب لن يمتلكوا قوة موازية لقدرات الدول الكبرى، ويعني هذا، أيضاً، أنهم سوف يكونون مهزومين دائماً.
لهذا السبب، نرى أن على تيارات حركة التحرر العربية، إذا ظلَّت آليات تحليلها جامدة من دون تجديد، أن تعلن الهزيمة الدائمة مرة واحدة. وهذا أفضل من أن تعلنها بالتقسيط. كما أنها، في ظل غياب التجديد، تتحوِّل تيارات الحركة الثورية إلى جوقة من الندَّابين تحت ذريعة ممارسة النقد.
والأجدر بتلك التيارات، إذا أصرَّت على منهجها التقليدي في الندب / النقد، أن تعلن تأجيل صراعاتها مع قوى الاستعمار إلى أجل غير مسمى، على أن ترتبط حدوده الزمنية مع المرحلة التي تصل فيها الأنظمة العربية –وهي لن تصل- إلى امتلاك قدرات عسكرية تسمح لها بإحداث توازن في القوى بينها وبين أعدائها.
وحيث إن منطق التأجيل هذا، هو اللامنطق بعينه، نرى أن على حركات التحرر أن تضع في موازين القوى، في الصراع مع الإمبريالية والصهيونية العالمية، حسابات أخرى. ومن تلك الحسابات إدخال عاملين أساسيين وهما:
1-رفض الشعوب المغلوبة –عسكرياً- تشريع أهداف العدوان، ورفض التنازل عن الحقوق الوطنية والقومية.
2-المقاومة الشعبية المسلَّحة ضد الاحتلال عامل أساسي من عوامل تعديل الموازين في القوى.
إن هذين العامليْن، إذا أصبحا من آليات التقييم الجديد في الفكر العربي، يستطيعان أن يردما المسافة الفاصلة بين مفهوميْ النصر والهزيمة.
أما بالنسبة للعامل الأول، فنرى أن ثقافة الدفاع عن القيم القومية والوطنية -كدفاع عن القيم الإنسانية- هو من الأهمية بمكان؛ وهو وحده- القادر على لجم أي جنوح فئوي -ديني أو مذهبي أو عرقي- نحو الغرق في الاستقواء بالخارج. كما أنه يزيل أي التباس بين مفاهيم الحقوق السياسية للمواطن وواجباته في الدفاع عن كيانه الوطني ضد كل أنواع العدوان الخارجي مهما كانت أسبابه ودوافعه.
وتأتي حسابات الدفاع عن القيم الإنسانية (الوطنية والقومية والسيادة على الأرض وعلى القرار ، والتصدي إلى منطق الظلم والاستعباد والاستغلال) في موقع التأثير على بناء الموجبات النضالية والتضحية بالنفس.من أجل الدفاع عنها..
أما حول العامل الثاني، المرتبط ارتباطاً وثيقاً مع العامل الأول، فتتم ترجمته من خلال أسلوب المقاومة الشعبية، ومن أهمها المقاومة الشعبية المسلَّحة الطويلة الأمد. و على الرغم من أن التقليديين من المثقفين الليبراليين يصفون هذا الأسلوب من النضال بالسوريالية، إلاَّ أن المقاومة الشعبية المسلَّحة –كما أثبتت كل وقائعها التاريخية- تشكل الأسلوب الذي يسهم في تعديل موازين القوى المادية العسكرية في الصراع بين الشعوب التي تنشد التحرر من الاحتلال الأجنبي وبين القوى المعادية الأجنبية.
وتدليلاً على أهمية حرب التحرير الشعبية، كأسلوب وحيد متاح لاستعادة التوازن -في ظل غياب التوازن العسكري النظامي- جاء في تقرير لوفد الكونغرس الأميركي إلى العراق ما يؤكد تأثير هذا الأسلوب وأهميته في إعادة التوازن في القوى بين القوة العسكرية لدولة تمتلك قوة عسكرية هائلة، وبين قوة لا تمتلك جزءاً يسيراً منها، ما يلي: »إن المدة التي سبقت سقوط صدام، وحتى يوم سقوطه كانت تمثل عملاً عسكرياً رائعاً من القوات الأمريكية ضد القوات العراقية، وإن العسكرية الأمريكية كسبت الحرب باقتدار بارع، ولكن يجب أن نقر ونعترف بأن العسكرية الأمريكية فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق الانتصار على هذا الشعب.«( ).
استناداً إلى كل ذلك، نقول لكل من يحلو له أن يهلل للنصر الأميركي، أو يعلن سخطه على الهزيمة العراقية، إن المقاومة الشعبية –بشتى أشكالها ووسائلها، ومن أهمها المقاومة الشعبية المسلَّحة- تأتي في قلب العوامل التي على الشعوب التي لا تمتلك وسائل الانتصار العسكري النظامي أن توليها الاهتمام الكافي، ويأتي على رأس من نخاطبهم بعض من المثقفين والنخب من السياسيين المحسوبين على دوائر هذه الوطنية القطرية العربية أو تلك، أومن المحسوبين على القومية العربية.
أن تتمظهر بعض معالم المقاومة الشعبية لقوى الاحتلال –بشكل عام- لهو دليل على الممانعة والرفض، أي دليل على أن تلك القوى لم تتنازل للمحتل عن حقوقها ولم تعترف بمشروعية أهدافه، وتلك الممانعة، تدل على أن المحتل لم يحقق نصراً متكاملاً من جهة، وتدل على أن الشعب الممانع –على الرغم من احتلال أرضه- لم يستسلم إلى منطق الهزيمة من جهة أخرى.
ولهذه الأسباب نرى أن رفض التنازل عن عدد من القيم الوطنية التي يعمل المحتل على انتهاكها، ورفض التعاون مع المحتل هو من القيم الإنسانية. وتكون المقاومة المسلَّحة، التي تعتمد أسلوب حرب العصابات، عاملاً من أهم عوامل الرفض الوطني الذي يجرد العدوان من تحقيق نصر كامل، ويستبعد الهزيمة الكاملة للشعب المقاوم.


الفصل الثاني
تاريخية الصراع بين الأمة العربية والاستعمار

أولاً: نظرة تاريخية حول الأهداف الأمبريالية في الوطن العربي
منذ اللحظة التي أعلنت البورجوازية الناشئة في أوروبا، في القرن الثامن عشر الميلادي، إيديولوجيتها الأممية التي تجيز لها التوسع والسيطرة على دول العالم، والهدف من ورائها تأمين أوسع مساحة ممكنة للحصول على المواد الخام، وإيجاد الأسواق الاستهلاكية أمام منتجاتها الصناعية، كانت نقطة البدء في تأسيس معالم الإيديولوجية الأمبريالية.
تحوَّلت تلك الإيديولوجيا إلى مؤسسة دراسات فكرية وسياسية واقتصادية على أيدي الشركات الكبرى في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، على أيدي أكبر المتمولين الرأسماليين، روكفلر. ومن أهم مهمات تلك المؤسسات أن تروِّج لأفكار وترسم سياسات تطال حتى مجتمعات الأسواق الاستهلاكية المفترضَة. والغاية من ذلك أن تمهِّد الطرق أمام انتشار سيطرة رأس المال العالمي.
لذلك، انخرطت الدول الأوروبية في ورشة استعمارية رسمت السياسات الأولى لفرض سيطرتها على الوطن العربي بعد سقوط النظام العثماني التركي في الحرب العالمية الأولى، في الربع الأول من القرن العشرين.
وانتقلت الإيديولوجيا الأمبريالية إلى الولايات المتحدة الأميركية بعد أن تعزز دورها العسكري وتأثيرها الاقتصادي في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وانتقل معها تأثير اللوبي الصهيوني، كجزءٍ أساسي من قوى الرأسمال العالمي.
بدأ الإعداد الأميركي للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط بشكل عام وعلى الوطن العربي بشكل خاص، منذ أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، حيث كان العراق من أهم الدول العربية التي انخرطت في التحالف الموالي للإدارة الأميركية، إذ كانت بغداد مقراً لما كان يُعرف ب»بحلف بغداد« الذي ضمَّ إلى عضويته كلاً من إيران وتركيا وباكستان. ولم تكن مدة ذلك الحلف طويلة لأنها انتهت بقيام ثورة 14 تموز / يوليو من العام 1958م، وتلك من المفاجآت المعادية التي لن ينساها الأميركيون، وعلى أساسها ظلَّت بغداد هدفاً استراتيجياً للمطامع الأميركية. وازداد الهدف أهمية، لأنه أخذ يشكل الخطر الأكبر الذي يحول، أو قد يحول، دون استكمال السيطرة الأميركية على الثروة البترولية العربية، وكان ناقوس الخطر الأكثر تخويفاً لمطامع الشركات الرأسمالية الكبرى، هي الخطوة التي أقدم عليها العراق في حزيران من العام 1972م، والتي تمثَّلت بقرار نظام حزب البعث في تأميم الثروة النفطية العراقية.
ترافقت خطوة تأميم الثروة النفطية العراقية مع عدد من المتغيرات الجديدة التي أخذ نظام الحزب يستفيد منها بواسطة العائدات الكبيرة لتلك الثروة، ليس على صعيد الاستفادة منها في مجالات التنمية الوطنية، بل أخذت أهميتها تبرز من خلال الدعم الذي كان يقدمه العراق إلى حركات التحرر العربية، ومنها بعض الأقطار العربية في صراعها مع العدو الصهيوني.
ولما نجحت الإدارة السياسية الأميركية في تطويع الموقف المصري –من خلال اتفاقيات كامب ديفيد- حيث يوجد أكبر خزان شعبي عربي، تحوَّلت الأنظار الأميركية إلى النظام السياسي في العراق، الذي يمثِّل أكبر خزان اقتصادي وثوري.
قام ذلك النظام بدعم الرافضين للسياسات الأميركية، على قاعدة إيمانه بالنضال ضد الاستعمار ومصالحه وأدواته، فتوجَّهت إليه بشكل حاسم وراحت تعد السيناريوهات من أجل إسقاطه. وكان الحماس الأميركي أكثر حرارة لأن أهدافها لقيت حماساً وإصراراً صهيونياً على تنفيذها لأكثر من سبب، ومن أهمها:
-فكره الثوري على الصعيد العربي القومي الوحدوي، وبه يشكِّل النقيض الأخطر لمخططات سايكس – بيكو، بشتى اتجاهاتها ومراميها وأهدافها على الصعيدين الصهيوني والإمبريالي. ولمثل هذا السبب، كانت اتجاهات حزب البعث العربي الاشتراكي تمثِّل الخطر الرئيس( ) على مصالح التحالف المذكور، فكان من أهم الأسباب التي وضعته على لائحة الاستهدافات الصهيونية والإمبريالية، منذ الخمسينيات من القرن العشرين، أن الاستراتيجية الأميركية –منذ ذلك الوقت- كانت تقوم على ضرورة محاصرة المراكز الثورية العربية وإسقاطها( )، ولم يخف الأميركيون خشيتهم من أهداف الحزب، وهذا ما أظهرته تصريحات، وأوامر، وقرارات، بول بريمر (الحاكم الأميركي المدني للعراق بعد الاحتلال)( ).
-كان قرار تأميم النفط العراقي، في حزيران/ يونيو من العام 1972م، هو البداية الحاسمة التي جعلت دول العالم الرأسمالي تخشى من قيام أنظمة مماثلة لنظام حزب البعث في العراق؛ ومنها أخذت الإدارة الأميركية –المؤتمِرة بقرار الشركات الرأسمالية الكبرى- تخطط من أجل احتواء ذلك النظام، وإرغامه على التراجع عن الخطوات الاقتصادية التي تضر بمصالح الدول الرأسمالية، أو –إذا لم تنجح سياسة الاحتواء- استخدام القوة العسكرية.
-تأكد إصرار النظام السياسي في العراق على رفض محاولات الاحتواء والتهديد، بعد أن بدأ في التأسيس لمشروع عربي نهضوي مستفيداً من عائدات الثروة النفطية الهائلة. وبرزت معالم تلك الأهداف من خلال بناء أنظومة علمية تحوِّل العراق إلى بلد منتج للعلم والمشاريع الصناعية الطموحة. وكان من أخطرها بناء مفاعل تموز النووي. ومن أجل بناء المنظومة العلمية على أسس سليمة سلك النظام في العراق طريق استقدام العقول العلمية العربية من جهة، وتأهيل آلاف العلماء العراقيين من جهة أخرى. ولم يمر وقت طويل، بعد انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية، حتى تبيَّن أن العراق قد تحوَّل إلى بلد منتج.
-كان النظام في العراق يسلك طريق التقدم العلمي والاقتصادي والسياسي في بناء علاقات مع شتى الأقطار العربية، من خلال مشاريع التجارة والتصنيع المدني والعسكري، مما يؤشر على وجود مخططات واعدة وطموحة لتخليص الاقتصاد العربي من هيمنة الاقتصاد الرأسمالي، وهذا يُعدُّ من أهم مقاتل ذلك الاقتصاد.
-كان النظام السياسي في العراق يقوم بصرف جزء من عائداته النفطية لمصلحة قوى التحرر العربية، وإسنادها بجزء من الإمكانيات اللازمة التي تساعدها على متابعة نضالاتها من أجل تحرر بلدانها من التبعية الاقتصادية للدول الرأسمالية؛ أو من أجل تحريرها من التبعية السياسية والأمنية لها.
-دعمه للثورة الفلسطينية أولاً، أما ثانياً فللثأر التاريخي من العراق عندما سبى نبوخذ نصَّراليهود إلى بابل. أما الدليل على مدى تأثير الاستراتيجية الصهيونية تلك على قرارات الإدارات الأميركية المتعاقبة فهو قيام الطائرات من الكيان الصهيوني، في وقت مبكر من إعلان النوايا الأميركية، بقصف المفاعل النووي العراقي في تموز من العام 1981م.

ثانياً:حقيقة الأهداف الإنجلو أميركية نقيض للحقوق الوطنية العراقية
تتجلى أهداف الصراع العربي - الأمبريالي بشكل رئيس في أطماع الأمبرياليين بثروة العرب النفطية، ومن أهمها ثروة الشعب العراقي التي استعصت على الإرادة الإمبريالية. ومن أجل السيطرة عليها حيكت ذرائع لتضفي مشروعية على أي أسلوب يستخدمه الأمبرياليون لتحقيق أهدافهم. وحيث إن عوامل الضغط السياسي على العراق لم تف بالغرض المطلوب، أي لما لم يستجب النظام السياسي في العراق للضغوط السياسية، كان لا بُدَّ للخصم الأمبريالي من التخطيط لاستخدام الضغوطات العسكرية المباشرة، أي استخدام عامل تفوقه العسكري.
إن أطماع الإمبريالية تتركَّز بالدرجة الأولى حول سلب الثروات العراقية، ومنع العراق من حقه في حماية ثروته الوطنية. والعمل من أجل طمس ثروة العراق التاريخية التي تستند إلى التُراث الحضاري الذي تعود جذوره إلى عشرات الآلاف من السنين، بحيث تراكمت التجارب الحضارية منذ أول معلم من معالم الحضارة البشرية التي شهدتها أرض ما بين النهرين.
وبكل مشروعية تستند إلى القيم الإنسانية، كان على النظام السياسي في العراق أن يشهر قوة الممانعة ضد عوامل الضغط السياسي الأميركي. ولما لوَّحت الإدارة الأميركية باستخدام قوتها العسكرية الضخمة ضد العراق على قاعدة أنه إذا لم ينصع إلى التنازل بالتفاوض فسوف يتم إرغامه على ذلك بالقوة. في مثل هذه الحالة كان لا بُدَّ للعراق ، من الاستمرار في ممانعته مستنداً إلى بعض ما يمتلكه من القوى المادية، على الرغم من عدم تكافؤها مع القدرات الأميركية من جهة؛ ويستند، من جهة أخرى، إلى قوة إيمانه بحقوقه الوطنية.
إن تمسك العراق بحقوقه في استثمار ثروته الوطنية كان السبب وراء قرار تأميم ثروته النفطية في العام 1972م. التي كانت تتعرض للسرقة من تحالف رأسمالي بريطاني – أميركي – فرنسي. ولما كانت تلك الثروة حقاً من حقوق الشعب العراقي، وظَّف النظام السياسي الذي قاده حزب البعث العربي الاشتراكي منذ العام 1968م، تلك الثروة لمصلحة الشعب العراقي، وقام بتوظيف جزءٍ منها للدفاع عن الحقوق القومية وحمايتها في أكثر من قطر عربي، فقدَّم مساعدات إلى أكثر من حركة ثورية عربية تعمل من أجل مقاومة هجمة الرأسمال العالمي بالتحالف مع الصهيونية.
ولهذا كان إلغاء قانون تأميم النفط من أهم أهداف الاحتلال الأميركي للعراق. ولم يخف اعترافه بأهمية هذا الإجراء، وراح يعمل بالسرعة الملفتة للنظر من أجل إلغاء القانون الصادر عن قيادة ثورة 17 – 30 تموز / يوليو من العام 1972م، واستخدم السلطة الوهمية لما يُسمَّى (مجلس الحكم الانتقالي في عراق ما بعد الاحتلال) لتشريع قراراته الاقتصادية؛ وهو السبب الذي دفع قيادة الحزب في القطر العراقي، وقيادة المقاومة العراقية، الى تنبيه الرأي العام العراقي والعربي إلى خطورة هذا الإجراء، وإلى تهديد ما يُسمى بمجلس الحكم الانتقالي من تنفيذ مآرب الاحتلال وأهدافه الحقيقية من احتلال العراق( ).
أما إذا أردنا أن نذكر بعض عناوين مظاهر توظيف الثروة الوطنية العراقية لمصلحة الشعب العراقي، فإننا نجد ما يلي:
-ثورة في التنمية العمرانية: وهذا لن يكون إلاَّ واضحاً من خلال مقارنة شارع الرشيد –الذي كان من أهم مظاهر التقدم العمراني في بغداد قبل ثورة العام 1968م - مع ما تبدو عليه بغداد اليوم. وقياساً عليه يمكننا مقارنة تلك التنمية على صعيد مساحة العراق كله، وخاصة في المدن العراقية الرئيسة، من دون أن نهمل ما حصلت عليه القرى الصغيرة أيضاً.
-التنمية العلمية الشاملة: وهذا ما تدل عليه مظاهر انتشار الجامعات في كل المدن العراقية. والجامعات –كمظهر من أهم مظاهر التنمية العلمية- وسَّعت ميادين الاختصاص في البحث العلمي حتى شملت كل ما له علاقة بالتكنولوجيا الحديثة. والذي كان يتتبَّع مشاهد رحلات فرق التفتيش عن الأسلحة العراقية، منذ العام 1992م حتى آذار من العام 2003م، رأى أهمية وحداثة تلك التنمية. وليس هناك دليل أبلغ من وجود آلاف العلماء العراقيين المختصين بشتى أنواع التكنولوجيا المعاصرة؟().
هنا لا يمكننا إلاَّ أن نسجل بأن مجانية التعليم في العراق، منذ مراحله الابتدائية الإلزامية وصولاً إلى المراحل الجامعية والتعليم العالي مفتوحة الأبواب أمام كل العراقيين، ناهيك عن الطلاب العرب الذين يعدون بعشرات الآلاف الذين تخرجوا من تلك الجامعات. وتأتي لامركزية التعليم الجامعي، بحيث لا تخلو أية مدينة عراقية من العديد من الجامعات والمعاهد المختصة.
-الضمان الاجتماعي والصحي: وهو ضمان شامل ولامركزي، بحيث تعم المؤسسات الصحية، وهي من المؤسسات المتقدمة، كل أنحاء العراق. وإذا كانت القرى غير مزوَّدة بالمستشفيات فإنها لا تخلو من مراكز صحية تؤمن الخدمات الطبية المجانية الضرورية لكل المواطنين.
-يمتاز العراق بتأمين فرص العمل الواسعة لكل خريجي الجامعات والمعاهد، ولهذا كان مما يمتاز به العراق، قبل الحصار الذي فُرض عليه من العام 1991م، بأنه كان يوزع المواد الغذائية الضرورية المجانية على كل المواطنين بدون استثناء. وهذا ما يدفعنا إلى الاستنتاج بأن العراقي، كان هو الوحيد في العالم الذي يجد باستمرار ما يأكله، وهو الوحيد الذي لا يتعرض للجوع.
-كانت من خطط التنمية التي وضعها نظام الحزب في العراق ما يبرهن على أن تحويل المجتمع العراقي من مجتمع مستهلك إلى مجتمع منتج من أهم هموم النظام السياسي. لتلك الغاية بنى النظام مؤسستين صناعيتين، وهما:
المؤسسة الأولى:وهي المؤسسة الصناعية ذات الانتاج المخصص للاستهلاك المدني والتي كانت تعمل على بناء المصانع التي كان من المقدر لبعضها أن يتحول إلى مصدر للسوق الخارجي، لولا بعض ما واجهته من منع ومحاربة ضد دخول بضائعها حتى إلى الأسواق العربية، ومن أهمها مصانع الاسكندرية لتصنيع الجرارات والشاحنات. أما بعضها الآخر فقد كان يلبي حاجات الاستهلاك المحلي العراقي، والبعض منه كان يتم تصديره إلى الخارج، ومن أهمها إنتاج مئات الأصناف من الأدوية.
أما المؤسسة الثانية: فكانت تهتم بالتصنيع العسكري، لكي يتحرر العراق من عبء استيراد الأسلحة وصفقات شرائه التي لا تغيب عنها كثرة الشروط والقيود. ناهيك عن أن الدول المصدِّرة للسلاح لا تزوِّد العرب سلاحاً يؤمِّن لهم التفوق، أو حتى موازاة السلاح الذي يُزوِّد به الكيان الصهيوني، خاصة من حيث النوعية، والكفاءة الفنية والتكنولوجية.
كادت مؤسسة التصنيع العسكري العراقي تنتج، وقد انتجت فعلاً في مرحلة من المراحل، أنواعاً من السلاح الاستراتيجي. وكان هذا يعني بداية فعلية لإحداث توازن في القوى العسكرية بين الكيان الصهيوني والأمة العربية، وهذا من أكثر الأسباب إلحاحاً التي سرَّعت في العدوان الثلاثيني على العراق في العام 1991م.
استناداً إلى كل ما سبق، نرى أن المشروع النهضوي العراقي كان، بطموحاته القومية العربية، من أخطر المشاريع التي تحدَّت استراتيجية الرأسمال العالمي بطموحاته الاستعمارية العالمية. ومن هنا وُضِع العراق على رأس استهدافات القوى الرأسمالية السياسية العالمية، وعلى رأسها المؤسسة الصهيونية والأميركية. وبعد أن أمَّم ثروته النفطية، وأصبح أمر العدوان على العراق أكثر إلحاحاً عندما أخذ يدخل العصر العربي المعاصر من بوابة الإنتاج العسكري.
وقبل أن يمتلك العراق قوة نووية حتى ولو كانت من أصغر الأحجام، ضُرب المفاعل النووي العراقي، في العام 1981م، بواسطة الطائرات الصهيونية المعادية. ولما فشلت المراهنة على خروجه ضعيفاً من حربه مع إيران، وما إن وضعت تلك الحرب أوزارها في صيف العام 1988م، حتى ابتدأت قوى الرأسمال العالمي والصهيوني تعد لجولة مباشرة من الضغوطات قادت إلى العدوان الثلاثيني في العام 1991م، ولما استمر العراق في الممانعة على الرغم من ذلك العدوان، استمر الحصار عليه من جهة واستمرت الضغوطات العسكرية والسياسية من جهة أخرى، ولما لم تجد نفعاً، حينما بقي الموقف العراقي مستعصياً ضد الإرادة الرأسمالية الأميركية الصهيونية، اتخذت الإدارات السياسية لتلك القوى قراراً بالحرب، وراحت تفتش عن ذرائع لتبريره. وقامت بتنفيذ قراراها منذ العشرين من آذار من العام 2003م.


الفصل الثالث
آليات قرار الحرب الأميركية ضد العراق
أولاً: مراحل الإعداد الأميركي للعدوان على العراق
1- على صعيد المؤسسات الفكرية الموجِّهة للإدارة الأميركية
أصبح من المعروف أن المؤسسات المالية الكبرى، ومؤسسات الصناعات العسكرية منه بشكل خاص، هي التي ترسم سياسة الولايات المتحدة الأميركية. وهي التي تدعم هذا الفريق الأميركي أو ذاك للوصول إلى مواقع السلطة. فتصبح السلطة مرتهنة لإرادة تلك المؤسسات( ). وفي الوقت نفسه، وحيث إن اللوبي الصهيوني هو الأقوى على التأثير على قرارات الإدارة الأميركية، تمَّ التوافق ما بين المصالح الرأسمالية الأميركية المباشرة ومصالح الحركة الصهيونية العالمية.
ولتحقيق تلك الإنجازات قامت المؤسسات المالية الكبرى بتأسيس مراكز للدراسات تستند إلى تقاريرها ورؤاها في التخطيط لكل ما يسعفها في فرض هيمنتها على الاقتصاد العالمي. وإن ما صدر من كتب ودراسات انتشرت على الصعيد العالمي، مثل نبوءات »صدام الحضارات«، و»نهاية التاريخ«()… ليست إلاَّ جزءًا من إنتاج تلك المراكز التابعة للمؤسسات المالية الكبرى. واستمرَّ نشاط تلك المؤسسات ودورها على الرغم من تحذيرات أطلقتها بعض الأوساط السياسية الأميركية وأظهرت مدى خطورتها على الحريات العامة والممارسة الديموقراطية( ).
ولما اتَّخذت المؤسسات المالية( ) قرارها بالهيمنة على منطقة الشرق الأوسط، وفي القلب منها الوطن العربي، وضعت مراكز الأبحاث، عدداً من السيناريوهات()، ومنها تلك التي وضعتها مراكز الأبحاث الاستراتيجية. فكان العراق أولوية أميركية( ) لأكثر من سبب أشرنا إليه سابقاً في هذا البحث.

2- على صعيد تأمين الذرائع والقوى الدولية والاقليمية والعربية الداعمة لتغطية العدوان:
لقد خُطِّط لحرب احتلال العراق قبل وصول جورج بوش وإدارته إلى البيت الأبيض، من خلال انتخابات طغى عليها الاحتيال، في نوفمبر 2000م، ومن الواضح أن الأمر لم يكن يتعلق بأسلحة دمار شامل ولا بالإرهاب، وهي البدعة التي أخذت تتضح شيئاً فشيئاً من خلال ما انتشر على الملأ، بخصوص تزييف الأدلة، والتقارير الخادعة، والإرهاب الإعلامي وكل أنواع الضغوط، التي تمّ استخدامها والتلاعب بها، بالتواطؤ إلى حدّ كبير مع الصحافة الأمريكية، في محاولة لتسويغ العملية العسكرية ضد العراق.
مهَّد جورج بوش للعدوان على العراق، في خطاب »حالة الاتحاد« أمام الكونغرس في 29/ 1/ 2002م، الذي أطلق فيه شعار »محور الشر« موجهاً الاتهام بالتحديد إلى العراق، مثيراً ذريعة امتلاكه أسلحة الدمار الشامل( ).
وفي شهر آب / أغسطس 2002م، اتَّخذت إدارة جورج بوش الابن قراراً بالحرب ضد العراق، ومن بعده راحت تعمل من أجل تأمين غطاء شرعي دولي، كخطوة تزيح عبء الاحراج عن الأنظمة العربية الموالية للولايات المتحدة الأميركية والمتواطئة معها( ).
أ-تمهيد ساحة الأنظمة العربية لتأمين غطاء عربي
منذ أن قادت الولايات المتحدة عدوانها الأول ضد العراق في العام 1991م، كانت معظم الأنظمة العربية في خندق التحالف معها. أما انخراطها في التحالف مع الإمبريالية الأميركية، فلم يكن وقتياً؛ بل لمثل هذا الخضوع أسباب تاريخية. أما الأسباب فهي متعددة ومتشعبة، تبتدئ من طبيعة التركيب الطبقي للنخب الاقتصادية والسياسية العربية، وتنتهي بإمساك قوى الرأسمال العالمي بالمفاصل الأمنية، والسياسية والعسكرية، من أجل حماية تلك الأنظمة، والعمل من أجل إبقائها على رأس السلطات الرسمية.
وباختصار، فإن المشروع النهضوي العراقي، بما أثار من مخاوف تلك الطبقات والنخب، كان دافعاً إضافياً لها إلى تقديم المزيد من التنازلات لقوى الرأسمال العالمي ومشاركتها في التآمر ضد نظام الحكم في العراق.
أما حول الحسابات التي وضعها تحالف بعض النظام العربي الرسمي مع قوى رأس المال خشية من ردود الفعل الشعبية العربية، فقد تم تأهيل قوى الأمن المختصة، بما يُسمَّى بمحاربة الشغب، من أجل احتواء ردود الفعل الشعبية بشتى الوسائل والإمكانيات، لكي تقوم بدورها، تارة بفسح المجال للقيام بتنفيس موجات الغضب على أن تكون تلك الفسح تحت السيطرة. وتارة أخرى باستخدام أساليب الاعتقال واستخدام القسوة في تفريق المظاهرات، وما إلى هناك من وسائل وأساليب، ومنها الاستفادة من خدمات مؤسسات ثقافية وفكرية وسياسية وإعلامية، تنتشر هنا أو هناك من الأقطار العربية. وهذا ما يدفع بنا، أيضاً، إلى تحميل مسؤولية كبرى لتلك المؤسسات، بما فيها من وسائل التضليل التي يقوم بها خبراء من المثقفين المرتبطين بمراكز أبحاث الشركات الصناعية الكبرى، واللامرتبطين بقضايا أمتهم ومجتمعاتهم. وليس من المستغرب إذا ما استنتجنا بأن هناك توأمة ما بين تلك المراكز والقوى العربية مع المراكز الأم التابعة للشركات الرأسمالية.
لتلك الأسباب كانت الإدارة الأميركية واثقة من أن بعض الأنظمة العربية والإقليمية سوف تشارك في العدوان على العراق، حتى ولو تحت ستار بعض التحفظات( ).
ب-تمهيد ساحة المعارضة العراقية في الخارج
تحتضن مراكز الأبحاث التابعة للشركات الأميركية الكبرى الآلاف من الاختصاصيين الذين تستقدمهم من معظم دول العالم للاستعانة بخبراتهم بأوضاع مجتمعاتهم لوضع الدراسات الملائمة التي ترشد مخططاتها في الهيمنة على أسواق تلك الدول، ورصد الاتجاهات السياسية فيها.
كما تقوم مراكز المخابرات التابعة للإدارة الأميركية بالاحتفاظ برصيد من الشخصيات والقوى من مجمل دول العالم، أيضاً، كاحتياط تستخدمه في تنفيذ مخططاتها. ويخضع هؤلاء إلى دورات من التأهيل التربوي العالي على أيدي اختصاصيين من مراكز المخابرات ليكونوا عوناً لها في تنفيذ مخططاتها في الدول المستهدَفَة بتلك المخططات. ويكون هؤلاء –عادة- من الناقمين على الأنظمة السياسية في أوطانهم الأم. ولتمتين روابط أولئك مع أجهزة الاستخبارات، تعمل تلك الأجهزة بإغراقهم بالامتيازات المادية والمالية، بحيث تربط مصالحهم الاقتصادية مع شركات أو شركاء لهم مواقعهم في المؤسسات المالية الكبرى في الولايات المتحدة الأميركية، أو مع الشركات الكبرى في الدول الحليفة لها.
لم تكن المعارضة العراقية في الخارج، خاصة تلك التي لا ترتبط بإيديولوجيات حزبية، بمثل تلك الضخامة التي صوَّرتها وسائل الإعلام ذات الأهداف المرتبطة مع المشاريع الإمبريالية. ولذلك يعود تكوينها إلى بداية الحرب العراقية – الإيرانية. فمنذ تلك المرحلة أخذت التيارات السياسية المعارضة تنتقل بمشاريعها إلى خارج الحدود العراقية، وتجد من يحتضنها، سواء من الدول الإقليمية –كإيران مثلاً- أو من الدول الغربية، تحت صيغة حمايتهم من التصفية في بلدانهم إذا لم يُمنَحوا حق اللجوء السياسي. وتحت تلك الصيغ كان يتم إعدادهم وتربيتهم، كاحتياط يمكن استخدامه في وقت الحاجة إليهم.
ومن الملفت للنظر أن للمعارضة العراقية في الخارج تلاوين متناقضة، من دينية مذهبية إلى علمانية، من العاملين لبناء دولة ثيوقراطية مذهبية إلى العاملين من أجل بناء دولة مدنية. ومن الجدير بالذكر أن صيغة المعارضة المهاجرة لم تكن أنموذجاً للمعارضات المعروفة في تاريخ الدول، وإنما كان هذا الأنموذج فريداً من نوعه في العراق. ومن أهم الإشكاليات التي يطرحها هذا الأنموذج، إشكالية والتباس بين الوطنية والخيانة للوطن.
وتحت ستار الحق الديموقراطي أجازت، بعض تياراتها، لنفسها أن تكون في صفوف القوى الخارجية التي تمارس العدوان على أرضهم وعلى شعبهم وأبناء وطنهم().
وهنا، تنجلي حقيقة تتناقض مع ما وقعت فيه قوى سياسية وحزبية عربية من خديعة حسبت معها أن الولايات المتحدة الأميركية عملت على تشكيل ائتلاف دولي تحت ذريعة الإطاحة بنظام سياسي يحكم العراق. بينما الواقع أن الأجهزة المختصة التابعة للإدارات الأميركية انتهزت فرصة وجود معارضين عراقيين في الخارج، فعملت على استدراج البعض منهم للتعاون معها موحية إليهم أنها سوف تساعدهم على إسقاط نظام يتهمونه بالديكتاتورية. ومن بعدها تقوم بتسليم السلطة لهم لبناء العراق على أسس ديموقراطية.
وأياً تكن وسائل احتواء المعارضة العراقية، بتياراتها وأحجامها، مشاركة البعض أو امتناع البعض الآخر، فإن الإدارة الأميركية كانت واثقة من مساندة أولئك لأي عمل عسكري قد تقوم به الولايات المتحدة ضد العراق( ).
لم تكن صفوف المعارضين العراقيين موحَّدة الرؤية والموقف، فالبعض منهم تعاون عن سابق تصور وتصميم مع الأجهزة المعادية، لأن فرصة إسقاط نظام الحكم في العراق يعني أنهم سوف يكونون خليفة له، بحيث يتيح لهم الوصول إلى السلطة فرصة تقاسم ثروات العراق مع قوى الاحتلال.
أما قوى معارضة أخرى، مثل تلك التي تنطلق من رؤى طائفية سياسية، فقد برَّرت لنفسها التعامل، وكأن الإدارة الأميركية مقتنعة بأسباب معارضتهم لنظام حزب البعث، أو كأنها تعمل من أجل رسالة إنسانية تستجيب فيها لكل فئة تصور نفسها أنها مغبونة!! ولم يخطر ببالهم أن الإدارة الأميركية تستخدمهم مطية سوف تلقيها إلى جانب الطريق بعد أن تبلغ أهدافها بمساعدتهم.
وإذا أضفنا إلى الشريحة المذهبية، أولئك الذين تعاونوا لأسباب مذهبية مع إيران وحاربوا في صفوفها أبناء وطنهم وقوميتهم، فهم تابعوا مسيرة التنكر لوطنهم عندما استجابوا للتعاون مع »الشيطان الأكبر« تحت ذرائع أنهم يستفيدون من مخططاته في إسقاط النظام العلماني؛ ومن بعدها يتحولون إلى مرحلة طرد المحتل مما يتيح لهم بناء دولة ذات طبيعة مذهبية ثيوقراطية تستعين بجوارها الإيراني وتعينه.
أدَّت الأوهام بتلك الشريحة، إلى حسابات خاطئة، إذ ظنوا أن هناك سهولة في تحقيق النتائج التي يخططون لها. لكن الوقائع أثبتت أنهم كانوا منساقون بدون وعي لأبعاد المؤامرة وحجمها وأهدافها قياساً مع إمكانياتهم، ومدى ملاءمة مشاريعهم مع طبيعة العصر القومي وطبيعة العصر الأممي تحت هيمنة واستفراد رأس المال وشركاته العملاقة.
أما شريحة أخرى من المعارضين، وهم من العراقيين الذين تركوا بلدهم لغير أسباب سياسية، فتشعبت بهم الرؤى، فانفعل بعضهم بما أخذت قوى المعارضة تروِّجه من مظالم ادَّعوا أن النظام السياسي في العراق قد ألحقها بهم، والبعض الآخر وجد نفسه منشدَّاً إلى وطنه فلم يكن ميالاً إلى تصديق افتراءات المعارضة وتضخيمها من قبل المراكز الفكرية والسياسية التابعة للمؤسسات المالية الكبرى.
انطلق أول صوت للمعارضة العراقية من الحزب الشيوعي العراقي والمتعاطفين معه من المثقفين العراقيين، الذين عملوا على إسقاط الجبهة الوطنية والقومية التقدمية وبرنامجها الديموقراطي. وأخذت تتوسَّع مع بداية الحرب العراقية الإيرانية، ولكن تلك المعارضة لم تكن بارزة وذات تأثير إعلامي إلاَّ بعد العدوان الثلاثيني على العراق، في العام 1991م.
بعد أن فشل العدوان في تحقيق أغراضه في إسقاط النظام السياسي، راحت مراكز الأبحاث الأميركية تفتش عن خلق تبريرات وذرائع تغطي بدخانها مخططها العدواني في احتلال العراق. ولذلك نصحت بعض أوساط المعارضة العراقية الإدارة الأميركية بالتركيز على المسألة الديموقراطية( )، وهي شعار رفعته تشكيلات المعارضة العراقية في الخارج، فالتقطت مراكز الأبحاث تلك الذريعة، وراحت تضعها تحت المجهر لتضخيم صورتها، وللترويج ضدها. وبمثل هذا الأسلوب حسبت مراكز الدراسات في أميركا أنها تكتسب عطف تيارات المعارضة العراقية، وتعاطف الرأي العام العالمي الداعم لنشر الديموقراطية.

ج-تمهيد الساحة الدولية لتأمين غطاء دولي للعدوان
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وقيام أميركا بتطويع دول أوروبا الشرقية من خلال المال أو الوعود به، وبعد أن قوَّض التحالف الرأسمالي آخر المعاقل المعترضة في يوغوسلافيا في العام 2000م، وبعد الحرب على أفغانستان، وبعد أن كبَّلت الإدارة الأميركية إرادة روسيا بالاقتصاد والأمن، شعرت أنها أصبحت طليقة اليدين في الوطن العربي، والعالم.
ولأن الوطن العربي يمتلك السوق والثروة فقد جاء على رأس قائمة الأهداف الأميركية. واشتدَّ الضغط على النظام السياسي في العراق لأنه كان خارج بيت الطاعة الأميركي، وكان يظهر الرفض للمخططات الأميركية، ويمارسه بالفعل في مواجهة الاستراتيجية الأميركية الصهيونية.
وبعد أن صنَّعت معارضة عراقية مطواعة لتعليماتها، في أي عمل عدواني تشنَّه على العراق، راحت الإدارة الأميركية تستثمر عوامل القوة التي تمتلكها على الصعيد العالمي والعربي، وتضعها في خدمة أسلوبها الضاغط على النظام السياسي في العراق، وراحت تعمل على تمهيد ساحة القرار الدولي لتضعه في دائرة تشريع عملها في احتلال العراق.
كانت المواقف الأميركية محسومة إلى جانب الضغط على العراق لتحقيق مآربها، بالتفاوض أو بالقوة، ولهذا راحت تعمل من أجل المزيد من الضغط السياسي والاقتصادي، وكان يتم ذلك تحت ذرائع التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل المزعوم وجودها في العراق. وعلى الرغم من أن فرق التفتيش الدولية قد اقتربت من تقديم تقرير يثبت خلوه من تلك الأسلحة، خاصة وأنها قامت بتدميرها، ووضع كاميرات مراقبة للمنشآت التي كانت تنتجها، كان الهم الأساسي أمام الإدارة الأميركية أن لا يصدر أي تقرير عن فرق التفتيش يصب في مصلحة فك الحصار، لأنه في غير مصلحة الإدارة أن يُسقِط العراق الذرائع التي تبرر الحصار المفروض عليه قبل أن ترغمه الولايات المتحدة على الإذعان للقبول بإملاءاتها.
تأكَّدت الإدارة الأميركية بأن العراق لن يستجيب لضغوطاتها، وكانت تلك القناعة مترافقة مع التغيير الرئاسي الذي أتى بجورج بوش الابن، الواقع تحت السيطرة التامة للتوجه الديني والفكري والسياسي الذي تقوده الشركات الأميركية الكبرى بمساعدة اللوبي الصهيوني؛ فحددت ساعة الصفر باللجوء إلى الخيار العسكري ضده.
كان من متممات قرار الحرب على العراق، أن تلجأ الإدارة الأميركية إلى مجلس الأمن واستعجاله بالموافقة على قرار يؤمن لها شرعية دولية للقيام باحتلاله. وعلى الرغم من أنها عجزت عن إشراك دول المجلس في الحشد العسكري، كانت ملحاحة –في تنفيذ مشروعها العدواني- إلى الحدود التي كانت فيها على استعداد للقيام به بمفردها.
وهنا، نطرح التساؤل حول الأسباب التي دفعت بالدول الكبرى إلى ممانعة الإدارة الأميركية عن إعطاء الإدارة الأميركية غطاءً دولياً يشرِّع لها عدوانها. وحول ذلك، نرى من المفيد أن نرسم صورة للعلاقات الدولية السائدة بين الدول الكبرى.
تتحكَّم المصالح الاقتصادية بتلك العلاقات، وهي تقوم –غالباً- بينها على أساس مساومات تضمن –من خلالها- كل دولة مصالحها. فالعرف السائد أن المصالح لا تُكال –في صراع المصالح- بالأخلاقيات والقيم الإنسانية. ولهذا السبب سنرى مدى تذبذب المواقف الدولية الرسمية، كسمة عامة بين الإدارة الأميركية وبين الدول الكبرى.
في مرحلة الحصار، الذي فرضته قرارات مجلس الأمن على العراق، أخذت الأنظمة السياسية لبعض الدول الكبرى فرصة كافية لتخمين مدى استفادتها الاقتصادية في حالتيْ تأييد الحق العراقي في فكّ الحصار أو إدامته.
ولأن الدول الكبرى تدرك حجم المخاطر التي يرتبها استيلاء الأميركيين على مصادر الطاقة في الوطن العربي، وقفت ممانعة للمشروع العسكري الأميركي في كواليس مجلس الأمن وجلساته العلنية. كانت تلك الدول تراهن على أنها قد تلجم الجموح الأميركي من القيام بعمل منفرد ضد العراق، لأن الاستفراد قد يصل إلى حدود استثارة مخاوف الشارع الأميركي من جهة، وإلى حدود استثارة غضب الشارع العالمي من جهة أخرى.
لم تكن تلك الدول تصدِّق أن الجموح الأميركي قد بلغ حدود الشطط، خاصة، وقد تبيَّن –فيما بعد- أن الدراسات التي وُضعت لسيناريو الحرب والتي أكدت للقيادة السياسية الأميركية أنها سوف تكون أقل كلفة وأقل خطورة وأقل خسائر، وقد عزَّزت تقارير مخابرات العدو الصهيوني قناعات كل من وزارة الخارجية الأميركية، والبنتاجون. كما أدَّت الغرض نفسه ادعاءات تيارات وقوى المعارضة العراقية المجنَّدة والمرتبطة مع أجهزة الأمن والاستخبارات الأميركية. وقد تبيَّن –بعد احتلال العراق- حقيقة مراهنة الإدارة الأميركية على معلومات بعض أوساط المعارضة العراقية، وتبيَّن خداع تلك المعلومات، وكذبها، وهو السبب الذي أوقع قوات الاحتلال بأكثر من مأزق.
كانت الإدارة الأميركية حريصة، من أجل طمأنة جنودها والرأي العام الأميركي، أن تحصل على قرار من مجلس الأمن تؤمِّن به شرعية دولية لعدوانها. لكنها في الوقت ذاته لم تكن مطمئنة إلى إمكانية الحصول عليه، لأن الأطراف الدولية لن تدخل الحرب الجديدة بالحماسة ذاتها التي دخلت فيها إلى عدوان العام 1991م، لعدة أسباب، من أهمها: بأن أميركا»كانت قد تفرَّدت بالمنطقة ومواردها«، وهي »لا ترى في الخطر العراقي ما تراه الولايات المتحدة«. لذا قادت أميركا –بعد أن نفد صبرها من الحصول على غطاء شرعي دولي- تحالفاً من عدد من الدول التي أعلنت صراحة مشاركتها في العدوان، وبعضها الآخر كانت مواقفه عائمة وغائمة في الظاهر ولكنها قدَّمت خدمات فعلية وتسهيلات كبرى من حيث الدعم الإعلامي واللوجستي وتسهيلات لمرور القوات الغازية( ).
لم تؤثر المواقف الدولية الرسمية الممانعة للعدوان، ولا المواقف الشعبية والسياسية الدولية والعربية في التأثير على مواقف الإدارة الأميركية. لذا دخلت أميركا وبريطانيا الحرب ضد العراق تحت دخان ذريعتين قامتا بافتعالهما، ولكنهما خادعتين، لأنهما ليستا في أساس أهدافهما، وهما:
-تجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل التي تدعي أن العراق يمتلكها. وقد تبيَّن أن هذه الذريعة واهية، وقد جرى تضخيمها من أجل تبرير العدوان، ونسَّقت الإدارة الأميركية مع الحكومة البريطانية من أجل تضخيم هذا الملف.
-إسقاط النظام السياسي في العراق، الذي تدَّعي أنه يهدد جيرانه، والعالم، ولذلك رفعت شعار تحرير العراق وإعادة الديموقراطية إليه.
د-تمهيد الساحة الإقليمية للحصول على تسهيلات لوجستية وسياسية وأمنية: ونقصد، هنا، الدولتين التركية والإيرانية.
حالت تعقيدات العلاقة المتوترة بين الدولة التركية والحركة الانفصالية لإكراد العراق، دون استجابة الأولى لمطالب الإدارة الأميركية –بتأمين تسهيلات لوجستية لقواتها - إلاَّ بما يضمن لها الحصول على صلاحيات تخدم صراعها مع أكراد العراق. فخلق الموقف التركي إرباكاً للخطة العسكرية الأميركية تمظهر في أحرج الأوقات وأدقها. وأضفت تأثيراً سلبياً على تحرك قواتها، دفع بالقيادة الأميركية إلى تغيير خطتها انتظاراً لوصول قواتها العسكرية التي كانت قد أنزلتها على الأراضي التركية تمهيداً لنقلها إلى شمال العراق.
وفي المقابل، توصَّل الأميركيون إلى نتائج لصالحهم في المفاوضات السرية التي دارت بينهم وبين الحكومة الإيرانية. تلك النتائج لم ينكشف النقاب عنها بشكل واضح إلاَّ بعد احتلال العراق. ومن تلك النتائج أنها أدَّت إلى تسوية لتبادل المصالح بين الطرفين، بحيث تتَّخذ إيران موقفاً محايداً من العدوان على العراق، وتقبض ثمنه حصة في الخريطة السياسية العراقية بعد الاحتلال. وإذا عدنا إلى المعلومات التي انكشف النقاب عنها، نرى بوضوح التنسيق المتكامل بين الطرفين( ).
يتعارض موقف الحكومة الإيرانية مع مبادئها المعلَنَة من كل قوى الإمبريالية، خاصة منها الإمبريالية الجديدة التي تقودها الإدارة الأميركية. وراحت تلك الحكومة –بدلاً من محاربة الإمبريالية- تقوم بالتنسيق معها بمختلف الوسائل والسبل( ).

ثانياً: الإدارة الأميركية تقرر القيام بالعدوان من دون غطاء شرعي دولي أو إنساني:
وصلت ثقة مسؤولي الإدارة الأميركية بأنفسهم درجة من الجنون، توهموا معها أن قدراتهم العسكرية الهائلة تساعدهم على حكم العالم، وتفاقمت درجة الثقة في قوَّتهم، وقدرتهم على غزو العراق، عندما صوَّرت لهم بعض تيارات المعارضة العراقية في الخارج، أوهاماً تستند إلى أن الشعب العراق ينتظر مخلِّصاً لهم من معاناتهم من النظام السياسي الذي يتولى حكم العراق.
على أساس تلك العوامل، كانت مواقف الإدارة السياسية تتَّسم بالتسرع، وهو من ضمن المخطط الجاهز للتنفيذ؛ وراحت تفصح عن عنجهية إمبراطورية عمَّقتها انتصاراتها في حرب البلقان وأفغانستان. لهذه الأسباب أخذت تتصلَّب في وجه كل الدعوات الدولية الممانعة، يشجعها على ذلك أنها ستضع الجميع أمام الأمر الواقع بعد انتصارها في الحرب. بحيث سيرضخ كل من كان ممانعاً لإرادتها، ويبارك لها ما حصلت عليه، ويغفر لها تجاوزاتها لكل الشرعيات القانونية الدولية ولكل أخلاقيات القيم الإنسانية. أما من كان ممانعاً للإدارة الأميركية فهم:
1-بعض الدول الكبرى ذات التأثير في مجلس الأمن.
2-معظم الدول المشاركة في الهيئة العامة للأمم المتحدة.
3-اللجنة الدولية المكلَّفة بالتفتيش عن أسلحة الدمار الشامل في العراق، التي لم تكن تقاريرها قد حسمت الجدل الدائر حول وجود الأسلحة.
4-الشارع الأميركي من خلال التظاهرات الكبرى التي شهدتها بعض المدن الأميركية، لأن الذين أبدوا معارضتهم للحرب يعرفون أن نتائجها لن تصب في مصلحة بلادهم، بل هي من أجل توسيع مصالح الشركات الأميركية الكبرى.
5-الشارع البريطاني من خلال التظاهرات المليونية التي شهدتها شوارع لندن، وهي التي تعيد أسباب مشاركة بلادهم في الحرب إلى »ذيلية« سياسية للإدارة الأميركية، يمارسها رئيس الحكومة البريطانية.
6-حركة الشارع في الدول التي تؤيد حكوماتها العدوان على العراق، كمثل إيطاليا وإسبانيا وأوستراليا…
7-الكنائس الأنجليكانية، في كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية، أي في قلب الدولتين اللتين قررتا خوض الحرب ضد العراق.
8-كان من أبرز المواقف وأكثرها جرأة، موقف البابا في الفاتيكان الذي عزم على القيام بزيارة يلقي فيها خطبة أمام مجلس الأمن يحذر فيها من مغبة سياسة العدوان.
9-معظم الشعوب في معظم دول العالم، التي سارت في التظاهرات الحاشدة التي شهدتها معظم عواصم العالم ومدنه.
إنه التفكير اللا إنساني الذي يسيطر على جيوب الشركات الكبرى وعقولهم، وإنه سمة العنجهية الإمبراطورية التي ميَّزت مواقف المسؤولين في الإدارة الأميركية. وقد أسهم الجنوح الرسالي الديني، الذي زرعته اليهودية الأصولية في أذهان بعض المسؤولين الأميركيين في زيادة نسبة الجنون بالعظمة، وكان أكثر المسؤولين انفعالاً بتلك الأوهام الرئيس الأميركي، جورج بوش الإبن، الذي راح يوهم نفسه بأنه مخلص للبشرية بعد أن اصطفته الإرادة الإلهية للقيام بذلك الدور.
لقد قرَّرت الإدارة الأميركية أن تدخل الحرب ضد العراق على أنقاض الشرعية الدولية وأشلاء الديموقراطية المزعومة وعلى نحر للقيم الإنسانية والأخلاقية والدينية، وجرى كل هذا على الرغم من أن بعض تيارات الإدارة كانت حريصة على تأمين ذلك الغطاء، الذي على الأقل يعطي دفعاً للجنود الأميركيين بأنهم يخوضون معركة في القتال وليس معركة للقتل( ).
ثالثاً: الوقائع الأولى للعدوان العسكري على العراق ونتائجه
عاش العالم لحظة سادت فيها التكنهات حول وقوع الحرب ضد العراق أو استبعاد وقوعها. وكانت مراهنات المستبعدين تستند إلى أن أميركا لا يمكنها أن تغفل غطاء الشرعية الدولية في ظل ممانعات الدول الكبرى، والرأي العام الدولي في ظل ممانعة الشارع العالمي، وإرادة الأخلاقيات الإنسانية في ظل ممانعة الكنائس المسيحية بشكل أساسي.
أما المراهنون على حتمية وقوع الحرب، فلم يسندوا أسبابهم إلى أي شيء إلاَّ إلى العدوان الرأسمالي للشركات الصناعية الكبرى التي توجِّه سياسة الإدارتين الأميركية والبريطانية، وبالتالي دور التيار الصهيوني الرأسمالي والتوراتي.
وابتدأ العدوان، في ليل العشرين من آذار / مارس من العام 2003م. وكانت استراتيجية العدوان تقوم على قاعدة لعبة الشطرنج، أي أن يقوم اللاعبون الأميركيون بقتل الملك في العراق، فيحسمون المعركة من دون حرب. لذا توجَّهت قوة صواريخهم وغزارتها إلى موقع حددت المخابرات الأميركية أن رئيس جمهورية العراق كان موجوداً فيه.
كانت تلك العملية تمثل الطلقة الأولى التي أعلنت فيها الإدارة الأميركية بدء العدوان العسكري. وكانت كاميرات أجهزة الإعلام التابعة للمخابرات الأميركية أو الملتزمة بتعليماتها وأوامرها جاهزة لتسجيل أكبر عدوان عرفته البشرية.
في أيام الاجتياح الأولى كانت الآلة العسكرية الأميركية نشطة، حتى وصلت إلى أبواب المدن العراقية بسرعة، لكن تلك المدن استعصت على الغزاة، وعصيانها كذَّب الخديعة التي أوقعت بعض قوى المعارضة العراقية المخابرات الأميركية فيها. ولكن الغزاة انتظروا لعلَّ، ما كانوا يحسبون أن الذين ينتظرونهم، قد جهزوا الورود لاستقبالهم، لكنهم لا يزالون تحت وطأة الخوف من النظام!! هكذا كانوا يتوهَّمون.
مرَّت الأيام الأولى، وإذا بالجيش، والحرس الجمهوري، والحزب، والشعب يشاركون بالقتال على شتى الجبهات. وتكاثرت عوائق المقاومة العراقية وحواجزها في وجه الغزاة لامتصاص الصدمة الأولى، وتكبيدهم أكثر ما يمكن من الخسائر. وهذا ما أخذ يربك الخطة العسكرية الأميركية الموضوعة، وظهر هذا الإرباك على الإعلام العسكري الأميركي. وتكاثرت التبريرات الأميركية والأكاذيب. لكنها لم تكن واضحة إلاَّ عندما أعلنت القيادة الأميركية أنها سوف تؤجل الزحف باتجاه بغداد أسبوعين، تكون في خلالهما قد استقدمت الفرقة الأميركية الثالثة من شمال العراق، لأنه كما اتَّضح لها أن القوات الأميركية – البريطانية التي دخلت من الحدود الكويتية ليست كافية.
أخذت المقاومة العراقية، وصمود المقاتلين العراقيين، يربكان القادة العسكريين الأميركيين، بحيث انعكس الإرباك على قرارات الإدارة السياسية الأميركية. وأخذت المراهنات على إعلان بدء فشل العدوان الأميركي تلقي بظلالها على مواقف الدول الكبرى الممانعة، وكذلك الأمر على الشارع العالمي الممانع أيضاً. وكانت أشد وطأة على مراكز القرار الأميركي، من شركات ومسؤولين في الإدارتين السياسية والعسكرية.
لكن الفشل كان ممنوعاً على الجيش الأميركي، فكثير من المتغيرات السلبية تُثقِل النظام الرأسمالي العالمي، وليس النظام الأمريكي فحسب، نتيجة ذلك الفشل. فوجدت الإدارة الأميركية نفسها أمام مأزق استثنائي فعليها أن تتخذ قراراً استثنائياً. وكان على الشركاء من دول الرأسمال العالمي، حتى أولئك الذين وقفوا ضد الحرب، أن يحتاطوا من انعكاسات الفشل على عضو كبير في ناديهم.
وجدت الدول الكبرى الممانعة للحرب الأميركية نفسها أمام مأزق، حتى ولو كان أقل وطأة عليها، بأنها لو وقفت على الحياد وأصيب العدوان الأميركي بالفشل، فإنها سوف تنال حصتها من عواقبه، التي سوف يكون أقلها أنها سوف تفقد هيبتها أمام دول وشعوب العالم التي تناضل من أجل التحرر الاقتصادي والسياسي. لهذا أعلنت أنها لن تسمح بفشل الحرب الأميركية على العراق، ولن تكون سعيدة بنتائج فشلها. ولذلك بادر رؤساء، ووزراء خارجية، ومسؤولين آخرين، في تلك الدول بالادلاء بتصريحات تتضمَّن هجوماً على القيادة العراقية، لتشكِّل –بذلك- غطاءً سياسياً للمعتدين باستخدام أسلحة محرَّمة دولياً، ولامتصاص الرفض الشعبي الدولي للعدوان().
ولما نشطت حركة الديبلوماسية الأميركية باتجاه الدول الكبرى الممانعة، لم تبذل جهداً زائداً في إقناعها بأنها تتحمَّل مسؤولية في فشل الغزو الأميركي. ونتيجة لتلك الحركة صدر –كما نخمِّن- قرار دولي سري اتَّخذته الإدارة الأميركية، بموافقة من الدول الكبرى، فكان لمثل هذا القرار آثار بالغة الأهمية على مسار العدوان العسكري على العراق.
كان من مظاهر المتغيرات، التي فرضها القرار السري المشترك بين الولايات المتحدة الأميركية وتلك الدول، أن قرار تأجيل الزحف باتجاه العاصمة بغداد، الذي أعلنته القيادة العسكرية بعد مرور أكثر من أسبوعين على بدء العدوان، قد طُوي من دون إعلان، وتمظهر التغيير فيه بإنزال مفاجئ للقوات الأميركية في مطار صدام الدولي، بعد يومين من إعلان التأجيل.
لا شك في أنه قد حصل تطور جديد في قرار الدول الكبرى الممانعة للحرب على صعيد إنقاذ أميركا من الفشل. فما هو العامل الجديد الذي طرأ واتخذت –بناءً عليه- الدول الكبرى قراراً أخذ يغيِّر في وقائع ومسارات العدوان العسكري الأميركي – البريطاني؟ فماذا حصل، في الكواليس السرية الدولية؟
نرى أن النقاب لن ينكشف عنها بالكامل في المدى المنظور، وإن ما نستطيع استنتاجه هو أن شيئاً مهماً قد حصل، كانت نتائجه ظاهرة للعيان في تغيير مسار الخطط العسكرية، ووضع عوامل جديدة تمنع الفشل عن الأميركيين في العراق.
لا شك بأن قراراً استثنائياً قد تم الاتفاق عليه بين الدول الكبرى لمنع الفشل، وقد ظهرت آثار هذا القرار من خلال إنزال القوات الأميركية في مطار صدام الدولي، وهناك حصلت العديد من المعارك الدامية التي أنزلت بها القوات العراقية مئات الإصابات في الجيش الأميركي، هذا بالإضافة ما سبق الإنزال من غارات وحشية للطيران والصواريخ العابرة على العاصمة العراقية طوال ثلاثة أسابيع، لم تتوقف فيها الغارات الأميركية عن القصف والتدمير.
وتتالت الخطوات والعوامل –منذ معارك المطار- وفي نهايتها دخل الغزاة إلى بغداد، بما جعلها تبدو في الظاهر كأنها استسلمت أمامهم بشكل سريع من دون مقاومة أو مظاهر المقاومة التي شهدتها المدن العراقية الأخرى، راح البعض يصفها بشتى الأوصاف السلبية.
تردَّد الكثير من التكهنات لتجلي الغموض عما حصل، وكان من أهمها تسليط الأضواء على عامليْ الخيانة في الجيش العراقي، واستخدام سلاح غير تقليدي في معركة المطار(). وقد أكَّدت التقارير التي سرَّبتها بعض أجهزة المخابرات الغربية والشرقية أن الأميركيين استخدموا ذلك السلاح. ولكن ما لم يتأكد –حتى الآن- هو حجمه وعدده ونوعيته ومقدار الخسائر التي أوقعها في صفوف القوات العراقية، والتي يقدرها البعض بأنها بلغت الآلاف من الشهداء. وقد يكون ما حصل هو ما دفع القيادة في العراق إلى اختصار المرحلة الأولى لمنع سقوط خسائر أكثر وأشد إيلاماً في صفوف القوات العراقية المدافعة، وأعطت الضوء الأخضر إلى الانتقال للمرحلة التالية، وهي مرحلة حرب التحرير الشعبية الطويلة المدى( ). فراحت وسائل الإعلام المعادية تستثمر السرعة التي دخل بها الجيش الأميركي بغداد، وراحت تحرِّض على سلبيات تحسب أن نظام حزب البعث العربي الاشتراكي السياسي قد ارتكبها في العراق.
ومن أجل ذلك، فقأت المخابرات الأميركية كل العيون الإعلامية، التي يُشتم أنها قد تنقل وقائع وحقائق لا يريد الإعلام المعادي أن تنتشر وتُذاع، وعملت على إخضاع كل وسائل الإعلام للمراقبة، وبالتالي إلزامها بأن تنقل الصورة التي تشكل مدعاة للتحريض ضد النظام السياسي السابق، والهدف من ذلك، السيطرة النفسية على الشعب العراقي أولاً، وعلى الرأي العام العربي والعالمي ثانياً، وهذا ما يؤدي إلى توفير نصف الجهد في معركة تبرير الأهداف الأميركية وإضفاء المصداقية عليها. ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلاَّ بديماغوجية تظهر مثالب الخصم وتكبير أخطائه، أو ابتكار أخطاء واختراعها.
مرَّت المراحل الأولى، وهي تُعدُّ بالأسابيع القليلة، سيطر فيه الإعلام الأميركي، بتواطؤ من بعض الإعلام العربي، وفيه كانت تبرز مسألتان، وهما:
-الأولى: تشويه صورة الصمود العراقي، وتصوير النظام السابق بالمهزوم وكأنه قام بخديعة شعب العراق ومؤيديه في الشارع العربي والعالمي. ولم يتورَّع الإعلام الأميركي عن تضخيم صور الخيانة، وبث الإشاعات عن هروب الرئيس صدام حسين إلى خارج العراق، إما بواسطة صفقة، وإما لأسباب أخرى، يمكن العودة إليها في مصادر المعلومات.
-الثانية: العمل من أجل تضخيم مظاهر ما اعتبرته أخطاء سياسية وأمنية، للنظام السياسي لحزب البعث، على قاعدة الإخراج التلفزيوني، وقامت بتوزيعها وتعميمها بشكل كثيف على وسائط الإعلام العالمية والعربية، التي كانت الأغلبية العظمى منها متواطئة، والبعض الآخر مضلَّلاً. وكانت الإدارة الأميركية ترمي من وراء اتِّخاذ هذا التدبير، مستفيدة من ربحها العسكري، تأمين هدفين متلازمين:
1-التعتيم على الأسباب التي روَّجتها الأوساط الإعلامية للإدارتين الأميركية والبريطانية حول امتلاك العراق أسلحة للدمار الشامل. ولأنها تعلم أن تلك المزاعم ليست صحيحة، فإنها عملت على إخفاء معالمها بإلهاء الرأي العام العالمي بمشاهدة مسرحيات تستأثر باهتمامات المزاج الشعبي وتؤثر فيه( ).
2-الحصول على شرعية احتلالها من خلال تضخيم صورة، ما حسبته مآسٍ إنسانية صنعها النظام بشعبه. وروّجت وسائط الإعلام وأبرزت شرائط تصور مقابر جماعية، وسجوناً وسجناء صُوِّرت بالطريقة والتعليق لتؤدي دوراً إعلامياً هادفاً…
كانت أجهزة المخابرات الإعلامية، بالإضافة إلى إبراز إعلامي هادف، تعمل على التعتيم حول ما يجري في مدن العراق وقراه، وخاصة في بغداد، من أعمال شعبية عسكرية لم تنقطع منذ التاسع من نيسان من العام 2003م.
تكاثرت وعود الأميركيين للعراقيين بعصر يذوقون فيه طعم نظام جديد سوف يقومون بتأسيسه على قواعد الحرية والديموقراطية وتأمين فرص العمل، وزيادة المداخيل، وتأمين شتى أنواع الخدمات الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية.
وفي المقابل راحت الإدارة الأميركية تبشِّر الشركات الأميركية العملاقة، التي يشارك بملكيتها أو إدارتها عدد من مسؤولي الإدارة الحاكمة، بأن أبواب الثروة العراقية وفرص الاستثمار، والعمل في العراق، في ازدياد مستمر؛ وراحت تستدرج عروض الإعمار والبناء التي سوف تدر على تلك الشركات لبن العراق وترياقه.
كما راحت أبواق إعلام الشركات الرأسمالية الأميركية تمارس فعل الشماتة بشركات الدول الكبرى أو الصغرى التي لم تشارك في الحرب ضد العراق. وهذا ما دفع بعدد من الدول الكبرى إلى السعي من أجل عقد صفقات مقايضة مع الأميركي، الذي صوَّر نفسه على أنه منتصر، تحت صيغ إعادة صفاء العلاقات بين دول النادي الرأسمالي بعد أن عكَّرته المواقف المتباينة من الحرب ضد العراق.
وراح تحالف التيارات العراقية المعارضة يعدُّ نفسه للاستفراد بالمغانم التي سوف تدرها السلطة عليه عندما يصبح في مواقع المسؤولية.
لم تنته المرحلة، ذات العمر الذي لم يتجاوز الأسابيع القليلة، حتى قام جورج بوش الإبن –في أول شهر أيار / مايو، بإعلان انتهاء الحرب، وراح يغدق الوعود على القوات الأميركية التي شاركت في الحرب إلى الاستعداد للعودة بعد أن قاموا بالدفاع عن شرف أميركا وحمايتها من الإرهابيين!! والنظام السياسي في العراق كان من أهمهم.
أما نتائج العمليات العسكرية النظامية فكانت لصالح قوى العدوان، فراحت الإدارة الأميركية تصوِّر، أو هي كانت مقتنعة بالفعل، أنها أحرزت النصر النهائي. وبناء على تلك النتائج ظهرت العنجهية الأميركية والبريطانية بكل وجوهها القبيحة. وإذا ما قمنا بمراجعة الملف –ذي العلاقة- لوجدنا الصورة الميدانية كما صوَّرتها إحدى المقالات، كما يلي: »ارتفعت صيحات النصر بين صفوف (الأميركيين) وتعالت أصوات التشفي بينهم ضد العرب والمسلمين وضد الدول التي عارضت العدوان الأمريكي البريطاني. وإلى جانب هذا وذاك اندفع الغزاة نحو احتكار الغنيمة، ولم يتورعوا عن تهديد معارضيهم الأوروبيين بالحرمان من أي نصيب في تلك الغنيمة وبالانتقام من كل أولئك الخارجين عن طاعة البيت الأبيض.
وبموازاة كل ذلك.. أطلق العنان للنفخ بقوة وشجاعة وحنكة العسكريين الأمريكيين ووُضع العاجزون والخائفون منهم في مصاف الأبطال ونسجت حولهم الأساطير. وما هي إلا أيام قليلة حتى تحول المشهد البطولي الأمريكي البريطاني في العراق إلى كابوس بربري نهبت ودمرت خلاله آيات الحضارة العراقية الفريدة، وأهين فيه أبناء العراق وبناته.. في وقت يجرى فيه الحديث عن التحرير والإنقاذ والديمقراطية«( ).
الفصل الرابع
موقع الفكر المقاوم في استراتيجية حزب البعث
إذا كانت المقاومة الشعبية المسلحة تختصر مساحة الفراغ بين النصر والهزيمة، فإلى أي مدى أسهمت تجربة المقاومة الشعبية العراقية –الآن- التي يطبقها حزب البعث العربي الاشتراكي مع روافده من التنظيمات الأخرى، في اختصار المسافة بين النصر الأميركي العسكري، وانسحاب القوى النظامية العراقية من حرب المواقع ؟
يستند الحزب في استراتيجيته للتحرير إلى منظور حرب التحرير الشعبية، وقد وضع في منطلقاته الأولى مهمة التحرير من الاستعمار والصهيونية هدفاً أساسياً لن تتحقق شعاراته في الوحدة العربية والاشتراكية إلا بتحرير أقطار الأمة العربية من هيمنتهما.
قال مؤسس الحزب، عن الصراع العربي الصهيوني –قبل معارك العام 1948م- في فلسطين:»لا تنتظرنَّ المعجزة، إن فلسطين لن تحررها الحكومات، بل العمل الشعبي المسلَّح«( )، وقال: »أمتي موجودة حيث يحمل أبناؤها السلاح«. ومارس الحزب أسلوب العمل الشعبي المسلَّح –تطبيقاً لنظريته- في عدة من المحطات التاريخية، وكان من أهمها:
-مشاركة قيادة الحزب()، وقواعده، في حرب فلسطين من العام 1948م، وللحزب شهداء سقطوا في أثناء مواجهة العدوان الصهيوني في تلك المرحلة( ).
قامت تلك المشاركة على أساس أن الحزب لا يثق بقدرة الأنظمة على تحرير فلسطين. ولهذا أسهم الحزب في النضالات التالية:
منذ الستينات، وبعد أن انطلقت أول ثورة فلسطينية مسلحة، بتاريخ 1/ 1/ 1965م، كان لحزب البعث دور الريادة في مساعدتها بالإعلام والتبرعات والانخراط في صفوفها( ). كما أصدر الحزب عدة بيانات تأييد وتبشير بالعمل الفدائي، وكانت مواقفه تتلخص بما يلي:
-عجز الأنظمة عن استرداد فلسطين. فالكفاح الشعبي المسلح هو الطريق لاستردادها.
-إنتقاد أدعياء الحرص على فلسطين، ولا يجرؤن على الإشارة إلى مجهود »العاصفة«.
-النضال الفلسطيني هو على أرض فلسطين وليس في المؤتمرات. ويُعدُّ عمل »العاصفة« وأسلوبها في الكفاح المسلح هو ما يجب على العرب أن يأخذوا به( ).
رأى الحزب الجوانب الإيجابية في المقاومة، ومن أهم تلك الإيجابيات هي منازلتها للاستعمار والصهيونية في الساحة العربية المركزية التي هي فلسطين المحتلة، وبأسلوب الكفاح المسلح. وبذلك غدت هوية المقاومة الفلسطينية هوية قومية »تطل بها الثورة العربية على العالم كخلاصة للقضية العربية في صراعها مع الاستعمار والصهيونية«( ). ولما بدا أن الثورة الفتية تستند إلى منطلقات قطرية، وخوفاً من أن تتقوقع في داخل الأسوار القطرية الفلسطينية، أسهم الحزب في تأسيس فصيل قومي، في مطلع نيسان / أبريل من العام 1969م، وأطلق عليه اسم جبهة التحرير العربية. والتي حددت منطلقاتها القومية، المستندة إلى عمق فكري، وفيها عبَّرت عن الترابط الوثيق بين النضال المسلَّح من أجل فلسطين والنضال الجماهيري العربي من أجل الوحدة والتحرر والنهضة الحضارية، وقد نصَّت مقدمة بيانها التأسيسي على أن: »فلسطين طريق الوحدة والوحدة طريق فلسطين«( ).
واستناداً إلى أن الحزب حمل »أمانة تاريخية، هي أمانة النهوض بالأمة وتحقيق وحدتها وتحرير أرضها المغتصبَة«( )، وللدلالة على قومية المعركة استندت جبهة التحرير العربية في هيكلة تنظيمها ليس على الشباب الفلسطيني فحسب وإنما على شباب حزب البعث العربي الاشتراكي بتنظيماته القومية أيضاً، ومن المعروف أن تنظيمات الحزب منتشرة في معظم الأقطار العربية. وكان نشاط الجبهة بارزاً في أحداث الأردن (1970 - 1971)، وكذلك في صد الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان. وكان من أهم مهمات الجبهة أن لا تكون بديلاً لأحد، ولكن أن تعمل جاهدة في رص صفوف فصائل المقاومة الفلسطينية( ).
قامت جبهة التحرير العربية بواجبها في قتال العدو الصهيوني منذ إعلان تأسيسها. وأعلنت في مبادئها أنها »ذات طابع جبهوي وتركيب قومي عربي وفكر ثوري تقدمي«. وقد نفذَّ مقاتلوها في داخل الأرض الفلسطينية المحتلة عدداً من العمليات الانتحارية، كمثل عملية كفار يوفال، وكفار جلعادي، ومسكاف عام. وكان تركيبها التنظيمي قومياً، بحيث ضمت قيادتها مناضلين عرب من أقطار عربية عدة، وكذلك كان وضع المنتسبين إلى صفوفها( ).
وعلى مسار آخر، كانت لحزب البعث في لبنان، منذ العام 1969م، تجربة موازية لتجربته في تأسيس جبهة التحرير العربية، وهي البدء بإعداد البعثيين بتدريبهم على استعمال السلاح لبناء أول تجربة للمقاومة الشعبية في جنوب لبنان، وكان نموذجها بناء قوى شعبية مقاتلة في القرى المحاذية للأراضي الفلسطينية المحتلة. وهكذا استدعت التجربة عدة سنوات، كان من أهم نماذجها تجربتيْ الطيبة وكفركلا، وفيهما حصلت عدة مواجهات بين جيش العدو الصهيوني وبين المقاتلين البعثيين. وقد أقلقت تلك التجربة قيادة جيش العدو، وقد عمل على إحباطها، ولهذا السبب شنَّت قوات من الكومندوس الصهيوني، في العام 1975م، عدة هجمات على القريتين، وسقط نتيجة المواجهة عدد من الشهداء البعثيين( ).
وللتدليل على أهمية تلك التجربة، صرَّح السيد موسى الصدر، في العام 1976م، بعد أن انكشف قيام »أفواج المقاومة اللبنانية« التي يقودها، قائلاً: إنني أريد أن أبني تجربة في جنوب لبنان كمثل تجربة كفركلا والطيبة( ).
وبمثل تلك الشواهد التاريخية، قارب حزب البعث العربي الاشتراكي بين رؤيته النظرية للنضال في سبيل القضية الفلسطينية وتجاربه العملية. وحمل أعضاء الحزب في لبنان السلاح، منذ العام 1975م، للدفاع عن الثورة الفلسطينية.
وتابع البعثيون دورهم ، إلى جانب تشكيلات المقاومة الوطنية اللبنانية، بعد احتلال العدو الصهيوني منطقة جنوبي الليطاني في العام 1978م. وكذلك، بعد احتلال جزء كبير من الأراضي اللبنانية من قبل القوات الصهيونية في العام 1982م، إلى جانب مجاميع القوى الوطنية، ونفَّذ مئات العمليات ضد القوات الصهيونية المحتلة وسقط له في مواجهتها عشرات الشهداء. وكان يمارس الحزب دوره تحت اسم »المقاومة الوطنية اللبنانية – قوات التحرير«.
واستناداً إلى كل ذلك، فقد أثبت حزب البعث دوره في نشر فكر المقاومة والترويج له، ومارس هذا الدور في شتى معارك المواجهة ضد القوات الصهيونية في فلسطين والأردن ولبنان.
أما علاقة منظمة الحزب في العراق، فهي علاقة مسيرة مستمرة في العمل المقاوم، فالعراقيون، وعلى رأسهم البعثيون، أسهموا في شتى جبهات المقاومة ضد العدو الصهيوني في لبنان وفلسطين والأردن، هذا بالإضافة إلى الإمكانيات المالية والتسليحية والسياسية التي كان نظام الحزب في العراق يقدمها للمقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية.
وتدليلاً على إيمانه وقناعته بالدور الفعال للمقاومة، كان العراق –حتى في ظل الحصار منذ العام 1991م- يقدم مساعدات نقدية فورية إلى صاحب البيت الفلسطيني الذي يتعرض للهدم، ولأسر الشهداء أيضاً، ومساعدة تفوقهما لكل من ينفذ عملية استشهادية(). هذا السبب هو من بين عدة من الأسباب التي زادت حقد الصهيونية ضد النظام السياسي في العراق.
استناداً إلى كل ما سبق، ما هو موقع الفكر المقاوم في استراتيجية منظمة الحزب في العراق عندما تأكدت نوايا الأمريكيين في غزو العراق ؟
بداية لا بُدَّ من أن نقف أمام مسألة قد لا يدركها آخرون، أو أنها لا تلفت انتباههم، وهي أن حزب البعث ليس حزباً للسلطة، بل هو حزب الثورة والتغيير نحو الأفضل، والسلطة هي إحدى وسائله النضالية لتحقيق أهدافه في الوحدة العربية والحرية والاشتراكية؛ تلك الأهداف التي تُخرِج الأمة العربية من حالة السيطرة الاستعمارية والتخلف إلى الاستقلال والحرية، ليكون للأمة دورها الإنساني جنباً إلى جنب مع الأمم الحرَّة، وليس تابعاً لقوى الاستعمار العالمي. فوجود الحزب متعلق بوجود الثورة لتحقيق أهدافه، وليس مرتهناً للسلطة. فلتغب السلطة إذا اقتضى الأمر؛ ولكن الأساس أن يستمر الحزب والثورة ضد التبعية للأجنبي والتخلف والتشرذم. واستناداً إلى تلك القاعدة الفكرية الاستراتيجية كان السيناريو الذي وضعته قيادة الحزب في العراق في سبيل مواجهة مع أحدث قوة عسكرية في العالم المعاصر.
وتأكيداً على إيمانه بجدوى المقاومة الشعبية المسلَّحة وممارسته لها وتخطيطه لعملها، فقد أعدَّ صدام حسين الأمين العام لحزب البعث نفسه للشهادة( )، كما أعدَّ أولاده وأحفاده لمواجهة مثل هذا الاحتمال، وقد برهنوا على إيمانهم بالفعل( ).
الفصل الخامس
مرحلة تطبيق البعث للمقاومة الشعبية في العراق
تمهيد تاريخي وسياسي:
ليس للاحتلال مفاهيم متعددة، فالاحتلال هو اغتصاب. والاغتصاب مرفوض بكل القيم الإنسانية. وليس لأهداف المقاومة اجتهادات عديدة، فهي ثابتة، ولن تكون أقل من إزالة الاحتلال، وإعادة الحقوق المغتصبة إلى أصحابها. أما وسائلها فلن تقوم على التوفيق بين أهداف الاحتلال غير المشروعة وبين الحقوق المشروعة للشعب المغتَصَبة حقوقه.
وتتعدد أساليب مقاومة الاحتلال، ولكن أهدافها واحدة في كل زمان ومكان. وتتراوح أساليبها بين العصيان المدني، مروراً برفض أي تعاون مع القوى المحتلة، وصولاً إلى المقاومة العسكرية المسلَّحة.
ما أشبه اليوم بالأمس بالنسبة للعراق. بالأمس، بعد الحرب العالمية الأولى، دخلت القوات البريطانية –في 6/ 11/ 1914م- إلى منطقة الفاو في جنوب العراق، وأكملت احتلاله بدخولها إلى الموصل، في تشرين الثاني من العام 1918م.
لم تكن ممارسات قوات الاحتلال البريطاني –حينذاك- غير تلك التي تقوم بها قوات الاحتلال الأميركي بعد مرور أكثر من ثمانين عاماً( ). ولم تكن ردود فعل العراقيين، ضد قوات الاحتلال البريطاني–في أوائل القرن العشرين- غير تلك التي تقود خطاهم في مقاومة الاحتلال الأميركي – البريطاني في القرن الواحد والعشرين.
فللعراق تجارب تاريخية في مقاومة الاحتلال. ومن تلك التجارب، التي سطَّرها تاريخه، تلك المعروفة ب»ثورة العشرين«، وتعود إلى مرحلة الاحتلال البريطاني للعراق، في أثناء الحرب العالمية الأولى.
بعد دخول الجيش البريطاني إلى بغداد؛ ولما انكشف خداع البريطانيين عن وعودهم الكاذبة في إعطاء العراقيين الاستقلال بعد انتهاء الحرب( )، ولما كانت غطرسة الحاكم المدني الإنكليزي تستفز مشاعر العراقيين، انتفض أهالي النجف ضد الحاكم البريطاني، وقتلوه، في آذار من العام 1918م؛ وهاجموا قوات الاحتلال في أكثر من مكان وكبَّدوها خسائر فادحة( ). فكانت ثورة النجف خطوة تمهيدية لثورات أكبر تواصلت على الرغم من كل وسائل الاضطهاد ومحاولات النفي والإبعاد للكثير من الفعاليات العراقية. فبعد أن كرَّس مؤتمر (سان ريمو)، الذي انعقد في نيسان/ أبريل من العام 1920م، نظام الانتداب البريطاني على العراق، أعلن العراقيون أن »الحرية تؤخذ ولا تُعطى«، و»إن الإسلام والاحتلال لا يجتمعان في دولة (واحدة)«، واندلعت ثورة العشرين، في 30 حزيران / يونيو من العام 1920م. وفيها سقط لقوات الاحتلال البريطاني آلاف الخسائر بالأرواح( ).
هذا ما كان بالأمس، الشعب العراقي يتمتع بتاريخ عريق في الكفاح الاستقلالي والمناهض للاستعمار. فهو شعب ذو تربية سياسية ويمتلك تراثاً قومياً عربياً غنياً، واعتزازاً قومياً، ومشاعر وطنية عميقة مناهضة للإمبريالية والصهيونية.
أما اليوم، وقبل بدء العدوان الأميركي -في آذار / مارس 2003م- بأقل من ثلاثة أسابيع، وفي مواجهة الاستغراب حول إصرار العراق على الوقوف في وجه القوة الأميركية، الذي بدا وكأنه يوحي بأن العراق سوف يحقق نصراً على تلك القوة، أوضح الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي قائلاً: ليس من الوطنية والأخلاق أن يستسلم العراق أمام تهديدات أميركا. فالأميركيون لا يرضون أبداً أن يستسلموا أمام أي تهديد إذا تعرضوا للعدوان، فمن مقتضيات شرف المسؤولية أن يدافع، الذي يتعرض للعدوان، عن بلده وأطفاله وشعبه.
إن العدوان المستمر ضد العراق، منذ العام 1991م، يدل بما لا يقبل الشك بأن المعركة لم تنته، بل هي مستمرة. لأن المعركة لا تُعتبر منتهية »إلاَّ عندما تسكت البنادق، وعندما تنحني الإرادة الوطنية لكل ما يريده المعتدي«. لكن لم تنحن إرادة العراقيين أمام ضغوط الأهداف الأميركية، بل إن »شعب العراق قرَّر أن يعاود دوره الحضاري الإنساني القومي الوطني المؤمن العظيم، وسوف يتمسك بهذا الدور بما يجعله يحترم نفسه وإرادته، ويحترم الشعوب الأخرى وإرادتها وحقها في الاختيار«.
وإيماناً بدوره في الدفاع عن الشعب والوطن، يقول صدام حسين بأن من يطلب منه اللجوء إلى خارج العراق هو »بلا أخلاق«، لأن في هذا الطلب يعني تنازل المسؤول عن شرف الدفاع عن وطنه، شعباً وأرضاً. ويعني –أيضاً- تنازل الشعب العراقي عن قراره باختيار النظام السياسي الذي يريد، وهو استسلام أمام إرادة دولة أجنبية تريد أن تفرض قرارها نيابة عنه( ).
استناداً إلى تلك الرؤية وضعت قيادة الحزب في العراق خطتها الاستراتيجية في مواجهة العدوان الأنجلو أميركي، والتي كانت تقوم على استخدام كل الوسائل والإمكانيات التي وفرتها السلطة لمقاومة العدوان وتأخير تقدم القوات الغازية، وإنزال أكثر ما يمكن من الخسائر في صفوفه. وعندما ترى القيادة أن مرحلة المواجهة النظامية أصبحت مُكْلِفة على العراقيين، تبدأ مرحلة حرب التحرير الشعبية.
تدل وقائع الأحداث العسكرية التي مرَّت على العراق، منذ بداية العدوان في العشرين من شهر آذار / مارس من العام 2003م، على أن مرحلتيْ استراتيجيا الحزب، المخطط لهما، تسيران وفق خط ثابت تعيقه –أحياناً- بعض الالتواءات التفصيلية غير المحسوبة؛ ولكن على الرغم من وجودها، فإن سير الأمور وفق السياق الاستراتيجي بقي ثابتاً.
بانتهاء مرحلة المواجهة النظامية لصالح جيوش العدوان، انتهت مرحلة الحزب في السلطة بسقوط الأرض تحت الهيمنة العسكرية الأميركية – البريطانية في 9/ 4/ 2003؛ لكن ابتدأت مرحلة الحزب الثورة، في الكفاح الشعبي المسلَّح، بتاريخ 10/ 4/ 2003م، وهي المرحلة التي أخذ فيها الحزب إعادة إنتاج نفسه، بمفاصله القاعدية والقيادية وتوجهاته الثورية. فمن تساقط مع بداية الاحتلال، إذا كان التساقط فعلاً قد حصل، فقد ذهب مع آلية الحزب في السلطة؛ ومن التزم بموجبات المرحلة الثانية وراح يمارسها على الأرض فهو مع الحزب بآلية الثورة، وهو –من وجهة نظر الثوريين- أقوى الإيمان وأكثره ثباتاً.

أولاً: كيف يقوم الحزب بأداء موجبات مرحلة الكفاح الشعبي المسلَّح؟
منذ إعلان قيادة العدوان، في التاسع من نيسان، استيلاءها على العاصمة العراقية، وعلى الرغم من كل الملابسات التي حصلت في ذلك التاريخ، الملابسات المتروكة للكشف عنها في المراحل التالية، فإنها لم تؤثر على تغيير الخط الاستراتيجي المرسوم بتحويل إمكانيات الحزب وقدراته ومخزوناته النضالية إلى منازلة قوات العدو بأسلوب حرب التحرير الشعبية، وهو الأسلوب الوحيد الذي يضع مخزونات الثورة والنضال في حسابات موازين القوى العسكرية.
لجهل متعمَّد، أو تكاسل عن قراءة فكرية لاستراتيجية حزب البعث العربي الاشتراكي في مقاومة الاستعمار، خاصة في حالات الاحتلال العسكري، غابت عن الجميع الرؤية الواضحة في تحديد نتائج العمليات الفدائية، وبلبلة في تحديد الجهة التي تقوم بها وتقودها. ولهذا السبب قدَّمنا، في هذا المقطع، رؤية الحزب الاستراتيجية في مواجهة الاحتلال، لتوضيح ما كان ملتبساً. ونحن نحسب أنه لا يمكن أن نفهم الوقائع الميدانية للفعل العراقي المقاوم في المرحلة التي تلت سقوط بغداد بدون ربطها مع تلك الاستراتيجية. كما لا نستطيع أن نفهم ما حصل في بغداد في التاسع من نيسان، وما تلاه بدءاً من العاشر منه، من دون أن تكون وسائل الفصل أو الترابط بين المواجهة النظامية والمواجهة على طريقة العمل الشعبي المسلَّح واضحة أمام المراقبين.

ثانياً: الأهداف الميدانيـة لحركـة المقاومـة الوطنيـة العراقيـة
كان الغياب السريع لكل المظاهر العسكرية العراقية النظامية -في التاسع من نيسان من العام 2003م- من شوارع بغداد، وكأنه كلمة السر، التي أعلنت البدء في المرحلة الثانية بعد أن استنفذت المرحلة الأولى إمكانياتها. لكن شاب تلك السرعة غموضاً مُربكاً للجميع، وزاد الإرباك فيه سرعة اختفاء العسكريين.
أما الغموض الذي رافق السرعة في اختراق القوات الغازية تحصينات بغداد والسرعة في دخولها، فقد أصبح في ذاكرة التاريخ، والتفتيش عن تفسير لملابساته لا يتعدَّى كونه من الأسرار التي على حركة التحرر العربية بشكل عام، ومنظمة حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق بشكل خاص، أن تبحث عن ملابساتها لتتعلَّم من انعكاساتها السلبية على واقع الصراع مع العدوان القادم من الخارج.
أما بالنسبة لسرعة إخفاء المظاهر العسكرية العراقية النظامية، التي أثارت حالة من الذهول الشعبي، فقد أخذت تتَّضح بعض خفاياها وأسبابها، والتي تبيَّن أنها من المراحل التي نُفِّذت بناء لتخطيط مسبق، خاصة أن قوات العدوان قد استخدمت سلاحاً محرَّماً دولياً( ).
أما تخطيط الانتقال من مرحلة إلى أخرى، فتقوم مبرراته على أن الاحتلال واقع، وعندما تصبح المواجهات النظامية من دون جدوى تتحوَّل كل النظامية، أو تلك التي كانت تمارس حرب المواقع، إلى مجاميع صغيرة تمارس حرب العصابات.
لم تنقطع مرحلتيْ المواجهة –زمنياً- ضد القوات المحتلة، ولهذا نحسب أن مفصل التاسع من نيسان ليس بين مرحلتين تاريخيتين فاصلتين في تحديد مصير العراق، بل هو مفصل بين مرحلتين قتاليتين. مثَّلت المرحلة الأولى مرحلة التصدي النظامي للعدوان، أما المرحلة الثانية فهي مرحلة مقاومة الاحتلال بوسائل حرب التحرير الشعبية.
لقد قامت المؤسسات الإعلامية، المرتبطة بقوات الاحتلال، أو تلك التي أرغمتها على الغياب عن ساحة الحدث، بالتعتيم على مسألتين:
-الأولى التعتيم على الجرائم التي قد ترتكبها قوات الاحتلال في العراق.
-أما الثانية فهي التعتيم على المقاومة التي كانت تمارسها مجموعات من الفدائيين العراقيين المدربين –قبل وقوع العدوان- على أساليب ووسائل حرب العصابات ضد قوات الاحتلال.
لم يمض أسبوعان على فرض الحصار الإعلامي على الساحة العراقية حتى نشرت وسائل الإعلام، من ضمن مهمتها في التقاط الخبر الجديد، أول بيان صادر عن المقاومة العراقية، بتاريخ 22/ 4/ 2003م، تحت إسم »قيادة المقاومة والتحرير«( ) تعلن فيه أن العمليات العسكرية ضد قوات الاحتلال الأميركي لم تتوقف. بل قام المقاتلون –منذ 10/4- بسلسلة من عمليات حرب العصابات ضد قوات الاحتلال. وتبع بيان المقاومة رسالة من الرئيس صدام حسين يعلن فيها عن بعض ما جرى وما يجري في العراق، ومن أهمها تأكيده على أن مقاومة الاحتلال مستمرة بأشكال أخرى، ولم تتوقَّف في التاسع من نيسان، كما حسب الكثيرون.
بين مصدِّق ومكذِّب ودارس لمضامين الإعلانين: قيادة المقاومة والتحرير، ورسالة الرئيس صدم حسين. وبين مطبِّل لإعلان جورج بوش الإبن، في أول شهر أيار / مايو، نهاية الحرب في العراق، أخذت وعود وآمال القوات المحتلة تتزايد، وأخذت الإدارة الأميركية تقوم بتوزيع جوائز الترضية على المحاسيب والأزلام الدوليين والعرب. وراحت الشركات الكبرى، التي موَّلت الحرب، تمهِّد موانئ ومرافق العراق، للقيام بحركة تجارية واسعة، وحركة أوسع من التلزيمات لعقود الإعمار. وتسابق عملاء المخابرات الأميركية -من بعض قوى المعارضة العراقية- على استلام مقاليد السلطة هنا أو هناك. وراحت الإدارة المدنية والعسكرية الأميركية المكلَّفة بإدارة شؤون العراق، تقمع هذا وتخفف من سرعة ذاك. ونشطت حركة توليد الأحزاب والحركات العراقية بالعشرات. ونام نواطير بعض الأنظمة العربية مطمئنين. والكل ينتظر إشارة رضى من جورج بوش وطوني بلير، وكان كل منهم ينتظر هديته كأجر على دوره المتواطئ في الحرب على العراق… و .. و…
لم يمض وقت طويل، حتى أخذت الإدارة الأميركية، تنفي أن تكون لأنباء العمليات العسكرية أي تأثير على أمن قواتهم العسكرية في العراق، وأعلنوا أنها فلول يائسة من المرتبطين مع النظام البعثي السابق تارة، وتارة أخرى أنهم من الناقمين على وضعهم المعيشي بعد أن قام الحاكم الأميركي المدني (بول بريمر) بإصدار قرارات يسرِّح فيها الجيش العراقي. وهكذا أخذت الجوقة الإعلامية المتواطئة مع قوات الاحتلال تقوم بالتخفيف من تأثير عمليات المقاومة على واقع الاحتلال.
كان في النفي الأميركي لأي تأثير لعمليات المقاومة العراقية، تأكيد لمدى تأثيرها على أمن قوات الاحتلال. ودار الجدل حول المدى الذي ستصمد فيه المقاومة فلم يتورَّع بعضهم عن التنبؤ في القضاء عليها خلال أيام أو أسابيع، خاصة وأن قوات الاحتلال نظمَّت عدة حملات، أطلقت على بعضها (عقرب الصحراء) تارة، وتارة (أفعى الصحراء)، وأحياناً (الأفعى المتسلقة) … حتى وصل فشلها إلى مواقع التهكم والنكتة، ولم تسلم تصريحات بوش الذي أعلن تحديه للمقاومة من تهكمات السياسيين الأمريكيين الذي طلبوا منه أن يسحب تلك التصريحات التي لم تكن صادرة إلاَّ عن عنجهية فارغة.
تأكيداً على كذب الإدارة الأميركية، كما صرَّح جورج بوش، من أنه سوف يقضي على المقاومة بسرعة، لأنها –كما يصفها مع وسائل إعلامه- مجموعة من اليائسين، نراه من جانب آخر –ولم يمر على إعلانه انتهاء الحرب في العراق أقل من ثلاثة شهور- يستنجد بالعالم لدعمه مالياً وعسكرياً ومساعدته في القضاء على المقاومة العراقية( ).
أدَّت تلك العمليات –التي حسبت قوات الاحتلال أنها ستقضي بواسطتها على المقاومة- إلى ارتكاب الكثير من الجرائم، بحقوق المواطنين وممارسة الاعتداء على كراماتهم، من اختراق حرمات البيوت، والقيام بالاعتقالات العشوائية، وبالتالي انتهاك أدنى قواعد حقوق الإنسان بالنسبة للمعتقلين العراقيين( ).
على الرغم من تواطؤ بعض التنظيمات السياسية العراقية –تيارات المعارضة العراقية سابقاً- مع قوات الاحتلال، تلك التيارات التي أخذت تساعد الاحتلال على تشويه أهداف المقاومة وعلى القبض على عناصرها وتسليمهم له( )، تواصلت عمليات المقاومة العراقية ضد قوات الاحتلال، وتسابقت وسائل الإعلام على ملاحقة وقائعها ونتائجها، واسترعت اهتمامها، وراحت تستقدم عدداً من المحللين العسكريين لسماع تحليلاتهم حول تلك الظاهرة، بحيث عدَّها الكثير منهم مفاجئة لتوقعاتهم. وقد عبَّر أحد مذيعي الأخبار بأن المؤسسة الإعلامية، التي يعمل فيها، سوف تحتاج من جديد لجهود المحللين العسكريين لاستشراف آفاق ومستقبل عمليات المقاومة العراقية.
أما على الصعيد الميداني، ومن دون الخوض في تفصيلات النشاطات اليومية للمقاومين، فنوجزها بما يلي:
-حتى شهر تموز / يوليو –من العام 2003م- تصاعدت عمليات المقاومة بالنوعية والكمية، وترافق تزايدها مع تزايد جرأة الصحفيين والإعلاميين في العراق على ملاحقة الأحداث متجاوزين كل وسائل الترهيب والمنع الأميركي لنشاطاتهم.
وفي الوقت الذي كانت فيه بيانات المجموعات المقاتلة، في المراحل الأولى، تؤشِّر على دور مهم للتنظيمات العاملة تحت قيادة وتوجيه حزب البعث ( )، بعد أن انتقل من موقع الحزب في السلطة، وراح يمارس دور الحزب في الثورة الشعبية المسلَّحة، فأدار العمليات العسكرية وقادها( )، تلاحقت البيانات الصادرة عن بعض المجاميع الأخرى، والتي أعلنت عن قيامها بأعمال عسكرية ضد قوات الاحتلال. وكانت بعض تلك المجاميع تحمل تلاوين دينية أو قومية علمانية، وهذا ما يدل على تعددية سياسية وإيديولوجية في صفوف المقاومين، وهي اتجاهات صحية لأنها تتجه نحو توسيع وانتشار المقاومة الوطنية كخيار رئيس يهدف إلى توحيد أكبر ما يمكن من التعدديات السياسية، وهي –بلا شك- ستؤدي إلى قيام جبهة وطنية لفصائل المقاومة العراقية. أما بعض التي أعلنت عن نفسها، فقد نشرت بعض وسائل الإعلام –حتى أواخر أيلول / سبتمبر من العام 2003م- المسميات التالية وسوف نسميها حسب التسلسل التاريخي لصدور بيانها الأول( ):
-»قيادة المقاومة والتحرير«: أعلنت بيانها الأول بتاريخ 22/ 4/ 2003م. وتضم –حسب بياناتها- الجيش العراقي والحرس الجمهوري وفدائيي صدام وحزب البعث( ) . وقد مهَّد البيان للرسالة الأولى للرئيس صدام حسين، وذلك بعد أن تكاثرت التكهنات عن مصيره( ).
-جبهة تحرير العراق الوطنية: أعلنت عن نفسها بتاريخ 23/ 4/ 2003م( ).
-جبهة تحرير العراق: أعلنت عن نفسها بتاريخ 28/ 4/ 2003م( ).
-اللجنة القيادية للتنظيم الناصري في العراق: تاريخ 3/ 6/ 2003م( ).
-الحركة الإسلامية في العراق: أعلنت عن نفسها بتاريخ 3/ 6/ 2003م ( ).
-مجاميع الفاروق ومجاميع الحسين: وقد ورد اسمها لأول مرة في بيان لقيادة المقاومة والتحرير بتاريخ 1/ 6/ 2003م( ).
-سرايا المقاومة العراقية: أعلنت عن نفسها بتاريخ 17/ 6/ 2003م( ).
-كتائب العودة: أعلنت عن نفسها بتاريخ 19/ 6/ 2003م( ).
-جبهة الفدائيين الوطنية العراقية:بتاريخ 21/ 6/ 2003م( ).
-حركة الجهاد العراقية: أعلنت عن نفسها بتاريخ 2/ 7/ 2003م( ).
-سرايا الجهاد، و»المقاومة الإسلامية الوطنية العراقية – كتائب ثورة 1920م«: أعلنت عن نفسها بتاريخ 10/ 7/ 2003م( ).
-جبهة التوحيد لتحرير العراق: أواسط تموز/ يوليو من العام 2003م ( ).
-الشباب المسلم: أعلنت عن نفسها في 18/ 7/ 2003م( ).
-كتائب صلاح الدين الأيوبي: أعلنت عن في 19/ 7/ 2003م( ).
-تنظيم سرايا الجهاد: أعلن عن نفسه بتاريخ 21/ 7/ 2003م( ).
-الحزب الشيوعي العراقي (الكادر الحزبي): تاريخ 22/ 7/ 2003م( ).
-فدائيو صدام: أعلن التنظيم عن نفسه بتاريخ 24/ 7/ 2003م( ).
-»الجماعة الجهادية السلفية«: أعلنت عن نفسها بتاريخ 28/ 7/ 2003م( ).
-مجاهدو صدام: أعلنت عن نفسها بتاريخ 11/ 8/ 2003م( ).
-»حركة المقاومة العراقية الإسلامية الوطنية«: بتاريخ 17/ 8/ 2003م( ).
-مجاهدو حديثة: أعلنت عن نفسها بتاريخ 19/ 8/ 2003م.
-منظمة ذو الفقار في بعقوبة: أعلنت عن نفسها بتاريخ 12/ 9/ 2003م( ).
-الجبهة الوطنية لتحرير العراق: بتاريخ 2/ 10/ 2003م( ).
على الرغم من التعتيم الإعلامي عليها ومحاولات قوات الاحتلال ملاحقة كل وسيلة إعلامية تخرق البروتوكول الذي بلَّغتها به قيادة الاحتلال، والقاضي بإغفال كل الأخبار التي تُضرُّ بها، تصاعدت أخبار المقاومة وانتشرت، وتكاثرت الفصائل التي تقوم بقتال جنود احتلال وملاحقته، ومنها ممن لم ترد أسماؤها وبياناتها، في الفقرات السابقة، وهي: كتائب البعث، وقوات الحسين، ومجاميع قوات القدس، وتشكيلات الحرس الجمهوري، وتشكيلات جيش القدس، ومجاميع فدائيي صدام، وكتائب الفاروق…
وأخذت أصوات الجماهير العراقية –مع تصاعد عمليات المقاومة- تضغط على بعض قياداتها الدينية من أجل إصدار فتاوى دينية تدعو إلى الجهاد، وتحرض عليه( )، وقد أخذت وسائل الإعلام المرئية والمقروءة، تُظهر –من وقت إلى آخر- أشرطة مسجَّلة لمجموعات من المقاومين الذين يعلنون انضمامهم إلى صفوف المقاومة العراقية. وأخذت مختلف فصائل المقاومة العراقية، بعد أن أخذ ضغط قوات الاحتلال يزداد عليها، تندفع نحو المزيد من التحالف واللحمة( ). ومن أهم الدلائل على اتجاهاتها التوحيدية الوطنية هو أنها جميعاً أعلنت أن الهدف، الذي تسعى لتحقيقه، هو دحر الاحتلال الأنجلو أميركي( ). وحول هذا الجانب، أشار بيان صادر عن حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، إلى دعوة واسعة وصريحة إلى كل العراقيين يدعوهم فيها إلى مقاومة الاحتلال على قاعدة جبهوية وطنية عراقية عريضة( ). وأكَّدت بيانات التنظيمات الناصرية –المشاركة في المقاومة- على أولوية تحرير العراق وعلى أهمية العمل الجبهوي( ).
وتمحورت أعمال المقاومة العراقية –بشتى فصائلها- حول ملاحقة دوريات قوات الاحتلال، في أكثر من مكان في العراق الأوسط. وكانت خسائرها –بناء على ما تستطيع جهود المراسلين من إحصائها، وهي عادة أقل من الواقع- تتجاوز القتيلين يومياً، بالإضافة إلى أكثر من عربة وناقلة للجنود.
أما البيانات التي تصدر عن مجاميع المقاومين فترفع العدد إلى أكثر من ذلك بكثير، وكي لا نقع في تضليل إعلامي حول عدد الخسائر، نرى أن ردود الفعل الأميركية هي مقياس لحجمها( ).
كان من أهم ما استهدفته، المقاومة، أو أنها ستقوم باستهدافه، ما يلي:
1-استهداف جنود وتجمعات قوات الاحتلال الأميركية والبريطانية( )، بمن فيهم كل دولة أخرى تقوم بإرسال جنود إلى العراق لمساعدة الاحتلال الأميركي -البريطاني
في رفع العبء العسكري عنه أو تخفيفه( ). ويشمل الإنذار، كل العملاء العراقيين الذين يتعاونون مع الاحتلال أمنياً وعسكرياً وسياسياً( ). كما يشمل كل فرد أو مجموعة عربية تعمل من أجل تخفيف العبء عن جنود الاحتلال، سواء بالإسهام في تدريب الشرطة العراقية أو الجيش العراقي –الذي أعلنت سلطات الاحتلال أنها سوف تقوم بتأسيسه( ). وشمل التهديد المؤسسات والأفراد العرب الذين يتعاونون مع قوات الاحتلال تحت أية ذريعة كانت( ).

2-استهداف كل وجود صهيوني، سواء كان وجوده تجارياً أو أمنياً أو عسكرياً، واستهداف كل من يتعاون معه من العراقيين أو من العرب وغيرهم( )، وكشفت المعلومات عن وجود تعاون وثيق بين مؤسسات تجارية صهيونية مع تجار من الأردن وبعض دول الخليج العربي( ). وكانت الأنباء قد تكاثرت عن دور كبير للصهيونية من أجل الاستفادة من احتلال العراق( ).وللتأسيس لوجود صهيوني دائم في العراق، تعمل سلطات العدو الصهيوني من أجل تمتين علاقاتها مع بعض الأطراف العراقية، ويتمظهر أسلوبها من خلال مساعدة بعض التنظيمات الكردية على بناء أجهزة عسكرية، بالتدريب والتسليح، كخطوة أولى من أجل التسلل لتحقيق أهداف أخرى، اقتصادية (تشمل السياحة والنفط)( ).
3-منع قوات الاحتلال من الاستفادة من تصدير النفط العراقي: ولأنه يعرف حقيقة الأهداف الأميركية الحقيقية، حذَّر صدام حسين العراقيين من أن يتراخوا في الدفاع عن نفطهم وثرواتهم ( ). وشنَّت المقاومة عدة عمليات على معظم الأنابيب التي تنقل النفط العراقي إلى كل من تركيا وسوريا( ). وهي تجدد تلك العمليات كلما قامت قوات الاحتلال بإصلاحها.
ولأن النفط هو من أهم أهداف الغزو الإمبريالي للعراق، وتشكل السيطرة عليه عصباً أساسياً، والذي من أجله قامت الشركات الأميركية الكبرى بتمويل العدوان على العراق، طمعاً بسداد فواتيرهم من عائدات إنتاجه. ومنع قوات الاحتلال من استغلال النفط هو من أكثر المشاكل حدة التي سوف تواجه الإدارة الأميركية، وهي مهدَّدة بالعجز عن تأمين تغطية نفقات الاحتلال التي تُقدَّر، بين الثلاثة أو أربعة مليارات شهرياً.
أما عن وعود الشركات الكبرى في إعادة إعمار العراق()، حيث سيضع العجز، عن تلبية هذا الهدف، الإدارة الأميركية أمام مأزق حقيقي في مواجهة تلك الشركات التي وعدت نفسها بفوائد اقتصادية طائلة من استغلال النفط العراقي( ). ولهذا عندما تعجز قوات الاحتلال عن تأمين التصدير فسوف يصبح احتلالها عبئاً كبيراً على نفسها أمام جنودها الذين يموتون يومياً، وأمام عائلاتهم كما أمام الشارع الأميركي الذي أيَّد للحرب من أجل أكثر من هدف باستثناء أن يدفعوا دماً ومالاً من أجل تحرير العراق. كما أن العبء الأكبر سوف تتكبده الإدارة في مواجهة الشركات، كما أمام عملائها من العراقيين، الذين تعاونوا معها، ليس حباً بالعراق، بل بما سوف يدره التعاون مع قوات الاحتلال من أرباح الصفقات والسمسرات في مجال النفط والإعمار والتجارة.
والأهم من كل ذلك، فقد دخلت الإدارة الأميركية الحرب ضد العراق، على قاعدة أن الحرب سوف تموِّل نفسها بنفسها. فمن عائدات النفط تستفيد الشركات في ما تسميه –تزويراً- إعادة إعمار العراق؛ ومنها تُنفق ما تستوجبه قواتها العاملة على الأرض؛ ومنها تقدِّم للشعب العراقي من الخدمات ما يجعله يستكين. وهي إن عجزت عن تصدير النفط فسوف تقع في مأزق يحول دونها وسداد كل ذلك؛ وانطلاقاً من هذه الحقيقة، عندما عطَّلت المقاومة العراقية هذا المرفق، ومنعت قوات الاحتلال من الاستفادة منه، تعالت الأصوات الأميركية المطالبة بمساعدة بشرية ومالية من الدول الأخرى( ). وللخروج من المأزق، وفي حال لم تسهم الدول الأخرى بتمويل النفقات العسكرية لقوات الاحتلال، فالإدارة تحتال حول هذا الأمر في محاولات استدراج الكونغرس للموافقة على تمويل النفقات العسكرية الباهظة، على قاعدة رهن عائدات النفط العراقية للشركات الكبرى( ).

4-منع قوات الاحتلال من استخدام مطار صدام الدولي، والمطارات العراقية الأخرى لشتى الأغراض، ومن أهمها الأغراض التجارية والسياحية. ويظهر أن المقاومة قادرة على هذا المنع، كما يرى الخبراء العسكريون، بواسطة أسلحة تقليدية خفيفة.
وحول ذلك، أصدرت قيادة المقاومة والتحرير تحذيراً من أنها سوف تقوم بالتصدي لأية طائرة –حتى المدنية منها- تحاول الهبوط في المطارات العراقية( ). واستكملت المقاومة تهديدها بالتنفيذ إذ أنها أطلقت أكثر من مرة النيران باتجاه بعض الطائرات العسكرية التي كانت تحاول الهبوط على أرض عدد من المطارات. السبب الذي دفع بقوات الاحتلال إلى تأجيل افتتاحه، أمام حركة الطيران المدنية، أكثر من مرة( ).
5-مقاومة تشريع عمل ما يُسمى بمجلس الحكم الانتقالي( )، المجلس الذي قام بتشكيله الحاكم الأميركي على قاعدة استشارية، مع احتفاظ الحاكم بحق استخدام الفيتو على قراراته، وهذا يفسِّر صورية المجلس، وكونه ليس أكثر من غطاء عراقي يسهم –بشكل أساسي- في تشريع واقع الاحتلال، والاعتراف بحق الحاكم المدني الأميركي للعراق في فرض القرارات التي تصب في مصلحة أهداف العدوان المرسومة سلفاً، وقد حدد (بول بريمر) الحاكم الأميركي في العراق، للمجلس أهدافه ومهماته، التي من خلالها يتبَّين خطورة المشروع الأميركي على تقييد القرار العراقي، وتجريده من الاستقلالية( ). هذا بالإضافة إلى أن أعضاء المجلس ملوَّثون بالعمالة مع الخارج، وقد تلقوا مساعدات ودعماً مالياً وسياسياً وعسكرياً من أكثر من جهة، ومن أهمها مساعدات المخابرات المركزية الأميركية. ولا تخفى سلوكات البعض منهم المتورطين بجرائم قضائية مع بعض الدول( ).
يشكِّل مجلس الحكم الانتقالي أداة طيِّعة في أيدي الإدارة الأميركية، وهو –أيضاً- حصان طروادة تعمل الصهيونية على التسلل عبره إلى العراق، من خلال عقد صفقات سياسية، مستندة إلى علاقات سابقة بين بعض أعضاء مجلس الحكم الانتقالي وبين عدد من السياسيين الصهاينة، كانت قد عقدت بينهم في أثناء وجودهم خارج العراق( ).
تحولت تلك العلاقات، بدعم من المخابرات الأميركية إلى مشاريع اقتصادية من المفترض تنفيذها إذا ما استقر الوضع للمجلس المذكور( ).
وقد أنذر بيان حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق من أنه سوف يتعامل مع »مجلس الحكم بشخصيته الاعتبارية، وأشخاصه الطبيعيين، معاملتها لإدارات الاحتلال وجنوده، ومعاملتها لعملاء الاحتلال والمتعاونين معه«( ). وبادرت جهات سياسية أخرى في العراق إلى التنديد بالمجلس المذكور، وأشارت إلى خطورة الدور الذي يلعبه على صعيد التعاون مع قوات الاحتلال، ودعت تلك الجهات إلى محاربة أعضاء المجلس وملاحقتهم( ).
ومن خارج سرب المشككين بأن المقاومة هي عبارة عن ردود فعل، وإنها ليست منظَّمة، بل هي عبارة عن مجموعات صغيرة، أو هي عبارة عن أفراد ناقمين على الوضع، أخذت بعض التحليلات المنسوبة إلى معلومات تروِّج إلى أن المقاومة العراقية تخضع إلى تنظيم دقيق، وأن المنتسبين إلى صفوفها يمتلكون قدرات عالية من التدريب والخبرة، كما تُنسِّب أفرادها إلى حزب البعث العربي الاشتراكي ( ).
ثالثاً: انعكاسات أعمال المقاومة، وتأثيراتها، على مواقف دول العدوان، وعلى المواقف الدولية والعربية
أخذت المقاومة العراقية تفرض نفسها على وسائل الإعلام، وانتقل تأثيرها إلى الشارع العالمي، السياسي والشعبي. ونتيجة لتأثيراتها العسكرية، كتبت صحيفة نيويورك تايمز –في 12 تموز / يوليو من العام 2003م_ ما يلي: »الآن فقط أدركت أميركا أنها سقطت في كمين، وفي بئر ليس له قعر. وما كان سقوط بغداد إلاَّ سقوطاً وهمياً اعتقدت أميركا أنه حقيقي«. وهنا نود أن نتتبَّع تلك الانعكاسات على الإدارتين الأميركية والبريطانية، والشعبين الأميركي والبريطاني، وعلى المستوى الدولي والعربي، إضافة إلى تأثيرها على القوات الأميركية والبريطانية المحتلة، كما على صعيد الشارع العراقي شاملاً كل تياراته واتجاهاته السياسية والحزبية والشعبية.

1-تأثيرها في الولايات المتحدة الأميركية والبريطانية: وتشمل الإدارة الأميركية والبريطانية، وواقع قوات الاحتلال في العراق، كما على الرأي العام البريطاني والأميركي، بما فيه عائلات الجنود المشاركين في الاحتلال:
أ-تأثيرها على قرارات الإدارتين الأميركية والبريطانية وأهدافهما
تجاهلت إدارة الاحتلال مدى القوة والعنف التي تميِّز أعمال المقاومة العراقية، رغبة منها في إخفاء الحقائق عن الرأي العام العالمي، وخوفاً من إمكانية حصول العراقيين على اعتراف دولي بشرعية المقاومة، بما يؤدي إلى فشل الإدارة الأميركية في مخططها الرامي إلى البقاء في العراق واحتلاله لأطول مدة ممكنة( ).
بعد أسابيع من النفي والإنكار، استفاقت بريطانيا وأميركا على حقائق غرقهما في فييتنام جديدة في العراق( )، ظهر ذلك في التصريحات المحمومة الصادرة عن لندن وواشنطن( ). ولمواجهة أعمال المقاومة نصح محللون عسكريون أميركيون القيادة العسكرية الأميركية في العراق بأن تتم مواجهة تلك الظاهرة بقسوة، لأنه إذا لم يتم احتواؤها سوف تمتنع الكثير من الدول عن المساهمة بقوات تساعد قوات الاحتلال الأميركي –البريطاني، في قمع المقاومة الشعبية في العراق( ).
كانت من أهم نتائج عمل المقاومة، وهو ما يدل على مدى فعاليتها وتأثيرها عسكرياً أنها أجبرت المسؤولين الأميركيين والبريطانيين، بعد أن أعلنوا انتهاء الحرب في العراق، ليس فحسب على تأجيل سحب الآلاف من جنود الاحتلال إلى بلادهم( )، بل على التفتيش عن حل يسمح لها باستقدام آلاف إضافية من الجنود أيضاً. ويكفي أن يُتَّخذ مثل هذا القرار، ليُظهر حقيقة، طالما عملت وسائل الإعلام الداعمة للإدارتين على طمسها، وهي تأثيرات عمليات المقاومة على إعاقة إنجاز أهداف المشروع العدواني. ولكن الإدارة الأميركية على الصعيد الرسمي لم تستطع أن تنفي حدوث تأثير سلبي على أوضاع جنودها في العراق( ).
أرغمت المقاومة العراقية، كلاً من الحليفين على اتخاذ قرارات كانا يمتنعان عن اتخاذها بعد أن خُيِّل إليهما أنهما انتصرا بالحرب. ومن أهم تلك القرارات التي جاءت وكأنها دعوة استغاثة وجَّهتها الإدارة الأميركية إلى المجتمع الدولي للحصول على مساعدات تدعم قواتها في العراق، ومن أهمها، التمويل والجنود. وقد برزت تلك الاستغاثة في تصريحات جورج بوش (الرئيس الأميركي)، ورامسفيلد (وزير الدفاع الأميركي)، وبول بريمر (الحاكم العسكري الأميركي للعراق)( ).
تلوَّنت مواقف الإدارة الأميركية كثيراً، بعد أن اشتدَّ عود المقاومة الوطنية العراقية، فانتقلت من حدود إعلانها عن أنها سوف تخوض الحرب بمفردها إذا امتنعت الحكومة البريطانية عن مشاركتها، إلى الاستنجاد بدول العالم للإسهام بالمال والجنود( ). وبعد أن كانت الإدارة الأميركية ترفض الاعتراف بأي دور للأمم المتحدة، راحت تتوسلها إلى الحدود التي راحت تعلن عن قبولها صدور قرارات دولية جديدة( ).
كان من الأيسر على الإدارتين الأميركية والبريطانية أن تطويا صفحة مخالفتهما أسس الشرعية الدولية عندما تجاهلتا مواقف الدول الكبرى في مجلس الأمن الدولي من جهة، وأن تضعا ذرائعهما الكاذبة حول ملف الأسلحة العراقية طي النسيان من جهة أخرى، فيما لو استقرَّ الوضع الأمني - السياسي لقواتهما في العراق. خاصة وأن انتصارهما العسكري في مراحل العدوان الأولى قد أخذ يغيِّر من مزاج الشارعين الأميركي والبريطاني حيث أخذت تتكاثر الأصوات الرافضة لنتائج الحرب، بينما كانت تميل –قبل أسابيع- نحو تأييد الحرب ونتائجها، وانعكس تأثيره الضاغط على قرارات الدول الكبرى التي كانت تقف ضد الحرب على العراق.
وهكذا، أخذ يُظهر تأثير الأعمال العسكرية، على قاعدة حرب العصابات، مدى المأزق الذي علقت فيه قوات الاحتلال؛ كما أخذ ينعكس سلباً على المخطط العدواني العام. وحول ذلك التأثير أخذت كرة الثلج في مسلسل الممانعة، المحلية في أميركا وبريطانيا تكبر في وجه الإدارتين السياسيتين، وأدَّى اتساعها إلى وضعهما أمام كمٍّ كبير من الإرباك، بحيث حوَّلت مواقفهما إلى مواقع الدفاع. وبتراكم العمليات الفدائية، أخذت الحصانة الدفاعية لمواقع الإدارتين تضعف شيئاً فشيئاً، فأوصلت الحكومة البريطانية إلى حافة السقوط( )، بينما ظلَّت الإدارة الأميركية تناور من مواقع ضعيفة، علَّ مراهنتها على احتواء المقاومة العراقية،هذا إذا استطاعت، يعطيها فرصة جديدة في تنظيم حملتها الهجومية، التي كانت في أوج مستوياتها في نهاية شهر أيار / مايو من العام 2003م.

ب-المعارضة الأميركية تتلقَّف مأزق الإدارة في مواجهة المقاومة العراقية:
كان لتواتر أخبار عمليات المقاومة العراقية، ضد قوات الاحتلال، تأثير على إيقاظ الإدارتين المذكورتين من »نشوة النصر« المفتعل، الذي أعلنه الرئيس الأميركي في أول شهر أيار / مايو من العام 2003م.
حينئذٍ استيقظت قوى المعارضة الأميركية( ) والبريطانية، وراحت تحرج بوش وبلير. بحيث أن مرحلة النشوة لديهما، لم تمتد إلى أكثر من أيام قلائل، راحا يواجهان بعدها حملات المعارضة متسلِّحيْن بأسباب انتصارهما العسكري. وكانت شدة مقاومتهما لحملات المعارضة السياسية تتلاشى، شيئاً فشيئاً، مع ارتفاع وصعود قوة العمليات العسكرية العراقية ضد القوات الأميركية والبريطانية.
كانت القيادتان، السياسية والعسكرية، في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا تعملان –من خلال سيطرتهما على وسائل الإعلام- للحؤول دون تسريب أية معلومات عن الواقع الميداني في العراق. على الرغم من ذلك كانت الفضولية، والتسابق على التقاط الخبر عند وسائل الإعلام سبباً دفع بتلك الوسائل للبدء في تجاوز كل حواجز الرقابة المفروضة عليها. وأخذت الأخبار تنتشر لتصل إلى آذان من يتربصون بالإدارتين الأميركية والبريطانية، وهذا ما أخذ يجبر المسؤولين في الإدارتين على تقديم توضيحات لم تكن كافية لإقناع المتسائلين والمعارضين( ).
من أهم الاتهامات التي تمحورت حولها انتقادات المعارضين، الأميركيين والبريطانيين، هي موضوع أسلحة الدمار الشامل العراقية( ). ومسألة ولادة المقاومة العراقية الشعبية وتصاعد وتائرها، بما يهدد أمن القوات المحتلة وإغراقها في حرب شبيهة بحرب فييتنام، بما لتلك الحرب من وقائع أليمة حُفرت في ذاكرة الأميركيين.
تعترف بعض الأوساط الداعمة للإدارة الأميركية في عدوانها، وتلك التي ترى أن الاحتلال أصبح أمراً واقعاً، لكنه صعب ومرير، بأن على الإدارة أن لا تقرَّ باحتمال الانسحاب، والسبب يعود إلى أن الولايات المتحدة الأميركية لا تستطيع أن تنهزم، وهذا يؤشِّر على عنجهية وغرور( ).
بفعل قوة المقاومة العراقية، وجدت الإدارتان نفسيهما أمام مأزق حقيقي عندما عجزت قوات الاحتلال عن السيطرة على الأمن، وعن استخراج النفط وتصديره، وعجزها عن فتح مطار صدام الدولي، والمطارات العراقية الأخرى، أمام الملاحة الجوية. وعجزهما كان يعود إلى أن المقاومة العراقية فجَّرت أنابيب النفط أكثر من مرة( )، وتقوم من وقت لآخر بعمليات قصف ضد قوات الاحتلال الموجودة في المطار، تلك القوات التي لا تستطيع حماية طريق وصول المسافرين إليه وطريق وصول الطائرات إلى مدارجه.
إن أهم ما يمثِّله استهداف المقاومة لهذين المرفقين، النفط والمطار، هو ضرب أهداف المشروع الأميركي، في أهم مفاصله الاقتصادية والتجارية. بحيث تأتي أهمية تعطيلهما ضرورية وأساسية في استهداف المشروع الرأسمالي في أهم مقاتله، حتى ولو لحقت –مرحلياً- أفدح الأضرار بمصالح الشعب العراقي، الاقتصادية والحيوية، لأنه، إذا كان ذلك المشروع يراهن على الاحتياط الاستراتيجي للنفط العراقي، وهو ما تقدِّم لأجله الشركات دم الجنود الأميركيين والبريطانيين( )، مهما كانت غزارتها، فهي تضحي من أجل هدف استراتيجي، فالأحرى بالشعب العراقي أن يقدم تضحيات من دمه وأرواح أبنائه ولقمة عيشه التي لن تكون إلاَّ مُرَّةً، بحيث يدفع تلك التضحيات من أجل المحافظة على ثروته الاستراتيجية، التي بدونها لن يستطيع ضمان مستقبل الأجيال العراقية. فالأفضل أن يدفع الشعب العراقي الثمن الكبير –الآن- من أن يخسر مستقبل أجياله الاستراتيجي التي سوف تقتات بفتات ثروتها الوطنية، وهو أعلى بكثير مما سوف يقدمه الرأسمال العالمي إليهم إذا سيطر على الاستراتيجي من تلك الثروة.
نقلت المقاومة العراقية المعركة إلى داخل البيتين الأميركي والبريطاني، عندما فتح تنامي عمليات المقاومة العراقية، وحيويتها السريعة، الباب واسعاً أمام القوى الضاغطة على حكومتيْ الإدارتين، أو أمام القوى المعارضة للحرب على العراق، ومن أبرز ما تناولته قوى المعارضة ما يلي:
تزايدت الأصوات المعارضة للاحتلال الأميركي والبريطاني للعراق، وبلغت حدة الانتقادات، التي قادتها بعض الصحف الغربية، حدَّاً تناولت فيه مواقف الإدارتين بالسخرية اللاذعة. وإن كانت تلك الانتقادات موجَّهة –بشكل رئيس- للإدارة الأميركية، لا يعني هذا الأمر استبعاداً للإدارة البريطانية، التي تتحمَّل تبعات طواعيتها وخنوعها للقرار الأميركي. فإذا كانت الانتقادات قد تناولت المتبوع، فلن يكون التابع ببعيد عنها. وهناك نماذج من الحملة الصحفية القاسية التي شنَّتها الصحافة الغربية( ).
كان من أهم تلك الحملات، تلك التي قادها الصحفي البريطاني (باتريك سيل)، وفيها يعلن تشاؤمه من نجاح المشروع الذي قادته الولايات المتحدة الأميركية، والذي من خلاله ورَّط (توني بلير) بريطانيا بحرب جعلها رهينة للمشروع الاستعماري الأميركي( ).
وأشارت استطلاعات للرأي العام الأميركي إلى تراجع نسبة المؤيدين للحرب على العراق، سواء كانت حول سير الحرب أو حول مصداقية الإدارة الأميركية حول أسلحة العراق المزعومة( )، أو حول مدى تأثير عدد القتلى الأميركيين الذين يسقطون على أيدي المقاومة العراقية. وحول ذلك أخذت تتزايد–منذ أواسط تموز / يوليو من العام 2003م- نسبة الذين يخشون من زيادة أعداد القتلى، والذين أخذوا يشعرون بخطورتها على الوجود الأميركي في العراق( ).
كانت أوساط وزارة الدفاع الأميركية تقلل من أهمية ظاهرة المقاومة العراقية رافضة وصفها بالمقاومة المنظَّمَة( )، وكانت ترى أنها لن تحتاج إلى أكثر من بناء أجهزة أمنية عراقية محلية لكي تساعد في القضاء عليها( ).. ومن تلك الأجهزة الاستعانة بميليشيات الأحزاب الكردية( ). والعمل على تجنيد ما يمكن تجنيده من العراقيين كمخبرين وجواسيس( ).
ظلَّت الإدارة الأميركية تغفل دور المقاومة العراقية في إلحاق الأذى بجنود الاحتلال إلى أن وصل تأثيرها إلى الدرجة التي لم يستطع جورج بوش أن يخفيه، فواجه وكالات الأنباء بالبيت الأبيض، محذِّراً المقاومة العراقية بالتهديد والوعيد( )، وليس هذا التحدي إلاَّ الدليل على قوتها وخطورتها، إذ لولا ذلك لما اضطر رئيس الإدارة الأميركية من توجيه تلك التهديدات، التي أثارت –بدورها- ردود فعل سياسية أميركية قاسية في الرد على رئيس بلادهم( ).
كانت الانتقادات الموجَّهة إلى الإدارة الأميركية –خاصة من الأوساط الإعلامية- تستند إلى معلومات عن مدى التنظيم والسيطرة التي تتميز بها المقاومة العراقية، وهي مقتنعة أنها مقاومة منظمة، وليست منطلقة من ردود أفعال من معترضين على نقص في الخدمات، بل تُدار من قيادة تعرف أهدافها وتعي مقدار الأهمية في تنفيذ تلك الأهداف. وتنسب قيادة تلك العمليات إلى قيادات في حزب البعث العربي الاشتراكي ( ).
حذَّر عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي –ومنهم من زار العراق بعد الاحتلال- من تصلُّب وزارة الدفاع الأميركية حول موقفها الذي يقلل من أهمية المقاومة، ودعوا إلى الاستعانة بقوى دولية أخرى لتأمين عدد كاف من القوات العسكرية لاحتواء ظاهرة المقاومة قبل أن يستفحل أمرها أكثر( ).
وأخذت تتنامى مخاوف الأميركيين، من خارج نادي الإدارة السياسية والعسكرية، وتقوم بالتحذير من مغبة الاستمرار في اللعبة الدائرة على الساحة العراقية، بين قوات الاحتلال الأميركي والمقاومة العراقية( ).كما أنها أخذت تكشف ستار الكذب الذي تغطي به الإدارة عدد القتلى بين جنودها عن الرأي العام الأميركي والدولي( ).
وكذَّبت أوساط تنطق باسم المنظمات الدولية ادِّعاءات الإدارة الأميركية بالتقليل من شأن ظاهرة المقاومة في العراق( ).
-شخصيات أميركية بارزة، مثل الرئيس الأميركي السابق ( كلينتون)، الذي اتَّهم –في تصريح له نشرته جريدة (شيكاجو تريبيون) في أواسط تموز 2003م- الإدارة الأميركية بأنها اليمين الجديد الذي يسعى إلى السلطة من دون النظر إلى مصالح الشعب الأميركي. ورفض بشدة فكرة القضاء على الخصوم بالقوة العسكرية.
أما السيناتور الأميركي إدوارد كينيدي فقد صرَّح في الفترة الزمنية ذاتها بأنه »من المأساة الكبرى أن يجازف جنود أميركيون بحياتهم، ويفقدوها في العراق، على أساس معلومات معيبة ومشوَّهَة وخاطئة«.
وتوجَّه العديد من أعضاء مجلس الكونغرس من الحزب الديموقراطي بالعديد من الانتقادات المتزايدة، لإدارة الرئيس جورج بوش، بسبب تكلفة الحرب –التي كلَّفت الخزينة الأميركية / 48/ ملياراً من الدولارات، وهي مرشَّحة للارتفاع بسبب بقاء الجيش الأميركي في العراق، خاصة تحت رحمة مقاومة تستنزفه بالأرواح، وتزيد معه فاتورة تكاليف الحرب شهرياً إلى ما يقرب من أربعة مليارات من الدولارات شهرياً. يُضاف إلى كلفة الحرب، في مراحلها الأولى وتكاليفها نتيجة مواجهة حرب العصابات، اتهامات إدارة بوش بأنها بالغت بالمعلومات المخابراتية بشأن أسلحة العراق، التي جرى تضخيمها لتبرير اتخاذ قرار بالحرب.
لم تتردد بعض أصوات السياسيين الأميركيين في دعوة الإدارة الأميركية إلى الانسحاب من العراق، وإعطاء دور أساسي للأمم المتحدة في إعادة الحياة إليه، بينما كان هذا هو الحل المطلوب منذ البداية، ولهذا دعت بعض الأصوات الرئيس بوش إلى تجاوز الأنفة لاتخاذ القرار المناسب( ).
وقد وصفت بعض الاتهامات ما قامت به الإدارة الأميركية –تحت رئاسة جورج بوش- بأنه فشل للسياسة الأميركية تجاه العراق( ). ووصفت الرئيس الأميركي بالضعيف، وأنه أداة في أيدي اللوبي الاقتصادي الذي يتحكَّم بقرار الإدارة الأميركية ويوجهه حسب مصالحه( )، كما وصفته بأنه يمارس التضليل على الشعب الأميركي، قبل الحرب على العراق، وبعد احتلاله( ).
وبسبب من الفشل الذريع للرئيس جورج بوش بإقناع الدول الكبرى في مجلس الأمن بمشاركة أميركا بالعدوان على العراق، وبالتالي مساعدتها على الخروج من مأزق المواجهة مع المقاومة العراقية، اتَّهم (بيل كلينتون) الرئيس الأميركي السابق خلفه جورج بوش بأنه »وحَّد العالم ضد أميركا«( ).
كما وصفت بعض الأصوات الأخرى، رامسفيلد بالغباء، ودعته إلى مراجعة الدروس التي تعلمتها أميركا من حرب فييتنام من أجل توفير أرواح الجنود من جهة، وتوفير الأموال الطائلة التي يدفعها الأميركي من أجل البقاء في العراق من جهة أخرى( ).
لم يترك تصاعد عمليات المقاومة العراقية للإدارة الأميركية محطة زمنية –ولو قصيرة- لتلتقط أنفاسها، وإنما –بسبب تصاعدها- كانت الأصوات الأميركية المعارضة للوجود الأميركي في العراق تلاحق الإدارة. وقد تُوِّجت تلك الأصوات بتقرير قدمَّه وفد من الكونغرس الأميركي –كان قد زار بغداد في شهر آب / أغسطس من العام 2003م- أبرز فيه خطورة الأوضاع على الجنود الأميركيين، من حيث تصاعد أعمال المقاومة، أو من حيث كثرة عدد القتلى والجرحى بينهم، والذي قدَّره التقرير بأنه يتجاوز الثلاثة آلاف قتيل في العام الواحد().
أما من حيث التدهور المعنوي والنفسي عند الجنود فقد يدفعهم إلى التمرد على أوامر القيادة السياسية والعسكرية( ). وكان أول الغيث الميداني في العراق، عندما أُرغِمت قيادة قوات الاحتلال على الإقرار علناً بأنه لا حلَّ أمامها إلاَّ الهروب إلى خارج المدن العراقية( ).
أما الحقيقة الأكثر دراماتيكية فهو اعتراف (رامسفيلد) -وزير الدفاع الأميركي- الذي هو من أكثر الغلاة حماساً لاحتلال العراق، بأن الدماء بدأت تسيل من أنف الإدارة الأميركية، وأنوف الجنود الأميركيين، وذلك من لكمات المقاومة العراقية الموجعة التي لم تحسب لها الإدارة الأميركية حساباً( ). ولم يطل الأمر ب(كولن باول) -وزير الخارجية- ليعترف، أيضاً، بوجود مشكلات خطيرة في العراق من جراء تأثير المقاومة العراقية، بدءاً بالأمن. وهي تتطلَّب وقتاً ومالاً ( ).
وجاءت تصريحات القادة الأميركيين الميدانيين لتنفي نجاعة كل بدائل المعالجة التي ادَّعت الإدارة الأميركية أنها سوف تطبقها للقضاء على المقاومة العراقية، ومن أهمها تهديدات رئيس الإدارة ذاته بسحقها. وفي اعترافاتهم أن الحل العسكري لن يكون الوسيلة الكافية للقضاء على المقاومة( ).

ج-إنكشاف كذب مبررات الحرب الأميركية على العراق:
ومن جانب آخر، وصلت حدة الأصوات المعترضة على قرارات الإدارة الأميركية إلى الحدود التي أخذت تطالب باستقالة (ديك تشيني / نائب الرئيس الأميركي) من منصبه، كثمن عن مسؤوليته عن استخدام أدلة مزيفة لإقناع الرأي العام بالحرب ضد العراق. ولم يسلم بعض المسؤولين البريطانيين من تأثيرات تلك الحملة. فقد اتُّهم –أيضاً- (جاك سترو) وزير خارجية بريطانيا بالافتقار للمصداقية حول ملف الأسلحة العراقية( ).
وتوالت الدلائل على كذب ملفات أسلحة العراق، التي قدمها كل من الطرفين –الأميركي والبريطاني إلى المؤسسات الرسمية لإقناعها بالموافقة على شن الحرب ضد العراق. ومن الواضح –بعد مرور أقل من خمسة شهور على العدوان أن الإدارة السياسية لكل طرف منهما سوف تدفع الثمن بعد أن تكشَّفت وسائل الكذب التي روَّجا بواسطتها امتلاك العراق لتلك الأسلحة( ).
وتفتش الإدارة الأميركية على كبش فداء تقدِّمه للرأي العام الأميركي لتبرئة الرئيس بوش من تهم الكذب والمبالغة والذرائعية لتعطيه فرصة للنجاح في الانتخابات الأميركية في خريف العام 2004م( ). ونتيجة لذلك حصل تبادل الاتهامات بين إدارة جورج بوش والمخابرات المركزية (سي أي إيه) حول المعلومات الخاطئة التي تضمنها خطاب بوش لمجلس الاتحاد الأميركي( ). أما المتنافسون على الفوز بترشيح الحزب الديموقراطي، لخوض معركة انتخابات الرئاسة الأميركية، فتسابقوا على كشف مخطط الإدارة الأميركية، وراحوا يكيلون الاتهامات بتحميل بوش المسؤولية أولاً، والإدارة ثانياً( ).
ويبدو، حسب بعض التقارير التي تسربها الصحافة الغربية، وجود مراكز قوى في داخل لوبي الإدارة الأميركية تستعين بأجهزة أمنية خاصة، لتسريب المعلومات والتحليلات التي تدعم اتجاهات تلك المراكز.وخياراتها. وقد سرَّبت الصحافة الغربية معلومات حول جهاز أمني خاص يديره وزير الدفاع الأميركي رامسفيلد. وقد استند إلى معلوماته لتعزيز موقفه المندفع إلى الحرب ضد العراق( ).
وبالإجمال، أخذت شعبية جورج بوش تتآكل. وتصف الصحافة الأميركية المعارضة لإدارة بوش أن تلك الإدارة هي على طريق مواجهة (عراق غيت)، وهو ما سوف يؤثر على فرص إعادة انتخابه مرة ثانية في انتخابات العام 2004م. لقد قام بوش بكل مغامراته العسكرية والعدوانية من أجل كسب معركة انتخابية ثانية، ولكن الأخطاء التي ارتكبها في تلك المغامرات سوف تكون السبب في فشله في الانتخابات. وكانت القضايا المثيرة للجدل في الأوساط الأميركية هي التالية:
-فشله في الحفاظ على الأمن القومي الأميركي بالتقصير الواضح في الحيلولة دون وقوع أحداث 11 أيلول / سبتمبر من العام 2001م.
-توريطه أميركا في حرب ضد العراق »بمبررات كاذبة«. وإخفاؤه حقائق مهمة عما سوف يتحمله دافعو الضرائب الأميركيين من نفقات بسبب الوجود الأميركي في العراق ما بعد الحرب.
-فشل سياسة إدارة جورج بوش، بما له علاقة بالآثار السلبية التي سوف يعكسها الملف العراقي من طعن بمصداقية مبدأ بوش للحروب »الاستباقية«، خاصة مع تزايد الخسائر الأميركية في العراق.
تُعيد الإدارة الأميركية أسباب فشلها -في تركيب وضع سياسي، لإدارة الوضع في العراق؛ وفي الاهتمام بالمشاكل الاجتماعية والاقتصادية والخدماتية- إلى فقدان الأمن. وفقدان الأمن ذو علاقة أولى بأمن القوات المحتلة، وسبب غيابه، له علاقة أساسية بأعمال المقاومة العسكرية. لذا تدَّعي تلك الإدارة أنها ستولي ضرب المقاومة اهتمامها الأول والأساسي.
تتصرَّف قوات الاحتلال، بناء لتخطيط القيادة السياسية والعسكرية، في مواجهة المقاومة على قاعدة لعبة الشطرنج( )، والتي تقوم استراتيجيتها على ملاحقة الملك وقتله. إن خطأ تلك القواعد تستند إلى أن الوصول إلى الملك لا يمكن أن يحصل إلاَّ عبر تحطيم دفاعاته. ولهذا السبب تقوم قوات الاحتلال بملاحقة الملك من دون العناية بمواجهة دفاعاته، وهماً منها أنها تنهي تلك الدفاعات إذا اصطادت الملك. لذا لا تبتغي اللعبة الأميركية من ملاحقة الملك إلاَّ صرف الأنظار عن الإحراجات والمآزق التي تواجهها الإدارة الأميركية في العراق( ).
وعلى العكس من المراهنات الأميركية، ودليل فشل تصوراتهم لأهمية هذه اللعبة، جاءت الوقائع –خاصة بعد استشهاد عدي وقصي إبنيْ الرئيس صدام حسين- لتفشل مراهنات الأميركيين على لعبة الشطرنج التي تمارسها في العراق( ).
وخطأ أسس اللعبة الأميركية، تكمن في تجاهلها، أو في جهلها، أن أسس لعبة الشطرنج، كانت تنطبق على مقاييس الأنظمة الملكية والإمبراطورية، تلك الأنظمة التي لم تكن تولي المؤسسات السياسية أي اهتمام( ).
إن معركة المواجهة، التي تقودها المقاومة العراقية، تقوم على قاعدة الولاء للمؤسسة. وإذا كان الولاء –في مراحل نضالية معينة- للأفراد، فليس إلاَّ لفرادتهم في القيادة، ولهذا السبب –إذا انهار الملك- سيبقى الولاء للمؤسسة. ولأن الحزب كان قائداً للتجربة السياسية في العراق، فقد تحوَّل إلى مؤسسة، تستفيد من فرادة الأفراد، ولكنها لا تنتهي بانتهائهم. تلك هي الحقيقة التي جهلها مخططو الإدارة الأميركية وسياسيوها. ولم يكونوا الوحيدين، الذين يبنون خططهم على تلك الأسس، بل يشاركهم كثيرون من النخب السياسية والفكرية على مستوى العالم كما على مستوى العرب عامة وبعض العراقيين خاصة. أما البعثيون، فيناضلون على أساس أن استمرار المقاومة أو انتهاءها، ليس مرتبطاً ببقاء فرد أو رحيله، بل هو مرتبط ببقاء المؤسسة أو رحيلها.

د-تأثيرها على واقع جنود قوات الاحتلال العاملين في العراق
بعد أقل من ثلاثة أشهر، من احتلال بغداد، أخذت تظهر على سلوكات جنود الاحتلال –المزهوّين بنصرهم العسكري- عدة من مظاهر الضيق والحنق ونفاد الصبر، والسبب أنهم أخذوا يرون أن إعلان انتهاء الحرب كان وهماً، والسبب أنهم يواجهون حرباً ذات أوجه أخرى وبأساليب مختلفة لم يكونوا قد أعدوا أنفسهم لمواجهتها. وأخذت تلك المظاهر تزداد خاصة بعد وعود القيادة العسكرية والسياسية لهم، بعد إعلان رئيسهم جورج بوش انتهاء الحرب في العراق، بإعادتهم إلى بلادهم، وسرعان ما تفاجأوا بأن بقاءهم في العراق قد تمَّ تمديده إلى آجال غير منظورة. وهذا السبب دفع –حتى بضباط كبار يشاركون في القوات الأميركية العاملة في العراق- إلى إظهار يأسهم من إمكانية صمودهم فيه( ).
نتيجة ذلك ازدادت سلوكات الجنود غير السوية وبرزت في المظاهر التالية:
-محاولات هرب الجنود الأميركيين إلى خارج العراق بوسائط متعددة( ).
-شعور الجنود بالإحباط الشديد نتيجة تعرضهم لإطلاق النار من قبل العراقيين في الوقت الذي كانوا ينتظرون فيه ترحيب العراقيين بهم. وهم يلمحون ويتلمَّسون مشاعر العداء لهم في عيون الشعب العراقي.
-ينعكس الشعور بالخوف من هجمات المقاومة ومظاهر العداء الشعبية على أعصابهم، بحيث تؤدي بهم إلى الإصابة بحالات عصبية فيطلقون النار لأقل ذريعة.
-صعوبة الأمر على بعض الجنود الذين لا يستطيعون أن يتحملوا صور التصرفات اللاإنسانية التي تقوم بها قطعاتهم العسكرية بحق العراقيين.
-معاناة الجنود من أزمة من الضغط النفسي، وخسارة رفاق لهم على أيدي المقاومين العراقيين( )، دفعت القيادة العسكرية إلى إنشاء ما يُسمى بإدارة لتلك الأزمة من خلال برنامج خاص لمعالجة تلك الحالات( ).
-الأمراض النفسية تلاحق الجنود الأمريكيين العائدين من العراق ( ).
-بعد وعود مسؤوليهم العسكريين بإعادتهم إلى وطنهم، أصبح الجنود لا يشعرون بأي دافع للبقاء( )، خاصة وأنهم يفقدون –من خلال إبقائهم في العراق- نشوة العودة إلى بلادهم مزهوين بالنصر العسكري الذي حققوه. وهم سوف يفتقدون إلى امتيازات الراحة والعيش الهادئ بين عائلاتهم وعلى أرضهم الوطنية، بعيداً عن الخطر.
-دفعت التصريحات( ) التي صدرت عن عدد من الجنود الأميركيين –كما نقلتها شبكة (أيه بي سي) التلفزيونية في أواسط شهر تموز / يوليو، بما يُستنتَج بأنه تمرد على الأوامر العسكرية، قابلها الجنرال (جون أبي زيد) بإعلان يهدد فيه أن عقوبات ستُتَّخذ بحق العسكريين العاملين في العراق من الذين ينتقدون السلطات الأميركية علناً. وأضاف إن الإجراءات التي سيتخذها هي توجيه القادة العسكريين الموجودين على الأرض، إلى معاقبة الجنود المخالفين بتأنيبات شفهية أو عقوبات أشد قسوة.
-ظهور حالات انتحار بين الجنود الأميركيين العاملين في العراق( ).
-مطالبة بعض الجنود باستقالة وزير الدفاع الأميركي، وتحويلهم لعبة الورق التي عممتها دوائر البنتاجون حول المسؤولين العراقيين المطلوبين إلى لعبة تحوَّل فيها المسؤولون الأميركيون إلى مطلوبين للجنود( ).
أما في داخل الولايات المتحدة الأميركية، فقد أخذت أصوات المعارضة تتصاعد يوماً بعد يوم، إلى حدود مطالبة الإدارة الأميركية في إعادة النظر في احتلال العراق، واصفة المسؤولين الأميركيين بالتقصير والسذاجة والغباء، وداعية لهم لتوفير أرواح الجنود في حرب لم تكن نزهة، كما صورَّها أولئك المسؤولون.

هـ-تأثيرها على أهالي الجنود المشاركين في الاحتلال
بعد أن تراجعت وزارة الدفاع الأميركية عن مواعيد كانت قد حدَّدتها لعودة عدد من قطعات الجيش الأميركي من العراق إلى بلادهم، بما تعنيه الأسباب والعوامل التي فرضت هذا التراجع، من تضاعف القلق عند أهالي الجنود الأميركيين المنتشرين في العراق؛ وأخذت ظاهرة احتجاج زوجات الجنود تتزايد، وتربك في أضعف التقديرات، الإدارة الأميركية. وظهر الإرباك من خلال التحذير الذي وجَّهته وزارة الدفاع الأميركية لزوجات الجنود من بعث رسائل إلى السياسيين، أو التحدث إلى وسائل الإعلام حول تأجيل عودة أزواجهن( ). وشاركت بعض زوجات الضباط الأميركيين في تحذير زوجات الجنود من مغبة رفع أصواتهن بالاحتجاج( ). وعلى الرغم من تحذيرات وزارة الدفاع الأميركية لزوجات الجنود ، أخذت مظاهر التذمر والاحتجاج تطفو على السطح في الشارع الأميركي بين أهالي الجنود وزوجاتهم( ). وقد تشكَّلت لجان شعبية أميركية لإثارة هذه القضية ومتابعتها. ومن خلال حملة الإعلانات التي قام بها أهالي الجنود، وصلت حدة الاتهامات التي وردت فيها إلى وصف وزير الدفاع بأنه خائن للجنود( ).
لم توفِّر عائلات الجنود في الدول التي أسهمت بمساعدة الأميركيين في احتلال العراق من الانتقاد والاستنكار، كمثل ما حصل في أسبانيا( ).
ومن جانب آخر تصاعدت وتيرة تحرك أهالي الجنود الأميركيين المتواجدين في العراق، وتشكلت مجموعات منهم راحت تكشف وسائل الخداع والكذب التي تمارسها إدارة بلادهم السياسية والعسكرية حول وضع أبنائهم في العراق( ).
ونتيجة لوضع الجنود الأميركيين في العراق، ونتيجة المزيد من الضغط الذي تتعرض له الإدارة الأميركية من أهاليهم، بدأت قيادات البنتاغون تشعر بالقلق، خاصة وإن بعض التحركات التي يقودها أميركيون ترفع مطالب إعادة الجنود إلى بلادهم ووضع حد للحرب( ).
نتيجة لتعاظم موجة الانتقادات الموجَّهة إلى الإدارتين، الأميركية والبريطانية من جانب، وازدياد درجة الخطورة التي تشكلها المقاومة المسلحة ضد أمن القوات المحتلة من جانب آخر، راحت الإدارتان، تعملان وتخططان من أجل تخفيف حدة المعارضة الداخلية، ومن أجل ابتكار وسائل لاحتواء خطر المقاومة والقضاء عليها، ومن تلك الوسائل:
-دعوة الدول الصديقة أولاً، والدول المنضوية تحت لواء الأمم المتحدة ثانياً، وعقد الصفقات مع الدول المجاورة للعراق ثالثاً( )، من أجل تقديم سُبُل المساعدة للإدارتين على معالجة المأزق العسكري والمالي الذي وصلت إليه نتيجة للمقاومة العراقية.

2-نقاط القوة والضعف في وضع قوات الاحتلال:
لم تقرِّر الإدارة الأميركية احتلال العراق لكي تخرج منه بسرعة. وهي على الرغم من الأوهام التي خططت على أساسها القيام بالحرب، إلاَّ أنها بعد أن أنجزت مرحلة الاحتلال العسكري النظامي، أصبحت أسيرة أهدافها، فهي إن تراجعت فإن التراجع سوف يؤدي إلى نتائج أكثر خطورة ومأساوية مما لو لم تشن الحرب. ومن أهم النتائج الخطيرة هي أن النظام الرأسمالي العالمي سوف يتعرَّض إلى الانهيار بسرعة أكبر بعد أن تتعرَّض أكبر الركائز فيه إلى الهزيمة أمام قوة ضعيفة عسكرياً قامت بممارسة نوع من حرب العصابات.
أما النتائج التي سوف تفرزها الهزيمة الأميركية، فتتعلق بانهيار المواقع الاستراتيجية الأميركية في منطقة الخليج وكل الشرق الأوسط. وفي مثل هذه النتيجة ما يقفل أبواب الثروة الطائلة التي تدرها تلك المنطقة، ومن أهمها الثروة البترولية.
إن تلك الخسائر سوف تجر إلى سلسلة من الخسائر الأخرى، وهي فقدان سطوتها على أوروبا، ومن بعدها روسيا والصين( ). وسوف تطعن في الصميم مؤسسات الإدارة الأميركية القائمة على محاولة أمركة العالم بأكمله، وهو من الأهداف التي عملت من أجله كل الإدارات السابقة وسوف تعمل كل الإدارات اللاحقة على المحافظة عليه والدفاع عنه. ولهذا لن تجد الساحة العراقية حلاًّ بغياب الإدارة التي نفَّذت الحرب بل إن مهمات المقاومة أن تعمِّق المأزق أمام المؤسسات المالية التي تخطط للإدارات السياسية. وحول هذا الهدف يمكن أن تتمحور أهداف المقاومة العراقية، وعلى العمق القومي العربي واجب الدعم والمشاركة في إسقاط مشاريع المؤسسات المالية الأميركية الكبرى وحلفائها وتابعيها، كما على العمق الأممي لكل الشعوب المستهدفة من قبل أطماع تلك المؤسسات أن تتحول إلى داعم وشريك ومساهم في مقاومة ركائز الاحتلال في العراق.
ومن نقاط ضعف الموقف الأميركي التي تحرمها من الاستفراد بالكعكة العراقية، أن المقاومة سوف تستنزفها، وهي الآن تغرقها في مستنقع أمني وعسكري ظهرت علامات العجز الأميركي عن مواجهته. وهي تستخدم كل وسائل الإرهاب وعلى شتى المستويات لإنهاء المقاومة قبل البدء في اجتماعات الأمم المتحدة في خريف العام 2003م. لكن ما هو ظاهر على أرض الواقع يدل على أن ما تخطط له الإدارة الأميركية ليس إلاَّ أوهام تُضاف إلى أوهام ما قبل البدء في الحرب.
نتيجة التأزم الذي يطبع –في هذه المرحلة- شتى المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية الأميركية، على الصعيد الرسمي والشعبي، انتقلت الحرب من خارج أميركا إلى داخلها. وأصبحت المعاناة تلف شتى زوايا الحياة الأميركية( ).

3-وسائل التخفيف من المأزق الأميركي في العراق
بعد أن تبيَّن للإدارة الأميركية حقيقة المأزق الذي وقعت فيه بعد احتلالها للعراق، كيف توازن الإدارة الأميركية، التي دخلت الحرب على قاعدة الاستفراد بالغنيمة الاقتصادية العراقية، بين الاستفراد بالغنيمة وبين طلب مساعدة الدول الأخرى بما لا يجعلها تخسر الكثير منها؟ ويمكن أن تتضح تلك الموازنة من خلال العودة إلى بحث الوضع على المستويين: الدولي والعربي:

رابعاً: انعكاساتها على المستوى الدولي
للمرة الأولي في أعقاب انتهاء الحرب الباردة، نشأ قطب يتكون من فرنسا، ألمانيا، روسيا الصين، كندا، بلجيكا. وهي الدول التي عارضت السياسة الإمبراطورية الأميركية، ورفضت حججها الباطلة، وشاطرتها هذا الموقف الأغلبية الساحقة من الأسرة الدولية، خاصة بلدان العالم الثالث. وخلافاً لما حصل في حرب العام1991 لم تستطع الولايات المتحدة تشكيل ائتلاف معقول، في حربها على العراق، من اجل تنفيذ مخططاتها الحربية.
من جهة أخرى، وقفت كل الهيئات الدولية تقريباً، بما فيها المنظمات الإقليمية، ضد الحرب. وشنّ الفاتيكان، والبابا شخصياً، حملة من اجل تحقيق حل سلمي. وبلغ التحرك الشعبي في معظم البلدان أبعاداً إنسانية لم تشاهد منذ حرب فيتنام.
وقد أجهدت الإدارة الأميركية والحكومة البريطانية نفسيهما في سبيل الحصول على دعم لاحتلالهما العراق، وبعد جهد كبير، وبعد أن كانت الدول الممانعة للحرب -في أعقاب إعلان جورج بوش انتهاء الحرب في أول شهر أيار / مايو- تتسابق على كسب ودهما، استطاعت المقاومة الوطنية العراقية أن تغيِّر في كثير من مواقف تلك الدول، وكان من أبرز مظاهر تلك التأثيرات النتائج الهزيلة التي حصلت عليها قوات الاحتلال هو القرار الذي صدر عن مجلس الأمن الدولي الرقم (1500)، ومن أهم ما نص عليه هو ترحيبه بإقامة مجلس الحكم الانتقالي في العراق، لكن من دون الاعتراف به بشكل مباشر، كما كانت ترغب الولايات المتحدة الأميركية( ).
بمعزل عن مواقف نادي الدول الكبرى، استطاعت الضغوط الأميركية –في سبيل إيجاد وسائل تبعدها عن ضغوطات الدول الكبرى- أن تحصل على موافقة بعض الدول الصغيرة( ) للمشاركة إلى جانب قوات التحالف الأنجلو أميركي في حفظ الأمن في العراق، وتشير بعض التقارير إلى أن مشاركة تلك الدول جاءت بناء على ضغوط سياسية واقتصادية مارستها عليها الإدارة الأميركية( ).
بعد أن رأت القيادة الأميركية نفسها مُستفرَدَة في المستنقع العراقي، راحت تطلب نجدة من حلفائها. وقد حثَّها على ذلك بعض المشرِّعين الأميركيين على الطلب من حلف شمال الأطلسي (الناتو) على أن يبعث بتعزيزات إلى العراق، فردَّ السكرتير العام للحلف (اللورد جورج روبرتسون) قائلاً: »إن الحلف لا يفكر في إرسال تعزيزات إلى العراق، لأن الحلفاء لم يحققوا نجاحاً في العمليات هناك«( ).
وعلى صعيد الدول، من خارج حلف الأطلسي، فقد رفضت الهند طلباً أميركياً بإرسال قوات هندية إلى العراق( ).
أما على صعيد الدول، التي تتعرَّض إلى ضغط أميركي في المشاركة، فهي مترددة وعالقة بين خوفين: الخوف من عدم الاستجابة للضغط الأميركي، والخوف من أن تنزلق إلى الفخ العراقي، خاصة بعد أن تنامت أعمال المقاومة العراقية. وقد أعلنت اليابان –بالفعل- أنها أجَّلت إرسال عناصر من قواتها إلى العراق، وذلك بسبب عدم استقرار الأوضاع هناك( ). واتخذت وزارة الدفاع الهولندية قراراً بعودة جنودها قبل انتهاء فترة خدمتهم( ). وأعلنت (النيبال) أنها لن ترسل جنوداً إلى العراق، متذرِّعة بمشاكلها الداخلية( ).
إن ضعف الاستجابة الدولية لمشاركتها بقوات في العراق( )، تؤكد تناقضات الإدارة الأميركية، وتكذِّب ادعاءاتها المتفائلة بتلقيها عروضاً كثيرة من عشرات الدول بإرسال قوات إلى هناك.
وإذا عدنا إلى متابعة التقارير ذات العلاقة لاستطعنا أن نكتشف مدى الكذب والتزوير الذي تمارسه الإدارة الأميركية لتضليل الرأي العام العالمي بشكل عام، والرأي العام الأميركي بشكل خاص( ).
بدأت ردود الفعل الدولية ضد الإدارة الأميركية بتصريحات لهانز بليكس، كبير مفتشي الأسلحة السابق في العراق. وتأتي أهميتها من أنها تعبِّر عن رأي الجهة الدولية التي كانت مكلَّفة بذلك الملف، وهي الأقدر على أن تعطي رأياً محايداً حول موضوع الأسلحة، الذي كان السبب المعلَن لتبرير العدوان على العراق( ).
وما برز من ردود فعل روسية، جرى،حتى الآن، تحرك لوزير خارجية روسيا (إيغور إيفانوف) تجاه الشرق الأوسط، على قاعدة أن ما يمكن أن يسهم في حل المسألة العراقية هو تدخُّل الأمم المتحدة على أساس قرارات مجلس الأمن، وهذا الموقف يتجانس مع موقف روسيا الرافض للحرب من دون قرارات الشرعية الدولية( ). كما تمثَّلت بما يقوله بعض المحللين العسكريين، أو بعض من هم خارج دائرة القرار السياسي. وكان موقف بعضهم مؤيداً شرعية المقاومة العراقية، وفي المقابل لا يتمنى أن يرى الأميركيين قد غرقوا بفيتنام جديدة. ومع ذلك لا يحسد الذين وافقوا على مشاركة الأميركيين على موافقتهم( ).
أما الموقف الفرنسي، فلا يرى أن إضافة وحدات عسكرية أجنبية إلى جانب القوات الأميركية والبريطانية توفِّر الأمن في العراق. بل ترى فرنسا أن قوة تابعة للأمم المتحدة، بالاستناد إلى قرار يوضح مراحل ووسائل الاستقرار وإعادة إعمار العراق، هي وحدها القادرة على التوصل إلى إحلال قدر كبير من الأمن. على أن يتميَّز القرار الدولي بقدر كافٍ من الشفافية( ).
أما ألمانيا، فقد وضعت شروطاً صارمة للاستجابة للطلب الأميركي بالمشاركة في قوة حفظ سلام متعددة الجنسيات في العراق. وتكون -بذلك- قد أيَّدت موقف حليفتها فرنسا( ).
حافظ التحالف الفرنسي – الألماني على تماسكه، خاصة بعد أن وجدت الإدارة الأميركية نفسها بحاجة شديدة إلى من يساعدها على التخفيف من مأزقها، والطلب من الأمم المتحدة لتقديم المال والجنود، على قاعدة إغراءات للدول الكبرى بإشراكهم في إعادة إعمار العراق. وقد ظهر التشدد الألماني الفرنسي في مواجهة المشروع الذي قدمته الإدارة الأميركية إلى مجلس الأمن، في أوائل شهر أيلول/ سبتمبر من العام 2003م( ).
تحت إلحاح الإدارة الأميركية في تحصيل قرار جديد من مجلس الأمن يعطي صلاحيات محدودة للأمم المتحدة، بقي التحالف الألماني الفرنسي محتفظاً بموقفه لابتزاز الحاجة الأميركية لمساعدة الدول الأخرى في إسنادها وتخفيف حدة المأزق الذي وجدت نفسها فيه. وابتدأت لعبة المصالح –فعلاً- قبل أن يبدأ الاستحقاق الانتخابي لإدارة الرئيس جورج بوش( ).
ومهما كان موقف بعض الدول الأعضاء في مجلس الأمن - ومن بينها فرنسا وروسيا وألمانيا - مساوماً للإدارة الأميركية، حول مصالحها الاقتصادية، فإنها ترفض الموافقة على أي قرار بشأن العراق يبدو وكأنه يبارك بأثر رجعي الحرب عليه التي عارضتها من قبل.
يراهن التحالف الدولي، الذي كان ممانعاً للحرب ضد العراق، على استمرار المقاومة العراقية، وخاصة على استمرار الخسائر البشرية بين الجنود الأميركيين، وعلى عجز القوات المحتلة عن فرض الأمن والنظام في العراق، مما يعطيهم فرصة ليس لكي يروا هزيمة تلحق بأهم ركائز النظام الرأسمالي العالمي ولكن لإجباره على الاعتراف بدور للإعضاء الآخرين في هذا النادي، وخاصة الاعتراف بحصصهم المشروعة من أي غزو عسكري يستهدف الربح الاقتصادي.
وفي الوقت الذي تتصاعد فيه عمليات المقاومة العراقية ضد قوات الاحتلال، وضد القوات القادمة من دول أخرى لمساعدتها، تزداد حالات الممانعة في وجه الإدارة الأميركية، ويزداد مأزقها، خاصة في ظل ظروف أخذت بعض الدول المشاركة تتردد أو تعمل على سحب قواتها. وتظهر تلك التحولات من خلال مواقف الأمم المتحدة التي أعلنها أمينها العام كوفي أنان عندما طالب –كشرط لإرسال قوات متعددة الجنسيات إلى العراق- أن تتنازل قوات الاحتلال الأميركي عن بعض صلاحياتها( ).
إن نتائج وتأثيرات امتناع الدول الحليفة للولايات المتحدة الأميركية عن المشاركة العسكرية، أي نجدة القوات الأميركية بإرسال قوات من جنودها، يعني ذلك، انقلاب النصر الأميركي في العراق إلى هزيمة عسكرية( ).
وتبقى الثغرة في الموقف الدولي ثغرة تقاس بالكم وليس بالنوع، ومن هنا يأتي واجب تحويل مسألة احتلال العراق إلى مستواها الإنساني الأممي، بحيث تقوم على استثارة الضمير العالمي في المؤسسات الدولية ذات الطابع الإنساني وتأمين غطاء الشرعية الإنسانية لنضال الشعب العراقي.
وعندما يتأمَّن الغطاء الإنساني للقضية العراقية يمكن أن يُحدث توازناً بين رغبات أعضاء النادي الرأسمالي العالمي وبين الحقوق الإنسانية للشعوب المُضطَهَدَة.
وأياً تكن نتائج المساومات التي تجري بين الدول الكبرى، أو نتائج الضغوط الأميركية على الدول الأخرى من أجل المساهمة بقوات إلى العراق، فستكون من دون رصيد قابل للتطبيق على أرض الواقع. فالجميع يفصِّلون الحلول على مقاييس مصالحهم، وهم يتجاهلون تأثير المقاومة العراقية –التي لولا ظهورها وتأثيراتها البالغة على أمن قوات الاحتلال الأميركي، لما سمحت الإدارة الأميركية لكل أولئك بأن يجلسوا إلى طاولة المنتصر بالحرب. وهي بالأساس تجاهلتهم جميعاً.
لن تنتظر المقاومة العراقية أن يفصِّل اللاعبون الدوليون ثوباً للجسم العراقي( )، وبما أنها أفشلت مخططات الاحتلال الأميركي فلن تسمح لمخططات الآخرين أن تنجح إذا لم يكن القرار حائزاً على موافقتها. وفي كل الأحوال لن تساوم المقاومة على إعطاء أي دور للاحتلال الأميركي، بشرعية دولية أو غيرها، لأن قرار المقاومة هو خروج تلك القوات من العراق »بدون قيد أو شرط«( ).

خامساً: انعكاساتها على المستوى العربي
أوضح تقرير وفد الكونغرس الأميركي الذي زار العراق في النصف الأول من شهر آب/ أغسطس من العام 2003م، أهمية إسهام الدول العربية بدور أساسي في مساعدة الإدارة الأميركية على التخفيف من مأزقها الأمني والعسكري الذي وضعتها فيه نشاطات المقاومة العراقية. وحول هذا لجانب، أشار تقرير وفد الكونغرس، إلى أن الأنظمة العربية تستطيع أن تقدِّم دعماً مهماً، على الصعيد العسكري، لأنها تستطيع أن تنوب بكفاءة أكثر من القوات الأميركية في التعامل مع الشعب العراقي. وأشار التقرير إلى أهمية الحصول على مثل تلك المساعدة، وطلب من الإدارة أن تلجأ لو اقتضى الأمر إلى ممارسة ضغوط جدية على تلك الأنظمة( ).
لا يقتصر دور الأنظمة العربية –من منظار المخطط الأميركي- على إضفاء شرعية على الاحتلال، أو مساعدته على الخروج من مأزقه العسكري والمالي، بل من أهم أهدافه هو إحكام القبضة على العراق من أجل ضمان اجتثاث أصول الصوت والمشروع الرافضيْن للمشاريع الأميركية والصهيونية( ).
على الرغم من هزال الدعم العربي الرسمي فلا يزال –كما نحسب- يلعب دوراً ما في تخفيف ضغط إدارة الاحتلال الأميركي والبريطاني عن كاهل المقاومة العراقية. ومن أهم مظاهر الدعم تلك المواقف التي تمظهرت في قرارات الجامعة العربية عندما اتَّخذت موقفاً من مسألتين، وهما:
-عدم الاعتراف، صراحة بشرعية مجلس الحكم الانتقالي:على الرغم من الالتباس في القرار حول الاعتراف بما سُمِّيَ مجلس الحكم الانتقالي في العراق، إلاَّ أنه يدل على عدم الاستجابة الكاملة للضغوط الأميركية التي كانت تريد الاعتراف واضحاً لا لبس فيه. وحول هذا الموقف عبَّر عمرو موسى،أمين جامعة الدول العربية، عن أن شروط اكتمال صفات عضوية المجلس لا تزال غير واضحة( ).
لقد بدا واضحاً أن الإدارة الأميركية، وبناء على تقرير وفد الكونغرس الآنف الذكر، واصلت ضغوطها على عدد كبير من الأنظمة العربية المرتبطة بعجلة المشروع المعادي. وقد أثمرت الضغوط بقرار صدر عن مجلس وزراء الخارجية العرب، بتاريخ 9/ 9/ 2003م، وهو على الرغم من أنه جاء نتيجة تلك الضغوط إلاَّ أنه كان ملتبساً، والغاية من الالتباس أن يترك للأنظمة العربية –المتواطئة- هامشاً من الاجتهاد يحتالون به بقصد تنفيذ مشيئة الإدارة الأميركية( ).
لكن الالتباس مدان وهو لا يشكل إيجابية لأنه صادر عن مؤسسة تحمل اسم العرب، بينما احتلال العراق هو ضد مصالحهم، وهو يمثل دور »الثور الأسود«، الذي أُكِل عندما أُكِل »الثور الأبيض«. ولأن مجلس الحكم الانتقالي في العراق هو أهم مظاهر تشريع الاحتلال الأميركي، كان على المؤسسات الرسمية والشعبية العربية أن ترفضه رفضاً مطلقاً( ).
-رفض رفضاً صريحاً إرسال قوات عربية إلى العراق في ظل الاحتلال. وقد حصل ذلك على الرغم من أن بعض الدول العربية قد أعلنت عن إمكان إرسال قوات إليه( ). ومن خلال متابعة مدى مصداقية هذا الموقف، تبَّين أنه ثابت على الرغم من الضغط الذي تمارسه الإدارة الأميركية على عدد كبير من الأنظمة العربية المتواطئة معها.( ).
وتبقى مصداقية الموقف مشكوكاً فيها لأن عدداً من الأنظمة العربية لن تستطيع الافلات من الضغوط الأميركية بسهولة( ).
وإذا كانت ورقة التوت لم تسقط كلياً عن عورة النظام العربي الرسمي( )، إلاَّ أن التواطؤ مع الاحتلال الأميركي للعراق، بدا واضحاً من خلال تجاهل القرارات الرسمية العربية لخطورة الاحتلال المذكور على مجمل الوضع القومي العربي، وهي –بدلاً- من إدانته تعمل على تضليل الرأي العام العربي، وتوجيه الأنظار إلى اتهام الضحية بدلاً من اتهام الجزَّار( ).

سادساً: المقاومة العراقية تجر إدارة العدوان إلى الفشل في تحقيق أهدافها.
لم تكن نتائج أعمال المقاومة إفشال نتائج العدوان فحسب، وإنما أرْدَت الإدارتين البريطانية والأميركية في هاوية السقوط أيضاً.
أما حول الحكومة البريطانية، من بعد سلسلة من الفضائح التي أكَّدت على كذبها، فقد أدَّت النتائج إلى قتل بعض الشهود واستقالة عدد من كبار الموظفين بعد أن أجبرتهم ظروف الحكومة إلى دفع الثمن من أجل تخفيف التهمة عنها. وعلى الرغم من ذلك، فقد ارتفعت أصوات تطالب رئيس الحكومة –طوني بلير- بالاستقالة، وعلى العموم فقد أصبح على شفير الهاوية( )، بعد أن كشفت مجريات الأمور ضلوعه في جر بريطانيا إلى حرب غير عادلة ضد العراق، تحت أسباب أثبتت التحقيقات كذبها.
أما على صعيد إدارة الرئيس الأميركي –جورج بوش الابن- فقد دارت الدائرة عليها بنسبة كبرى. ونلحظ حجم الآمال التي كانت تلك الإدارة تمني النفس بها، حينما كانت واثقة من أنها تستطيع أن تقود الحرب بإمكانياتها الذاتية من دون مساعدة أحد، وبكلفة قليلة من الجنود والإمكانيات المادية( )، وبغطاء دولي شكلي يطمئن جنودها إلى وجود غطاء قانوني وأخلاقي( )، وإلى أن الحرب سوف تموِّل نفسها بنفسها، وما يزيد عن ذلك يبقى مستباحاً للشركات الأميركية الكبرى، وما يتبقى فهو عرضة لسرقة العراقيين المتواطئين مع الاحتلال ونهبهم، خاصة أن معظمهم من عملاء الشركات الأجنبية أو من اللصوص المملوءة ملفاتهم بالملاحقات القانونية.
وتنقلب الصورة بعد أن أصبح ساعد المقاومة العراقية أقوى، مما لم تستطع الإدارة الأميركية إخفاءه. وتحوَّلت الإدارة من معربد على المجتمع الدولي إلى موقع المتسول للمساعدة حتى ولو ببضع مئات من الجنود من هنا أو هناك من الدول الصغيرة، تارة بالتهديد، وتارة أخرى بالابتزاز، وطوراً آخر بالإغراءات المالية.
أما بالنسبة إلى الدول الكبرى، فلجأت الإدارة الأميركية إلى إغرائها بتقديم حصص لها بعقود الإعمار، أو بالمحافظة على مصالحها السابقة في العراق، وتطول صور الانحناءة الأميركية كلما ازدادت خسائرها البشرية بين الجنود، وكلما منعتها المقاومة العراقية من تصدير النفط للاستفادة من عائداته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق