بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 22 يناير 2010

المقاومة الوطنية اللبمامية (الفصل الأول)

المقاومة الوطنية اللبنانية

تكتيك أم استراتيجية؟

(بحث في جذورها، واقعها الراهن، آفاقها، موقعها في الصراع ضد الصهيونية)

وثيقة من إعداد «قوات التحرير في جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية»
تاريخ تشرين الثاني من العام 1987
وأضيفت إليها الوثائق التي أعقبت التاريخ المذكور

الإهــــــداء

إلى الشهداء الذين قدَّموا حياتهم لتحيا أمَّتهم، فهم الذين كتبوا تاريخها بدمائهم،
وهم شهداء الأمة العربية، من كل دين و مذهب واتجاه سياسي، لأنهم ارتفعوا راياتٍ ورموزاً على أرض العروبة في كل مكان من ترابها الأبي.

(جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية – قوات التحرير)

ملاحظات حول نشر الوثيقة:
قرَّرت القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، في العام 1987، طباعة الوثيقة المرفقة وإصدارها بكتاب يتم تعميمه. لكن ظروف الحزب الأمنية الصعبة، في تلك المرحلة، حالت دون ذلك.
إن القيام بنشر الوثيقة في كتاب، في هذه المرحلة، قد يُفسَّر تفسيرات خاطئة، لذا آثرت القيادة، بناء لقرار أعلى مؤتمر حزبي، أن تعممه داخلياً، كحق تاريخي للحزب لتضاف إلى وثائقه النضالية في الجهد المقاوم.
إن الوثيقة، التي نضعها بين أيديكم، كانت محدودة الوظائف، جاءت لتشخص، في فترة إعدادها، عوامل تساعد على تأخير تحويل المقاومة الوطنية اللبنانية إلى أنموذج وطني وقومي، خاصة وأن إعداد الوثيقة، في العام 1987، جاء مترافقاً مع إعلان الحزب مشروعاً جبهوياً، سيجد القارئ نصه في الملاحق. وكانت تحدو القيادة حينذاك، ليس المشروع الجبهوي النظري فحسب، وإنما كانت قيادة الحزب والسلطة في العراق أيضاً مستعدة لتقديم إمكانيات الدعم المادي والسياسي من أجل وضعه على سكة التنفيذ.
عالجت الوثيقة أهم السلبيات التي كانت سائدة في ذلك الحين، والتي كان يرى الحزب، كشريك فيها عبر قوات التحرير، بعض الجوانب السلبية، ومن أهمها:
1-التسابق الفئوي بين الأطراف المشاركة فيها بحيث كان يظهر من إعلام كل حزب وكأنه الرائد الوحيد للمقاومة تاريخياً وراهناً.
2-تجهيل تجارب المقاومة اللبنانية التي سبقت احتلال العدو الصهيوني في العام 1982. وخاصة:
أ-استراتيجية حزب البعث العربي الاشتراكي، منذ العام 1948، في إحلال مفهوم الكفاح الشعبي المسلَّح من أجل تحرير فلسطين، كبديل لعجز الأنظمة العربية الرسمية، حينما أطلق شعاراً أعلنه المرحوم ميشيل عفلق، القائد المؤسس للحزب، «أمتي موجودة حيث يحمل أبناؤها السلاح»، و«فلسطين لن تحررها الحكومات بل الكفاح الشعبي المسلَّح». وأعلن المؤتمر القومي التاسع، في العام 1968، تفعيل فكر الكفاح الشعبي المسلَّح، وتشكيل جبهة شعبية مقاتلة.
ب-دور المقاومة الفلسطينية التي أسهمت استراتيجياً في اطلاق مفاهيم جديدة للصراع مع العدو الصهيوني، بعد أن يئست من دور الأنظمة، خاصة وأنها كادت تحوِّل منظمة التحرير الفلسطينية إلى تابع للأنظمة الرسمية، فكانت مبادرة حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) في 1/ 1/ 1965، في اطلاق المقاومة الفلسطينية نقلة نوعية في تاريخ الصراع العربي – الصهيوني، وهذا مما لا يجوز إغفاله أو شطبه من ذاكرة تاريخ المقاومة العربية. ومن الجدير ذكره أن نشير إلى أن حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب الوحيد الذي احتضن تلك التجربة ووضع إمكانياته في سبيل استمرارها.
ج-الدور الريادي لحزب البعث العربي الاشتراكي في بناء أنموذج القرية الجنوبية اللبنانية المقاومة، منذ أواخر العام 1968، وقد نضجت في تجربتيْ «كفركلا» و«الطيبة».
د-دور التجربة المشتركة لأحزاب الحركة الوطنية اللبنانية في التصدي للاعتداءات الصهيونية منذ العام 1976 حتى مرحلة الاحتلال الصهيوني في العام 1982.
3-كانت ملامح ما كنا نسميه في إعلام حزبنا، بعد الاجتياح الصهيوني في العام 1982، «تلزيم المقاومة» لحزب الله تجري على قدم وساق، بحيث يقود المقاومة، ويستأثر بها على الرغم من كل التبريرات التي كانت تصدر عنه، وكنا نرى خطأ في ذلك النهج، خاصة وأنه ليس في إيديولوجيا حزب الله ما يبرهن على أنها ذات استراتيجية قومية لأكثر من اعتبار وسبب. وهذا ما جعلنا نتوِّج وثيقتنا بعنوان: «المقاومة الوطنية اللبنانية تكتيك أم استراتيجية»، أي بالتركيز على وجوب أن تكون وطنية أولاً، وأن تكون ذات أبعاد قومية ثانياً.
تلك الأسباب، منفردة ومجتمعة، جعلتنا نرى أنها تشكل عوائق تحول دون ما يلي:
-الاتفاق على عمل جبهوي وطني تشارك فيه كل الفصائل التي قاومت العدو الصهيوني، منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي، أو التي تريد أن تقاومه، بمعزل عن هويتها السياسية أو الدينية.
-تثمير وطنية المقاومة أولاً، كسقف استراتيجي عاجل، من أجل وصلها بعمقها القومي ثانياً، كسقف استراتيجي مستقبلي.
أيها الرفاق
وكما ستجدون في وقائع الوثيقة ومحتواها ما يدل على أنها تُطل على جانب من المحطات التاريخية للمقاومة العربية، وفي بعض محطاتها ما يميِّز تاريخ حزبنا في المقاومة على الساحة اللبنانية، كونه أول من شقَّ خندق المقاومة الشعبية في جنوب لبنان، من خلال تجربته الرائدة في كفركلا والطيبة، مروراً بإسهامه في العمل المشترك مع فصائل الحركة الوطنية اللبنانية وأحزابها، وصولاً إلى دوره بعد الاجتياح الصهيوني في العام 1982 من خلال (قوات التحرير). لكن ما جاء في الوثيقة لا يُغني عن القيام بجهود أخرى لكتابة تاريخ دور حزبنا في لبنان، الأمر الذي يُرتِّب واجب الإسهام في صياغته على كل الرفاق المعنيين، من الذين كانوا على تماس مع التجربة، نخص منهم الذين اشتركوا بالقتال ضد العدو الصهيوني والذين واكبوا تلك التجربة بالقيادة والإرشاد والتخطيط، قيادات وقواعد، وأن يبذلوا الجهد من أجل كتابة مذكراتهم الميدانية، وخاصة ما بذله شهداؤنا من أعمال مميَّزة.
إن جمع حصيلة تلك المذكرات والذكريات مع ما بقي موجوداً من وثائق محفوظة لدى بعض الرفاق، أو الملاحق الوثائقية التي ننشرها مع وثيقتنا هذه، أو مما نستطيع الحصول عليه ستشكل أساساً لكتابة تجربة حزبنا على الساحة اللبنانية، بشكل شبه متكامل.
لبنان في أوائل تشرين الأول من العام 2006

محتويات الكتاب
المقـدِّمـة:................................................................................................................................9
الفصــل الأول: المقدمـات الموضوعية للمقاومة الوطنية اللبنانية
- تمهــــيد...........................................................................................................................15
I-متى انطلقت المقاومة الوطنية اللبنانية من وجهة نظر التيارات العاملة؟
-التيار الماركسي: أ-الحزب الشيوعي اللبناني. ب-منظمة العمل الشيوعي...........16
-التيـار الإقلــيمي:الحزب السوري القومي الاجتماعي. ........................................................18
-التيارات الإسلامية. أ -حركة أمل: ب-المقاومة الإسلامية (حزب الله) ..............19
-التـيار الرابـع: الاتجـاهات القوميـة....................................................................................21
II- مناقشة مواقف وآراء تيارات المقاومـة............................................................................23
1-مناقشـة التيار الماركسي : أ-منظمـة العمل الشيوعي. ب-الحزب الشيوعي اللبناني. ج-مناقشة عامة للتيارات الماركسية. ........................................................................24
2-مناقشـة التـيار الإقليـمي...........................................................................................29
3-مناقشـة التيـارات الإسـلاميـة: أ-حركــة أمــل. ب-المقاومـة الإسـلاميـة. .............. 30
III-إذن، متى انطلقت المقاومة الوطنية اللبنانية؟.................................................................35
IV-كثرة العوامـل تُفْرِز تفتيتـاً في الاتجاهـات........................................................................42
V-خلاصــة القول. ........................................................................................................44
الفصـل الثـاني: الواقع الراهن للمقاومة الوطنية اللبنانية
-تمهيـد حول طبيعة الصراع العربي-الصهيوني...................................................................45
I: مرحلة ما قبل الانسحاب، منذ الاجتياح في (6/6/1982 - 16/2/1985)....................47
1) المناخ السياسي والشعبي قبل الاجتياح: أ-على الصعيد السياسي. ب-على الصعـيد العـسكري:
2) مراحل الاجتيـاح الأولـى
3) نظرة نقدية لتقييمات مختلف التيارات والأحزاب. أ-مستوى المواجهة العسكرية. ب:مستوى المواجهـة التعبويـة. ج-مستوى المواجهـة الجبهويـة (وطنياً وقومياً).
4) المقاومـة في أثناء الاحتـلال: أ-طبيـعة عمل المقاومــة. ب-سـلبيــات المرحلــة: -الأولـى: الاستئثـار الفئـوي. -الثانيـة: غياب صيغـة العمل الجبهوي.
II- مرحلـة ما بعـد الانسحـاب (منذ 16/2/1985 حتى الآن) ( )........................................58
1) الوضع في داخل الشريط الأمني.
2) الوضع في المنطقة الجنوبية التي انسحب العدو منها.
3) الوضع السياسي العام على الساحة اللبنانية.
4) الصعوبات التي تواجه عمل المقاومة:..........................................................................65
الصعوبة الأولى: تشرذمها إلى تيارات وفصائل متناحرة:
-التيار الأول: تيار الفصائل الوطنية: أ-الماركسيون. ب-الحزب السوري القومي الاجتماعي. ج-حركة أمل. د-الفصائل القومية: .
-التيـار الثـاني: تيـار «المقاومة الإسلامية»..
-التيـار الثالـث: التيـار الديني الوطني..
الصعوبـة الثانية: غياب صيغـة العمل الجبهوي.............................................................74
-العمل الجبهوي من وجهة نظر القوى المشاركة في المقاومـة: -وجهة نظر الحزب الشيوعي اللبناني. -وجهة نظر حركة أمل. -وجهة نظر «المقاومة الإسلامية».- وجهة نظر حزب البعث العربي الاشتراكي.
5) النتائج التي تعكسها الصعوبات الموجودة على مستقبل المقاومة: -الأولى: تشرذمها إلى تيارات وفصائل. -الثانـية: غياب صيغة العمل الجبهوي.

الفصـل الثـالث: المقاومة الوطنية اللبنانية، تكتيك أم استراتيجية؟
-تمهيـــد.............................................................................................................................85
I -النتائج الفعليـة التي حققتها المقاومة الوطنية اللبنانية: 1-النتائـج. 2-الـثغرات.............87
II-المقاومة الوطنية اللبنانية، تكتيك أم استراتيجية؟.
1-الخصوصيات الفكرية والعقائدية لتنظيمات المقاومة. 2-الخصوصيات السياسية لتنظيمات المقاومة.
III-خاتمــــة: حتى لا تصبح التجربـة حلماً. .....................................................................105
* المصـــادر والمراجـــع. ......................................................................................................107
* الملاحــــــــــق. ............................................................................................................... 109
المقـدِّمـة
كان وراء إصدار هذه الدراسة عن المقاومة الوطنية اللبنانية دافعان: ذاتي وموضوعي:
-أولاً: الدافع الذاتي:
في ظلِّ التسابق المحموم لإعلان والتنظير حول ظاهرة المقاومة، الذي مارسته كل الأطراف العاملة فيها، طلباً للكسب السياسي والفئوي، كان حزب البعث العربي الاشتراكي مُشارِكاً في هذا العمل بأقل ما يمكن من الصمت الذي يقتضيه الأسلوب الثوري السرِّي، وبنا يقتضيه الصمت من مُوجِبات أمنية احتياطاُ واتِّقاءً من أجهزة الأمن المعادية من جهة، ومُوجِبات منع الانسياق وراء الكسب الفئوي الذي يتعارض مع طموح الحزب في بناء عمل جبهوي مقاوم بعيدٍ عن التسابق الفئوي التعصبي من جهة أخرى.
إن استمرار التسابق الفئوي، كما كانت عليه الحال، بين الأطراف التي تمتلك وسائل إعلامها الخاصة، أو التي كان يُسمَح لها بامتلاكها، بالإضافة إلى الشرذمة التي كانت تطغى على صفوف العاملين في المقاومة بعيداً عن العمل الجبهوي، يُؤدِّي-كما نحسب-إلى نتائج سلبية تُحْبِط الطموح المعقود على المقاومة ذاتها. لذلك...
كان لا بُدَّ من وقفة نقدية تصحيحية، لما هو قائم، على ضوء التجربة القومية في الكفاح المسلَّح ضد العدو الصهيوني، والتي انطلقت منذ بداية الصراع مع العدو حتى الآن. لقد أسهم في تطوير تلك التجربة، وترسيخها-بشكل أساسي-حزب البعث العربي الاشتراكى مستنداً إلى منطلقاته الفكرية والنضالية، وعلى الصعيدين الوطني والقومي.
ينطلق إيضاح دور الحزب على صعيد المقاومة من قاعدتين: تستند الأولى إلى نظريته في القومية كمنطلَقٍ فكري؛ وتُركِّز الثانية على تراثه النضالي على الساحة اللبنانية.
كان حزب البعث العربي الاشتراكي-كحركة عقائدية وسياسية- يطمح من خلال عمله في داخل إطار المقاومة الوطنية، أن تبقى تجربته في الصراع مع العدو على تواصل مستمر كأول حركة قومية عربية رافقت الصراع منذ مظاهره الأولى في الأربعينات من القرن العشرين. إن التجربة التي خاضها الحزب، على المستوى القومي، أصبحت مُلْهِماً يومياً له على كل الجبهات المفتوحة مع العدو الصهيوني.
عندما احتدم الصراع الداخلي، وارتفعت حرارته على الساحة اللبنانية، خاصة بعد أن انتقل ثقل الثورة الفلسطينية إليها، إذ أنها رافقت مراحله الأولى، كان عمل البعثيين-في تلك المرحلة- مُلتصِقاً بالثورة الفلسطينية استناداً إلى منطلقات حزبهم العقائدية في وحدة النضال القومي. وكانت جريدة الحزب هي الجريدة اللبنانية الوحيدة التي نشرت نبأ العملية الأولى لحركة فتح. وكان البعثيون يساعدون ثوَّار فلسطين في إيصال السلاح إلى المناطق الحدودية، والإسهام في جمع التبرعات لهم؛ فكانوا يقومون بدورهم هذا على الرغم من قمع السلطة اللبنانية وتشدُّدِها في حق كل من كان يجرؤ على القيام بذلك، وكانت-في ذلك الحين- تبذل كل الجهود لمنع العمل الفدائي من الانطلاق من على الأرض اللبنانية.
تصاعدت تجربة الحزب في لبنان مع تأسيس جبهة التحرير العربية في العام 1969م، وصدر قرار من القيادة القومية للحزب تدعو فيه البعثيين أينما كانوا لأن ينخرطوا، أو أن يكونوا مستعدِّين للعمل الشعبي المسلَّح في صفوف الجبهة، لأن كل بعثي هو جبهوي.
أخذت التجربة تنمو بعد أن أخذ البعثيون اللبنانيون-فعلاً- يتطوَّعون في صفوف الجبهة، ويُقدِّمون الشهداء في أثناء تصديهم لقوات العدو الصهيوني ابتداءً من العام 1969م، (وهذا ما سوف نلقي عليه ضوءاً أكثر وضوحاً في حينه في هذا الدراسة).
تطورت تجربة الحزب بشكل نوعي عندما بدأت القيادة بتشكيل بعض المجموعات المقاتلة في القرى الجنوب المحاذية للأرض الفلسطينية المحتلة. وبدأت ثمرة تلك التجارب تظهر للعلن من خلال بعض المعارك التي خاضتها تلك المجموعات مع العدو، مثل ما حصل في 1/1/1975م في قرية الطيِّبة؛ وفي تموز 1975م، و في 27/11/1975م في قرية كفركلا.
وبعد أن اندلعت المؤامرة ضد الثورة الفلسطينية، بهدف تصفية وجودها في لبنان، كان حزب البعث العربي الاشتراكي وجبهة التحرير العربية قد دفعاً الثمن الأول، وكان قدره تسعة وعشرون شهيداً في (البوسطة) التي تعرَّضت إلى كمين مُسلَّح في عين الرمانة في 13 نيسان من العام 1975م.
ومن بعد أن توسَّع حجم المؤامرة أكثر فأكثر، ومن بعد أن بدأت أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية تأخذ دورها في الدفاع عن المقاومة الفلسطينية، تفرَّعت المهمات أكثر واتَّسعت، إذ شكَّلت قوات مشتَرَكَة في القرى اللبنانية الحدودية المواجِهَة للعدو الصهيوني.
وكما حصل في الداخل، امتدَّت المعارك إلى قرى الشريط الحدودي، وكان حزب البعث يقف مُحَذِّراً من إفراغ القرى الحدودية من المقاومة الشعبية، ويُصِرُّ على التشبُّث بالبنادق في الجنوب «لأنه لا يجوز أن تغيب تلك البنادق عن الصراع المركزي للحظة واحدة مع العدو الصهيوني» ( ).
كان موقف الحزب السياسي يدعو إلى إيقاف الحرب الأهلية على الساحة اللبنانية قبل أن تتعمَّق الجروح، ويزيد الشرخ، وتزداد حالة التفتت التي لن يستفيد منها سوى العدو الصهيوني.
لم ينخرط حزب البعث العربي الاشتراكي في المعركة الداخلية في العام 1975م إلا دفاعاً عن «عروبة لبنان انطلاقاً من حماية المقاومة الفلسطينية وحقها في الوجود على أرضه، هذا الحق الذي أقرته اتفاقية القاهرة بين الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية» ( ). وكان الحزب-قبل الأحداث- يلتزم بالنضال الديموقراطي رافضاً الدعوة إلى العنف( ).
وبعد أحداث السنتين التي كانت «تذهب بكل نداءات الحوار» لم يكن أمام الحزب إلا أن يرفع شعار الوفاق الوطني بعد توقُّف القتال منذ أوائل العام 1977م( ).
وإلى ذلك التاريخ كانت المشكلة الداخلية في لبنان لا تزال تراوح مكانها؛ وكانت آفاق الحوار الوطني لا تزال الغائب الأكبر. و يزداد غيابها كلما كانت القوى الخارجية تستطيع أن تُمْسِك أكثر بقرار القوى الداخلية، وأن تخلق التناقضات بينها، والاتجاه بها نحو المزيد من الاقتتال الأهلي على حساب القتال ضد العدو الصهيوني.
كان كل ذلك يتنافى مع المصلحة الوطنية، و مع المصلحة القومية، أيضاً. أَوَ ليس افتعال الصراعات الجانبية بين الأطراف المحلية والثورة الفلسطينية إلا إلهاء لها عن ممارسة دورها في تحرير الأرض الفلسطينية المُغْتَصَبَة؟
حذَّر حزب البعث العربي الاشتراكي، وأكَّد باستمرار على سلبية سياسة تفتيت لبنان التي تقودها القوى المعادية، و على إيجابية توحيده و منع تقسيمه لأن «لبنان المُوَحَّد هو الذي يستطيع لعب الدور الحضاري، ولبنان الموحد هو الذي يمكن أن يساهم في حلِّ قضية فلسطين وكافة القضايا القومية من منظار تحريري» ( ).
كان فهم الحزب للصراع العربي-الصهيوني يستند دائماً إلى مبدأ الضرورة في تحقيق وحدة الأطراف الوطنية على المستوى القطري، وبما تعنيه هذه الوحدة من تجاوز لكل الصراعات الداخلية باستخدام السلاح و العنف، وخاصة في الظروف التي يعمل فيها العدو على تفتيت الجهود الواجبة أن تكون مُوَحَّدَةً في مواجهته، وليس على الصعيد الوطني فحسب، وإنما على الصعيد القومي أيضاً.
كان دافعنا لإجراء هذا البحث قد جاء خوفاً من أن تطمس موجة التزوير-في هذه المرحلة-(أي مرحلة أواخر الثمانينات) معالم النضالات الوطنية والقومية الأولى، التي يعتزُّ بها تاريخ المقاومة الوطنية اللبنانية؛ تلك المعالم نُقِشَت في ذاكرة التاريخ بدماء الرُوَّاد من الشهداء البعثيين الذين استشهدوا في قرى لبنان الجنوبي وهم يقاومون العدو الصهيوني منذ أواخر الستينيات-ولا يزال رفاقهم يقاتلون ويُقدِّمون الشهيد تلو الشهيد؛ وبلغ عدد العمليات التي نفَّذوها-منذ اجتياح العام 1982م حتى أواخر العام 1987-(482) أربعماية واثنان وثمانون عملية ضد قوات العدو الصهيوني.
أما الدافع الموضـوعي، فيستند إلى ما يحصل من تشويهات تُلصَق بهذه الظاهرة المُشَرِّفة وما ينتاب مسيرتها من ثغرات لم يعد الظرف الراهن يسمح بالسكوت عنها.
يقوم العاملون في صفوف المقاومة بممارسة التشويهات والثغرات على قدم وساق؛ وتعود أسبابها إلى واقع التعددية في التنظيمات العاملة، التي هي نتيجة للتعددية في أيديولوجياتها وسياساتها، والتي تنعكس تفتيتاً في جهود العاملين ضد العدو، وإضعافاً لأدائهم، وعرقلة في مهماتهم.
إننا نحسب أنه مهما تعدَّدت الإيديولوجيات، قومية ووطنية ودينية ومذهبية،عليها أن لا تصل إلى حدود الاقتتال الداخلي، خاصة إذا ما تعرَّضت السيادة الوطنية إلى الخطر من جراء عوامل الاحتلال الخارجي.
في هذا الإطار لا بد من أن نُذَكِّر بما يفعله عدونا-عندما يتعرض كيانه للخطر، وهو ما حصل فعلاًً بعد اجتياحه للأرض اللبنانية في حزيران/يونيو من العام 1982: لقد توقَّف الصراع القائم بين المعارضة والحكومة ليعلن زعيم المعارضة الصهيوني شيمون بيريز أمام الكنيست أنه «على الجميع الوقوف يداً واحدة وراء هذه العملية... ففي اللحظة التي بدأت فيها الحرب، نتضرَّع ونُصَلِّي كلنا مع الجيش من أجل سلامة جنودنا» ( ).
وعلى الرغم من أن سلامة مناضلي المقاومة الوطنية اللبنانية الشجعان تتعرَّض كل لحظة للخطر، و يسقط منهم شهداء، فإننا ننحر بعضنا البعض في كل يوم في صراع داخلي؛ ونتسابق تسابقاً محموماً واستعراضياً للكسب السريع، وإلى ما هنالك من صراعات جانبية لا تنتهي قائمتها، فتذهب معها كل يوم سلسلة من الضحايا التي تموت من دون ثمن؛ ويحصل كل هذا في الوقت الذي نحتاج فيه إلى كل طلقةٍ من الرصاص بدلاً من أن تذهب هدراً، وإلى كل نقطة من الدم تُراق على مذبح الفئوية والأنانية السياسية.
صعوبــات البــحث
لا بد من الإشارة إلى أننا حاولنا-في هذه الدراسة-أن نسلك منهجاً نتناول فيه موضوع المقاومة الوطنية اللبنانية، كظاهرة قائمة بذاتها مُوَحَّدَة المنهج و التاريخ والتجربة، لكننا لم نستطع أن نتَّبَعه لأن المقاومة مقاومات، ومناهجها متعددة، و تاريخها مُخْتَلَفٌ عليه، ومنطلقاتها الفكرية والسياسية كثيرة ومُتَشَعِّبَة.
إن ما تجمَّع لدينا من وثائق لها علاقة بالبحث كانت مُتَشَعِّبة و متداخلة إلى الحد الذي استخدمنا فيه منهجاً مُركَّباً؛ وكنا مُجْبَرين على استخدامه لكي نتجاوز الدخول في كثير من التفصيلات والخصوصيات لأطراف متعدِّدَة، وإن كلاً منها ينظر إلى موضوع المقاومة نظرة تختلف عن الآخر.
تنطلق أية دراسة علمية لأية ظاهرة من مقدمات الظاهرة ووضعها الراهن-بإيجابياته وسلبياته-ومن ثَمَّ تصل إلى النتائج التي ترشد العاملين في صفوفها إلى وسائل تصحيحها وتطويرها.
لكن ما ينطبق على بحث ظاهرة ما-باتِّباع منهج مُحَدَّد- لا ينطبق على ظاهرة المقاومة الوطنية اللبنانية؛ ولهذا أسباب سنحددها تبعاً للصعوبات التي واجهتنا في أثناء البحث:
أ) بالنسبة للمقدِّمات: هناك اختلافات في وجهات النظر عند معظم العاملين في صفوفها؛ وقد يكون بعضها نابعاً من حساسيات فئوية، أو من موقف سياسي له أغراض ومصالح سياسية؛ و قد تبيَّن لنا هذا من خلال الاختلاف حول تحديد مرحلة الانطلاقة، التي قلَّما يتَّفق تنظيمان على تحديد انطلاقتها الأولى.
ب) بالنسبة لتقييم الواقع الراهن (أي وضع المقاومة في الوقت الذي أُجْرِيَ فيه البحث): اختلفت التقديرات والمواقف بين من يصف واقع المقاومة بأنه مثالي لا تشوبه أية ثغرات وبين من يُعَدِّد عشرات التي تعيق عملها.
ج) بالنسبة للنتائج: تناقضت الآراء والمواقف بين مختلف التنظيمات العاملة، وتراوحت المواقف بين من يرى فيها تكتيكاً، وبين من يرى فيها خطاً استراتيجياً؛ بين من يرى نهج العمل الجبهوي غائباً وبين من يرى أنها تُمَثِّل نهجاً جبهوياً سليماً لا عيب فيه.
إن وعورة المسالك التي تقف في وجه الباحث عن تاريخ ظاهرة ما-كمثل ظاهرة المقاومة الوطنية اللبنانية- وتحليل مواقف شتى الأطراف المشاركة فيها، وتصنيف تياراتها العقائدية والفكرية، كانت تَلِدُ استطرادات في هذه أو تلك من المراحل مما كان يُخْشى معها من ارتباك في سرد تلك المراحل وتحليلها.
وكانت صعوبة أخرى تظهر من خلال البحث، كانت عائدةً إلى التناقضات الفكرية أو السياسية في داخل أطراف تنتمي إلى تيار فكري واحد؛ وهذا ما كان يُؤثِّر تأثيراً سلبياً من حيث كثرة التفريعات الرئيسة، مما يفرض، في أحيانٍ كثيرة، تفصيلات تربك التسلسل المنطقي والموضوعي في منهجية الدراسة.
لقد كان من الأيسر أن تتم دراسة ظاهرة المقاومة الوطنية اللبنانية من خلال وجهة نظر كل تيار؛ وحتى في هذا الخيار كان لا بد من صعوبات تعترض عملنا، لأنه قد يجرنا إلى بعض التكرار في عرض المراحل التاريخية.
واستقرَّ رأينا، أخيراً، على اتِّباع أسلوب العرض التاريخي للمراحل متضمِّناً آراء ومواقف مختلف الفصائل العاملة في كل مرحلة منها؛ وقد آثرنا هذا المنهج على الرغم من أنه يقودنا إلى بعض التكرار الذي تستوجبه ضرورة البحث من جهة، ولأننا بواسطته نتجاوز أكثر ما يمكن من الثغرات من جهة أخرى.
إن ما نتوخاه، من نتائج للدراسة، هو الوصول إلى مسافة أقرب من الموضوعية، لكي تسهم في تطوير عمل الكفاح الشعبي المُسَلَّح على الساحة اللبنانية لكونها ظاهرة وطنية لها فعلاً عمق قومي وحدوي مباشر مع المقاومة الفلسطينية، لا تفصل بينهما حدود: لا باسم الاستقلالية، ولا باسم الخصوصية-كما بفهمها القطريون- ولكن علاقتهما عضوية يحكمها التكامل والتفاعل-كما يراها القوميون.
نتمنى أخيراً أن لا يكون التحليل قد جنح بنا-في بعض الأحيان-إلى أي موقع فئوي عند الكلام عن تجربة حزب البعث العربي الاشتراكي، لأننا حاولنا إعطاء تلك التجربة حقها من التقييم؛ فهي تجربة شقَّت طريقها عبر عشرات السنين؛ وتعمَّدت، ولا تزال، بالدم والجهد والشهداء.
ولا بُدَّ، أخيراً، من الإشارة إلى أننا لن نتعرَّض إلى الاقتتال الداخلي على الساحة اللبنانية إلا ما نراه ضرورياً لتوضيح بعض مفاصل البحث؛ وقمنا بهذا التجاوز على الرغم من معرفتنا أن ذلك الاقتتال يصب، من خلال نتائجه غير المباشرة، في مصلحة العدو الصهيوني.
لبــنان تشرين الثاني/نوفمبر 1987م.

الفصــل الأول
المقدمـات الموضوعية للمقاومة الوطنية اللبنانية
لقد استحوذت المقاومة الوطنية اللبنانية على اهتمام الرأي العربي والدولي في أعقاب اجتياح قوات العدو الصهيوني للأراضي اللبنانية في السادس من حزيران/يونيو من العام 1982م.
كانت المقاومة، بالفعل، في مقدار الاهتمام الذي حصلت عليه. وتحكم على ذلك نتائجها العملية الرائعة، فهي قد: فرضت انكفاءً على المشروع الصهيوني التوسعي على حساب الأراضي اللبنانية، وانعكست حالة من الثقة بالنفس في صفوف الجماهير العربية المُتعطِّشَة للنصر من بعد أن أرهقتها الهزائم المتتالية.
تحوَّلت تلك الظاهرة الوضَّاءَة في الليل العربي إلى سلعة للمتاجرة والمزايدات الداخلية. وإذا كان من المبكِّر أن نُصدر تقييماً نهائياً، أو أن نضع في الميزان النقدي ظاهرةً رائعةً مُشْرِقةً في تاريخ القطر اللبناني خاصة، وفي تاريخ الصراع العربي-الصهيوني عامة، نرى لزاماً علينا، ونحن نخوض هذه التجربة ميدانياً، أن نُلْقيَ أضواءً نراها ضرورية لتكشف عن مواطن الخلل الحاصل في مسيرتها، والتي قد تؤدِّي إلى الانحراف بها عن الاتجاه الصحيح المرسوم لها في معركة المواجهة العربية-الصهيونية.
كيف برزت تلك الظاهرة؟ ما هي مقدِّماتها؟ ما هو القانون الفكري والاجتماعي الذي سيَّر حركتها؟ من هو التنظيم أو من هي الجماعات أو الأفراد الذين يشكِّلون عصبها البشري؟ وكيف أثَّرَت في وقائع الصراع العربي-الصهيوني؟
في داخل هذا السياق نرى أنه من واجبنا، أمام التاريخ، أن نُسَجِّل رأياً قائماً على تحليل ينطلق من الأفق القومي، الذي نستند إليه من خلال مشاركتنا في أعمال المقاومة الوطنية اللبنانية، ودافعنا المباشر أن لا تبقى أسيرة الإعلام الفئوي المنتفع-على المستويين القطري والقومي. إن هذا الإعلام يقود حملة من التزوير الفئوي الواسع مستفيداً من حريته في الحركة، وهيمنته على بعض وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة.
يتابع الرأي العام-عادة-نتائج الظواهر، وقليلاً ما يهتمُّ بالأسباب والمقدمات؛ بينما القانون العلمي يؤكِّد على الترابط الوثيق بين الظواهر الاجتماعية والسياسية وبين مقدماتها. فكل ظاهرة لا يمكن أن تنتج من فراغ، فالمقدمات المحدَّدة في حياة جماعة ما تؤدِّي إلى بروز ظواهر محدَّدة مرتبطة ارتباطاً منطقياً بمقدماتها.
فما هي العوامل والأسباب التي، بتراكمها، أُدَّت إلى بروز ظاهرة المقاومة الوطنية اللبنانية؟
لا بُدَّ، قبل أن نخوض في بحث هذه المسألة، من استعراض الاتجاهات الفكرية والسياسية العاملة، ميدانياً، على الصعيد العسكري، لأنه يلقي، كما نحسب، أضواءً تساعدنا للوصول إلى استنتاجات أقرب إلى الموضوعية.

I- متى انطلقت المقاومة الوطنية اللبنانية من وجهة نظر التيارات العاملة في صفوفها؟
لقد تباينت التقديرات حول تحديد اليوم الذي انطلقت فيه المقاومة الوطنية اللبنانية؛ وكان الالتباس متعدِّداً و مُتشعِّباً تعدد وتشعُّب التنظيمات والأحزاب التي تلعب دوراً فيها. وقبل أن نستعرض الأسباب التي -كما نحسب-تشكِّل الأهداف الحقيقية لكل تنظيم، والتي جعلته يحسب أن يوم الانطلاقة الأول هو اليوم الذي ابتدأ فيه عملياته العسكرية ضد قوات العدو، سنقدِّم عرضاً مُوسَّعَاً مُدعَّمَاً بالوثائق لمختلف وجهات النظر، وتأتي الأهمية من تركيزنا على هذه المسألة مستندة إلى ما لحق بتحديد يوم الانطلاقة الأول من تشويه أو بتر أو تزوير أو استغلال في سبيل الحصول على مكاسب سياسية فئوية ضيِّقة. وسنقسم، في بحثنا، التيارات التي تعارضت مواقفها حول تحديد يوم الانطلاقة، على الشكل التالي:
-التيار الأول: التيار الماركسي ويشمل الحزب الشيوعي اللبناني، ومنظمة العمل الشيوعي.
-التيار الثاني: الحزب السوري القومي الاجتماعي.
-التيار الثالث: وتمثِّله الاتجاهات المذهبية والطائفية الإسلامية.
-التيار الرابع: ويمثله الاتجاه القومي العربي.
***

التـيار الأول: التيار الماركسي:
وسنستعرض مواقف كل من الحزب الشيوعي اللبناني، ومنظمة العمل الشيوعي.
أ-الحزب الشيوعي اللبناني:
حدَّد هذا الحزب تاريخ الانطلاقة كما يلي: «في السادس عشر من أيلول…من العام 1982، عندما كانت قوات الغزاة الصهاينة تجتاح بيروت، أُعْلِنَ القرار التاريخي بدعوة من الوطنيين اللبنانيين لتنظيم صفوفهم كافة» ( )؛ ومن ثَمَّ «كرَّت سلسلة العمليات البطولية الرائعة من العملية الأولى في 20/9/1982، والتي صدر عنها البلاغ رقم واحد…» ( ).
وقد كان طبيعياً أن تكون القوى الديموقراطية-يستطرد كريم مروَّة-«وفي مقدِّمتها الشيوعيون هي القوى التي اضطلعت بمهمة الكفاح في المرحلة الأولى من انطلاقة جبهة المقاومة» ( ). «وقد تميَّز الشيوعيون في هذا الموقف، وظلُّوا إلى فترة طويلة من الزمن يقومون بالقسط الأساسي من العمليات، كمَّاً ونوعاً» ( ).
ويحدِّد الحزب الشيوعي مقدمات المقاومة، فيحصرها بتقاليد كفاحية: بعضها قديم وبعضها جديد معاصر. أما القديم فيعود إلى مقاومة الاحتلال العثماني، وكذلك الانتداب الفرنسي؛ أما المعاصر فتُعبِّر عنها ثورة العام 1958م، «وكذلك الحرب الأهلية الراهنة، التي اشتركت فيها الحركة الوطنية اللبنانية والثورة الفلسطينية في عمليات مقاومة متعدِّدة ضد محاولات غزوٍ وعدوانٍ إسرائيلية تكررت عدة مرات» ( ).
إن التجربة الراهنة-كما يراها الحزب الشيوعي اللبناني «جاءت استمراراً وتواصلاً من نوع جديد لحالة تاريخية لعبت الطليعة الثورية في قيامها دوراً أساسياً، عبَّر عنه هذا الشكل من التنظيم المتين الراسخ الذي أعطاها هذه القدرة على الاستمرار والتواصل بدون خلل» ( ).
ولذلك، فإن التقاليد الكفاحية، التي سبقت بيان 16 أيلول/سبتمبر من العام 1982م، كان فيها ثغرات عديدة-كما يحسب الحزب. أما الفترة التي عاصرت البيان، وحتى نيسان/أبريل من العام 1984-فقد كانت الفترة الذهبية للمقاومة، وبعد ذلك أخذت في التقهقر.( سوف نطَّلِع على ذلك في الفصول اللاحقة من هذه الدراسة).
ب-منظمــة العمل الشيوعي:
حسبت المنظمة أنه «في السادس عشر من أيلول 1982 ارتفع على لسان قيادة الحركة الوطنية اللبنانية نداء المقاومة الأول…» ( ). وكما تحسب المنظمة، فقد «بدأت هذه المقاومة مع الأيام الأولى لدخول العدو الإسرائيلي إلى بيروت. وهذا التحدي الناجم عن إعلان جبهة المقاومة الوطنية في 16 أيلول، يجب أن لا يُنْسينا-بالطبع-الدور الهام لكل المقاتلين الذين تصدُّوا للعدوان منذ السادس من حزيران 1982» ( ). وعلى الرغم من أن أنصار جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ( ) يحددون، في الكتاب الذي أصدروه، الخسائر في صفوف العدو-كما جاء على لسان الناطق العسكري الإسرائيلي- بمقتل 368 جندياً إسرائيلياً وجرح 2383، وذلك بعد أن توقفت العمليات العسكرية الإسرائيلية في 28/9/1982( )، فإن الأنصار يعدُّون فقط أن «السادس عشر من أيلول هو يوم مجيد في تاريخ وطننا، بل في تاريخ الأمة العربية جمعاء» ( ).
أما لماذا تؤكِّد المنظمة هذا التاريخ؟ فهنا تلجأ إلى تعداد الأسباب التالية:
أ) إن الأطراف المشاركة في الجبهة في ذلك التاريخ «ناقشت مسألة الاسم طويلاً بصفتها مسألة سياسية نضالية جوهرية، وليست مجرد إجراء شكلي».
ب) لا يمكن طمس دور بيروت في مقاومة الاحتلال، وهي التي قاتلت العدو، وهناك أُعلِن عن قيام جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية؛ ولذلك «وإذا كانت بيروت هي مكان الانطلاقة فإن السادس عشر من أيلول 1982 هو زمانها».
ج) لا يمكن أن يًؤرَّخ للانطلاقة «بغير السادس عشر من أيلول، لأن العمليات التي سبقت هذا اليوم تمَّت في إطار القوات المشترَكة للثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية»؛ وما جاء بعد هذا اليوم هو ترجمة عملية لهذا النداء الأول.
د) إن الانطلاقة كانت امتداداً «لنضال الجسم الذي بقي حيَّاً من الحركة الوطنية اللبنانية في تلك الظروف الاستثنائية».
هـ) إن من أطلق هذه المقاومة كان، دون غيره، مضطلعاً بذلك، لأنه يعي دون غيره«طبيعة الأهداف الأصلية والأصيلة في لبنان»؛ ولم يكن شيء يقنعه ببراءة «إسرائيل» من الأطماع في الأرض والسيادة والسياسة اللبنانية( ).

الثـاني: التيـار الإقلــيمي:
ويمثِّله الحزب السوري القومي الاجتماعي: الذي حَسَب أن الانطلاقة كانت في 21 تموز/يوليو من العام 182. و فيه قامت مجموعة من الحزب باختراق «أحزمة أمن العدو إلى عمق الجنوب في القطاع الشرقي…إيذاناً بانهيار نظريته (سلامة الجليل) وبانفجار المقاومة الوطنية» ( ). أما الفترة التي سبقت 21 تموز/يوليو 1982، فأين موقعها عند الحزب؟
يحسب الحزب السوري القومي الاجتماعي «أن مواجهة الاحتلال قد حصلت، ولكنها لم تكن بالمستوى المطلوب، ففي بعض المواقع تكبَّدت القوات الاسرائيلية خسائر فادحة. وللحزب دوره في هذا المجال» ( )؛ و«كانت قوات الحزب القومي هي الأخيرة التي تركت المنطقة بعد أن انسحب الآخرون» ( ).

التـيار الثالث: الاتجاهات المذهبية والطائفية الإسلامية.
يضم هذا التيار كلاً من حركة أمل، والمقاومة الإسلامية (حزب الله).
أ-حركــة أمـل: تحسب الحركة أن التحضير للعمل العسكري قد بدأ بعد أنصار الأولى( )، وتمَّ ذلك من «خلال الممارسة والعمل، وإن حركة أمل هي القوة الوحيدة التي قاتلت الإسرائيليين( ).
لكن هل يتَّفق الحركيون على هذا التاريخ؟
يبدو أن هناك تناقضات حول هذه المسألة، ففي مكان آخر يحدِّد مسؤول حركي آخر تاريخاً آخر لبدء العمليات العسكرية، وقد جاء على لسانه: «نحن ابتدأنا العمليات العسكرية أواخر العام 1982، وفي مناطق عِدَّة» ( ).
ويقول حركي آخر-يبدو من خلال المقابلة معه أن موقعه كان متقدِّماً في العمل العسكري- : إن أحد المسؤولين في حركة أمل لم يستجب له عندما كان يطلب منهم القيام بعمليات عسكرية، كما أن مسؤولاً آخر كان يُحَذِّره من مغبة هذا الطلب. ويظهر من خلال المقابلة معه: أنه في حزيران/ يونيو من العام 1983م،تقريباً، استطاع أن يتَّصل بقيادته في بيروت لكي تؤمِّن له الإمكانيات العسكرية( ).
أما المقدمات التي سبقت ممارسة حركة أمل للعمل العسكري المقاوم ضد العدو، فهي «التراكم الثقافي المُخْتَزَن عند العاملي [نسبة إلى جبل عامل]… ثم الوعي لهذا المخزون وكيفية الاستفادة منه…هذان الأمران اختصرا المدة التحضيرية لجيل مقاوم؛ إذ أمكن-خلال ثلاث أو أربع سنوات-من إيجاد عناصر قيادية واعية نظرياً، ومستوعبة وسائل التطبيق النظرية» ( ).
فكيف واجهت حركة أمل جيش العدو في أثناء دخوله إلى أرض الجنوب، وكيف كان الوضع آنذاك؟
تصفه رباب الصدر بأنه «كان رهيباً ما حدث، و ليست رهبته من حجم الهجوم العسكري براً وجواً وبحراً، وإنما لسرعة التقدُّم وانعدام المقاومة» ( ). لكن الوضع لم يبق على حاله، لأنه نشأت المقاومة بفعل اكتمال وعي الوجدان الوطني العام. وقد اكتملت الاستعدادات، التي لم تكن وقفاً على جماعة وطنية دون الأخرى؛ ولذلك كان لا بد من معاهدة-هدنة إن لم تكن معاهدة سلام دائم بين الجماعات الوطنية «بفضل زوال الحالة المعروفة، التي كانت سبب الصراعات الجانبية» ( ).
ولكن يبدو أن حالة الإحباط التي أُصيب بها المواطنون الجنوبيون في بداية الاجتياح لم تكن لتخيف قيادات حركة أمل ولا عناصرها؛ ولم يُشكِّل الاحتلال علامة استفزاز تدعوهم للمقاومة، فما هو السبب؟
في خلال الأسبوع الأول للاحتلال الصهيوني، يقول محمود فقيه: «سرَّبت [سلطات الاحتلال] للناس أن في استطاعة من يملك سلاحاً أن يحتفظ به لنفسه"( )؛ ولذلك-يتابع فقيه: نرى أن هناك قرى يحمل فيها الحركيون سلاحهم بحريَّـة( ).«وفي قرى أخرى أخذت «إسرائيل» أسلحة التنظيمات، وقليلاً من سلاح الحركة» ( ).

ب) المقاومــة الإسـلامية ( حزب الله):
أعلن هذا التيار عن نفسه بعد الاجتياح الصهيوني في العام 1982م، وهو يحسب «أن المقاومة الإسلامية تُشكِّل بداية مرحلة جديدة ونوعية في تاريخ الصراع مع «إسرائيل»» ( ).
ينفي تيار المقاومة الإسلامية وجود صراع حقيقي مع العدو الصهيوني قبل ولادة «المقاومة الإسلامية»؛ و إنما كانت « هناك حرب إعلامية وسياسية، ولم تكن هناك حركة صراع مادي-عسكري حقيقي» ( ). بل إن السابقات على (المقاومة الإسلامية) كانت «تقاتل من داخل دائرة الاستعمار» ( )؛ و كان هدفها «استعادة الأرض مع غض النظر عن الوسيلة والأسلوب» ( )، مثل اللجوء إلى المنظمات الدولية.
إذن، لماذا انطلقت (المقاومة الإسلامية)؟ ومتى ؟ وكيف ؟
إنطلق هذا التيار استناداً إلى مُمَيِّزين: فكري وسياسي؛ أما الفكري فهو يحمل «عاطفة وأحاسيس ومشاعر هي من صلب عقيدة و ثقافة وعواطف هذه الأمة» ( ). وأما السياسي فيرتكز إلى ما قاله الخميني: «يجب أن تزول «إسرائيل» من الوجود» ( ).
انطلق التيار الإسلامي المقاوم بعد أن وصل الخميني إلى السلطة في العام 1979م. وحسب أن «هذه الثقافة أو الحالة الجديدة قد جاءتنا مع حرس الثورة الإسلامية…فنحن حينما نستعين بنفس الوسائل ونعمل بها في لبنان، نكون قد استعملنا وسائل مجدية أثبتت فعاليتها وقدرتها على تحقيق الانتصار» ( ). و يتمثَّل النموذج الإيراني، الذي خلق الحالة البطولية المزعومة، في أن بعض المجاهدين في (المقاومة الإسلامية) يقتحم المواقع العسكرية للعدو «بروحية أن الإمام الحسين (ع) فيه، وإنه سيختار عدداً من المجاهدين ليأخذهم معه» ( ).
وبالاستنتاج نستطيع، في ظل غياب تحديد يوم انطلاقة المقاومة الإسلامية، أن نؤكِّد أن انطلاقة هذا التيار ترافق مع الاحتلال الصهيوني للأراضي اللبنانية في العام 1982م، وذلك على الرغم من أن أحد مسؤوليه يُحَدِّد أسباب مواجهة العدو بأنها «ليست كما يتصور البعض بأنها ناتجة عن الاجتياح؛ كلا، إنما هي عقيدة وفكرة المواجهة، الموجودة والكامنة في نفس كل إنسان مسلم، بشكل خاص؛ وكل إنسان يتطلَّع إلى تحرير نفسه ووطنه وأمته بشكل عام» ( ).
التـيار الرابـع: الاتجـاهات القوميـة
سنتناول هنا، فقط، الاتجاهات التي تتبنى فكرة القومية العربية، وتمارس دورها العسكري ضد العدو الصهيوني على الساحة اللبنانية، والتي تتمثَّل في حزب البعث العربي الاشتراكي.
حدَّد حزب البعث العربي الاشتراكي خياراته منذ تأسيسه في العام 1947م في وجوب القتال ضد العدو الصهيوني. ومن منطلق قومية الصراع مع الوجود الصهيوني، وعلى رأس أهدافه-عبَّر ميشيل عفلق مؤسس الحزب قائلاً: «أمتي موجودة حيث يحمل أبناؤها السلاح»؛ و «فلسطين لن تحرَّرها الحكومات وإنما الكفاح الشعبي المُسلَّح».
انطلاقاً من مبادئ الحزب وأهدافه، ومن منظوره القومي للصراع العربي-الصهيوني، كان تاريخه حافلاً بالتثقيف والإعداد والمشاركة، على كل المستويات الشعبية والرسمية، بالكفاح الشعبي المسلح، وبمشاركته النظامية على معظم الجبهات العربية. ولِمَنْ يريد الاستزادة يمكنه العودة إلى آلاف الوثائق المنشورة. ولن ندخل في تفاصيل الدور القومي للحزب على هذا الصعيد، بل سنقتصر في هذه الدراسة على تسجيل دوره على صعيد القطر اللبناني، وعلى تجربته في مقاومة العدو الصهيوني منذ بدايات المقاومة حتى الآن. ولم تكن البدايات كما صوَّرتها مختلف التنظيمات من أنها قد انطلقت بعد العام 1982م، ولكنها سبقتها بزمن طويل.
وكي لا نُخَصِّص للحزب فصلاً خاصاً، لنستعرض من خلاله دوره ورؤيته في المقاومة، فإننا سنقوم بذلك من خلال مناقشة آراء ومواقف التيارات الأخرى.


II- مناقشة مواقف وآراء تيارات المقاومـة.
في بدايات العام 1984م، شهدت ساحة المقاومة الوطنية اللبنانية سباقاً محموماً بين كل التيارات العاملة في صفوفها، وكلٌ منها يدَّعي أنه احتلَّ الموقع الريادي، مستخدماً مختلف وسائل الإعلام: من صوتية ومرئية ومكتوبة، كذلك حلَّقوا في أجواء الندوات والمؤتمرات والمهرجانات، وكل حزب بما لديهم فَرِحون، والقصد من وراء كل ذلك الاستفراد واحتكار الانتصار الجزئي الذي حصَّلته المقاومة ضد قوات العدو الصهيوني.
اعتمد كل تنظيم، في تحديد أسسٍ للعمل الثوري، على مُسَلَّمات تخدم أهدافه الفئوية، وقد تناسى كل منها مسألتين مهمتين: الأولى و هي أن الجميع كشفوا ما لا يجب كشفه مما ينال الأمن الخاص لكل تنظيم والأمن العام لعمل المقاومة ككل. أما الثانية فهي السطو على كتب التاريخ لتمزيق الصفحات التي تدين نرجسية هذا التنظيم أو ذاك، أو اقتباس الصفحات التي تعطي تنظيماً أو آخر فضلاً و أرجحية في العمل المقاوم.
كيف حصل كل هذا؟
بالنسبة للمسألة الأولى، والتي تتعلَّق بأمن المقاومة الخاص وأمنها العام، فإن العودة مفيدة إلى ملفِّ جريدة السفير، والذي نشرته تحت عنوان (المقاومة)، وابتدأت حلقته الأولى في 23/6/1986، وانتهت حلقاتها بتاريخ 27/11/1986.
لقد نُشِرَ في المقابلات، بنوع خاص، كل الغسيل الذي يسيء إلى وحدة العمل المقاوم من جهة، وتفاصيل عن أسماء أشخاص وأمكنة ووسائل تخدم مخابرات العدو من جهة أخرى. فإن أقلَّ ما يُقال في هذا التسابق المحموم أنه يفتقد للكلمة العاقلة والمسؤولة.
أما بالنسبة للمسألة الثانية وهي التي تتعلَّق بالمواقف والأدوار، وبالمقدمات التي شكَّلت الأسباب الفعلية لانطلاقة المقاومة الوطنية ومدى فعاليتها، فالتزوير فيها واضح، لأنه عمل على مسخ الوقائع التاريخية، وفسخ المقدِّمات عن نتائجها بما يتنافى مع أدنى حدود المنطق العلمي، الذي وإن كان مُبَرَّراً للحركات الظرفية التي لا علاقة لها بالمنطق و العلم، وجريمتها أنها تعمل بما لا تعلم؛ أما من يَدَّعي المنطق و الأعلمية فإن جريمته أكبر وأدهى، لأنه يعمل ضد ما يعلم.
بناءً عليه، نرى أن كل التيارات التي تعمل اليوم-أي في الوقت الذي أُنْجِز فيه البحث-والتي نضعها تحت المجهر، قد اتَّفقت على أن المقاومة الوطنية اللبنانية قد انطلقت بعد العام 1982، وهو تزوير قد وقع الجميع في مطبَّاته؛ لكن الفارق بينهم أن بعضهم زوَّر عن سابق تصور وتصميم، والبعض كان الجهل رائده. وتأسيساً على ذلك لنفتح صفحات الوثائق:

1) مناقشـة التيار الماركسي:
أ-منظمـة العمل الشيوعي:
كرَّست المنظمة 16/9/1982 يوماً مجيداً في تاريخ لبنان، وحسبت أن هذا اليوم بداية انطلاقة المقاومة الوطنية اللبنانية من بيروت، لكنها نسيت أنها في العدد نفسه من مجلة بيروت المساء قد نعت أحد مناضليها كشهيد للمقاومة الوطنية على الرغم من أنه سقط في 6/6/1982 في جنوب لبنان( ). و مع أن المنظمة لم تنس الدور المهم للذين تصدُّوا منذ السادس من حزيران/يونيو، لكنها نسيت الكثير من الشهداء اللبنانيين، الذين كانوا الرواد الأوائل لمقاومة الوطنية قبل السادس من حزيران في العام 1982، وهذا ما سوف تتضمنه دراستنا هذه في حينه.
ولعلَّ العودة إلى أدبيات المنظمة وملفَّاتها المنشورة( )، تعطي الدلالة على القصد منها، فهي تتصوَّر الواقع جامداً مُشَتَّت الوقائع والأحداث قبل 16/9/1982، لذا فهي تُغَيِّب البطولات التي حصلت في أثناء التصدِّي للاجتياح، وذلك لا تطغى تلك البطولات على ما سَمُّوه يوماً تاريخياً، مع العلم أنها لا تستطيع إغفال واقعية سقوط 368 قتيلاً للإسرائيليين وآلاف الجرحى قبل 16/9/1982.
إن ما تحسبه المنظمة من أن 16/9/1982 كان يوم الانطلاقة الأول، لأن كل ما سبق هذا التاريخ كان في إطار القوات المُشْتَرَكة للثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. فإذا ما تجاوزنا جوهر العلاقة العضوية بين الثورة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية، فماذا لو استعرضنا تجربة معارك الطيبة وكفركلا التي أُعِدَّ لها قبل 1/1/1975 بسنوات عديدة؟ تلك التجربة التي كان حزب البعث العربي الاشتراكي هو السبَّاق فيها. فهو قد بدأ بالاعداد لها منذ العام 1968، أي قبل تأسيس المنظمة بثلاثة أعوام. وفي الوقت الذي كان يعتبر فيه الحزب الشيوعي أن المقاومة المسلحة «عمل مغامر». وهنا نتساءل أيضاً: هل كانت تلك التجربة في إطار القوات المشتركة للثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية؟!!!
أما إذا كانت المسألة تدور حول إعطاء أفضلية السبق الإعلاني ل«لجسم الذي بقي حيَّاً من الحركة الوطنية اللبنانية» في تلك الظروف، وهو تعبير كان يحلو للأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي أن يعلنه في مقابلاته الصحفية أو الخطابية، فليس من حق المنظمة أن تُحيي من تشاء وتميت من تشاء، وبالتالي لسنا ندري إلى ماذا استندت المنظمة في حكمها باستصدار شهادة وفاة للآخرين؟!!!
وإذا كانت المسألة في من يعي، دون غيره، طبيعة الأهداف الصهيونية وأطماع «إسرائيل» في الأرض والسيادة، فليس أمام المنظمة إلا أن تعود إلى التاريخ السياسي والفكري والنضالي للأحزاب والحركات القومية، ليس قبل انطلاقة المقاومة الفلسطينية فحسب، وإنما ندعوها إلى مراجعة هذا التاريخ قبل العام 1948م أيضاً، إي قبل ولادة منظمة العمل الشيوعي بأكثر من خمس وعشرين سنة.
لعلَّ أغراض المنظمة، من وراء تناسي التاريخ أو عدم قراءته، تأتي من سياق الجهل للقراءة، ولكنه يصُبُّ على أية حال في غرضية الكسب الفئوي ولأغراض أخرى، سوف نحددها في أثناء تحليلنا للتيار الماركسي في هذا البحث. ولكنه من المفيد أن نُحَلِّل الخلفيات التي تلقي الضوء على حقيقة مواقف المنظمة:
أعلنت منظمة العمل الشيوعي عن نفسها في أيار من العام 1971م. وكان مؤسسوها مجموعات من حركات القوميين العرب، وعدد من البعثيين والشيوعيين السابقين . ولهذه المجموعات جذور من التنافس مع الفكر القومي العربي الاشتراكي منذ الخمسينات من القرن العشرين، و كانت تريد باستمرار أن تميِّز نفسها عن التنظيمات التي انشقَّت عنها. فلذلك وقعت أسيرة التبرير والتميز الفئوي الضيِّق.
وإلى أن استطاعت أن تظهر كتنظيم له الحق في أن يكون في الصف الجبهوي للحركة الوطنية اللبنانية، كانت قد مرَّت أحداث وأحداث في تشكيل البدايات الأولى للمقاومة الوطنية؛ ومع أن تلك البدايات قد سُجِّلَت في التاريخ، فقد اتَّخذت المنظمة جانب نسيانها وإهمال العودة لقراءتها.

ب-الحـزب الشيوعي اللبـناني:
إن تحديد تاريخ 16/9/1982 بداية إعلان قرار تاريخي-كما وصفه الحزب الشيوعي اللبناني-ليس له إي مضمون علمي أو منطقي أو موضوعي أو تاريخي؛ لأن هذا الإعلان خالٍ من كل تلك المضامين، فقد سبق للحزب الشيوعي أن حدَّد أياماً أخرى وعدَّها أنها مجيدة في التاريخ. ولحسن الحظ-حظ من يريد أن يقرأ-أن إعطاء صفة لتلك الأيام المجيدة جاءت في بيانات وكتابات الحزب الشيوعي في وصف أعمال المقاومة الوطنية اللبنانية التي سبقت 16/9/1982 بسنوات عديدة.
إن مقاومة تُوصَف بالملحمة، أو أنها تُحدِث خللاً أساسياً في حسابات العدو، لا بد أنها تُسَجَّلُ يوماً تاريخياً ومجيداً أيضاً؛ وهناك أحداث حصلت قبل العام 1982م بسنين عديدة؛ فما هو رأي الشيوعيين اللبنانيين بها؟ لعلَّ ما كتبوه في مجلة الطريق يؤكِّد على ذلك. وسوف نُذكَّر بمثلين فقط من التاريخ المقاوم للبنانيين:
الأول: «عندما أُطلق على مقاومة كفركلا للعدوان الإسرائيلي صفة الملحمة، لم يكن ذلك من قبيل المبالغة. لقد كان ذلك تأكيداً على ما ترتديه هذه المقاومة الشعبية من أهمية تاريخية وراهنة» ( ).
الـثاني: «أن قدرة المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية قد أحدثت خللاً أساسياً في حسابات «إسرائيل» رغم التفاوت الهائل في حجم القوى المتقابلة في 16/3/1978»، وذلك عبر «المقاومة التي شكَّلت نوعاً من المعجزة …والتي لم يكن العدو الإسرائيلي ليتوقَّعها… والتي حظيَت بالتقدير والإعجاب على الصعيدين العربي والعالمي. هذه المقاومة التي استمرَّت أسبوعاً كاملاً لتجعل من الجنوب أطول حرب عربية-إسرائيلية، وأكثرها خسائر للجانب الإسرائيلي المعتدي»( ).
وقياساً على ذلك فقد وصف الحزب الشيوعي الاعتداء على قرية الطيِّبة في 1/1/1975، والتصدي للعدوان، باليوم التاريخي( ).وقيَّم أمينه العام المجابهة التي واجهت العدو الصهيوني منذ 6/6/1982، قائلاً: «كان ينبغي أن يُسْتَغْرَب فعلاً كيف استطعنا أن نمنع «إسرائيل» من الوصول إلى حدود بيروت طيلة عشرة أيام، وهي لم تستغرق إلا ست ساعات للوصول إلى قناة السويس عام 1967، وبضعة أيام كانت كافية لتأكيد استعادة هيمنتها على الجبهات العربية عام 1973» ( ).
لماذا يُصِرُّ، إذاً، الحزب الشيوعي على تحديد يوم محدَّد لانطلاقة المقاومة؟ ولماذا يصف يوم 16/9/1982 بيوم الانطلاقة الأول، وهذا ما يتناقض مع مواقفه السابقة من خلال وثائقه، التي يؤكِّد من خلالها وجود محطات تاريخية عديدة تؤكد أن مسيرة المقاومة الوطنية اللبنانية قد انطلقت قبل 16/9/1982؟ فهل يريد الحزب الشيوعي أن يمسح من التاريخ أي علامة أو بصمة تدل على أن للتيارات القومية دور أساسي في بناء صرح للمقاومة الوطنية فاستغل أول فرصة ليحقق ما يريد؟
نتمنى أن تكون حساباتنا خاطئة، إلا إذا كان ما جاء على لسان كريم مروة -عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي-زلَّة لسان غير مقصودة. ففي معرض كلامه عن المقاومة الوطنية اللبنانية يُؤكِّد ما يلي: «في الواقع فقد نشأ في لبنان، عبر التاريخ، تياران أسهما في تفكك الأسس التي تقوم عليها الوطنية اللبنانية…وهذان التياران ولَّدتهما النزعات الطائفية من جهة… والأخطاء التي ارتبطت بالدعوة المعاصرة إلى الوحدة العربية، والانخراط في النضال القومي العربي التحرري… [بشكل]…يتجاوز الحدود الوطنية لكل بلد، حتى التنافس المصطنَع مع القضايا الوطنية الملموسة لهذا البلد» ( ).
إننا نتساءل: ما هي المتغيرات التي حصلت قبل أيلول/سبتمبر 1982؟
كان خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان من أهم المتغيرات، وهي التي تمثِّل القضية القومية العربية الأهم، وتلاها انكفاء علني مؤقت لنشاط حزب البعث العربي الاشتراكي على الساحة اللبنانية بسبب ظروف قسرية، وهو الذي يمثِّل الثقل في التيار القومي العربي عليها.
إن ابتعاد الحزب الشيوعي اللبناني عن خطوط التماس مع القومية العربية من خلال أهم تعبيرين تتمثل بهما، وهما: المقاومة الفلسطينية و حزب البعث العربي الاشتراكي، قد شكَّل له مُتَنَفَّساً للعودة إلى قوقعته القطرية بعيداً عن عوامل الضغط المباشرة. لذلك نحسب أن السبب الذي دفع بالحزب الشيوعي إلى التأكيد على الهوية القطرية للمقاومة ليس إلا لكي يستفرد بالواجهة الإعلامية، مستغلاً التغييب القسري المؤقت لدور حزب البعث العربي الاشتراكي عن الإعلام من جهة، وعلى ضعف قدرة الأطراف الوطنية الأخرى عن منافسته من جهة أخرى.
إن تغييب وسائل الإعلام اللبنانية لدور القوى القومية عن واجهة الصراع مع العدو الصهيوني في أثناء فترة الاحتلال في العام 1982، قد أفسح في المجال أمام القوى الأخرى كي تستثمر، إعلامياً، جهد الآخرين لمصلحتها الفئوية؛ ومن هذه القوى كان الحزب الشيوعي الذي حاول أن يصوِّر في وسائل إعلامه، التي لم تسمح تحالفاته بمصادرتها، أن المقاومة الوطنية اللبنانية لم تُوْلَد إلا بجهد الطلائع الشيوعية وحدهم. ولن تستقيم الأمور في داخل المقاومة إلا إذا بذل الملتزمون بفكر الطبقة العاملة كل جهودهم. ولن تكون هناك مبادرة إلا إذا لعب الشيوعيون في خلقها الدور التاريخي( ) !!!! ونحن لا ندري، هنا، كيف مارس الحزب الشيوعي تلك الطلائعية في عمل المقاومة في الوقت الذي اعتقلت فيه قوات الاحتلال-كما ورد في تصريح لمسؤول شيوعي-90% من عناصره لمدة تتراوح بين الشهر والسنتين؟!!!( ).
ج-مناقشـة عامـة للتيارات الماركسـية:
لم يستطع أي طرف من التيار الماركسي أن يعطي تفسيرات منطقية لتثبيت يوم 16/9/1982، كبداية لانطلاقة المقاومة الوطنية اللبنانية، كما ورد في أثناء مناقشتنا لكل منهما على حِدَة. لهذا فإننا نفترض ما يلي:
1) يدَّعي التنظيمان أن بياناً صدر في 16/9/،1982 عن الأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي والأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني يدعوان فيه إلى مقاومة العدو، هو الانطلاقة الأولى.
فلو افترضنا أن قيام ظاهرة ما تعتمد على صدور بيان يُسمَّى البلاغ رقم واحد-كما جاء عند جورج بطل-لاستطعنا أن نُخْرِج من الأرشيف الصحفي العديد منها، وشارك في صياغة البعض منها وفي التوقيع عليها كل من الأمينين العامَّين المذكورين. ومن هذه البيانات نُذَكِّر بتلك التي كانت مُوَجَّهَةً من المجلس السياسي للحركة الوطنية اللبنانية:
البـيان الأول: صدر بتاريخ 16/6/1982، وفيه أعلنت الحركة الوطنية قرار «القتال من غير حدود دفاعاً عن أرض الوطن». وجاء هذا الإعلان بعد اجتماع طارئ عقدته اللجنة التنفيذية للمجلس السياسي المركزي للحركة الوطنية اللبنانية( ). وتجدَّد النداء في 7/6/1982.
البـيان الـثاني: صدر بتاريخ 17/3/1978، على إثر اجتماع قيادة الحركة الوطنية اللبنانية في أعقاب اجتياح العدو الصهيوني لجزءٍ من أراضي الجنوب صباح 16/3/1978. ومن ذلك الاجتماع وجَّهَت القيادة نداءً أعلنت فيه التعبئة الشاملة، ودعت إلى قتال العدو من أجل تحرير الأرض من دون قيد أو شرط. وثمَّنت القيادة، في بيانها المذكور، البسالة الرائعة التي أظهرتها القوات المُشْتَرَكة للحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية في مواجهة العدو( ).
أَلا يُمْكِنُ اعتبار هذين البيانين، أو أحدهما على الأقل، أنه البلاغ رقم واحد؟ فلكل منهما أرجحيتان على بيان 16/9/1982: الأولى وتتعلَّق بأسبقيتهما التاريخية، والثانية أنهما صادران عن قيادة جبهوية للأحزاب الوطنية اللبنانية؛ فقد حضر الاجتماع الذي صدر عنه البيانان ممثِّلون عن جميع الأحزاب التي أماتت منظمة العمل الشيوعي-فيما بعد-بعض أطرافها، وأحيت البعض الآخر. فبيان 16/9/1982، لا يُمَثَّل أي إطار جبهوي لأنه لم يُعَبِّر عن لسان قيادة الحركة الوطنية اللبنانية بعكس ما ورد في بيان المكتب السياسي لمنظمة العمل الشيوعي( ).
2) بعد صدور بيان 16/9/1982، أُعْلِنَ البلاغ العسكري الرقم واحد الذي يُعلِن عن أول عملية عسكرية في ليل 19-20 (كما أعلن الحزب الشيوعي) أو ليل 20-21/9/1982 (كما أعلنت منظمة العمل الشيوعي). لكن... هل كانت العملية التي أعلن البيان عنها، فعلاً، هي العملية الأولى؟
إذا افترضنا، فعلاً، أن الدخول الصهيوني إلى الأراضي اللبنانية هو في 6/6/1982، وهي بداية المعركة، لكان من الواجب الموضوعي والواقعي والمنطقي أن نَعِدَّ هذا التاريخ أنه هو البلاغ الرقم واحد، فهل فعلاً لم تحصل مواجهات قبل ليل 19-20/9؟
فلو استعرضنا الوثائق لوجدنا ما يلي:
-إن من حسب أن الانطلاقة قد حصلت في 16/9/1982 اعترف أن مستوى المواجهة التي أبداها المقاتلون- قبل هذا التاريخ-كان رائعاً.
-أعلنت قيادة القوات المُشْتَرَكة عن أكثر من سبعين عملية عصابات ضد قوات الاحتلال قبل 16/9/1982( ). ولو وزَّعنا عدد العمليات على عدد الأيام، الفاصلة بين 6/6/1982 و15/9/1982، لكان المعدل العام هو عملية واحدة لكل يوم، فاستناداً إلى ذلك فإننا نحسب أن كل يوم سبق بيان 16/9/1982 يوماً تاريخياً صالحاً لأن يكون تاريخاً لبدء الانطلاقة الأولى.
-لو راجعنا وثائق العدو الصهيوني لاستطعنا أن نستنتج منها أنه كان للمقاتلين الذين واجهوا قواته أياماً مشهودة وبطولات نعتزُّ بها، وقد حصلت تلك الأيام والبطولات قبل اليوم الذي زعم فيه التيار الماركسي أنه اليوم التاريخي والوحيد لانطلاقة المقاومة الوطنية اللبنانية. ولنقرأ حرفياً ما ورد في بعض وثائق جيش العدو: «إن عملية الاتصال مع القوات [الإسرائيلية] التي أُنْزِلَت على الأوَّلي [نهر الأَوَّلي شمال مدينة صيدا] دامت 70 ساعة وليس 24 ساعة كما كانت الخطة» ( ).
-«واستمرَّ القتال في مخيم عين الحلوة مدة أسبوع ونصف الأسبوع حتى تمَّ الاستيلاء عليه» ( ).
-«دام احتلال الرشيدية أربعة أيام، وبرج الشمالي أربعة أيام ونصف اليوم، واستعمل الجيش الإسرائيلي طريقة الفصل بين أجزاء المخيمات... وكانت الخسائر 21 قتيلاً و 95 جريحاً "( ).
-«في اليوم الثالث للحرب 8/6/1982، وصلت القوات الإسرائيلية إلى عمق 40 كلم، ووقف بيغن [رئيس وزراء العدو] ولخَّص العملية في الكنيست قائلاً: إن الثمن الذي دفعناه حتى الآن هو 25 قتيلاً وسبعة مفقودين و 96 جريحاً» ( ).
وإذا أضفنا إلى وثائق العدو مصادر المعلومات الأخرى، وما أُعْلِن فيها عن خسائر العدو حتى 15/9/1982، التي بلغت 334 قتيلاً والآلاف من الجرحى()، في معارك صور وصيدا والشقيف أرنون وعين الحلوة والدامور، في شهر حزيران/يونيو 1982م فإنها تُشكِّل حُجَجاً تُدَعِّم افتراضنا.
3)أما إذا كان الافتراض أن العملية الأولى بعد 16/9/1982، كن سلاحها لبناني الهوية والسواعد، فإن هذا الافتراض لا يستقيم مع الادعاء بأن المقاومة الوطنية اللبنانية هي عربية العمق والمصير والهوية. ولا يستقيم، أيضاً، مع الأثر الفعَّال والأساسي للمقاومة الفلسطينية في بعث المقاومة اللبنانية من جهة، ومع المشاركة الفعَّالة للفلسطينيين بالمقاتلين والأسلحة في ضرب العدو في أثناء الاحتلال بعد 16/9/1982 من جهة أخرى.
فمن خلال مناقشتنا الخاصة لكل من الطرفين الماركسيَيْن، والمناقشة العامة لهما، نستطيع التأكيد أن يوم الانطلاقة الأول للمقاومة الوطنية-كما ادَّعيا-ليس هو يوم 16/9/1982؛ وإلا فإن إصرارهما على ذلك يؤكِّد افتراضنا أن لتفرُّدهما أغراض فئوية متعصِّبة قمنا بالإشارة إليها.

2-مناقشـة التـيار الإقليـمي:
وقد حسبنا أن الحزب السوري القومي الاجتماعي هو الذي يُمثِّل هذا التيار، لكنه لا بد من أن نُؤكِّد على تميُّزِه عن موقف الأحزاب الشيوعية فيما يختصُّ بالقضية الفلسطينية، التي ينظر إليها من منظار قومي من خلال إيمانه بأنها قضية قومية، وقد استمرَّ هذا الموقف ثابتاً منذ تاريخ تأسيسه الذي رافق المراحل الحارَّة للثورات الفلسطينية: ابتداءً من الغزو الاستيطاني الصهيوني حتى الآن.
لكن الحزب وقع في مطبِّ المزايدات التي تدور حول تحديد يومٍ لميلاد المقاومة. فلذلك أعلن أن ميلاد المقاومة هو 21/7/1982. وبالإضافة إلى ذلك فقد أسهم في الإساءة إلى مستوى المواجهة التي حصلت في الجنوب من قِبَل التنظيمات الأخرى مُمَيِّزاً نفسه بأنه قام ببطولات استثنائية، و السبب في وقوعه في المطب عائد لمصالح فئوية من جهة، ومن جهة أخرى لأهداف سياسية تخدم بعض التوجهات الإقليمية التي كانت تُركِّز على إبراز عجز المقاومة الفلسطينية. لقد تناوب على الإساءة للمقاومة أكثر من طرف، أسهم الحزب القومي-وبشكل مُبالَغٍ فيه- في إظهار السلبيات، وبهذا لم يستطع أن يضع معادلة موضوعية بين السياسي الطارئ والمبدئي الثابت( ). ويُخْشى من هذا الموقف أن يقود الحزب القومي إلى الوقوع في فخِّ القطرية-كما فعلت التيارات الماركسية-متجاوزاً مواقفه من القضية الفلسطينية على الرغم من كل تنظيراته بأن المقاومة الوطنية اللبنانية هي حالة قومية.

3-مناقشـة التيارات المذهبيـة الإسـلاميـة:
أ-حركــة أمــل:
في أصول نشأة الحركة، يُؤخَذ بعين الحسبان أهدافها السياسية في احتكار وحصر تمثيل الطائفة الشيعية بنفسها. وإن تياراً يأخذ هذا المنحى لهو تيار طائفي-سياسي مهما غلَّف نفسه بتبريرات غير مُقنِعَة. وإن المنحى الطائفي والمذهبي، إلى أي دين ينتسب، يحمل في مبادئه وسلوكاته بذوراً للتعصب المذهبي على قاعدة انتمائه إلى دين سماوي لا يطوله الخطأ من ورائه ولا من أمامه.
تشعر الطائفة الشيعية بالغبن التاريخي، وحسبت حركة أمل-منذ تأسيسها-أن الوصول إلى الحقوق لن يتم إلا في إطار العمل المُنَظَّم، وهكذا حصل. أما العمل المنظم فيحتاج إلى إمكانيات؛ والإمكانيات-في منطق الصراع على الساحة اللبنانية-تتمثَّل، غالباً، بعوامل الاستقواء الداخلي والخارجي؛ والخارج بحاجة إلى مواقع له على هذه الساحة؛ فحصلت الصفقة بين حركة أمل والنظام السوري؛ فالطرفان يتبادلان المصالح، وهذا هو منطق تبادل المصالح السياسية.
إن لعبة تجميع الأوراق الرابحة من قِبَلِ النظام السوري في لبنان أصبحت أكثر من واضحة؛ وغاية التجميع لم تكن بمعزل عن الاستفادة منها على طاولة المؤتمر الدولي ذي العلاقة بحل مسألة الصراع العربي-الصهيوني. يحتاج النظام السوري إلى احتواء عدد من الأوراق ومنها الورقة الفلسطينية، وأهم أوراقها موجودة في لبنان، فماذا يعمل؟ أما المقاومة فتعمل جاهدة للدفاع عن قرارها المستقل. فكان الحل يكمن في إرباكها على ساحتها الأساسية، ويَعِدُّه مدخلاً لمصادرة قرارها. ويحول دون هذا الهدف حلفاء المقاومة من أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية، التي تشاركها في الدفاع عن المخيمات في لبنان. فلا بُدَّ، إذاً، من حليف لبناني قوي يستطيع تنفيذ الدور المرسوم؛ فحركة أمل هي الحصان الذي تمَّت المراهنة عليه. كانت التبريرات جاهزة، ومصانع الشائعات التي تطلقها أجهزة المخابرات مُسْتَنْفَرَة لتوزيع البيانات والاتهامات ضد الطرف الآخر؛ دخلت حركة أمل في لعبة الصراع مع المقاومة الفلسطينية من جهة ومع حلفائها اللبنانيين من جهة أخرى. وتكاثرت الاشتباكات والاغتيالات بين الطرفين إلى الحدود التي لم يعد بإمكان أحد أن يسيطر عليها، وأصبحت المخيمات مكشوفة بالكامل أمام الهجمات العسكرية...
تلخَّصت المرحلة التي سبقت الرابع من حزيران/يونيو في أن حركة أمل أصبحت بمستوى عامل الإرباك الأساسي و الفعَّال في وجه المقاومة الفلسطينية و الحركة الوطنية اللبنانية، فوصلت بعد الاجتياح قاب قوسين أو أدنى من الاسترخاء أمام واقع الاحتلال الصهيوني؛ وهذا ما تدلُّ عليه-بشكل غير مباشر-المقالات التي أشرنا إلى جزءٍ منها في مكان سابق من هذه الدراسة؛ فقواعد الحركة وبعض قياداتها حسبت أنها دخلت في "العصر الإسرائيلي". وهل هناك أفضل من تعبير نبيه بري (رئيس حركة أمل) عن تلك الحالة، وفيها يُظْهِرُ مدى رعبه من اتساعها، أي المدى الذي انحدر فيه قواعد وقيادات حركة أمل في الجنوب في التعامل مع العدو، فهو-لهذا السبب- يُكَلَّف محمود فقيه (مسؤول حركة أمل التنظيمي في الجنوب) بالعودة إلى الجنوب وبأي ثمن لمعالجة الوضع الخطير، وهو يُعَبَّر عن ذلك قائلاً:« إن الحركيين إذا مشوا مع «إسرائيل» انتهينا» ( ).
فهل هناك من حصانة سياسية وفكرية ودينية عند جماعات-مثل عناصر حركة أمل- ينقصها الوعي لكي تمنعها من الوقوع في المطبَّات؟ وهل تكفي ثلاث أو أربع سنين لتأهيل كوادر-كما عبَّرت رباب الصدر-تستطيع القيام بالعبء؟ وإذا صحَّ ذلك على النُخْبَة، فهل كان الوقت كافٍ لتأهيل قطاعات واسعة قد تُعَدُّ بعشرات الآلاف من الجماهير المسحوقة التي لم يتسنَّ لها بعد أن تكتسب الحدود الدنيا من التعليم، وعلى حدود دنيا من الثقافة الدينية؟ فكيف يمكن تأهيلها ثورياً ونضالياً واجتماعياً في مثل تلك السرعة؟
على كل حال لن نعالج أزمة حركة أمل السياسية والثقافية والفكرية والنضالية، فلهذا مجال آخر؛ لكن ما يفيدنا إيضاحه، في هذا الدراسة، هي تلك الجوانب التي تصل بنا إلى تقييم يسمح لنا بمناقشة موقفها من المقاومة الوطنية اللبنانية.
أخذت حركة أمل تفويضاً مُطْلَقاً من النظام السوري، وبمساعدته، لتكون قوَّةً أساسيةً في لبنان. أما الآخرون من أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية، الذين كانوا حلفاء للمقاومة الفلسطينية فيدورون في فلكها، وهي قد أصبحت فعلاً على تلك الصورة. وقد برزت هذه الصورة بوضوح أكثر بعد السادس من شباط في العام 1984م- عندما انقلبت حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي على السلطة الشرعية اللبنانية بمساعدة كاملة من النظام السوري، فأسقطوا بيروت الغربية في أيدي الميليشيات من جديد- وابتهج بعض أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية بنجاح هذا الانقلاب، وهم يدرون أو لا يدرون بأنهم يُوَقِّعون على صك رهن قرارهم لحركة أمل.
بعد ذلك التاريخ، وفي الوقت الذي سقط فيه شهداء في أثناء مقاومة العدو الصهيوني، وبعد أن أخذ بريق المقاومة الوطنية اللبنانية يشِعُّ وينتشر ويُنْزِلُ الخسائر الفادحة في صفوف قوات العدو، كان لا بد أمام الأجهزة التي تُمسِك بيد حركة أمل لتسليمها قرار كل شيء على ساحة الميليشيات الجديدة من أن تعمل على تسليم مفاتيح قيادة المقاومة؛ فكيف حصل ذلك؟
أخذت أجهزة النظام السوري تُعَمِّق خطَّ أمل الإعلامي والعملي، وسيطرت الحركة-بدورها-في بيروت الغربية على الأجهزة الإعلامية من إذاعة وتلفزيون وصحف، لكي تُبْرِزَ خطوتين وتُركِّز عليهما، وهما:
الأولـى: الهزيمة التي لَحِقَتْ بالمقاومة الفلسطينية، وصوَّرتها وكأنها كانت هروباً من أمام قوات العدو؛ والمؤسف أن الأكثرية من أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية، التي كانت شريكاً أساسياً في القوات المشتركة؛ وإنها قد أسهمت جدِّياً في إشاعة شتى التهم التي أُلْصِقَت، لأغراض سياسية، بالمقاومة الفلسطينية. و كان انجرارها لتلك الحملة-بوعي منها أو من دون وعي-قد مهَّد الطريق لمحاصرة المخيمات الفلسطينية والسيطرة عليها فيما بعد لإمساك القرار الفلسطيني على طاولة المفاوضات.
الثانـية: صوَّرت كل وسائل الإعلام، المُسَيْطَر عليها، أن حركة أمل هي المُنْقِذ الوحيد لأنها قائدة شرعية للمقاومة الوطنية اللبنانية.
كان لتشويه صورة المقاومة الفلسطينية، وتبييض صورة حركة أمل هدف أساسي عند النظام السوري، ويتمثَّل بالوصول إلى ضرب الأولى بواسطة الثانية. وهذا ما حصل، فعلاً، وأثبتت صحته اندلاع حرب المخيمات التي انطلقت شرارتها الأولى في 19/5/1985، وقد أتت تلك الخطوة مباشرة بعد الانسحاب الأول لجيش العدو الصهيوني في شهر شباط من العام نفسه. وكانت حركة أمل، في خلال الفترة الفاصلة بين الانسحاب والاندلاع، قد استلمت-أمنياً وعسكرياً-منطقة الانسحاب لمنع قيام عمليات فدائية ضد قوات العدو في الحزام الأمني الجديد إلا بناءً لتوجيهاتها.
لن نتَّهم أبداً من منطلق فئوي، ولكننا سوف ندعم استنتاجاتنا بما يقوله حلفاء حركة أمل الأساسيون وليس الحلفاء المغلوبين على أمرهم. يؤكِّد أحد المسؤولين في منظمة حزب البعث العربي الاشتراكي على ذلك قائلاً: «قبل الانسحاب كنا نقوم بالعمليات بحرية، أما بعد الانسحاب فقد أصبح ممنوعاً علينا القيام بهذه العمليات... كانت الانسحابات تتم بالاتفاق... مع القوى المحلية»( ). ويتابع قائلاً: «هناك من يقوم بقتل مجموعات من المقاومة الوطنية اللبنانية قبل أن تتمكَّن من الوصول إلى أهدافها» ( ).
كان العدو الإسرائيلي - كما نحسب - يراهن على التعاون مع حركة أمل، تكتيكياً واستراتيجياً- لأسباب تستند إلى الصراعات الدموية التي كانت تخوضها ضد الأحزاب الوطنية والمقاومة الفلسطينية من جهة، أو على رضوخ عدد من قياديي الحركة مع قطاعات واسعة من عناصرها من جهة أخرى. ولهذا كان الخوف الذي أبداه نبيه بري.
وعندما حاولت حركة أمل، أن تُقْنِع جمهورها بعدم التعامل مع العدو، لم تجد أية استجابة نتيجة عامل الخوف؛ ووصفوا قياديِّيهم بالجنون لمجرَّد طرح فكرة إلغاء التعامل فقط، فكيف بهم إذا طرحوا فكرة مقاومته؟ ويُعَبِّر محمود فقيه عن ذلك قائلاً: «كنا نرى أننا لا نستطيع في تلك الفترة طرح موضوع المقاومة، ولكننا تداولنا في موضوع رفض الاحتلال كحدٍ أدنى»( ).
لم تقف الأمور عند هذا الحد، وإنما تعدّته إلى رضوخ عدد من القياديين إلى دعوات الاحتلال، إذ تمكَّن عدد منهم من تضليل الكثيرين في داخل الحركة بحجة أن التعاطي مع الإسرائيليين يسمح لحركة أمل باستلام القرار بعد انسحاب العدو من الجنوب( ). وقد ركَّز العدو، فعلاً، على هذا الجانب، وكان يطرح التنسيق مع الحركة، إذ أنه «رحَّب باستلام الأمن من قِبَلِ حركة أمل شرط أن تتعهَّد…بعدم حصول اعتداءات من الجنوب ضد «إسرائيل»» ( ).
إن ما تدَّعيه حركة أمل من أنها قاتلت قوات الاحتلال هو ادِّعاء مُبالَغٌ فيه بدليل انغماس العديد من عناصرها في التعاون مع قوات الاحتلال ومهادنته؛ ويُؤيِّد ذلك اعتماد الحركة "في نقل السلاح من مكان إلى آخر على مرأى بعض الأفراد الموجودين داخل ميليشيا حدَّاد"( ). والاعتماد، أيضاً، على طرق ملتوية في حصول البعض على بطاقة من المخابرات الإسرائيلية ليستخدمها في تهريب الأسلحة إلى الجنوب( ). ولكن هل كانت حركة أمل بحاجة، فعلاً، لنقل السلاح من خارج الجنوب إلى داخله؟
إننا نحسب أنها لم تكن بحاجة إلى السلاح كما أنها لم تكن بحاجة لاتِّباع أساليب ملتوية لنقله، فمعظم الحركيين،كما ظهر معنا من خلال البحث، كانوا يحتفظون بأسلحتهم، لأن قوات العدو لم تصادرها منهم.
ولذلك فإن ما نريد أن نناقش حوله حركة أمل ليس تحديدها ليوم الانطلاقة الأول للمقاومة الوطنية اللبنانية، بل مواقفها المعادية أصلاً للمقاومة الفلسطينية-بوعي منها أو من دون وعي، بقرار ذاتي أم بقرار إقليمي-فهي، إذاً، لن ترفع شعار التحرير إلا تمويهاً يؤهِّلها لاستلام سلطة القرار في المناطق التي تهيمن عليها من جهة، وإنه من لم يكن رحيماً بالقضية الفلسطينية لن يكونه -أيضاً- بالنسبة للقضية اللبنانية من جهة أخرى. فالعدو ضد فلسطين ولبنان هو عدوٌ واحد، فمن يُنَفِّذ المشروع الصهيوني بملاحقة المقاومة الفلسطينية فإنه قد يُخطيء في معالجة قضية الجنوب ولبنان والمقاومة الوطنية اللبنانية أيضاً.
ب-المقاومـة الإسـلاميـة:
إن تقليد النموذج الإيراني في القتال-كما جاء على لسان حسن نصرالله (أحد القياديين في حزب الله)-يفسِّر لنا الأهداف التي تعمل لأجلها المقاومة الإسلامية.
كان دخول الحرس الثوري الإيراني إلى الساحة اللبنانية من بوابة الحدود السورية-على قاعدة التحالف السوري الإيراني- وكلاهما يرفضان قيام حركة وطنية لبنانية قوية: الأول من منطلق مصادرة القرار الوطني، أما الثاني فمن منطلق مفهومه لتصدير الثورة الإسلامية إلى لبنان وإقامة جمهورية إسلامية فيه. والثورة الإسلامية في المفهوم الإيراني لا تقبل إلا حكم الشريعة الإسلامية على قاعدة المذهب الشيعي الإثني عشري، أي النموذج الشيعي-الإيراني الذي اختطَّ لنفسه طريق ولاية الفقيه. وبالتالي فهي ترفض أية مشاركة وطنية أو غير وطنية. فسلطة ولاية الفقيه تنفي كل ما عداها من سلطات؛ فلذلك جاء مفهوم العمل المُسلَّح عند المقاومة الإسلامية نافياً كل المفاهيم السابقة وناسخاً لها، سواءٌ أكانت مفاهيم المقاومة الفلسطينة الوطنية أم المقاومة اللبنانية الوطنية.
وإن كانت قد اعتمدت شعار المقاومتين: (تحرير القدس وتحرير الأراضي اللبنانية)، فإنها حسبت أن الخلاف ليس في الأهداف، لكن الخلاف هو حول المنطلقات الفكرية والثقافية والسياسية بينها وبين الآخرين.
إحتلَّت الاتجاهات المذهبية الإسلامية مكانها-كما نحسب-في الحياة السياسية اللبنانية من خلال أن بعضها استقوى بالخارج لأسباب سياسية، وبعضها الآخر لأسباب دينية مذهبية؛ ودخل كلاهما الساحة السياسية الداخلية كردِّ فعل على استئثار الآخرين من المذاهب الدينية بالسلطة و الامتيازات الأخرى، فأصبح كل مذهب طائفي-سياسي يُبَرِّر للآخر وجوده ويستمد كل منها شرعيته من بقاء الطرف الآخر. ولأن النظام السوري كان الأقوى على الساحة فأعطى المذاهب التي استقوت به مواقع القوة والنفوذ. ولما كانت بعض الأطراف المذهبية قد استقوت بالنظام الشيعي الإيراني، ولما كان للنظامين الإيراني والسوري علاقات متينة مُتَبادَلَة، أصبحت ركائزهما في لبنان من اللواتي اكتسبت مواقع القوة السياسية الأولى. وفي المقابل تمَّ إبعاد كل الأحزاب الوطنية والقومية عن ساحة التأثير والقرار، فانكفأت إلى الظل تتلطى بشعاراتها.


III-إذن، متى انطلقت المقاومة الوطنية اللبنانية؟
إن تحديد يوم لولادة ظاهرة تاريخية، كظاهرة المقاومة، هو شيء منافٍ للمنطق؛ وإن القول بأن عاملاً واحداً أو طرفاً واحداً هو الذي كان السبب لهذا الظهور، هو استقراء ناقص للقوانين العلمية الاجتماعية. وهذا ما يُشبِه القول أن المقاومة هي مجرَّد تقاليد كفاحية فقط، أو أنها فكرة المواجهة الكامنة في نفس الإنسان فقط، أو أن هذا الشعب أو تلك الطائفة مفطوران على النضال والشهادة.
إننا نحسب أن الظاهرة التاريخية هي وليدة تراكمات في معاناة إنسانية نتيجة لمشكلة ناشئة في مكان مُعَيَّن وزمان معيَّن، فيها غاصب ومغصوب: الأول يمارس اغتصابه، والثاني يعاني منه. والمعاناة من مشكلة ما-في مكانها وزمانها-تُشكِّل الدافع الأساسي في سبيل الإحساس بها وبالتالي معرفتها بشكل صحيح من قِبَلِ طليعة / نُخْبَة من داخل الجماعة، فتقوم بتخطيط أهدافها ووسائل تنفيذ تلك الأهداف، والتحضير لإمكانيات البدء في الانتفاض على المغتَصِب.
ليست انتفاضة المغصوب على الغاصب عملية نظرية بحتة، أو فطرية بحتة، مع أن الوضوح النظري للمشكلة من الضرورات الأساسية، وقد يأخذ وضوح المشكلة ومعرفتها عشرات السنين أو ربما المئات.
ومن بعد أن تباشر الطليعة عملها في سبيل تغيير الواقع المفروض على جماعتها/مجتمعها، وقد تمرُّ في حقبات طويلة من التجربة والخطأ، من التقدم والتراجع حتى تستطيع استقطاب جماهير أخرى إلى جانبها لتحقق انتشار الوعي الأفقي في داخل جماعتها/مجتمعها؛ وهذا التوسُّع، بدوره، يزيد الانتفاضة ويمدُّها بالعنصر البشري الذي هو المادة الأساسية لاستمرارها. ويتطلَّب العنصر البشري جهداً مميَّزاً لإعداده وتأهيله بالفكر الثوري والتربية الدؤوبة لكي يعي مشكلته فيقتنع بأن له دوراً و تأثيراً، ويعي أهمية العمل الجَماعي المطلوب. عندئذٍ يبلغ الإنسان/الفرد أعلى مستويات وعيه عندما تتكون لديه القناعة الذاتية بأن له قيمته في داخل الانتفاضة، وقيمة دوره كفرد يتكامل مع أدوار الآخرين. إن ذلك يتطلَّب سنين كثيرة قبل بداية الثورة انطلاقاً من أن جيل الثورة ليس هو الذي يقطف ثمارها دائماً.
إستناداً لذلك-وكما استقرأنا مواقف كل التيارات التي تقاوم العدو الصهيوني-وجدنا أن تفسيراتها كانت مبتورة، وهي لا تتعدَّى مقياس الثوب الذي يريد أن يرتديه هذا أو ذاك من تيارات المقاومة. لهذا فإننا سننتقل إلى استقراء التجربة التاريخية للمقاومة انطلاقاً من الظروف التي أوجبت قيامها وولادتها.
فلو أردنا أن نكون أقرب إلى الموضوعية في تحديد ظاهرة المقاومة، لكان من الواجب أن نُعيدَها إلى أصولها ومنابتها ومراحل تكوينها وتجربتها التاريخية وفرسانها الأوائل…على الصعيدين النظري والعملي في تاريخنا المعاصر، وذلك بأن نفتح الوثائق، التي سجَّلتها وسائل الثقافة والإعلام، وهي كثيرة في المكتبات اللبنانية العامة منها والخاصة، مكتبات الجامعات وأرشيفات الأحزاب.
وللتقليل من الأخطاء سنحاول في هذه الدراسة أن نلجأ إلى الأسلوب الأكاديمي في بحث ظاهرة المقاومة، لنقتفي آثارها في السجلات، لعلَّنا بذلك نستطيع أن نسُدَّ الثغرة أو الثغرات التي وقع فيها غيرنا ممن سبقنا في الكتابة حولها؛ وقد انطلق معظمهم من تجربتهم المُسْتَجِدَّة. أما نحن فننطلق من تجربتنا التاريخية وأصولها الفكرية والعقائدية الوطنية/القومية.
المكــان: الأرض اللبنانية المحاذية للأرض الفلسطينية المُحْتَلَّة، وهناك لجأ عشرات الألوف من الفلسطينيين.
الزمــان: العام 1948م ( العام الذي اعترف فيه المجتمع الدولي بالكيان الصهيوني) بعد أن مهَّد لذلك منذ عشرات السنين.
الظـرف: شعب عربي مطرود من أرضه، يتفاعل مع شعب عربي شقيق مضياف؛ سيعاني-فيما بعد-من الاعتداءات الصهيونية المباشرة عليه نتيجة لقيامه بالواجب نحو شعب فلسطين الشقيق. حصل هذا في الوقت الذي أخذت فيه نظرية القومية العربية تترجم ذاتها في التطبيق المباشر.
ابتدأت المشكلة في ظل هذا المناخ، وأخذت المعاناة تتراكم عند الشعبين: يتطلَّع الأول للعودة إلى أرضه، أما الثانى فيخشى من استلاب أرضه، وهو يرى شعار التوسُّع منقوشاً على باب الكنيست «الإسرائيلي»: (أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل).
فالمشكلة، إذاً، تتعلَّق بالصراع العربي-الصهيوني. يمثِّل الطرف العربي على الأرض اللبنانية كل من الشعبين اللبناني والفلسطيني؛ وهما، عملياً وليس نظرياً فقط، قد انصهرا في داخل دائرة المصير المُشْتَرَك انصهاراً وجدانياً تحت أتون المعاناة الواحدة.
كانت رَدَّة فعل الحركات السياسية أو الحزبية، التي رافقت ولادة ذلك المناخ، متفاوتة تفاوت أصولها الفكرية والعقائدية. ولن نستهدف من إيضاح هذه المسألة أكثر من السياق التاريخي وبما يساعدنا على وضع الأمور والمواقف في نصابها الواقعي. كما أننا لن نتطرَّق إلى تقييم وضع الأنظمة في ذلك التاريخ لأنه في ظلِّها ارتُكِبَت جريمة تأسيس الكيان الصهيوني، وتحت سمعها وبصرها حصلت جريمة تشريد شعب فلسطين من أرضه.
لا بد، لكي نكون أمينين أمام التاريخ، من أن نُسَجَّل أن قضية فلسطين كانت واضحة المعالم-كقضية قومية- عند الحركات والأحزاب ذات الاتجاهات القومية دون غيرها من الحركات والأحزاب ذات الاتجاهات القطرية والأممية. لذلك كان القوميون هم الذين طرحوا شعار الكفاح الشعبي المسلَّح، فيما كان الآخرون من الأمميين يتنكَّرون لقومية القضية ويستنكرون أسلوب المقاومة. لكنه يجب أن لا ننسى بعض النشاطات القومية التي كانت تُدار بمبادرات فردية( ). كما أنه يجب أن لا ننسى الممارسة الفعلية التي قام بها حزب البعث العربي الاشتراكي عند إعلان الاستنفار العام في داخل الحزب، حيث شارك قيادة وقواعد في حمل السلاح في العام 1948م ضد العصابات الصهيونية في فلسطين؛ وفيها سقط له العديد من الشهداء، ولا يزال يمارس استراتيجيته في التعبئة والممارسة فكرياً وسياسياً وعسكرياً( ).
وكما سبق وأن وعدنا في موقع سابق من هذه الدراسة، سنتناول الآن دور حزب البعث العربي الاشتراكي على صعيد القطر اللبناني في المقاومة الوطنية اللبنانية.
بدافع من فكره وسياسته، في فهم الصراع العربي-الصهيوني، انخرط الحزب في مقاومة العدو الصهيوني، وطبَّق ذلك من خلال دعوته الجماهير اللبنانية وتعبئتها حول شعار الكفاح الشعبي المسلَّح من جهة، وفي إعداد أعضائه المنتسبين إعداداً عسكرياً لممارسة دورهم منذ الستينات. وكان البعثيون الفلسطينيون من الأوائل الذين شاركوا في تأسيس حركة فتح: مثل الشهيدين خالد يشرطي، وكمال ناصر. ولن ننسى أن أول شهيد للثورة الفلسطينية كان المناضل البعثي جلال كعوش( ).
وبالعودة إلى تاريخ الحزب في لبنان نجد أن نضاله منذ الخمسينات كان يأخذ شكل التضامن مع التحركات الشعبية في الأقطار العربية الأخرى، وبشكل خاص مع قضية فلسطين "حيث طرح الحزب في لبنان في حزيران/يونيو 1959م تشكيل جيش تحرير شعبي لأبناء فلسطين، كما دعا في آذار/مارس 1961م إلى تشكيل جبهة فلسطينية"( ).
مهَّدت مواقف الحزب الطريق أمام الأحزاب والقوى الوطنية اللبنانية في سبيل بلورة صيغة واضحة لاحتضان المقاومة الفلسطينية فكراً وممارسةً. وقد توَّج دعواته، بعد هزيمة حزيران /يونيو 1967م- عندما اختار في لبنان «طريق التلاحم مع الكفاح الفلسطيني المسلَّح، فذهب بعض شبابه... للتدريب على السلاح في بعض معسكرات العمل الفدائي، وبدأ الحزب في صيف 1967م يُنَظِّم جبهة لدعم العمل الفدائي على أرض لبنان، كانت بحقٍ نواة متقدِّمة للالتفاف الوطني الواسع حول حركة المقاومة فيما بعد» ( ).
ولم يقف الأمر عند هذا، «وإنما بادر الحزب إلى تعزيز أول جبهة شعبية عربية لدعم العمل الفدائي كانت قد تشكَّلت بمبادرة منه وضمَّت الحزب التقدمي الاشتراكي وأنصار (فتح) وعدداً من التقدميِّين المستقلين في أواخر صيف 1968... تلك الجبهة التي يمكن اعتبارها نواةً لما عُرِف فيما بعد باسم الجبهة العربية المشاركة، التي عقدت مؤتمرها الأول في لبنان في تشرين الثاني/نوفمبر 1972م، و مجلسها العام في الجزائر في أواخر كانون الأول/ديسمبر عام 1974م، وشارك الحزب بقيادته القومية فيها»( ).
إن حزب البعث العربي الاشتراكي في لبنان، بالإضافة إلى دعمه ومساندته للمقاومة الفلسطينية، انخرط فعلياً في الكفاح الشعبي المسلَّح على مستوى منظمتي فلسطين ولبنان.
فعلى الصعيد الفلسطيني نفَّذت جبهة التحرير العربية أول عملية لها في السابع من نيسان/أبريل من العام 1969م، و أصدرت بيانها التأسيس الأول في 31 آب/أغسطس من العام 1969م. وكان واضحاً فيه أن دخولها فصيلاً جديداً لم يكن بغرض تفريع المقاومة الفلسطينية، وإنما كانت غايتها «دفع سائر المنظمات الفدائية الأخرى إلى إيلاء البعد القومي أهمية خاصة في فكرها وممارستها» ( ).
وقامت الجبهة، بدورها، في التصدِّي للاعتداءات الصهيونية على الأراضي اللبنانية، وكان من أبرزها ما حصل في 12/5/1970، حيث سقط لها أربعة شهداء؛ وكذلك في أيلول /سبتمبر من العام نفسه إذ سقط لها ثلاثة شهداء أيضاً( ).
أما على الصعيد اللبناني، فقد شارك الحزب في التصدِّي لتلك الاعتداءات. فأثناء حصول أي اعتداء "كان المئات من شباب الحزب من كل المناطق اللبنانية يتوجَّهون إلى الجنوب ليحملوا السلاح جنباً إلى جنب مع إخوانهم المقاتلين؛ وقد برز ذلك بشكل خاص في أيار/مايو 1970م، وشباط/فبراير وآذار/مارس 1972م، وخلال حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973م( ).
في الوقت الذي كانت فيه الساحة اللبنانية بشكل عام، والمنطقة الحدودية بشكل خاص، تشهد تفاعلاً جماهيرياً واسعاً لمقاومة العدو الصهيوني كان دور الحزب فاعلاً ومؤثِّراً.
لم يكن التفاعل بين الجماهير اللبنانية والقضايا القومية وليد ارتباط إنساني فحسب بل كان وليد ارتباط قومي-إنساني أيضاً. و كانت معالم هذا الارتباط ومظاهره واضحة من خلال العفوية في العلاقة الوجدانية بين الشعبين اللبناني والفلسطيني في أثناء مرحلة الخمسينيات من القرن العشرين. وتعمَّقت صعوداً حتى أواخر السبعينات وتميَّزت بلاطائفيتها. ولم تكن تلك الميزة مُصْطَنَعَةً لأنها برزت في الأجواء الديموقراطية التي ميَّزت الشارع الشعبي اللبناني؛ ومما يؤكِّد جدِّيَتها أنها لم تكن وليدة أية ضغوط؛ ولم تكن مفروضة من أحد. ومن أبرز الدلائل كانت المظاهرات التي كانت تعمُّ الساحة اللبنانية تضامناً مع القضايا القومية (الثورة الجزائرية-الوحدة بين مصر وسوريا-ردَّة الفعل ضد هزيمة حزيران/يونيو في العام 1967م-وضد مجازر أيلول /سبتمبر في الأردن من العام 1970م-المشاركة الفعلية في الدفاع عن المقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان ضد ممارسات الأجهزة اللبنانية- وضد عمليات الاجتياح الصهيوني لأماكن تواجد المقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان).
في ظل الصراع العربي-الصهيوني، في أثناء مرحلة الستينات، كانت الأراضي اللبنانية تتعرَّض لاعتداءات العدو الصهيوني، الذي لم يتورَّع عن القيام بعملية إنزال عسكرية في مطار بيروت الدولي ليل 28 كانون الأول/ديسمبر من العام 1968م؛ ولأن السلطة اللبنانية كانت تقابلها بعدم الرد كان الحزب يُسْهِم في تأجيج حالة الرفض الشعبي ضد ضعف الدولة اللبنانية من جهة، ويُشكِّل تراكماً واحتقاناً عند الجماهير باتجاه خلق مناخات إيجابية في احتضان المقاومة الفلسطينية والانخراط في صفوفها، وخلق جيل لبناني مقاوم بين الشباب اللبنانيين من جهة أخرى.
أفرز ثبات صدق الوجدان القومي العربي عند قطاعات واسعة من الشعب اللبناني-في مختلف المراحل-مشاركة فعلية له في قضايا المصير القومي، وبرز بشكل مميَّز مع المقاومة الفلسطينية وفي مقاومة العدو الصهيوني في أثناء مختلف مراحل الصراع. وكان من أبرز مظاهر تلك المشاركة سقوط شهداء من لبنان كانوا يقاتلون العدو في صفوف قوات الثورة الفلسطينية.
ولعلَّنا لم ننس، بعد، الشهيد عز الدين الجمل، الذي استشهد في أواخر العام 1969م، بينما كان يقاتل في صفوف المقاومة الفلسطينية، و ما أعقب استشهاده تظاهرة شعبية ضخمة لم تشهد بيروت مثيلاً لها في كل تاريخها.
ولم ننس، أيضاً، شهداء حزب البعث العربي الاشتراكي من أمثال الشهيد حسين علي قاسم الذي استشهد في حلتا-إحدى قرى منطقة العرقوب-في العام 1969م( ). وكذلك سقط للحزب شهداء آخرون في 12 أيار/مايو من العام 1970م، وهم: محمد ذيب الترك، وأحمد سالم هوشر، وسمير حمُّود، الذين كانوا يقاتلون في صفوف جبهة التحرير العربية في منطقة العرقوب. وشيَّعتهم طرابلس في حشود غفيرة. وسقط أيضاَ في آب/أغسطس من العام 1969م أمين سعد (الأخضر العربي) في أثناء مواجهة مع إحدى دوريات العدو الصهيوني في تلال شبعا في منطقة العرقوب( ).
إن انخراط ألوف اللبنانيين مع العمل الفدائي من جهة، واستقطاب المقاومة الفلسطينية لهم ولغيرهم من الأقطار العربية من جهة أخرى، ليس إلا تعبيراً عن وحدة النضال القومي ضد العدو الصهيوني. ولما كانت تلك الظاهرة تجسيداً لوحدة النضال فلا يُضير اللبنانيين الذين انخرطوا في صفوف المقاومة الفلسطينية في انطلاقتها الأولى أن بنادقهم كانت فلسطينية الهوية، إذ يكفيهم فخراً أن بندقيتهم كانت ذات هوية قومية عربية. كما لا يُضير صحة موقفهم القومي شيئاً إذا غرقت بعض قيادات المقاومة وعناصرها بعدد من الأخطاء. ولا يُضير المقاومة الفلسطينية أو ينتقص من هويتها إذا كان قد انخرط في صفوفها مقاتلون عرب من غير الفلسطينيين، لن ذلك ليس إلا وجهاً من وجوه وحدة المصير القومي.
إستناداً إلى أهداف حزب البعث العربي الاشتراكي في الوحدة العربية، بادرت قيادة الحزب في لبنان، منذ أواخر الستينات، تعبيراً عملياً عن ارتباط قضايا المصير القومي، واستكمالاً لاستراتيجية الحزب في الكفاح المسلَّح، إلى تشكيل قوى مُقاتِلَة-تدريباً وتسليحاً-في قرى الجنوب اللبناني، للقيام بواجبها القومي في التصدِّي للعدو الصهيوني.
وكان الحزب، أيضاً، "أول حركة في لبنان تطرح قضية الجنوب اللبناني، وضرورة دعم نضاله، وتوفير ظروف الصمود لأهله في وجه الاعتداءات الصهيونية المُتَكَرِّرة…فكانت دعوته الأولى لتشكيل مؤتمر وطني لدعم الجنوب في أواخر العام 1969م"( ). وقد ضمَّ المؤتمر القوى والأحزاب التقدمية؛ وغايته بناء الملاجئ في القرى الحدودية وتوفير مقومات الصمود لسكانها.
إنخرط البعثيون في قرى الجنوب -منذ أواخر الستينيات-في تلك التجربة، إذ كانت القرى الحدودية، منها بشكل خاص، الوجهة التي على البعثيين أن يمارسوا دورهم في حراستها بشكل دوري، لأن حزب البعث في لبنان كان يريد أن يبني تجربة رائدة في الكفاح الشعبي المسلَّح بحيث تقوم على دعامتين أساسيتين: إعداد المواطن المُدَرَّب والمُسلَّح؛ وتأمين مقومات الصمود للسكان.
وبعد أن بنى البعثيون النواة الأساسية لهذا العمل، استطاع الحزب أن يستقطب المئات من أبناء تلك القرى من الذين لاقت التجربة قناعة لديهم وقبولا.
ولهذا أخذت التجربة تنمو، قبل الأحداث اللبنانية التي اندلعت في 13 نيسان/أبريل من العام 1975م. و عرفت القرى الجنوبية-التي اجتاحها العدو الصهيوني- بطولات مُشَرِّفَة قام بها المقاتلون البعثيون في كفرشوبا والهبارية والخريبة وتولين وغيرها من القرى الأخرى…
أثمرت التجربة، التي خاضها البعثيون في القرى الجنوبية، وأينعت-كما حصل في قريتي الطيبة وكفركلا الحدوديتين-فكانتا محطتان بارزتان في تاريخ المقاومة الوطنية اللبنانية.
أما الطيِّبــة فقد تعرَّضت لاعتداء صهيوني، في 1/1/1975م، كردٍّ وقائي من العدو ضد القرية، التي احتضنت العديد من أبنائها المُدَرَّبين والمُسلَّحين. وقد تمكَّنت القوات الغازية من محاصرة منزل لآل شرف الدين، وفي أثناء ذلك استطاع الأب وأبناؤه أن يقاوموا المعتدين ويمنعوهم من اعتقالهم، و استمرُّوا في المقاومة حتى سقط ثلاثة شهداء منهم، وهم: رب العائلة علي شرف الدين وولداه عبد الله وفلاح( ).
أما قرية كفركلا ، التي تحوَّلت إلى نموذج في الإعداد للمقاومة، فقد تعرَّضت لاعتدائين: كان أولهما في تموز/يوليو من العام 1975م؛ وقد دفع فيه العدو خسائر في أفراده، عُرِفَت من بقع الدم الكثيفة في أرض المعركة. أما الاعتداء الثاني فحصل في 27/11/1975م، وفيه تكبَّد العدو خسائر أخرى، ولكن -في هذه المرة- سقط الرفيق عبد الأمير حلاوي شهيداً،
وهو الذي كان رائداً في بناء تلك التجربة وقائداً لها( ).
إن تجربة الكفاح الشعبي المسلَّح في القرى اللبنانية الحدودية، وإن كانت بنادق مقاتليها لبنانية الهوية والسواعد، فإنما أصالة فكرها الذي ينبع من الأصول القومية الوحدوية، تُشكِّل الحصانة لها من الوقوع في فخِّ القُطْرِيَّة أو الكيانية أو المحلية أو المذهبية أو الطائفية.
كانت تلك التجربة الحيَّة والرائعة في ترابط قضايا المصير القومي العربي من العوامل التي أخذت تُحْدِث في حينها إرباكاً وخوفاً لدى العدو من أن تتَّسِع أكثر، فتصبح ظاهرة يصعب احتواؤها وإيقافها. وكان ذلك من العوامل الإضافية التي دفعت بالعدو للإسراع في تنفيذ مخطَّطٍ تآمري في لبنان يستهدف فك الارتباط بين الجماهير اللبنانية وبين قضايا الأمة العربية. فكانت بداية المؤامرة في 13 نيسان/أبريل من العام 1975م، باستهداف باصٍ كان يمرُّ في عين الرمانة (إحدى ضواحي مدينة بيروت) وسقط فيه 28 شهيداً لجبهة التحرير العربية وحزب البعث العربي الاشتراكي.
وبتصاعد وتيرة المؤامرة شهِدَت الساحة اللبنانية ولادة تشكيلات جديدة في العمل المسلح، قوامها أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية، التي راحت تأخذ دورها في التصدِّي للمؤامرة إلى جانب فصائل المقاومة الفلسطينية. و قد شكَّلت -فيما بعد-قوات مُشْتَرَكَة للوقوف في المواقع المُواجِهَة للعدو الصهيوني. وكان للحركة الوطنية اللبنانية قواتها المشتَرَكة، التي كانت تقوم بدورها في التصدي للهجمات الصهيونية بمشاركة من قوات العميل سعد حدَّاد. وقد سقط للحركة الوطنية-في تلك المعارك-عشرات الشهداء في مختلف المواقع، في الخيام والطيبة وبنت جبيل وطيرحرفا ويارين، وجديدة مرجعيون قبل سقوطها في أيدي جيش سعد حدَّاد والقوات الصهيونية في 21 تشرين الأول/أكتوبر من العام 1976م.
وبالعودة إلى أرشيف تلك المعارك-كلها-التي لا تستطيع التنظيمات الجديدة، والتي لم تكن قد وُلِدَت بعد، نكرانها. فحبَّذا لو رجع الجميع إلى ذلك التراث، الذي لم يغمره الزمن. وهل ننسى معارك تلة الشريكي-الخيام في أيلول/سبتمبر 1977م؟ ومعارك الطيبة في آذار/مارس 1977م؟ ومعركة مارون الراس، ومواجهة الاجتياح الصهيوني في آذار/مارس العام 1978م؟


IV -كثرة العوامـل تُفْرِز تفتيتـاً في الاتجاهـات
وبإيجاز فإن مواجهة المؤامرة في لبنان، في خلال السنين الأولى، كانت تتمثَّل بمشروع وطني تقدمي يمتلك سمات الاتجاهات القومية، وكان من أبرز اتجاهاته أنه كان، في أثناء مواجهة الكيانية الطائفية، ينطلق من مبادئ ومُسَلَّمات وطنية توحيدية، وكان يستطيع السيطرة على ردَّات الفعل الطائفية في مناطقه ويمنعها من الانزلاق في أتون الاقتتال الطائفي، التي وإن كانت تحصل-أحياناً-فقد كانت فردية ومحدودة النطاق.
إن انعكاسات إدارة معركة المواجهة بمسَلَّمات وطنية كانت لها آثار إيجابية في تعميق الوعي السياسي والفكري لدى منتسبي أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية، ولدى الجماهير الشعبية التي كانت تلتفُّ من حول تلك الأحزاب. ولذلك، وفي أثناء مواجهة المؤامرة، بقيت معظم مناطق الجنوب والجبل وطرابلس والبقاع وبيروت، تنعم بتعايش وطني بين كل الطوائف؛ ولم تشهد أية قرية مسيحية-في مناطق تواجد قوات الحركة الوطنية- أي تغيير ديموغرافي، باستثناء تلك التي حاولت المؤامرة استخدامها في المخطط المرسوم، مثل: العيشية والدامور، اللتان تمَّ التعاطي معهما عسكرياً لضرورات أمنية، بسبب من أن أفراد القوات اليمينية حاولت أن تُخِلَّ بالأمن من خلال انخراطها في المخطط المعادي في إقفال الطرقات الرئيسة التي كانت تُعَدُّ مفصلاً بين الجنوب والبقاع، أو بين الجنوب وبيروت.
إستند المشروع الوطني على أعداد واسعة من المنتسبين إلى أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية من كل الطوائف، على قاعدة من مفاهيم التعايش الوطني الذي عَمَّ كل مناطق سيطرتها. لذا أصبحت القاعدتان معاً: المنتسبين والمبادئ، من أبرز سمات البُنْيَة الفكرية والسياسية الوطنية.
ولَّد تفاعل الجماهير اللبنانية-بشكل عام-وجماهير الجنوب-بشكل خاص-مع قضايا المصير القومي ومع قضايا لبنان الوطنية، قاعدة شعبية واعية لانتمائها القومي والوطني. وإن تفاعل الجماهير مع الثورة الفلسطينية قد أكسبها شُحْنَةً معنوية وخبرة قتالية، عزَّزَهما عنصر السلاح الذي كان متوفِّراً بكثرة بين أيدي المواطنين.
إستقامت الأوضاع على ذلك المنوال حتى العام 1979م، ولكن تخلَّلتها ثغرات والتواءات في الممارسات اليومية مع المواطنين، كانت تُرْتَكَب أحياناً بتصرفات فردية غير واعية، وأحياناً أخرى من قِبَلِ أجهزة التنظيمات بحكم سوء التقدير. ولقد أحدثت تلك التجاوزات تراكماً واحتقاناً في نفوس الجماهير التي احتضنت المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. ومنذ العام 1980م بلغ ذلك الاحتقان، الذي كانت بعض القوى المتضرِّرة تغذِّيه بالحقن، حدَّاً استطاعت من خلاله بعض الأجهزة الإقليمية أن تقطفه لصالحها، إذ أنها أخذت-مباشرة-تساعد بعض القوى المحلِيَّة مثل حركة أمل الشيعية لتحريض الجماهير ضد الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، مستثمرة التجاوزات والأخطاء-كذرائع لا لبس فيها. ففي تلك الظروف، كانت الجماهير في درجة من الاحتقان تدفعها لأن تتجاوب مع أي صوت معارض للواقع الذي كان سائداً، و كيف بها إذا كان الصوت قد أخذ يتحوَّل إلى قوَّةٍ عسكرية تستطيع افتعال معارك، هنا وهناك، ضد هذا الفصيل أو ذاك، في الوقت الذي كانت فيه الذرائع جاهزة ومسبوكة؟
لقد طرأ عامل آخر كان له تأثير كبير على مجريات الأمور في لبنان وهو حركة التغيير التي حصلت في إيران. فكان ذلك العامل هو الأكثر انعكاساً، سواء في علاقته السلبية مع العدو الإسرائيلي أو في علاقته المذهبية مع قطاع واسع من الشعب اللبناني. فكانت الساحة اللبنانية هي أكثر الساحات العربية تأثراً بالمتغيِّر الجديد، والساحة اللبنانية تتأثَّر وتنفعل أكثر من غيرها بالتيارات العربية والإقليمية والدولية لكثرة ما تنتشر فيها التعدديات الإيديولوجية والمذهبية. والملفت للنظر أن التعددية الحزبية والتنظيمات الصغيرة كانت تمتد من مستوى الزاروب مروراً بالقرية و المدينة ولبنان والوطن العربي وصولاً إلى العالم، وبما يتفاعل في داخلها من تناقضات في العقائد والمواقف والاتجاهات السياسية…
لهذا كلِّه، كانت الساحة اللبنانية هي الأكثر انفعالاً بالتغيير الذي حصل في إيران، بدون حساب لما سوف يفرزه من إيجابيات أو سلبيات على مصالح الأمة العربية بشكل عام، وفي لبنان بشكل خاص. و لهذا تباينت منطلقات التأييد في داخل صفوف الأفرقاء اللبنانيين والفلسطينيين: لقد أيَّد بعضها من منطلقات مبدئية، مشروطة بحساب المصالح المُتَبادَلَة ما بين إيران وقضايا النضال العربي. وأيَّد بعضها الآخر مُنْطَلِقاً من أن الحالة الجديدة مهما كانت سيِّئة فلن تكون أسوأ من عهد الشاه. واستند البعض-في تأييده- من منطلقات انتهازية رغبة في استغلال واستثمار التعاطف الشيعي في لبنان لأنه حسب أنه امتداد لنظام رجال الدين الشيعة في إيران. أما البعض الأخير فقد استند في تأييده وحماسه في التأييد إلى منطلقاته الدينية والمذهبية.
وفي جميع الحالات، فقد أثار التغيير في إيران عواطف قسم من اللبنانيين، ولم يلامس عقلهم وفكرهم. فبعضهم انبهر بتلك الحالة أو انفعل معها، وبعضهم حاول انتهاز الفرصة في سبيل مكاسب سريعة. وكانت بعض الأطراف العربية، وعلى رأسها النظام السوري، تعمل على تغذية انفعال من انفعل لتحقيق مكاسب تكتيكية. وبعد أن حصَّل النظام الديني الإيراني حصَّته في لبنان أخذت تبرز تيارات طائفية وقعت في أعلى درجات التعصب والهوس الديني والمذهبي. وأصبح لها مشروعها السياسي الذي يرفض أي مشروع وطني. لقد نَمَت تلك التيارات وبشكل سريع، وقد يكون جانب كبير من ذلك النمو قد تغذَّى من قِبَلِ العوامل الإقليمية وبدعم وإسناد منها لعرقلة الدور الوطني للجماهير اللبنانية، وتوليد مشاريع طائفية ومذهبية فئوية متناحرة يسهل السيطرة عليها، واستخدامها في مشاريع لها علاقة باتجاهاتها الإقليمية.


V -خلاصــــة القـول
أصبحت المقاومة الوطنية اللبنانية مشروعاً تاريخياً، تمتدُّ جذوره إلى بداية الصراع العربي-الصهيوني؛ فكان يتبلور و ينمو إلى أن تحوَّل بقفزة نوعية إلى عمل مميَّز في الكفاح الشعبي المسلَّح ضد جيش العدو الصهيوني بعد اجتياحه للأراضي اللبنانية في حزيران/يزنيو من العام 1982م.
إن القانون العلمي يَعِدُّ تكوين الظواهر الاجتماعية، والتحولات التي تحصل في حياة المجتمعات، لا يتِمُّ إلاَّ نتيجة تراكم طويل لتغيُّرات كميَّة متواصلة يعقبها تحوُّلا نوعي. وما ظاهرة المقاومة الوطنية اللبنانية في وجه الاحتلال الصهيوني من النوع الذي يحصل من جرَّاء تغيُّراتٍ تتكوَّن وتتراكم في غضون سنين معدودة، بل هي خلاصة تجارب طويلة امتدَّت لعشرات السنين( ).
ولهذا فإن ظاهرة المقاومة لم يفجِّرها بيان أو تنظيم واحد أحد؛ بل هي نتيجة تراكمات ثقافية و تعبوية، لعب فيها الفكر القومي الدور الأساسي بتأثير من فهمه الواضح لطبيعة الصراع العربي-الصهيوني.
إستطاع هذا الفكر أن يبلوِر الوعي المقاوم عند الجماهير في لبنان لسنوات تعود إلى ما قبل العام 1948م. وأصبح أكثر عمقاً بعد العام 1948م، إذ بلغ مستوىً متقدِماً في الفكر والممارسة في أواسط الستينات، وتُوِّج بنقلة نوعية حينما انخرط أول لبناني في العمل الفدائي الفلسطيني، أو حمل البندقية في قرى الجنوب لمواجهة العدو الصهيوني. لقد حصل هذا التطور في ظل غياب دور بعض الأحزاب اللبنانية، التي كانت تقف مواقف فكرية تتعارض مع المصلحة القومية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية؛ ويأتي الحزب الشيوعي اللبناني على رأس تلك الأحزاب لأنه كان-حتى ما قبل العام 1968م-يحسب أن عمل المقاومة الفلسطينية مغامرة تقضي على أية آمال لأي حلٍ سلمي. واستمرَّت تلك المواقف السلبية لكي تقف-فيما بعد العام 1968م-وقفةً تصحيحية ضد الأخطاء الفكرية والعملية الاستراتيجية التي مارستها سابقاً. أما هناك بعض لحركات والأحزاب التي دخلت حلبة المزايدة بعد العام 1982م فلم تكن قد وُلِدَت بعد.
ونضجت تلك التجربة، أيضاً، في الوقت الذي كان غائباً فيه النموذج الإيراني، الذي تطغى عليه الدعوات المذهبية والتفتيتية، بينما كانت القوى القومية تشقُّ طريقها عميقاً في وجدان الجماهير العربية في سبيل احتضان قضية فلسطين وكل القضايا القومية الأخرى، والقتال معها ولأجلها. و لا يُضير المقاومة الوطنية اللبنانية أنها امتداد للمقاومة الفلسطينية لأنها اكتسبت من تجربتها الكثير الكثير، واستفادت من إمكانياتها الكثير الكثير أيضاً . كما أن جهد كلٍ من المقاومتين يصُبُّ في الإطار القومي الواحد في معركته ضد الصهيونية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق