بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 19 يناير 2010

أبحاث ومقالات قبل العام 2003 (5)

أسباب ووظائف المواقف المؤيدة للعراق على المستويين العربي والعالمي
تحت شعار »الحملة الدولية ضد العدوان على العراق ومناهضة العولمة«، انعقد مؤتمر عالمي في القاهرة بتاريخ 18 – 19/ 12/ 2002م. ومن خلال قراءة وقائع المؤتمر خلصنا إلى النتائج التالية:
كان ممثلاً في المؤتمر مجموعة من القوى والشخصيات العالمية والعربية، وبالتالي كان يسود المؤتمر عدد من الاتجاهات، التي من خلال متابعتها، نستطيع أن نصل إلى عدد من النتائج التي تلقي ضوءًا حول أسباب مواقف تلك القوى ووظائفها في الدفاع عن العراق. فكيف نرى تلك الأسباب والوظائف؟
لتمييز الدوافع والأسباب بين عالمي وعربي، نرى أن نتتبَّع عناوينها من خلال المناقشات التي قام بها عدد من المشاركين:
أولاً: مواقف القوى والشخصيات العالمية:
تتفق وجهات نظر المشاركين حول الأسباب التالية:
1-منطلق إنساني مُثُلي عام: يتمثَّل في الوقوف ضد استخدام القوة في حل النزاعات بين الدول.
2-الوقوف ضد العولمة باتجاهاتها الأحادية الجانب، والموضوعة –في هذه المرحلة التاريخية- في خدمة المصالح الأمبريالية الأميركية.
ولأن الولايات المتحدة الأميركية تبتز العالم بأسره، مستخدمة المنطلقين العامين: استخدام القوة في حل نزاعاتها، وتسخير العولمة لخدمة مصالحها، تمحورت المداخلات حول تحديد أفضل سُبل العمل من أجل إجهاضها.
ثانياً: في مضامين المواقف الدولية:
1-نظرة القوى الشعبية الدولية إلى مضامين الأهداف الأميركية: إن أميركا دولة مستبدة، تسخِّر كل الوسائل لتوظفها من أجل خدمة مصالحها القومية. ومن أجل ذلك تمارس النفاق والكذب في وسائلها السياسية والإعلامية. وتخترع كل الوسائل للقضاء على الدول التي تقف ضد العولمة الأميركية.
ولما كان العراق هو إحدى أهم تلك الدول، وُضِعت وسائل الإعلام الأميركية في خدمة الوظائف السياسية، لخلق مبررات للعدوان عليه. ومن أهم تلك المبررات هو أنه يمتلك كمية من أسلحة الدمار الشامل.
ليس نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية هو الهدف، بل هو الخديعة التي تحجب السبب الحقيقي المتمثل بالنفط العربي من جهة، والسيطرة على مصادر العالم الاقتصادية ووضعها في خدمة شركاتها من جهة أخرى.
ومن أجل الهدف الحقيقي مارست أميركا كل أنواع الضغوط ضد الدول التي تمتنع عن مشاركتها بالعدوان أو السكوت عنه. واستخدمت من أجل ذلك وسائل الترهيب والترغيب، ومنها تهديد بعض الدول بمساعدة القوى المعارضة فيها للقيام بأعمال تخريبية في داخل منظوماتها السياسية والأمنية والاقتصادية.
2-ضعف استجابة دول العالم للرغبات الأميركية: ترى دول العالم مدى الخداع في المواقف الأميركية متمثلاً في ما يلي:
-تعمل أميركا على منع الآخرين من امتلاك وسائل القوة في الوقت الذي تدعم فيه نفسها من أجل امتلاك كل أنواع الأسلحة.
-تعمل من أجل تعزيز القوة القتالية للعدو الصهيوني بكل أنواع الأسلحة الفتاكة، وفي المقابل تمنعها عن العرب بشتى الطرق.
-تدعو من أجل الديموقراطية في دول العالم ، وتعزيز مبدأ المساواة والعدالة، في الوقت الذي تسود فيه اللاعدالة واللامساواة واللاديموقراطية وخرق حقوق الإنسان في قلب النظام الأميركي.
3-انكشاف الخداع في المواقف والأهداف الأميركية: لم تنجح أميركا في تقديم مبررات للعدوان على العراق. ومن أهم مظاهره يأتي الرفض الروسي والصيني والهندي، والأوروبي بشكل عام، للإطاحة بالنظام الشرعي في العراق. ولهذا السبب أصبحت علاقة أميركا بدول العالم آخذة بالتدهور شيئاً فشيئاً. وإذا استثنينا الموقف البريطاني المنصاع للأوامر الأميركية، يصبح ذلك الموقف من المتعذر فهمه حتى عند البريطانيين أنفسهم.
4-في مظاهر الرفض الدولي للأهداف الأميركية:
-سقوط عدد من الشهداء الأميركيين وهم يتظاهرون ضد الحرب والعولمة.
-تدعم روسيا رفع العقوبات عن العراق، كما أنها استطاعت أن تمنع بوش من الذهاب إلى الحرب. وتدعم الشعب العربي، وتدعو إلى اتحاد الضعفاء لأنهم به يصبحون أقوياء. وهناك دعوات روسية متواصلة من أجل التعاون بين روسيا والعرب.
-تتشكل في شتى دول العالم حركات شبابية جديدة لمقاومة العولمة، والوقوف إلى جانب العراق والقضايا العادلة الأخرى.
5-في وسائل منع أميركا من الاستمرار في مواقفها العدوانية:
-إن الوقوف في وجه الرئيس الأميركي بحزم يمنعه من الاستمرار في العدوان.
-دعوة أميركا للحد من الإنفاق العسكري، وتحويله إلى مصلحة محاربة الفقر عندها، وفي شتى دول العالم.
6-في تكوين معالم الخطة الاستراتيجية لمقاومة العدوان الأميركي:
-الدعوة إلى التخلص من كل أنواع الأسلحة، وعند جميع الدول، بما فيها أميركا و»إسرائيل«.
-الطلب من الأميركيين أن يسحبوا قواتهم من كل مناطق العالم. وأن يحترموا حق تقرير المصير للشعوب، وعلى أن حق تقرير المصير لن يكون من الخارج على الإطلاق.
-التساؤل عن السبب الذي يمنع العرب من التكاتف مع العراق، ويتوجه الغربيون بدعوة العرب لإرسال جيوشهم للدفاع عن العراق، ويدعونهم لقطع النفط عن الغرب.
-العمل من أجل تشكيل حركات أوروبية لمنع الحرب ضد العراق.
-أن تكون لحركة المقاومة شخصية دولية، ومن أهم مهماتها: مكافحة العولمة المؤمركة لأنها عملية تحول سياسي للسيطرة الاقتصادية. ومقاومة الغزو الثقافي، وسرقة الموارد البشرية.
ثالثاً: في مضامين مواقف القوى العربية:
1-حول أهداف أميركا من العدوان على العراق:
تعمل أميركا من أجل بناء هيكلية للعولمة تتناسب مع مصالحها. ولأن الشركات المتعدية الجنسيات هي من يحكم أميركا، تتحدد الأهداف الأميركية في العدوان على العراق، بما يلي:
-للأمة العربية مشروع تحرري، وهو اليوم محاصر بالمشروع الأميركي. ولأن مشروع العراق هو جزء أساسي من مشروع الأمة النهضوي، فهو مستهدف مباشرة من المشروع الأميركي.
-تصريف الإنتاج الأميركي والاستيلاء على مصادر الثروة الطبيعية ومن أهمها النفط.
-حرب أميركا لا تشمل العراق بمفرده، بل تطول العرب جميعاً، فأرضهم منبعاً للبترول، وإنسانهم مستهلك وليس منتجاً، لذا على أسواقهم أن تكون مكاناً لتصريف الإنتاج الصناعي لشركاتهم المتعدية الجنسية.
-ولأن العولمة المؤمركة ذات وجه استغلالي عالمي، تدعو القوى والحركات الشعبية العربية إلى قيام جبهة عالمية ضد أميركا. وعليها أن تتوجَّه إلى الأصدقاء من غير العرب، الذين يساندون القضايا العربية، إلى تشكيل لجان للمتابعة المشتركة بين الشرق والغرب. وتبقى الدعوة إلى الحوار بين شعوب الشمال الغني وشعوب الجنوب الفقير قائمة من أجل ترسيخ قواعد التفاهم أولاً والتفاعل ثانياً.
-لا تقف المخططات الأميركية عند حدود استغلال الثروات الاقتصادية فحسب، وإنما إبقاء العقل العربي متخلفاً عن التحول إلى موقع الإنتاج أيضاً. لذا تنتهج العولمة المؤمركة طريق إفراغ الجسم البنيوي العلمي العربي من العقل المنتج، ولهذا السبب تعمل من أجل محو الهوية العربية، ومن أهم مظاهر فصول تلك المؤامرة هو ما يبرز من النوايا من أجل السيطرة على عقول العلماء العراقيين، لذا تصبح الدعوة مستعجلة للمثقفين العرب للقيام بدورهم لحماية الكفاءات العلمية العربية.
2-كشف وسائل الخداع الأميركي في هذه المرحلة:
تتمظهر وسائل الخداع الأميركي، وتتكشف وسائله وأهدافه، على مستوى تخطيطها الاستراتيجي من جهة، ووسائل تحقيق خططه من جهة أخرى بما يلي:
-تحتضن أميركا الكيان الصهيوني، كظاهرة استعمارية، من خلال: استخدام مجلس الأمن كأداة تنفيذية في إصدار القرارات التي تخدم المصلحتين الأميركية والصهيونية. ولهذا السبب، حتى بالنسبة لقرارات المجلس، تتَّبع سياسة المعايير المزدوجة، ومن أهم مظاهرها: إن العدوان الصهيوني على الفلسطينيين بشكل خاص، والعرب بشكل عام يتم بمشاركة أميركية، لذا تعمل الإدارة الأميركية على حماية العدو الصهيوني بمنع المؤسسات الدولية من إرغامه على تطبيق قرارات الشرعية الدولية. وفي المقابل العمل من أجل إرغام العرب على تطبيق تلك القرارات بالقوة والعدوان. كما أنها تتستَّر على إرهاب العدو الصهيوني وتصف بالمقابل نضال الشعب الفلسطيني من أجل حقه بتقرير المصير بالإرهاب. وبهذا يعمل الأميركيون من أجل تحديد تعريف للإرهاب يتناسب مع مصالحهم. وللترابط الوثيق بين مصالح التحالف الأميركي – الصهيوني تستخدم أميركا تهديداتها بالعدوان على العراق من أجل صرف الأنظار عما يحدث في فلسطين من جرائم وحشية ضد انتفاضة الفلسطينيين.

4-في أسباب التحرك الداعم للعراق وموجباته:
-التشكيك في عدالة قرارات مجلس الأمن، لأنها تعبِّر عن مصالح التحالف الأميركي – الصهيوني.
-التركيز على أصولية مسؤولي نظام الإدارة الأميركية.
-العمل من أجل تغيير النظام العالمي القائم حالياً. والتنسيق من أجل ذلك مع أصدقاء العرب في العالم على الصُعد الرسمية والحزبية الشعبية.
-الديموقراطية، بالمفهوم الأميركي، تعني الدفاع عن مصالح أميركا فقط. والديموقراطية تعني، أساساً، حق الشعوب في تقرير مصيرها. ولأن نتائج الديموقراطية في العراق تصب في دائرة الممانعة في وجه الهيمنة الأميركية يعمل الأميركيون من أجل إسقاط النظام فيه الذي اختاره الشعب العراقي بمحض حريته وحقه في ممارسة الديموقراطية.
5-في موجبات ووسائل الدفاع عن العراق وفلسطين:
-دعوة العرب إلى اعتبار أن العدوان على العراق هو عدوان على العرب جميعهم، بسبب ترابط المصالح الأميركية مع كل الثروة العربية، ومع كل السوق العربي. لذا تأتي مهمة المشاركة في الدفاع عن العراق مهمة قومية تدافع فيه الأمة عن نفسها، وهنا من الواجب على الدول العربية أن تقوم بتفعيل اتفاقية »الدفاع العربي المشترك«. ففي المشروع الأميركي، بعد مرحلة العراق وبالإضافة للسيطرة على النفط العربي، ما يؤكد على تغيير خارطة المنطقة العربية بما يتضمن سلامة العدو الصهيوني. وتأتي على رأس الاستحقاقات مهمة تفتيت العراق وسورية ومصر والسعودية.
-دعوة العرب وتحصينهم من الإصابة بالإحباط من وهم فقدان التوازن بالقوى، لأن الحجر الفلسطيني يهزم الترسانة الحربية الصهيونية، وصلابة الصمود في الموقف العراقي يصيب الترسانة الحربية الأميركية بالانفعال.
-لمن الخطأ عند من هم مصابون بوهم اسمه أن أميركا سوف تعمل من أجل حل كل قضايا المنطقة من موقع الشريك الكامل، أن يستمروا في أوهامهم، لأن أميركا ليست شريكاً كاملاً بل هي طرف منحاز إلى مصالحها ومصالح العدو الصهيوني.
إلى موجبات فهم استراتيجيا التحالف الأميركي الصهيوني تستند رسم قواعد أهم وسائل العمل من أجل الدفاع عن العراق وفلسطين:
-تحويل كلام المؤتمرات إلى أفعال.
-كشف أهداف التعتيم الإعلامي على المبادرات الشعبية العربية التي تدهم قضيتيْ العراق وفلسطين.
-ولأن النظام العربي –حالياً- مفكك، يجب التعريض بالأنظمة العربية المتواطئة مع أميركا، وإدانة كل نظام يسمح للقوات الأميركية أن تقيم على أرضه، أو تعبر أجواءه أو ماءه.
-المقاطعة الشعبية لكل ما له علاقة بالمصالح الأميركية. ودعوة الأنظمة العربية، أيضاً، إلى القيام بواجباتها في ممارسة المقاطعة والحض عليها.
-توجيه وفد من المؤتمر إلى العراق من أجل تشكيل سد بشري عربي يدعم العراق في الدفاع عن نفسه.
-أما حول المعارضة العراقية الموجودة في الخارج، فتُصنَّف مواقفها في دائرة الخيانة للوطن. وهي أداة في يد أميركا و العدو الصهيوني. لذا يجب دعوة أطرافها للعودة إلى العراق في سبيل الدفاع عنه. وتوجيه تحية لكل من عاد إلى وطنه. كما أنه على الأكراد العراقيين أن يدافعوا عن أرضهم ضد العدوان الأميركي.
6-في سبيل وضع أهداف قومية ودولية عامة للدفاع عن العراق:
-مواجهة الهجمة الأميركية بهجمة شعبية واسعة، عربية ودولية.
-مواجهة أميركا بالمقاومة في كل أرض عربية. والدعوة إلى مقاومة شعبية عربية شاملة لمهاجمة المصالح الأميركية.
-اعتبار كل الدول التي تساند العدوان الأميركي من الدول المعادية.
-فضح تأثيرات القصف الأميركي، بقنابل محشوة باليورانيوم المنضَّب، على أطفال العراق الحديثي الولادة.
-الاستمرار في عقد سلسلة من المؤتمرات لفضح أهداف العدوان الأميركي على العراق. والعدوان الصهيوني على شعب فلسطين.
***
مقترحات حول مؤتمر الحملة الدولية في القاهرة المنعقد بين 13 – 14/ 12/ 2003م
نتائج المؤتمر
المشاركون، عربياً ودولياً، كانوا من المنظمات والشخصيات الجدية في متابعة الشأن العراقي، بصفته يمثل طليعة للثورة العالمية في وجه أمركة العالم. وكان للحضور الدولي ثقل واضح، بأشخاصه المعنويين وبهيئاته الممثلة شرائح يسارية تتميَّز بالمصداقية وبسرعة الحركة.
فإذا كان هناك إجماع غربي حول موقف موحَّد من أهداف المؤتمر، تجدر الإشارة إلى واقع آخر في مواقف المشاركين العرب، وهي –حسب تقديرنا- تتوزَّع حسب التصنيف التالي:
أ-من المؤيدين للمقاومة العراقية، بعثيين وغيرهم من قوميين ويساريين، بدون تحفظات بالنوع، لكنها تتفاوت بالدرجة، والتفاوت بالدرجة تطول الموقف من المسألة الديموقراطية (في المرحلة السابقة، وتصور موقعها في المرحلة اللاحقة). وهو يشكل الأكثرية في المؤتمر.
ب-هناك تميز واضح لموقف الحزب الشيوعي المصري، وكان لافتاً وضوحه من حيث تأييده لأولوية مقاومة الاستعمار. (يمكننا أن نقوم بدراسته وتحديد موقفنا منه من خلال مراجعة كلمة أمينه العام المرفقة مع التقرير).
ج-موقف الإخوان المسلمين: وهو موقفهم لوحدهم، ويبدو أنهم يطلقون الشعار العام (الجهاد فرض عين في حالة احتلال الأرض)، لكن الموقف مغلق من دون أية إشارة إلى دور المقاومة العراقية بشكلها الراهن، وهذا الموقف –بتقديرنا- عائد إلى أساسين: ديني وسياسي. أما الديني، فهو إيمان التيارات السلفية (سنية وشيعية) بعدم الاعتراف بأية جهة مقاومة أو مجاهدة ما لم تقترن بنية (الجهاد في سبيل الله)، وحيث إن المقاومة العراقية –مهما تغلَّفت بشعارات دينية- فهي علمانية، والاتجاهات العلمانية (عند الأوساط السلفية) لا تستند في جهادها إلاَّ (في سبيل الوطن أو القومية). أما السبب السياسي، فعائد إلى انخراط الإخوان المسلمين في مجلس الحكم العميل، وهذا ما يشكِّل حرجاً أمام الإخوان المسلمين، بشتى تياراتهم، من اتخاذ موقف مؤيد بوضوح للمشاركين في مجلس الحكم الانتقالي من الإخوان المسلمين، ويشكِّل حرجاً آخر بالاعتراف بشرعية المقاومة العراقية.
د-موقف بعض الإسلاميين العراقيين والعرب، خاصة الذين أيدوا سياسة طوني بلير في بريطانيا، فهو واضح برفضه للمقاومة الوطنية العراقية، وواضح في تأييده للمقاومة السلمية. وهم –على أية حال- كانوا يعانون من العزلة داخل المؤتمر.
هـ-موقف ناشز جداً (موقف محام لبناني، يلقى بعض العطف من تجمع يساري لبناني مشارك في المؤتمر)، نجا من الضرب من أوساط عديدة من المؤتمرين. ويظهر من خلال اقتراحاته بإعطاء الأكراد الحق بتقرير المصير، ورفعه لشعار (محاربة الديكتاتوريات والاحتلال)، أنه من المنتمين إلى تيار بعض من يطلقون على أنفسهم مثقفين، كأمثال: حبيب صادق، وفواز طرابلسي، وبعض الشيوعيين اللبنانيين، وبعض التيارات اليسارية اللبنانية.
بالإجمال كانت نتائج المؤتمر –على مقياس واقعية الأمور- مظاهرة إعلامية تخدم المقاومة العراقية، وهي –بلا شك- تشكل أكثر من شمعة في ظلام التعتيم الإعلامي على المقاومة العراقية. وهو –استناداً إلى بعض ما ستنتجه من حركة لاحقة- يصب في الإطار ذاته الذي يخدم الحركة النضالية لرفاقنا في العراق.
لقد كانت فعاليات وفدنا جيدة من حيث:
1-الحصول على كلمة في الجلسة الافتتاحية للدكتور عبد المجيد الرافعي.
2-تقديم المقترحات العملية التي تقدم بها الرفاق المشاركون بمن فيهم رئيس الوفد (المقترحات مرفقة مع التقرير).
3-عدد من الاتصالات الفردية مع عدد من الأعضاء المشاركين في المؤتمر، ومنهم:
أ-صباح المختار.
ب– الدكتور سعيد دودين (مدير مركز ابحاث في ألمانيا يهتم بالشأن العراقي ولديه دراسات موثَّقة عن المشروع النهضوي العربي الذي وضع أسسه نظام الحزب في العراق، وله إصدارات مترجمة عن الإنكليزية يتناول فيها مظاهر السياسيين والمفكرين الغربيين –ومنهم الأميركيين- لمشروع العولمة الأميركية). وقد اتفقنا معه على أساس أن يزودنا بأبحاثه عن المشروع النهضوي العربي.
ج-علي الملاح: وهو أحد الرفاق السابقين. وهو أحد الأعضاء المشاركين في الوفد الكندي، وعلى علاقة وثيقة مع جورج غالاوي وطوني بن، ورامزي كلارك، كما أنه عضو فاعل مع عدد من المنظمات الكندية المناهضة للعولمة، والمؤيدة للمقاومة العراقية. وقد اتفقنا معه على التواصل وتبادلنا العناوين. وهو سيشكل صلة وصل مع تلك المنظمات. بالإضافة إلى أنه اتفقنا معه على ترتيبات ذات علاقة بالدفاع عن الأسرى العراقيين. (سوف نشير إلى هذه المسألة في سياق التحرك من أجل الدفاع عن الأسرى العراقيين من خلال لجنة المحامين في لبنان).
د-الدكتور عبد الله الحوراني على أساس التنسيق بشأن الدفاع عن الأسرى العراقيين.
هـ-اللقاءات مع عدد من الرفاق والفعاليات المؤيدة للعراق، من اليمن، والأردن، والبحرين، ومصر، لبنان (هيئة شبابية يسارية – اتفقنا على اللقاء والحوار معهم في لبنان). اللقاء مع لواء مصري شارك في تدريب المتطوعين العرب في العراق، وله مواقف وشهادات إيجابية، وهو ينتمي إلى التيار الناصري، وأبدى رغبته في التعاون والتعارف مع التنظيمات الناصرية في لبنان، وقد وعدناه بتأمين التواصل.
بعض اللقطات الطريفة من المؤتمر:
يمكن سردها شفاهة إذا توفَّر الوقت، وهي خاصة مع (محام عراقي يسكن في بريطانيا ومحسنة توفيق)ن ومع (المحامي اللبناني كميل داغر ومواقفه الغريبة وكيفية استقبال المؤتمر لتلك المواقف).
مقترحات للمؤتمرات القادمة:
1-وضع تصور مسبق للمؤتمرات التي يمكننا المشاركة فيها، وذلك لكسب مزيد من الوقت للاعداد لها بشكل لا تسبقنا المفاجأة. ولكي نكسب الوقت من أجل تحضير مبكر لدورنا فيها، من حيث:
أ-تحضير الكلمات والمقترحات بوقت مبكر، يسمح بتركيزها، وطباعتها، وتصويرها بالكمية الكافية لتوزيعها على المشاركين في المؤتمر.
ب-التنسيق المسبق (للمؤتمرات الخارجية) من أجل دراسة تقارب سكن رئيس الوفد وأعضائه، لتيسير الاتصالات والتشاور بسرعة، يوماً بيوم، أو جلسة بجلسة. وهذا شيء ضروري لانتظام العمل والاستفادة من أي مؤتمر بشكل أقرب إلى درجته القصوى.
2-تداركاً للنقص في التنسيق بين المشاركين الحزبيين من لبنان مع الرفاق من أقطار أخرى، يمكن ابتكار وسيلة للتواصل مع المرجَّح أن يشارك منهم فيها.



حفل تأبين الشهيد حسين علي غريب
لقد تم العثور على رفاة الشهيد حسين علي غريب في تلة الشريكي التابعة لبلدة الخيام، بتاريخ 31/ 10/ 2002. تمَّ نقل رفاته إلى مقبرة بلدته دبين، ودُفنت باحتفال رمزي.
كان الشهيد منتسباً إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، ومنخرطاً في العمل العسكري في القطاع الشرقي من لبنان في مواجهة العدو الصهيوني وعملائه في بلدة الخيام. سقط شهيداً في 12/ 9/ 1977م في تلة الشريكي – الخيام عندما اقتحمت القوات الصهيوني تلك التلة كضمان لسيطرتها على بلدة الخيام.
وتكريماً له، وللشهيد تامر عون الذي وُجدت رفاته مدفونة إلى جانب رفاة الشهيد حسين غريب، أُقيم حفل تأبيني لهما في بلدة دبين، بتاريخ 17/ 11/ 2002م.
تكلَّم الدكتور أسامة سعد في الاحتفال مشيداً بالمقاومة الوطنية، ودعا فيها إلى التضامن مع فلسطين والعراق في معركتهما الدائرة مع التحالف الأميركي – الصهيوني.
وأُلقيت في الاحتفال كلمة آل الشهيد عون مشددة على النضالات الوطنية والقومية، ودعا الخطيب إلى المشاركة في النضالات القومية الدائرة الآن على الساحة العربية.
وأُلقيت، أيضاً، كلمة دبين وآل الشهيد غريب ورفاقه، وهذا نصها:
أيها الحفل الكريم:
لئن وقفنا في محراب الشهداء فإنما نقف في حضرة الباري الذي أمر بتكريمهم. نقف اليوم في محراب شهيدين نالا شهادتهما معاً على طريق تحرير أرض الجنوب التي ننعم بحنانها. وإن كنا ننعم بدفئها، فلأن أجساد الشهداء انغرست فيها، بحيث كان كل شهيد يسلِّم الراية إلى من يأتي بعده، وهكذا تواصلت قوافلهم حتى التحرير.
يا شهيدينا، تامر وحسين، لقد سلكتما طريق الأخضر العربي، وعلي شرف الدين وعبد الأمير حلاوي. ولبَّى نداء الواجب، على طريق الشهادة، بلال فحص وجمال الحبال وسناء محيدلي ولولا عبود وعامر كلاكش وعمَّار حمود. وغيرهم وغيرهم الكثيرون.
استشهد حسين في صفوف حزب البعث وكانت له أهدافه على طريق الوحدة والتوحيد. فهو يعتز بحزبه لكنه استشهد في صفوف القوات المشتركة، يعتز بدينه لكنه استشهد باسم لبنان، يعتزُّ بلبنان لكنه استشهد باسم أمته العربية. قدَّم كل الشهداء أرواحهم على مذبح الوحدة الوطنية والقومية الجامعة. فحرسوا بذلك أديانهم عندما حرسوا وطنهم، وحرسوا وطنهم عندما حرسوا عروبتهم. فتحية لهم وهنيئاً لهم بشهاداتهم وطنيين وقوميين وإسلاميين.
يا حسين، يا رفيقي في حياتك، ويا رائدي في مماتك، لقد ملأت نفوس عائلتك الصغيرة، وأمتك الكبيرة، بالفخر والاعتزاز. فأنت وكل الشهداء الذين بنوا خزانات الشهادة، وقفتم في وجه مشروع خبيث تقوده الإمبريالية، مشروع يعمل من أجل تفتيت الأمة وتجزئتها للسيطرة على مقدراتها. يتمظهر التفتيت تارة في رسم الحدود الجغرافية بين الأقطار، وتارة أخرى برسم حدود التنابذ والفرقة بين الطوائف والمذاهب. بدأ المشروع منذ قرن وأكثر، ولا يزال مستمراً، بحيث تتولى قيادته اليوم الصهيونية وأميركا.
وقفت يا حسين، مع من وقفوا، في وجه مؤامرة كامب ديفيد، فكانت قوى الغدر والعدوان أقوى من إمكانيات المناضلين المادية، فمرَّت المؤامرة ابتداءً من مصر. وغزت الصهيونية أرض لبنان في أكثر من مرة بمشاركة أميركية. وكان الغزاة يعتقدون أنهم حققوا ما يصبون إليه. ووسعوا مؤامرتهم إلى أكثر من ساحة، فتواصلت في فلسطين، ووصلت إلى العراق، ومرَّت بسوريا وطالت السودان والحبل على الجرّار. وسوف تتواصل كلما أنجز المشروع المعادي حلقة من حلقاته.
ليست الصورة قاتمة في هذه اللحظة. فأنا استند في تقييمي إلى منطق الشهداء، فهم ينظرون إلى النتائج من خلال نضالهم بمنظار النصر الحتمي. فلولا إيمانهم لما كانوا يقدِّمون أرواحهم بسخاء. يقتبس الشهيد من الظلمة نوراً، والنور وليد للإيمان بقضية، والقضية هي الحق في العيش بحرية، إذ ذاك تكون القضية أكثر وضوحاً، والشهادة في سبيلها أكثر قناعة وإيماناً.
بعد مرور خمسة وعشرين عاماً على استشهادكما يا رفيقيَّ، جرت متغيرات عديدة:
تحرر الجزء الأكبر من جنوب لبنان بفعل ضربات المقاومة الوطنية والإسلامية المتتالية والرائعة. وانتقل جيش لبنان إلى مرحلة الجيش المقاوم، يتعهده فخامة رئيس الجمهورية، العماد إميل لحود، بموقف سياسي وطني وقومي أصيل. وهو يسير على هدي هذا الموقف على طريق توحيد لبنان على أسس نهج وطني وقومي.
وفلسطين، بعد استشهادكما، راحت تحقق أجمل حلم عربي سطَّر فيه الطفل الفلسطيني بحجره أروع ملاحم الصمود والمقاومة. وتحوَّل الجسد الفلسطيني إلى قنبلة موقوتة تنفجر في صفوف جيش العدو وآلته العسكرية. وانتشر عشق المقاومة والشهادة عند شعب فلسطين بما زرع الرعب والخوف في نفوس أصحاب المشروع المعادي.
بسبب رفض العراق لذلك المشروع، تنتشر موجات من الهستيريا عند الإدارة الأميركية. هذا العراق العربي، بموقفه الصامد ضد وحشية وصلف أصحاب المشروع الإمبريالي الصهيوني، يقاوم العدوان بصلابة. لا يجوز أن نحوِّل، نحن العرب، مشكلة العراق إلى مشكلة إنسانية، أو نحدد موقفنا منها على قاعدة مضامين أطيافها السياسية المحلية، بل إنها ذات علاقة بموقفه القومي من قضايا الأمة، وعلى قاعدة رفضه ومقاومته للمشروع الإمبريالي الصهيوني. فما يجري ضد العراق هو الصورة التي قد تُمارَس ضد كل قطر آخر يقف في موقع الدفاع عن قرار الأمة، فقضية العراق هي دفاع عن الكرامة والحرية في امتلاك القرار السياسي والاقتصادي. فلقد أرغم موقفه أصحاب المشروع الإمبريالي الصهيوني الخبيث على الشكوى من نفاذ الصبر، وسوف يستنفد موقف العراق صبرهم كثيراً. إنهم يهوِّلون، ويستجمعون قواهم، لكنهم لن يحققوا أهدافهم في وجه من يمتلكون إرادة وتفاؤل الشهداء. فالشعب العراقي لن يركع، ولن يستسلم، فهو قد اختار طريق الشهادة، للدفاع عن أرضه وعن كرامته القومية وعن قرار الأمة العربية جمعاء.
ينتشر اليوم منطق التراجع والضعف لدى بعض الأنظمة العربية، فيغطون ضعفهم بغطاء التخويف من قوة الاستعمار، وهم بين مذعور ومتواطئ. وتناسوا أن رباطهم مع الاستعمار هو رباط المصالح، بينما رباطهم مع العراق هو رباط المصير، ودفاعهم عنه هو دفاع عن مصالح الشعب العربي بأكمله. تناسوا أن التحالف الأميركي الصهيوني، لن يرحم تلك الأنظمة إذا سقط العراق. ولن يكون الثمن الذي سوف يقبضونه أكثر من حفنة من الدولارات كثمن لموقفهم المتواطئ، لكن بوش لن يدفع إليهم يده ليصافحهم كأصدقاء، بل سيقول لهم إن اليد التي تواطأت على شعبها لن تكون صادقة مع أية جهة أخرى.
وفي المقابل تنحسر صورة التشاؤم لتحل مكانها صورة التفاؤل، فهناك الحوافز التي تعتلج في نفوس الشعب العربي الذي يعلم أن التحالف الإمبريالي الصهيوني لن يعمل إلاَّ لمصلحته فقط، كما يعلم أن الدفاع عن العراق هو دفاع عن النفس. إن الدائرة المركزية في مقاومة المشروع الإمبريالي الصهيوني يمثلها العراق في هذه المرحلة بالذات. وليست للعرب والمسلمين مصلحة إلاَّ الاصطفاف إلى جانبه لمقاومة ذلك المشروع، وليس مسموحاً لأحد أن يقف على الحياد وكأن المعركة لا تعنيه، فاليوم دور العراق وفلسطين، وغداً يأتي دور الآخرين.
ولن يفوتنا ما يجري من بعض خطوات التنسيق والتعاون العربي لمواجهة العدوان، وما تضيفه من إيجابيات على إدارة الصراع. وإننا لواثقون من أن التشكيك في استمراريتها لهو مراهنة خاسرة بما لا ريب فيه.
إن الإرادة الشعبية العربية لن تتنحى عن دورها على الرغم من كل مظاهر القمع التي تتمظهر، هنا وهناك. وسوف يفاجئ الموقف الشعبي العربي والإسلامي جورج بوش وأعوانه، الذين سخروا من المراهنة عليه، فهو سيقضي على أحلامهم ومشاريعهم.
تكفينا اليوم صورة مشرقة أننا امتلكنا إرادة المقاومة والرفض لأوامر السيد الأميركي، وإننا اقتنعنا بان طريق الشهادة في سبيل الكرامة هو طريقنا إلى النصر والتحرير والحرية.
إننا يا شهيدينا، قد سجلنا أسماءنا في سجل المقاومين حتى الشهادة أو النصر، والنصر في منطق الشهداء هو نتيجة حتمية، وإننا لمنتصرون لأننا سوف نقف ونقاتل إلى جانب فلسطين والعراق، ونقف إلى جانب سوريا التي تتعرَّض لابتزاز أميركا وتهديداتها. ونقف إلى جانب كل حركة أخرى تتعرَّض للتهديد. ولأن مصائر الجميع مترابطة، سوف نقاتل في كل بقعة عربية تتعرَّض للعدوان الإمبريالي الصهيوني. سوف نستمر في نهجكم المقاوم، هنا في لبنان، أنتم يا من حطمتم أسطورة التخويف من شدة بأس التكنولوجيا الصهيونية.
ولأن الشعب العربي اختار طريق المقاومة والشهادة، فإنه لمنتصر بما لا ريب فيه.
والسلام عليكم ورحمة من الله وبركاته
***




تحرير جنوب لبنان:
صراع بين موضوعية كتابـة التاريخ وبين شبق الكسب الفئوي
لا بُدَّ، أولاً، من أن نتوجَّه إليكم بأسمى آيات التهاني في عرس التحرير الذي ما زال جنوب لبنان يعيشه حتى الآن. هذا العرس الذي عمَّ أرجاء لبنان، وكل بقعة من بقاع الأمة العربية من المحيط إلى الخليج. عرسٌ له دلالاته ومعانيه الكبيرة، ليس على لبنان فحسب، وإنما، أيضاً، على كل الشعوب التوَّاقة نحو التحرُّر من الغزو الأجنبي، فكيف به إذا كان غزواً استيطانياً كمثل الغزو الصهيوني؟
ولأن بعض الفصائل حوَّلت الاحتفال بالنصر إلى احتفال فئوي، وعَدَّته وكأنه لها وحدها،
وكي لا يتحوَّل النصر ويتقزَّم،
وحتى لا يتحوَّل تاريخه إلى كتابٍ مزوَّر،
وحتى لا يمحي دمُ شهيدٍ دمَ شهيد آخر، كان لا بُدَّ من أن نتساءل:
هل نَعِدُّ تحرير الجنوب حلقة منفصلة عن حلقات النضال التي سبقتها؟
وهل نمحي دماء آلاف الشهداء الذين سقطوا، قبل سنوات كثيرة، على طريق مقاومة العدو الصهيوني؟
كيف نكتب تاريخ تحرير الجنوب؟ ومن يكتبه؟ ولمصلحة من؟ هل نُزيلُ شواهد قبور الشهداء الذين لا يحملون هُويَّة التنظيم الذي قطف النصر لأنه استفرد بالعمل المقاوم في مراحله الأخيرة؟
وحتى لا يضيع النصر ويصبح فئوياً، وحتى لا يصبح التاريخ مُلْكاً لأصحاب الأغراض السياسية التكتيكية، وحتى لا تضيع حقوق آلاف الشهداء، كان لا بد من إيضاح ما يجب إيضاحه في هذا المجال.
أولاً: إننا نقف بإجلال وإكرام أمام كل الشهداء الذين سقطوا على طريق تحرير الجنوب، إلى أي فصيل انتموا، ومع أي حزب ارتبطوا. ولا ننكر الدور المهم والفعال الذي قام به مقاتلو حزب الله في السنوات العشر الأخيرة عندما قدَّموا مئات الشهداء وآلاف الجرحى، وقاموا بأعمال تتَّسِم بالبسالة وروح التضحية العالية.
ثانيـاً: إن ما قام به مقاومو حزب الله من أعمال تميزت بالنوعية يجب أن لا يلغي ما كان يقوم به مقاومو أحزاب الحركات اليسارية في لبنان.
ثالثـاً: لا بُدَّ من من أن نتساءل عن السبب الذي من أجله تفرَّد حزب الله بالعمل المقاوم؛ وعن السبب الذي من أجله أُبْعِدَت الأحزاب العلمانية / الأحزاب الوطنية اللبنانية أو انكفأت عن واجهة الصراع مع العدو الصهيوني؟ هل كان الانكفاء ذاتياً؟ وهل إن روح التضحية والنضال قد نضبت في داخل صفوف قواعدها الحزبية؟ أم هل كان الانكفاء قسرياً، ولأي سبب ؟
لمزيد من الأسف لم يقم أي حزب من أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية بتقديم تعليل لهذا الانكفاء، وهي التي كانت تتصارع في سبيل نيل كسبٍ من هنا وكسبٍ من هناك. ما هو السبب الذي دفع بها نحو الصمت وهي ترى تضحيات شهدائها تؤكل وهم عاجزون عن الدفاع عنها !!!
وهل ننسى التسابق الإعلامي المحموم على الكسب الفئوي، الذي كانت قيادات مختلف الأحزاب تمارسه قبل أن يعلو صوت حزب الله، وبعد أن علا، أو تمَّت مساعدته على أن يكون صوته الأعلى؟
لا ندري لماذا خرست أصوات الجميع أو أُخْرِسَت؟
لم يجرؤ أي منهم حتى الآن على الإفصاح عن السبب الذي من أجله صمتت أمام الزحف السياسي والإعلامي الكاسح الذي تشنُّه قيادات حزب الله تهليلاً لنصر تدَّعي إنجازه لوحدها.
إن كل ما نستطيع أن نقوله نحن هو أننا قد مُنِعنا –في حزب البعث- من متابعة دورنا في المقاومة لأسباب إقليمية. ولم يكن المنع عادياً، بل استخدمت فيه الأجهزة أساليب الملاحقة والاعتقال والتجريد من السلاح ومصادرته؛ ووصلت شدة الملاحقة إلى أسلوب الخطف والاغتيال.
من هو الذي عليه أن يكتب تاريخ المقاومة اللبنانية، سواء كانت وطنية أم إسلامية؟
من هو الذي سوف يكتب هذا التاريخ حينما يُقَرَّر تدريسه في كتب التاريخ الوطنية؟ وهل سيلجأ كاتبوه إلى الموضوعية أم أن قوَّة الحاكم هي التي ستفرض اتجاهاته ووقائعه؟
كان التاريخ يُكْتَب بإرادة من الحكام السياسيين وبما يخدم مصالحهم، وقليلاً ما كان المؤرخ الموضوعي يلعب دوره في العصور السالفة، وكانوا من القلة التي تفسرها قلة انتشار وسائل الإعلام. أما اليوم فهو عصر الصحافة التي تسجِّل يوميات التاريخ حتى بأدقِّ تفاصيلها، ويُصبح تقييم التاريخ بشكل موضوعي، أمام الأكاديميين البعيدين عن الإيديولوجيات السياسية، أكثر سهولة ومنالاً من السابق؛ ولكن، حتى يستطيع الأكاديمي أن يلعب دوره ليس أمامه إلا انتظار أفول نجم نظام سياسي حاكم ومُغْرِض حتى يستطيع أن ينشر نتائج أبحاثه.
وعلى هذا الأساس، نرى أن كل وقائع تاريخ المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني ، وحتى أدق تفاصيلها كانت تُسَجَّل في الصحف والمجلات؛ ومراكز الأبحاث مليئة بها، وأرشيفات الصحف أصبحت بغاية من التنظيم والدقة، التي تسمح لأي باحثٍ أو مؤرِّخ أن يفتح خزائنها؛ ومنها يستطيع بحياديته -إذا كان حيادياً أو غير مأمور بكتابة التاريخ على ذوق هذه الجهة السياسية أو تلك- أن يكتب تاريخاً نظيفاً وموضوعياً بعيداً عن الأغراض السياسية وأهوائها.
أما بالنسبة للانتصار العظيم الذي حققته المقاومة ضد العدو الصهيوني، والتي سَرَقَت فيه أضواء النصر منظمات (مثل حركة أمل وحزب الله) مدعومة بشكل تام وكامل من أنظمة سياسية مهيمنة، فلا يُعَبِّر تماماً عن تاريخ موضوعي وأمين لوقائع يوميات المقاومة التي لم تُوْلَد منذ العام 1982م، أي بعد الاجتياح الصهيوني الواسع للأراضي اللبنانية، بل وُلِدَت قبل ذلك بكثير.
من دون أن نحدِّد مرحلة التحضير والإعِداد وهي تعود لسنوات قبل هذا التاريخ إنطلقت المقاومة اللبنانية، فعلياً، منذ العام 1969م، وسقط فيها لحزب البعث العربي الاشتراكي أول شهيد في تلال العرقوب، وهو الشهيد حسين علي قاسم الذي استشهد في العام 1969م. وتبعه الشهداء: الترك، وهوشر، وحمُّود، والصيادي قرب بلدة الهبارية في العام 1970م.
وبنى حزب البعث، أيضاً، الخلايا الأولى للمقاومة اللبنانية في عدد من قرى جنوب لبنان منذ أوائل السبعينات، وكان من أجلى مظاهرها معارك المواجهة التي حصلت بين مجموعات من جيش العدو الصهيوني وبين عائلة الشهيد علي شرف الدين، وولديه عبد الله وفلاح في 1/1/1975م. ولحقتها معارك المواجهة بين البعثيين في كفركلا وبين قوات العدو في معركتين: حصلت الأولى في شهر تموز من العام 1975م، وتبعتها معركة أخرى في 27/11/1975م سقط فيها الشهيد عبد الأمير حلاوي.
وتواصل البعثيون مع تاريخهم النضالي المقاوم في القتال ضد العدو بعد أن سقطت منطقة مرجعيون؛ فسقط عدد آخر من الشهداء على شتى المحاور. وتتابعت عملياتهم بعد العام 1982م، فبلغت المئات وسقط منهم عشرات الشهداء. ولم تهدأ عملياتهم بعد الاندحار الأول للصهاينة في العام 1985م. وهنا لن ننسى أن أول المجموعات التي كانت تطال تلال سجد المشهورة كانت من المقاتلين البعثيين، فهل ننسى الشهيد ناجي قنبر الذي سقط في إحدى العمليات في تلك التلال، وذلك في 29/11/1985م؟
واستكمالاً لاستراتيجية الحزب التي بدأ في تنفيذها منذ أواخر الستينات، فقد استمرَّ مقاتلو الحزب، بعد العام 1985م، وعلى الرغم من كل العوائق التي كانت تُزْرَع في طريقهم، في عملياتهم العسكرية في داخل الحزام الأمني؛ وقد سقط في أوائل التسعينات الرفيقان الشهيدان: حسين المحمود وسليم بركات في أثناء قيامهما بزرع عبوة ناسفة في منطقة حاصبيا؛ إلى أن توقفت العمليات العسكرية لحزبنا بشكل قسري بعد أن شُدِّد الخناق على الحزب بشكل كامل.
إذ نذكر هذه الوقائع إنما لكي نؤكِّد من خلالها أن التنظيم الأول الذي أعدَّ لاستراتيجية المقاومة ضد العدو ليس دفاعاً عن لبنان فحسب، وإنما لتحرير فلسطين أيضاً، هو حزب البعث العربي الاشتراكي. وعلى التنظيمات اللبنانية جميعها من اليسار واليمين أن تكشف تاريخ المقاومة لترى أن هذه هي الحقيقة من دون منازع.
ولا بُدَّ من أن نُذكِّر أن التنظيمات اللبنانية الأخرى قد بدأت في العمل العسكري ضد العدو الصهيوني بعد العام 1975م:
-حركة أمل تأسَّست في العام 1975م ولم تمارس أسلوب مقاومة العدو إلا في وقت متأخِّر بعد الاجتياح الصهيوني من العام 1982م.
-حزب الله تأسس بعد العام 1985م، ولم يمارس أسلوب المقاومة إلا في وقت متأخِّر أيضاً.
-الحزب السوري القومي الاجتماعي، وعلى الرغم من استراتيجيته المُعْلَنَة في قتال العدو الصهيوني، إلا أنه لم يبدأ في لعب دوره في المقاومة، فعلاً، إلا من خلال القوات المشتركة اللبنانية - الفلسطينية في العام 1975م.
-الحزب الشيوعي اللبناني الذي ابتدأ يغيِّر استراتيجيته من العدو الصهيوني بعد العام 1969م، وذلك بعد أن كان يؤمن بأن الكفاح الشعبي المسلَّح هو عمل مغامر، بدأ ينخرط في تأهيل عناصره للانخراط في العمل المقاوم منذ بدايات السبعينات.
-منظمة العمل الشيوعي وهي تأسَّست منذ أوائل السبعينات، وأخذت تمارس دورها العسكري من ضمن القوات المشتركة في العام 1975م.
فبالعودة لوقائع التاريخ، إذاً، نجد أن كل القوى التي أسَّست للعمل المقاوم ومارسته بالفعل، قد أُبْعِدَت عن واجهة أقواس النصر، باستثناء علم هنا للحزب السوري القومي الاجتماعي، وعلم هناك للحزب الشيوعي... أما بالنسبة إلينا نحن فغير مسموح لنا على الإطلاق أن نمارس حقنا.
لقد مُنِعَت شتى التنظيمات الوطنية من متابعة العمل المقاوم، ويأتي على رأسها حزب البعث العربي الاشتراكي، لأسباب إقليمية. واستخدمت الأجهزة كل ثِقَلِها في سبيل المنع، وقد وصلت الأمور إلى الدرجة التي كانوا يلاحقون فيها مجموعات الحزب المُؤهَّلَة للقتال ويتم اعتقال أفرادها. وقد استُخدمت أساليب التصفية الجسدية بحق عدد من المناضلين كما حصل مع رفيقنا الشهيد عبد الأمير مقلد، الذي خُطِف وسُجِن وتمت تصفيته جسدياً وألقى الجناة بجثته في أحد شوارع بيروت بتاريخ 30/6/1987.
إن النصر الأخير الذي تحقق كان يجب أن يكون مُلْكاً لجميع الشهداء، ولكنه قُطِف على قاعدة أن من سُمِح له بالعمل هو الوحيد الذي يجب أن يقطف ثمار جهده ويسرق جهد الآخرين.
أخيراً، وبعد أن أوضحنا بشكل شديد الإيجاز بعض اللمحات من تاريخ المقاومة، التي كان لحزب البعث فيها قصب السبق، لا نستطيع إلا أن نقول إن للمقاومة تاريخ متسلسل بذلت فيه الدم كل التنظيمات بشكل أو بآخر، بنسبة أو بأخرى؛ ولكن كان لحزبنا قصب السبق في وضع استراتيجية للتحرير تستند إلى الكفاح الشعبي المسلَّح. وقد سُرِقت منه، لأسباب سياسية إقليمية، دماء شهدائه بدءًا من الشهداء من آل شرف الدين في العام 1975م وانتهاءً بالشهيدين: المحمود وبركات في أوائل التسعينات من هذا القرن.
وإذا كنا لا ننكر الدور الكبير الذي قام به شهداء حزب الله وحركة أمل الذين جيَّرت قياداتهم كل ثمار النصر لصالحهم، فإنه علينا أن لا نرضى بأن يُنْسى شهداؤنا وأن يُلْغى الدور الذي لعبه حزبنا في مقاومة العدو الصهيوني منذ العام 1948م وحتى الآن.
إن ما نقوم بإيضاحه، الآن، ليس إلا لكي لا ينسى البعثيون ريادتهم لعمل المقاومة في شتى الميادين النظرية والعملية. وكي لا ننسى في غمرة النصر ونشوته أنه كان لهم شهداء فوارس، لو كُتِب تاريخ المقاومة بشكل موضوعي لكان من الواجب على من يبتهجون اليوم أن يبنوا لشهداء البعث تماثيل الفخر والعزة والكرامة.



مقال لمجلة شؤون جنوبية
8/ 4/ 2002
ما أحلى وأجمل من أن يعود إنسان إلى أرضه بعد طول انقطاع. فالعودة إليها عودة إلى الجذور وحنين إلى الأهل. فالأرض لن تُنسى، وإن احتلَّها غاصب، ستحتلها في المقابل ذاكرة الأجيال وقلوبهم، وسوف يعملون كل جهدهم في سبيل استعادتها، فمهر الأرض غالٍ، يوازي دم العروق ونبض الحياة.
ليست الأرض مسألة نفسية واجتماعية وروحية فحسب، فالأرض مسألة سياسية أيضاً. أن ترتبط بالأرض، هو الوجه الأول، أما الوجه الآخر فهو كيف تكون الأرض صالحة لإنبات الأجيال الجديدة المتواصلة لكي يعيشوا بها وعليها ولها بكرامة وعزة.
قريتي جزء من الشريط الحدودي الذي كان محتلاً، وجزء من جنوب الوطن الذي كان مهملاً ولا يزال. أنا جزء من قرية دنَّسها العدو لعشرات السنين. أنا جزء كان مهملاً في أرض لم يتورَّع النظام السياسي عن إهماله إلى درجة النسيان.
كان يسكنني همَّان في مرحلة الاحتلال: كيف أسهم في تحرير الأرض أولاً، وكيف أرى مرحلة ما بعد التحرير ثانياً.همَّان يسكنان قلبي وعقلي في مواجهة همَّين: مستقبل علاقتي مع ضيعتي إذا كُتبِت لي الحياة في العودة إليها، وهمُّ مستقبل أطفال ضيعتي -وأطفالي جزء منهم- في علاقاتهم ومستقبلهم على أرض ضيعتهم.
أما الأن، فإن ما يجعلني قلقاً، بعد العودة،وفي الوقت الذي عاد فيه الأهل للتواصل على أرض ضيعتنا، هو أن لا تبقى مصيفاً ومحطة للاستراحة في أيام العطلة عن العمل ما إن تنتهي حتى يتركوها عائدين إلى أعمالهم. فمن الخطأ المميت أن تتحول ضيعتنا إلى مصيف لا نشعر بالعلاقة معها إلاَّ لأننا سوف نقضي أيام العطلة فيها.
تترافق الأرض مع الاستقرار عليها، بمعنى أن تكون لقمة عيشنا منها، والحرف الذي على أولادنا أن يتعلموه يجب أن يكون على مقاعد مدرستها. فالعلاقة بين الأرض والإنسان علاقة تبادلية: نعطيها من العمران والتنمية، فتعطينا الأمان المعيشي والاجتماعي. نبدي حاجتنا إلى الوحدة بين أبنائها فتحضننا وتوحدنا. فالأرض تمثل الحياة المشتركة بين أبنائها على شتى مشاربهم وتعددياتهم الفكرية والدينية.
من المخيف أن ننظر للأرض وكأنها سماء زرقاء وهواء عليل وماء سلسبيل فحسب. فالأرض هي، أيضاً، مصدر للاستقرار والرزق وأساسهما التنمية. والأرض هي لكل من سكن عليها دون المساس بحقه في الحرية والاعتقاد والتفكير. فالأرض هي وحدة الإيمان بالدفاع عنها لكل من يملك شبراً عليها يدافع عنه في وجه الغاصبين.
تعالوا لنبني ضيعة وجنوباً ووطناً، ينضاف فيه الاهتمام بالتنمية إلى محبة السماء والماء والهواء وحبة التراب. تعالوا بنا لكي نبني، ليس على قاعدة ضيعة للسياحة والاصطياف، بل ضيعة تصلح للعيش الكريم.


الرابع والعشرون من أيـار من العام 2000
مشهد خاص من الجنوب لا يختلف عن المشهد العام فيه لحظة عودة الأبناء إلى أرضهم، وفي عودة الأرض إلى أبنائها، في عودة الصامدين إلى وطنهم، وفي عودة الوطن إلى الصامدين…
من أين أبدأ؟ لست أدري. لأنني متى ابتدأت لن أعرف أين سأنتهي. ذكريات طالت مسافتها، وحلم طويل مسافته أربع وعشرون عاماً. فهل اختصر؟ وكيف؟ وهل أستطيع؟
المسافة شاقَّة، فهي مُحَمَّلَة بأثقالٍ عَجِزَ الوطن كله عن حملها. مسافة دامية ومُؤْرِقة نالني منها الكثير الكثير. ولم يكن الأمر مجرد أوجاع خاصة، بل كانت أوجاع وطن عاش كابوساً طويلاً من الذكريات، وحمل كثيراً من الآمال والأحلام.
تختلط العواطف، تتراكض الرؤى، تزدحم الكلمات، تتطاير شظايا الذكريات ...
حلم جديد ينضاف إلى سلسلة من الأحلام الطويلة والكثيرة لكنه ليس كمثلها.
أحلامي السابقة كانت تتبدَّد وتتناثر، كانت تغيب ولا يبقى منها سوى لذة الذكرى الجميلة، كانت تبِّددها العودة إلى الوعي، إلى الواقع؛ فهل ما أراه، في هذا اليوم، حلم جديد لن يبقى منه أكثر مما بقي من سابقيه؟
في هذه المرة، كما أذكر، خرجت من البيت وأنا على يقين بأنني لست حالماً لأنني لم أنم في ليلة الرابع والعشرين من أيار؛ وأنا الآن في صبيحته، بعد أن تأكَّد نبأ انسحاب القوات الغازية، السارقة أحلامنا، السارقة أحلام الوطن بأكمله.
أكَّد النبأ وكالات الأنباء، وما كان أكثرها. هواتف بعض من أُحبُّ ومن أَحبوني كانت ترنُّ باستمرار لتُبشِّرني بأن عصر اللقاء قد تحقق في زمن كان يلف المحيط والخليج اليأس القاتل وسكون الاستسلام.
اللقاء لن يتأجَّل إلى غد، بل اللقاء الآن الآن الآن... و ها هم الأحبة المرافقون يتأهبون للعودة على طريقتهم الخاصة: يحملون في قلوبهم كل أمتعة الذكريات والفرح. كانوا كلهم مستعجلون، وكلهم متباطئون في وقت معاً. الكل يستعجل الكل للنزول إلى السيارات التي لفَّها علم واحد موحِّد. أصبح الوقت لديهم أغلى من الذهب. يلفهم الشوق والحنين لرؤية ما مُنِعوا من رؤيته لسنين طوال. خائفون هم من أن يتبدَّد الحلم، خائفون من أن يطول وقت الانتظار، وهم قد انتظروا طويلاً: إنتظروا لأنفسهم لأنهم كانوا يتشوَّقون للأرض، لحبة التراب، للبيت الذي كنا نحدِّثهم عنه، فيحسُّون في حديثنا اللهفة والشوق للرجوع إليه، للشجرات التي تركناها في المهد وكانت تحتاج إلى قطرة الماء من أيدينا لتكبر وتنمو، فكبرت ونمت بعيدة عن رعاية عيوننا؛ وانتظروا من أجلي لأنهم كانوا يعانون مما كنت أعاني: من لهفة عودتهم إلى الأرض المُغْتَصَبَة، ومن لهفة الأرض إلى العودة إلى أهلها من كنف الاغتصاب. كلانا – نحن والأرض- كان مشتاقاً للآخر، ولكي نعالج ظمأ الشوق لا بُدَّ من أن نترع الكؤوس لنرتوي معاً.
إنطلق موكبنا الصغير، وكان حمله كبيراً من الشوق والحنين إلى الأرض، وإلى من بقي فيها من الأحبة؛ فكلهم كانوا في حدقات العيون:
أمواتاً لبوا نداء ربِّهم، ومُنِعْنا من السير وراء نعوشهم إلى مثواهم الأخير، ومن قراءة الفاتحة على قبورهم.
وكباراً تربطنا بهم ذكريات حبيبة ودافئة لم تستطع مسافة أربع وعشرين سنة من أن تُنسينا حرفاً واحداً منها.
وصغاراً/أغراساً تركناهم ينمون فيكبرون ولا نعرفهم، ونحن نتحرَّق شوقاً لرؤيتهم، وأصبحوا أشجاراً باسقة تملأ العين وتُسِرُّ القلب وتُثْلِج الصدر والخاطر.
كانت الأشواق تملأنا، وكنا نشدُّ الهمة كي نبدأ في العد العكسي للوصول، وتبدأ نقطته من آخر المساحة التي كانت خاضعة لسلطة الوطن، وأول مساحة كانت خاضعة لسلطة الاحتلال.
هذه آخر نقطة من الأرض كنت قد وصلت إليها، فيا شوقي لأول مساحة لم تطأها قدميَّ منذ أربع وعشرين عاماً؛ وها هي قد بدأت.
إبتدأ العد العكسي، فابتدأت خفقات القلب تتسارع، وأخذت لذة انتظار تحقيق الحلم الجميل تزداد. وأخذ الشوق إلى رؤية ما أنا قاصد إليه كي أراه تتفاقم. فحلم تحرير الأرض قد تحقق، وبقي حلم رؤية البيت والأهل والضيعة كلها، الشبابيك التي كنت أتصور أن الصدأ قد أعطبها، وسقف البيت وجدرانه التي أحرقها المحتلُّون، أغراس الأشجار ذوات السنتين حينما غادرت الأرض التي أحببت، لحظات البكاء حينما سقطت الأرض في أيدي الغزاة، وما أمرُّها لحظات يبكي فيها الرجال.
تلك التلال المُطِلَّة التي تقبع ضيعتي وراءها؛ هناك جرت معارك كثيرة وعديدة. هناك كانت العمليات الفدائية تجري منذ أوائل السبعينات في سبيل الدفاع عن الأرض، ثم في سبيل استردادها. هناك سقط الكثيرون من الشهداء الوطنيين، الذين أعرف بعضهم وأجهل البعض الآخر، وكل ما بقي راسخاً في قلبي هو أن دماءهم الطاهرة قد روت الأرض و ها هي اليوم قد نبتت انتصاراً لنا واندحاراً للغزاة.
سأفتقد إلى الكثيرين مما غيَّبهم الموت، من الأهل والأصحاب، وممن روت الأرض دماءهم فحققت لنا هذا النصر الكبير.
أنا بشوق إلى كل شيء، وإلى كل وجه، وإلى كل إنسان ربطتني به ذكريات الأرض والضيعة والبيت: في العمل، في النشاط الاجتماعي، في النشاط السياسي، في أزقة الضيعة وشوارعها، في طرقاتها وفي بساتينها، في دروب النضال والشهادة، وفي فترات الراحة والاستجمام التي قلَّما كنا نلتقيها.
أي شوق أشعر به الآن –وأنا على طريق العودة الذي أصبح قريباً وقريباً جداً فقد أصبح أقرب من كل المسافات: كنت قريباً في الزمن السابق لكن المسافات كانت تُقاسُ بمكيال الحلم أما الآن فهي ليست إلا مسافة حقيقية تفصلنا عن موطن الحلم المنشود "عجقة" السيارات التي اتَّخذت وجهتها مواطن أحلام سائقيها وراكبيها. هو شوق ليس بما عهدته سوى في محطات التغييب القسري عن كل ما أحببت، فأنا اليوم أفيق من حلم طوله أربعة وعشرين عاماً.
تقترب المسافات ويقصر الصبر، فعجالة الصبر لا تستطيع أن تتحمَّل المسافات مهما قَصُرَت:
على الطريق القصير الطويل كانت الذاكرة تعود إلى الماضي بكل تفاصيله، هنا كان... وهنا كانت... هذا بقي كما كان... وذاك غابت كل معالمه... لكن الأهم مما بقي ومما غاب كان المشهد العام على أصالته، فهو لم يتغيَّر. بقيت الأرض مشتاقة إلى أبنائها، هي اليوم حرَّةٌ وهم اليوم أحرار. كل منهما مشتاق للآخر: مشتاقة تنتظر المشتاق... فهيا أيها المشتاقان بنهم إلى بعضهما إترعا الكأس وعُبَّا منه ما فاتكما في زمن الغزاة من فرح.
هذا معبر كفرتبنيت، كفرتبنيت التي كانت مأسورة ومقهورة، كان الخطوة الأخيرة من الأرض التي وطأتها قدماي منذ سقطت المنطقة تحت قهر الغزاة، وأول خطوة على الأرض التي حُرِمْتُ منها منذ أربع وعشرين عاماً.
معي في السيارة من أهلي من تسنَّى له عبورها في زمن الغزاة، حاملاً ما كنا نسميه "باسبور" القهر، أخذ يتذكَّر: هنا كانت بوابة الحديد التي لم تكن لتُفتح إلا بأوامر من الإسرائيليين، وهنا كانت الغرفة التي كان عملاء العدو يدققون بتصاريح المرور، وهنا كان الموقف الذي كانوا يفتِّشون فيه السيارات الداخلة إلى القرى المحتلَّة، وهنا كانت الغرفة التي كانوا يُخضِعون فيها النساء للتفتيش... وها هنا كانت تبدأ حالة الإذلال والقهر... وهنا وهنا وهناك... وتتبعها زفرات من التأوه ملآنة بالذكرى الأليمة التي لا يمكن أن يشعر بطعمها إلا من عانى من هذا المعبر ومن غيره من المعابر، التي لم يكن لها من طعم إلا أنها كانت منفذاً من الأمل-حتى ولو كان مملوءًا بالحسرة والأسى- لإبقاء العلاقة مع الأرض الصامدة ومع الأهل الراسخين فيها.
هذا وادي الخردلي، وتلك ديرميماس، وهذه كفركلا وفارسها الشهيد عبد الأمير حلاوي، وقد انزاح عن صدر بوابتها، ذلك العدو الذي اندحرت أواخر فلوله منها أمام إرادة الشعب بالتحرر المعمَّدة بأرواح الشهداء ودماء المقاتلين، ومُعَمَّدَةً بدماء من فجَّر نفسه بسيارته أمامها.
وتلك بلدة الطيبة تقع خلف تلال كفركلا وتعتزُّ بفرسانها الشهداء من آل شرف الدين الذين رووا أرضها بدمائهم وأرواحهم الطاهرة في أثناء مواجهتهم للعدو.
هذه "تل نحاس" بوابة كانت تحرس الغزاة، وهذه "برج الملوك"، و "القليعة" التي فجَّر فيها نفسه بسيارته الشهيد حمُّود مخترقاً قافلة للجنود الغزاة؛ وتلك الدردارة التي لم ولن تنسى أبو زينب الذي فجَّر جسده بقافلة للعدو. ومن هناك، من أوتوستراد جديدة مرجعيون ظهرت بلدة الخيام يشرف عليها معتقل الخيام الذي صمد فيه الأسرى تحت أسواط التعذيب، وظهرت في الجهة الشمالية منها تلة "الشريكي"، التي احتضنت –في مقبرة جماعية- جثة الشهيد حسين غريب الذي سقط مع ثلَّة من رفاقه في أقسى معارك المواجهة مع العدو.
وهناك، بعيداً في سفوح جبل الشيخ، سقط الأخضر العربي في معركة مواجهة مع الصهاينة.
قريتي ما زالت بعيدة وقريبة في آنٍ معاً، المسافة طويلة طول الأربع والعشرين سنة التي فصلتني عنها، وأصبحت قريبة بالأمتار، تلك الأمتار المليئة بآلاف الكيلومترات من الذكريات في كل أنحاء منطقة مرجعيون...
في نهاية مدينة مرجعيون، شمالاً، أخذت أولى ملامح دبين تظهر.
كلما بدت زاويةُ بيتٍ منها كانت خفقات القلب تزداد اضطراباً...
وكلما لاح غصن شجرة خضراء يتمايل قلبي ثَمِلاً، ويزداد بي الشوق لرؤية المزيد، فأنا أريد الكثير. أنا لم أشعر بالطمع مثلما أشعر اليوم، وفي هذه اللحظة بالذات؛ فأنا ظمآن، وليس على العطشان ملامة إذا أراد أن يرى الكون كله نهراً من الماء السلسبيل وإذا ما أراد أن يشرب منه.
ليس تعصباً لك يا دبين يزداد شوقي إليك، فأنا أحبك لأنك تشكِّلين المأوى ولا بد للإنسان من مأوى له حتى في وطنه. ففيك كان المولد؛ وفي منزلي دفنت الأسرار الخاصة، وفيه زرعت الذكريات الحلوة، وفيه الأمان عندما كنت أفتقده...
وأخيراً أطلت أمام عينيَّ البقعة التي كان فيها بيتنا...
إزدادت البيوت، التي أعرفها، حلاوة؛ فهي محاطة بالأشجار التي كبرت؛ الله أكبر كم هي جميلة تلك الأشجار، آه ما أجمل اخضرارها...
لم يكن لها من العمر إلا سنتين وتجاوزت الآن ربع قرن من الزمن، لقد تحدَّت الأشجار كل مظالم العدوان ولم تركع...
أين البيت الذي شعرت بظمأ شديد لكي أراه؟ !!! لقد نقلوا إليَّ أنه ما زال شامخاً على الرغم من أنهم أشعلوا النار فيه حقداً. لكن ما لي لا أراه؟ إنه كان في تلك البقعة التي لن أنساها أبداً.
تأكَّدتُ، أخيراً، أن الأشجار، التي ما زالت واقفة، قد أخْفَتْهُ عن الأنظار. فهو ما زال قابعاً في أحضانها؛ هكذا أردته أن يكون؛ فالأشجار نعمة من الله أرادها لباساً للحجر ومتعة للنظر. لكن لن أستطيع الوصول إليه قبل أن تكتحل عيناي بمن أعطوا للأرض، للبيت، للطريق، للعودة، معنىً كبيراً من معاني الإنسانية، من تركتهم وقلبي مُشْبَع بالحب لهم، وبقي حبهم يملأ قلبي.
وبعض من هؤلاء قد بدأتُ أراهم، فأنزل من السيارة للأحضان. لقاء لم أر في حياتي أجمل منه أو ما يعادله سوى عودتي إلى منزلي من التوقيف القسري الذي تعرضت له في بعض الفترات القاسية.
كنت في أشد الشوق واللهفة، قبل كل شيء، لأزور قبر والدي الذي لبَّى نداء ربه من دون أن أحظى بنظرة منه، أو أستطيع أن أشارك أهل ضيعتي في رفع نعشه، أو أن أقرأ الفاتحة عن روحه الطاهرة. أما المرحومة والدتي، وعلى الرغم من أنني استطعت أن أقوم ببعض من واجباتي تجاهها، فلم أستطع، أيضاً، أن أحمل نعشها أو أن أقرأ الفاتحة عن روحها. والأقسى من هذا كلِّه فأنا لا أعرف أين دُفِنا...
وغيرهم وغيرهم كثيرون من الأحبة الذين أفتقد إليهم، كما يفتقد الأحبة كلهم وجود من تمنوا أن يشاركوه أجمل لحظة في العمر: أفراداً وجماعات، أهل الضيعة والمنطقة والوطن كله...
لقد لبست المقبرة حُلَّة خضراء من الأشجار،
هنا يرقد الذين طالما حلمت بأن أراهم يشاركوننا فرح العودة إلى الأرض بعد أن اندحرت جحافل الغزاة... هنا لم تعد الذاكرة تستعيد بسرعة ذكرى كل واحد منهم، الجميع متساوون ينتظرون في بقعة واحدة ليرحبُّوا بالعائدين.
هذا قبر والدي، وإلى جانبه قبر والدتي، وهنا قبر أم فؤاد، وقبر أم هاشم، فقبر ابراهيم وقبر مرتضى، هنا قبر أبي عبدالله، وقبر أبي زكي وأم زكي... هذا قبر أبي علاء، وذاك قبر أبي حسن...
الله أكبر ما هذا الفراغ الكبير الذي تركه أحباؤنا في النفوس، هل وجودهم أموات ينغِّص على الجميع فرحة العودة؟
كانت في العودة غصَّة ولا شك، ولكن من قال أننا –جميعاً- لن نعود إلى من سبقنا في عودته إلى ما وعدنا الله به؟ إننا عائدون إليكم يا من سبقتمونا، وإلى ذلك الحين هطل الدمع في المآقي.
لقد بكيت ما وسعني أن أفعل، وعلى الرغم من محاولتي أن أبقى رابط الجأش.
إنهمرت الدموع التي عملت جاهداً أن أحبسها في فترة الغياب.
لقد أراحتني تلك الدموع لأنني لم أكن أحلم أن أذرفها، على قبور من افتقدت إليهم، في حياتي. ولكن ما أبعد المسافة بين الدموع التي ذرفتها أثناء الوداع وبين تلك التي ذرفتها أثناء العودة.
إلى اللقاء يا من سوف نفتقد وجودكم في كل مناسباتنا، ودمعة الوفاء ستبقى حاضرة في المآقي كلما عبرت الذكرى، ذكراكم أنتم، إلى القلب والعقل والوجدان...
إنني مشتاق لجميع الذين انتظرت أن ألقاهم طويلاً، مشتاق لأن أراهم في لحظة واحدة،
أنا مشتاق لأن ألثم كل حبات التراب في تلك اللحظة،
وأن أكحِّل عينيَّ بكل مناظر الأشجار التي كَبُرَت فجأة، ففي خلال أربع وعشرين ساعة أصبحت في عمر الأربع والعشرين سنة.
أنا مشتاق إلى كل عجوز وكهل،
وإلى كل من أصبح عاجزاً ولم أحظ مرة واحدة بواجب زيارته مواسياً،
وإلى كل فتى وفتاة تركتهم أطفالاً فأصبحوا كباراً يحملون أطفالهم،
إلى كل من ... ومن... ومن...
غمرة الشوق كانت أكبر من أن تُوصَف، وكانت حرارة اللقاء أكثر من أنساها، لقد ظهرت المحبة الصادقة بكل كلمة كنت أسمعها، وبكل غمرة في الأحضان مع كل من غيَّبنا الغزاة عنهم قسراً. كان عرساً عارماً مملوءاً بالحنين والدموع. كان الحلم رائعاً عند الكل: العائد والصامد، الأخ والأخت، الأب والأم، والقريب مع القريب، والصديق مع الصديق، والجار مع الجار... كان الكل حريصون على أن لا يفلت ذلك الحلم اللذيد من بين الأيدي.
الجميع يشعرون بأن الأحلام حلوة، وعلى الجميع أن يحافظوا على حلمهم من الضياع،
فطرد الغزاة هو نصف المسافة، أما بناء حلم يجمع الكل فهو نصف المسافة الآخر...
حسن
في 2/6/2000








تغيَّر العالم، فهل تغيَّر العرب؟(*)
13/ 9/ 2002
إن للتغيير أوجه عديدة ومتفرعة، وعلى شتى المستويات ذات العلاقة الوثيقة بالمجتمع البشري. وما نقصده بمصطلح التغيير، هنا، هو ما له علاقة بتطوير أوضاع المجتمع البشري باتجاه الأفضل. وحيث إن كل أنواع التغيير يجب أن تصب في خدمة هذا المجتمع، فنحن سنلاحق النتائج التي ستحدثها التغييرات في تقدم المجتمعات أو تخلفها.
حين نريد أن نغيِّر ظاهرة ما أو عاملاً من العوامل في مجتمع من المجتمعات، فلا يمكن أن نفكر إلاَّ بتغيير تلك التي أثبت التاريخ والتجربة التاريخية قصورها عن أداء الوظائف المعدَّة لها. وإن ما يمكن أن نفكر في تغييره ليس إلاَّ لفشله في تأمين مصالح المجموعات أو المجتمعات أو الأفراد.
وإذا كنا نريد أن نرصد المتغيرات على صعيد العالم، فنعني، بمثل هذا الحكم، أن هناك متغيرات حصلت وقادته إلى مستويات متقدمة بمفهومها الإيجابي. وإذا تساءلنا هل طال التغيير الإيجابي العالم العربي، فلا يمكننا أن نرصد تلك المتغيرات إلاَّ من خلال مقارنة بين ما كان موجوداً وحاصلاً في فترة زمنية محددة، وبين ما هو كائن في اللحظة التي نعيشها الآن.
بما لاشك فيه أن العالم قد أصاب عدداً من المتغيرات على شتى الصعد. ومن تلك المتغيرات كانت الثورة العلمية والتكنولوجية الهائلة. وانحصرت تلك المتغيرات الثورية في العالم الغربي: أوروبا، وأميركا، واليابان، والاتحاد السوفياتي، وإلى حدٍّ ما الصين، أي باختصار دول العالم الصناعية. ونحن نقيس إيجابية تلك المتغيرات بما حققته لخير البشرية جمعاء من حيث أن أبواب العلوم التكنولوجية قد انفتحت على مصراعيها أمام شتى الشعوب، فأصاب منها الغرب والدول الصناعية الشيء الكثير من التقدم والازدهار وانعكس بشكل ملحوظ على مستوى حياتها المادية والاجتماعية، في الوقت الذي لم تحصل فيه الشعوب الأخرى على مثل تلك الإيجابيات.
لكن، على الرغم من أن الدول الصناعية قد استفادت من حدوث مسألتين أسهمتا في عملية التغيير، وهما: الثورة التكنولوجية والسياسية والاجتماعية من جهة، والهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية على أسواق الدول المتخلفة وموادها الأولية من جهة أخرى، لا نستطيع أن نعدَّها العدو الوحيد للشعوب التي ترضخ لإرادتها، بل إن الشعوب المغلوبة، بدورها، تتحمل قسطاً من الوزر في صراع الغالبين والمغلوبين. لأن الغالب، في معظم الأحيان، لا يستند إلى قوَّته فقط، وإنما يعتمد على ضعف المغلوبين أيضاً.
من داخل هذا التصنيف نستطيع القول إن العالم الصناعي قد تغيَّر، استناداً إلى تفوقه في المجال التكنولوجي والعلمي فانعكس إيجاباً على مستوى معيشة مجتمعاته. فبهذا المعنى انتصر الغرب على حالة التخلف بتطوير الثورة العلمية والتكنولوجية، فانعكس إيجاباً على مستويات شعوبه المعيشية والاجتماعية.
ومن داخل هذا التصنيف، أيضاً، نستطيع القول إن العرب لم يتغيروا، لأنهم لم يصيبوا من التقدم التكنولوجي إلاَّ الشيء اليسير، الذي لا يغني فقراءهم ولا يطعم جائعيهم، بل ظلوا في موقع التابع للدول المتقدمة. وعلى العكس من ذلك، تكاثرت الثروات في أيدي قلّة منهم. وهذه القلّة لا تتجاوز الطبقات الرجعية الحاكمة وحاشيتهم من المستفيدين، بالإضافة إلى طبقة التجار والمتمولين. فتعاون، في مثل هذا الواقع، كل من الرأسمالية والأنظمة الحاكمة، وكل من يدور في فلكها، على إبقاء الأقطار العربية في دائرة التخلف.
لماذا لم يتغير العرب بينما التغيير قد أصاب العالم، سؤال لا بُدَّ من أن يكون محطة لاهتمام المثقفين العرب. ولا بُدَّ من التفتيش عن أجوبة له؟
كان ما أنتجته الثورة العلمية والتكنولوجية في العالم، مقياساً للتغيير الذي حصل في العالم. تلك الثورة التي كانت نتيجة للتقدم الفكري والثقافي والعلمي.
لكن ما هو أهم من المظاهر والظواهر، المتقدمة هناك، والمتخلفة هنا، هي الأسباب التي أدَّت إليها، وكانت الدافع من وراء صياغتها. ومن أهم تلك الأسباب، نرى التالية:
- مستوى الأداء الفكري والسياسي واتجاهاته عند مؤسسات السلطة في العالم الغربي، ومستوى الأداء الفكري واتجاهاته عند النخب الحاكمة في العالم العربي.
- مستوى النهوض الفكري والثقافي عند الشعوب: في العالمين الغربي والعربي.
- مستوى الأداء في التخطيط الداخلي والخارجي في الغرب، ومستوى الأداء في التخطيط القطري والقومي عند العرب.
نعني بالعالم، تلك البلدان الصناعية، وهذا يعني -إلى حد كبير- سلطة الرأسمال العالمي. ومن مصلحة تلك السلطة أن تعمل في اتجاهين: التنمية العلمية والصناعية والاجتماعية التي تصب في مصلحة شعوبها من جهة، والعمل في سبيل تأمين الموارد الأولية للصناعة والثورة العلمية من الدول المتخلفة من جهة أخرى، والتعامل معها على أساس أنها شعوب مستهلكة.
فما له علاقة بين الرأسمال العالمي والعالم العربي يتم على قاعدة اتجاهين استراتيجيين: القطرية والقومية. فالرأسمال العالمي يعمل على تكريس التجزئة القطرية لإبقاء صوت المتضررين مجزءًا من جهة، ولهذا يعمل في سبيل منع أية اتجاهات توحيدية، في العالم العربي وغيره من جهة أخرى. وفي تكريسه للواقعين تكريس لقوَّته أولاً، وسلب مواطن القوة من العمل التوحيدي ثانياً.
وإذا كان من وظيفة المتغيرات المطلوب إحداثها أن تصب في مصلحة الشعوب، فإن ما هو مطلوب للتغيير في العالم العربي يجب أن يصب في مصلحة الشعب العربي. وهذا يطال، بشكل أساسي، إعادة النظر في وظيفة السلطات الحاكمة ودورها في الأقطار العربيةً، وإعادة النظر في وظيفة الجماهير ذات المصلحة الأساسية ودورها في التغيير.
ولأن القطرية والقومية في المنظور الرأسمالي هي من الهموم الأساسية التي يعمل الرأسمال العالمي على منع تفاعلها، فعلى المستوى العربي يجب أن تكون من الهموم الأساسية التي على العرب أن يعملوا في سبيل وضعها في سلَّم الأولويات. لكن هذا لا يعني، على الإطلاق، أن نمنع التغيير على المستوى القطري بانتظار تحقيق الوحدة القومية، بل هنالك أساليب ووسائل أساسية تعمل للتمهيد لأية حالة توحيدية على المدى القريب والبعيد.
فعلى المستوى القطري، يخضع التلازم بين وظيفة السلطات الحاكمة ودورها، ووظيفة الجماهير ودورها إلى عملية ترابط وثيق وجدلي، لأنه بدون تلك العلاقة لا يمكن للتغيير أن يحصل. لماذا؟
بين حاكم ومحكوم علاقة وثيقة. فمن واجبات الحاكم أن يؤدي وظيفته في العمل لأجل تأمين مصلحة الشعب، ولكن إذا أخطأ الهدف، فلا بُدَّ من تصحيح انحرافاته، وهذا لن يتم إلاَّ بواسطة الطرف الآخر، الذي هو المحكوم. ولن يستطيع المحكوم تصحيح الخلل إلاَّ إذا كان الهدف واضحاً أمامه، وهذا من المستحيل وجوده في ظل سيطرة الجهل والأمية بمعناهما الثقافي والفكري النظري أولاً، وبمعنى ترجمتهما إلى واقع عملي ثانياً.
قد تبدو هذه المهمة عسيرة وبعيدة المنال.
لكن من الذي قال، أو من يستطيع أن يقول، إن التغيير يتمُّ بواسطة عصا سحرية؟
ومن قال، أو من يستطيع أن يقول، إن التغيير يطال الخلل من دون وعي لأسبابه؟
ومن قال، أو من يستطيع أن يقول، إن التغيير يحصل من دون أن يلعب المتضرر من مظاهر الخلل وظواهره دوراً في تغييره؟
فالمتضرر هنا، ليس سوى جماهير الشعب الواسعة، لذلك نرى أنه لا يمكن للتغيير في العالم العربي أن يحصل من دون رفع مستوى الأداء الفكري والثقافي لأوسع طبقات المجتمع المتضررة.
فمن بوابة الوعي الشعبي الفكري والثقافي تنتظم المشاريع السياسية الواضحة التي تحدد العلاقة بين السلطة والشعب، وتتحدد أدوارهما بوضوح، ويصبح مطلوباً من السلطات تحديث أنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بحيث تصب في مصلحة المجتمعات.
وعلى المستوى القومي: ولأن في التجزئة السياسية للعالم العربي دور في إضعاف حركة التفاعل الفكري والثقافي بين أبناء شتى الأقطار العربية على الصعيد النضالي، بحيث ينشغل أبناء كل قطر بهمومهم الخاصة، فإن في وعي عوامل القوة التي يعطيها الوعي الوحدوي، في النظر والعمل، أساساً استراتيجياً في مواجهة عوامل الضعف عند الإغراق في الهموم القطرية من جهة، وفي مواجهة مخططات الرأسمال العالمي من جهة أخرى.
وهنا نستطيع أن نركِّز على عاملين مهمين في استراتيجية تحديد مواطن الخلل التي تمنع عملية التغيير على الصعيد العربي، وهما:
- أن يحصل الوعي الفكري والثقافي على مستوى أوسع القواعد الشعبية لعوامل التخلف في مواجهة مهام العلاقة القطرية بين السلطة والشعب.
- وأن يتم وعي أهمية العمل الوحدوي العربي في مواجهة تجزئة النضال على الصعيدين النظري والعملي. وعلى صعيد التكامل الفكري والثقافي السياسي والاقتصادي.
ففي وعي أوسع القطاعات الشعبية الفكري والثقافي ، حافز لوعي المشكلة بين السلطة والشعب على المستوى القطري، والنضال من أجل وضع حلول لها. وفي وعي دور العامل الوحدوي العربي أهمية بالغة في وضع حلول نضالية من أجل توحيد الجهود القومية من جهة، ومحاربة أهم عائق وضعته الرأسمالية العالمية في وجه حركة التحرر العربية من جهة أخرى.
فعلى عاتق قوى التحرر يقع واجب الحفر في البُنى الفكرية والثقافية لجماهير الشعب الواسعة، وعلى عاتقها يقع واجب النضال جنباً إلى جنب الجماهير الشعبية الواعية لأهدافها ومهماتها على الصعيدين القطري والقومي.
ومن مهمات الوعي القومي على المستوى الشعبي لأهمية العمل الوحدوي تلك التي تعمِّق معرفة أهمية الزخم الذي تعطيه الوحدة النضالية الشعبية في تعجيل خطى التغيير الفكري والثقافي أولاً، وفي مواجهة واعية لاستراتيجية الرأسمالية العالمية التي تعمل في سبيل إبقاء المنطقة العربية مفتَّتة وممزقة ثانياً.
ويأتي تكامل الوعي القطري لوظيفة المحكوم وعلاقته مع الحاكم مع وعيه لأهمية النضال القومي وتوحيده لكي يعطي زخماً مهماً لحركة التغيير المطلوب أن تحصل على المستوى العربي الشامل.
إن تخلفنا هو فكري - ثقافي أولاً، وهو تخلف سياسي - اجتماعي - اقتصادي ثانياً. فالدعوة إلى إزالة الأمية الفكرية الثقافية على شتى الصعد، ويأتي على رأسها التغيير في بُنى المعرفة عندنا، هي نظرة استراتيجية لا بُدَّ منها لعملية تغيير جذرية لا تتعرض للاهتزاز. ولا يعني هذا أن نوقف كل أشكال التحرك على شتى الصعد إلى أن تتهيّأ البنى الشعبية الواسعة الواعية، بل على قوى التحرر العربية أن تتابع نضالاتها من دون أن تنسى أن من أهم واجباتها أن تحفر للتغيير في بُنى الثقافة الشعبية بكل جدية واهتمام.
***

إشكالية العلاقة بين القومية والدين
قُدمت في سهرة حوارية في منزل الدكتور محمد ياسين في أيلول 2002
ما هي أسباب طرح إشكالية علاقة الفكرين القومي والديني؟
-كانت الدولة الدينية مفتوحة الحدود، فكانت هوية الدولة الدينية هوية لرعاياها، فتخضع المجموعات لتشريعات الدولة التي يعيشون تحت رعايتها، وتصطدم المجموعات الأقلية بتشريعات دينية أو مذهبية لا يؤمنون بصلاحيتها. فكانت المجموعات التي لا تنتمي إلى دين الدولة أو مذهبها تستطيع الانتقال من دولة إلى أخرى بدون أية عقبات. وهنا تبرز نزعة ديكتاتورية الفكر على الرغم من أنها تعبِّر عن رأي الأكثرية.
-أصبحت الدولة القومية مُغلَقة الحدود، مما يمتنع على المجموعات الأقلية أن تنتقل بحرية من دولة إلى أخرى. فعلى المجموعات الدينية في داخل الدولة القومية أن يتعايشوا في ظل تشريعات تحفظ لها حقوقها بالتساوي، من دون النظر إلى أكثرية أو أقلية، وهنا تبرز ديكتاتورية الأقلية الفكرية، التي تريد أن تنتزع حقوقاً من الأكثرية على الرغم من إرادة الأكثرية الفكرية.
استناداً إلى تلك المقدمات تنشأ إشكاليات العلاقة بين الفكرين القومي والديني.
واقع الدولة الدينية القديمة كان يحقق مصلحة الأكثرية الدينية، ولا يلتفت إلى مصالح الأقليات. بينما يفرض واقع الدولة القومية الحديثة على الأكثرية أن تتنازل عن بعض حقوقها لتتساوى مع الأقليات.
هل علينا أن نمتثل لإرادة الواقع الذي فُرِض فيه وجود دولة قومية؟ وهل من الممكن أن نغيِّر واقع الدولة الحديثة التي تفرض ديكتاتورية الأقلية الدينية أو المذهبية، ونعود بها إلى واقع الدولة الدينية التي تفرض ديكتاتورية الأكثرية الدينية؟
هناك مسائل لا يمكن معالجة إشكاليات العلاقة بين الفكرين القومي والديني من دون أخذها بعين الاهتمام، وهي:
-الأولى: إستحالة العودة إلى مرحلة الدولة الدينية المفتوحة الحدود، أو حتى إلى مرحلة الإمبراطوريات المفتوحة الحدود أيضاً.
-والثانية لها علاقة بطبيعة الفكر الديني، وأساسها معاني المقدَّس الملتبسة: فما هو مقدس عند مجموعة دينية ليس مقدساً عند مجموعة دينية أخرى.
-والثالثة فهي قيام الدولة الدينية تحت ذرائع التكليف الإلهي الشرعي، بتنفيذ تشريعات إلهية، يُعدُّ من يخرج عنها من الكافرين، فيتحول الصراع بين رعايا الدولة الدينية بين كافر ومؤمن.
-والرابعة، استناداً إلى المقدس والأمر الشرعي الإلهي، فهي الإشكاليات التي يفرضها الفكر الديني، بشكل عام، حول علاقة رعايا الدولة الدينية بين بعضهم البعض.
-أما الخامسة، فهي التباس العلاقة بين المنتمين إلى الأديان والمذاهب في داخل الدولة القومية مع أبناء دينهم أو مذهبهم ممن هم من خارج حدود الدولة القومية.
بالنسبة لاستحالة العودة إلى مراحل الدول الدينية، هو خضوع العالم بأكمله لواقع التقسيمات القومية، المحمية بالإرادة الدولية.
أما بالنسبة إلى المسائل الأخرى، فهي عجز الدولة الدينية عن فرض العدالة والمساواة السياسية حتى بين المذاهب التي تنتمي إلى دين واحد من جهة، وعجزها، أيضاً، عن تحقيق العدالة بين شتى المنتمين إلى أديان مختلفة. فالمشكلة دينية ومذهبية.
ينشأ من إشكالية العلاقة بين الفكرين الديني والقومي إشكالية أخرى، وهي: ما هو مكان الدين في الدولة القومية؟
من خلال معالجة هذه الإشكالية تتولَّد إشكالية تعريف الدين. وهنا نتساءل: هل تعريف الدين هو تعريف مُوَّحَد في داخل مذاهب الدين الواحد؟ وهل هو مُوَّحَد عند المنتمين إلى شتى الأديان؟
ولأننا نرى أنه ليس هناك تعريفاً موحَّداً ندعو إلى توحيده لأنه مدخل أساسي لتحديد مكانه في الدولة القومية.
من رؤية العديد من تلك الإشكاليات نجد أنه لا بُدَّ من تحديد عناوينها. ونحن، في هذه الجلسة المحدودة الوقت، لا نستطيع أكثر من أن نحدد العناوين الرئيسة، التي هي موضوعات جديرة بالدراسة، والدراسة جديرة بالحوار، والحوار هو وحده الذي يساعدنا على تحديد مصطلحات وتعريفات تكون الجامع الموحِّد بيننا.
أما العناوين الرئيسة، فهي:
1-هل يمكننا تغيير واقع الدولة الحديثة، أي الدولة القومية، والعودة إلى مرحلة الدول الدينية، أو مرحلة الإمبراطوريات الكبرى؟
2-أي نظام نريد: دولة دينية أم دولة قومية، وهذا يستتبع البحث حول أية تشريعات تؤمن مصالح الدولة القومية: التشريعات الدينية، أم التشريعات الوضعية؟
3-إذا كان الخيار هو الدولة القومية، فأين هو موقع الدين في تشريعاتها؟
4-البحث عن تعريف واحد للدين: هل هو التعريف المختلف عليه بين الأديان والمذاهب، أم أن هناك تعريف آخر على الدولة القومية أن تستند إليه؟
5-ما هي الأسس الرئيسة التي تستند إليها تشريعات الدولة القومية، والتي تتساوى فيها مصالح كل شرائح المجتمع القومي؟
6-بما لهذا التحديد من علاقة مع المجموعات الدينية أو المذهبية الخارجية بشكل خاص، نرى أهمية في الاتفاق حول تعريف لأولوية رابطة انتماء المواطن: أهي الرابطة المذهبية؟ أم الرابطة الدينية؟ أم رابطة الانتماء إلى الدولة القومية؟
مراجعـة كتـاب حاكميـة الله وسلطان الفقيـه *
حسن خليل غريب **
لُبْنَةٌ فوق لُبْنة يرتفع بناء ثقافتنا الحديثة، ثقافتنا الهادفة إلى التحرُّر من الجمود، ومن إسار من يدَّعون امتلاك الحقيقة الإلهية.
يتحصَّن النص التراثي في محراب القداسة، فيتحوَّل الفقهاء إلى ممثِّلين لله على الأرض، هؤلاء الفقهاء الذين غالباً ما ينطقون بلسان أغراض سياسية، هم فقهاء حركات الإسلام السياسي...
يقومون، على الدوام، بتجريد النصوص من وقائعها التاريخية المُمَيَّزَة والمعيوشة، إذ يكفي أن يكون كاتبها أو قائلها أو مفتيها من أصحاب الثقافة الدينية الإسلامية ليشكِّل لهم المبرِّر ليقطعوا أقواله عن خصوصيات ظروفها، ويأسرونها في قماقم لا تستطيع سوى طلاسمهم أن تفك أسرها، ولكي تصبح أقوالاً مقدَّسَة صادرة عن الذي يتقدَّس سِرُّه...
رفضوا أن يربطوا النص الأساس بظروف ولادته الاجتماعية والسياسية، فحاكموا كل من يحاول الربط وكفَّروه وحكموا عليه بالرِدَّة... ولهذا تحوَّلت النصوص الفرعية / الاجتهادية، وهي التي تحمل إمكانية الصواب كما تحمل إمكانية الخطأ، إلى نصوص مقدَّسَة أخرى فتراكم التراث المقدَّس و لا يزال... أما كيف حصل ذلك؟
هذا ما يعالجه الدكتور عبد الغني عماد، في كتابه، فيقول: "إن الادِّعاء بأصالة المفهوم [أي إعادته إلى دائرة المقدَّس] تبقى غير كافية ما لم يتم إثبات هذه الأصالة بالعودة إلى جذور المفهوم…فتأصيل المفاهيم ورصد تطورها وتحليل سيرورتها يُفضي إلى كشف العناصر الدخيلة...". [راجع ص 7].
وهذا ما قام بالبحث عنه في سبيل محاكمة بعض المصطلحات التي تعدُّها بعض الحركات الأصولية الإسلامية قوانين إلهية، مثل مُصْطَلَحيْ: حاكمية الله، وسلطان الفقيه.
أما بالنسبة إلى مُصْطلح حاكميـة الله، ومن خلال بحثه، فيصل الدكتور عماد إلى النتيجة التالية، فيقول: إن ما يعدُّه الإسلاميون – اليوم – أصلاً إلهياً وقانوناً إلهياً، أي مصطلح حاكمية الله، ليس إلا مصطلحاً سياسياً حديثاً، أكسبه القائلون به صفة القداسة في الوقت الذي لم يكن له أي انتماء للأصل اللغوي، ولا أي انتماء للشريعة الإسلامية بركنيها القرآن والحديث النبوي.
على المستوى اللغــوي: "ولا شك أن مصطلح الحاكمية – المشتق من جذر حَكَمَ – لم يكن مألوف الاستعمال لغوياً…ولم يرد في المعاجم العربية المُعتَمَدَة ك لسان العرب مثلاً". [ ص ص 9-10].
أما على المستوى الديني: فلم يُستَخدَم مصطلح الحكم في القرآن، إطلاقاً، بمعنى تولِّي وممارسة السُلطة السياسية، بل: بمعنى البصيرة النافذة، التي تميز بين الحق والباطل، أو بمعنى الفصل في الخصومات بين الناس [ص 10].
ما هو أصل هذا الاصطلاح، إذاً؟ وهذا ما يتتبَّعه الباحث:
• إن أول من استخدمه الخوارج (في أثناء صراعهم مع علي بن أبي طالب، بعد معركة صفين بينه وبين معاوية بن أبي سفيان): لكن ما كان المقصود به؟ كان يعني رفض تحكيم الحَكَمين في أثناء معركة صفِّين بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، وبالتالي رفض النتيجة التي توصَّلا إليها. [ص 12].
• ثم استخدمه المفكر الإسلامي أبو الأعلى المودودي [وُلِد في العام 1903م]. وهو باكستاني [قبل أن تنفصل الباكستان عن الهند]. فلأي غرض استخدمه؟
في مواجهة حزب المؤتمر الهندي، الذي يمثِّل الهنود غير المسلمين، وهو الذي كان يدعو إلى الاستقلال عن بريطانيا على أساس الشعارات التالية: سيادة الأمة، و الأمة مصدر السلطات [ص 14]. وإذا نالت الهند استقلالها على أساس هذه الشعارات [كانت الهند والباكستان دولة واحدة]، في الوقت الذي يُشكِّل فيه الهندوس الأكثرية المُطْلَقَة، تكون النتيجة أن يبقى المسلمون أقليات تابعة…فالحل الذي وضعه المودودي لن يتم إلا بشعارات متميِّزة، وهذه الشعارات لن تكون مفهومة من الهنود المسلمين إلا إذا كانت ذات علاقة وثيقة بالشريعة الإسلامية [ص 23]:
ففي مواجهة المبادئ الديموقراطية والعلمانية، كمبادئ وضعية غربية، لا بُدَّ من أن يكون هناك شعار حكم الشريعة الإسلامية، التي هي – حسب ما يؤمن المسلمون – من صنع الله. فوضع المودودي شعار: "لا حاكمية للبشر، بل الحاكمية لله" [ص 15]. وهو يُبرِّر ما يعتقد به بأن كل المبادئ الوضعية هي مفاهيم جاهلية... وهو، بما يقول، يتخطَّى المفهوم التاريخي الذي استعمله العرب للدلالة بالجاهلية على حياة العرب قبل الإسلام [ص 16].
إستناداً إلى فكر المودودي، بشعاريه: حاكمية الله وجاهلية القرن العشرين، أخذت بعض الجماعات الإسلامية تجتزئ كتاباته، وتفصلها عن سياقاتها وملابساتها السياسية، وأخذوا يستشهدون بها – كمقولات ثابتة – وكأنهم يستشهدون بالآيات القرآنية [ص 22].
إستهدفت مقولة "الحاكمية لله" القضاء على تحكم البشر ببعضهم البعض من خلال عبودية الجميع لله؛ ولكنها أدَّت، عملياً، إلى أن يزعم البعض لأنفسهم حق احتكار تفسير ولتأويل كلام الله، و"أنهم وحدهم الناقلون عنه". وتكمن الخطورة في هذه المقولة أنها تُعطي للذين يمارسونها هالة من القدسية، التي إن حاول أحد أن يُشكِّك بها يُوصَم بالكفر والزندقة "بوصفه نضالاً ضد حكم الله". (ص80).
وهنا من بعد أن يُؤصِّل الباحث مقولة "الحاكمية لله"، فيجد أنها لا ترتبط بأي جذر لغوي عربي أو تشريعي إسلامي أو فقهي، يقول إن تبيان الشريعة: "وإقامتها من قِبَل بشر أمر قابل للخطأ والصواب. وليس لأحد أن يدَّعي لحكم قال به أنه حكم الله". (ص86).
فهل بعد هذا التأصيل لمقولة "حاكمية الله" علاقة بمبدأ سياسي آخر، هو "ولاية الفقيه"؟
يربط الباحث بين مبدأ "الإمامة" عند الشيعة بمبدأ "ولاية الفقيه"؛ ومنه يستعرض أصول الموقف الشيعي الإثني عشري من العلاقة بين السلطة وبين الشيعة( )؛ يستند هذا الموقف إلى أن الشيعة ينظرون إلى أية سلطة سياسية، في مرحلة الغيبة الكبرى لإمامهم المنتظر، أنها سلطة غير شرعية، وتقوم علاقتهم بها على أساس حفظ النظام العام ووحدة الأمة، ودفع الضرر عن المؤمنين وإقامة العدل في الرعية. (ص 88). وعلى هذا الأساس يقول الفقهاء الشيعة بعدم "مشروعية السعي إلى إقامة حكم إسلامي في عصر الغيبة". (ص 91).
واستمرَّ هذا الموقف من العام 260هـ، تاريخ بدء الغيبة الصغرى، من دون أن يجرؤ الفقهاء الشيعة على القول إنه يجوز تفويض أحد، على الإطلاق، صلاحيات الإمام المعصوم.
ولكن كيف تأسَّست فكرة جواز أن يتولَّى الفقيه الجامع للشرائط السلطة السياسية في زمن الغيبة الكبرى؟
من بعد أن يأمر الإمام الغائب بمنع أي أحد من أن ينوب عنه قبل بدء الغيبة الكبرى (ص 89)، لم يجسر أي فقيه شيعي على ادِّعاء "نيابة الإمام" حتى قامت الدولة الصفوية في إيران في العام (905هـ/1501م). وقد جرى تنصيب الشاه اسماعيل وهو لما يزل في سن الثالثة عشرة، وقد قيل إن الإمام المهدي ألبسه، وهو في طريقه إلى مكة، التاج الأحمر قائلاً له: "إذهب فقد أذنت لك". (ص 93).
شاب الغموض موقف العلماء الشيعة من الحكم الصفوي: فإن كان قد أيَّده بعض منهم فلإقامته بُنية تحتية لدولة إسلامية شيعية. أما الشيء المؤكَّد أن عدداً كبيراً منهم لم يتَّخذ موقفاً مؤيداً. (ص94).
ولأن الدولة الصفوية كانت بحاجة إلى أعداد من الفقهاء الشيعة، إستدعى طهماسب الشيخ علي بن عبد العال الكركي فأجاز له الجلوس على كرسي العرش باسم الولاية العامة التي هي من صلاحيات الفقيه؛ ولذا فقد عدَّ الكركي نفسه نائباً عاماً عن المهدي، وأعلن الشاه نائباً للفقيه. (ص95). عُدَّ الشيخ الكركي، من قِبَل أخصامه، "بمخترع الشيعة"، ومن قِبَل أنصاره "بالمحقق الثاني". وقد أثارت "ولاية الفقيه" التي ادَّعاها الكركي جدلاً حاداً بين العلماء الشيعة أدَّى إلى انقسامهم إلى فريقين متنازعين. (ص 96). ومن هنا نشأت فكرة ولاية الفقيه على قاعدة الشراكة بين الدولة والفقيه، التي ما كان للسلطة القائمة أن تجد مبرِّراً فقهياً لها إلا بعملية "تكييف" للفقه الشيعي بما يتناسب مع مصلحة الدولة الصفوية الصاعدة. (ص 97).
وكان من أبرز الذين عارضوا فكرة "ولاية الفقيه"، هم: الشيخ إبراهيم القطيفي من أكبر علماء النجف، وابن المطهر الحلي ( ت في العام 726هـ). ويأخذ أغلب الفقهاء الذين ناقشوا هذه المسألة مآخذ عديدة، من أبرزها:
-لا دليل على ولاية غير الإمام المعصوم إلا في القضاء والإفتاء وبعض الأمور الصغيرة.
-إن اختصاص الإمام يتعلَّق بالتعزيرات والحدود والحكومات.
-لو كانت ولاية الفقيه عامة ومُطلَقة لتساوى الإمام والفقيه، وهذا شيء باطل.
-ولاية الفقيه تؤدِّي إلى أحد أمرين: إذا ظلم تفسد حكومته. وإذا عدل يُستغنى عن الإمام، وهذا باطل شرعاً.
-إن أية راية تظهر قبل الإمام، صاحب الزمان، هي راية ضلالة. (ص 99).
ولكن على الرغم من ذلك، فقد تحوَّلت الفكرة إلى خطاب وإلى توسيع صلاحيات الفقيه لتشمل القيادة السياسية وأمور الحكم. واستمرت المعارضة لولاية الفقيه. (ص 100).





مراجعة كتاب قريش من القبيلة إلى الدولـة المركزيـة
-إسـم الكتـاب: قريش من القبيلة إلى الدولـة المركزيـة.
-إسـم المـؤلـف: خليل عبـد الكريــم.
-النــــاشران: دار سينا للنشر – القاهرة. ومؤسسة الانتشار العربي – بيروت.
-تاريــخ النشر: الطبعة الثانية 1997. يقع الكتاب في 402 ص من القطع الوسط.
رأي وتعريـف
يقرأ خليل عبد الكريم تاريخ المرحلة الجاهلية في شبه الجزيرة العربية من منطلقات موضوعية بعيدة عن الغرضية الدينية الإسلامية.
والفرق بين القراءتين أن الغرضية الإسلامية تُسوِّد صفحات المرحلة الجاهلية لتُبَرِّر نصاعة الدعوة الإسلامية، وبهذه الطريقة تكون كمن يُسوِّد تاريخ أجداد الرسول العربي، الذين بهم، وبجهودهم، أصبحت الطريق أكثر أماناً لدعوته. أما الركائز الموضوعية التي يستند إليها المؤلِف في قراءته فهي الغوص في كتب التراث التي نَقلت ما كان يحصل في تلك المرحلة، والتي من خلالها نقل إلينا وقائع ومعلومات في غاية الإثارة، والتي جعلتنا نتأكَّد أننا، كعرب، لم نُوْلَد من شجرة مقطوعة الجذور عن تلك الأرض التي وُلِدنا عليها، ولم نكن مقطوعي الجذور، أيضاً، عن التيارات الدينية والعادات الاجتماعية والقيم الأخلاقية... التي كانت تُميِّز عرب الجاهلية، والتي شرَّعتها الدعوة الإسلامية فيما بعد...
ولأننا لن نأخذ دور الباحث في الدفاع عن نتائج بحثه بالتفصيل، فالعودة إلى قراءة الكتاب تعطي الصورة الأوضح، وتسهيلاً للقارئ سوف نعرض، بشكل موجز ومُكثَّف، لبعض المفاصل الرئيسة في الكتاب:
سبقت الدعوة الإسلامية، على الرغم مما يشيعه أصحاب الأغراض الدينية المحدودو الأفق، محطات وعوامل تاريخية لعبت الدور الأساسي في تمهيد الطريق أمامها. ومن أهمها:
1-دور أجداد الرسول في بناء نظام سياسي واجتماعي واقتصادي وديني في شبه الجزيرة العربية: وهم قُصَي، وعبد مُناف، وهاشم، وعبد المطلب، وعبد الله والد الرسول. وكان أكثرهم تأثيراً قصي وهاشم وعبد المطلب. ومن أهم إنجازاتهم: لمُّ شمل قبيلة قريش، ثم السعي لجعلها أكثر القبائل العربية تأثيراً في مجرى الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية لشبه الجزيرة العربية... فأصبحت قريش ذات سطوة ونفوذ على القبائل من خلال البناء التالي:
-تحويل مكة إلى مدينة توحيدية: كممر/محطة للتجارة الداخلية والخارجية.
-إضفاء صفة القداسة عليها: كمثل تنظيم مواسم الحج للقبائل، وإيواؤهم وإطعامهم وإسقاؤهم... والمحافظة على أمنهم وسلامتهم طوال فترة وجودهم وتأديتهم لفريضة الحج...
-كان أجداد الرسول متأثِّرين بالأحناف، وهم ليسوا يهوداً ولا مسيحيين، فسلكوا طريق التوحيد الإلهي…
2-تأثيرات اليهودية والمسيحية:
-إنتشرت اليهودية في شبه الجزيرة العربية، وكانت تُبَشِّر بظهور نبي يملأ الأرض عدلاً بعد أن مُلِئت ظلماً وجوراً. وتأثَّر سكان يثرب، من غير اليهود، بنبؤات التوراة. ولما التقى بهم محمد بن عبد الله-الرسول- عارضاً عليهم آياتٍ من القرآن الكريم وبعضاً من تعاليم الإسلام، صدَّقوه وناصروه...
-كان لورقة بن نوفل-ابن عم خديجة الكبرى زوجة الرسول-والذي كان يعرف العبرانية ويُترجِم التوارة، تأثير في تشكيل ثقافة الرسول الدينية...
-إنتشرت المسيحية بشكل أوسع من انتشار اليهودية؛ وعمَّت في داخل قبائل عربية كبيرة. ومن هنا كان لها تأثير مهم في تشكيل الثقافة التوحيدية عند عموم القبائل.
لم يكن محمد بن عبد الله، وهو الذي اتَّصف بالذكاء وقوة الشخصية وشدة التأثير، بمعزل عن تلك الأجواء الدينية التي كانت سائدة في شبه الجزيرة العربية. وشكَّلت كل تلك العوامل أساساً مهَّد لرسالة الإسلام على يديه…
لقد مهَّدنا، بشكل مُكَثَّف، للمنهج الذي قرأ فيه المؤلف تاريخ العرب قبل الجاهلية، ومنها توصَّل إلى نتائج مثيرة ومهمة، وهو يكمل الطريق الذي شقَّه مفكرون عرب ومسلمون من قبله، وتعرضُّوا للنقد-وأحياناً-للتكفير من قِبَل أصوليين أو مؤسسات دينية رسمية.
وإذا كنا قد قمنا بهذه الإطلالة السريعة، إنما لكي نُثْبِت قناعتنا بأن خليل عبد الكريم وغيره، من الذين شقُّوا طريقاً لقراءة تراثنا بشكل علمي وموضوعي أو للذين يتابعون الطريق، يلعبون دوراً كبيراً في صياغة أيديولوجيات المستقبل بطريقة علمية وموضوعية قائمة على أسس مفتوحة على النقد الحر الهادف، الذي ينظر للأمة بعين الغِيرة على مصلحتها وبعين الشوق لأن يكون لها موقع بين الأمم.
محتويــات الكتاب
-الباب الأول: المقدمات الذاتيـة.
-الفصل الأول: قصي بن كلاب.
-الفصل الثاني: الخلائف يواصلون المسيرة. هاشم يوضح القسمات. وعبد المطلب يظاهر الدولة.
-الفصل الثالث: حلف الفضـول.
-الفصل الرابع: حكومة الملأ "ملأ قريش".
-الباب الثاني: المقدمات الدينية.
-الفصـل الأول: اليهوديــة.
-الفصـل الثاني: النصرانية " المسيحية".
-الفصـل الثالث: قبائل كبيرة فَشَت فيها النصرانية: أياد-تميم-حنيفة.
-الفصـل الرابع: الصابئــة.
-الفصل الخامس: الحنيفيــة.
-الباب الثالث: المقدمات السياسية.
-الفصـل الأول: الدولة الفارسية.
-الفصـل الثاني: الدولة البيزنطية.
-الفصل الثالث: الأنصار: المزاج النفسي والظروف الموضوعية.
-الباب الرابـع: المقدمات الاجتماعية.
-الباب الخامس: المقدمات الاقتصاديـة.
-الباب السادس: المقدمات الثقافية.


مراجعة كتاب "جذور الميكيافيلية في كليلة ودمنة"( ).
محتويات الكتاب
يستهل المؤلف كتابه بتمهيد يقع في 17 صفحة. ويقسِّم بحثه إلى ثلاثة أبواب:
- الباب الأول: في المفاهيم الأساسية. ويندرج تحته عدد من المفاهيم مثل: الشر والفساد. الإساءة والإحسان. الاحتقار. الغرور. المنفعة والضرر. والموقف من الدين.
- الباب الثاني: السلطة، جدلية العلاقة بين أجزائها. ويندرج تحته عدد من العناوين ذات العلاقة، مثل: السلطان والسلطة. الوزراء وعلاقتهم مع السلاطين. المشورة. الأسرار. التشهير والاتهام. العقوبات والمكافآت. الثراء والفقر. النساء.
- الباب الثالث: الدبلوماسية والسياسة الخارجية، الحرب والسلم. ويندرج تحته عدد من العناوين ذات العلاقة، مثل: الدبلوماسية. التفاوض. الصديق والعدو. الحرب. الحيلة والخداع.

عرضٌ للكتاب
يستعرض الكاتب مصطفى سبيتي، في تمهيده لبحثه، الصعوبات المنهجية التي اعترضته حينما أراد أن يخوض البحث في كتاب كليلة ودمنة. وكان مصدر الصعوبات أن أثلام الكتاب مبعثرَة ومتنافرة. ولكنه يكتشف أن مقدمة الكتاب التي وضعها عبد الله بن المقفع لها أهميتها في تذليل الصعوبات التي واجهها، والتي يقول إنه لا يمكن فهم الكتاب من دونها (ص12). والدليل الذي يرسمه ابن المقفع للقارئ يقوم على ما يلي: عدم التلهّي بألوان اللهو والطرائف التي غُلِّفت بها المفاهيم السياسية للكتاب (ص13).
فأهداف كليلة ودمنة سياسية غُلِّفت بألوان من الطرائف لإصابة هدفين:
-الابتعاد عن الكلام المباشر في السياسة لخطورته على حياة الكتب.
-تشويق القارئ وجذبه إلى قراءة الكتاب بأسلوب قصصي شيِّق.
ويوضح الأستاذ سبيتي أن تحويل كليلة ودمنة من كتاب لم يُوضَع بطريقة منهجية -كالتي نعرفها اليوم- إلى كتاب ممنهج بطريقة واضحة، قد تطلَّب منه أن يضع له صيغة جديدة ومنهجية مختلفة، من تبويب لمواضيعه وتفصيل لها.
كشف له هذا المنهج أن هناك تشابهاً بين ما رمى إليه كتاب كليلة ودمنة وكتاب مطارحات ميكيافيلي (ص15). والكاتب، هنا، يفسِّر الصدفة التي دفعته لمقارنة المؤلَّفيْن، فقال إن سببها كان عائداً إلى ملاحظته صدفةً "التماثل بين أقوال الكتاب [كليلة ودمنة] وعناوين ميكيافيلي في مطارحاته. وهذا التماثل وصل أحياناً إلى حد الترجمة الحرفية"(ص16).
يقول الأستاذ سبيتي إن ما عمل جهده لأجْلِه هو تبيان أهمية الكتاب السياسية. فالذين سبقوه من الباحثين في (كليلة ودمنة) قد عالجوه من زوايا الأدب أو البلاغة أو الخرافة أو الأمثال والحكمة، أما هو فقد دلَّ على أهميته ووظيفته التي تتلخص في وضع أسس منهجية لسياسة الدولة (ص17).
أما الأهمية الثانية فتنبع من توجيه مؤلف (كليلة ودمنة) خطابه إلى الدولة تحت تسميات متنوعة: العاقل، ذي العقل... فيسجِّل حوارات ظاهرها بين أفراد عاديين، وباطنها تجسيد للشخص العام (الدولة والسلطان).
يرى الأستاذ سبيتي أن ميكيافيلي لم يخرج عن المنهج ذاته، باستثناء أنه كان واضحاً في مطارحاته، حينما يستحضر تسمية السلطة بشكل مباشر إذا أحسَّ أن الأمر قد يلتبس على القارئ (ص18).
يصل الأستاذ سبيتي إلى أن (كليلة ودمنة) هي التي أسست للواقعية السياسية وليست مطارحات ميكيافيلي، كما يحسب البعض.
يؤكد الكاتب سبيتي على نتيجة، ويبدو أنها ما يريد أن يبرزه، أن كتاب كليلة ودمنة "لم يفصِّل السياسة على قياس قِيَمه ومعاييره، بل استنتج تلك القِيَم من مجرى حركة السياسة التي تدفعها قوانينها الكامنة في ذاتها وليس خارجها". ويتابع قائلاً: "إننا نستنتج من قِدَم الواقعية السياسية، أن الملوك والسلطات على أنواعها لم تكن يوماً لتنتظر نصائح كليلة ودمنة، أو إرشادات ميكيافيلي، ولا مواعظ أي من المفكرين السياسيين، لتقرر سلوكها السياسي". ومنها يصل الباحث إلى أهم نتائجه في البحث إلى أن "غريزة السلطان واحدة في كل مكان وزمان، تختلف وسائلها مع تقدم الزمن، لكنها لا تختلف بحكمة استخدامها، وهي: تملُّك السلطة وصيانتها وتعزيزها"(ص19).
يرجَّح الكاتب، أخيراً، من خلال تمهيده أن يكون ميكيافيلي قد اطَّلع على ترجمة لكتاب كليلة ودمنة. ومن خلال عدد من الأمثلة، يحيل سبيتي القارئ إلى المقارنات التفصيلية في متن كتابه، والتي تدلَّل على تأثير (كليلة ودمنة) بفكر ميكيافيلي السياسي، والتي قد تكون قد ساعدته في كتابة مطارحاته.
وتبقى إشارة الباحث إلى أن هناك ما يميِّز الكتابين عن بعضهما البعض أن كلاً منهما قد استقى أمثلته من البيئة التي انطلق منها مؤلف كلٍّ منهما.
يُنهي سبيتي تمهيده باستنتاج أن هناك تشابهاً في حركة السلطة والسياسة على مرِّ التاريخ: من بيدبا إلى ابن المقفع إلى ميكيافيلي، فكانت سيرتهم جزءاً منها. فتفاعلوا معها، فتشابهت، إلى حدٍّ ما، صِيَغهم النظرية.
ويترك الباحث، أخيراً، للقارئ أن يخمِّن ما وراء قصده من البحث.
منذ أن نبدأ بقراءة الباب الأول يساورنا شعوران:
-الأول شعور مثالي يثير استنكارنا ضد حالة التشاؤم التي تسيطر على كل من كتاب كليلة ودمنة، ومطارحات ميكيافيلي.
-الثاني: شعور واقعي من خلال أننا نعي بأن ما حدا بكاتبيْ الكتابين ليس إلا نقلاً واستنكاراً لما كانت عليه السلطة والسلطان بالفعل في كل زمان ومكان. وإننا بدورنا، في العصر الحاضر، نحيا ونعيش، وإن بشكل مختلف، كثيراً من الصور التي يضعها الكاتبيْن أمام أعيننا.
لم تنطلق أهداف الباحث سبيتي من موقع الناقد لفلسفة سياسية معيَّنَة، وإنما كان يبذل جهداً أكاديمياً يبغي من ورائه أن يقارب بين كتابين أُنجِزا في وسطين اجتماعييْن وزمنين مختلفيْن. ورأى الباحث أن الكتابين توصَّلا إلى وجود وقائع متشابهة، فخلصا منها إلى توجهيات ونصائح ونتائج متشابهة. وهذا ما يقودنا إلى الاستنتاج بأن هناك وحدة بالطبائع البشرية على صعيد السلطة والحكم والحاكمين.
وقد يكون من أهداف الباحث، أيضاً، أن يبرهن على أن تواصل الحضارات الإنسانية هو شيء واقعي وطبيعي وضروري. وإن مشروعية تفاعل تلك الحضارات هي مسألة مشروعة، بحيث تنقل حضارة ما عن حضارة أخرى بما يساعدها على بناء تراث فكري خاص بها. وإنه ليس هناك ما يُعيب إذا ما نقلت أمة عن أمة أخرى وسائل حضارتها إذا ما كانت بحاجة إليها. والدليل على ذلك أن ميكيافيلي الأوروبي المسيحي قد نقل عن عبد الله بن المقفع المسلم، وهذا الأخير قد نقل عن بيدبا الهندي. وقد أضاف كل منهم إلى حضارة أمته والحضارة الإنسانية فكراً إنسانياً نفيساً.
إن أهمية بحث مصطفى سبيتي لم تنطلق من موقع نقدي لأفكار الكتابين، بل في الجهد الكبير الذي بذله من أجل تبويبهما بما يجعلهما ذوي فائدة للقارئ المعاصر. واتَّبع في سبيل بلوغ أهدافه من البحث أسلوب التبويب العلمي، فجمع من كل رواية من روايات كليلة ودمنة أجزاء النصوص التي يصحُّ وضعها تحت عنوان موضوع واحد. وبهذا الجهد استطاع سبيتي أن يضع للمكتبة العربية بحثاً قيِّماً للقارئ العربي يوفِّر به الكثير من الوقت والجهد، ويكون قد قدَّم نتائج مشكورة في أنه توصَّل إلى أن مبادئ السياسة الواقعية هي من وضع كليلة ودمنة وليس من وضع ميكيافيلي كما يحسب بعض الباحثين.
بعد أن اطَّلع الباحث سبيتي على خفايا كليلة ودمنة وما وراءها من بلاوي في سياسة السلطة والسلطان في العصور الخالية، يبقى لنا أمل في أن يبذل جهداً ثانياً بأن يلقي أضواء على وضع سلطات العصور الحالية وسلاطينها، ليتحفنا به بأثر جديد حي لواقع نعيشه بويلاته وبلاويه.
***

مراجعة كتاب الجهاد()
يقسِّم الباحث كتابه إلى مقدمة وأربعة أبواب.يدخل الباحث إلى واقع الجهاد في القرنين الرابع والخامس للهجرة، من بوابة الموقف السياسي والديني والشعبي والأدبي. وكي يدعم استنتاجاته يقدِّم في الباب الأول مواقف الفقهاء المسلمين، من القرنين الرابع والخامس، من السنة والشيعة… وهم القاضي النعمان، وابن بابويه القمي، وأبو الحسن الماوردي، وأبو حامد الغزالي.
يتناول الباحث في الباب الثاني مواقف المتكلمين، وفي الباب الثالث مواقف الصوفية. ويعود في الباب الرابع، بعد أن يدرس معاني الجهاد ودلالاته في القرنين الرابع والخامس للهجرة، إلى تأصيل تلك المعاني ودلالاتها ابتداءً بالهجرة وانتهاء بانتقال الدعوة إلى الدولة في العصر الأموي.
تبرز أهمية البحث، كما يحددها الباحث في تقديم كتابه، من خلال منهج اقتحام القضايا المتعلقة بالإسلام من منظور نقدي ولغاية معرفية جديدة، وليس لغايات معرفية تلقينية وتسليمية.
يعرض الباحث في تقديمه أهمية المنهج النقدي في تفسير الأفكار والوقائع الإسلامية، فيقول: لم تكن «كل معالم الثقافة العربية الإسلامية… معطى إلهياً… بل إنها تشكَّلت تاريخياً بتضافر عديد من العوامل المعرفية… وإن الضمير الديني الجمعي هو الذي أضفى عليها، فيما بعد، هالة من القداسة والإطلاق» (ص 11).
وفي المدخل لتعريف الجهاد في المرحلة التي حددها لدراسته، يستعرض الباحث، من أجل الوصول إليه:
أولاً: الموقف السياسي: فيرى أنه في العهد العباسي، تراجع اهتمام الخلفاء بالجهاد، بحيث انتقل من أيديهم، وأصبح من مهمات العسكر المحيطين بالخليفة، ومن مهمات أمراء الثغور، الذين امتلكوا الإمكانيات. ولهذا السبب استأثرت الدولة الحمدانية، بقيادة سيف الدولة، بأهمية قصوى في ردِّ غزوات الروم (في أواسط القرن الرابع للهجرة). ولما انتقلت القوة إلى أيدي الفاطميين، بعد أن غزوا مصر، حاولوا القيام بعبء الجهاد ضد الدولة البيزنطية. لكن الفاطميين اصطدموا بمعارضة أهل الشام لاعتبارات تاريخية ومذهبية وسياسية (ص 26)؛ فاضطروا إلى التحالف مع البيزنطيين في مواجهة الحركة السلجوقية.
وفي أواسط القرن الخامس الهجري، وبقيام الدولة السلجوقية، كانت بلاد الشام عرضة للهجمات البيزنطية ومحاولات الفتح الفاطمي. عدَّ السلاجقة الفاطميين مارقين عن الدين يتحتَّم جهادهم(ص 27). فخاضوا جهاداً ضد البيزنطيين بمساعدة أهل الشام وانتصروا عليهم. وانقلب ظهر المجن عليهم، من بعد أن تفرّقوا -في نهاية القرن الخامس للهجرة- فتعرّضوا لغزو البيزنطيين وانهزموا أمامهم، إلى أن جاء دور الغزوات الصليبية التي تُوِّجت بسقوط القدس، بين أيديهم، في العام 492 هـ/ 1098م.
ثانيـاً: أما على الصعيد الديني، فقد انحصرت مواقف رجال الدين المسلمين، طيلة القرنين المذكورين، في الحض على مقاومة البيزنطيين ومرافقة الجيوش، وتقوية مشاعر العامة (ص 29).
عانت الشعوب الإسلامية من الأوضاع الاجتماعية المتردية، وانقسم المجتمع إلى: خاصة تستأثر بالسلطة، وعامة جاهلة جائعة ضعيفة (ص 30). دفع هذا السبب بالعامة إلى الدعوة بأن يبدأ الجهاد من الداخل (ص 31). وأصبح لهم نفوذ في المدن الشمالية في ظل غياب الأمراء وغيبوبة الخلافة (ص 32). فظهرت من خلال الاحتجاجات الشعبية ضد تقاعس الخليفة في صد هجمات الروم، وهذا ما كان يخلق حالة شعبية دائمة الهيجان، والاستمرار في الدعوة إلى الجهاد. وقد تمظهرت حالة الاستياء والهيجان الشعبي في الآثار الأدبية للقرنين الرابع والخامس للهجرة (ص 33).
وبالإجمال فقد خفَّت روح الجهاد، وظهر الشعور باللامبالاة، والتسليم بالأمر الواقع، وكان السبب يعود إلى ضعف الدولة العباسية من جهة، والخلافات السياسية والمذهبية من جهة أخرى. وانعكست بشكل مفجع على عامة الناس التي كانت عاجزة عن القيام بأي شيء، فأحتجَّت بعنف ضد السلطة (ص 40).
ثالثـاً: جهاد أهل البغي: لقد أصبحت ظاهرة جهاد أهل البغي السمة الأبرز في القرنين الرابع والخامس للهجرة. وهنا نقتطف بعض ما أورده الباحث في باب (مواقف الفقهاء من الجهاد):
1-يرى القاضي النعمان (فاطمي) أن أهل البغي أعظم جرماً من المشركين (ص 51).
2-يرى ابن بابويه (بويهي) ضرورة إرجاع الناس إلى الإيمان الحقيقي قبل محاربة الكفار (ص 57).
3-يرى الماوردي (سلجوقي) وجوب مقاتلة أهل البغي لأنهم يهددون الدولة والمجتمع (ص 67).
4-يرى الغزالي (سني) وجوب الدعوة إلى محاربة الباطنية بكل الوسائل الممكنة (ص 81).
وبالإجمال، يرى الباحث، أنه عندما وقع الخلط المتعمَّد بين مصالح رجال السياسة ومصالح الدين، شرَّع الفقهاء للحرب بين المسلمين أنفسهم. فأهل البغي، عند فقهاء الشيعة، هم أهل السنة. أما عند أهل السنة فهم الشيعة بكل فرقهم. وهكذا أصبح الجهاد ضد أهل البغي، لدى كثير من الفقهاء -خاصة في القرنين الرابع والخامس للهجرة-، «أهم وأولى من جهاد الكفار» (ص 97).
يتناول الباحث، في نهاية الباب الأول، مسألة على درجة من الخطورة، وفيها يلقي الضوء على الانفصام الحاصل بين بُنية الفقه الإسلامي النظرية، وبين بُنيته العملية، فيقول: عندما يكتب فقهاء القرنين الرابع والخامس للهجرة عن الجهاد «فإنهم لا يكتبون عن واقعهم، وإنما يكتبون عما يجب أن يكون. إنهم يقدمون قواعد للتطبيق مقتنعين بأنها النموذج الذي أراده الله، بقطع النظر عن تحقق ذلك في الواقع أم لا» (ص 102).
نحن نؤيد الباحث فيما ذهب إليه لأن الشريعة عند الفقهاء المسلمين أصبحت غاية وليست وسيلة. ولذلك تأتي أحكامهم الفقهية لكي تجامل النص وتتودّد إليه غير عابئة بمصالح الناس المرسلة.
وعن موقف المتكلمين، يرى الباحث، أن الجهاد هو من مشمولات الفقهاء بالدرجة الأولى. وهو مرتبط، أساساً، بمسألة التكفير، والتكفير مسألة فقهية بالأساس؛ والتمييز بين الكافر والمسلم هي مسألة شرعية. على الرغم من ذلك لم يكن مبحث الجهاد غائباً عن مصنفات المتكلمين، وانحصر ردهم أولاً على النصارى الذين عابوا على المسلمين استعمال السيف في الدعوة إلى الإسلام، بالقول إن الجهاد امتثال لأمر الله (ص 106).
ولأن أصحاب الفرق والبدع الضالة طعنوا بالإسلام، فإن طعنهم كفيل بإخراجهم من دائرته إلى دائرة الكفر، لذلك وجب جهادهم (ص 107). وهكذا استطاعت الدولة جرَّ المتكلمين إلى تدعيمها في مواجهة خصومها (ص 108).
ولأن الإمامة كانت أصل الخلاف بين السنة والشيعة، ساق فقهاء كل فرقة منهما أدلة لإثبات اعتقاده. ولما كان التباين شديداً بين الفرق الإسلامية حول مسألة الإمامة، دخلت المسألة في صلب موضوع التكفير المتبادل بينها، فكان الجهاد عند المتكلمين، في القرنين الرابع والخامس للهجرة، جهاداً داخلياً يواجه فيه المسلمُ المسلمَ باسم الإسلام وباسم الجهاد في سبيل الله (ص 110).
أما الفرق الصوفية، فقد دعت إلى مجاهدة النفس أولاً في عصر طغى فيه الابتعاد عن العبادات واتباع الشهوات وتعاطي المحظورات، وساد فيه الجهل. فالجهاد يتمثل في طلب الحلال والعمل الصالح وطلب العلم، فدعوا إلى مقاومة الفرق الضالة والمارقة (ص 116)، وانخرطوا من خلالها في الجدل المذهبي، الذي هو في النهاية موقف سياسي، فانجرَّ المتصوفة -الداعمون لحركة الإحياء السني- إلى نصرة وجهة النظر السنية عامة. وتحولت الصوفية في القرنين الرابع والخامس للهجرة، عن الزهد والمرابطة في الثغور للتحريض على الجهاد، إلى صوفية تعمل للدعوة إلى الجهاد النظري ضد أهل البدع والأهواء (ص 119)، وإن خلاص الإسلام والمسلمين لا يتم -كما ترى الفرق الصوفية- إلاَّ عن طريق أولياء الله ودعواتهم (ص 120).
فالجهاد عند الصوفية لا يتعلَّق بمحاربة الكفار لنشر الإسلام بينهم، وإنما يتعلق، أساساً، بمحاربة أهواء النفس وشهواتها (ص 121).
أما موقف الفقهاء فكان ينصبُّ على تحديد الوضعية القانونية للجهاد، كمثل: هل هو ركن من أركان الإسلام، أم هو شعيرة من الشعائر؟ بينما اعتبر الصوفية أن مجاهدة النفس ركن أساسي في أية تجربة صوفية (ص 121).
فالجهاد عند الفقهاء هو في سبيل الله، وجهاد النفس عند الصوفية هو في سبيل خلاص الإنسان في الدنيا والآخرة (ص 124).
يقسِّم الباحث، الرحموني، تطور مفهوم الجهاد -استناداً إلى المفهوم التاريخي- إلى عدة مراحل:
1-من الهجرة إلى الدعوة: وكانت الهجرة فيها نوعاً من الجهاد لتدعيم الجماعة. وبعد فتح مكة، والسيطرة على معظم أنحاء شبه الجزيرة العربية، أصبح الجهاد هو الهجرة إلى الخارج لتوحيد العالم في أمة جامعة، فكثرت الفتوحات في عهد الخلفاء الراشدين (ص 130).
2-من الدعوة إلى الدولة: بعد انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين، سالت دماء مسلمة كثيرة في معارك الصراع حول السلطة، فتحوّل جيش المسلمين إلى مرتزقة، وتفتت الدولة بين سيطرة البويهيين، ثم السلاجقة، وقُضيَ على الخلافة. وباستثناء بعض المعارك القليلة ساد الاستقرار النسبي في العلاقة بين الروم والمسلمين. واستفحلت الصراعات الداخلية، فأُهمِلت الثغور، وتخلّى المسلمون عن الحرب (ص 132). وانكبَّ الفقهاء المسلمون على تثبيت أسس الخلافة والخليفة بإزاء التسلط البويهي - الشيعي، فتحوَّلت جهودهم من تثبيت الدعوة إلى تثبيت الدولة (ص 133).
3-جدلية الدعوة والدولة: ليس هناك تاريخ يحدد بدء الصراع بين منطق الدعوة ومنطق الدولة. لكن بسبب ضعف الخلافة، في القرنين الرابع والخامس للهجرة، وبسبب كثرة الخارجين عليها واستفحال الفتن، انبرى العلماء للدفاع عن وحدة الأمة، فقدموا تنازلات، من أهمها: التخلي عن الدعوة إلى جهاد الروم والصليبيين، وكانت الغاية من وراء ذلك تدعيم الدولة / السلطة حفاظاً على وحدة الجماعة (ص 136).
ومع نهاية القرن الأول للهجرة، أخذ المحدّثون يركزون على وحدة الجماعة والأمة، من خلال طاعة الأئمة: البِرُّ منهم والفاجر، والجهاد معهم. وتبلور هذا التوجه منذ اشتداد الصراع بين الدولة الأموية والخوارج. وبعد تزايد الخطر، وتتابع الانقسامات، منذ انفصال دولة الأغالبة في إفريقيا عن الخلافة، اختار العلماء التخلي عن بعض شروط الخلافة للاعتراف بشرعية الخليفة القاهر والقادر على توحيد الأمة (ص 136)؛ فأصبح هذا المبدأ ذا أولوية مطلقة عند الفقهاء، وفاق على غيره من شروط تنصيب الخليفة، فالوحدة نقيض للفتنة (ص 138). وقاد هذا السبب إلى الكلام عن الآداب السلطانية وهو مظهر من مظاهر غلبة منطق الدولة على حساب الدعوة. ولا تعني الأديب السلطاني مسألة مشروعية السلطة، بل يعنيه حضور النظام والأمن (ص 140). لقد استفاد الأديب السلطاني من قواعد الشريعة وتراث الحضارات الفكرية الأخرى، في تصنيف الآداب السلطانية، بحيث تنازلوا فيها عن الشروط الشرعية للخليفة، فحددوا بذلك، إلى حد كبير، مواقف العلماء من الجهاد (ص 143).
بعد قرنين من وفاة الرسول، وركود الفتوحات، وقيام علاقة هادئة مع الكفار، عرف الإسلام تهديده الأساسي من داخل المجتمع الإسلامي نفسه. فوحدة الأمة أصبحت مهددة بكثرة الفرق الخارجة عن إجماع الأمة. فوظّف الفقهاء هدف الجهاد من قتال الكفار إلى تقوية العقيدة ودفعها إلى الصمود أمام كل ما من شأنه أن يشق وحدة المسلمين، فأقنعوا المجاهدين بأن مهمتهم لم تعد تتعلق بالمجال الجغرافي وإنما في حماية العقيدة والدولة من أعدائها في الداخل. وبهذا نمت «دخلنة الجهاد» من خلال مظهرين: جهاد أهل البغي والأهواء والبدع من جهة، والجهاد النفسي والروحي من جهة أخرى (ص 143).
أما أهل البغي، في القرنين الرابع والخامس للهجرة، فكانوا القرامطة والإسماعيليين والشيعة على شتى فرقهم (ص 144). فصنَّف فقهاء السنة كتباً ضمَّنوها ردوداً وفضائح ضد تلك الفرق (صص 144 - 157).
أما جهاد النفس والروح فهو الوجه الثاني للجهاد الداخلي؛ جهد من خلاله الصوفيون في سبيل العودة إلى صفاء العقيدة بنقدهم لواقع الحياة السياسية (ص 158). فالمؤمن لا يكتفي بإصلاح نفسه، بل هو مدعو إلى إرشاد الآخرين نحو طريق النجاة والخلاص (ص 159). ولأن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر، ولأن مهماته إرشاد الآخرين، اكتسب مظهره الجماعي من خلال (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، الذي حوَّله المأمون إلى مؤسسة رسمية هي مؤسسة «الحسبة». وقد استغلَّت الفرق الإسلامية هذا المبدأ لمحاسبة بعضها البعض (ص 159). وتساوى في هذا المسار كل من الفرق السنية والشيعية.
وفي مقابل التيار الذي ضحّى بالديني في سبيل السياسي، الدعوة في سبيل الدولة، نشأ تيار مواز، قوامه عدد من العلماء، والعوام من الشعب.
أما عن العلماء، فقد اخترق عدد منهم صمت الخلافة وكشفوا تخاذلها، وعبّروا عن المرارة والخيبة لِما أصاب المسلمين (صص 167 - 173).
أما عن العوام فقد شكّلوا، طوال القرنين الرابع والخامس للهجرة، ضغطاً مستمراً على السلطات الرسمية للغرض نفسه، وعُرف هذا التيار بتسميات، منها: العيارون، والشطار، وأشباههم من المعدمين والفقراء والعاطلين عن العمل (صص 174 - 181).
لم يكن الهدف، في سبيل التمسك بالوحدة / الدولة، مظهراً وحيداً من مظاهر التخلي عن الجهاد، بل كانت التطورات الاقتصادية والاجتماعية، التي عرفتها الخلافة، مظهراً آخر.
لقد أدى التغلب البويهي، ثم السلجوقي، إلى متغيرات اقتصادية واجتماعية مهمة، بعضها اتخاذ الإقطاع صفة عسكرية لأول مرة في تاريخ الإسلام. وكانت من نتائجه تدهور الزراعة، وتفاقم هجرة الفلاحين إلى المدن، وخواء بيت المال، نتيجة تقلص المصادر المالية نتيجة بذخ الخلفاء وحاشياتهم. هذه الأسباب أدّت إلى احتجاجات وصدامات وانتفاضات أسهمت في ولادة طبقات فقيرة، كان عمادها اللصوص والعيّارون… وكان الدور الذي لعبه البويهيون والسلاجقة بارزاً في توليد تلك التناقضات حين استقدموا قبائل، من قوميات أخرى، متعطشة إلى التوطن في بلاد الإسلام، وكانت من الكثرة بحيث غيَّرت التوازن في المجتمع (ص 182).
أسهم في تأزم الأوضاع الاقتصادية العوامل التالية: النزعات الانفصالية التي استولت على قسم كبير من موارد الدولة (ص 183). والإقطاع العسكري من جراء الهبات التي كان يقدمها الخليفة للأمراء وتوزيع الأرض على الجند (ص 184). وأدّت الحروب والفتن إلى خراب كثير من البنى الزراعية التحتية (ص 184). وأسهم في الأزمة طمع الولاة والأمراء والوزراء الذين ضمَّنهم الخليفة بعض الإقطاعات لقاء مبالغ يقدمونها للدولة (ص 185). وميل الخلفاء للترف (ص 186).
ومن العوامل التي أسهمت في التخلي عن الجهاد، يبرهن الباحث، على أن الأوضاع العسكرية لعبت دوراً مهماً في ذلك. ويعيد السبب إلى أن الجيش الإسلامي استند إلى تجنيد المرتزقة من الرقيق، الذي لا يرتبط بالخلافة فكرياً أو حضارياً. فانصرف اهتمام الجيش إلى تأمين أرزاقه (ص 189). وتدخله في الصراعات السياسية لحاجة الساسة إلى دعمه، فاستباحوا الخلافة وأموال الناس (ص 190). وتحالفوا مع اللصوص وقطّاع الطرق (ص 191). ولما تعددت المصالح، والتسابق على الوصول إلى الجاه والثروة بين أركان الدولة حصل الطلاق بين طاقات المجتمع والدولة (ص 191).
ينهي الباحث الباب الرابع بعدد من الاستنتاجات / الأسئلة، ومنها:
-لقد تصادم دعاة الدولة مع دعاة الدعوة. فرأى دعاة الدولة أن يوجهوا الجهاد إلى أعداء الأمة الداخليين، دفاعاً عن وحدة الأمة. أما دعاة الدعوة، فقد تمسكوا بتطبيق الشرع، أي الجهاد ضد الأعداء الخارجيين (ص 193).
كان لكل من الطرفين حججه. وهنا يتساءل الباحث عن الذي كان مصيباً في مواقفه وبراهينه؟ أهم دعاة الدولة أم دعاة الدعوة؟
يرى الباحث أنه لا بُدَّ من وجود جماعة تقوم بتحقيق الدين الإسلامي، وكان الجهاد هو أهم شعائر هذا الدين. وكان لا بُدَّ من وجود الدولة التي تقوم بمثل تلك المهمة، فقامت بها إلى أن أخذت الفتوحات تتراجع منذ القرن الثالث للهجرة. فما هو السبب الذي أدّى إلى حالة التراجع؟
كان الجهاد هو ما أخرج العرب من الهامشية التاريخية. لكن الباحث يتساءل عن أسباب الجهاد؟ فيرى أن الجهاد والفتوحات كان قراراً من الأمة بأكملها، فقرار الحرب كان جماعياً. ولما تراجعت روح الجهاد، ارتبط التراجع مع ضعف الدولة وقيام الدويلات. هنا، جدَّد «أهل الديني» شعارهم عن أهمية الجماعة ووحدتها (ص 196). وأخذوا يطالبون الدولة بتنفيذ مشروع الأمة التاريخي، ألا وهو نشر الدعوة. فكان خطاب الدولة واقعياً، وكان خطاب القوة الموازية، وعظياً وأخلاقياً، وهم لا يرون للأمة إلاَّ وظيفة واحدة وهي نشر الدعوة (ص 197).
تمسَّك الفريقان بالدولة، وبوظيفتها الجهادية، لكنهم اختلفوا حول وجهة الجهاد: هل هو ضد العدو الداخلي أم ضد العدو الخارجي؟ فانقسموا إلى داعٍ للجهاد ضد غزاة الدولة الإسلامية، وإلى داعٍ للجهاد ضد البغاة وأهل البدع والأهواء. ولما أسهمت أوضاع الدولة الإسلامية المتردية في تأمين متطلبات الجهاد الخارجي، ولما كانت الدولة مهدَّدة بكثرة طالبي يدها، تقاتل المسلمون تحت راية محاربة المرتدين عن الإسلام. فكانت كل فرقة هي المرتدة بنظر الفرق الأخرى. ولم تنج أية فرقة من تهمة الارتداد.
بعد قراءتنا كتاب الجهاد وجدنا عدداً من الملاحظات المنهجية، التي نحسب أنها كانت ضرورية، ما يلي:
أولاً: بما أن موضوع البحث يتعلق بمعرفة واقع الجهاد في القرنين الرابع والخامس للهجرة، ومنه ينطلق الباحث في فرضية أن مفاهيم الجهاد قد اكتسبت مفاهيم جديدة، فكان من الأولى المنهجي أن يبدأ الباحث، منذ الباب الأول، بتأصيل مفهوم الجهاد كما كان في أوائل الدعوة الإسلامية. لذا كان القسم الأول من الباب الرابع جديراً بأن يحتل مكانه في الباب الأول.
ونحن نستند في ملاحظتنا المنهجية تلك إلى أن اكتساب الجهاد، بعد أربعة أو خمسة قرون على استكمال الدعوة الإسلامية، مفاهيم جديدة فكان من المنطقي أن نبدأ بتحديد المفاهيم القديمة أولاً، والهدف من وراء ذلك أن نفهم بسرعة طبيعة المتغيرات التي اكتسبها الجهاد، وطبيعة العوامل التي أسهمت في صياغة تلك المفاهيم.
ثانيـاً: لقد أضاف الباحث الرحموني إلى المكتبة الإسلامية - العربية جهداً جديداً قيماً. وتأتي قيمته من خلال تناوله قضية الجهاد -كقضية إسلامية- من دائرتها المقدسة المزعومة إلى البرهان على أنه من خلال كونها مصطلحاً دينياً إسلامياً، يمكن أن تكون سيفاً ذو حدين: فبها تستطيع أن تجاهد ضد المشركين، وتستطيع أيضاً أن تجاهد فيها ضد المسلمين من الذين يمكن اتهامهم، بسهولة، بتهمة الردة عن الإسلام، فيصبح المشرك الذي لا يؤمن بالإسلام على الإطلاق أقل جرماً من أهل البغي من أبناء الإسلام.
وهذا، كما أحسب، يقودنا إلى وجوب النظر في موضوع الجهاد من خلال رؤية جديدة معاصرة، ننسخ فيها عن الجهاد صفة القدسية. وقد جاء في القرآن الكريم، ما يدل على أن الجهاد هو لمنفعة الناس أنفسهم. وليس لله مصلحة بذلك، فالجهاد ليس كما جاء في الفقه الإسلامي من أنه لنشر الدعوة الإسلامية فقط. بل )وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (العنكبوت:6).
ثالثـاً: فإذا كنت قد خرجت بنتيجة من قراءة ومراجعة هذا البحث القيّم، فهي تستند إلى ما يلي: ليس للجهاد مفهوم مقدس ثابت، والدليل هو ما طرأ عليه من مفاهيم مستحدثة بعد مرور عدة قرون من بدء الدعوة الإسلامية. ولأن الجهاد ليس مفهوماً جامداً، يقتضي منا أن نضع له، في هذه المرحلة المعاصرة التي تمر بها أمتنا العربية، تعريفات ومفاهيم جديدة تتناسب مع روح العصر.
لقد تطور مفهوم الدولة، فانتقلت من مهماتها الدينية وأصبحت دولة قومية. و يستدعي التحول الجديد، الذي أصابته الدولة الحديثة، النظر إلى أن الدفاع عن الدولة القومية أصبح في المقام الأول. ولما تحررت الدولة الحديثة من مهمة الدفاع عن الدعوة الدينية أو نشرها بالجهاد، وانحصرت مهمات الدولة في الدفاع عن سيادتها الوطنية، أصبح من الواجب أن يتم البحث عن مفاهيم ووظائف جديدة للجهاد، الذي انتقل، بدون أدنى شك، من مهام الدعوة إلى مهام الدفاع عن سيادة الدولة السياسية.
تبقى للدعوة إلى وضع مفاهيم معاصرة للجهاد أهمية قصوى، لأننا نرى عدداً من الحركات الإسلامية السياسية المعاصرة، راحت، استناداً للنص، تعطي أولوية لجهاد أهل البغي، وكأننا بها تعمل من أجل إعادتنا إلى الوراء، أي إعادتنا إلى أن نعيش ظروف القرنين الرابع والخامس للهجرة.
رابعـاً: وإذا كان من الواجب أن يقوم المفكرون بدراسة إشكالية الجهاد في العصر الحديث، يبقى لنا أمنية نتوجَّه بها إلى الباحث الدكتور محمد الرحموني، وهو الذي أخرج مفاهيم الجهاد من دائرة المقدس إلى دائرة الدنيوي المتغير، أن يقوم بمثل هذا البحث، وهو الذي أصاب قسطاً وافياً ومتخصصاً في زوايا وخبايا بحثه عن الجهاد.
***


مراجعة كتاب (المقاومة وتحرير جنوب لبنان).
يتضمن الكتاب مقدمة وفصلين: يحمل الفصل الأول عنواناً (في رحاب تحرير الجنوب). أما الفصل الثاني فيحمل عنوان (حزب الله): العقيدة والسياسة والتنظيم.
يسجل الكاتب في مقدمة كتابه أن انتصار المقاومة على الاحتلال الصهيوني ليس حدثاً عادياً، بل هو الحدث الأضخم والأهم في تاريخ الصراع العربي – الصهيوني.
وردَّاً على القائلين إنه ليس أول انسحاب إسرائيلي من أراضٍ عربية، يقول الكاتب: إن هذا الانسحاب قد تمَّ من دون قيد أو شرط؛ فالمقاومة كانت قد جرَّته إلى حرب استنزاف طويلة، فدفع خسائر جسيمة. من هنا يرى الكاتب أن انسحاب العدو من جنوب لبنان ليس كمثل انسحابه من سيناء أو من الضفة الغربية، فالانسحاب منهما كان مرتبطاً بشروط وتنازلات جمَّة.
لقد أثبتت المقاومة في جنوب لبنان جدارتها بعد الهزائم المتواصلة التي أُلحِقت بالعرب منذ بداية الصراع مع الصهيونية. وهنا يؤكد الكاتب أن حرباً نظامية في ظل اختلال موازين القوى هو أمر مستحيل.
وهنا يسجل الكاتب أن بداية حرب التحرير الشعبية كانت في 1 / 1 / 1965م، ليصل إلى حقيقة موضوعية تقول: إن ثقافة المقاومة الإسلامية في لبنان لا تنفصل –في موضوع حرب الشعب- عن تراث المقاومة الفلسطينية فحسب، وإنما تغذّت منها ، أيضاً.
لا شك بأن حزب الله أسهم بتدوين صناعة اللحظة التاريخية، لكن لا بُدَّ من تدوينٍ موضوعي وصادق لتأريخ المقاومة في لبنان. وهذا ما عمل لأجل توضيحه في الفصل الأول من كتابه.
ينتقل الكاتب من العنوان الرئيس للفصل الأول (في رحاب تحرير الجنوب) إلى عناوين فرعية، وهي: انتصار لبنان على الاحتلال، ليصل إلى رسم العلاقة بين "إسرائيل" وجيش لبنان الجنوبي، لكي يوضح محنة عملاء "إسرائيل" ومصيرهم. أما في الثانية فهو يتساءل عن الكيفية التي انتصر فيها لبنان المقاوم، والقائمة على ميزان القوى المشروخ وميزان الإرادات، والتي من أهم مظاهرها دفن الطائفية في مدفن المقاومة والوحدة الوطنية.
كانت المقاومة الإسلامية باسلة، يقول الكاتب، وكان حزب الله عمودها الفقري؛ لكنها لم تكن الوحيدة في ساح المعركة، والسبب أن لبنان ومقاومته استفادا من عوامل إسناد مؤاتية: من دعم سياسي سوري غير محدود، ومن دعم مادي إيراني، ناهيك عن الشرعية السياسية التي وفّرها الموقف الرسمي للدولة اللبنانية. فالمقاومة، إذاً، ما كانت لتملك أن تبلغ هذا المستوى لولا أن اجتمعت لها عوامل الإسناد تلك. لكن… لا يجوز النظر إلى عطاء شعب لبنان وحركة المقاومة فيه، وكأنه محض استجابات ميدانية لإرادات أخرى… [لقد شارك الجميع] غير أن الذي صنع ذلك النصر هو –حصراً- شعب لبنان ومقاومته الإسلامية المجيدة. (ص ص 17 و 18).
يستطرد الكاتب ليحدد موقع هذا النصر في خريطة التاريخ العربي، فيخلص إلى نتيجة مفادها، أن لبنان الذي كان يُعَدُّ (الحلقة الأضعف) في الجسم العربي، أصبح (الحلقة الأقوى) بعد أن حقق بكفاحه المسلَّح نصراً، فكان هذا النصر منارة في سلسلة الهزائم التي سجلها التاريخ العربي. فالمفارقة في هذه النقلة، يقول الدكتور بلقزيز، إنه لم يجد تفسيراً لها إلا في الخروج من ميزان القوى التقليدي إلى (موازين القوى في الإرادات). وهذا الميزان الأخير هو مفهوم غير قابل للتحكيم أو القياس الرياضي، لكنه يكشف في التصريف المادي عن قابلية مذهلة لتغيير معطيات الواقع (ص 30). لكن، لم يكن (ميزان الإرادات) هو الوحيد بالنسبة لبلد كلبنان، قسَّمته النزاعات الطائفية، فكان انتصاره عليها مقدمة تاريخية لإطلاق عناصر القوة فيه (ص 33). فعودة السلم الأهلي كانت مناسبة لتغيير جبهة القتال من الداخل الأهلي إلى الجنوب المحتل (ص 34). وهنا انطلقت المقاومة بثقة وبلا دواعي خوف لأنها اطمأنت إلى أن ظهرها أصبح محمياً (ص 35).
أما الفصل الثاني، فجاء تحت عنوان (حزب الله: العقيدة والسياسة والتنظيم). وقد مهَّد الكاتب له بعنوان فرعي: مقاومة لها تاريخ، ليقول: للمقاومة اللبنانية –التي يمثل حزب الله عمودها الفقري اليوم- تاريخ. وتاريخها ليس –قطعاً- تاريخ حزب الله (ص 39). ولهذا، فإن كل محاولة لقراءة تاريخ المقاومة بوصفه تاريخاً للحزب... ستنتهي إلى السقوط في نزعة اختزالية، لن يكون لها من وظيفة سوى مصادرة تراث المقاومة من قِبَلِ فريق حزبي واحد (ص 39). لكن هذا لن يمنع حقيقة واضحة أن لحزب الله دور فعّال ومركزي في صناعة أخصب لحظات فعل المقاومة في لبنان (ص 39). فدور حزب الله أنه خرج إلى الوجود بعد ميلاد المقاومة، فكان إليها منتسباً لا صانعاً (ص 39). ثم يخلص الكاتب ليقول إن للمقاومة تواريخ عدة لا تاريخاً واحداً (ص 40). ويحددها، أي التواريخ التي سبقت التاريخ المقاوم لحزب الله، بإثنين:
الأول: التاريخ الفلسطيني، وتمثّله مدرسة الكفاح المسلح والعمل الفدائي الفلسطيني، التي انطلقت في أواسط الستينات من القرن 20م. وكانت مرجعاً قومياً وعالمياً ، أيضاً. وعلى الرغم من الأخطاء التي ارتكبتها في لبنان، فقد تعلَّم اللبنانيون كثيراً في تلك المدرسة (ص 40). ويصف الدكتور بلقزيز كل الذين يحاولون محو اللحظة الفدائية الفلسطينية من التاريخ الوطني والكفاحي للبنان، بأنهم لا يفعلون أكثر من تجريب المستحيل: تزوير التاريخ!! (ص 41).
الثاني: تاريخ لبنان، وتمثّله تجربة (جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية)، التي انطلقت عملياتها في أيلول / سبتمبر من العام 1982م. ولعل كثيرون لا يرغبون في إلقاء الضوء مجدداً على تلك اللحظة لأسباب حزبية ضيّقة (ص 41).
ومن دون أن يلجأ الباحث إلى تحديد الأسباب التي دفعت بأحزاب الحركة الوطنية اللبنانية إلى الوقوف خارج دائرة المقاومة، وتسليم كل أوراقها لحزب الله منذ أوائل التسعينات، يقول بأن حزب الله قد أدخل عاملاً استشهادياً جديداً في القتال ضد "إسرائيل"، قائماً على روحية الاقتداء بما فعله الإمام الإثني عشري الحسين بن علي. ومن ثمَّ يناقش في أواخر الفصل الثاني العلاقة بين الفكر الإثني عشري التقليدي في الحكم والسياسة ، وبين نظرية ولاية الفقيه. واصفاً المخارج التي استخدمها حزب الله في فقهه، بأنها عملت على التوفيق بين الواقع السياسي وفكرهم الديني والمذهبي بكثير من المرونة والواقعية السياسية.
ومع موافقتنا على أكثر المواقف التي اتخذها الدكتور بلقزيز، بالنسبة لموضوع المقاومة، إلا أنه كان لا بُدَّ لنا من أن نلفت النظر إلى بعض الثغرات التي جاءت في دراسته، وهي حكماً ثغرات فرضتها السرعة في كتابة بحثه، ونحن نأمل منه فيما إذا أراد أن يعيد كتابة موضوعه، وهذا يُعدُّ ضرورة علمية وبحثية، أن يُولي ملاحظاتنا الأهمية الكافية.
أولاً: من المفيد الإشارة، في الصفحات من 33 إلى 35، إلى أن النزعات الطائفية في لبنان لم تكن سبباً مباشراً في تفجير الصراع الدموي في لبنان، بل لأنها كانت قائمة على الخوف الطائفي المتبادَل بين طوائف لبنان في ظل سيادة نظام سياسي – طائفي، أصبحت أكثر استجابة لمشاريع القوى الخارجية التي كانت لها مصلحة في تفجير الصراع في لبنان ففجرَّته مستغلَّة النزعات الطائفية عند بعض اللبنانيين. وكان العدو الصهيوني من أكثر الأطراف الخارجية حاجة لتفجير الصراع في لبنان مستهدفاً منه إخراج المقاومة الفلسطينية من على أرضه بعد أخذت تشكِّل خطراً حقيقياً عليه.
ثانياً: نحن لا نتعارض مع الكاتب حول أن فكر المقاومة وفعلها قد سبقا حزب الله. ولا نتعارض معه، أيضاً، حول أن المقاومة الفلسطينية قد كانت السبّاقة في ممارسة الكفاح الشعبي المسلّح. ولكننا نود أن نلفت النظر إلى أن تحديد التاريخ الثاني للمقاومة لم يكن دقيقاً، وسنعمل بإيجاز شديد لتوضيح ذلك:
دار سجال بين أطراف الحركة الوطنية اللبنانية، في العام 1983م، حول تحديد تأريخ لولادة المقاومة كان فيه كل حزب يشد اللحاف لصالحه. ومن بين العديد من الأحزاب الذين دخلوا هذا السجال جاء على رأسهم كل من الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي، اللذان حسبا أن بيانهما المشترك الصادر عنهما في أيلول / سبتمبر من العام 1982، قد أعطاهما الحق بتحديد وثيقة الولادة.
إن الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي في لبنان، لهما تضحيات وشهداء، ولا يمكن لأحد أن ينكرها عليهما. ولكن ما خشي الباحث منه من حصول عملية تزوير لتاريخ المقاومة، نقول إن الكل كان غارقاً في المنطق الفئوي. وهذا ما يُلزِم الباحث الموضوعي أن يدقق كثيراً في وثائق الأحزاب اللبنانية، حول موضوع المقاومة، قبل أن يستند إليها في أبحاثه.
غيَّر الحزب الشيوعي موقفه من الكفاح الشعبي المسلح في أوائل السبعينات، من بعد أن كان موقفه سلبياً منه. فهو كان يعدُّ المقاومة عملاً مغامراً. أما منظمة العمل الشيوعي فقد أعلنت عن تأسيس نفسها في أوائل السبعينات، أيضاً. فماذا يعني هذا؟ نحن لم نسجل هذين التأريخين إلا بقصد تصويب الأمور في سبيل كتابة تاريخ موضوعي. وليس لأي سبب آخر. فإذا أصبح هذين التأريخيْن واضحين، يصبح من الواضح، أيضاً، أن ما سبق من فعلٍ للمقاومة، قبل العام 1982م، أو قبل أن ينخرط التنظيمان في فعلها لا يعنيهما بشيء.
نحن هنا نريد أن نضيف إلى تاريخ المقاومة حقاً تجاهلته النزعات الفئوية، ولذلك كان لا بُدَّ من أن نسجل الحقائق التالية بإيجاز شديد:
إن الفكر المقاوم، وممارسته، قد سبقا كل التواريخ التي حددها الكاتب. والدليل على ذلك ما يؤشّر عليه الشعار التالي: (إن فلسطين لن تحررها الحكومات، بل الكفاح الشعبي المسلّح). لقد رفع هذا الشعار حزب البعث العربي الاشتراكي، ومارسه، أيضاً، في حرب فلسطين في العام 1948م، وإن العودة إلى أرشيفات تلك المرحلة لهو خير دليل.
من بين الأحزاب الوطنية اللبنانية، كان حزب البعث في لبنان سبّاقاً إلى احتضان الثورة الفلسطينية منذ إعلان بيانها الأول، في 1 / 1 / 1965م. ولم يتجرّأ نشر ذلك البيان سوى جريدة (الأحرار) التي كان يصدرها الحزب في ذلك التاريخ.
سقط للحزب شهداء في مقاومة العدو الصهيونين منذ العام 1968م، وهذه بعض منها:
الشهيد حسين علي قاسم سقط في حلتا – العرقوب في العام 1968م.
الشهيد الأخضر العربي (أمين سعد) سقط في تلال شبعا – العرقوب في العام 1969م.
● باشر حزب البعث، منذ أوائل السبعينات، في تنفيذ مشروع بناء خلايا مقاتلة في القرى الحدودية، وإعدادها لمواجهة إي تسلل إسرائيلي إلى داخل هذه القرى، وبالفعل حصلت عدة مواجهات بين تلك الخلايا وبين قوات الكومندوس الإسرائيلي، وسقط عدد من الشهداء للحزب فيها، ومن أهمها:
الشهداء الثلاثة من آل شرف الدين، سقطوا في الطيبة، في أثناء مواجهة مباشرة مع العدو الصهيوني في 1 / 1 / 1975م.
الشهيد عبد الأمير حلاوي، سقط في كفركلا في أثناء مواجهة مباشرة مع العدو الصهيوني في 27 / 11 / 1975م.
إن الهدف من تحديد هذه التفاصيل هو التدليل على أن تاريخ ولادة المقاومة الوطنية اللبنانية لم تبدأ كما حددها بيان من هنا أو بيان من هناك، وإن البيان الذي صدر في أيلول / سبتمبر من العام 1982م، لم يكن هو الذي دفع بالمقاتلين لكي يقاتلوا لأن عمليات المواجهة مع العدو الصهيوني كانت مستعرة في أكثر من منطقة. وللشهادة كانت المجموعات المقاتلة تضم مقاتلين من معظم التنظيمات اللبنانية والفلسطينية ، أيضاً. ولم تتوقف المشاركة الفلسطينية في القتال على الرغم من انسحاب أعداد كبيرة من مقاتلي التنظيمات من بيروت. ولهذا لم يكن تأريخ ولادة المقاومة فئوياً أو ملكاً لأحد، بل هو ملك لكل الشهداء الذين سقطوا: بعد التسعينات أم قبلها، بعد بيان 1982، أم قبله. ولهذا لا يمكن لأي بيان أو ادّعاء أن يمحو دم شهيد واحد كان يقاتل بالفعل المشروع الصهيوني منذ اغتصاب أرض فلسطين أو حتى قبل هذا الاغتصاب.
إننا نسجل هذه الملاحظات، واقفين بخشوع أمام روح كل شهيد سقط في الصراع مع الصهيونية، على أرض لبنان أو على أية أرض عربية، من هذه الطائفة أو من تلك، وكل غرضنا ونحن نقوم بمراجعة لكتاب صدَّره، مشكوراً، كاتب من مغربنا العربي حول المقاومة في لبنان. وليس لنا من غرض إلا أن نردم فجوة تركها الباحث المذكور، وهو الذي حاول أن يردم فجوات أكبر في تاريخ هذه المقاومة الباسلة.
ونحن إذ نعيد تسجيل شكرنا للباحث الدكتور بلقزيز على جهده نتصوّر أنه لن يضيق صدره بملاحظاتنا هذه. ونأمل منه في أي بحث لاحق أن يعود إلى الوثائق، وهي كثيرة، لتصويب ما يتطلب البحث العلمي تصويبه.
***





مراجعة كتاب (مركزيــة الأنـا)
غادة علي كلش
توطئـــة
هل الدخول إلى الإنسان مجازفة تحفها مخاطر الاصطدام بالعتمة؟
أعتقد أنني لا أخاف الدخول في هذه المجازفة، لأنني أحمل أدوات حقيقة لمواجهتها. فأنا أحمل فانوساً خفيف الضوء، ولكن برؤية عميقة. إنه دخول يبحث في كينونة الإنسان، وفي تفسير أناه.
كيف هي، وكيف تشكل الكينونة "أنانها" الواحدة في المجتمع؟
كيف يحصل ذلك، ولا سيما وأن الإنسان يتألف من أعضاء مختلفة؟ وكل عضو منها له "أناه" الخاصة. فالإنسان "كأنا" واحدة، إذاً، فيه "أنانات" عديدة، يصعب فهم الطبيعة العملية لكل واحدة منها بمفردها.
إنني أسعى، من وراء هذا الدخول، إلى وصف عملية الأداء الذاتي للإنسان في محاولة لشرح مفهوم "الأنا الواحدة"، من خلال طبيعة تكوينها، أو من حيث كونها تتَّسم بالفطرة الاجتماعية. هذه الطبيعة التي تتشكل من عمل كل أعضاء جسم الإنسان، بما لها من اختلاف في أشكالها وأدوارها ومشاعرها.
ولعل الأفكار التي أسوقها، هنا، تلتقط صورة جديدة ومختلفة عن مفهوم كينونة الإنسان، كما تتصوره الاتجاهات التقليدية. ولعلها، أيضاً، تنجح في تدوين تفاصيل واضحة عنها، وذلك على الرغم من تطابق مساراتها الحسية، والفطرية والعملية، وتناقضها في آنٍ واحد.

- I -
أسئلة كثيرة راودت ذهني وتراوده، في شكلها وتفاعلها ومضمونها وانفعالها… هي أسئلة تطال فعل كينونتي كإنسان.
أنا أتساءل: ما هو تعريف تلك الكينونة؟ أين تبتدئ وأين تنتهي؟ من يقودها؟ ومن يوجِّهها؟
كيف أحرّك كل أعضائي، التي هي أدوات أستخدمها، في حين لا أستطيع تحديد (الأنا / العامل) التي تعطي الأوامر بتحريكها، كما أني لا أستطيع تحديد مركزها والأدوات التي تستخدمها؟ كيف أستطيع تحديدها، وهي ما أحرك بها كل أعضائي، وأوجّه بها نفسي متى أشاء، بحيث يتم التحريك والتوجيه من خلال المحدد المادي والإرادي المتاح لي، بينما لا أستطيع أن أفهمها أو السيطرة عليها في مواقف عديدة؟
حين أتصور أني مالكة لنفسي وموجّهة لها، لماذا أضع تصوري الشخصي خارج نفسي الموجّهَة من نفسي؟
أين هو "شخصي" بين أعضائي وجسدي؟ أين هي "الأنا"؟ وهل هناك، فعلاً، "أنا" رئيسة مالكة آمرة منفصلة عن مجموع الإنسان؟ هل هناك، فعلاً، إنفصال مادي وفكري وعضوي بينها وبين سائر أعضاء الجسم؟
تُرى، إذا كانت هذه اليد هي يدي، كيف أستطيع أن أحركها بسرعة أو بتلقائية أو بنظام، من غير أن يكون لي يدٌ أخرى تحركها، أو مركز عضوي واحد آمر من المفترض أن تكون الأنا فيه؟
وإذا كانت هذه العين هي عيني، كيف أستطيع أن أنظر بعيني إلى عيني؟ هل بين العين والدماغ أوجد "أنا": الذات الواحدة الموجودة؟ هل أوجد في العين فقط، أو في الدماغ وحده؟
تُرى، إذا كنت أنا الناظر إلى المنظور بواسطة العين، فمن أكون أنا ها هنا بالتحديد؟ وفي أي مركز أتواجد حتى يحق لي أن أقول: هذه عيني التي تساعدني على النظر، وحتى يتسنى لي أن أفيد من فعله؟
ثم إن أنا وضعت يدي خلف ظهري، كيف أكون قد وضعتها من غير أن أفترض أنني حملت اليد بأداة تخصني ثم حرّكتها بواسطتها؟
أما قلت أن اليد هي يدي؟ أعني إذا وضعت اليد على مكان ما، فمن يكون واضعها؟ هل أكون أنا الفاعل؟ ولكن من أكون أنا كفاعل من غير اليد؟ هل أكون الدماغ؟
ولكن إذا كنت دماغاً، فكيف أقول إنه دماغي؟ هل الدماغ يحمل اليد ويحركها وينقلها من موضع إلى آخر مدى لحظات الحياة؟ هل الدماغ هو اليد الذي إذا بُتِرَت، ظل هو في موضعه وهيئته كائناً عضوياً سليم العمل، وظللت أنا الذات الواحدة المحسوسة خارج اليد المبتورة، وخارج الدماغ المعافى، وخارج كل الأعضاء التي أضعها في خدمتي تابعة كالآلة؟
وإن أنا تلفظت بعبارة: هذا صوتي. وسمعت صوتي، فمن أكون حينئذٍ؟ ومن أي عضو أتلفظ بهذا القول؟
أقول بالطبع بواسطة العضو – الحنجرة. ولكن إلى أي كيان تعود "ياء" النسبة في كلمة صوتي؟ هذا صوتي، فصوت من هذا بالتحديد؟
هل هو صوت الدماغ؟ ولكنني لست دماغاً، طالما أنني أقول عن الدماغ إنه دماغي!!!
هل هو صوت القلب؟ وهنا، أيضاً، أقول عن القلب إنه قلبي.
إذن، من أنا؟ وما هي هذه الأنا، ومن هي؟ كيف يعيش الإنسان بأعضائه التي تقوم بخدمته من غير أن يحدد ماهيته وعمله؛ وأين يأتي موقعه ودوره بين أعضائه؟
هل إذا استطعت أن أتصور الأنا منفصلة عن الأعضاء، أستطيع أن أحدد شكل هذه "الأنا" بدونها؟
مثلاً، إذا قلتُ: هؤلاء رأسي وأذنيَّ وقلبي وعينيَّ وحنجرتي، وهؤلاء صدري وبطني وأطرافي وعظامي وأوردتي ودمائي، فأين أصبح أنا بين كل تلك الأعضاء؟ وما وماذا أكون، ومن أكون؟
أين المركز الذي أدير به أعضائي؟ ولماذا يبقى غير واضح المفهوم، وغير محدد؟ ولماذا يبقى غير محسوس؟ ولماذا يبقى هناك انفصال بينه وبين الأعضاء؟
الأعضاء محسوسة، وأعمالها أيضاً. بينما المركز الذي يديرها ويوجهها ويعطيها الأوامر، وينسِّق بينها، يبقى غائباً لا يمكن مشاهدته بالحس ولا باللمس؟ هذا المركز هو الذي نطلق عليه إسم "الأنا".

- II -
أنا، أي هناك جزء مني، يعطي الأوامر إلى أعضاء هي أعضائي. لكن هناك انفصال بينه وبينها: فهي محسوسة ملموسة، تقوم بأعمال منظورة، أما هو فيبقى غير مرئيٍ، بل بعيد عن الحس واللمس.
أنا، بالطبع، شخصية واحدة في الحياة، وأعيش مع الكائنات الأخرى، ومع المجتمع، بمثل تلك الشخصية. ولكن… هل أنا "أنا" واحدة أسيطر، من مكان خفيٍّ، على كل ما يقال إنه جزء مني؟
لست مقتنعة بوجود انفصال حقيقي بين الأنا، كشخصية مُوَحَّدَة، وبين كياني الإنساني المتعدد. بل أرفض وجوداً "لأنا" وهمية غير مرئية؛ لذات مُبْهَمَة مستقلة عن وحدويتي.
إذن، ماذا عندي من أفكار؟ وبماذا أريد أن أدافع عن قناعتي؟
بداية، أنا لا أبحث عن سر الروح، فالروح أمر مجهول، والوصول إلى معرفته أمر مستحيل. وإنما أبحث عن مركزية رئيسة للأنا، وعن طبيعتها المتعددة.
أنا على يقين أنني إنسان واحد: له عينان وشفتان وقلب ويدان ورئتان ولسان ودماغ… إلخ.
لكن… هل نتصور إنساناً من غير أعضائه؟ فإذا قلنا: لا نستطيع، لا بد من أن نتساءل: أين هو موقع هذا الإنسان من هذه الأعضاء؟
من هنا أستطيع أن أحدد هدفي من البحث، والذي يتلخص بالسؤال التالي: كيف تتشكَّل كينونة للإنسان واحدة متَّحدة في الظاهر، بينما هي متعددة في الدور والشكل والإحساس؟
إن الإنسان مخلوق كائن واحد، لكنه كائن منوّع: متعدد الأعضاء والمشاعر والأفعال. لذلك هو واحد مملوء بالتناقض. فعنصرا الوحدة والتناقض في الإنسان يشكلان سمة أساسية من سمات شخصية الإنسان. من هنا نرى أن مظاهر الشخصية الواحدة مستمدة من الهيئة العضوية المتشكلة القائمة على الاختلاف والائتلاف معاً: على اختلاف أحجام الأعضاء وأشكالها وأدوارها، وعلى ائتلاف مساراتها وأعمالها.
من هنا نرى أن الإنسان يحمل في داخله جوهراً نفسياً من جهة، ومظهراً عملانياً وحسياً محدداً من جهة أخرى. ينبغي، في مثل هذه الحالة، إدراك هذا التكوين وتفسيره، من أجل فهم كينونة الإنسان النفسية وتحديدها؛ تلك الكينونة التي تقوم على مظاهر وعوامل بعضها فكري وبعضها الآخر حسي، بحيث يتداخل بعضها بالبعض الآخر، وتتعارض أحياناً وتتوافق أحياناً أخرى.
إنني، هنا، لا أفصل بين مفاهيم الدين التي تعلمناها في الكتب السماوية من جهة، والتي عرفناها من اللغة والتاريخ من جهة أخرى، عن البحث الذي أقوم به. لكن ما هو الذي يميز بحثي هذا عن كل تلك المفاهيم؟
إن بحثي هذا يعمل، من خلال دلالته وقراءته وفهمه، على قاعدة الانطلاق من المحسوس –قدر الإمكان- للبحث عن طبيعة كينونة الإنسان في تنوعها العملي والحسي والمادي والوظيفي؛ بمعنى كيف تؤدي هذه الكينونة وظائفها من خلال تعدد آلاتها / أعضائها، وتكون بالتالي شخصية إجتماعية واحدة منسجمة متوحدة؟
إن السؤال الذي أرفعه، حول هذه النقطة، هو: هل تعيش الأعضاء لخدمة الإنسان؟ وهل هي مجرد أعضاء تتميّز عن الإنسان بالأهمية والمكانة أو المسؤولية أو الوجود الذاتي؟ وكيف هو الإنسان، وما هو وضعه من غير أعضائه؟ كيف نحدد مقدرته، ومصدر هذه المقدرة، على إعطاء الأوامر للأعضاء وتوجيهها؟ أو في أن يقف ضد أدوارها ورغباتها، على الرغم من أنه ليس هو هي، وليست هي هو؟
إن أول سؤال يواجهني، على طريق البحث والخوض في مجاهل الذات الجوانية / الباطنية، هو:
ألا نستطيع القول إن الأعضاء كلها هي ذاتها الإنسان الواحد، أي هي الإنسان؟
ألا نستطيع القول إن الإنسان الواحد هو ذاته الأعضاء كلها، أي هو الأعضاء؟
إلى أين أصل إذا نفيت وجود أقسام مفترضة في كيان الإنسان الواحد، من قبيل: قسم الأنا –الشخص الذي يدير الأنا- النفس. وقسم الأنا –الجسد الذي يحارب الأنا- الشخص. والأنا – النفس معاً؟
إلى أين أصل إن افترضت أنني مع أعضائي جميعاً إنسان واحد، كما أظهر أمام الآخرين؛ وكما أحس بذاتي؟ وما الذي قد أكتشف؟ وإلاما قد أنصرف؟
فلنبدأ أولاً بأول: إذا كنت، أمام الآخرين، أبدو مع أعضائي إنساناً له شخصية واحدة، بما يميزها من طباع وأفكار وأخلاق، وبما توحي للآخرين من صفات معيَّنَة وملامح محددة. فلا أرى في هكذا تصور أي تعارض بالفعل والفكر والمنطق بين ما أقول وبين المفاهيم النفسية والاجتماعية السائدة، لأن الإنسان، نظرياً ومادياً ومعنوياً، هو ذلك الشخص الواحد، أو الشخصية الواحدة أمام البشر الآخرين. وإذا كنت أمام نفسي (أنا مع أعضائي جميعاً) إنساناً واحداً، فإنني لا بد من أن أكشف عن أمور مبهمة في ماهية نفسي، وفي طبيعة تعدد "أناناتي"، أي تنوعها وتوحدها في كيان واحد.
إذا قلت مستنتجة إن الأعضاء جميعاً هي الإنسان بحد ذاته، أي هي التي تجسد هيئة وشكلاً ومادة ودوراً وإحساساً وحركة وسمة ومنهجاً، كينونة الإنسان، كشخصية مستقلة في الحياة والمجتمع. فمعنى هذا أنه لا يوجَد "أنا أخرى" تستقل عن الأعضاء، وتسيطر عليها، وتدّعي ملكيتها. فالأنا الكلية الواحدة، إذاً، التي تأخذ شكل الإنسان وشخصيته، هي ذاتها في الحالتين: الأعضاء جميعها، بتكوينها المادي المحسوس. بمعنى أن الإنسان هو أعضاؤه بذاتها، تلك الأعضاء المخلوقة بهيئتها ودورها وعملها الحسي والواعي، بحيث ينتفي وجود الانفصال المفترَض بين ما يسمّى "الجسد" المستقل عن النفس، أو ما يُسمّى "النفس" المستقلة عن الجسد.

- III -
أنا الآن أمام رؤية تحليلية مجردة، قد اتَّضح أمامي الالتباس الناجم عن الإحساس ب"الأنا" الخفية. واتَّضح أمامي، أيضاً، أن فهمنا التقليدي لها هو فهم خاطئ. فهي، أي الأنا، بالمفهوم التقليدي، بعيدة تماماً عن الغاية المرسومة لها أصلاً.
فإذا قلت: أنا فلانة وهذه عيني، أو هذا قلبي؛ وذلك فلان وذلك رأسه. تعتبر هذه التسميات، المستخدمة للإشارة إلى شخص ما من مسلَّمات المنطق، خاصة وأننا من خلالها ننسب أفعالاً وصفات محددة إلى إنسان محدد، وبنسبة هذه الأفعال إلى صاحبها، نكون كمن يحدد موقع هذا الشخص الدنيوي والديني معاً. من هنا أنا أتجاوز هذه النقطة المهمة في المسألة المطروحة. وأرى أن هناك خطأ ما في تصورنا التقليدي، الذي يعترف بوجود "شخص محسوس" يدير أعضاء جسمه ويحركها ويفهمها ويجهلها في آنٍ معاً، لكنها لا تكون هي هو. وأرى، أيضاً، أنه لا وجود لجسد مستقل، و لاوجود لنفس مستقلة أيضاً، كما أنه لا وجود لعقل باطني غير منظور ولا مرئي… إلخ..
أنا الآن موجودة بأعضائي كلها، بمعنى أن أعضائي تشكِّل "أناي" المادية والمجتمعية الواحدة، وهي تعني في جوهر حقيقتها أن الإنسان بشقيْه: الغير محسوس وأفعاله المحسوسة، ليس كلاً واحداً فحسب، بل هو بكل أعضائه على اختلاف أحجامها وأشكالها وأدوارها ومشاعرها وطاقاتها وحدودها. لذلك يتوجب عليَّ معرفة طبيعة عمل شِقّي الغير منظور والغير محسوس. ويتوجب عليَّ أن أفسِّر كيف تُنتج أعضائي جميعها صفاتي الشخصية التي تميزني في المجتمع. أي كيف تكون الأعضاء هي ذاتها الكائن الإنساني الواحد الذي يراه الآخرون ويعايشونه؟
ولكن كيف تستقيم تلك النظرة إلى الإنسان ككائن اجتماعي "أنا إجتماعية"، أي "أنا" غير فردية، مع كونه إنسان فرد " أنا فردية" يتألف من أكثر من "أنا"، أي أكثر من عضو يؤدي دوره بشكل ووظيفة مختلفة عن وظائف الأعضاء الأخرى؟
إن الإنسان ككائن اجتماعي هو كناية عن أنا غير فردية، تتألف من أكثر من "أنا"، أي أكثر من عضو. ولكنها تشكل، في الوقت ذاته، كينونة إنسانية لا وجود فيها لأجزاء "نفسية وجسدية ووعيانية ولاوعيانية"، بل إن الأعضاء مؤتلفة، بأحجامها وأدوارها ووظائفها ومشاعرها، ومتناسقة وتتكامل مع بعضها البعض. وهي، بمجموعها، تحمل لقب الإنسان.
لكل عضو شكل و"أنا" وشعور ودور، الأمر الذي يدعونا إلى أن لا نقتنع بوجود شخص محسوس يدير كينوته الذاتية كيفما شاء، ويكون هو صاحبها. فأنا عندما أشير إلى الإنسان، أكون قد أشرت إلى كل أعضائه من دون استثناء، أي: الدماغ والأذن والعين والأنف والفم والقلب والرئة والحنجرة واللسان والرِجْل واليد والمعدة والأمعاء والكِلية، وباختصار إلى كل عضو في جسم هذا الإنسان الذي أشير إليه، فأرى أن كل عضو فيه يختلف عن الآخر: بموقعه الفيزيولوجي في الجسم، وبدوره وتفاعله المباشر وغير المباشر مع العالمين الداخلي والخارجي.
إن الإنسان هو مخلوق فريد: متوحِّد ومتعدد معاً. إنه ليس شيئاً آخر يستقل عن أعضائه وهيئته. إنه متعدد بأعضائه، ومتوحِّدٌ معها، أي أنه يديرها ويوجهها. إنه –بحد ذاته- هو الأعضاء باختلاف أشكالها وأحجامها ومشاعرها وأدوارها في الحياة. ومن هنا نرى أن أعضاء جسم الإنسان ليست أدوات له، بل هي الإنسان بالفعل والفكر والحس والانفعال والتفاعل والنشأة والمصير.
إن هدفي من هذا البحث هو محاولة تفسير كيف تتكون صفات الإنسان لتجعل منه شخصاً واحداً. وكيف تتشكل أعضاؤه، "أنانات" لها أدوار باطنية وظاهرة، تنفعل وتعمل، تتنوّع فتتناقض وتتعاضد. وأنا لن أنخرط في التفكير حول ما خُلِق الإنسان من أجله في الدنيا احتساباً لليوم الآخر. ولن أقترب من الأبجدية المنطقية التي تشير إلى أن القلب (×) هو قلب فلان، أو أن اليد (×) هي يده؛ إن عدم اقترابي من هذه الإشارت لن ينفي حقيقة فكرية تقول إنه بدونها وبدون دلالاتها لا تستقيم للمعرفة واللغة والفكر والفقه والحساب استقامة. إن تعابير: هذا قلبي وهذه يدي، وتلك عيونهم وجلودهم… تثبت اختلاف كل إنسان عن الآخر، في باطنه وظاهره، ومصيره وحسابه.
إن أفكاري تتجه إلى فهم كيف يؤدي الإنسان وظائف الإحساس والفكر والعمل، وكيف يصيب ويخطئ. وهي تهدف، أيضاً، إلى وصف الكيفية التي يؤدي بها الإنسان عمله في الحياة، وكيف يفعِّل عطاءه العملي والمهني والفكري والنفسي من غير أن تظهر تلك القوة، التي بواسطتها يوجه الإنسان نفسه، إلى العلن، فيبقى أداؤها غير منظور في الوقت الذي تظهر فيه تأثيراته في أعمال الإنسان وانفعالاته، وهذه الأفعال والانفعالات تحدد، بدورها، السمات الشخصية والمميزة للفرد.
أنا أريد أن أعرف فرادة وحدة الإنسان وفرديته، أمام ذاته وأمام المجتمع؛ على الرغم من تعددية الوظائف التي تقوم أعضاؤه بها. وكيف تكتسب هذه الشخصية طابعها المتعدد الأهواء والرغبات والآراء والأفعال.
ويمكنني القول بأن كل عضو من أعضاء الإنسان ليس مُلْكاً له أو مُداراً منه. فالإنسان المخلوق بشكل وحجم مختلف عن سائر الأعضاء وأشكالها وأحجامها، وهو مخلوق لدور يختلف عن أدوارها منفردة؛ فلا الدماغ، على سبيل المثال، هو مُلْكٌ للحنجرة أو الأذن أو القلب أو اليد، ولا هي، بدورها، مُلْكٌ له. فإذا افترضنا أن الدماغ يملك سائر الأعضاء، فهو يحتاج، قطعاً، إلى عمل كل الأعضاء، وإلى مكوناتها المادية ومحدداتها الحيوية، ولا يمكنه أن يعيش منفصلاً عنها. ويُقاس الأمر ذاته على العضو – القلب، والعضو – العين، والحنجرة، واليد، وكل الأعضاء بدون استثناء.
لا سبيل إلى الشك أن الإنسان هو نفس واحدة، وقد خُلق بروح واحدة. فهو كإنسان مخلوق من روح ومن مادة يتوحَّد بجانبيه تحت كتلة مادية منظورة. بمعنى أنه يتشكل من أعضاء متنوعة الشكل والحجم والوظيفة. فالإنسان هو "أنانات" عديدة ومحدَّدَة، لكنها "أنانات" متوحِّدَة في "أنا" واحدة مفتوحة على كل المسافات الموجودة في الحياة. إن الإنسان ليس كائناً من غير أعضائه. إنه هو الكائن / الذات، التي هي الأعضاء، والتي هي الإنسان، الذي هو هو.
إن الإحساس بالأنا الفكري والسمعي والبصري والذوقي والحركي واللمسي، وسوى ذلك، هو إحساس فردي عائد إلى كل عضو بمفرده. وهو إحساس جماعي عائد إلى مجموعة عمل الأعضاء التي تتناسق وتتفاعل وتتعاون مع بعضها البعض. فالأنانات الفردية الخاصة هي التي توحِّد الإنسان بالتحامها واتصالها مع بعضها البعض. وهي، بالتالي، تولِّد الأنا العامة الواحدة.
تكتسب "الأنا الخاص" معناها من دور وعمل كل عضو بمفرده، ويدل هذا الدور والعمل على العضو الصادر عنه. أما "الأنا العام" فيعود إلى تجمُّع مجموعة أدوار وأعمال أعضاء الجسم، التي تشكِّل بمجموعها الشخصية المتميزة عن غيرها.
فالأنا، هنا، جزئية وكليَّة معاً، فهي جزئية من استقلالية كل عضو بعمله. وكليَّة لأن كل عضو يشارك في رفد الأعضاء الأخرى وأدوراها، فتتشكل، من خلال تجميع تلك الأدوار والأعمال "الأنا الجماعية، "الأنا الإنسان" الواحد.
أنني لن أسعى لإلغاء مفهوم "الأنا الشاملة المسيطرة والمالكة " للأنانات الجزئية"؛ لأنني، أصلاً، أعد هذا الإلغاء غير منطقي؛ وإنما أحاول أن أثبت مفهوماً محدداً لحقيقة "الأنا الشاملة" ضمن الاتحاد البنيوي للأعضاء، كأجزاء في جسم واحد، وضمن ائتلافها الوظيفي الذي يجعل منها كتلة متعاونة، يكمل بعضها وظائف البعض الآخر.
فما هي الذات؟
الذات هي إحساس بوجود الأنا. والأنا هنا ليست واحدة بل متوحِّدة. وليست جسداً منفصلاً عن الحواس. وليست الحواس منفصلة عن الجسد. بل هي هيئة عضوية واحدة، فلا وجود لكيان مستقل يدعى الجسد، وليس الجسد منفصلاً عن الإنسان ككائن متوحد.
ترى ما هو الجسد؟ وهل له وجود مستقل؟ وهل هو أدنى رتبة أو درجة من النفس، كما هو سائد في المفاهيم التقليدية؟
بنظرة متفحصة في التكوين المادي للأعضاء، نرى أنها تشكل مجموع الجسد، بما تعنيه من لحم وجلد وأوردة وأنسجة وعظام. وهي بمجموعها تؤلف ما نطلق عليه اسم "الجسد". أي أنها تُعدُّ المادة الجسدية التي لا يمكن فصلها عنه، ولكنها لن تكون كائناً آخر له هويته المستقلة.
فما الذي يبقى إذا افترضنا عدم وجود طبقة جلدية ولحم وعظام في تكوين كل عضو بمفرده؟ وينطبق الافتراض على كل البنية العضوية لكل الأعضاء التي تتكامل في بناء جسم الإنسان السوي والجميل؟
هنا يجدر بنا النظر في هذه المسألة وفقاً للمنطق، والجزم بأن ما يسمى الجسد ليس إلا تكويناً ضمنياً يدخل في صلب البنية العضوية الفردية والجماعية، التي يتشكل بها الإنسان.
ملاحظـــة:
إنتهت إعادة الصياغة عند الصفحة 26. أما الجزء الباقي فهو واضح أكثر، على الرغم من أن هناك ضرورة لإعادة صياغة بعض الجمل المتفرقة. وهي قليلة.
أرجو أن تكون إعادة الصياغة للقسم الأول من البحث واضحة.
وأتمنى عليك أن تتابعي الكتابة والقراءة لأن الاستمرار في التجربة أمر مهم في امتلاك ناصية الوضوح في التعبير عن الأفكار.
وأخيراً أتمنى لك التوفيق.
***


مراجعة »موسوعة أعلام العرب … « لخليل أحمد خليل
نُشِرت في جريدة السفير: العدد 8927 / تاريخ 18/6/2001 الصفحة 18.
الكتاب: موسوعة أعلام العرب المبدعين في القرن العشرين
الكاتب: خليل أحمد خليل.
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر: بيروت: 2001:
بلغ عدد الأعلام الذين تناولهم خليل أحمد خليل 207 أعلام. وانتخبهم من شتى الأقطار العربية. وركَّز في خياراته على الذين أخذوا مواقعهم الإبداعية في شتى شؤون الفكر والأدب.
لقد استهلَّ موسوعته بالإطلالة على مساهمة العرب في ثقافة القرن العشرين. ودلَّل على أن »الثقافة تعيش أكثر بكثير من منتجيها«، يزول الأشخاص وتبقى كلماتهم في الذاكرة. ومن هنا كانت محاولته ليصار من خلالها إلى استخلاص حجم المساهمة العربية في الثقافة العالمية. ومن هذه الإطلالة يطمح الكاتب إلى أن تتواصل أجيال العرب المولودين حديثاً مع ما أنتجه أسلافهم في القرن العشرين، »لأنه يحق لهم… أن ينعموا بحق القراءة والكتابة«. وهو يتصور أن تتكامل ثقافتنا العربية بشقيها: المحلية، أي ما أنتجه المبدعون العرب، مع الثقافة الأجنبية التي هي »نوافذ إضافية لعالمنا«. ويشعر كاتب الموسوعة بصعوبة تصنيف المبدعين لأنها تخضع لاستنساب شخصي، بينما التنسيب يصبح أكثر سهولة »إذا تكاثر النقاد«. ويحدد، أيضاً، إشكالية الوصول إلى تنسيب موضوعي للثقافة وللمبدعين، خاصة إذا ما حاول معاصر أن يُقيِّم مبدعاً معاصراً. لكنه يتخلَّص من وجود هذه الإشكالية قائلاً: »وبما أننا نكبر بالثقافة ونتضاءل بالجهالة، فلا بد من السعي إلى كل منابع الثقافة العربية، بلا تحيز مسبق«. وبما أنه يحدد منهجه في تجاوز إشكالية الوقوع في أغراض التنسيب، باعتماد رؤيته الخاصة، يبقى أمام الآخرين أن يدلوا بدلائهم النقدية، في سبيل تصويب ما قد يحسبه البعض ثغرات في العمل الموسوعي المنجَز.
وتحت أحد عناوين استهلاله، »إن ثقافة اليوم: تراث الغد« يدعو خليل أحمد خليل. الآخرين من النقاد والكتاب والباحثين إلى أن يكملوا محاولته الخاصة، التي لم يستطع من زاويته الفكرية والثقافية أن يراها، بكل ما يرونه من نقص فيها.
وينوِّه الكاتب بأن من أهم مميزات المبدعين في القرن العشرين أنهم كانوا حاضرين لتوصيل ما تقطَّع من أوصال الحضارة الفكرية العربية، وأثبتوا »حضورهم على أرضهم بعدما كانت في أيدي سواهم«. وبمثل هذا الإثبات الذي كافح في سبيله كل المبدعين العرب أصبحوا »أجداداً عظماء لأجيال قادمة من صلبهم التاريخي والحضاري«. فبهم، وبفضل إبداعاتهم أخذت ثقافة العرب »تُظهر حيويتها وجدارتها بالحياة والبقاء!«.
ويتساءل، تحت عنوان »ما هي الثقافة العربية المعاصرة«، ليصل إلى نتيجة أنها ثقافة عربية بتوصيفات عربية نابعة عن أمة روحية واحدة قابلة للتوحيد السياسي. وهي وإن أسهم الإسلام بتأسيسها فهي ليست ثقافة إسلامية تقف في وجه الديانات الأخرى، بل هي مصهر إبداعات متعددة. فهي ليست معقودة اللواء، كما يصنفها البعض، لفئة »المثقفين الإسلامويين الآتين من خطاب إسلاموي، سلفي أصولي«.
وحين يتساءل: من هو المثقف العربي؟ يجيب: »ما من مثقف يستحق هذه التسمية… [إذا زعم]ً أن الكتابة خدعة، قوامها نقل نص عن نص«، بل هو كل من نقد نصاً بنص، أو نقد واقعاً بنص.
أي موسوعـة
ولا ينسى خليل أحمد خليل أن من أهم مهمات الثقافة أن تتجاوب مع المعاصرة. وهنا يميز بين الثقافة المتعولمة التي تعمل على فصل الثقافة عن التراث، وبين ثقافة التراث التي تحسب أنها الثقافة الوحيدة المثالية. ويطرح، تحت أحد عناوين استهلاله الرئيسة »تجاوب الثقافة العربية مع عالمنا المعاصر« سؤاله التالي: »هل يحدد الانبهار بأصوليات ثقافية عربية قديمة أو وسيطة مسار الإنتاج الثقافي العربي في القرن العشرين؟ أم أن الانسحار بروائع النهضات الغربية المتوالية، لعب دوراً محدداً على صعيد التوجه الحالي لثقافة العرب؟«. وحول تساؤله يقول إن ثقافتنا وقعت أمام مدارين كبيرين، وهما:
1- منزلة المحاكاة أو التقليد (التجديدي، النسبي)، لما تردَّد من مأثورنا التاريخي.
2- منزلة التجاوب الثقافي العربي مع عالمنا المعاصر. فجعلت منا »مستهلكي ثقافات، أصلية وأجنبية، أكثر مما كنا منتجي كفايات ثقافية… تؤسس لنهوض عربي أكمل«.
فكانت نتائج الغرق في هذين المدارين أن القرن العشرين كاد أن يضع ثقافتنا على »محك المغامرة الشخصية بالوجود الفكري للعرب أنفسهم. ومن لم يزرع ثقافته في أرضه، لن يجد في أسواقه إلاَّ ثقافات الآخرين«. ولا يمكن للثقافة العربية أن »تنتقل إلى عصور أخرى، بدون توفر الحرية العقلية… وبدون تفتح العقل العربي على النقد والتجاوب التعارفي مع التراث والآخر«.
ومن بعد استهلالات نظرية، كمقدمة للموسوعة، يتركنا الكاتب أمام قراءة موجزة لكل من يعده مبدعاً. فيزودنا بمعلومات موسوعية، وبمجلدين كبيرين، عن مائتين وسبعة مبدعين.
بعد عرض للمهمة التي حاولت الموسوعة أن تتصدى لها، كان لا بُدَّ من التنويه بمثل هذا الجهد الذي قام به الباحث الدكتور خليل أحمد خليل. ولا بد من تسجيل عدد من الملاحظات، التي نرجو أن تسهم في تصويب ما نراه من ثغرات فيها وإن لم تنتقص من أهميتها الاستراتيجية. وأن تسهم في إعطاء بعض من الأفكار التي تضيء شمعة على طريق رؤية الإشكالات التي طرحها، أو التي نحسب أنها بحاجة إلى تسليط الأضواء عليها، بما يساعد على وضع حلول لها:
1-إن إنتاج مثل هذا العمل الموسوعي يتطلب جهد مؤسسة. ولذلك وقعت بعض الثغرات، لأنه ليس بمقدور فرد واحد أن يأتي بموسوعة أنموذجية. لكن يكفيه تنويهاً أنه شقَّ طريقاً أمام الآخرين.
كان من أهم أهداف الباحث أن لا تشعر المكتبة العربية بالفراغ الموسوعي، لأن إطلالة موسوعية شاملة حول إبداعات المفكرين والأدباء والكُتّاب العرب تساعد على كشف الإيجابيات والسلبيات في ثقافتنا العربية. لذلك نرى وكأن هذا العمل الفردي يدعونا إلى أن نرفع الصوت ونتوجَّه إلى وزارات الثقافة في شتى أقطار الأمة العربية أن تبنى على مثال عمل خليل أحمد خليل، بإنشاء مؤسسة تُعنى بشؤون إنتاج كل المبدعين العرب. وتعمل على تقييم أعمالهم. وعلى تلك الوزارات أو المؤسسات الثقافية أن لا تنتظر قرناً من الزمن لكي تغربل إبداعات المبدعين، لأن قضايا الأمة التي تقوم على أسس المعالجات التي يسهم المبدعون في تشخصيها وفي وصف الدواء لمعالجتها لا تنتظر عشرات السنين، فنحن في سباق مع الزمن. وفي سباق مع شتى تطورات الحضارات الكونية. ولهذا نتساءل: أليس من الجدير بالاهتمام أن يكون للمبدعين مؤسسة تعنى بالإضاءة على إنتاجهم حتى قبل مغادرتهم هذا العالم؟
2-إننا نحسب بأن هناك إشكالية، وهي الكتابة الموسوعية عن المبدعين الأحياء، خاصة، أطال الله بعمرهم، أن تجربتهم لم تكتمل بعد.
وهنا لا يسعنا إلاَّ أن نتساءل: وهل لا يجوز أن نعطي للمبدع الحي بعض قسطه من الحق؟ وهل علينا أن ندرك، فقط، قيمة المبدع بعد رحيله من الدنيا؟ وهل لا يمكننا أن نستفيد من الإبداعات إلاَّ بعد وفاة أصحابها؟ وهل ينعكس، فقط، إبداع المبدع إيجاباً على جماعته الإيديولوجية أو السياسية أو الحزبية، وتتضرر مصالح الآخرين؟ هل لا يجوز للمبدع إلاَّ أن يكون فئوياً وخادماً لاتجاهات دون غيرها؟ وهنا يؤشر خليل أحمد خليل إلى ارتباط »التعبير الثقافي العربي في عصرنا بمعيار الأسواق الثقافية العربية، التي تنفتح وتنغلق بوجه هذا الكاتب أو هذا الكتاب، لأسباب أساسها المرضيات أو الغرضيات السياسية الضيقة«؛ فيحاول في موسوعته أن يصحح ذلك الخلل.
ذاكرات
إن ما أشرنا إليه ليس إلاَّ تساؤلات لا نشك بأن خليل أحمد خليل قد وضعها نصب عينيه وهو يقوم بمثل المهمة التي تصدَّى لها منفرداً.
فكيف نستطيع أن نسهم في وضع رؤية تسمح بمعالجتها؟
صحيح إن تجربة المبدع الحي لن تكون مكتملة في أثناء حياته. لكن لم يبدع مبدع إلاَّ وكان لإبداعه علاقة ما بمشكلة أو أكثر مما تعاني منه الأمة أو جزء منها. وغالباً ما يخضع تقييم إبداعات المبدعين لأكثر من غرض إيديولوجي أو سياسي أو فكري. فمسكين ذلك المبدع الذي ليس له عمق وانتماء إلى جماعة لا تستطيع أن تؤمن له العون في نشر إبداعاته والتعريف به وبها. فيصبح كاليتيم لا أب يرعاه ولا أم تعطف عليه. ولأننا لم نصل إلى مستوى من الأخلاقية المطلقة التي تدفعنا لأن نهتم بشكل مطلق بالإبداع لأنه يصبح ذو فائدة للأمة كلها وللبشرية جمعاء، فتذهب كل إبداعات المجهولين أو الذين فرضنا عليهم وعلى إبداعاتهم العتمة هباء منثورا. فهل ليس هناك من حل لمثل هذا الواقع؟
منعاً لانتظار المبدعين حتى يغادروا الحياة الدنيا. ومنعاً لأن نختزل الإبداع في كل الذين نحسب أنهم يخدمون أغراضاً إيديولوجية أو سياسية محدودة، يصبح من إحدى المهمات التي تواجه جهود المؤسسات الرسمية والثقافية الشعبية أن تبتكر مؤسسات تعنى بكل المبدعين سواء كانوا أحياء أو أموات. وسواء كانوا ممن تحتضنهم مؤسسات أو جماعات ذات أغراض محدودة أو ممن تتناساهم تلك المؤسسات أو الجماعات. وأن لا تخضع ذاكرتنا لأجيال أو قرون، بل أن يكون هناك ذاكرات دورية تقوم بتعريف أبناء الأمة بأعمال وإنتاج إبداعات كل من يثبت أنه قدَّم عملاً أو آخر يصب في مصلحة الثقافة الوطنية أو الثقافة القومية أو الإنسانية.
فهل من المستحيل على المؤسسات المرتجاة أن تؤسس لذاكرات عشرية أو فضية أو ذهبية بالإضافة إلى تأسيسها لذاكرات قرنية؟
***


فايز القزي تعال بنا إلى كلمة سواء
آب 2004
أن تقرأ بعض تجارب التاريخ منقولة من الذين عايشوها تقرأ فيها نبضاتها الإنسانية، وتشدك إليها عوامل الوجدان ونبضات القلب، وتتسرَّب من خلاياها أحكام تكون الأقرب إلى الفهم والإقناع. وهذا ما فعله بنا فايز القزي في كتابه »من ميشال عفلق إلى ميشال عون«. وهو كتاب صدرت طبعته الأولى عن دار رياض الريس – لندن في العام 2003م. يقع الكتاب في 390 صفحة من الحجم الوسط.
من ميشال عفلق –مؤسس أهم إحدى التجارب السياسية المنظَّمة في التاريخ العربي الحديث على قاعدة الفكر القومي العربي الذي ينشد بناء مجتمع عربي في وحدة سياسية تستند إلى النظرية الاشتراكية كنظام اجتماعي اقتصادي مرتبط مع بناء سياسي يستند إلى الحرية والديموقراطية- إلى ميشال عون –كأحد معالم تاريخ لبنان المعاصر الذي كان ينشد بناء لبنان قطري حديث.
وبهذا تبدأ الحكاية في الانتماء إلى محيط فكري قومي عربي، وتنتهي عند محيط قطري لبناني يحاول التجديد.
في مسافة الانتقال بين الحدين تمتلئ جعبة فايز القزي بالآلام وتنتهي بها، لتقف عند سؤال وإشكالية وقف عندها كثيرون غيره، فلم يجدوا جواباً ولا أملاً فارتاحوا، ووقفوا على الحياد لكن يشدُّهم الحنين إلى ما فات، فيتجدد عزمهم كلما لاح في الأفق بارقة أمل، ويتجدد إحباطهم كلما تجددت الأخطاء. أما هو فلا يريحه أن يرتاح، أي يبتعد محايداً ويترك سفينة الخلاص الموهوم تسير كما تريد.
من معاناة، أكثرها قطرية لبنانية عاش المؤلف في قلبها مسافراً بين الأطراف المتحاربة مصالحاً ومحكِّماً فأزعج بعضها ولم يرضِ البعض الآخر، إلى معاناة قومية لامس بعض مخابرها ومظاهرها وبتر تجربته فيها في مرحلة مبكرة من انتمائه الفكري والنضالي ووقف مراقباً من الخارج في أكثر الأحيان ليعطي تقييماً من هنا أو تقييماً من هناك.
فإذا كانت تجربته القطرية تستند إلى معاناة حقيقية عاشها بخفاياها ووسائلها فإن معاناته على الصعيد القومي لم تلامس العمق في نجاحاتها ومظاهر فشلها.
كثيرة هي الآلام القومية ولكنها لا تخلو من محطات كثيرة إيجابية. وإذا كانت مسحة الآلام هي الأبرز، فإنما لأن طابع الألم التاريخي منذ قرون تراكمت سلبياته في تاريخ العرب الحديث والمعاصر. أما إيجابياته فلن تكون منظورة إلاَّ في مراحل متباعدة لأن النغيير لن يتمَّ بعصا سحرية. وعلامات التغيير البطيء لا تدع مجالاً للمراقب أن يراها بسرعة وسهولة، بل حركة التغيير لا بُدَّ من أن تكون بطيئة متلازمة مع البطء في تغيير الحياة البشرية التي تطولها زاوية زاوية، ولن تتم دفعة واحدة، بل يبني كل جيل لبنة أو جزء من لبنة.
فإذا كان فايز القزي قد أشبع وصفه للحالة اللبنانية، وأحياناً تكتفي بتقييم عام لزاوية من زواياها فتلم بالحالة كاملة، خاصة إذا كان القارئ لبنانياً، فإن قراءته القومية جاءت مبتورة لأنه –في معظم الأحيان- يحاول أن يرى الكل في التجربة القومية خاصة عند الحركة الحزبية القومية من زوايا مبتورة عن السياق العام. وإذا لم يكن دور الكتاب يتَّسع لتقييم التجربة القومية فهذا صحيح لأن عناوينها العامة تحتاج إلى مجلدات. ولذلك لن نقف طويلاً أمام كيفية رؤية الكاتب للمشهد القومي من خلال كتابه ونحن نطمع منه -كأحد الذين واكبوا التجربة القومية في صفوف القوميين- أن يكمل عمله بتآليف أخرى ترفد نقد التجارب السابقة بخبرات أحد الذين أسهموا حتى ولو بفترة زمنية ليست بالكافية.
فايز القزي لا تحزن، بل ابتهج، إن معاناتك التي سجلتها في كتابك »من ميشال عفلق إلى ميشال عون« تتميَّز بإحباطها وليس بإعلانها اليأس. من خلال إحباطك تعيد إنتاج إشكالية طالما عمَّقت المعاناة عند الكثيرين من الصادقين في انتمائهم القومي، وإعادة إنتاج الإشكالية والإضاءة عليها هي إعادة إنتاج لأمل لم تيأس من المراهنة عليه. وعدم إعلان يأسك دليل صحة وعافية.
بين التذكير –على المستوى القومي العام- بإشكالية العلاقة بين الأكثرية والأقلية، تنبعث إشكالية العلاقة بين الديني والوطني بشكل واضح. وهي أساس العلاقة بين الدنيا المنظورة المعاشة بحلوها ومرِّها من جهة، والآخرة الغيبية غير المنظورة ولا المعاشة بل تلك التي تلامس المخيَّلة والآمال بتعويض البشر ما فاتهم من سعادة الدنيا ونعيمها.
لا أخفيك سراً أن القصور في العقل البشري كاد أن يحوِّل الحياة الدنيا إلى شر مقيم ونار جهنم الحقيقية عندما تبارى الذين يعيشون حياتهم الأولى في تصارع واقتتال وتسابق لكي يصل البعض إلى نعيم الآخرة على جثة الآخر. وإذا كانت الأديان السماوية قد بشَّرت بالمحبة بين البشر كشرط ضروري لدخول النعيم الأخروي، فقد حوَّلوا الحياة الدنيا إلى أتون من الكراهية بين البشر وهم يتسابقون إلى الجنة فربح عندهم الشر على حساب الخير في الوقت الذي يتوهمون فيه أنهم يمارسون العكس.
يبدو واضحاً من مقدمتك أنك كنت تهرب من منطق الوصول إلى الجنة على جثة الآخر، فرحت تفتش عن طريق يساعدك على أن تصل إليها محاطاً بكل الآخرين، ومن دون استثناء، على قاعدة »الجنة من دون ناس ما بتنداس«. فكانت تجربتك الأولى عبر حزب البعث العربي الاشتراكي الذي يعتقد ويعمل من أجل مجتمع وطني مدني يساعد الناس على أن يعيشوا حياة الدنيا بأقل ما يمكن من الآلام وبأكثر ما يمكن من السعادة، ويؤمن لكل المواطنين الوسائل والسبل لتمهيد طريق العبور إلى الآخرة استناداً إلى الطريقة الإيمانية التي يختارها كل فرد من المجتمع الوطني على أن لا تعرقل اختيارات الآخرين وقناعاتهم، بحيث يكون المرور إلى الآخرة خالٍ من جثث الآخرين لمنعهم من الوصول بمحض خياراتهم وعقائدهم إلى طريق الخلاص بعد الموت.
من هنا ابتدأت تجربتك، وسلكت طريقها. ومنها أخذت معاناتك تتراكم حتى وصلت إلى حافة الانفجار فانفجرت. وكدت تعود إلى نقطة اليأس فلم تفعل، لكن كان يحق لك أن تعلن إحباطك.
لم تجد في تجربة الإيمان القائم على الاقتتال للوصول إلى طريق خلاص أخروي آمن أي أمان. ولم تجد في طريق الإيمان القائم على بناء المجتمع المدني ما يعفيك من عثرات الطريق وأشواكه، فأدميت أصابعك، وبدا لك الأفق وكأنه مغلق، ولم يبق أمامك من أمل أو بصيص منه ما تراهن عليه. ولكن قوة الحياة فيك منعتك من إعلان الهزيمة فكتبت…
حسناً فعلت أيها العزيز، فالكثيرون رحلوا من دون تسجيل ما شعروا به. فأغنيت بكتابتك التجربة التي كان من اللازم أن تكتبها. وخسرنا تجارب الآخرين الذي كان الواجب المعرفي يفرض عليهم أن يكتبوا ولم يفعلوا.
إن وقوفنا أمام الحياة الدنيا يقتضي منا أن نسهم في تأسيس معرفي لبناء مجتمع يعيش فيه كل أبنائه في علاقة لا تبتر مصلحة الفرد من أجل المجموع ولا تختزل مصلحة المجموع في مصلحة فرد. في حياة لا تلغي خيار المجموعة من أجل المجموع ولا أن تختزل مصلحة المجموع بمصلحة جماعة ما. لكن ليست هي بتسوية وتوفيق ومجاملات تعتمد على كفاءة البعض بالتمويه في العلن بل في إعلان حقيقة المشاعر والمواقف والأهداف والنوايا على قاعدة أن يقدم كل فرد أو مجموعة نفسه كما هو، وفي المقابل الطلب من الآخر أن يقدم الصورة ذاتها عن نفسه. ويبدأ الحوار أولاً معلناً الجوامع المشتركة ويعلن الطرفان أن تلك القواعد ليست بمحل للخلاف. ثم ينتقل المتحاورون إلى تحديد نقاط الخلاف بجرأة ووضوح، وعليهم أن لا يخرجوا إلاَّ بعد أن يتوصلوا إلى قواعد مشتركة يتنازل فيها كل طرف عن جزء من مصالحه لصالح ترسيخ نسيج اجتماعي سياسي اقتصادي واحد يلتزم به الأطراف المتعاقدة على صياغة عقد اجتماعي يكيل المجتمع قوانينه وقواعد عيشه المشترك على أساسها.
إن صياغة أي عقد اجتماعي لا يعني أنه في الإمكان صياغة عقد روحي إيماني واحد، ففيه ما يعيق وما يعرقل. والصعوبة في الوصول إلى هكذا عقد هو أن الأسس والقضايا التي تدور حيثياته حولها تقوم على علم الغيب، وعلم الغيب ليس إلاَّ عبارة عن مسائل غير محسوسة لا تخضع للبرهان العلمي. فبما لها من علاقة مع الفكر الإنساني، أي غير العلمي، القائم على الأحاسيس والمشاعر الباطنية، يمكننا تصنيفها في دائرة الاختيار الفردي وليس الجماعي. ولأن أي عقد روحي يقوم على أسس باطنية وشعورية فلا يمكن التحكم بمساراته فليترك حسم أمره إلى تسوية عامة يترك فيها العقد الاجتماعي للبشر حرية الانتماء الروحي الغيبي على أساس عدم المس بحرية الاختيار لأي فرد من أفراد المجتمع ومن دون المس بمشاعره واختيار كيفية التعبير عنها. فيكون كل ما له علاقة بتنظيم الحياة الروحية الإيمانية بالبشر هو تنظيم لمظاهر ممارسة تلك الحياة وليس بواطنها. وتنظيم المظاهر يتم بإلغاء ما يسيء إلى مشاعر الآخرين وحرياتهم في الاختيار.
إن إحباط قزي الذي ولَّدته تجاربه، أي نقلته من بيئته المذهبية الدينية إلى الانتماء لفكر قومي علماني مدني، وبعد أن وجد أن انتماءه قد ينقله من بيئة دينية مذهبية أقلية إلى أكثرية مذهبية، بدأ الإحباط يتسرب إلى نفسه، والسبب أن الفكر القومي المأمول أن يجد الإنقاذ على يديه كان مشوباً بمذهبية دينية أخرى (أي إشكالية العلاقة بين العروبة والإسلام). فحاول قزي العودة إلى قطريته التي كان يأمل أن يجد فيها مجتمعاً مدنياً وطنياً فيه حلول واضحة للعلاقة بين مجاميع الأقليات اللبنانية فلم يجده. وفكَّر أن الحل قد يأتي بهجرة الأقليات لعلها تجد مجتمعها الخاص الذي يسهم في حل مشاكلها، فوجد نفسه يدور في دائرة مفرغة، فأطلق صرخته من شدة ألمه، فالدوران في الفراغ هو أكثر المشاكل إيلاماً لمن يفكر في الحصول على حلول ذاتية ومجتمعية فلا يجدها. ومن أكثر المخارج قبولاً وأكثرها عقلانية هو صرخة المفكر طالباً العون من الآخرين لمشاركته المحنة التي يعانيها والتعاون من أجل إعادة صياغتها والإسهام في إيجاد حلول لها.
إذا كان الفكر القومي أو الوطني العلماني يعيش أزمة ذاتية، فلأنه لم ينتقل من مرحلة الفكر الديني إلى التبشير بالفكر العلماني بطريقة طبيعية وتجديدية. لقد انتقل الفكر من مستوى إلى آخر بولادة قيصرية لم تكتمل فيها مرحلة الحمل الطبيعية. ومن شروط الانتقال الطبيعي من مرحلة فكرية إلى أخرى أن المرحلة الجديدة تأتي رداً على المرحلة التي سبقتها، والرد على المرحلة السابقة لا بُدَّ من أن تمر بنقدها.
لقد انتقل المثقف العربي من مرحلة كان مشبعاً فيها بالثقافة الدينية والمذهبية، بما لتلك الثقافة من عادات تعمَّقت عبر عشرات القرون فأصبحت جزءًا منه إلى مرحلة ثقافية أخرى تحمل أعماقاً تتناقض –في كثير من جوانبها- مع الثقافة القديمة، فانبهر المثقف بمحتوى الأفكار الجديدة لكنه لم ينقد بوعي الجوانب الثقافية التقليدية فاعتنق الجديد من دون معرفة مساوئ القديم. وعندما تعرَّض لقاعدته المجتمعية المشبعة بالثقافة الدينية والمذهبية بعاداتها وتقاليدها، وجد الحواجز بينه وبين اختراق ثقافة التقليديين كثيفة وحادة، فاضطر –كتكتيك سياسي- أن يجاملها ويحابيها ليخترقها سياسياً وحزبياً، فكانت المجاملة والمحاباة تستهلك من أسسه الفكرية الجديدة فبدت مسخاً ومشوَّهة في كثير من جوانبها. فهم لم يؤثِّروا في زحزحة الثقافة التقليدية فلم يكسبوا أحداً، وحادوا عن ثقافتهم الجديدة فسطَّحوها. وأصبحت سطحيتها تتعمَّق لتصبح أكثر سطحية عندما انكفأوا عن نقد القديم خوفاً فلم يكسبوا لا هذا ولا ذاك.
تلك هي معاناتك أيها القريب من معاناة الكثيرين غيرك، وإذا كنت أنت قد عبَّرت عنها بطريقتك التي تحمل الكثير من الألم، فإن من سبقوك لم يكتبوا، والذين يعاصرونك، وهم كثر، لم ينخرطوا في التعبير بجرأة عما يشعرون به.
لقد بدأتَ الخطوة الأولى على الطريق الصحيح أيها العزيز. فلا تدع التجارب السياسية، التي هي لم تكن تستمع لتصويب فكري سليم، أن تحبطك. لقد بدأتْ الحركةُ الحزبيةُ قويةً بفكرها. ومظاهر توسُّعها –في السابق- دليل على جاذبية فكرها. ولما أخذت تجتره من دون تجديد استهلكت تلك الجاذبية عندما تراجع الفكر فيها إلى تقليدية جديدة. ومن يعيش من الأحزاب حالياً فإنما يعيش من مخزون الماضي، وما لم تبنِ الأحزاب مخزوناً فكرياً جديداً صالحاً لاستهلاك الأجيال القادمة فإنها ستستمر بفعاليات سياسية تنتجها من هنا أو هناك ولن تجد الأجيال القادمة ضالتها في فكر حزبي متجدد، ومن هنا تبدأ أزمة الأحزاب التي ورثناها ولم نعرف كيف نحافظ عليها.
إن الأزمة هي أزمة فكرية قبل كل شيء، لهذا لم يكن مما يدفعني إلى الاستغراب أن تنتشر الأصوليات دينية وعلمانية على حد سواء، ويتحول العصر الراهن إلى صراع بين الأصوليات. فالأحزاب –بفكرها قد تحوَّلت إلى أصوليات جديدة. وإلى أن يأتي الزمن الذي تستفيق فيه على أزمتها لا بُدَّ من أجراس تُقرَع. أو لا بُدَّ من أن يكون هناك ممن يستطيع أن يعلِّق الجرس. وأنت أيها العزيز من القلائل الذين يعملون على تعليَق الجرس عندما أشرت بوضوح وجرأة ومن دون محاباة ومجاملة إلى أن الأصوليات الدينية غزت الساحة الفكرية والسياسية والثقافية، وفيمن غزته فكر العديد من الحركات الحزبية وسياستها وثقافتها. ومن لم تغزه كان عاجزاً عن ممارسة أي نقد بثقافاتها وتأثيراتها.
لا تحزن يا عزيزي فلست بحاجة إلى التفتيش في خارج القومية العربية عن حل، ولا خارج النسيج الوطني عن حل. فلا الأممية المادية، ولا الأممية الدينية، لهما حظ في حياتنا ولا في حياة أحفادنا. كما ليس للانفصالية المذهبية حظ في الحياة أيضاً، لأنه ليس فيهما حل لمشاكلنا. وإذا كان الحل القومي معسوراً إلاَّ أنه أصبح أملاً عملياً بعد أن كان أملاً نظرياً، والدليل هو أن قادمات الأيام ستفرض الحاجة للصيغ التدريجية في المؤسسات القومية على الرغم من عجزها المنظور، فمن عجزها سيولد الأمل –تحديداً- بعد انكشاف الغمامة عما يجري من صراع مشرِّف على الساحة العربية بين المشروعين الأميركي الصهيوني والمشروع النهضوي العربي الذي تقوده المقاومة الوطنية العراقية.
فايز القزي
لن تجد في منهج علماني أو ديني ما يجاوب على كل أسئلتك، وما يشبع توقك إلى ما تأمله في الحياة الدنيا. فسِرُّ الحياة الدنيا مزيجٌ كبير من التناقضات، ويأتي على رأسها التنوع في الرغبات البشرية وأحلامها. ولكن أهم ما في الحياة أن تكتسب فن تأمين سعادتك متفاعلاً مع ما يؤمِّن سعادة الآخرين. ومن لم يكتسب هذا الفن فلن تلبي –حتى جماعته- ذلك، فالجماعة هي عرضة للتفسخ أيضاَ، لأنه لا مذهب علماني أو ديني يستطيع ذلك. ففي داخل الجماعات المتجانسة عوامل تساعد على التفتيت أيضاً. فالانتماء إلى جماعة على قاعدة أن مذهبها يؤمن لأفراده المؤمنين به سعادتهم هو عبث وملهاة لن تدر الفوائد التي يراهن عليها المنتسبون إليها.
فالسعادة ليست في مذهب الجماعة، بل هي في خيارات الفرد أولاً، ومتى ما اهتدى أفراد مذهب إلى تنظيم حدود العمل الجماعي بينهم، يستطيعون أيضاً أن يجدوا قواعد وأسساً لتنظيم العلاقة مع أفراد ينتسبون إلى غير مذهبهم. وهذا هو سر الفن الذي على كل المذاهب أن يتساعدوا على ابتكاره والعمل من أجله.
تعال إليَّ يا عزيزي وضمّ همومك إلى همومي لعلنا نشكل ثنائياً متناغماً يريد أن يبدأ في حل المشكلة من أصولها، والعودة إلى الحل من الأصول يتطلَّب مثابرة وإصراراً وجرأة، ومواكبة وتخطيطاً علمياً سليماً. تخطيط لا يبدأ من المجاملة وينتهي في سلة المهملات، بل من وضع الإصبع على الجرح بجرأة وموضوعية.
تعال إليَّ يا عزيزي من موقعك المسيحي ومعاناتك من المسيحيين؛ ومن موقعي الإسلامي ومعاناتي من المسلمين، لنشبك اليد باليد، ونضع الكتف إلى جانب الكتف ونسهم في توضيح طريق خلاصنا، من خلال إقناع الآخر ومحاورته على قاعدة أن طريق الخلاص الفردي لن يتم إلاَّ عن طريق خلاص المجتمع، وخلاص المجتمع لا بُدَّ من أن يبدأ بحرية اختيار طريق الخلاص الفردي في الآخرة، وتعاون المجموع على ابتكار وسائل وتشريعات وقوانين تخطط للخلاص الدنيوي لكل أبناء المجتمع المدني الواحد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق