بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 22 يناير 2010

مقالات العام 2003 (2)

(16): إشكاليات والتباسات في التجربة العراقية«
تقديم البحث :
قسَّمت بحثي إلى مقدمة تتناول مشكلة العلاقة بين التفكير الفلسفي والتفكير الإيديولوجي والخبري. ثم قمت بعرض مكثَّف للإشكاليات التي تمظهرت من خلال التجربة العراقية. وأنهيته بعدد من النتائج.
كثرة من المثقفين والمفكرين تمارس وظيفتها الإخبارية أو الإيديولوجية في متابعة مسار الأحداث، وقلة منهم تعطي للعقل الفلسفي المجرد دوراً في تقييم ما يحصل تقييماً موضوعياً. فبين العقلين الفلسفي والإيديولوجي تتكامل وسائل المعرفة ومن خلال التكامل بين العقلين تتراكم مفاهيمنا العامة حول عدد من الظواهر السياسية والثقافية.
فإذا كان العقل الإيديولوجي أداة للدفاع عن الذات، لكنه يجب أن لا تغيب عن الإيديولوجيين حقيقة حاجتهم إلى عقل موضوعي مجرُّد، وهو الوحيد الذي يصوِّب أمامهم ما يعبر عنه المثل الشائع »وعين الحب عن كل عيب كليلة«.
لم نعط في حركتنا الثقافية اهتماماً إلاَّ لنقد الأنظمة والأحزاب السياسية، وحتى الأحزاب السياسية حالت مواقفها الإيديولوجية عن رؤية الحقيقة الموضوعية.
جاء، في بحثي، نداء إلى أصحاب العقل الموضوعي، مفكرين ومثقفين، يدعوهم إلى أن يقوموا بدورهم، على صعيد توسيع دائرتهم، لتنتشر أكثر فتشعُّ أكثر، على صعيد الاهتمام في مناقشة المفاهيم الأساسية التي توجِّه المسارات السياسية والإيديولوجية. والسبب في دعوتي هذه يستند إلى أن التراكم المعرفي في الخطاب العربي على شتى مستوياته الخبرية والإيديولوجية والسياسية لن يحتل موقعه المداوي للأمراض إذا لم يتحول إلى تراكم في تحديد المفاهيم العامة.
ومن خلال التجربة العراقية، وجَّهت في بحثي النظر إلى عدد من الإشكاليات والالتباسات التي لم تستفد الحركة الفكرية العربية منها من خلال دراستها بموضوعية واستنتاج تعريفات حولها بما يسهم في تراكم الثروة الفكرية التي تقي المعرفة الخبرية والإيديولوجية من الوقوع في التناقضات.
من تلك الإشكاليات والالتباسات قمت بعرض أربع إشكاليات، يتفرَّع من إحداها التباسات ثلاثة، وهي الواردة تحت الأسئلة الموجهة إلى المفكرين العرب ومثقفيهم:
-الإشكالية الأولى:
موقع القضية العراقية من الدائرة القومية: هل يقف المثقف والمفكر العربي منها وكأنها قضية قطرية؟ هل على المفكر أو المثقف العربي أو الملتزم بحزب سياسي عربي، أن يقف على الحياد من تلك المسألة، لأنها قضية قطرية عراقية أولاً، أو لأنها ثانياً تجربة خاصة بتيار حزبي قاد تلك التجربة بمفرده؟
-الإشكالية الثانية:
تولَّدت من الحروب التي خاضها العراق عدة من الإلتباسات، وهي مثار جدل ونقاش. وقد نتج عنها عدة من الالتباسات، وهي:
الالتباس الأول: تحديد الأولويات في الانتماء: هل هو للوطن أم للدين والمذهب؟
الالتباس الثاني: تحديد الأولويات الوطنية والقومية النضالية: بمعنى أنه إذا تعددت المهمات في مرحلة زمنية واحدة على أن يكون أحد طرفيها الصراع مع القوى الخارجية، ينتج عنها ثنائيات (الوطني – الطبقي) و(الوطني – الديموقراطي)…
الالتباس الثالث: شرعية القوى المعارضة المحلية من خلال اتكائها على الخارج المعادي، أو استقوائها به.
إن تحديد وتوحيد مفاهيم عامة حول تلك الالتباسات، التي تمظهرت في التجربة العراقية، يفرض تحديد مفهوم موحَّد حول مسألة الخيانة الوطنية والقومية. وهذا ما يؤدي، أيضاً، إلى توحيد هذا المفهوم على المستوى القومي العام.
الإشكالية الثالثة:
انحياز العقل الإيديولوجي إلى تأييد تجربة ونقد تجربة أخرى، فمن غير الجائز أن يصنِّف المفكر والمثقف الموضوعي التجارب والظواهر إلى مسكوت عنها وأخرى خاضعة للنقد والتجريح. فمن واجبات العقل المعرفي الفلسفي أن يُخضع كل التجارب والمشاريع إلى غربال النقد الموضوعي.
الإشكالية الرابعة:
تحديد موقع المساس بالسيادة الوطنية في معادلة موازين القوى في أثناء الصراع مع الخارج: إذ تمظهرت هذه الإشكالية في انقسام المثقفين العرب إلى تيارين رئيسين، وهما:
التيار الأول ويمثِّله الليبراليون الذين، بذريعة التعقل والحكمة، بسبب اختلال موازين القوى، يدعون إلى الامتناع عن خوض الصراعات مع قوى العدوان تحت طائلة الاتهام بالرومانسية أحياناً وبالسوريالية أحياناً أخرى. أما التيار الثاني: فهو الذي يعمل من أجل الدفاع عن السيادة الوطنية، كقيمة إنسانية عليا، مهما بلغت التضحيات.
من نتائج البحث
قد يتساءل البعض عن غياب أجوبتي الكاملة عن حلول لتلك الإشكاليات. إلاَّ أنني أوضح أن مجرَّد إبرازها هو جزء من الجواب المطلوب، أما الجزء الآخر فله علاقة بحوار جدي وجاد، على المثقفين أن يولوه الاهتمام الكافي.
دعوت المفكرين العرب ومثقفيهم إلى الحوار حول المسائل التالية:
أولاً: حسم الالتباس بين الولاء للوطن والولاء للدين أو المذهب. من خلال بحث العلاقة بين شعاريْ الدولة الدينية والقومية، أي بما له علاقة في تحديد أولوية الانتماء للدين أو للوطن، أو شرعية تصدير الثورة على أنموذج الدولة الدينية الأممية المفتوحة الحدود.
ثانياً: ترتيب الأولويات في النضال في الحالة التي تواجه فيه الشعوب عدةَ أهداف في آن واحد. كمثل ثنائية النضال الوطني والطبقي، وثنائية النضال الوطني والديموقراطي.
ولأن ثنائية (الوطني – الديموقراطي) كانت من أبرز القضايا التي شاع الجدل حولها في القضية العراقية، رأيت أن البحث في مسألة الديموقراطية هو هم عربي عام، وليس هماً عراقياً خاصاً. وأن وضع تحديدات واضحة حول المسألة الديموقراطية هي مهمة ملحَّة. ويمكن بحثها استناداً إلى بعض العناوين الإشكاليات التالية:
أ-لأن زوايا النظر إلى الديموقراطية متعددة بتعدد الحركات الإيديولوجية. ولأن جماهير الشعب لم تكتسب –حتى الآن- ثقافة ديموقراطية تجعل ممارستها لها ممارسة سليمة، نرى أن توحيد زاوية الرؤية للوعي والفعل الديموقراطي مدخل ضروري يترافق مع محاكمة تطبيق الأنظمة الرسمية والأحزاب السياسية للديموقراطية.
ب-إن إشكالية الديموقراطية –على الصعيد النظري- إشكالية أساسية. فهناك الديموقراطية الليبرالية الغربية، والديموقراطية عند الأحزاب المعاصرة، والديموقراطية عند التيارات السياسية الدينية.
ج-هل الاستناد إلى الخارج المعادي، والاتكاء عليه في تصدير الثورة يكتسب شرعية ديموقراطية؟
هذا المزيج المتعدد من المفاهيم الديموقراطية، يدفع إلى القول بأن شعار الديموقراطية السائد هو شعار عائم وغائم، وبالتالي غير متَّفق عليه. وغياب الحسم في شتى جوانبه يؤدي إلى الالتباس في تحديد مفهوم ثابت لتعريف الخيانة الوطنية.
والسلام عليكم

موضوع البحث: إشكاليات والتباسات في التجربة العربية العراقية
تحتل التجربة العراقية جزءًا مهماً في التجربة العربية في هذه المرحلة لأنها تمثل جانباً رئيساً في الصراع المباشر بين المشروعين النهضوي العربي ومشروع قوى التحالف الإمبريالي الصهيوني.وهي الآن تمثل أكبر القضايا القومية العربية الموضوعة أمام الفكر العربي. لقد أشارت بعض الدلائل، قبل العدوان على العراق وبعد احتلاله، أن بعض المفكرين العرب وبعض المثقفين استقالوا من مهمتهم وأوكلوها إلى السياسيين، أو أنهم تقمَّصوا دور السياسيين، لذلك لم ينجحوا في دورهم كمفكرين من جانب وعجزوا عن أن يلعبوا دور السياسي وحذقه من جانب آخر.
من أهم التحديات التي تواجه العرب، منذ أوائل القرن العشرين وصولاً إلى هذه المرحلة، هي أن يؤسسوا الفكر الذي يصوِّب الاتجاهات السياسية، على أن تكون تلك الأسس مستندة إلى قضاياهم الرئيسة بما يتلاءم بين صفاتها الإنسانية العامة، وخصوصياتها الوطنية والقومية. ونرى أنه لا يمكن أن يقوم بعبء المعالجة إلاَّ المفكرون العرب.
آن للعرب أن يضعوا قضاياهم فوق منخل الفكر وأن يأخذوا من مهمات السياسة حتى ولو القسط الضئيل. وعلى المفكرين العرب أن يأخذوا دورهم المنتج، وليس المستهلك، الفاعل وليس المنفعل، لأن السياسة إذا لم تستند إلى الفكر تسلك طريق التيه فتتخبط فتنحرف بالقرار إلى مهالك التسطيح وردود الأفعال، فتنعكس سلباً على أصحاب القرار السياسي. والأهم من هذا كله تنعكس سلباً على تكوين الوعي المعرفي لجماهير الشعب.
لقد وقعت شريحة واسعة من المفكرين العرب، وأخرى من المثقفين الليبراليين، فريسة سائغة بين عاملين راحا يركبّان صورة الوضع العربي الراهن بما يتلاءم مع مصالحهما، وهذان العاملان هما: السياسي العربي، بما فيه النظام السياسي العربي، من جهة، وقوى التحالف الاستعماري الصهيوني من جهة أخرى.
أما العامل الأول، فراح يتلطّى أعضاؤه تحت ذرائع الحكمة والواقعية في النظر إلى الاختلال الحاصل في موازين القوى المادية، وخاصة العسكرية منها، لكي يبرِّر دعوته في إقناع الحركات والقوى التحررية إلى الاستجابة لشروط قوى المشروع المعادي.
أما العامل الثاني فقد مثَّلته قوى التحالف الأميركي البريطاني الصهيوني وراحت تروِّج، إعلامياً وفكرياً، ذرائعها لكي تبرِّر عدوانها على العراق، فأعمت بعض البصائر العربية عن رؤية حقيقة ما يقف وراء دخان تلك الذرائع التي لم تصدقها حتى شعوب دول العدوان ومعظم تياراتهم الفكرية والسياسية. أما نحن فصدقنا كل تلك الذرائع وانطلت الخديعة حتى على بعض التيارات الفكرية والسياسية والثقافية العربية.
فإذا كان من غير المفيد أن نخاطب الأنظمة العربية، التي وقعت أكثريتها الساحقة في فخ الخداع الأمبريالي الصهيوني، أو تلك التي ارتبطت مصالحها الطبقية مع قوى التحالف المذكور، نرى أنه من الأساسي في مهمتنا أن نخاطب المفكرين والمثقفين العرب لأنهم هم وليس غيرهم يتحملون مسؤولية القراءة الموضوعية والهادفة للإشكاليات العديدة التي وضعتها القضية العراقية أمام العقل العربي.
كان من الأهمية بمكان، في نظر قوى العدوان، أن يقف العرب على الحياد في صراعهم مع العراق، لكن البعض الأكبر منهم قدَّم خدمة لها أكثر بكثير مما كانت تطلب، وتمظهرت تلك الخدمة عندما ساوت تلك الأوساط بين إدانة المعتدي والمعتدى عليه. ووصل الأمر بالبعض الآخر إلى تحميل المعتدى عليه، الذي هو العراق، كل مسؤولية ما حصل.
خرج البعض الأكبر من النخب والأنظمة العربية بدون الحصول على نتيجة عندما أسقطت قوى العدوان تجربة العراق النهضوية التي هي من أهم تجارب العرب المعاصرة، ففرح ذلك البعض بإسقاط النظام السياسي في العراق، فهللوا وهتفوا بحياة الديموقراطية المنتصرة، ولكنهم لم يكترثوا لسقوط المنطقة العربية بأكملها تحت سيطرة قوى العدوان العسكرية والأمنية، وسيطرتها السياسية التي تفوق خطورة أكثر معالم اللاديموقراطية التي ينتهجها النظام السياسي العربي. ولذلك دفع العرب ثمناً باهظاً من أجل الهتاف للديموقراطية الغائبة، فلم يحصلوا على الديموقراطية وهم أيضاً لم يمنعوا العدوان من تحقيق أهدافه.
تحت خديعة الحق في الديموقراطية، أسدت ما تسمى بالمعارضة العراقية خدمة كبرى في صياغة تلك الذرائع عندما حملت قميص الديموقراطية وراحت تولول منتحبة ناعية، ووقفت على أبواب قوى العدوان طالبة العون، أو فلنقل إن قوى العدوان التقطت تلك الفرصة الثمينة لتحتضن قوى المعارضة التي هي الوحيدة التي مثَّلت حصان طروادة للتخطيط للعدوان على الأمة العربية انطلاقاً من البوابة العراقية.
التقطت قوى العدوان ذرائع ما تُسمَّى بالمعارضة العراقية، وراحت تضخمها، وهي بعملها ذاك كانت تلامس بعض عواطف المزاج الشعبي العربي من جهة، وتستثير حمية المزاج الشعبي الغربي من جهة أخرى.
ماذا دفع العرب عندما صدَّقوا تضخيم أجهزة قوى العدوان الإعلامية الغربية ادعاءات المعارضة العراقية؟ وماذا دفعوا عندما أعمت بصائرهم دخان الذرائع الغربية؟
لقد دفع العرب بتصديقهم لكل تلك الادعاءات ثمناً باهظاً إذ راحوا يؤمنون التغطية والتعمية على أهداف العدوان. وكانت المسألة الديموقراطية سراباً انساقت وراء التفتيش عنه نخب من المثقفين العرب. فساووا بين العمل من أجل الديموقراطية التي زعموا أنها نُحِرت في العراق، والعمل من أجل مواجهة العدوان.
كان دور بعض المفكرين العرب، في معالجة قضايا أمتهم العربية، دور المنفعل بالرؤية السياسية، فتحولوا إلى سياسيين، ولم يرتقوا بالسياسة إلى مستوى الفكر.
ما هي أهم مظاهر العقل العربي الراهن التي أسَّست لحالة من التضليل على الحقائق الفكرية، وأنتجت خطاباً سياسياً قاصراً عن رؤيتها بواقعية ومسؤولية؟
من أهم صفات العقل العربي، في المرحلة الراهنة، أنه تحوَّل إلى عقل سياسي إيديولوجي إخباري خطابي. وللأسف الشديد لم يتكوَّن، حتى الآن، العقل العربي المستند إلى رؤية عميقة، والرؤية العميقة تستند إلى تاريخية الظاهرة وخصوصياتها وإنسانيتها ومقاساتها الرؤيوية الإنسانية العامة، وهو ما نطلق عليها التحول باتجاه العقل الفلسفي.
لقد تساوى، في عصر تحول الكرة الأرضية إلى قرية صغيرة، كل العرب المتابعون لوسائل الإعلام في ملاحقة الخبر في اللحظة التي تحصل فيه الحادثة. وفي مثل هذا التساوي تتولَّد الصعوبات الأكثر أمام العقل العربي، لأنه في ظل هذا التساوي تتعادل العقول في المقدرة على اكتساب الخبر، ولكنها لا تتساوى في المقدرة على الاستنتاج والرؤية السليمة. وقد تتساوى شتى مستويات المثقفين، فتتحوَّل اللعبة المعرفية إلى ميدان التنافس بديلاً للتكامل.
في ظل تلك المعادلة يتكون العقل الإيديولوجي، فتنتصب متاريس الحوار والجدل والدفاع المتعصب الهادف إلى إثبات هذه المقولة السياسية أو تلك. فيشطح العقل العربي تجاه التعصب، فتتكاثر نقاط الافتراق وتتنامى وتصبح هي البديل عن الرؤية الفكرية العميقة. فيتكاثر الخلاف حول تحديد دروب خلاص الأمة بتعدد العقول الإيديولوجية والسياسية والإخبارية والخطابية…
إن من أهم مثالب تلك العقول أنها تتسابق على اكتساب الخبر ومتابعة آخر الخطابات لتبرير وجهة نظر وتدعيمها على حساب الحقيقة. والسبب أنها لا تتساوى في مستوى نقد الخبر وتمحيصه ومعرفة صدقه أو كذبه.
لأن العقل العربي الراهن يرتضي أن يتجمد عند هذا المستوى فهو يتحول إلى عقل مرتبط بالخبر والواقعة من دون أن يربطهما بتاريخيتهما وتطورهما الفكري. وبالتالي ربطه بأغراضه وأهدافه.
يصبح الخبر مقياساً لا بُدَّ منه لوضع الاستنتاجات ولكن قد يكون الخبر مضلِّلاً لأنه صِيغ لإحداث تأثيرات تخدم مصلحة منتجه. فيأتي تصديق الخبر على الرغم من ضعفه لتحقيق الغرض الإيديولوجي. وبمثل هذا المنهج تحوَّلت، حتى تلك الوقائع الجديدة التي تفرضها القوى المعادية للأمة، إلى مصدر أساسي نبني عليه الاستنتاجات فنستند إليها في وضع الأهداف السياسية. وهذا يفسر السبب الذي يلهث فيه العرب وراء كل مشروع جديد يأتيهم من الخارج خوفاً من أن يتم تغييره بأسوأ منه. وهل القضية الفلسطينية والمشاريع التي وُضعت كحلول لها –منذ أكثر من خمسين عاماً- إلاَّ دليل أكيد على صحة ما نقول؟
أما شريحة واسعة من المثقفين العرب فقد ضاق صدرهم، وهو يتَّسع ضيقاً باستمرار، من المنهج الفكري لأنه يتحول –كما يحسبون- إلى مستوى من التجريد النظري الذي يجرِّد التحليل من حيويته الخبرية والسياسية والإيديولوجية والخطابية، وهذا ما لا يروق لهم. ليس هذا المظهر مما نستهجن منه، والسبب هو أن النمط العقلي العربي، اليوم، حتى عند المنتسبين إلى أحزاب وحركات سياسية، يمتلك ردَّة الفعل تلك وأصبح أسيراً لصفاته الخبرية والخطابية.
إذا كان الخبر والخطاب من أهم المصادر التي يستند إليها المفكر في التحليل والتعمق فوظيفته عند المفكر يجب أن تختلف عن وظيفته عند المثقف.
قد لا يكون المثقف قادراً على التمييز بين صدق الخبر أو كذبه، وهو قد لا يمتلك الرؤية والمقدرة على القيام بمثل تلك المهمة، وإذا كان من غير الممكن مساءلة المثقف عن تقصيره، فإن من الواجب محاسبة المفكر على أدنى تقصير في هذا المجال.
أما كيف نرى نحن معالجة القضية العراقية في ظل الواقع الذي يتمظهر فيه واقع المفكرين العرب ومثقفيهم؟
إن معالجة القضية العراقية، بتاريخيتها وراهنيتها، هي من أهم التحديات التي تواجه العقل العربي بكل مواقعه التي يحتلها المفكرون والمثقفون من غير الملتزمين بتيارات وأحزاب منظمة، والملتزمون بالتيارات السياسية والحزبية أيضاً.
احتلَّت القضية العراقية تلك المساحة الواسعة من الاهتمام العربي والعالمي، ولكن بما استثارته وأظهرته من إشكاليات والتباسات كان لا بُدَّ من وضعها أمام هذا المؤتمر الذي يشارك فيه عدد من المفكرين والمثقفين. ونحن إذ نضعها أمامكم فإنما لكي تأخذ حيزاً من الاهتمام في هذا اللقاء، على أمل أن لا تكون المحطة اليتيمة التي تهتم بقضية من هذا الحجم، بل إن اتساع المسائل التي تثيرها تصل إلى حجم مرحلة تاريخية يتحدد فيها مصير الأمة العربية لعشرات السنين إذا لم تمتد إلى قرون.
من أهم الإشكاليات / الالتباسات التي أثارتها القضية العراقية، وهي ليست بالطبع نهائية فقد يُمسك آخرون من المهتمين بأكثر منها:
من أهم التحديات التي تواجه الفكر العربي السياسي، والتي تقع مهمة وضع أسسها وتوضيحها، هي الموازين التي نكيل بها الحقوق بشكل عام والحقوق العربية بشكل خاص. فإذا كان مثال القضية الفلسطينية هي الأكثر وضوحاً، إلاَّ أنها تدل بشكل قاطع على الضرورة في توضيح ملابسات الإشكالية السياسية التي تثيرها، وبالتالي توضيح ملابساتها الفكرية الإنسانية العامة.
تلك الإشكالية تتمظهر في منطقين ومعادلتين، وهما:إمكانية تجزئة الحق، أي بتغليب المرحلي على الثابت، ورفض تلك الإمكانية. وهذا يقود إلى وضع معادلتين سياسيتين، وهما:
-بما أن الحق خاضع لمنطق الأقوى على الأضعف أن يأخذ من حقه ما يجود به القوي، ويتهم أصحاب تلك المعادلة الآخرين، إذا ما ناضلوا لاستعادة الحق كاملاً، بالرومانسية تارة، وبالسوريالية تارة أخرى.
-أما المعادلة الأخرى، فتربط منطق الحق مع السيادة والحق في تقرير المصير الوطني، وبالتالي له ارتباط بما صحَّت تسميته، في التاريخ الحديث والمعاصر، بالكرامة الوطنية والقومية.
ولأن الكرامة الوطنية، وهي ذات قيمة إنسانية ثبتتها مرحلة القوميات والوطنيات، ليست كذلك عند تيار عربي مثقف، ترافقت بعدد من الالتباسات والملابسات، وأصبحت مصدراً للجدل السطحي عند هذا التيار المثقف أو ذاك.
بين تلكما المعادلتين توزَّع المثقفون العرب إلى واقعيين وحكماء، وإلى محافظين على منطق أن الحق ليس خاضعاً لموازين القوى المادية.
من موقع الخلاف حول الإشكالية التي تولَّدت عن القضية الفلسطينية، والتي لم يستطع المفكرون العرب ومثقفوهم أن يحسموا الجدل من حولها، انعكست سلبيات فقدان الحسم على النظر إلى القضية العراقية.
لقد غابت عن أذهان تيار لا يستهان به من المفكرين العرب، ومن المثقفين، ومن التيارات السياسية والحزبية، معانى القيمة الإنسانية التي تكتسبها مسألة السيادة الوطنية أو القومية، وبالتالي معاني الكرامة الوطنية والقومية. ومن تلك الالتباسات غير المحسومة في الفكر العربي السياسي اندفعوا إلى إلصاق التهم بالذين يقاتلون من أجل تلك الكرامة بالرومانسية والسوريالية.
ولو كانت تلك المعادلة قد تعرضَّت للحسم الفكري منذ ظهور القضية الفلسطينية لما كانت قد انعكست سلباً على النظر في القضية العراقية.
إن أول خطأ نود الإشارة إليه، أي الخطأ الذي وقع فيه بعض المثقفين والمفكرين العرب، هو أنهم اتَّخذوا مواقف مندِّدة بالنظام السياسي في العراق. وقاموا بتحديد مواقفهم استناداً إلى شهادات المعارضة العراقية. ولما كان من بديهيات الأمور أمام العقل الموضوعي أن يستند إلى شهادات موثوقة، سقطت مصداقية تلك الشهادات عندما تأكدت لا وطنية أطرافها. وتمظهرت تلك اللاوطنية بأنها استقوت بالقوى المعتدية على الأمة العربية وعلى العراق أولاً، وبأنها عادت إلى وطنها العراق على دبابة الاحتلال الأجنبي ثانياً، وأنها الآن تأتمر بأوامر قوى الاحتلال ثالثاً.
وهكذا يترتَّب على النظر إلى القضايا الوطنية والقومية بمنظار الغرض السياسي، وليس بالمنظار الفكري المجرد والموضوعي، سلبيات وسلبيات لا يمكن تعدادها، الكثير من القصور والأخطاء في النظر إلى كل قضية وطنية قطرية عربية. وهذا ما حصل بالفعل من أخطاء في النظر السياسي إلى القضية العراقية، ومنها تمظهرت عدة من الإشكاليات والالتباسات. ومن أهمها:
-الإشكالية الأولى:
أين موقع القضية العراقية من الدائرة القومية؟ هل يقف المثقف والمفكر العربي منها وكأنها قضية قطرية؟ هل على المفكر أو المثقف أو الملتزم بحزب سياسي عربي، أن يقف على الحياد من تلك المسألة، لأنها قضية قطرية عراقية أولاً، أو لأنها تجربة خاصة لتيار حزبي استفرد بقيادة تلك التجربة؟ وأين موقعها من الاهتمام الفكري والسياسي، الملتزم أو غيره؟ هل هي مجرد قضية إيديولوجية بعثية؟ وهل غير البعثيين هم من غير الملزمين أن يتحملوا وزر نتائجها؟ وهل تتم محاكمة التجربة بردة فعل إيديولوجية؟ وهل التجربة البعثية على صعيد الفكر والسياسة، في الدائرة الديموقراطية، إلاَّ إحدى التجارب التي تخوضها شريحة واسعة من العرب؟
-الإشكالية الثانية:
لقد تولَّدت من الحروب التي خاضها العراق عدة من الإلتباسات، وهي مثار جدل ونقاش، وكثير من الاتهام. ولكنها –حتى الآن- لم تخضع للمعالجة بعيداً عن الخبرية والخطابية والإيديولوجية والغرضية السياسية، ومن أهم تلك الالتباسات أمسكنا بالتالية منها:
- الالتباس الأول: تحديد الأولويات في الانتماء عند العراقي. هل ولاء العراقي الوطني له الأولوية أم ولاؤه الديني والمذهبي؟( ).
] لقد قمنا بتحديد هذه الإشكالية مما أفرزته الحرب العراقية الإيرانية التي امتدَّت ثماني سنوات (1980م – 1988م). ومن تلك الحرب خرج عشرات الآلاف من العراقيين الشيعة من وطنهم والتجأوا إلى إيران وشكَّلوا هناك ما يُسمَّى بالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية. وأنشأ المجلس فيلقاً عسكرياً من المعارضين الشيعة العراقيين. وكانت من أولويات مهمته أن يستعين بإيران لتحرير العراق من النظام السياسي الذي يقوده حزب البعث العربي الاشتراكي.
استكمل المجلس الأعلى المذكور خطواته بالتنسيق مع محور قوى العدوان الإمبريالي – الصهيوني –قبل العدوان على العراق وبعده (20 آذار / مارس من العام 2003م). [.
في ظل التحول الحديث من الدولة الأممية الدينية إلى الدولة القومية أصبح من مهمات الحركة الفكرية أن تضع تعريفات جديدة للتمييز بين الخيانة الوطنية والقومية وخيانة الدين أو المذهب.

- الالتباس الثاني: تحديد الأولويات الوطنية والقومية النضالية. يفرض هذا الالتباس نفسه إذا تعددت المهمات والتحديات: الصراع مع القوى الخارجية، وضرورات التغيير الداخلي على شتى مستوياته. وفي هذا الإطار أُثيرت الأولويات في الترابط بين المسألتين الوطنية والديموقراطية( ).
] مثَّل هذا التيار مجموعة من المثقفين العرب. وقد صدر عن بعض تجمعاتهم في لبنان والبحرين… بيانات سياسية، وقَّعوها قبل العدوان على العراق، بأشهر قليلة.
وهناك مثال آخر، وهو التحالف الكردي، الذي شكَّله الأكراد العراقيون في شمال العراق، والذي –تحت ذريعة غياب وحقوق الأكراد- قام بالتحالف مع محور قوى العدوان الأمبريالي – الصهيوني. والسكوت عنه يسمح بتثبيت معادلات جديدة في المفاهيم الوطنية والقومية. [.
وحول مسألة الوطنية نرى أنه ثابت لا يمكن التفريط به، والسبب هو أن ضياع الوطن –بشتى جوانبه- ضياع لكل شيء. أما الديموقراطية فهي من الوسائل التي تجعل الوطن أكثر جمالاً وتقدماً، وهي لا تعني شيئاً بضياعه.
لا تعني تلك المفاضلة في الأولوية انحيازاً ضد الديموقراطية، وإنما هي دعوة للمحافظة على وطن لن نستطيع أن نمارس الديموقراطية بدون وجوده.
- الالتباس الثالث: شرعية اتكاء المعارضة المحلية على الخارج، وخاصة القوى المعادية، في سبيل فرض متغيرات داخلية. وهذا يفرض تحديد مضامين مسألة الخيانة الوطنية والقومية( ).
] هنا، نشير إلى شتى أطياف من أطلقوا على أنفسهم المعارضة العراقية في خارج العراق، ومن ضمنهم التيارات العلمانية والمذهبية وأصحاب المصالح الخاصة. ويمكن متابعة ملفاتهم في شتى وسائل الإعلام. وقد قامت كل تلك التيارات بعقد مؤتمرات وندوات وأصدرت بيانات، على أراضي دول العدوان، وبتمويل منها، وإشراف عليها، وعلى قراراتها. ومن أهم تلك القوى، هي التالية: الحزب الديموقراطي الكردستاني – الحزب الوطني الكردستاني – المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق – التيار الدستوري الملكي – المؤتمر الوطني العراقي (بقيادة أحمد الجلبي). [.
الإشكالية الثالثة:
إذا كان من الجائز أن ينحاز العقل الإيديولوجي إلى تجربة وينتقد تجربة أخرى، فمن غير الجائز أن يصنِّف المفكر التجارب والظواهر إلى مسكوت عنها وأخرى خاضعة للنقد والتجريح. فمن واجبات حقل العقل المعرفي الفلسفي أن يُخضع كل التجارب والمشاريع إلى غربال النقد الموضوعي.
الإشكالية الرابعة:
إن دور المفكر العربي ووظيفته هما من المسائل التي أثارتها ظاهرة انقسام المثقفين العرب ومفكريهم إلى تيارين أو أكثر، ومن أبرزها:
التيار الأول ويمثِّله الليبراليون الذين يتميزون بدعوتهم العرب إلى الواقعية تحت عناوين التعقل والحكمة في خوض الصراعات مع قوى العدوان القادمة من الخارج. وهم يتَّهمون التيار الآخر بالرومانسية أحياناً وبالسوريالية أحياناً أخرى.
أما التيار الثاني: فهو الذي يعمل من أجل المحافظة على قيمة إنسانية عليا، وهي قيمة السيادة الوطنية.
يأتي حسم الخيارات حول مسارات الصراع مع قوى العدوان القادم من الخارج من أهم الإشكاليات التي على حركة الفكر العربي أن تجيب عليها.
من نتائج البحث
إننا نقترح على المفكرين العرب أولاً، وعلى المثقفين العرب ثانياً، أن يعملوا لوضع تحديدات تتميَّز بأكثر ما يمكن من الوضوح للمسائل / الإشكاليات التالية:
أولاً: إن بوابة الدخول إلى حسم الالتباس بين الولاء للوطن أو الولاء للدين أو المذهب، تمر من خلال بحث العلاقة بين الدولة الدينية والدولة القومية العلمانية. والإجابة حول التساؤلات التالية:
هل انتقال البشرية إلى عصر الدول القومية كبديل للدول الدينية كان انتقالاً طبيعياً في الوطن العربي؟
وهل يتناسب هذا الانتقال مع متغيرات العصر على المستوى العالمي؟
وهل واكب التغيير الفكري والثقافي، على مستوى النُخب الفكرية ومستوى الجماهير الشعبية، ذلك التغيير؟
نحن نرى أن التغيير قد طال البُنى السياسية، لكنه لم يلامس –حتى الآن- البُنى الفكرية والثقافية. والسبب في هذا، أن البُنى السياسية والسلطوية في واد والحركة الفكرية العربية في وادٍ آخر. فإذا ما أصبح الانتقال السياسي انتقالاً قسرياً، أي انتقال من ثقافة الدولة الدينية إلى ثقافة الدولة القومية العلمانية، سوف يتعثَّر هذا الانتقال. وهو، في الوقت ذاته، ليس دليل عافية وصحة، فممتلك ثقافة الدولة الدينية لن تتقبَّل ثقافة الدولة القومية العلمانية بسهولة، هذا إذا لم يرفضها ويقاومها، لأنه لن يرى حلاً إلاَّ بالعودة إلى الوراء على الرغم من استحالته.
ثانياً: طبيعة العلاقة بين مهمات المفكرين والمثقفين المتعددة للأهداف الفكرية والسياسية، وخاصة منها ترتيب الأولويات في النضال في الحالة التي تواجههم فيه عدة أهداف في آن واحد. كمثل ثنائية النضال الوطني والطبقي، وثنائية النضال الوطني والديموقراطي.
ففي قضية فلسطين، تاريخياً، لعبت هذه الثنائية دوراً رئيساً بين دعاة الدفاع عن السيادة الوطنية الفلسطينية، ودعاة الدفاع عن أهمية بناء دولة يهودية على جزء من الأرض العربية، لأن بناة تلك الدولة يتميَّزون بالوعيين الطبقي والديموقراطي.
أما في العراق فقد كان شعار النضال من أجل الديموقراطية، الذي رفعه العدوانيون، جذَّاباً لشريحة واسعة من المثقفين العرب.فهم تعاطفوا مع رافعيه من العراقيين على الرغم من ثبوت غياب المصداقية في ادعاءاتهم.
ولأن شرائح من المفكرين والمثقفين العرب قد انفعلوا بشهادات غير الموثوق بهم.
ولأن وسائل الخداع الأميركية قد ضللتهم بإعلانها إعادة الديموقراطية للعراق تغطية لأهدافها الحقيقية.
ولأن المفكرين والمثقفين العرب امتنعوا عن استقصاء شهادة رعاة التجربة العراقية، وهم بذلك منعوا الحق الديموقراطي عن طرف أساسي في القضية.
ولأنه أصبح من الثابت أن أهداف احتلال العراق، عند المعارضين العراقيين وقوى العدوان معاً، كانت لكل الأسباب باستثناء إعادة الديموقراطية إلى العراق.
ولأن العراق كان يمثِّل طليعة لبناء مشروع نهضوي عربي في شتى المجالات.
نرى ما يلي:
إن البحث في مسألة الديموقراطية هو هم عربي عام، وليس هماً عراقياً خاصاً. ومن هذه الزاوية تفرض المسألة الديموقراطية نفسها على المفكرين العرب ليبذلوا جهداً فكرياً من أهم وظائفه وضع تحديدات واضحة حول المسألة الديموقراطية. وهنا نقترح بعض العناوين الإشكاليات:
أ-هل تسبق محاكمة تطبيق الأنظمة السياسية للديموقراطية الوعي الشعبي لها؟ وهل تسبق تلك المحاكمة مسألة الاتفاق حول مفهوم محدد للديموقراطية بين شتى التيارات الفكرية والسياسية العربية؟
ب- هل المسألة الديموقراطية وصفة جاهزة؟ وهل تتفق التيارات السياسية التحررية حول مفهوم واحد لها؟ وهل هناك اتفاق حول مفهوم التطبيق الديموقراطي داخل الأحزاب التي تتبنى مبدأ الديموقراطية؟
ج-إن إشكالية الديموقراطية –على الصعيد النظري- إشكالية أساسية.
-فهناك الديموقراطية الليبرالية الغربية، وتمثلها ديموقراطية الطبقات الاجتماعية، فمضمونها عند الطبقة الرأسمالية هي غيرها عند الطبقات الفقيرة.
-والديموقراطية عند الأحزاب التحررية ليست محور توحد وتوحيد: فهناك ديموقراطية الحزب القائد، وديموقراطية الطبقة الواحدة كمثل ديكتاتورية الطبقة العاملة…
-والديموقراطية عند التيارات السياسية الدينية تستند إلى التكليف الإلهي الشرعي.
هذا المزيج المتعدد من المفاهيم الديموقراطية، يدفع إلى القول بأن شعار الديموقراطية السائد هو شعار عائم وغائم، وبالتالي غير متَّفق عليه. فكل يستند إلى مفهومه الخاص والنسبي ليحاكم الآخرين على أساسه. كما يقود هذا الواقع في تعددية المفاهيم حول الديموقراطية، إلى تهافت حجج كل من يحاكم هذا النظام العربي أو ذاك، ويحاكم هذا التيار السياسي أو ذاك، لأنه عندما يحاكمه فإنما يفعل ذلك من زوايا خاصة تتحكَّم بها الاتجاهات التعصبية الإيديولوجية.
يتحمَّل المفكرون العرب وحدهم مسؤولية إزالة الالتباس حول هذه القواعد النسبية. كما أنه مهمة من أهم مهمات الحركات السياسية والحزبية العربية.
ثالثاً: إشكالية شرعية تصدير الثورة من الخارج بوسائل القوة( ):]تمظهرت هذه الإشكالية من خلال حدثين:
-الأول: مبدأ تصدير الثورة إلى العراق، وهو المبدأ الذي عملت على هديه إيران تحت قيادة مبدأ »ولاية الفقيه« الذي رفعه آية الله الخميني بعد انتصار الثورة الإسلامية الشيعية في إيران في شهر شباط / فبراير من العام 1979م. ونتيجة لهذا المبدأ تأسست تيارات من المعارضة الدينية والمذهبية في العراق، واستعانت بالخارج الإيراني لإسقاط النظام السياسي في العراق باللجوء إلى استخدام القوة العسكرية، ونتيجة لهذا الالتباس لم تتورَّع هذه الشريحة من المعارضة عن التحالف مع العدوان الأميركي البريطاني الصهيوني في سبيل تحقيق الأغراض نفسها التي شرَّعت لنفسها التحالف مع الظهير المذهبي أو الديني الإيراني.
-الثاني: مبدأ ما سُمِّي بتحرير العراق من ديكتاتورية النظام السياسي لحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق. وقادت الولايات المتحدة الأميركية تحالفاً كانت من نتائحه احتلال العراق في العشرين من آذار / مارس من العام 2003م. وعلى أساس هذا المبدأ تأسست تيارات من المعارضة العلمانية العراقية، وقامت بالاستعانة مع الخارج الأميركي البريطاني الصهيوني، لتصدير الثورة للعراق. وقد حققَّت تلك الشرائح من المعارضة أغراض التحالف العدواني، وهي تدَّعي العمل من أجل إصلاح سياسي في العراق بمساعدة القوى الخارجية العدوانية التي عقدت تحالفاً معها. [.
ولَّدت هذه الإشكالية الالتباس بين الوطنية والخيانة الوطنية. وبناء على تحديد موقف فكري منها تتحدد عدة من الأحكام على عدة من شرائح المعارضة العراقية. ومن خلالها يتأسس مبدأ إنساني عام من تلك الإشكالية.
رابعاً: تأتي إزالة إشكالية العلاقة وتحديدها بدقة، بين شعاريْ الدولة الدينية والقومية من جانب، وإزالة الالتباس الحاصل في المفاهيم الأساسية للمسألة الديموقراطية من جانب آخر، على رأس مهمات المفكرين العرب.
إن نتائج تلك التحديدات لا بُدَّ من أن تقود إلى اتخاذ مواقف سياسية واضحة من دون لبس أو غموض، وسوف تكون أكثر موضوعية وعلمية مما هو سائد الآن. وسوف تكون تلك التحديدات أكثر صلاحية للاستفادة منها في كل التجارب اللاحقة.
***
ملاحظات حول بحث »إشكاليات والتباسات في التجربة العراقية«، المقدَّم إلى المؤتمر السياسي في صور المنعقد بتاريخ 25 حزيران 2003م.

علي قبيسي: ما هي القواعد الفكرية التي علينا العمل على أساسها، ومع من؟
-تعاون البعض مع الصهاينة في لبنان، أما بالنسبة للعراق فيجب عدم تعميم العمالة على كل الطائفة بجريرة موقف فردي. كما يجب أن لا نحكم على كل المعارضين العراقيين بالمقياس ذاته، بين يجب التمييز بين التيارات.
-يجب نقد كل التجربة العربية.
النقاش مهم، لكن علينا أن نعود إلى الواقعية:
1-استيعاب ما حصل في العراق.
2-مواجهة العولمة.
3-النقد لا معنى له إذا لم نواجه.
4-على أدعياء الوطنية أن يقوموا بدور إعلامي. (أن يترافق النقد مع مواقف عملية).
د. محمد مراد: الواقع السياسي هو نتيجة لأزمة الفكر السياسي. ولا يمكن الفصل بين نقد الفكر السياسي والواقع السياسي. الفكر يواكب أسباب الأزمة. والأزمة هي نتيجة أزمات فكرية اقتصادية سياسية.
هناك التباس في الوعي العربي للقضية العراقية، وهناك ظلم لاحق بها. وهنا نتساءل: لماذا هذا التحامل السلبي على القضية العراقية؟ لماذا هي محاصرة: النظام والشعب… هل هي مخطئة؟ هل يتحمل النظام المسؤولية؟
علي محي الدين: من الضروري أن نعود إلى التاريخ للاستناد إليه في البحث عن الخلاصات والنتائج. وما حصل في العراق يفرض نفسه على الجميع. وما موقف الأنظمة إلاَّ نتيجة للتبعية للاستعمار. فما العمل؟
-هل هناك قبول لقطب واحد في العالم؟ فكيف نواجه الأمر كتيارات وقوى سياسية؟
-الاحتلال الأميركي يثبت نفسه ليؤمن مصالحه؟ ماذا نريد نحن؟ ما هو مشروعنا السياسي؟
-الاحتلال يولِّد مقاومة، فكيف ننتج نحن حركة جديدة؟ وكيف ننتج مشروعاً سياسياً، بثقافته وأدواته، ليصل إلى مستوى المقاومة؟
-كيف نواجه الاحتلال بشكل عام؟ احتلال العراق مقدمة لاحتلال المنطقة.
-كيف نتواصل مع الشارع العالمي؟
-حول الاقتصاد: كيف نتواصل مع الجماهير على أساس الابتعاد عن الصدفة وأقرب إلى التنظيم؟ ومن العناوين المطروحة: الديموقراطية، والحركة المطلبية.

د. بدر الدين: هذه الأسئلة مطروحة، والجواب عندنا سهل. أما الإعلام فيعمم كل الجوانب السلبية. أما أسباب التركيز عليها فلإنجاح المؤامرة.
فلنخرج من النقد، ولندخل إلى صلب الموضوع التي حددها البحث بإشكاليات والتباسات.

يوسف نصار: هناك مسألتان: السؤال مهم لأنه أتى بدون إملاءات. أما الثانية، فالباحث أجرى مقارنات واضحة بين تجربة لبنان وتجربة العراق.
هناك قوى تحالفت مع الغزو، وجماعات عفوية تعاملت أيضاً، ولكن بعضها تراجع مع بداية المقاومة.
الصهيونية في لبنان اختارت طريق التحريض الطائفي، وهناك بعض المسلمين الذين أسهموا في المقاومة، وبعض المسيحيين تعاملوا مع الصهيونية. بعض العراقيين صدَّقوا بنوايا حسنة الاحتلال، وبعض الذين كانوا في الخارج عادوا مع المحتل.
تتشابه لعبة الأميركيين مع لعبة الصهيونية في التحريض الطائفي والعرقي.
لماذا اتهم حداد بالعمالة، بينما لم يُوجَّه الاتهام للحكيم والجلبي؟ من يحدد ذلك هو الاحتلال والأنظمة العربية (سكتوا عن سعد حداد وهم الآن يسكتون عن الحكيم). أحزاب العراق موقف بعضها واضح ضد العدو وغير متأثرة بنظام صدام حسين. وبعض الأحزاب العربية تدمج بين التحرير والديموقراطية (الحزب الشيوعي العراقي من الضروري أن يحدد الماركسيون العرب موقفاً منه). الجماهير العفوية مواقفها غير مستقرة، تنقم ثم ترضى.
ليست هناك إشكاليات بل الإشكاليات هي الالتباس الحاصل في واقف الأحزاب والجماهير، بينما الحكم على القضية واضح عندنا.

علي غريب: أبدأ بملاحظة حول النقاش، كان يجدر القول نقد التجربة العراقية، لم أفهم الموضوع هكذا.
مشروع الوثيقة منهج تساؤلي: تحديد التناقض بين المشروعين الأميركي والعراقي.
دور المفكرين وأزمة الفكر العربي، وقصورهما عن نقد التجربة العراقية.
للتجربة العراقية خصوصيات، فالعراق أساس للأمة العربية في الدور والإشكاليات، وهي قضية قومية وليست قطرية.
مجلس الحكم يمثل كل التيارات تحت إملاء أميركي.
الربط بين المشروعين ينعكس على العالم كله، فهل نستطيع أن نواجهه بواقعنا الراهن؟
هذه هي تساؤلاتنا الأساسية، وقد تكون جزءًا من حالة عربية.
هل نواجه الاحتلال بالمقاومة؟
تكلم نيكسون في كتابه الفرصة التاريخية عن المشروع الذي يجري تنفيذه الآن.
وفي فلاسفة أميركا (نهاية التاريخ) وصراع الحضارات.
يتم تتويج المشروع بشعار محاربة الإرهاب.
بعد أن انتهى الصراع السوفياتي الأميركي تحول إلى صراع أوروبي أميركي. لذا نواجه المشروع الأميركي بدون أصدقاء بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ولا ننظر إلى العراق بغير هذا المنظار.
من الملاحظات على البحث: لقد ركَّز على المعارضة العراقية، لكن هذا أصبح من الماضي، وهذا أصبح بلا فائدة.
المعارضة العراقية يجب أن ننظر إليها نظرة نقدية جدية، فهي الآن معارضة تحت سلطة أميركية.
كان في العراق جو غير ديموقراطي، لماذا خرج عشرات آلاف العراقيين إلى إيران؟
هذا يطرح أزمة النظام العربي الرسمي الذي ربط نفسه بالوطن فأصبح النظام مثال للوطن.
الموقف من الديموقراطية: بررنا لمن ضحى بها لمصلحة الديموقراطية الاجتماعية، والأخرى بررنا غيابها تحت ذريعة الولاء للوطن.
لم نعط مساحات للحرية أمام المثقف (وهذا يأتي داخل نقاش للمشروع العربي النهضوي).
الطائفي لا يعترف بالوطن إلاَّ على قاعدة حصته السياسية لهذا اعتمد على الخارج من أجل ذلك.
الإشكاليات مسؤولية الجميع على المستوى العربي، وهي غائبة حتى داخل الأحزاب، وهذا من التحديات الموضوعة أمامها.
بالعودة إلى العراق:
1-الوجود الأميركي هو تحرير من الديكتاتورية، يقول أصحاب الموقف علينا أن نتعامل معه. وخطأ بعض المثقفين هو تأييدهم للاحتلال تحت حجة القضاء على الديكتاتورية.
2-هناك غزو استعماري يندرج في المشروع العام، وعلينا مقاومته ودعم تلك المقاومة. أما المقاومة فمنظمة أكثر مما كنا نتوقع. أما مخاطر المجلس الانتقالي فيشكل قوى أمنية سوف تتعرض لها المقاومة. والمقاومة ما زالت يتيمة، وهذه نقطة ضعفها بالإضافة إلى أنها لم تنتشر على كل الأرض العراقية. وقد يُستَغلُّ هاجس الخوف من صدام، مثل سوريا وإيران، لذلك يجب التفكير بتوحيدها.
مواجهة المشروع:
تحديد طريق موضوعي ومعرفي، يجب إعادة النظر ليستقيم العقل العربي في مواجهة المشروع، وأرى أنه بعيد.
المصالحة مع الذات: الاعتراف بوقائع التاريخ، وإننا متخلفون. والاعتراف بالرأي الآخر. وتأسيس أحزاب من طراز جديد بحيث لا تكون أحزاب سلطة، بل توجيه للسلطة.
دراسة تجربة الأحزاب في السلطة وخارجها.

هشام الدبسي: أوقعنا الكاتب بمتاهة، وهي الخلط بين نقد الفكر السياسي، ونقد الواقع السياسي. فكان عليه أن يحدد أي نقد يريد.
لنبحث إشكالية لماذا هزمنا؟ إن الهزائم تتوالى كل عقد من الزمن. والحديث عن الانتصارات وهم.
وضعنا الكاتب أمام إشكاليات، وهي:
-الدولة القومية بدون الإشارة إلى مضمونها. وهي مختلفة من تعريف إلى آخر. وهذا ما يجب أن نناقشه.
-الديموقراطية وكأنها تفصيل في المشروع النهضوي العربي، والمشروع يفترض السؤال التالي: هل هو مسلَّمة؟
-هل تصلح أدوات فكرنا لأن تستطيع الإجابة حول تلك الأسئلة؟
-الورقة تعكس مرارة أكثر من أنها استبصار للمستقبل، وهي تتناول المثقفين العرب، بينما علينا تعريف من هم العرب. فهل نحن أمة متحققة؟
-إشكالية العلاقة بين السياسة والفكر.
-تناول القضية الفلسطينية بإشارة سريعة.
-لماذا العداء بين العراق وسوريا، أي وجود حزبين للبعث؟
-لماذا تتهم محمد باقر الحكيم ولا تتهم حسن نصر الله؟
-المعارضة العراقية الموجودة في دمشق هل هم من الخونة أم من الوطنيين؟
-يواجه الكاتب المشكلة بمنهجية مرتبكة.
إذا أردت أن تبحث عن طريق لبحث الأزمة بدون العودة إلى أدوات التحليل، سوف لن تنتج ثوابت. فهل مشروع عبد الناصر نهضوي؟ هل هو قومي أم مصري؟
المشروع في العراق: كيف نتحدث عنه لنصل إلى مناقشة واقع العراق؟
قد نشاهد مشروعاً في سوريا، ونحن متمسكون بأدوات التحليل ذاتها: التشخيص والعلاج.
الأمن القومي: المشروع العراقي هل عمل على بناء الأمن القومي؟ نحن نشك في ذلك، فاقتصاد الاتحاد السوفياتي لم يحمي الاقتصاد والأمن من التفتت.
كان العراق قوياً ولكن لماذا انهار؟
لماذا لم ينهار نظام عرفات؟
تناقضات المعادلة الدولية لا تحمينا.
ما هو السبب الذي دفع بالشارع العالمي إلى التظاهر؟
أين نحن بالمعادلة السياسية؟ لماذا لم نهتم بما حصل في البلقان، ولم نتحرك إلاَّ بعد أن وصلت المشكلة إلى منطقتنا؟
-اتخاذ موقف برد الفعل على الهزيمة لن يؤدي إلى نتائج.
-القضية ليست في العراق فقط، بل هي شاملة. فلماذا هذا الاستثناء؟
-كان يجب أن تتخذ موقفاً متكاملاً من العراق.
-الأمن القومي، بالمعنى المطبَّق في العراق، هو أمن النظام، أي أمن الرئاسة والقيادة.
-ليس هناك مثقف عربي، بل هناك مثقف قطري.
-ما هي علاقة المثقف بالسلطة؟
-النقد كعملية منسجمة غير موجودة. النقد يجب أن يكون مبدأي، وأن تفكر بحلول جديدة.
وهنا نتساءل: ما العمل؟
حركة التحرر موجودة، والسؤال: هل تستطيع دعوتها للقيام بمناقشة صريحة لوضع خطة عملية؟
بعض عناوين الرد:
-كل العناوين التي طرحها المداخلون ضرورية.
-لم يأخذ البعض بالاعتبار أن البحث محدود. لذلك طلبوا المزيد مما يريدون أن يناقشوه لا شك بأن هناك إشكاليات أخرى على شتى الصُعُد. ولا مانع من مناقشتها، لكن بأبحاث أخرى. وهنا أريد أن ألفت النظر إلى أن للباحث أدواته المنهجية، وطريقته في معالجة إشكالية ما، وهو غير ملزم بأن يفرض الآخر منهجه عليه إلاَّ إذا تبيَّن أن منهج الباحث الخاص عقيم. ولإثبات عقمه على الناقد أن يبيِّن مواقع العقم في منهج الباحث وأن يقدَّم البديل.
ومن جانب آخر، إن الباحث يتناول إشكالية ما، ويقدمها بالمظهر والجوهر، مستنداً إلى مفاهيمه الخاصة –بمكاييلها ومعاييرها- أما إذا أراد أن يطبق مفاهيم الآخرين ومكاييلهم ومعاييرهم –وهو قد لا يكون مقتنعاً بها- فكأنه يقدِّم قناعات الآخرين وليس قناعاته. فمن واجب الناقد أن يتناول معايير الباحث ومكاييله بالنقد ويثبت أنها غير صالحة في الوصول إلى نتائج. وهنا، وإذا اختلفت تلك المنهجية بالبحث مع المعايير والمكاييل بين الناقد والمنقود عليهما أن يناقشاها ليتوصلا إلى جوامع مشتركة تساعدهما على الوصل إلى نتائج يتفقان عليها، وليس النقد أن تفرض منهجية محددة على البحث أو أن تفرض معايير ومكاييل غير مقتنع بها، وأن لا تثقل النقد بتجاوز الإشكاليات التي طرحها الباحث وإشغاله بإشكاليات أخرى، قد تصلح لأن تكون موضوعات لحوارات أخرى.
وحول هذه النقطة أسبغ السيد هشام كماً كبيراً من الإشكاليات والأسئلة التي لا علاقة لها بإشكاليات البحث المحدود التي أثارها الباحث:
-كمثل التشكيك بأن يكون المشروع العراقي مشروعاً نهضوياً عربياً.
-أو أن الباحث أشار إلى المسألة القومية العربية التي لم تحظ حتى الآن بإجماع والنقاش الدائر من حولها هل القضية القومية العربية متحققة التكوين أم لا.
-أو أنه من الواجب علينا أن نهتم بمسألة البلقان لأنها كانت مدخلاً للدخول إلى أفغانستان والعراق.
-أو أن القضية الفلسطينية لم تأخذ من اهتمام الباحث إلاَّ إشارة عابرة. مع العلم أننا نؤمن -وهذا مثبت في قناعاتنا التاريخية السياسية والنضالية- بأن التفريط بالمسألة الفلسطينية قاد إلى التفريط بكل المسألة العربية.
وكأن بالسيد هشام، ولأنه يمتلك رؤية خاصة حول المعارضة العراقية والديموقراطية –على أسس إيديولوجية مسبقة- يريد وضع كل المسائل دفعة واحدة ببحث واحد وبجلسة واحدة. إن الكاتب يتطرق إلى موضوع واحد على قاعدة أن المواضيع الأخرى المرتبطة به لا تكون –عادة موطن خلاف بين مجموعة من المتحاورين- وإذا كان الأمر هو العكس من ذلك، فيمكن لعناوين طاولات الحوار أن تتغير. فإذا ما وجد السيد هشام أن هناك ضرورة –ويبدو أن هناك أكثر من ضرورة- وقبل الدخول في مناقشة بحث محدود أن يتم تحديد الكثير من المفاهيم قبل الدخول إلى موضوع البحث.
-حول آليات التحليل والمنهج، لم يحدد الطالب ما هي آليات التحليل التي اعتمدها الكاتب، وما هي آليات التحليل البديلة. بقي نقده عاماً جداً. فآليات التحليل كثيرة ومتشعبة. ولكل باحث آلياته. أما بالنسبة للألم الواضح في البحث، فهو شيء طبيعي أن يظهره الباحث في معالجته إشكاليات والتباسات تدخل في صميم العمل النضالي، والعمل النضالي الذي يدفع فيه الكاتب ثمناً، وهذا الثمن لا بُدَّ من أن يولد الألم عند المتألم من أن لا يشعر به المثقفون الليبراليون الذين لم ينخرطوا في أية عملية نضالية.
-حول المعارضة، وتعريفها: يرد الأستاذ هشام، حول نقد الكاتب للمعارضة العراقية بسيل من الأسئلة، يتمظهر منها وكأنها دفاع في المطلق عن المعارضة العراقية مستنداً إلى عناوين عامة سمعها من المعارضين العراقيين، وبخكم موقفه الإيديولوجي من النظام السياسي السابق في العراق، وكأنه لا يعمل على التفتيش عن وضوح في الموقف من المعارضة بأكثر من أنه يريد أن يدافع عن إيديولوجية مسبقة عن كل الذين عارضوا النظام ومن أي موقع كان.
أما حول المعارضين العراقيين الذين آوتهم سوريا، فهم جزء من المعارضة، أمنت إيواءهم لأغراض الخلافات السياسية والأمنية السابقة مع العراق. لكن البعض منهم استغل الإيواء والحماية لفتح علاقات مع المخابرات الأميركية والبريطانية، وهذا ما هو خارج عن حدود الحماية السورية. فالحكم على معارض لاجئ إلى أي بلد عربي مرتبط بحدود وقيود سقفها الأدنى أن لا يرتبطوا مع أية قوة معادية للأمة العربية.
-لقد كيلت الاتهامات الطائلة لصدام حسين بينما كان موجوداً في السلطة، تحت عناوين القتل والاعدام وملاحقة المعارضين في الداخل والخارج. فكان علينا، وللموضوعية، أن نستند إلى معلومات موثوقة ومحددة وليس بعناوين. بل كان يجب علينا أن نحدد اتجاهات ووقائع الأذى اللاحق بالمعارضين العراقيين.
وهل يمكن اعتبار من أعدم على قاعدة التعاون مع أعداء الوطن والأمة، أو من نُفي بتهمة تعامله مع تلك الجهات ذات علاقة بالديكتاتورية؟
-حول الاتفاق حول مفاهيم للمصطلحات، مثل تعريف للمثقف العربي، أو تعريف للخيانة، أو آليات البحث، فيجب أن نميز بين مضامين مناهج البحث الأكاديمي وبين مضامين المصطلحات التي طرحها السيد هشام، وهنا نتساءل: هل نحن بحاجة إلى بحث إشكالية العرب أمة متحققة أم غير متحققة؟ وهذا ما يعود بنا إلى نقطة الصفر. أنا كنت أفترض عندما أعددت البحث للمؤتمر المذكور أن تلك الإشكالية محسومة، من حيث إن الشريحة الكبرى من الماركسيين العرب –الذين كانوا طرفاً في إنكار وجود قومية عربية- قد أصبحوا أشد قرباً من الموافقة على أن الأمة العربية هي أمة متحققة في التاريخ.
فمن العبث –في ظل الاختلاف حول إشكالية تحقق الأمة العربية أو لا تحققها- أن نتابع النقاش حول المسألة العراقية من منظار قومي، بل كان من الممكن أن نبدأ في النقاش من إشكالية تحقق الأمة أو في عدمه قبل أن ندخل إلى معالجة بعض الإشكاليات ذات العلاقة بالعراق.
إننا نتفق في السياق العام مع معظم الذين قدموا مداخلاتهم، حتى ولو كانت خارج اهتمام البحث، والمحدودة على صعيد الخصوصية، وهو التجربة العراقية، بما له علاقة بالديموقراطية وتعدد مفاهيمها، تلك التعددية التي قادت إلى التباسات في تعريف مفهوم للمعارضة الوطنية العراقية. وتلك الالتباسات قادت إلى ضياع المسافة في رؤية المثقفين السياسية بين الوطنية والخيانة الوطنية.
المسائل المتفق حولها، هي التالية:
-عدم تعميم مفهوم العمالة على كل أطياف التيارات العراقية التي كانت تقف في صف المعارضة سابقاً.
-رفض القبول بأحادية القطب العالمي الوحيد.
-الاتفاق حول تبعية النسبة الكبرى من الموقف العربي الرسمي للنظام الاستعماري الجديد.
-يعمم الإعلام، بجزئه الكبير، الجوانب السلبية في التجربة العراقية، وأسباب التركيز عليها تعود إلى إنجاح المؤامرة على العراق من خلال التشويه الإعلامي.
-احتلال العراق هو مقدمة لاحتلال المنطقة. وصراع المشروعين العراقي العربي والأميركي يتطلب مواجهة متطورة تتجاوز واقع الحركة العربية الثورية الراهن. ومن أهم مفاصله :
1-الاتفاق حول العمل من أجل مواجهة موحدة للمشروع الأمبريالي العالمي الجديد عبر التواصل مع الجماهير الشعبية على أساس الابتعاد عن الصدفة وبأقرب ما يمكن من تنظيم العلاقة بشكل تؤدي الغرض منها.
2-الاتفاق حول ضرورة إنتاج حركة ثورية عربية جديدة تتفق حول مشروع سياسي مقاوم، بثقافته ونضالاته، لمواجهة المرحلة الجديدة. ومن أهمها دعوة تيارات حركة التحرر العربية إلى القيام بمناقشة نقدية صريحة موضوعية من أجل وضع خطة عملية يكون من أولى مهماتها ما يلي:
أ-تحديد طريق موضوعي ومعرفي وإعادة النظر بآليات العقل العربي السابقة.
ب-الاعتراف بالرأي الآخر، وتأسيس أحزاب من طراز جديد، بحيث لا تكون أحزاباً للسلطة، بل أحزاب لتوجيه السلطة.
ج-أن تبني مثقفاً عربياً وليس مثقفاً قطرياً، وتحديد علاقة المثقف مع السلطة، وأن يتمتع المثقف بقدرة على النقد وجرأة على ممارسته. وفي الجانب الآخر أن لا يقتصر على النقد إلاَّ كخطوة على طريق إنضاج حلول للإشكاليات التي تحصل هنا أو هناك.
د-أن تترابط الحركة النقدية والثقافية مع وضع خطة نضالية عملية لكي تتكامل النظريات مع التطبيق.
3-ما هي البدائل الدولية والعالمية التي يستند إليها العرب بعد أن غاب الاتحاد السوفياتي؟ –ضرورة التواصل مع الشارع الإنساني العالمي المؤيد لقضايانا القومية.
تباين مواقف الحركة الثقافية العربية حول القضية العراقية –قبل الاحتلال وبعده- تتمثل بالمواقف التالية:
1-تأييد الاحتلال تحت ذريعة القضاء على الديكتاتورية.
2-مقاومة الغزو الاستعماري قبل كل شيء.
حول المقاومة في العراق:
هي مقاومة منظمة، لكنها ما زالت تحتاج إلى انتشار على مستوى المساحة العراقية جغرافياً وديموغرافياً. وهي تحتاج إلى دعم قومي. أما انتشارها على الصعيد الوطني فلانتزاع الخوف الإيراني والسوري من هاجس الخوف من النظام السابق. ومن أهم ما هو مطلوب –في هذه المرحلة- أن يقوم الوطنيون والقوميون بدور إعلامي يدعم المقاومة في العراق.
التفصيلات المختلف من حولها والتي تحتاج إلى المزيد من التوضيح هي التالية:
في العام حول منهج البحث:
حول أدوات الفكر التي نستخدمها في البحث عن الإشكاليات. كان من الواجب على السائل أن يحدد ما هي أدوات التحليل التي استخدمها الباحث والتي لا تنال قبول السائل، وكان من الواجب عليه أن يحدد الأدوات التي يراها صالحة للبحث كما يراها هو. وما يصح على أدوات الفكر يصح على أدوات التحليل. وكان من المفترض به أن يحدد أدوات الفكر والتحليل المرفوضة وأن يقدم أدوات أخرى يرى أنها مقبولة.
-الورقة تحمل ألماَ أكثر مما تحمل استبصاراً للمستقبل.(جواب): إن المنهج الذي أتبعه في البحث ليس إملاءات، وإنما إثارة إشكاليات يدعو الآخرين للمشاركة في بحثها والاتفاق حول رؤية موحدة حولها، وهو من أدوات الفكر الديموقراطي).
-حول المتاهة التي وضع الباحث فيها القراء: لقد وضع القارئ أمام متاهة أي مشكلة يناقش: هل المسألة تدور حول نقد الفكر السياسي، أم حول نقد الواقع السياسي؟ كما أن هناك نقد حول المنهجية المرتبكة التي يستخدمها الباحث، بينما لم يشر الناقد إلى جوانب الارتباك في المنهجية ولم يقم بتقديم البديل. ومن جانب آخر، ليست هناك متاهة على الإطلاق، لأن الفكر يواكب الأزمة على أرض الواقع، فالفصل بين الفكر السياسي وأزمة الواقع السياسي هو فصل تعسفي.
-لتكامل المنهج كان على الباحث أن يقيِّم التجربة العراقية بشكل كامل. (وكأن الناقد يريد من المؤتمر المحدود أن يتحول إلى بحث ورقة واحدة، وأن تتحول ورقة البحث المحدودة إلى سلسلة من الأبحاث). لم يأخذ الناقد بالحسبان محدودية الزمان ومحدودية المواضيع، فلو كان الأمر كذلك لكان من الواجب أن لا نبحث أية إشكالية إلاَّ من خلال الإطلالة على الوضع العالمي والعربي والقطري بكل ما تحتويه من ملفات وإشكاليات، بتاريخيتها وراهنيتها).
-وضع البعض، في جلسة مناقشة مخصصة لإشكاليات محدودة، عدة أخرى من الإشكاليات قد يكون لها ارتباط مع الإشكاليات المطروحة، والبعض منها بعيد عنها ولا يمت لها بصلة، والبعض الآخر غير متفق عليه، بينما اعتبرها الباحث من الأسس والآليات الواضحة عنده، ولم يجد فائدة في تعريفها. ومن أخطرها العودة إلى النقاش القديم حول وجود الأمة العربية أو لا وجودها. والعودة إلى تحديد هذه الإشكالية يعيدنا –في حلقة مماثلة من المفترض أن يكون موضوع تحقق الأمة أو لا تحققها محسوماً، فالحلقة تضم قوميين وماركسيين من المفترض أنهم قد حسموا تلك الإشكالية بعنوانها العام والرئيس. ومن تلك الإشكاليات ما أحسب أن إثارتها يشكل هروباً من بحث الإشكاليات المحدودة التي أثارها البحث، ومنها الأسئلة التالية: لماذا العداء بين سوريا والعراق؟ ولماذا نتهم محمد باقر الحكيم ولا نتهم حسن نصر الله؟
-هناك التباس في الوعي العربي، على صعيد التيارات السياسية والقوى الفكرية والثقافية، حول القضية العراقية.
-حول مضمون تقييم مواقف المعارضة العراقية سابقاً. هل أصبحت من الماضي فعلاً؟ وهل زالت تأثيراتها حول تثبيت كيان سياسي يعمل على تشريع الاحتلال؟ وهل لا يجوز أن نستفيد من ظاهرة المعارضة العراقية على صياغة مفاهيم لأية معارضة في المستقبل؟ ومن تفصيلات هذا الجانب تأتي التساؤلات التالية:
1-دليل غياب الجو الديموقراطي خروج عشرات الآلاف من العراقيين إلى إيران.
2-لم نعط، في التجربة العربية عامة، مساحات من الحرية أمام المثقف.
3-هل المعارضات العراقية الموجودة في الأقطار العربية هي خائنة أيضاَ، ومنها المعارضة الموجودة في سوريا.
حول المضامين الديموقراطية:
-تعارض الطائفي مع الديموقراطي.
-إشكالية الديموقراطية مسؤولية قومية عربية، على الصعيدين الرسمي النظامي وصعيد التجربة الحزبية عند كل الحركة الحزبية العربية.
-هل يمكن التأكيد بأن هناك مشروعاً عراقياً يصح اعتباره مشروعاً نهضوياً عربياً؟
-هل ننقد التجربة العراقية كاملة أم من الممكن –كما جاء في البحث المحدود- أن نركز على بعض جوانبها؟ وإذا كان من المفترض أن ننقد التجربة العراقية كلها، فهل قام المفكرون العرب، والفكر العربي بدوره في هذا المجال؟
-هناك لا إتفاق كامل حول اعتبار الأمة العربية كياناً متحققاً. طلب البعض أن نحدد مضمون الدولة القومية في البحث المحدود، فهي مختلفة من تعريف إلى آخر.
حول المشروع النهضوي العربي:
هناك عدة مشاريع تنسب لنفسها النهضوية: المشروع النهضوي الناصري، والمشروع النهضوي السوري، والمشروع النهضوي العراقي. والتي تثير عدداً من التساؤلات، ومنها: هل هي مشاريع قومية أم مشاريع قطرية؟
ولكي نقيمها تقييماً صحيحاً علينا أن نحدد أدوات التحليل التي على أساسها يكون التقييم موضوعياً من حيث التشخيص والعلاج.
هل اهتمت تلك المشاريع ببناء الأمن القومي العربي؟ (الأمن القومي المطبَّق في العراق هو أمن النظام، أي أمن الرئاسة والقيادة).
إذا كان العراق قوياً فلماذا انهار؟ بينما نظام عرفات الصغير لم ينهار.
حول الدعائم الدولية لأي مشروع عربي نهضوي: تناقضات المعادلات الدولية لن تحمي العرب. ولماذا لم نهتم بما حصل في دول البلقان.

(17): لعبة الورق الأميركية في العراق استهداف للضمير العربي
في 30/ 7/ 2003م
يمارس اختصاصيو علم النفس والإعلام والاجتماع الأميركيون، الذين يعملون في مؤسسات الدراسات الأميركية، التابعة للشركات الرأسمالية الكبرى، وظائفهم بشكل جيد في التأثير على الحقل النفسي العربي، من خلال التلاعب بمزاج الشارع، ومزاج المثقف، كما على بعض وسائل الإعلام العربية التي تحول البعض منها للترويج إلى الإعلان الأميركي، متأثرين بألعاب الورق والشطرنج والداما الأميركية.
يمارس مخططو السياسة الأميركية، التي يلتف حول صانعيها أخطبوط الشركات الرأسمالية الكبرى، استغفالاً للضمير العربي عندما يحولون قضاياه الكبرى إلى مجرد ألعاب وأوراق لا يشعر المتتبع لحركتها بما يهزه في أعماق ضميره.
أما لعبة الداما، اللعبة السياسية التي يحرك فيها صانعو القرار الأميركي صانعي القرار السياسي الرسمي العربي، كما يشاؤون، فهي اللعبة التي يتحرك على أساسها معظم حكام الأنظمة الرسمية العربية.
أما لعبة الشطرنج، اللعبة التي يحسب الأميركيون فيها أن عليهم في الصراع مع رافضي الإملاءات الأميركية أن يلاحقوا الملك الذي إذا ما قتلوه يعلنون ربحهم في اللعبة، فهم يطبِّقونها –الآن- في العراق. ويتمظهر ذلك من خلال ملاحقتهم للرئيس صدام حسين. وتناسوا أن في العراق مؤسسة حزبية لا تنتهي بموت الملك.
أما لعبة أوراق اللعب، فهي التي يعمل الأميركيون على ممارستها في العراق، فيقتلون ويزرعون الرعب بين النساء والأطفال، ويخترقون بكل صلافة وغرور كل تقاليد الأسرة العربية بدخولهم إلى البيوت وخرق حرماتها، وهم بممارسة تلك اللعبة يحولون دون بعض المزاج العربي والاحساس بأن من يقتلون هم بشر من لحم ودم، يحملون قضية سامية، يقاتلون ويتظاهرون ويعترضون ويرفضون من أجلها، بل يتحول بعض ذلك المزاج إلى متابعة آلية لا يشعر فيها العربي بالألم والغضب والثورة واهتزاز الضمير. بل أخذ يمارس أولئك العرب دورهم –كمن يتتبَّع لعبة الورق، لهذا أخذوا يتصورون أن من يشاهدون قتله وتعذيبه، من العراقيين، على يد قوات الغزو الأميركي، ليسوا إلاَّ كمثل قتل أوراق لعب كرتونية. فسقوط أوراق اللعب لا يثير ذلك الإحساس الغاضب الثائر في وجه الظلم والتعسف.
مثلما حوَّل الإعلام الأميركي قضايانا وشهداءنا ومعتقلينا في العراق إلى أوراق من اللعب، كاد أن يحوِّل البعض من العرب، ومنهم بعض المثقفين والإعلاميين، إلى مشاهدين للمنظر العراقي، يفتقدون الإحساس والضمير والعنفوان والثورة على الظلم والتعسف والاضطهاد. وإذا ما نجح الإعلام الأميركي في تحويل المثقف عندنا إلى هذا المثال، فهو الانتصار الأميركي الأكبر، لأن انتصاره في حسم الحرب العسكرية النظامية ليس هو الانتصار الحقيقي.
جعلنا الإعلام الأميركي نتلطى –وندفع الضمير فينا إلى الموت- تحت ذرائع أن موت هذا أو ذاك، أو اعتقال هذا أو ذاك، أو تعذيب هذا أو ذاك… ليس لسبب إلاَّ لأن المقتول أو المُعتَقل أو المعذَّب ينتمي بالنسب أو الانتماء السياسي، إلى من نكن الكره والحقد ضده، أو لأنه يؤيد هذه الإيديولوجية أو تلك التي نشعر بالتعصب ضدها.
نخشى أن يتحول ضميرنا إلى التحجر والانغلاق. فعلى قاعدتهما يكون موت شخص أو تعذيبه لا علاقة له بالإحساس القيمي الإنساني العام أو بالاحساس الوطني والقومي، بل يسهل خبر موت العراقيين أمامنا أو تعذيبهم أو اعتقالهم، فيتلوَّن الشعور الإنساني فينا، وكذلك الشعور القومي والوطني، بتلاوين سياسية وتعصبية. وفي مثل هذه الحالة تضيع الطبيعة الإنسانية والقومية عن قضايانا.
فلو كان المقياس في توجيه الشعور والإحساس الإنساني يستند إلى العصبية والموقف السياسي الشخصي، لضاعت الأوطان لأن تعددية التيارات السياسية والإيديولوجية كثيرة في أمتنا العربية. ولو ضاع التمييز عندنا بين حدود الظلم والعدالة، وبين وسائل حسم الصراعات الداخلية وحسم الصراع مع الخارج، لضاع معها الإحساس بالوطنية، وهنا يكمن موقع الخطر الذي جعل البعض من العرب ينظرون إلى ما يجري على الساحة العراقية وكأنه لعبة من الورق، وهذا ما خططت له مكاتب الدراسات الأميركية التابعة لشركات الرأسمال الأميركي.
لكي تستقيم بوصلة الشعور والقومي والوطني، ليس أفضل من تعبير تلك السيدة العراقية التي علَّقت على مقتل عدي وقصي –إبنا الرئيس العراق صدام حسين- قائلةً: يكفي أنهما قُتلا في مواجهة جنود الاحتلال الأميركي ليكونا شهيدين عراقييْن بطلين.
ليس هناك من صادم لكل أنواع الضمير فينا أكثر من تعرُّض العراقيين لشتى أنواع القتل والملاحقة والاعتقال والإذلال التي يمارسها جنود الاحتلال الأميركي والبريطاني بحق الشعب العربي في العراق. وكل تلون أو اجتهاد أو تبرير أو التفاف حول ما يجري في العراق، ضد أي كان من العراقيين على أيدي قوات الاحتلال، لن يكون موقعه أبعد ممن وقع تحت تأثير التنويم المغناطيسي للإعلام الأميركي الذي حوَّل العراقيين ورموزهم الوطنية إلى مجرد أوراق لعب لا يثير مقتلها أو اعتقالها أو تعذيبها أي شعور إنساني أو وطني أو قومي.
هل وجدنا، في ظل سيادة بعض المزاج الشعبي والنخبوي العربي، ما نبرر به موت ابني الرئيس صدام حسين، عدي وقصي وابنه مصطفى، بشجاعة غير أنهم أوراق لعب اقتنصها الأميركيون بشطارتهم في تغليف ضمائر البعض من العرب، بحيث راحوا يعملون على إقناعنا بأنهم ماتوا وأراحونا من الظلم الذي أنزلوه بالشعب العراقي؟!!!
كان من واجب الغيارى على العراق وتخليصه –كما يحسبون- من ظلم النظام السابق، أن يتهموا الأميركيين بقتلهم العمد، لكل من قصي وعدي. فهم لو كانت لديهم الأدلة حول الاتهامات الملفقة ضدهما لكان من الواجب اعتقالهما حيين لمحاكمتها، وهم كانوا قادرين على ذلك!!!

(18): هل ما زالت الوحدة العربية تشكِّل حاجة قومية؟
محاضرة قُدمت في المخيم الصيفي للمؤسسة الوطنية الاجتماعية في برجا بتاريخ 7/ 8/ 2003. ونُشر في موقع الوحدوي في اليمن. وفي موقع الفكر العربي
سؤال طالما تردَّد في هذه المرحلة، وازدادت وتيرة هذا الترديد.
وهنا نتساءل، بدورنا: ما هي أسباب طرح مثل هذا السؤال في الوقت الذي تزداد فيه الهجمة على الأمة العربية؟ كما تزداد فيه المشاريع التي يريد أصحابها قطعة من الأمة من شرقها وذاك يريد قطعة من غربها. هذا يريد قطعة من جنوبها يواجهه آخر بالعمل من أجل اقتطاع حصة له في شمالها.
إن طرح إشكالية، في وقت ما، لا بدَّ من أن تخفي وراءها أغراضاً وأهدافاً ترتبط بطبيعة المرحلة. وترتبط، أيضاً، بأهداف من يعملون على تعميقها.
قل لي من هم الذين يطرحون هذه الإشكالية، وهذا السؤال، أقل لك ما هو الغرض من ورائه. لكن هذا لا يعني –على الإطلاق- أننا نريد أن نشكك بنوايا الصادقين، الذين يريدون جواباً لتطمئن قلوبهم، وليواجهوا به أصحاب الأغراض والأوطار البعيدة عن مصلحة الأمة.
من خلال متابعتنا لموضوع المسألة القومية، سواء على صعيد الفكر أو صعيد السياسة، نرى أن الذين يطرحون هذا السؤال –من موقع التشكيك بجدوى الوحدة العربية- يستندون إلى أسس فكرية وسياسية وإيديولوجية قطرية أو ذات ارتباط مع مشاريع العولمة.
إن الاتجاه القطري ذو ارتباط مع المفهوم الاستعماري القديم –المستند إلى تقسيمات اتفاقية سايكس – بيكو- وهو تيار أصبح معروفاً بأغراضه وأهدافه لأنه مرتبط مع خرائط التقسيمات الجغرافية المرسومة الآن، والتي يحاول الاستعمار المعاصر أن يمنع تغييرها.
أما عن العولمة فهي وجه متطور ومتقدم للاستعمار. فكيف ننظر إلى العولمة وكيف نفهمها، ومن هم أولئك الذين يطرحون العولمة كبديل للقوميات؟
هناك تياران يناديان بالعولمة، وعلينا التمييز بين أهدافهما وأغراضهما:
الأول يستند إلى رؤى وأهداف رأسمالية، لها علاقة بتوسيع الأسواق أمام إنتاج الدول الرأسمالية، ولا يمكن توسيع تلك الأسواق إلاَّ من خلال سيطرة تامة على إرادة الشعوب وقرارها السياسي، أي بإلغاء كل ما له علاقة بقيم السيادة الوطنية والقرار الوطني المستقل وحماية الثروة والأسواق الوطنية وتنظيمها.
أما التيار الآخر، فهو تيار العولمة على مقاييس رؤى فكرية:
تستند الأولى إلى رؤية سياسية دينية لها أهدافها وأغراضها الدينية القائمة على بناء دولة دينية تحكم باسم الشرائع السماوية. أما الأخرى فتستند إلى رؤية فلسفية مادية، وتعبِّر عنها الفلسفة المادية الماركسية التي تعمل من أجل توحيد العالم تحت سيطرة القوى العمالية العالمية، أي تحت قيادة طبقة البروليتاريا.
وطالما أن العولمة بالقياس الديني تقوم على إلغاء الحواجز والحدود، بما يسمح للقوى السياسية الدينية ببناء أنموذج سياسي ديني في مكان ما من العالم، ويعمل على توسيع حدوده بشتى الوسائل المنصوص عليها في كتبهم. ويعتقد أصحاب مشاريع العولمة الدينية أن حدود الدول القومية الحديثة تشكل عائقاً جدياً أمام مشاريعها.
مع وجوب التمييز بين أهداف التيارين –العولمة الاستعمارية والعولمة الدينية والماركسية- وأغراضهما نرى أن اتجاهات العولمة مسؤولة عن التشكيك بجدوى الاستمرار في الدعوة إلى الوحدة العربية.
ولعلَّ الإخفاقات التي أُصيبت بها التيارات القومية، منذ أوائل الستينيات من القرن العشرين، تكون قد أسهمت في تعزيز مواقف القطريين والعولميين للتشكيك بجدوى الوحدة العربية. لكن تلك الإخفاقات كانت ذات أسباب موضوعية وذاتية، ونرى نحن بدلاً من إلغاء وإسقاط المشاريع القومية الوحدوية السياسية والفكرية أن نقوم بدراستها دراسة نقدية موضوعية، لنستخلص منها الدروس والعبر بما يسهم في تصويب مساراتها، ووضعها على المسار الصحيح. ولهذا مجال آخر وبحث آخر.
متجاوزين أغراض التشكيك الذي مارسته تيارات العولمة، خاصة تلك المرتبطة بدوائر الفكر والسياسة الاستعمارية بفائدة الوحدة العربية، لنطرح السؤال من موقع الصادق في أغراضه وأهدافه من إيجابيات الوحدة العربية.
هنا نرى، من المنطلق الفكري، أن الجامع القومي لمجتمعات مفتتة –كمثل واقع أقطار الأمة العربية في وضعها الراهن- هو، بالدرجة الأولى، شعور إنساني سليم. وسلامة هذا الشعور يستند إلى رؤية إنسانية عملية في انتماء الفرد إلى مجتمع ما. وبمجرد أن ينتفي وجود هذا الشعور تنتفي معه حاجة الفرد إلى الشعور بانتمائه إلى أسرة. لكن على قاعدة الضرورة في تثبيت انتماء الفرد إلى أسرة تستند الحاجة في انتماء الفرد والأسرة إلى مجتمع، وتستند حاجة انتماء المجتمع إلى جامع قومي بخصوصيات قومية.
ومن مجرد الشعور بالانتماء إلى قومية نرى ضرورة تعريف القومية بوضوح. وهذا يطرح الحاجة إلى تعريف لقوميتنا العربية، وتحديد تعريف لبنائها السياسي.
فإذا سلَّمنا بوجود قومية عربية، ولهذا مجال آخر وبحث آخر، واستجابة لحاجة السؤال موضوع المحاضرة نحصر معالجتنا في موضوع التساؤل حول ما إذا ما زالت الوحدة العربية تشكل حاجة قومية عربية.
كبداية للجواب على التساؤل، نرى، أنه إذا كان واقع العالم البشري موزَّع بين القوميات، وإذا كان لكل قومية مميزاتها وخصوصياتها، فالقومية العربية هي التي تفصح عن مميزات العرب وخصوصياتهم. وتأتي الوحدة العربية لتشكل المظهر السياسي للنظرية القومية العربية.
فإذا كانت القومية العربية تعبِّر عن شخصية العرب وخصوصياتهم الثقافية، فإن الوحدة العربية هي الترجمة الواقعية والعملية لمضمون النظام السياسي الذي يوحِّد بين أبناء المجتمع العربي، ويعمل من أجل مصلحة شتى التنوعات القطرية فيه.
فما هي المكاسب التي يحصل عليها العرب من خلال وحدتهم السياسية؟
إذا كان كل جيل عربي يتناقل الثقافة العربية عن الجيل الذي سبقه،
وإذا كانت الثقافة العربية هو ذلك التراكم الحضاري الذي أسهمت في صناعته شتى الشعوب التي عاشت في المنطقة الممتدة بين الخليج العربي والمحيط الأطلسي،
وإذا كانت منطقة ما بين النهرين –أكثر المناطق عمقاً ثقافياً وحضارياً في المنطقة العربية، وفي العالم أيضاً- قد انصهرت مع الثقافات والحضارات اللاحقة–مروراً بآخر تجربة حضارية وثقافية ثبتتها الثورة الإسلامية- وشكَّلت بناء ثقافياً وحضارياً عربياً.
لكل تلك الأسباب يشكل النتاج الثقافي والحضاري العربي عصارة انصهار تجارب شعوب عديدة كانت تعيش في المنطقة الجغرافية المعروفة اليوم بالمنطقة العربية.
فإذا كانت مرحلة تاريخية ما، أو إيديولوجية ما، قد أسهمت أكثر من الأخرى في هذا البنيان الثقافي والحضاري، فلن يكون مميزاً إلاَّ بالدرجة لأن كل الإيديولوجيات قد وحَّدت كل تلك التجارب في ثقافة عربية واحدة أفادت الثقافة والحضارة الإنسانية جمعاء كما استفادت –بدورها- من تلك الثقافات والحضارات.
فإذا كان شعب ما يفاخر ويعتز بحضارته وثقافته، ويعمل من أجل أن يستمر دوره الثقافي والحضاري، فإن العرب هم من الشعوب الذي يفاخرون بمثل هذا الدور ويعملون على أن يبقى مستمراً، وهنا تأتي أهمية أن يكون للعرب مظهر سياسي يستطيع أن يحافظ على التُراث الثقافي والحضاري للأمة العربية، ومن هنا تأتي حاجة العرب لبنيان سياسي وحدوي يحافظ على دور العرب في الإسهام بإغناء الحضارة الإنسانية.
فالوحدة العربية، هي أولاً وقبل أي شيء آخر، حاجة ضرورية للمحافظة على وحدة الثقافة العربية وحمايتها من الشطب والإلغاء.
لكن ليست الحاجة للوحدة مقتصرةً على هذا الجانب، على الرغم من أهميته في الدفاع عن حق للعرب في أنهم أسهموا إسهاماً جدياً في صناعة تاريخ العالم الحضاري، فإنه يحفِّز العرب لكي يلعبوا دوراً في مستقبله أيضاً. فإذا ما ناموا على حرير الدور التاريخي، من دون أن يتمموه، فإنهم سينامون على أشواك الحاضر والمستقبل.
تأتي الوحدة العربية حاجة ضرورية للمحافظة على تُراث العرب الثقافي والحضاري، ولإعدادهم في الحاضر في سبيل بناء مشروع نهضوي عربي ينقذهم من مظاهر التخلف ووقائعه، من أجل أن يستـأنفوا دورهم التاريخي في المستقبل. وهذا الاستئناف لن يكون بمعزل عن توحيد جهودهم على شتى المستويات.
ففي عصر العولمة لا مكان للدول الضعيفة والمجتمعات المتخلفة. ولأن للانقاذ من التخلف، والمسير نحو التقدم ، شروطاً يجب أن تتوفر للمجتمعات، فإن توحيد إمكانيات الأمة على شتى الصُعُد تشكل حاجة ضرورية ومهمة وجدية في عصر العولمة الاستعمارية.
فما هي المظاهر والمهمات التوحيدية التي تجعل من الوحدة العربية حاجة ضرورية للنضال العربي من أجل أن يعمل على فرض دور للأمة العربية في عالم الأقوياء؟
ولأن الحاجة إلى الوحدة العربية أصبحت واضحة نظرياً، فإن النضال من أجلها وطريقة تحقيقها، والسُبُل المؤدية إليها هي من الإشكاليات التي نحن بحاجة إلى الإسهام في توضيح بعض الوسائل العملية التي تسهم في تحقيقها. وعلى هذا الأساس سوف أسهم في بعض تلك الجوانب:
من غير الواقعي أن نحسب بأن الوحدة السياسية تتم دفعة واحدة، بل لا بُدَّ من خطوات تمهيدية تسبقها، وقد تطول مرحلة التمهيد إلى عشرات السنين.
يسبق العمل الوحدوي تمهيد فكري وثقافي وتربوي، كأساس ضروري لأي عمل نضالي يضع الوحدة العربية هدفاً أساسياً من أهدافه. والخطوة الضرورية في مثل هذا التمهيد تتأسس على قاعدة أن ينال المشروع الوحدوي السياسي قبولاً لدى أوسع التيارات الفكرية والسياسية على مستوى الأقطار العربية، وهذا يستدعي أن يبذل الوحدويون جهداً حوارياً واسعاً مع كل تلك التيارات.
ليس على الوحدويين أن ينتظروا انتهاء الحوارات مع التيارات السياسية والحزبية العربية، لكي يباشروا في تأسيس عمل وحدوي، بل هناك خطوات نضالية متواصلة تطول تفصيلات العمل الوحدوي، مثل مشاريع الاتفاقات الوحدوية التي تصدر عن المؤسسات الرسمية، التي تترجم بشكل أو بآخر الطموحات الوحدوية، تلك الاتفاقات التي تقدِّم أدلة ملموسة، أمام الجماهير في شتى الأقطار العربية، على أهمية الحاجة لبنيان سياسي وحدوي، ومن تلك الخطوات، وليس كلها، يمكن التأكيد على أهمية العوامل الوحدوية في الثقافة والاقتصاد والسياسة والدفاع.
1-حاجات التوحيد السياسي والثقافي والعلمي:
كان من أهم نتائج الدولة العربية الإسلامية في التاريخ،، أنها انبنت على وحدوية ثقافية أدَّت إلى بناء وحدوي سياسي بعد أن كان الواقع الثقافي القبلي، مبنياً على قاعدة الوحدة العشائرية بما فيها من تمزق واقتتال من جهة، وعلى تمزق ثقافي على قاعدة تعددية عبادة الأصنام من جهة أخرى، فأدَّى التوحيد الثقافي الذي قامت به الدعوة الإسلامية إلى تجاوز سلبيات التفتيت السياسي والاجتماعي والاقتصادي وأحلَّ مكانها وحدوية ثقافية وسياسية واجتماعية، كان من أهم نتائجها الإسهام الكبير في الفتوحات العربية الإسلامية التي أسهمت في تكوين ما نتعارف عليه اليوم بالأمة العربية.
ولأن البنيان الحضاري العربي هو نتاج لكل الإيديولوجيات التي سبقت الدعوة الإسلامية أو التي أتت بعدها، ولأن المجتمع القومي –في هذه المرحلة- متعدد الانتماءات الدينية والمذهبية، ولأنه لا يمكن لتلك التعدديات أن تخضع لسلطان إيديولوجيا واحدة لا تنال رضى وقناعة من كل التعدديات الدينية والمذهبية،
لكل ذلك نرى أنه لا يمكننا اليوم، أن ندخل إلى بوابة الوحدة السياسية من جديد إلاَّ عبر المرور من بوابة التوحيد الثقافي القومي، وتلك مهمة يقع عبئها على أكتاف الوحدويين العرب.
2-حاجات التوحيد الاقتصادي:
ليست الوحدة السياسية هدفاً بذاتها، بل لها ارتباطات وثيقة بواقع مواجهة الأعباء الاقتصادية التي تطول مصالح الجماهير العربية في كل أقطار الأمة العربية.
في البدء نرى أن واقع الاقتصاد المعاصر، القائم على قاعدة الانتاج الصناعي، لا يمكن أن يحقق أغراضه إلاَّ من خلال تضافر جهود أكثر من دولة. بينما نرى أن الواقع القطري العربي الراهن، لن يستطيع دخول عصر الانتاج الصناعي ما لم تتضافر جهود وإمكانيات الأقطار مجتمعة، أو على الأقل أكثرها. والدافع من وراء ذلك هو عوامل التكامل بين ثروات الأقطار الطبيعية والبشرية، وبين مستويات الإنتاج والاستهلاك.
أما إذا دخلنا إلى العصر من بوابة العولمة الاقتصادية، التي تقودها اليوم الولايات المتحدة الأميركية، فسوف تزداد حاجة العرب إلى وحدة سياسية تنظِّم واقع الاقتصاد القطري وتقوده نحو واقع اقتصادي جديد يتَّسِم بكتلة اقتصادية عربية تعطيه زخماً وقوة لكي يستطيع مواجهة الغزو الاقتصادي العالمي.
فإذا كانت مرحلة العولمة، التي تقودها أميركا، قد أثارت الخوف في نفوس الدول الرأسمالية الكبرى، ودفعتها إلى ابتكار صيغ وحدوية وتأسيسها، كمثل الوحدة الأوروبية، لتستطيع الصمود في وجه الغزو العولمي للاقتصاد الأميركي، فكم تبدو حاجة العرب ماسة إلى بناء مثل تلك الوحدة. والتي ليس من حل آخر غيرها يمكن أن يصمد في وجه الحوت الاقتصادي الأميركي.
فمن أهم نتائج ما يقطفه العرب من العمل للبدء في توحيد الجهود الاقتصادية العربية هو توفير النزف المالي الكبير الذي يمارسه الحوت الأميركي على عائدات ثرواتنا الطبيعية واستنزاف عائداتها في سوق الاستهلاك العربي.
إن المطلوب –على المستوى القصير الأمد- أن تبدأ الأقطار العربية بتطبيق الاتفاقيات الاقتصادية الموجودة في أدراج جامعة الدول العربية، كمثل تأسيس المصانع والشركات برأسمال عربي، وتنفيذ اتفاقيات المناطق التجارية العربية الحرة، و… و..

3-حاجات التوحيد الأمني والعسكري والدفاعي:
لن نكون من الواهمين إذا ما امتنعنا عن مناقشة مسألة توحيد القوى العسكرية النظامية العربية، فدون تحقيق هذا الأمل مسافات بعيدة. تلك المسافات مزروعة بألغام التواطؤ العدواني الذي لن يسمح للجيوش العربية بأن تحقق توازناً مع جيوشه وآلته العسكرية. أما اللغم الثاني فله علاقة بتغيير واقع النظام العربي الرسمي، الذي من أهم مساوئه، أنه متواطئ مع قوى العدوان، سواء من خلال المصالح السياسية والاقتصادية للنخب الحاكمة أو الداعمة لها.
أما عوامل التغيير في الجوانب الدفاعية–التي نراهن عليها بشكل أساسي- فهي إمكانيات الجماهير وطاقاتها وصدقها وإخلاصها. فعوامل التوحيد العسكري والأمني –هنا- تنحصر في كل ما له علاقة بطاقات الجماهير العريضة، وإمكانيات القوى القومية والحركات والأحزاب السياسية، أي مجمل تيارات الحركة العربية الثورية.
وإذا قيل لماذا تراهن على تيارات حزبية بدت وكأنها مقصرة، ويحلو للبعض أن يسقطها من حسابات قوى التغيير، ولأن للموضوع مكان آخر وبحث آخر، نجيب باختصار: لا يمكن لأحد أن يحلم بالتغيير من دون حركة حزبية منظَّمَة، لأنها الأسلوب الوحيد الذي يؤسس لمعرفة وثقافة وطنية وقومية من جانب، ويجمع جهود المناضلين ويوجهها ويرعاها بعناية. وإذا كانت الحركة الحزبية العربية قد وقعت بأخطاء، إلاَّ أن هذا السبب لا يبرِّر –على الإطلاق- إسقاطها والامتناع عن الوثوق بأهمية دورها.
من واقع الحال، الآن، أن الاستعمار يستفرد بكل قطر عربي –كمثل ما يحصل في فلسطين والعراق- من أجل السيطرة على مقدرات الأمة واستفرادها قطعة قطعة. وتستند القوى المعادية –صهيونية وإنجلو أميركية- إلى ترسانة أسلحتها الهائلة، والأهم من كل ذلك أنها تستند إلى واقع التفتت القومي، بحيث تستخدمه وتستعين بإمكانيات وتآمر أكثر الأنظمة العربية في محاربة الأقطار ذات الاتجاهات الوحدوية، والتنظيمات والقوى والحركات السياسية العربية التحررية.
إذا كان البعض من تلك الأنظمة العربية المتواطئة مع الاستعمار الأميركي الجديد يبرر تصرفه اللا قومي بذرائع غياب القوة العسكرية العربية التي تستطيع الصمود في وجه الترسانات المعادية، فإنما هي ذرائع واهية. والسبب أننا لا نحسب أن موازين القوى العسكرية هي العامل الحاسم في الصراع بين العرب وذلك التحالف، وإنما الإيمان بقوة الحق هو من أهم العوامل التي تسهم في تحديد نتائج الصراع العسكري.
إن قوة الإيمان بالحق تخلق حوافز لابتكار عوامل كثيرة تصب في مصلحة كل الأقطار العربية التي تتعرض لمواجهة مع قوى التحالف العدواني. لأن العرب ليسوا بحاجة إلى ترسانات توازي –بقوتها وقدرتها- قوة الترسانة التي يملكها التحالف الإمبريالي - الصهيوني، وإنما أسلوب المقاومة –بشتى أشكالها وأنواعها ووسائلها- هو العامل الحاسم الذي يحدد نتائج الصراع.
ما هي المقاومة الشعبية التي نحسب أنها البديل للقوى النظامية العربية؟ وكيف نستفيد من وسائلها في إدارة الصراع ضد قوى العدوان؟
يستنزف الشبق الاقتصادي الرأسمالي –ويأتي على رأسه الرأسمال الأميركي- ثروات العرب من خلال الترويج لإنتاجه الصناعي وبيعه إلى الشعب العربي، على قاعدة إبقاء أنظمتنا السياسية والاقتصادية تابعة ومستهلكة. ففي مواجهة ذلك الغزو يمكننا أن نستخدم أبسط أنواع المقاومة القائمة على مقاطعة بضائع دول العدوان. أوَ ليس في هذا السلاح قوة وبأساً يهدد فيه قوى الانتاج والتصنيع في تلك الدول؟ ومن هي القوة الرئيسة في إنجاح المقاومة من خلال المقاطعة، أوَ ليست هي القاعدة الشعبية العريضة؟
ومن جانب آخر، يعمل تحالف قوى العدوان على احتلال أرضنا، كما هو حاصل في العراق –الآن- ويعتمد على قوة وغزارة إمكانياته العسكرية النظامية. بينما نحن لا نمتلك إلاَّ القدر القليل من السلاح الذي يعجز عن مواجهة السلاح المعادي في حرب المواقع.
أوَ لا يمكننا أن نبتكر من الوسائل التي تبطل قوة السلاح النوعي للعدوانيين؟
فلنترك حرب المواقع، ونلغيها من حساباتنا المرحلية، ولنلجأ إلى أسلوب حرب التحرير الشعبية التي تلغي قوة الطائرة والمدفع وأجهزة الإرسال والتشويش والغطاء الجوي، فالمقاتل على قاعدة أسلوب حرب العصابات ليس بحاجة إلاَّ لأقل الأسلحة تكلفة وعبئاً. وليس غير حرب التحرير الشعبية إلاَّ الصادم الوحيد للجندي والدبابة وكل آليات التكنولوجيا الحديثة.
إن هناك الكثير من وسائل المقاومة التي يستطيع الشعب الضعيف بإمكانياته العسكرية التكنولوجية، أن يستخدمها. وإنما ركَّزنا على هذين الجانبين للتوضيح والبرهان وليس للحصر.
تصبح وسائل المقاومة أجدى وأنفع وأكثر تأثيراً إذا ما تضافرت الجهود الوطنية على مستوى القطر الواحد، وإذا ما اتَّخذت تلك الأساليب عمقها القومي العربي.
ففي مواجهة قوى العدوان يستطيع العمل المقاوم أن يحقق نتائج كبيرة ومهمة في إلحاق الهزيمة بوسائل القوى المعادية وقواتها العسكرية وآلتها التكنولوجية. تلك الوسائل تؤدي إلى مقاومة حقيقية توقع بكل أنواع العدوان الخسائر الفادحة. ففي المقاطعة تقع الخسائر في عائدات الاقتصاد المعادى، وفي المقاومة الشعبية نصطاد أكثر ما يمكن من قواته وعتاده، وفي المقابل لا ندفع إلاَّ القليل من الخسائر المادية والبشرية.
وخلاصة القول نرى أن الوحدة العربية –اليوم- لا تزال تشكل حاجة أكثر من أي وقت مضى، لأن معركة المصير العربي تتعرض إلى أشرس الحملات وأكثرها وحشية، التي من أهم مظاهرها ما تقوم به الصهيونية على أرض فلسطين، وما ترتكبه قوات الاحتلال الأميركي والبريطاني من مجازر في العراق. ولأن القضية العربية –برمتها- مستهدفة اليوم، فليس غير العمل العربي الشعبي الوحدوي هو الكفيل بإنجاز مهمات الدفاع عن الأمة العربية، في مصيرها السياسي وثرواتها.
بعد استعراض المقدمات والنتائج للجواب على السؤال –موضوع المحاضرة- أرجو أن أكون قد قدَّمتها بأكثر ما يمكن من الوضوح. وإذا كان عندكم من الصبر والجلد على المتابعة في الحوار والنقاش وتوضيح ما كان ملتبساً، فأنا على استعداد للتوضيح والإجابة على أسئلتكم واستفساراتكم.
***

(19): ملامح الثقافة العربية المعاصرة:
نحو تأسيس مفاهيم جديدة للصراع مع المشاريع المعادية
لا تنفصل الثقافة العربية عن مشروع ثقافي تنموي يعي القضايا القومية، على أن يبلغ عمقها بما يولِّد حرارة الإيمان بها ليشكل دافعاً للالتزام بالدفاع عنها. وإذا لم تتحوَّل الثقافة العربية إلى مشروع يهدف للدفاع عن قضايا المجتمع العربي، بما فيه الدفاع عن قضايا الأمة في الصراع مع المشروع الاستعماري والصهيوني، لن يكون أكثر من مشروع ترف فكري.
فإذا كانت عناوين أهداف الثقافة الملتزمة بقضايا الأمة واضحة، فإن مضامينها هو ما تتمحور حولها الجهود لتحديدها، وهي مهمة موضوعة أمام التيارات الفكرية العربية وحركاتها السياسية. وفي سبيل الإسهام بدور في التأسيس لتلك المضامين، نرى أن من أهم أسس توليدها أن تستند إلى وسائل نقدية موضوعية لكل التجارب القومية السابقة من دون ممارسة أسلوب بترها وإلغائها.
لقد انفتحت، في القرن العشرين، بوابة المعرفة العامة على مصراعيها بعد أن انتشرت وسائل إيصالها إلى الجميع. واكتسبت سمة الثقافة الموسوعية، من دون تحويلها إلى ثقافة عامة تخدم المشروع المعرفي العربي، الذي من أهم أهدافه أن يتحول إلى حقل معرفي يرتقي بوعي المثقف إلى معرفة قضايا المجتمع العربي بوعي، وإدراك، يزرع الحماس الثقافي لمعالجة تلك القضايا بدراية وموضوعية، والانتقال بهذا الوعي إلى مستوى الالتزام بالدفاع عنها.
إذا كانت ركائز الثقافة تخضع إلى قواعد جامدة وصارمة في جمودها، وإذا كانت أسس الحركة النقدية تقوم على قاعدة بتر التجارب السابقة وإلغائها فسوف تقع الحركة النقدية في فخ تجميد مقاييس التجديد، وتبتعد عن ميزات الجدل وتتقوقع من جديد داخل مسلَّمات تمنعها من التوصل إلى نتائج جديدة بما يمنع من إنتاج مضامين معرفية تفيد حركة النضال العربي.
فإذا عمل المثقف من أجل تثبيت مقاييس النقد التي تتجاوزها –في أحيان كثيرة- طبيعة المراحل –بما تحمله من متغيرات مستمرة- فسيجد نفسه أمام نتائج لا تخدم مسار التجديد في البُنى المعرفية. وتجميد تلك البُنى يتعارض باستمرار مع أهداف توليد حركة معرفية عربية تصب في خدمة قضايا الأمة.
لقد مارست الحركة الثقافية العربية، منذ نكبة فلسطين في العام 1948م، نقداً طال تقصير النظام العربي الرسمي في مواجهة الحركة الصهيونية التي احتلَّت الأرض الفلسطينية. وتوصلت الحركة النقدية العربية إلى تحميل الأنظمة العربية مسؤولية خسارة حرب العام 1948م، فسقطت أنظمة وظهرت أنظمة جديدة، فطالبتها الحركة الثقافية العربية بالإعداد الجدي لتحرير فلسطين على قاعدة الحرب النظامية.
ولما كانت تلك الأنظمة تستند إلى شعارات قومية وأكثر تعبيراً عن مصالح الجماهير العربية،
ولما كانت الاتجاهات العامة لأهداف الأنظمة الجديدة، مترافقة مع النتائج التي حملتها الحركة الثقافية العربية -في تلك المرحلة- بالإعداد إلى حرب تحرير فلسطين على قاعدة التوازن في عدد القوات ونوعية الأسلحة النظامية مع قوات وإمكانيات العدوان الصهيوني،
ولما حمل الخامس من حزيران، من العام 1967م، هزيمة للجيوش العربية، راحت الحركة الثقافية العربية تمارس نقدها على أسس ومفاهيم الحروب النظامية، وعلى أساس أنه ليس هناك من وسائل ومفاهيم للتحرير إلاَّ الحصول على توازن عسكري نظامي.
بدا –في تلك اللحظة التاريخية- وكأن الأمل المنشود قد ضاع، وتعالت أصوات النقد بندب المشروع القومي ونعيه، فكراً وممارسة. وراحت القوى المعادية تؤجج نار النقد وتعمق –بدورها- الأصوات التي نعت المرحلة القومية. وإلى جانبها لاقت تلك الحركة النقدية إسناداً من النخب السياسية والاقتصادية العربية –المستفيدة من بقاء الهيمنة الاقتصادية الرأسمالية العالمية- وهكذا انتشرت في الأسواق الثقافية العربية ثقافة الهزيمة، التي كان النعي والندب من أهم سماتها.
ومن جديد راحت الحركة الثقافية العربية تفتش عن مشروع نظامي عربي جديد يعمل من أجل تحقيق التوازن العسكري على قاعدة المواجهات العسكرية النظامية. وكأنها –بمثل هذا التفتيش- قد جمَّدت مقاييسها النقدية على قاعدة مفاهيم جامدة من سبل الصراع ووسائله، وهي قاعدة توازن القوى العسكرية النظامية، وكأنه ليس هناك من وسائل لمتابعة الحركة النضالية العربية ضد المشاريع الاستعمارية والصهيونية غير تأمين في توازن القوى النظامية.
مراهنات نقدية خاسرة، مارستها الحركة الثقافية العربية، لأنها لن تجد بنياناً نظامياً عربياً رسمياً قادراً على إحداث حالة التوازن تلك. وعبثاً تفتش عن ذلك، ومن العبث أن يصل النظام العربي الرسمي إلى حالة التوازن تلك، لأن قوى العدوان وحدها هي التي يمكنها أن تقدِّم المعونة في ذلك. ومن المستغرب أن ننتظر أن تقوم تلك القوى بالسماح للعرب في الوصول إلى أي مستوى من التوازن، لأنها تكون بذلك كالصياد الذي يساعد فريسته على التخلص من مصيدته.
وهل على الحركة الثقافية العربية أن تواصل نقدها وندبها وتفتيشها عن حلول مستحيلة التحقيق؟
إذا كان على الحركة الثقافية العربية أن تكون صادقة في سعيها للدفاع عن قضايا المجتمع العربي وقضايا الأمة العربية، عليها أن تستخلص من تجارب الأمة دروساً تدفعها إلى التفتيش عن وسائل تكون أقرب إلى التحقيق منها إلى الفشل. فما هي –كما نحسب- تلك الوسائل؟
من أولويات الأسس الفكرية أن تعمل الحركة الفكرية والثقافية العربية من أجل إعادة النظر بالمفاهيم القديمة التي تأسست عليها الحركة النقدية العربية لتعريف وسائل الصراع مع المشاريع الاستعمارية، ومن أهمها التأسيس لمفاهيم جديدة حول وسائل الصراع. فكيف ننظر إلى تلك المسألة؟
بداية نرى أن الحركة النقدية والحركة الثقافية العربية لم تعترض على تثبيت الحق في متابعة النضال ضد قوى الاستعمار والصهيونية بغض النظر عن نتائجه وعن حجم التضحيات التي تتطلبها الحركة النضالية. لكن تثبيت الوسائل وحصرها بحالة التوازن في القدرات النظامية هو ما نرى أن نناقشه.
في تجارب العرب الحديثة والمعاصرة، نماذج من وسائل الدفاع التي تصلح –بعد استقرائها- لتشكيل قاعدة تسهم في صياغة أسس لمفاهيم جديدة. تلك التجارب تكررت في مظاهر المقاومة التي يُطلَق عليها (حرب التحرير الشعبية). وهناك تجارب معاصرة ثلاثة يمكننا الإشارة إليها، وهي:
-المقاومة الفلسطينية: لقد منعت ثقافة المقاومة الشعب الفلسطيني من أن يتنازل عن حقوقه المشروعة ومن أن يعترف للعدوان الصهيوني بمشروعية عدوانه. ولهذا لا تزال قضية فلسطين حيَّة تشغل بال العالم أجمع وتحوز على اهتمامه.
-المقاومة الوطنية والإسلامية في لبنان: وهي التي أحيت مشروعية حقوق لبنان في تحرير أرضه بشتى الوسائل والإمكانيات، ورفضت الاعتراف بمشروعية العدوان الصهيوني. ومن خلال إصرارها على ممارسة حرب التحرير الشعبية، حققت الكثير من أهدافها، ومن أهمها تحرير الأرض اللبنانية من الاحتلال الصهيوني.
-المقاومة الوطنية العراقية: منعت ثقافة المقاومة العراقية الشعب العراقي من التنازل عن حقوقه المشروعة، كما أنها منعت الاحتلال الإنجلو أميركي من اكتساب أية مشروعية إنسانية وأخلاقية. وهي اليوم تدفعه إلى المزيد من الغرق في معركة غير نظامية تلحق في صفوف قواته الخسائر البشرية، وتمنعه من تحقيق أهدافه في سرقة الثروة النفطية.
في مجال التوازن في القوى النظامية لا يمكن أن يحقق العرب توازناً مع قوى العدوان. ولكن على قاعدة المقاومة الشعبية –على شتى وسائلها وأنواعها- نجد أنها الوحيدة التي تعزز عوامل الصراع ضد العدوان وتديمه.
فلتخرج الحركة الثقافية العربية من إسار ندب الأنظمة الرسمية ونعيها، والخطورة الأشد تتمظهر في نعي الفكر القومي والتحرري، ولتنكبُّ على الترويج لثقافة المقاومة العربية الشعبية الطويلة الأمد والنفس، وتضع الجماهير العربية أمام مسؤولياتها في رفد حالة النضال المقاوم بالإمكانيات والقدرات، وهي –حتماً- قليلة التكاليف، وبمقدور الجماهير الشعبية أن تقدمها.
آن للحركة الثقافية العربية أن تخرج من أسار النقد للنقد، وأن تعمل على تجديد مفاهيمها ذات العلاقة بالدفاع عن الحقوق العربية المغتصبة واستعادتها، وأن تدخل بوابته من خلال تقديم البدائل لكل الأساليب التقليدية التي أثبتت التجربة عدم جدواها. وما يعيد الأمل إلى نفوسنا هو أننا نلمح ملامح ثقافة عربية معاصرة تتجه نحو تأسيس مفاهيم جديدة للصراع مع المشاريع المعادية، تلك المفاهيم ترتكز على الاستفادة من طاقات الجماهير الشعبية بعد أن تأكد أن أسس الصراع على قاعدة الحرب النظامية ليست هي الحل المنظور.

(20): مفاهيم من المسألة العراقية
الموضوع واسع وشائك، ولهذا سوف أركِّز على مسألتين راهنتين وملحَّتين، وهما:
المسألة الأولى: تغليب الصراع مع الاحتلال على الصراع بين التيارات المحلية:
تتناول المحافظة على قيمة من القيم الإنسانية ذات العلاقة بنتائج العدوان على العراق. وحول هذه المسألة علينا أن نمنع من أن ينغرس في الوجدان الشعبي، وهو غالباً سطحي وانفعالي، حقيقة ثابتة وهي تبرير العدوان من خلال إعطاء الأولوية لأسباب التناقض مع النظام السياسي في العراق. فالتركيز على مثالب النظام هو إعطاء صك لبراءة العدوان.
فمن غير المشروع قومياً وإنسانياً أن نغلِّب التناقض المرحلي على التناقض الرئيسي، وهذه قيمة من القيم الإنسانية على المثقفين أن لا ينزلقوا إليها، لأنه تحت ذريعة التناقض بين بعض التيارات وبين بعض القوى التي يستهدفها العدوان اليوم، أو في المرحلة القادمة، كمثل سوريا وحزب الله وإيران، أن يحل الرأي الفئوي مكان العلاقة الإنسانية والقومية الاستراتيجية التي تشكل العلاقة الأساس بين شتى التيارات السياسية والدينية وبين تلك القوى المستهدَفة بالعدوان الآن أو لاحقاً.
المسألة الثانية: الاتفاق حول أولويات الصراع على الأرض العراق من خلال تحديد سقف وطني وقومي وديني شامل لمقاومة الاحتلال:
إن خيار العراقيين الآن هو خيار مقاومة الاحتلال، فلا يرتفع أي شعار غير هذا الشعار. وإن شعار المقاومة يقتضي الوحدة في التوجه والجهد. وما نراه، اليوم، من محاذير هو أن تتحوَّل المقاومة في العراق إلى تعدديات تتسابق على تسجيل انتصار هنا أو هناك.
فالمقاومة في العراق مرشَّحة لأن تنقسم إلى مقاومات تحمل الطابع المذهبي أو العرقي.
فالطابع المذهبي يفرِّخ إلى تيارات متصارعة داخل التيار الواحد. وهكذا هو حال الطابع العرقي. فتكون نتائج هكذا مقاومة تصارعاً فئوياً ينهش في جسد المقاومة تفتياً.
إن هذه الاحتمالات تقودنا إلى التركيز على الضرورة والواجب في أن تنضوي كل التيارات في مشروع مقاومة وطنية عراقية من جهة، ومقاومة قومية عربية من جهة ثانية، ومقاومة إسلامية بعيدة عن المذهبية من جهة ثالثة.
***

(21): النضال من أجل الاعتراف بالشرعية الرسمية والشعبية للمقاومة الوطنية العراقية على الصعيدين العربي والدولي
ورقة مقدمة إلى مؤتمر بيروت بتاريخ 11/ 9/ 2003م، من حسن خليل غريب/ لبنان.
من أهم أهداف العولمة الأميركية استعباد العالم كله من أجل منفعة كبار الرأسماليين في العالم عامة، وكبار الرأسماليين في أميركا بشكل خاص. ولهذا أخذت تصدِّر نفسها بقوة بعد أن أصبحت أميركا قطباً وحيداً يحكم العالم ويتحكم بقراراته، خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. ولم تكتف أميركا بتفتيته، بل زرعت حدوده بمجموعة من الدول الخاضعة لإرادتها الأمنية والعسكرية، وبذلك ضيَّقت الخناق، وزادت وسائل الضغط عليه لتحول دون إعادة الحياة إليه بما يربك تصدير مشاريعها في العولمة، ولهذا السبب خططت لحرب البلقان والحرب في أفغانستان ونفذَّتهما.
كانت كل تلك الحروب من التكتيكات التي استخدمتها إدارة المشروع الرأسمالي العالمي من أجل حصار المنطقة النفطية، واستكملت مخططاتها تلك بالانقضاض على الفريسة الأساسية المتمثلة بالنفط العربي، والعمل على استغلاله بحماية عسكرية مباشرة من دون ما ينغص على الرأسمال الأميركي هضم فريسته.
ولأن العراق هو آخر حبات العنقود النفطي التي امتنعت عن النزول إلى السلة الأميركية، نفَّذت الإدارة الأميركية مخططها باحتلاله.
وكأن مخطط الاحتلال –من وجهة النظر الأميركية- يتحقق بمجرد السيطرة العسكرية النظامية على أرض العراق لأنه بعد تلك السيطرة –كما تحسب- تستسلم إليه إرادة الشعب. لكن لما انطلقت المقاومة العراقية تبيَّنت أمام الإدارة الأميركية الصعوبات، التي وضعتها المقاومة العراقية، فحالت دونها والإمساك بالثروة النفطية العراقية.
وإذا كانت الممانعة العراقية –قبل الاحتلال- قد جمعت من حولها كل أصوات الرفض العالمي والعربي ضد الهيمنة الأميركية، فإن واقع الاحتلال –بعد التاسع من نيسان من العام 2003م- فرض بعض التراجعات على حجم الممانعات الدولية كلها، فراحت الإدارة الأميركية تتصرف وكأنها القيصر الجديد الذي يوزِّع العطايا والهبات و هو الذي يحجبها عمن يشاء، ويمنحها لمن يشاء وكيفما يشاء.
وما إن تمظهرت المقاومة العراقية وتواترت أخبار العمليات العسكرية التي كانت تشنها –منذ العاشر من نيسان- ضد قوات الاحتلال، حتى أخذ ساعد القوى، التي صدَّقت إعلان جورج بوش بانتهاء الحرب بالنصر الأميركي، يقوى. وهي بلا شك استقوت بإنجازات المقاومة، وعادت إلى مواقعها الممانعة السابقة، وخفَّفت من وتيرة غزلها مع القيصرالأميركي. وبهذا تكون المقاومة العراقية قد أعطت الدليل على أنها في مستوى قوي من التأثير على قوات الاحتلال الأميركي، وتكون بذلك قد أسست لمرحلة عالمية وعربية وعراقية جديدة نرى أنها تولد على شتى المستويات.
لقد وقف الضمير العالمي، والضمير العربي –قبل الاحتلال- إلى جانب قضية العراق من حيث كونها تمثل إحدى القضايا الإنسانية المعاصرة، أي أصبحت قضية واضحة تتمثل فيها قيم دفاع المقهور عن نفسه في مواجهة القاهر، دفاع المستهدَف بالاستغلال في وجه القوى التي تريد أن تجعل العالم كله أداة استغلاله.
وإذا كان العالم والعرب والعراقيون –قبل احتلال العراق- قد دخلوا نفق اليأس من إيقاف القطار الأميركي عند حدود، وتوقفت معه حركة تأثير الضمير العربي والعالمي، فإن تمظهر المقاومة الوطنية العراقية قد أحيا من جديد دور ذلك الضمير. وإذا كانت عودة الحياة إليه كاملة تتطلب بعض الوقت، فإن تسريع وتيرة أدائه أصبح مرهوناً بسرعة تحرك النخب السياسية والثقافية والفكرية والإعلامية على شتى المستويات والصعد، ومن إحدى تلك الوسائل أهداف هذا المؤتمر وجهوده الذي تشارك فيه القوى الحية في العالم والأمة العربية.
لقد فرضت القضية العراقية نفسها –قبل احتلال العراق- كقضية إنسانية تمانع، باسم الإنسانية، مشروع العولمة الأميركية. وهي اليوم تفرض نفسها –بعد الاحتلال- كقضية إنسانية تقاوم واقع المشروع الأميركي وتمنعه من تحقيق أهدافه.
لقد فرضت المقاومة العراقية للمشروع الأميركي واقعاً جديداً، يرتِّب لها على الضمير العربي والعالمي حقوقاً، ومن أهم تلك الحقوق هو أن تتسرَّع إعادة الحياة إلى الضمير الإنساني على المستوى العربي والعالمي. ويتم ذلك كما نرى على الشكل التالي:
إذا كانت إدامة المقاومة العراقية رهناً بأيدي العراقيين، ونتاجاً لزنودهم، وهي من الواجبات الوطنية العراقية الرئيسة، فإن إبراز الوجه القومي للقضية العراقية ومؤازرتها ودعمها ومشاركتها رهن بواجبات القوى القومية. وواجب القوى القومية يمثل عقدة وصل أساسية وضرورية لكي تنتقل بواسطتها المقاومة العراقية إلى المستوى الإنساني الرحب، فعليها أولاً وقبل كل شيء أن تعمل من أجل أن تؤكد على تثبيت قوميتها عبر النضال على شتى المستويات الشعبية والرسمية العربية.
إن هذا المؤتمر، بما يمثل من وجه قومي عربي، ووجه إنساني عالمي، إنما يشكل خطوة رئيسة على طريق إبراز المسألة العراقية بوجهها الإنساني العالمي، وهذا يستدعي أن تتميز هذه الخطوة بالاستمرار والتواصل من خلال الإجراءات القابلة للتنفيذ على قاعدة تحديد آلية تضمن المتابعة الجادة الواسعة التأثير، وأن تتميز بالسرعة التي لا تدع المخطط الذي يستهدف ابتلاع العراق يسبقها
إن مخطط الاحتلال يعمل –الآن- جاهداً من أجل ذلك، وعلى رأس اهتماماته –في هذه المرحلة- أن يفرض شرعية المؤسسات السياسية العراقية التي افتعل تشكيلها لتواجه شرعية المقاومة الوطنية، التي يتهمها بكل صفاقة بالإرهاب.
فقبل أن يحصل الاحتلال على الاعتراف بشرعية إفرازاته على أرض العراق في ترسيم مستقبله السياسي والاقتصادي، وهو الذي فشل في تأمين شرعية رسمية عالمية قبل عدوانه، نرى أنه على كل القوى الممانعة أن تعمل -اليوم قبل الغد- من أجل مساعدة المقاومة العراقية على انتزاع الاعتراف بشرعيتها على الصعيدين الرسمي والشعبي في شتى دول العالم.
وفي المقابل نرى أنه على حركة الضمير العربي والعالمي أن يتمظهر بعمل سياسي وثقافي وفكري وإعلامي، وأن تسرِّع خطاها من أجل الضغط –بشتى المستويات النضالية- لإضفاء شرعية سياسية وقانونية للمقاومة الوطنية العراقية –بعد أن فرضت بنفسها شرعيتها القتالية- بما يجعلها صاحبة القرار والتأثير في أية ترتيبات مستقبلية قد يفرزها تطور الأوضاع على الصعيد العربي كما على الصعيد الأممي العالمي.
لكل ذلك نوصي بما يلي:
1-أن يدعو المؤتمر الجماهير العربية للضغط على حكوماتها من أجل الاعتراف بشرعية المقاومة الوطنية العراقية، وأن ينسحب هذا الاعتراف على شتى المؤسسات الرسمية العربية، ويأتي على رأسها جامعة الدول العربية.
2-من مبررات شرعية هذا الاعتراف هو ما نصَّت عليه المواثيق الدولية. كما اعترف القانون الدولي بحق الشعوب، التي احتُلَّت أرضها الوطنية، بمقاومة الاحتلال حتى تحريرها بشكل كامل. وهذا يرتِّب على كل الهيئات الفكرية والثقافية والإعلامية العربية –بشكل أساسي- مهمة كشف التزييف الذي تمارسه الإدارة الأميركية عندما تصف مقاومة العراقيين لتحرير أرضهم بالإرهاب.
3-تجدر الإشارة إلى أن ما ينطبق على المقاومة العراقية، يطول –بشكل أساسي- التزوير الذي يمارسه الإعلام الأميركي –في هذه المرحلة- حول المنظمات الفلسطينية المقاومة.
4-دعوة المنظمات الإنسانية في كل الدول –وبشكل خاص- الدول الأوروبية الممانعة للتفرد الأميركي في حكم العالم، إلى المبادرة بالاعتراف بشرعية قانونية وسياسية وإنسانية وأخلاقية لكل من المقاومتين العراقية والفلسطينية.
***

(22): هل تستفيد الدول المعارضة للعدوان من المقاومة؟
(تلونات المواقف الدولية من القضية العراقية)
نُشر في جريدة الكفاح العربي: العدد 3589، تاريخ 24/ 9/ 2003م
لقد مرَّت المواقف الدولية من القضية العراقية بتلونات متعددة، وكان من ورائها يتلطى منطق المصالح الاقتصادية. وإذا كان لهذا المنطق أن يكون عادلاً فلا بد من أن يساوي بين الدول كل الدول، كبيرها وصغيرها، المتقدم منها والمتخلف؛ وفي مثل هذه الحالة لن نقف بالضد منه.
ابتدأ الاشتباك بين دول المنظومة الدولية، أي الأعضاء الذين يملكون حق الفيتو في مجلس الأمن، على قاعدة الصراع بين شرعية العدوان على العراق أو لا شرعيته. فكان الموقفان الأميركي والبريطاني في وادي العدوان أياً تكن المبررات، لأن قرارهما محكوم بتنفيذ عدوان يراعي مصالح الشركات الكبرى الحاكمة للولايات المتحدة الأميركية؛ بينما كان للموقف الذي توحَّدت من حوله –مع بعض التنوعات التفصيلية- كل من فرنسا وروسيا والصين، مدعوماً بقوة من الحكومة الألمانية، يستند إلى عدة من الأسباب، ومن أهمها:
1-الخوف من أن يحكم العالم قطب واحد، خاصة إذا كان أميركياً، فيتحول العالم كله –ساعتئذٍ- إلى إمبراطورية أميركية محكومة من إمبراطورية الشركات الكبرى، فيصبح مصير العالم كله، من المحيط إلى المحيط، عبداً لنزوات وشبق رأس المال الأميركي، فيُطعم من يريد، ويحكم بالجوع على من يريد.
2-إن عالماً محكوماً بنظام متعدد الأقطاب يعيد للساحة العالمية –إلى حدٍّ ما- عامل التوازن بالمصالح. وهو إطار مناسب للديموقراطية بين الدول.
3-للدول، التي اعترضت على منطق العدوان الأميركي على العراق، ديوناً وعقوداً مع الحكومة العراقية السابقة، وهي تخشى من الاستفراد الأميركي من أن يبتلعها وينكرها عليهم، خاصة وأن هناك سوابق مع الأخطبوط الأميركي اكتوت من نارها.
في ظل هذه الأسباب قاومت تلك الدول الرغبة الأميركية وامتنعت عن تشريع العدوان على العراق، وتكون قد راهنت على خوف الإدارة الأميركية من القيام بحرب قد لا تحظى بموافقة المؤسسات الدولية ذات الصلة. لكن الشبق الأميركي كان المنتصر، فقامت الإدارة بعدوانها مستفيدة من خضوع الحكومة البريطانية لإرادتها. وكانت نتائج الحرب النظامية لصالح قوى العدوان.
في تلك اللحظة وقبلها بقليل، أظهرت دول الموقف الممانع أمنياتها بأن لا ترى الولايات المتحدة مهزومة. وهي قد غطَّت لقواتها جرائم استخدام أسلحة ممنوعة دولياً ضد القوات العراقية في مطار صدام الدولي.
ولما أظهرت الوقائع أن التحالف العدواني قد حقق النصر في الحرب النظامية ضد القوات العراقية، بدأت انحناءات الموقف الدولي الممانع تتمظهر في أكثر من ثوب أو أسلوب، ومضمونه هو العمل من أجل مصالحة مع الإدارة الأميركية على قاعدة أن الله عفا عما مضى. لكن على أن تعترف الإدارة الأميركية بعدد من مصالح تلك الدول في العراق، أي إعطائهم ما تيسَّر من الكعكة العراقية، فوافقت تلك الدول على تمرير قرار مجلس الأمن، الرقم 1483، الذي يعترف بشرعية الاحتلال الأميركي. فكانت نتيجة المساومة في غير صالح القضية العراقية على الإطلاق، ولم تكن –أيضاً- في مصلحة تحالف الدول الممانعة، لأنها كانت مصالحة مع الإدارة الأميركية لكبح المزيد من التدهور في علاقاتها مع عملاق أصبح –بعد نصره العسكري في العراق- إمبراطوراً ينتظر وضع التاج على رأسه.
بعد أن أثبتت المقاومة العراقية –على قاعدة حرب العصابات- فعاليتها ومقدرتها على تنغيص الإدارة الأميركية بنصرها العسكري، وبينما أخذت شكوى المسؤولين الرئيسين في تلك الإدارة تتصاعد من كثرة الخسائر وازدياد حجم التكاليف، أخذت صور المشهد –على صعيد الدول الممانعة للمشروع الأميركي- تتغيَّر باتجاه ابتزاز الموقف الأميركي. وبذلك تكون تلك الدول قد امتلكت أوراقاً قوية في سوق المساومات الدولية. فدخلت –من جديد، على قاعدة الاستقواء بتأثيرات المقاومة العراقية- باشتباك واضح مع المشروع الذي تقدمت به الإدارة الأميركية –في النصف الأول من شهر أيلول-لاستصدار قرار جديد تُسهم –على أساسه كل الدول- بالمال والجنود لرفع العبء عن كاهل الإدارة الأميركية من مأزقها الذي أوقعتها به المقاومة العراقية. وهي تمارس –الآن-الابتزاز الواضح عليها.
ولما لم تصل المساومات –حتى الآن- إلى نهاية واضحة، نرى أن لا بُدَّ أمامنا من أن نلفت النظر إلى الملاحظات والتحذيرات التالية:
1-على تحالف الدول الممانعة أن لا تنسى أن العامل الوحيد الذي فرض لها من جديد كرسياً على طاولة التفاوض / المساومة مع الإدارة الأميركية هي المقاومة العراقية.
2-لا بُدَّ من أن نشكر تلك الدول على مواقفها الممانعة للاحتلال الأميركي للعراق، شرط أن لا يبقى موقفها قائماً على قاعدة المساومات حول المصالح الاقتصادية، بل أن تأخذ بعين الاعتبار ثوابت القيم الإنسانية التي تحرَّكت على أساسها القوى الشعبية الغربية الرافضة للعدوان، وكان من أهمها موقف الضمير الإنساني الذي أعلنه البابا من الفاتيكان.
3-إننا نؤيد قيام عالم متعدد القطبيات يقف بكل جرأة في وجه المشروع الإمبراطوري الأميركي، ويمنعه من الانتشار أكثر. وهو اليوم واقع على الأرض العراقية في مأزق لا يمكن أن يخرج منه سالماً، بل لا بُدَّ له من أن يخرج محترق الأيدي والأرجل بفعل إصرار المقاومة العراقية، ليس على تخليص العراق من مخاطره فحسب، بل تخليص العرب والعالم منها أيضاً.
4-على تلك الدول أن تستفيد من شهادة المقاومين العراقيين الأبطال لتضييق الحبل على عنق الاحتلال الأميركي، ومنع الشركات الأميركية الكبرى من الاستفادة من نفط العراق وثرواته الطبيعية. وهذا أفضل ضمان لمصالح تلك الدول. كما عليها أن تثق بأن ضمان مصالحها لن يمر عبر بوابة الشركات الأميركية العملاقة، وإنما على قاعدة التكافؤ بالمصالح، وخاصة مع دول المنطقة العربية، التي لن تشرب البترول، بل هو سلعة إقتصادية معروضة للبيع وللتبادل التجاري.
5-أن يأخذ تحالف الدول الممانعة قرار المقاومة العراقية على محمل الجد والتطبيق. وقد جاء هذا القرار حاسماً وواضحاً في المنهاج السياسي والاستراتيجي للمقاومة العراقية –الصادر عن قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق (نشرته جريدة المجد الأردنية بتاريخ 15/ 9/ 2003م)، وجاء فيه ما يلي: العمل من أجل»استمرارية المقاومة طالما كان هناك احتلال وبأي صيغة وعلى أي جزء من ارض العراق وبغض النظر عن القرارات الأممية اللاحقة للاحتلال«.
كما كان صدام حسين واضحاً في رسالته الصوتية، التي أُذيعت في السابع عشر من شهر أيلول من العام 2003م، حينما دعا قوات الاحتلال الأميركي إلى الانسحاب من العراق دون قيد أو شرط.
إن الإصرار على استمرارية المقاومة »بغض النظر عن القرارات الأممية اللاحقة للاحتلال«، حتى خروج قوات الاحتلال دون قيد أو شرط، يعني أن أية قرارات يوافق عليها التحالف الممانع من دون النظر إليها بعين واستراتيجية المقاومة سوف تكون حبراً على ورق.
لكل ذلك نحذِّر من أنه قد لا تتوفَّر لدول التحالف الممانع فرصة أخرى تفرض لها كرسياً على طاولة مفاوضات مع الإدارة الأميركية، فعليهم أن لا يفرِّطوا بها، لأنها تصب في مصلحتهم ومصلحة المجتمع الدولي بأكمله.
***

(23): لقاء استنكاراً لإسقاط تمثال ميشيل عفلق
أوتيل الكومودور بيروت 14/ 10/ 2003م
في التاسع من نيسان أسقط الغزاة تمثال صدام حسين، واحتفلوا بإسقاطه مع عدد من اللصوص والخونة. أما في العاشر من نيسان فانتصب صدام حسين في خندق المقاومة مع عشرات الآلاف من الشرفاء والأبطال.
وفي الأول من أيار أعلن الرئيس الأميركي انتهاء الحرب في العراق، وأصدر حاكمُه المدني قراراً حمل الرقم واحد ومضمونه »تطهير المجتمع العراقي من حزب البعث«، فردَّ عليهما الأمين العام للحزب من خندقه المقاوم معلناً قراراً بتطهير المجتمع العالمي من الأمركة.
أيها السادة
لقد ألهت قيادة الغزو الأميركي العالم بإسقاط التماثيل لتخفي عنه أهدافها الحقيقية، ومن أهمها القضاء على كل فكر تحرري يحرِّض على الثورة ضد الاستعمار، وبخاصة التحالف الأميركي الصهيوني، وبدا هذا الهدف واضحاً في قرارات بريمر في تموز الماضي التي تنص على إلغاء كل مظاهر ومضامين »فلسفة حزب البعث« من مناهج الدراسة في العراق.
لقد توهَّم بريمر، بصلف الإدارة الأميركية وغرورها، أنه واصل إلى تحقيق مراميه في العراق، فأدمى شوك المقاومة الوطنية العراقية، أنفه وأنف إدارته باعتراف رامسفيلد. فهم أخطأوا الوسيلة لأنهم أرادوا أن يقضوا على روح الثورة الفكرية بهدم مظاهر تماثيل روَّادها. فأصابوا التماثيل لكنهم أشعلوا نار الثورة الشعبية، واستنهضوا فيها روح النضال.
وبازدياد اشتعال الثورة، توهَّم بريمر أنه إذا هدم نُصُبَ ميشيل عفلق، فيلسوفِ البعث وملهِمِ ثورته، سوف يستأصلَ البعثَ من العراق كما جاء في مضمون قراره الشهير. فترجم حقد إدارته، وحقد عملائها في مجلس الحكم الخياني، بتدمير ضريحه، أما السبب فلأنه القائل: »أمتي موجودة حيث يحمل أبناؤها السلاح«.
لم يستطيعوا اقتلاع البعث من العراق، ولا من غيره، وهم حتماً لن يستطيعوا لأن أبناء أمة ميشيل عفلق حملوا السلاح. وبهذا منع العراقيون، والبعثيون في المقدمة منهم بقيادة الأمين العام للحزب، العدوان الأميركي من تحقيق أهدافه، فتحوَّل رامبو الأميركي –ساعتئذٍ- إلى حاقد مأفون، فقاده حقده إلى تجاوز كل مظاهر الأخلاق والإنسانية فراح يقاتل التماثيل والقبور، واستناداً إليه أمر بتدمير ضريح ميشيل عفلق.
وبهذا تحوَّل الكاوبوي الأميركي إلى دون كيشوت يصارع التماثيل، التي تحكي تاريخ رموز عظماء، أعطوا لمفاهيم التحرر العربي بعداً نضالياً لن يزول ولن يُقهَر. أوَ ليست المقاومة المسلَّحة أعلى درجات النضال؟
بلى أما الدليل فواضح في فلسطين والعراق.

(24): عام 2003م، بعد سقوط بغداد:
هل كان عام السقوط النهائي؟ أم بداية النهوض الفعلي؟
نشرته مجلة الوفاق العربي – تونس في تشرين الثاني من العام 2003م
إن المقصود من الإشكالية التي يطرحها عنوان الملف، ذو علاقة بحركة التغيير على مستوى الأمة العربية. هذه الأمة التي تخوض تجربة مهمة في أدقِّ مراحلها التاريخية، ومن أهم مظاهر تلك التجربة هو اعتبارها أن الصراع مع تحالف الاستعمار الجديد والصهيونية العالمية صراع استراتيجي.
بداية لا يمكن أن نحكم على أن سقوط الأرض تحت الاحتلال هو سقوط نهائي للأوطان، فالسقوط مسألة نسبية ذات علاقة بديمومة الحركة النضالية للشعوب أو جمودها. فما دامت تلك الحركة موجودة فالسقوط لم يحصل. ومن دلائل عدم وقوعه هو أن الصراع بين الأمة وأعدائها متحرك، وحركته الظاهرة مرئية وملموسة من خلال ما يبذله أبناؤها، أو جزء منهم، من فعاليات نضالية في شتى الحقول: الفكرية والسياسية والثقافية، وفي المقدمة منها فعاليات المقاومة المسلَّحة، التي تمارسها بعض تيارات الحركة العربية الثورية.
الساحة العربية متحركة، ولكنها بطيئة في حركتها. ولن يدفعنا بطؤها إلى حدود اليأس. ولأنه عائد فبطؤها عائد إلى عدد من العوامل السلبية: منها الفكري والثقافي والسياسي، يمكن بتسريع السيطرة على تلك العوامل أن نجعل الحركة النضالية أكثر دينامية وفعالية وتأثيراً.
من ضمن تلك العوامل، والتي هي من مسؤولية الحركة الفكرية العربية، تأتي صياغة عدد من المفاهيم ذات العلاقة بموازين الصراع بين الأمة وأعدائها، خاصة منها ذات العلاقة بالجانب العسكري النظامي. أما لماذا الجانب العسكري؟
لقد استندت مفاهيمنا في تقييم نتائج الصراع –حتى الآن- إلى هذا الجانب. ولأنه من الآليات السياسية التي نستند إليها في تعريف مفاهيمنا نعطيه الأولوية بالتقييم من بين العوامل الأخرى. فبالتركيز عليه إنما نقوم بإبراز الآليات الأكثر تأثيراً، في المهمات النضالية ضد الصهيونية والاستعمار، وليس الحصر.
كانت نتائج المعارك العسكرية النظامية، ولا تزال، المكيال التي نقيس –على أساسها- مفاهيم النصر والهزيمة. فمن خلال تجارب الحروب النظامية التي خاضتها الأنظمة العربية كانت نتائجها لغير صالحها، لذا أصبحت منطلقات خطاب الهزيمة هي الرائجة؛ ومنها تولَّد ما يُسمَّى بهاجس الهزيمة، الذي سكن خطاب شتى القوى والأحزاب السياسية والأوساط الفكرية، ومنه تراكم كمٌّ كبير من أدب الهزيمة وفكرها وثقافتها، وسيطر على مضامين الخطاب السياسي العربي، فتأثرت به ثقافة الجماهير الشعبية، وحوَّلتها إلى مجاميع من »الندَّابين« الذين فقدوا ثقتهم بكل شيء له علاقة بالخطاب، السياسي والثقافي، القومي العربي.
إن تجميد الحركة الفكرية والثقافية والسياسية عند آليات مفاهيم التقييم السائدة متأتٍّ من أنها تدور حول نقد الأداء العسكري النظامي، ونقد ما يُلحِق تقصير الأنظمة الرسمية بالأمة من هزائم. ولأن الأنظمة الرسمية لن تستطيع كسب معركة عسكرية نظامية واحدة، لعدة أسباب، فلنعلنها مرَّة واحدة: إن النظام الرسمي العربي كسيح وعاجز ولن يستطيع أن يُنتج الحركة النضالية والتغييرية المنشودة.
ولأن النظام العربي الرسمي ليس المقصِّر الوحيد فحسب، وإنما ميؤوس من تبديل اتجاهاته بشكل يواكب المخزون النضالي للشعوب أيضاً، نتساءل: ما هو البديل؟
ولكي نُسهم في صياغة الحلول، نرى في تقييم التجربة العراقية، بعد سقوط بغداد، ما يساعدنا على ذلك. وبداية نتساءل: هل سقطت بغداد فسقط العراقيون معها؟ وهل سقطت بغداد، فسقطت الحركة النضالية العربية ضد الصهيونية والاستعمار؟ وهل سقطت بغداد وحُسمت نتائج الصراع لصالح الصهيونية والاستعمار الأميركي الجديد؟
للإجابة على ذلك، نعود إلى استذكار بعض المخزون النضالي للأمة العربية؛ فماذا نجد؟
بالأمس سقطت حيفا ويافا والقدس؛ وسقطت الجزائر، وسقط الجولان وسيناء وقناة السويس؛ وسقطت بيروت وصيدا وصور ومرجعيون وبنت جبيل. ولكن على الرغم من ذلك السقوط، رأينا أن حركة الصراع مع التحالف الأميركي – الصهيوني لم تتوقَّف بل استمرَّت ولا تزال.
وإذا كنا قد أعلنَّا هزيمة النظام العربي الرسمي بعد كل تلك السلسلة من السقوط، وروَّجنا لأدب الهزيمة، فإن في استمرار الحركة النضالية القومية، على الرغم من ذلك الإعلان والترويج، ما يثير التساؤل، ويوجب البحث عن السر من وراء ذلك؟
إذا كان من المطلوب أن لا تتوقف قوى الثورة العربية عن نقد النظام العربي الرسمي، فالمطلوب –أيضاً- أن تفتش عن البديل الذي يتوافق مع إصرارها على متابعة النضال؛ و إلاَّ سوف تبقى في قمقم »النقد للنقد«، وسوف تبقى على هامش الحركة النضالية، فتتآكل ويصيبها الاهتراء، وتتجمَّد –كما هي الآن-عند آليات ومفاهيم تجاوزتها التجربة النضالية.
هنا، نستحضر عدداً من العوامل التي أبقت الحركة النضالية مستمرة على الرغم من اليأس من الأنظمة، و على الرغم من الإعلان عن هزيمتها الدائمة:
1-لقد شيَّعنا المراهنة على النظام العربي الرسمي إلى مثواها الأخير، وأعلنَّا هزيمته الدائمة في الحرب النظامية وغيرها من أشكال التقصير. وعرفنا أسباب تقصيره، ولا لزوم للمراهنة في المستقبل القريب على تغيير سحري في أدائه. وأصبح تكرار نقده، على قاعدة أنه المسؤول الوحيد عن الهزائم التي تلحق بالأمة، ليس إلاَّ من قبيل »النقد للندب«، فتصحيح أدائه –في ظل المعطيات الحالية- أصبح بحكم المستحيل.
2-أثبتت التجارب النضالية الشعبية –ومن أهمها المقاومة المسلَّحة- بقيادة تيارات وأحزاب وقوى الثورة العربية، أنها الطريق الوحيد المتاح لضمان استمرار حركة الصراع مع الصهيونية العالمية والاستعمار بوجهيه القديم والجديد، الذي تقوده –اليوم- الولايات المتحدة الأميركية بحلة جديدة ووسائل جديدة ووظائف جديدة.
3-لقد أعلنَّا في الماضي، ونعلن في الحاضر، ونعلنها للمستقبل، أنه لا يمكن أن نستسلم لنتائج الحروب النظامية، إنما البديل هو المقاومة الشعبية التي أثبتت جدارتها في كل معارك العرب ضد كل أنواع العدوان: صهيوني كان أم أمبريالي. ومن الواجب أن نعمِّم –على شتى المستويات الفكرية والثقافية والسياسية- أدب وثقافة وفكر وسياسة المقاومة الشعبية، ومن أهمها وأكثرها تأثيراً المقاومة المسلحة على قاعدة حرب العصابات.
فإذا أصبحت مكاييل نتائج الحروب النظامية لا تصلح لتحديد مفاهيم النصر والهزيمة، فإن مكاييل المقاومة الشعبية الطويلة الأمد هي المكيال الفعلي لتلك المفاهيم. .فيصبح لدينا فكر وأدب المقاومة الشعبية، وثقافتها، بديلاً لفكر وأدب هزيمة النظام العربي الرسمي وثقافته.
واستناداً إلى إثبات فعالية المقاومة الشعبية المسلَّحة، تستطيع تيارات الحركة العربية الثورية أن تؤسس لمفاهيم جديدة فاعلة للنضال، التي تجعلنا نخرج من أسر المفاهيم التقليدية للنصر والهزيمة؛ وعلى أساس تلك المفاهيم تتحمل تلك التيارات مسؤولية إدامة حركة النضالات الشعبية أو تجميدها. وبهذا لن يبقى جدار النظام العربي الرسمي الشمَّاعة الوحيدة التي نلقي عليها كل مفاهيم التقصير والهزيمة. وبمثل تلك المفاهيم تشعر الحركة الجماهيرية، وبكل فرد من أفرادها، أنها تتحمَّل مسؤولية ما، أو جزءاً من المسؤولية، في رفد الحركة النضالية على المستويات الوطنية والقومية.
آخذين بالاعتبار تلك المقدمات، لنتساءل: هل كان العام 2003م –بعد سقوط بغداد- هو بداية السقوط؟ أم بداية النهوض؟
سقوط بغداد، تحت ضغط الآلة العسكرية الأميركية، مترافقاً مع صعود المقاومة الوطنية العراقية يعني أنها لم تسقط، ولم تنهزم أيضاً.
كان سقوط بغداد يعني سقوطاً لنظام عربي آخر. وبصعود المقاومة العراقية، بقيادة الأمين العام للحزب الذي كان على رأس السلطة، ما أثار الحيرة والدهشة. وفي كل ذلك ما يدل على أن في التجربة العراقية شيء جديد ومثير. ففيها تلاحم السلطوي مع الثوري. وهذا مثال لم تعرفه كل التجارب العربية والعالمية أيضاً.
لقد توهَّم الكثيرون أن سقوط بغداد هو هزيمة جديدة للنظام العربي الرسمي، فكالوا الاتهامات –يميناً ويساراً- وكأنهم فقدوا الأمل واستسلموا إلى اليأس من تحقيق نصر، فنعوا –بسقوط بغداد- الفكر القومي، وبشَّروا بنهاية عصر القومية العربية. ولكن…
لم يمر أسبوعان على تاريخ السقوط حتى أخذت أخبار العمليات الفدائية في العراق تصل إلى المسامع، فأخذت بوصولها تتغير الأحكام، وعاد الأمل إلى النفوس، والتقط الكثيرون أنفاسهم، وعاد الأمل إلى نفوسهم. وكلما كانت وسائل الإعلام تكشح التعتيم عن أخبار المقاومة كلما كان الإعجاب يتراكم. فماذا حصل؟ ولماذا انقلب المزاج بالأحكام عند النخب المثقفة –كما عند الجماهير الشعبية- على حد سواء؟
ومن خلال تلك الفرادة نقول بأن سقوط بغداد، وصعود المقاومة الشعبية، هما بداية النهوض، ليس لأن في العراق انطلقت المقاومة الشعبية، فالمقاومة هي تراث قومي تاريخي، ومعاصر أيضاً؛ كانت بدايته –في تاريخنا الحديث والمعاصر- على أرض فلسطين وفي الجزائر، ومرَّت في لبنان، وهي تصل اليوم إلى بغداد.
أما الفرادة في التجربة العراقية فتتمثل بعلاقة السلطوي الرسمي مع الثوري الشعبي، وهي –بلا شك- تجربة جديدة. وقد انبنت تلك الفرادة على أن النظام السياسي في العراق –قبل احتلال بغداد- كان يرتبط بعمق استراتيجي فكري وسياسي، وهو فكر حزب البعث. كان البعض يتوهَّم أن حزب البعث انتهى بانتهاء السلطة، ونعوه ونعتوه، وحسبوا أن تجربة حزب البعث في السلطة شبيهة بغيرها من تجارب الأنظمة العربية الرسمية. فغابت –بمثل هذه الحالة- مساحة ما عن الرؤية. وإن سببه –كما نعتقد- التكاسل، أو التغارض، عن معرفة حقيقة الأمور حول تجربة النظام السياسي لحزب البعث في العراق.
لو قلنا ما سنقوله الآن –قبل ظهور المقاومة العراقية- لاعتبره البعض حكماً متحيِّزاً ومتعصباً. أما شهادتنا وقناعتنا فهي التالية:
حزب البعث حزب للثورة العربية، أما السلطة فهي إحدى أدواته التي يضعها في خدمة الثورة. فلو فقد الحزب السلطة لن ينتهي بانتهائها، لأن مبرر وجوده ليس مرتبطاً بها. وإنما سوف يستمر كحزب للثورة –كما هو حاصل في العراق الآن- لأن طريق الثورة هو طريقه. فهو عندما كان في السلطة استفاد من إمكانياتها وخبراتها ليضعها في خدمة الثورة، وهذا ما حصل –بالفعل- فهو بدأ الإعداد لمرحلة المقاومة الشعبية –قبل الاحتلال الأميركي للعراق- ووظَّفه بعد الاحتلال. فكيف حصل هذا الأمر؟
كانت سلطة الحزب في العراق على قناعة بصعوبة المواجهة النظامية مع الآلة العسكرية الأميركية؛ ولأنه يؤمن بمبدأية ومصيرية المواجهة مع المشروع الأمبريالي، أعدَّ خططاً بديلة للمواجهة العسكرية النظامية إذا ما فُرِضت الحرب عليه. أما البديل فكان الإعداد لحرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد، وهذا كان يتطلب القرار المسبق للخروج من المعارك النظامية في الوقت المناسب، والدخول إلى مرحلة التحرير الشعبية في الوقت المناسب أيضاً.
ولأن الكثيرون كانوا يجهلون هذه الآلية، كان سقوط بغداد السريع لغزاً زرع الحيرة في نفوسهم، وازدادت الحيرة أكثر عندما انطلقت العمليات الفدائية بمثل تلك السرعة التي لم تكن واردة في حساباتهم. فمن يعرف، بوضوح، الفكر الاستراتيجي لحزب البعث يستطيع أن يحل تلك الألغاز بسهولة ويسر، ومن لا يستطيع الإحاطة به، فسوف يبقى اللغز عنده لغزاً.
بمثل ذلك الانتقال، في الوقت المناسب، من وسيلة للصدام إلى وسيلة أخرى، كما فعل حزب البعث في العراق، تكتسب التجربة العراقية خصوصيتها غير المسبوقة في التاريخ العربي والعالمي؛ وهي بإيجاز: إمكانية التوفيق بين متطلبات الدولة ومنطق الثورة، وبتلك الإمكانية زاوج حزب البعث بينهما في تناغم منطقي جدير بالتأمل والدراسة الموضوعية.
وبهذا نخلص إلى الاستنتاج بأن سقوط بغداد يمثل بداية مميزة لتجربة مميزة في تاريخية المقاومة القومية. أما نتائجها فبارزة وهي أكثر من دليل على أهمية أن يكون البديل –في صراع الأمة العربية مع أعدائها- مقاومة شعبية طويلة الأمد. وهو برهان على أهمية أن تخرج الأمة من خطاب الهزيمة، وأن يجدد المفكرون العرب ومثقفوهم في آليات ومفاهيم النصر والهزيمة، وفي مفاهيم وآليات صعود الأمة وسقوطها.
***

(25): المطرقة الحديدية آخر مبتكرات الإدارة الأميركية لإنقاذ ماء الوجه
الكفاح العربي: تاريخ أواخر تشرين الثاني 2003
لما لمست الإدارة الأميركية أن ضربتها الوقائية ضد الإرهاب، كإعلان تريد أن تغطي فيه أهدافها الحقيقية، قد انعكست سلباً عليها في الداخل الأميركي، كما دفعت حلفاءها / ممالئيها من الدول الأخرى إلى تركها وحيدة في العراق »تقلَّع شوكها بيديها«، راحت تغير استراتيجيتها في مواجهة المقاومة العراقية على طريقة المطرقة بعد أن فشلت وسائلها السابقة كمثل »عقرب الصحراء«، و»الأفعى المتسلقة«.
وبعد أن عجزت لسعات »عقرب الصحراء« و»الأفعى المتسلقة« عن عضِّ أحذية المقاومين العراقيين البواسل، توهَّمت –بنصيحة من الموساد الصهيوني- أنها تكسب الجولة إذا استخدمت (هذه المرة) »المطرقة الحديدية« لترهيب الوسط الشعبي العراقي (الذي يحمي المقاومين وييسر لهم القيام بمهامهم) لإحداث شرخ بينه وبين المقاومة.
ولما لمست الإدارة الأميركية (وعلى رأسها بوش الصغير) أن عنترياتها بالقضاء على المقاومة باتت موضع سخرية النادي السياسي الأميركي، كما أصبحت موضع سخرية شعبية، شمَّرت عن زنودها وشربت ليترين من الويسكي وحرَّكت رامبو وأفلتت له الزمام لكي يقصف هنا وهناك، ولكي يخلع أبواب البيوت برفسة (نعم رفسة) من حافره، وكل ذلك ليثبت أنه سوبرمان عصره وفصله، وأنه قادر على زرع الخوف في نفوس الأطفال والنساء، وأنه قادر على اعتقال الرجال مكبَّلين وأيديهم خلف ظهورهم.
لكن بوش / رامبو أميٌّ يجهل قراءة التحدي في عيون »الماجدات العراقيات«، كما يجهل قراءة علامات الاستفزاز التي تظهر في حدقات أطفال المدن والقرى العراقية، ويجهل قراءة المفعول السحري الذي ينتجه تحدي الاحتلال عند العرب العراقيين فيفضلون الشهادة على الخضوع لنير أجنبي غاصب، كما يفضِّلون حرق اللقمة التي يوفرونها ليقروا ضيفهم على أن يسمحوا للصوص أن يغتصبوا تلك اللقمة ليحرموا العالم منها.
فالماجدة العراقية اليوم- ومثالها (كردية تركي علي) مسؤولة عن خلية فدائية في الفلوجة وعناصرها أطفالها الستة. قامت قوات الاحتلال باعتقالها مع أطفالها في 21/ 11/ 2003م)، تنخرط بطواعية وإيمان في شن هجمات عسكرية على قوات الاحتلال، وهي تقبع اليوم في سجون الاحتلال، وتهمتها أنها تقاوم القوات الغازية وتوقع الخسائر في صفوفهم.
مع الحزن العميق الذي يعتصر قلوبنا مما يتعرَّض له الشعب العراقي من ألم ومعاناة، نقول: حسناً فعل بوش الصغير (النبي الكذَّاب) عندما احتلَّ العراق، وهو الذي احتلَّ العالم بأسره (عندما أقنع ضعاف النفوس من العرب، وعندما زرع الخوف عند الدول الكبرى).
حسناً لأن القدر ساق بوش (الذي توهَّم أنه مخلص العالم بفعل تنويم مغناطيسي مارسته عليه الصهيونية العالمية)، فراح يكتوي بنار شعب عراقي متعطش للنضال ضد مشروع العولمة الأميركي الصهيوني. ذلك الشعب الذي قاتل المشروع على الجبهات المصرية والسورية والفلسطينية واللبنانية، الشعب الذي أوصل تعداد جيش القدس إلى سبعة ملايين متطوع لتحرير القدس والأراضي الفلسطينية المحتلة (على الرغم من بعض وسائل الإعلام التي امتدحت مسيرات يوم القدس في العراق، في 21/ 11/ 2003م، مدَّعية أنها تحصل لأول مرة هناك). فكيف لا يقاوم على أرضه وهو الذي كان يقطع آلاف الكيلومترات للتضحية بنفسه، في معظم الأقطار العربية التي تعرَّضت للاحتلال، من أجل أن يفشل مشاريع الاحتواء والهيمنة والاحتلال؟
على من تستخدم مطرقتك يا بوش؟ لقد غرقت في الأوحال، ومطرقتك لن تجد تحت ضرباتها إلاَّ الرمال، وهيهات أن يطحن الحديد حبة رمل واحدة.
وإذا كانت مسؤولية التقصير في ملاحقة المقاومة والقضاء عليها قد دُبَّت في رقبة جهاز المخابرات، وقد صدَّقت الحكومة الإسبانية تلفيقات قياداتك العسكرية، فراحت ترسل ضباط مخابراتها إلى العراق من أجل نيل جائزة الترضية، فاسأل المقاومة العراقية كيف تستطيع أن تصطاد ثمانية منهم –دفعة واحدة- وفي جعبتهم خطط وبرامج اصطياد رجال المقاومة العراقية، فتحولوا إلى صيد ثمين في أيدي الطريدة التي يتربَّصون بها.
وإذا كانت مطرقتك قد فرضت عليك أن تسلك طريق سياسة »ديك الحبش«، فتأتي إلى العراق متسللاً كاللصوص، فانظر كم هي واهية قوة »عقارب وأفاعي ومطارق« إدارتك التي أعماها الغرور، وأغراها الجشع، فنظرت إلى العالم كبيدر يعود ريعه إلى جيوب القياصرة الجدد. فعليك أن تعيد النظر، ليس برجالك لأنهم ينفِّذون من خلالك مشاريعهم ويروِّجون لأفكارهم الحربية، بل بأوهام مشروع أصحاب »القرن الأميركي الجديد«. أفلا يكفيكم مطرقة المقاومة العربية، التي يحملها أبناء العراق النشامى، لتوقظكم من أوهامكم قبل أن تنكسر الجرة الأميركية بعد أن أصابها التصدع الشديد على أرض الرافدين؟
حتماً سوف تفشل مطرقة بوش في تطويع إرادة الشعب العراقي. أما هل يستعيد بوش الصغير ثقة الشعب الأميركي ويعيد الطمأنينة إلى نفوس جنوده المنهارة؟ وهل يعيد الطمأنينة إلى نفوس أهالي الجنود الخائفين على مصير أبنائهم؟ وهل يستطيع التقليل من النعوش التي تصل إلى أميركا؟ وهل يستطيع أن يقلل من عدد الجرحى بين جنوده؟ وهل ستستعيد العيادات النفسية وضعها الطبيعي قبل احتلال العراق؟
كل تلك الأسئلة، التي ينتظر بوش جواباً عليها من مطرقته الحديدية، سوف تبقى عالقة من دون جواب، كما أنها سوف تزداد اتساعاً كلما طال وقت الاحتلال.
أما السؤال الأكثر حرجاً ورهبة وإلحاحاً، هو السؤال/ المساءلة، السؤال / الاستجواب، الذي يرفعه أصحاب الشركات الأميركية عن مصير أموالهم ورساميلهم التي وظفوها في مشروع بوش في العراق.
هنا، تكمن الطامة الكبرى التي يحسب لها بوش ألف حساب. فعلاقته هنا ليست بين شعب مستاء يعبِّر عن استيائه بالكلمة والتظاهرة والرسالة الإلكترونية وبين حاكم أخطأ، ولن يكون الحكم عليه يتمثَّل بإسقاطه في الانتخابات. فعلاقته مع أصحاب الرساميل علاقة المافيات مع عملائها. فسقوطه في التجربة معها يعني موته الحتمي. فانتظر يا جورج الصغير، فحسابك مع أبناء شعبك، ومصيرك متعلق بقرار من المافيات التي وظَّفتك عميلاً لها في إدارة البيت الأبيض.
وإلى أن تتبيَّن إشكاليات الصراع بين صقور البيت الأبيض، وليس على صعيد المواجهة بين الاحتلال والمقاومة الوطنية العراقية لأن نتائجها أكثر من واضحة، فاقرئ من زنود المقاومة السلام إلى مطرقتك الحديدية يا جورج الصغير. واسألها أي مصير آلت إليه »عقرب الصحراء«، و»والأفعى المتسلقة«، وأخواتهما في سلسلة الإرهاب الأميركي على شعب العراق.
***

(26): »الدول الممانعة للحرب التقطت رسالة المقاومة العراقية«:
»المرونة الدبلوماسية لن تمنع الانهيار في العلاقات الدولية«
نُشر المقال في جريدة الكفاح العربي في العدد (3615)، تاريخ 24/ 10/ 2004م،
العضو السادس عشر في مجلس الأمن الدولي: المقاومة العراقية تمارس حق الفيتو بامتياز
على خلفية مأزقها في العراق، وغرقها في مستنقعات دجلة والفرات،
وعلى خلفية اللعنة التي تتميَّز بها بلاد ما بين النهرين منذ آلاف السنين ضد كل الغزاة الذين دخلوا إليها منتصرين عسكرياً،
وعلى مدى أكثر من شهر ونصف الشهر، قدَّمت الإدارة الأميركية إلى الدول الدائمة العضوية مشاريع متواصلة لإصدار قرار جديد عن المؤسسة الدولية يدعم احتلالها للعراق، ويرفع عنها أعباء عسكرية ومالية صرَّحت أنها لا تستطيع أن تتحملها بمفردها.
أخيراً، وفي 17/ 10/ 2003م، صدر قرار عن مجلس الأمن بخصوص القضية العراقية. وحمل القرار رقماً جديداً، هو الرقم 1511. وبذلك انضاف إلى ملف العراق قرار جديد، وهو –الآن- كما القرارات التي سبقته، شيك بدون رصيد.
على الرغم من الموافقة الإجماعية عليه، ومن دون استخدام حق الفيتو من أي من دول التحالف الذي كان ممانعاً للحرب، إلاَّ أنه لم يفك حاجة الإدارة الأميركية –المالية والعسكرية- بل فكَّ حرجها أمام الشارع الأميركي فقط. وهذا –بلا شك- مكسب أميركي سياسي داخلي تكتيكي.
أما الحاجة الأميركية، فلم تُحلّ فحسب، بل تعمَّقت أيضاً. أما المظاهر فهي التالية:
1-إعلان مخاوف من كان مزمعاً المشاركة بقوات عسكرية، كمثل تركيا، من إرسال قوات إلى العراق إذا كان الشعب العراقي لا يرضى بمثل تلك المشاركة (وهو لن يرضى). فيكون قرار البرلمان التركي بالمشاركة –مع إظهار التردد الأخير- ليس إلاَّ لرفع العتب تحت ضغط الإدارة الأميركية وإلحاحها.
وعلى خطى التردد التركي، أعلنت السعودية والباكستان –كحليفين استراتيجيين لأميركا- أنهما لن ترسلا أية قوات إلى العراق.
أما دول أخرى، تحت ذريعة غطاء قرار مجلس الأمن، كمثل سيول واليابان، فقد أبدتا رغبتهما بالمشاركة. علماً أن مشاركتهما، مالاً وجنوداً، لن تنقذ »الزير من البير«.
أما الطامة الكبرى -أمام إدارة جورج بوش- فقد خلَّفها إعلان الدول الكبرى امتناعها عن المشاركة بالجنود والمال.
2-لم تَحُل موافقة الدول الدائمة العضوية –فرنسا وألمانيا وروسيا- دون تغيير مواقفها العملية، وهي التي أعلنت أنها لن تشارك الولايات المتحدة بالمال والرجال. كما أنها أصرَّت على أن مضمون المشروع لم يستجب إلى ملاحظاتها.
وإن كنا نؤيد –تكتيكياً- أسباب تلك الدول التي مرَّرت المشروع الأميركي، والتي غلَّفتها بحاجتها إلى استخدام المرونة الديبلوماسية لمنع انهيار الحدود الدنيا في العلاقات الدولية، إلاَّ أن مواقفنا منها –كعرب يسلكون طريق الثورة في التغيير- لن تكون إلاَّ واضحة بإدانة تلك الدول إذا ما أغرتها أية عروض للإدارة الأميركية في المستقبل القريب (وهي سوف تفعلها من دون شك) في أن تتقاسم معها خيرات العراق، كثمن لفتح أبواب ثكنات جنودها، وفتح أبواب خزاناتها، لمساعدة أميركا بالمال والرجال من أجل إخضاع العراق، وإرغام المقاومة العراقية على الاستسلام.
3-لم توافق المؤسسات الدستورية الأميركية على طلب الرئيس بوش برصد مبلغ /87/ مليار دولار، لتمويل الاحتلال، إلاَّ بشرط أن يكون نصف المبلغ قروضاً يسدده العراق لاحقاً.
فإذا كانت تلك هي ظواهر الأمور، بالنسبة للمسألة العراقية، إلاَّ أن التأثيرات التي ترسم لها طريقها في الصورة الخلفية للمشهد، فهي مواقف المقاومة الوطنية العراقية المعلنة. تلك المواقف التي تؤكد أن المقاومة تمثل المقعد السادس عشر في مجلس الأمن، وهو المقعد الذي أعلن الفيتو. وهذا الإعلان هو حق النقض بامتياز من دون قفازات ديبلوماسية ولا من يحزنون. وقد تمثَّل »فيتو« المقاومة على القرارات الدولية بالمواقف التالية:
-في التاسع من أيلول/ سبتمبر، وقبل الموافقة على القرار 1511، أكَّدت قيادة المقاومة العراقية، من خلال منهاجها الاستراتيجي، على: »استمرارية المقاومة طالما كان هناك احتلال وبأي صيغة وعلى أي جزء من أرض العراق وبغض النظر عن القرارات الأممية اللاحقة للاحتلال«. وبهذا التحديد الواضح، أعلنت المقاومة أنها وحدها تمثل الشرعية الإنسانية ذات العلاقة برفض الاغتصاب، ومنه الاحتلال العسكري لدولة ذات سيادة. ولهذا السبب أعلن المنهاج أن »الأهداف التكتيكية للمقاومة ستعمل لترجيح الهدف الستراتيجي المتمثل بطرد قوات الاحتلال «.
وهي بذلك يترتب عليها جملة من الحقوق والواجبات، رهنت على أساسها خطة عملها على شتى المستويات العراقية والعربية والإقليمية والدولية، ومن أبرزها ما يلي:
-»تحرير العراق والحفاظ عليه موحداً ووطناً لكل العراقيين«. وحول ذلك جاء في بيان قيادة قطر العراق، بتاريخ 8/ 10/ 203م، أن : »التوصيف والمسميات والعناوين في العراق قسمان وليس بينهما من التقاء: وطني رافض ومقاوم للاحتلال (وهم الأغلبية)، أو خائن للعراق ومتعاون وعميل للمحتل)وهم الأقلية(. فلا بد، والحال كذلك من أن »توصف الساحة العراقية الآن بأنها ساحة مقاومة وطنية للاحتلال، تفرز الوطني من غيره، سواء كان فرداً أو حزباً أو صحيفة أو هيئة أو مرجعية دينية أو عشائرية«. ولهذا التحديد موجبات على المقاومة تطبيقها بأنها –كما تستهدف قوات الاحتلال- فهي تستهدف، أيضاً كل عملائه وإفرازاته.
-أما على صعيد النظام العربي الرسمي، فقد حددته المقاومة بوضوح، ومن دون لبس، وحذَّرت أنظمته من تبعات التردد والخوف من اتخاذ مواقف واضحة، لأن: »التعامل العربي الرسمي الأحادي الجانب مع الطرف العراقي غير الشرعي والتجاهل التام للطرف الشرعي الوطني المقاوم، إنما سيرتد سلباً على الطرف الرسمي العربي ومجمل النظام العربي، بما في ذلك الاستقرار في المشرق العربي «.
-أما على الصعيد الإقليمي، فقد بادرت الأطراف المتآمرة والمساعدة في فعاليات العدوان والمحيطة بالعراق بطرح سياسة التعامل مع الأمر الواقع (الاحتلال وإفرازاته)، وعملت على تعميم مثل هذا التعامل على الأطراف العربية الأخرى من خلال تمريراتها في مجلس الجامعة العربية«. ولهذا حذَّرت قيادة المقاومة دول الجوار الأجنبي من أنها تقع في أخطاء استراتيجية بانصياعها للضغوط الأميركية. وهي إنما بتدخلها في العراق، على قاعدة الذيلية للإدارة الأميركية، لن تنال أية جائزة من مواقفها من جهة، وهي سوف تعمل تخريباً في نسيج العراق القومي والوطني من جهة أخرى. ولهذا جاء في المنهاج الاستراتيجي، كما في بيان قيادة قطر العراق: »إن المبادرتين الإيرانية (بالاعتراف والتعامل مع مجلس الحكم العميل) والتركية (بالموافقة على مشاركة القوات العسكرية التركية مع قوات الاحتلال الأخرى)، إنما تؤسسان لقاعدة تعامل متقابلة مبنية على أسس التشكيل والبناء الطائفي والعرقي لمجلس الحكم العميل والوزارات والهيئات المنبثقة عنه بأمر الاحتلال «. ولهذا » تؤكد المقاومة الوطنية العراقية المسلحة على أن تلك المبادرات ستعامل على أنها تطبيقات معادية ومرتبطة عضوياً بواقع الاحتلال«.
ولتلك الأسباب مجتمعة، أوضحت المقاومة العراقية أنها الطرف الوحيد حر التصرف وفقاً لمنهاجه واستهدافه، وبالتالي فان »إمكانيات تأزيم مفردات الإقليم وتوقعات حرق أصابع أنظمة عربية بعينها في تعاملها مع الشأن العراقي« يعتبر من المتطلبات التلقائية لاستمرارية المقاومة في مواجهاتها مع الاحتلال و إفرازاته في معركة التحرير.
-أما على الصعيد الدولي، فقد أكَّدت المقاومة العراقية على أن هدفها الأول توجيه البندقية نحو قوات الاحتلال الأميركي – البريطاني. أما الموقف من الدول الأخرى فإنما تحدده مواقف تلك الدول السياسية من الاحتلال، ومن أهمها رفض مشاركتها في أية صيغة من الصيغ التي تساعد الاحتلال الأميركي على البقاء؛ وإن المقاومة –في مثل هذه الحالة- سوف تعتبر قوات تلك الدول بمثابة قوات احتلال، وسواء كانت عربية أو إقليمية أو دولية. واستناداً إلى كل ذلك، ستتعامل المقاومة العراقية »وفق منظور خاص بها مع كل الهيئات والبعثات الأجنبية التي تتواجد على أرض العراق بفعل الاحتلال، وتطلب منها مثلما فعلت وأمهلت سابقاً بإخلاء مقارها و مغادرة أرض العراق دونما تأخير.«.
لقد التقطت دول التحالف الدولي الممانع للحرب رسالة المقاومة العراقية، وراهنت عليها. وهي وإن لم تتعرَّض لإعلان التقاط الرسالة، فهي اتَّخذت مواقف تتجاوب مع بعض مضامينها، وكأنها بذلك قد اعترفت بدور المقاومة المؤثر فصوتت على الطريقة الدبلوماسية لصالح القرار من دون تصويت عملي: مالي وعسكري. وهذا هو المطلوب تكتيكياً، على الأقل في المدى القصير؛ لكن الاستمرار على هذا التكتيك سوف يفقد تلك الدول قوة التأثير على المدى الأبعد. ونحن نرى أن تحصين الموقف الدولي الممانع لن يتأمن إلاَّ بالاعتراف بشرعية المقاومة العراقية، وترذيل الدعوى الأميركية من خلال وصفها لها بالإرهاب.
وبمثل تلك التأثيرات المباشرة، أو غير المباشرة، لفعل المقاومة الوطنية العراقية، تكون قد احتلَّت المقعد السادس عشر في مجلس الأمن، والمقعد السادس المخصص للأعضاء الدائمين فيه، وهو الصوت الذي يملك حق النقض بامتياز.
***

(27): الإدارة الأميركية تجر الدول إلى سوق المساومات التجارية:
برنامج »العقود التجارية مقابل التواطؤ ضد سيادة العراق«
نشر في موقع المحرر في العدد (162) تاريخ 4/ 12/ 2003م
في سبيل الخروج من مأزقها في العراق، قامت إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش بالتحايل على دول العالم الممتنعة عن مساعدة الأميركيين في السيطرة على المقاومة الوطنية العراقية واحتوائها، بإثارة شهيتهم حول ما يُسمَّى بعقود »الإعمار« في ذلك البلد الذي دمَّرته عدوانية أصحاب »القرن الأميركي الجديد«.
عودة قريبة إلى الوراء نرى صور صقور الإدارة الأميركية الحالية، في أواخر نيسان الماضي، وأوائل أيار، وقد رفع كل من، بوش ورامسفيلد وباول (بعد أن خُيِّل لهم أنهم حققوا في العراق نصراً ساحقاً) قبضات التهديد والوعيد ضد الدول التي مانعتهم من شن الحرب على العراق. في ذلك الحين أكد وزير الخارجية الأمريكي كولين باول أن فرنسا ستتحمل نتائج معارضتها لأمريكا في الحرب على العراق. كما أن مكتب نائب الرئيس الأمريكي ديك تشينى قام بتحركات للمطالبة باتخاذ إجراءات ضد فرنسا. وشارك بول وولفويتز بدعوة إلى تهميش دور فرنسا في حلف الأطلنطي بأكبر قدر ممكن.
لكن، بعد أقل من ثلاثة أشهر، وبعد أن تنامت المقاومة العراقية، تراجعت الإدارة الأميركية عن تهديداتها، وراحت تستخدم أسلوب »الوعد«، بدلاً من »الوعيد«. لكن »وعودها« لم تكن كافية لزرع الاطمئنان عند أحد، وظلَّت الضغوط على واشنطن مستمرة.
أما الآن، ولما »ضاق صدر« الإدارة الأميركية (وكثيراً ما »ينفذ صبرها«)، عادت من جديد لاستخدام »التهديد والوعيد«، مرة أخرى تحت يافطة برنامج »العقود التجارية مقابل التواطؤ ضد سيادة العراق«.
لقد أخرج سحرة »القرن الأميركي الجديد« من أكمامهم أوراق اللعب الاحتياط (وما أكثرها عند المخابرات المركزية الأميركية)، وهي بعض الأوراق الاقتصادية الأمنية، وراحوا –في محاولة لاستغلالها ببراعة التاجر- يرفعونها في وجه الدول الممانعة للحرب ضد العراق، لكي يسيلوا لعاب الشركات العملاقة والتجار العمالقة في تلك الدول، للضغط على دولهم من أجل الاستجابة لدفتر الشروط الأميركية.
بعد العروض الأميركية الأخيرة، (عندما أعلنت أسماء الشركات التي يحق لها في التزام عقود »الإعمار«، وهي ليست إلاَّ استدراج للدول الطامعة بالحصول على قطعة من جبنة العراق)، سال لعاب بعض الممانعين –- كروسيا مثلاً، والدول الأخرى التي راحت تتلهى بتقديم شكوى لمنظمة التجارة العالمية- حينما تناست إدارة الرئيس الروسي بوتين –والدول الأخرى- أنها قبل أن تحتج على التفرد الأميركي بالعقود، كان عليها أن تذكِّر الدول التي تحتل العراق بأن مبدأ الاحتلال مرفوض، كما مبدأ تصدير نماذج عن الأنظمة السياسية وتسويقها على الرغم من إرادة الشعوب مرفوض أيضاً.
وينبري إلى الوقوع في مستنقع التحايل الأميركي كوفي أنان، حينما يستنكر استفراد الشركات الأميركية بالعقود، وهو الذي من واجبه كممثل »للضمير العالمي«، من خلال موقعه كأمين عام لـ»الأمم المتحدة«، بدلاً من تصوير أن العدالة الدولية تنطلق من المساواة بين »الناهبين لثروات العراق« ، أن يركِّز الأنظار على لا مشروعية الاحتلال المنافية لشرعة حقوق الإنسان التي وضعتها المنظمة العالمية التي يتولى رئاستها.
وفي سياق آخر، وعلى خطٍ موازٍ، دخلت الإدارة الإيرانية مع إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش بمساومة أخرى، (ولكن على خط المصالح الأمنية المتبادَلَة)، وهو برنامج »مجاهدو خلق في العراق مقابل معتقلي القاعدة في إيران«. وتجري مفاوضات بين الطرفين، على الرغم من نفيهما، لتبادل المصالح الضيقة على حساب المصالح الإنسانية العامة.
وهكذا تتأكد، يوماً بعد يوم، أن القيم الاقتصادية والتجارية، أخذت تحتل –في العالم الجديد- مكان القيم الإنسانية وتضرب فيها عرض الحائط. فوقفة من ضمير –على الرغم من ضياعه- هي الحلم المنشود الذي علينا أن »نحكَّ على جرحه باستمرار، فلعلَّ وعسى«.
***

(28): أعمال المقاومة الوطنية العراقية تطيح أحلام بوش:
الإدارة الأميركية تبحث عن »كرزاي« عراقي
نُشر جريدة الكفاح العربي بتاريخ 18/ 11/ 2003م: العدد 3636،
هل أصبحت الإدارة الأميركية أمام استحقاق تتخذ فيه مواقف دراماتيكية في العراق؟
لا شك بأن المحافظين الأميركيين الجدد احتلوا العراق ليس لكي يخرجوا منه بسرعة أو بسهولة، وهم على الرغم من أنهم احتاطوا لدفع خسائر في المال والأرواح إلاَّ أنهم لم يتصوروا أن تكون بالسرعة والحجم الذي حصلت في العراق. فكانت المفاجأة هي التي فاتت الحسابات الأميركية. ولهذا فقدت الإدارة الأميركية أعصابها، وترنَّحت قراراتها اللاحقة وتداعت إلى المستوى الذي ذهبت بماء الوجه وكشفت الغطاء عن العنجهية والغرور. فطلبوا النجدة من الدول التي نصحتهم بالامتناع عن المغامرة، وراحوا يراهنون على أدواتهم في الداخل العراقي على الرغم من أنهم اكتشفوا متأخرين أن عملاءهم من العراقيين قد خدعوهم عندما صوَّروا لهم حجم القوة المعارضة التي يمكنها أن تمهِّد لهم الأرض العراقية بما يرضيهم ويحميهم ويسهَّل أمامهم سرقة ثروات العراق، فيملأون بها جيوب الشركات العملاقة، ويحيون للصهيونية حلمها التوراتي من جديد.
بعيداً عن أحلامهم اكتشف المحافظون الجدد أن حساب الحقل العراقي كان بعيداً جداً عن حسابات بيدرهم. وأخذت مواقفهم تنتقل من موقع دراماتيكي إلى آخر. ولم يبق أمام إدارتهم إلاَّ أن تحافظ على رأسها وعلى الحد الأدنى من أحلامها في السيطرة على العالم، وبناء قرن أميركي جديد.
صفعت أعمال المقاومة الوطنية العراقية كل تلك الأحلام، إلى الدرجة التي تدفع بنا إلى الاستنتاج بأن تداعيات مواقف الإدارة الأميركية الدراماتيكية تتوالى فصولاً.
بالأمس استدعت الإدارة بول بريمر، واليها في العراق، إلى واشنطن على عجل. ويظهر من السرعة التي يتحرك بها بول بريمر بين مقره غير الآمن في بغداد وبين البيت الأبيض الذي أصبح غير آمن لرئيسه جورج بوش، أن المقاومة العراقية نقلت صراع القومية العربية ضد المحافظين الأميركيين الجدد إلى داخل صفوف رجالات البيت الأبيض، وإلى صراع بين الإدارة مجتمعة وبين عملائها في مجلس الحكم الانتقالي.
من بعد أن أعلن جورج بوش الصغير انتصاره على العالم كله، بعد احتلال العراق. ومن بعد أن ظهر أنه ولي نعمة عملائه من العراقيين، الذين أنعم عليهم بتعيينهم دمى في مسرحه الأراجوزي آخذاَ قراراً بأنه لن يحتاج إليهم بأكثر من أن يؤمنوا له غطاء عراقياً شكلياً، نراه –بعد أشهر قليلة- يلقي اللوم عليهم ويحمِّلهم وزر الفشل الذي يواجهه في صراعه المرير مع المقاومة الوطنية العراقية.
من النزاع بين رامسفيلد وكولن باول، أي بين البنتاغون ووزارة الخارجية، انتقالاً إلى النزاع بين البنتاغون ومستشارة الأمن القومي (ولكي لا يصبح بعضهم ضحية لبعض، وهم شركاء متكافلون متضامنون في عدوانهم على العراق، وفي الطمع بخيرات العراق وثرواته)، نقلوا النزاع الداخلي فيما بينهم (لأنهم جميعاً سوف يحاكمهم الشعب الأميركي)، إلى مواجهة مكشوفة مع دمى مجلس الحكم الانتقالي، التي عيَّنوها لتحميلهم مسؤولية فشل لا ضلع لهم فيه، ولا دور لهم في رسم مستقبل وطنهم إلاَّ أنهم ركبوا الدبابة الأميركية لالتقاط ما سوف يتركه لهم المحتلون من فتات ثروات العراق وخيراته.
هل نزل الوحي فجأة على جورج الصغير (خاصة وأنه خاض العدوان على العراق كمنقذ كلَّفه الله لإنقاذ البشرية) ليكتشف أن الدمى التي عيَّنها لن تستطيع حتى أن تنجح بعمالتها، فراح يفتِّش عن »كرزاي« عراقي يذلل المصاعب أمامه؟
وهل شرب بول بريمر حليب الشجاعة ليدافع عن دمى مسرحه عند رئيسه، فيطلب إعطاءهم فرصة أخرى ليثبتوا جدارتهم (المفقودة) في حماية قوات الاحتلال؟
نحن لا نحسب أن جورج الصغير مقتنع بأن »كرزاي« عراقي سوف ينقذه من ورطته القاتلة لأحلامه في العراق. ولا نحسب أن بول بريمر يتميَّز بكل تلك الشجاعة. ولكن هناك سبب من وراء إلقائهما قنبلتين دخانيتين. فما هو السبب من وراء ذلك؟
فتبادل الأدوار بين بوش وبريمر هو ما يفسر التصريحين المتباعدين. فكل منهما يريد أن يوجه رسالة / خدعة إلى فريق. فجزء من الرسائل / الخدع موجَّهة إلى الدول المتمسكة بدور للأمم المتحدة توحي لها بأن الإدارة الأميركية ستعطي للمجلس العراقي الصوري الصلاحيات السياسية اللازمة؛ والجزء الآخر –وفي آن واحد- رسالة تطمين للعراقيين ورسالة تهديد للمجلس المركَّب.
وهنا تأتي قنبلة جورج بوش الدخانية بدعوته للتفتيش عن »كرزاي« عراقي، ليست إلاَّ رسالة تهديد لدمى المجلس. وجاء تصريح بريمر وكأنه طلب للشفاعة بهم، أي حثَّهم على الاستشعار بخطورة أوضاعهم إذا تخلى ولي أمرهم الأميركي عنهم، وهم الذين لا ينقصهم من الهموم شيء، خاصة أنهم أصبحوا من المنبوذين من أبناء وطنهم وجلدتهم، فأين المفر؟
فهم –بمثل تلك الحال- مدفوعون إلى الانتحار، وما عليهم إلاَّ الدفاع عن حياتهم ومصيرهم، وليس أمامهم إلاَّ أن يحرسوا الدبابات الأميركية بأجسادهم، ففي انسحابها موت لهم. وهي دعوة لهم ولأنصارهم أن يفعلوا المستحيل من أجل ملاحقة مناضلي المقاومة العراقية بشتى الوسائل والسبل.
ومن جانب آخر نلمس بوضوح حركة الإدارة الأميركية القلقة والمرتبكة، على الصعيدين السياسي والعسكري، نقرأ لهجة الاستجداء الموجهة إلى دول النادي الرأسمالي، وتلك رسالة شبيهة بسابقتها في أثناء مرحلة الحرب النظامية حيث تبارى أولئك الأعضاء بإبداء تعاطفهم ورغبتهم بأن لا يروا أميركا مهزومة في العراق.
إننا هنا نخشى من أن يتأثر أولئك الأعضاء برؤية الدموع في عيون جورج بوش وكوندوليزا رايس ورامسفيلد وكولن باول، فيقدموا على تأمين غطاء سياسي لأية حماقة أميركية أخرى في العراق، شبيهة بذلك الغطاء الذي باعوه للإدارة الأميركية في أثناء مرحلة الحرب النظامية، وبه تلطَّت القوات الأميركية واستخدمت السلاح المحرَّم دولياً ضد القوات العراقية في مطار بغداد الدولي.
إن بوادر الحماقة الأميركية الآن ظهرت من خلال عملية »المطرقة الحديدية« التي تستخدم فيها الطائرات فتحرق بها الأرض وتقتل المدنيين تحت ذريعة ملاحقة مقاتلي المقاومة. وهي بذلك تريد إيذاء المدنيين عن عمد من أجل إرغامهم على التعاون معها للوشاية بحركة المقاومين والكشف عن خلاياهم السرية.
ومن اللافت للنظر أن كشف المسؤولين العسكريين الأميركيين عن أن الثغرة التي يعانون منها والتي تؤخر عملية القضاء على المقاومة هي قصور في عمل المخابرات ومتابعة المعلومات. ولكي يُيسِّر الإعلام الأميركي على الشعب العراقي ويبرز سهولة القضاء على المقاومة فما عليهم إلاَّ أن يتتبعوا نشاط خمسة آلاف مقاوم كما حدد عددهم جون أبي زيد (القائد العام للقوات الأميركية). فالمهمة يسيرة وإذا ساعد العراقيون بالكشف على هؤلاء فإنهم سوف يوفرون على أنفسهم دمار بيوتهم واعتقالهم وسجنهم.
إننا نخشى، هنا، من سكوت قد تمارسه بعض الدول الممانعة، للاحتلال الأميركي للعراق، عما ترتكبه قوات الاحتلال من جرائم بحق المدنيين العراقيين، كجزء من متطلبات المجاملة الديبلوماسية للإدارة الأميركية. كما نخشى أن يزداد التواطؤ نفسه تحت حجة التعاطف مع الحكومة الإيطالية بعد سقوط عشرات من جنودها تحت ضربات المقاومة العراقية، وقد تستمر المجاملات تجاه الدول الأخرى المشاركة في حماية الاحتلال الأميركي على الرغم من تحذيرات المقاومة المتكررة لها.
إن مراهنة الإدارة الأميركية على مجلس الحكم الانتقالي لوضع خطة سياسية وأمنية تساعد القوات المحتلة على تحصين جنودها وحمايتهم من القتل. أو شراء سكوت أعضاء نادي الدول الرأسمالية عن مخطط غير تقليدي يعد الأميركيون لتنفيذه، أو هم ينفذونه فعلاً، ظناً منهم أنه يسهل أمامهم احتواء المقاومة الوطنية العراقية، سوف تكون بغير محلها. ولكن اليائس يتعلَّق بحبال الهواء.
أما عن المراهنة على أدواتهم العراقية، فليس هناك برهان أهم من أن ما فشل فيه السيد الأميركي لن ينجح فيه العميل العراقي. فأصبح المحتل والعميل يراهنان على أن كلاً منهما يستقوي بالآخر، وكلاً منهما يحسب أن على الآخر أن يحميه، فكلاهما علقا بدوامة لن يتخلصا منها على الإطلاق.
فبقاء قوات الاحتلال في داخل المدن العراقية، سيبقيها عرضة لعمليات المقاومة وتدفيعها الخسائر المتواصلة، وهو سبب سوف يزيد من عوامل التحريض الأميركي الشعبي والسياسي والإنساني ضد الإدارة الحالية، وهو ما لا تستطيع أن تعالجه إلاَّ بالمزيد من الانكفاء إلى خارج ساحات المواجهة مع المقاومة، فتترك عملاءها ليقوموا بالمهمة الأمنية لعلَّهم يقلِّصون من خسائر قوات الاحتلال.
أما هؤلاء العملاء فهم أكثر من عاجزين عن القيام بها لأنهم أنفسهم بحاجة إلى حماية، وهذا يعني أن على القوات المحتلة أن لا تتخلى عن عملائها الذين لن يستطيعوا مواجهة المقاومين، وهي سوف تعود لحمايتهم، وهذا يعني أنها ما إن تنكفئ إلى خارج المدن حتى تجد نفسها مجبرة على العودة إليها، أي العودة لمواجهة عمليات المقاومة من جديد.
هل قيادات الإدارة الأميركية بعيدة عن تصور تلك الاحتمالات / الوقائع؟
لا نظن أنها بعيدة. لكن لماذا تطبق حلولاً تعلم أنها لا تحل مشاكلها؟
إنها مراهنات خاسرة، قد تكون بعيدة عن الواقع، ولكن الغريق لا يستطيع إلاَّ أن يفتش حتى عن قشة.
هذا على المستوى المرحلي، أما على المستوى الطويل المدى، خاصة وأن النتائج التي يقدمها الكومبيوتر الأميركي لا تتلاعب بها عواطف الأفراد، وصلفهم، وغرورهم، فقد أنبأ أعضاء الإدارة الأميركية بمراهناتهم الخاسرة.
ومن هنا، نرى أن حسابات الكومبيوتر قد وضعت لإدارة جورج بوش خطة للتخلص من المستنقع العراقي، خطوة خطوة، على قاعدة أن لا تتم تلك الخطوات بسرعة دراماتيكية. لكن نتائج الصراع في الداخل الأميركي من جهة، ونتائج الصراع المعلن بين الاحتلال وعملائه من جهة أخرى (مع استمرارية المقاومة على زخمها) قد تجعل اتخاذ المواقف الدراماتكية أفضل الحلول.
***

(29): ما أشبه الرابع عشر من كانون الأول/ بالتاسع من نيسان/ :
الرد على الشامتين بأسر صدام حسين يأتي من المقاومة الوطنية العراقية
16/ 12/ 2003م
في الرابع عشر من كانون الأول/ ديسمبر، بعد انتشار نبأ اعتقال الثائر الكبير صدام حسين، تشابهت لحظات الألم الشديد التي اعتصرت قلوب المخلصين الذين يهتدون بالخط الثوري مع تلك اللحظات التي أعقبت احتلال بغداد في التاسع من نيسان/ أبريل. كما تشابهت الأحكام المزاجية الجائرة حول المسألة العراقية –مع اختلاف الموقع والنوايا- التي تساوى في إطلاقها الطيبون من أبناء العروبة مع أحكام بعض المثقفين الذين لم يتَّضح لهم خط الثورة وقوانينها، مع أحكام المتواطئين مع مشروع أصحاب »القرن الجديد« في الإدارة الأميركية؛ وتجمع كلها على إدانة صدام حسين وتصوير الموقف الذي كان عليه –كما اعتنت بإخراجه وسائل إعلام الشركات الأميركية الكبرى- بالنعوت التي لا تليق بقادة الثورات الشعبية في العالم.
وكأنه كان على صدام حسين أن يحلق ذقنه كل يوم، وكأنه كان عليه أن يفترش السرير المريح، وكأنه كان عليه أن يضع العطور. وتناسى أكثر المعلِّقين أن عيشة الثوار ليست في المأوى المريح ولا الفراش الوثير ولا الذقون الناعمة ولا الثياب المعطَّرة. هذا مع العلم أن صدام حسين لم يسلم من نقد الناقدين عندما كان –كرئيس للجمهورية- يسكن القصور، وهو يتعرَّض للنقد ذاته –عندما انتقل إلى خندق الثورة- فوُصف الخندق بالجحر. فلم يعجب صدام حسين أولئك لا رئيساً للجمهورية ولا قائداً للثورة، وهو لن يعجبهم على الإطلاق لأن مفهوم السلطة والثورة عند أمين عام حزب البعث العربي الاشتراكي هو غيره عند الناقدين من على مكاتبهم المريحة ومن على فراشهم الوثير ومن أنديتهم، ومن مواقع أكثريتهم المتواطئة على الفكر الثوري الشعبي المقاوم.
إن ما وصفه البعض بالجحر، مقلِّداً الإعلام الأميركي المدروس بعناية ودقة، ليس إلاَّ خندق الشرف للثوار. وما اللحية الطويلة إلاَّ تلك اللحية التي ظهر فيها تشي غيفارا وفيدال كاسترو والجنرال جيَّاب وعمر المختار… وكلهم كانوا من المتوارين عن أنظار القوى التي كانت تلاحقهم لقتلهم أو اعتقالهم. فهذه لحية الضمير الحي، وهو دليل الشرف الثوري الأصيل.
في التاسع من نيسان احتلت القوات الأميركية الغازية عاصمة الرشيد بغداد، فأصاب الثوريون الألم من سقوط العاصمة التي احتضنت أول »مشروع عربي نهضوي« جدي ومخيف لأصحاب »القرن«. وخطورة هذا المشروع النهضوي أنه كان بقيادة وتوجيه من فلسفة حزب البعث العربي الاشتراكي، وعندما يكون أي مشروع محتضن من فكر استراتيجي تناضل من أجله مؤسسة حزبية مناضلة يشكل خطورة شديدة على مشروع الهيمنة العالمية كمثل مشروع »القرن الجديد« في أميركا.
إن في تشابه بعض الزوايا الأساسية في التاريخين المذكورين –الرابع عشر من كانون والتاسع من نيسان- ما يدفع بنا إلى محاولة لإلقاء الضوء عليها من أجل الاسهام في تفسير ذلك التشابه وتلك المساواة في الأحكام.
عندما اتخذَّ أصحاب المشروع الأميركي قرارهم باحتلال العراق كانوا يراهنون على إسقاط عاملين، يحسبون أنهم –بإسقاطهما- يستتب لهما النصر الكامل،وهما:
-الأول: باحتلال العاصمة العراقية تنفتح لهم أبواب النصر العسكري الميداني على جغرافية العراق.
-والثاني: بإسقاط صدام حسين أو قتله أو اعتقاله تنفتح لهم أبواب النصر السياسي على إرادة الشعب العراقي.
فباحتلال العراق جغرافياً يهيمنون على الثروة النفطية (وهو هدفهم المباشر الأول). وبإسقاط صدام حسين ينتصرون بحرب الأفكار التي دعا إليها رامسفيلد. وبها يلغون القاعدة الفكرية الاستراتيجية التي تضمن منع عودة جذوة الفكر الاستراتيجي الذي على أساسه تُبنى مشاريع مقاومة الهيمنة والاستغلال الرأسمالي للشعوب، واستناداً إليه أعلن بول بريمر القرار الرقم واحد في الأول من أيار 2003م، والمعروف بقرار »تطهير المجتمع العراقي من حزب البعث«.
في التاسع من نيسان احتلَّت الجيوش الأميركية بغداد، فأعلن جورج بوش انتصاره، فجاء الرد من المقاومة العراقية ليجبر جورج بوش على التراجع عن إعلانه. وهو –باعترافاته واعترافات إدارته واعترافات أصحاب »القرن الجديد«- أقروا بأنهم أخطأوا فهم الشعب العراقي. وتأكدوا من صحة الثابت السياسي والفكري أن احتلال الأرض لا يعني على الإطلاق احتلالٌ للشعب وإرادته.
نتيجة هذه المعادلة، التي فرضتها المقاومة الوطنية العراقية، تراجعت أحكام الطيبين والصادقين من العرب من أن الحكم على المعركة بين الغزاة »صهاينة الأميركيين« وبين العراقيين المقاومين من النقمة إلى الافتخار والاعتزاز. وحصل التغيير ذاته في أحكام المثقفين العرب المخلصين لقضايا أمتهم، كما فرضت المعادلة نفسها على تغيير في أحكام جوقة الغزاة مع عملائهم.
أما اليوم، فقد وقع صدام حسين في الأسر، وقع بكبرياء وعظمة المقاوم الثائر.
وقع صدام حسين في الأسر، بلحية الثوار المقدَّسة، وكم هو مهيب بتلك اللحية، وكم هو كبير، وكبره أنه طلَّق –طلاقاً بائناً- كل مغريات السلطة من أجل قضيته الوطنية والقومية والإنسانية العادلة. فهو فضَّل خندق المقاومة على قصور الذهب (الأقفاص التي يعيش فيها برغد كل من خانوا قضايا شعوبهم).
لقد وقع صدام حسين في الأسر، وهو يقاتل –جنباً إلى جنب المقاومين الأبطال- بشرف وكرامة. وهذا على العكس مما صوَّرته وسائل الإعلام الأميركية التي كانت تجهد من أجل إبرازه بصورة الذليل، وما هو إلاَّ كبير وعظيم عندما قدَّم الحجة وبلَّغ الرسالة أن خندق النضال هو الطريق الوحيد الذي لا بُدَّ من سلوكه للدفاع عن العراق والأمة العربية، بما له من تأثيرات إيجابية كبيرة وضخمة على مجمل النضال الأممي ضد مشاريع الأمركة في استعباد شعوب الأرض في الهيمنة على ثرواتها وأسر أنظمتها في قصور وبذخ وترف لا دور لها أكثر من ربطها إلى الموائد العامرة بكل ما لذَّ وطاب، تأكل وتشرب وتسمن وتنال ما تشاء من نعم الدنيا وخيراتها، تسبِّح بحمد وليِّها –راعيها ومسمِّنها وولي نعمتها- من دون القيام بأي دور (وهو غير مسموح لها) إلاَّ التوقيع على ما ينصه لها الفرمان الإمبراطوري الأميركي، و إلاَّ النطق بما يكتبه لها أعيان الثقافة والإعلام المنفذين لإرادة وتخطيط الإمبراطور الأميركي »الوقح«.
بعد هذا التطور الجديد، الذي يحسبه البعض (أو يتوهمون أنه مفصلي وحاسم لمصلحة الغزاة المحتلين)، غاب عن أذهان الذين يصدِّرون أحكاماً فيها الكثير من تعسف بعض المخلصين الصادقين من أبناء الأمة العربية، وفيها الكثير من الحقد الذي يمارسه من لم يتخلَّصوا من عقدهم الإيديولوجية السابقة، أو من أصحاب المشروع الأميركي ومن يساندهم ويساعدهم و»يطبِّل لهم ويزمِّر« لقاء حفنة من قطع فضة »يهوذا الأسخريوطي«. غاب عن أذهانهم أن صدام حسين، وإن كان هو ذلك القائد (الوطني و القومي والعالمي) الملهم الذي تنتجه الشعوب في مراحل تاريخية مفصلية، إلاَّ أنه –بإلهام من فكر حزبه- قد أسهم بوضع قواعد ثابتة لمؤسسة حزبية (في العراق وغيره) سوف توفِّر استمرارية الثورة وديمومتها. والمؤسسة –وإن كانت تستلهم من قادتها العظام- فإنها لا تنتهي بانتهائهم. وهذه قيادة الحزب في العراق تبرهن ببيانها الذي أصدرته بعد انتشار نبأ أسر الأمين العام للحزب على ما نقول:
لقد أصدرت قيادة قطر العراق لحزب البعث العربي الاشتراكي بياناً، بتاريخ 15/ 12/ 2003م، تؤكد على استمرار المؤسسة الحزبية في نضالها بدفع المقاومة العراقية للاستمرار بزخم وقوة، قائلة: »إن المقاومة المسلحة الباسلة وعلى هدي من منهاجها السياسي والستراتيجي لن تتوقف أبداً، بل سوف تستمر متصاعدة في خطها المرسوم وفقاً للمتطلبات التكتيكية والاستهداف الستراتيجي المتمثل (بطرد قوات الاحتلال وتحرير العراق والحفاظ عليه موحداً ووطناً لكل العراقيين)«.
إن قيادة الحزب في العراق، مؤكِّدة أنها ستستمر بالمقاومة، وضعت الأمين العام للحزب، سواء كان حراّ طليقاً أو كان في أسر القوات الغازية، في موقعه الصحيح من حركة النضال العامة، قائلة: »إن البعث والمقاومة وكل شرفاء العرب والإنسانية لهم متأكدون من أن الإيمان العقيدي الراسخ، والروح النضالية القوية، والعزة العربية الأصيلة، والشكيمة العراقية الصلبة، والقدرة الشخصية المتفردة سوف تشكل التحدي الكبير الذي سيخوضه الرفيق الأمين العام في معسكر الأسر والذي سيضاف سفراً خالداً جديداً لصدام حسين العزيز على قلوب العراق والأمة وكل تقدمي العالم«.
من هذا الإيمان الكبير الذي تستند إليه قيادة قطر العراق، يأتي الرد الحاسم على كل الأحكام الظالمة، التي جاءت خارج موقع الثورة ومنطق الثوار، وهو الموقف والمنطق الذي سوف يغيِّر كل الأحكام بحق قائد الثورة الكبير صدام حسين، وسوف يدفع بكل القوى المأجورة، إلى اكتشاف خطأ تقييمها بعد اعتقال صدام حسين، وهي لا بُدَّ من أن تكتشف (عاجلاً وليس آجلاً) أنها أخطأت الحسابات مرة أخرى، واستعجلت بإعلانها النصر في العراق بعد ذلك الاعتقال.
إن المقاومة التي خلطت كل الأوراق، بعد التاسع من نيسان، هي ذاتها التي تخلط الأوراق الآن بعد الرابع عشر من كانون الأول. ولن يكون الرد إلاَّ بتقصير فرحة جورج الصغير كما قصَّرتها في السابق.
وإننا عندما نتوجَّه بخطابنا، ونحسب أنه سيكون مجدياً، فإنما هو موجَّه إلى أولئك الطيبين من أبناء الأمة العربية، وأبناء شتى الدول في العالم الذين عرفوا خطورة مشروع أصحاب »القرن العشرين« فوقفوا ضده وحاربوه وهم لا يزالوا مستمرين.
يعمل الآن أصحاب القرن الجديد على إلهاء الرأي العام العالمي، وابتزاز الدول الصناعية للحصول على دعم منها يركِّز استعمار أمريكا للعراق، بمسرحية عنوانها: »الطريقة الفضلى لمحاكمة صدام حسين«. أما صدام حسين فهو كفيل بمحاكمة من سيحاكمونه، وأما المقاومة فكفيلة بتنفيذ حكم الإعدام بكل القوات المحتلة –بغض النظر عن جنسها ولونها- وبعملاء الاحتلال مهما كان مذهبهم ودينهم ولونهم. كما سوف تعمل على فسح صفوف المقاومة لتحضن كل العراقيين والعرب وشعوب الدول غير العربية، وعلى فتح أبواب التوبة أمام المرتدين على أوطانهم وقضاياهم الوطنية والقومية.
إن تعدد الاقتراحات والحلول حول تحديد لون أو هوية من سيحاكم صدام حسين، ليست إلاَّ ملهاة ومضيعة للوقت لأن أية محكمة سوف تقوم بها –هذا إن تجرَّأ جورج الصغير على إحالة قائد الثورة صدام حسين- معروفة اللون والهوية، معروفة المقدمات والنتائج، معروفة الأهداف والمقاصد، وهي تلك المواصفات التي التقطها بيان قيادة قطر العراق في الثالث عشر من كانون الأول/ ديسمبر. وحول كل ذلك جاء في بيان القيادة ما يلي: »أعلن (مجلس الحكم العميل) المعين من سلطة الاحتلال عن تشكيل ما سماه بالمحكمة الجنائية لمحاكمة القيادة السياسية العراقية الوطنية، وهذا القرار الذي "اتخذه" المجلس العميل يعتبر تنفيذا إداريا لقرار سيده ومرجعه الأعلى رئيس سلطة الاحتلال بريمر، الخاص باجتثاث حزب البعث العربي الاشتراكي ومناضليه وأنصاره في القطر العراقي«.
والآن، بعد أسر قائد الثورة والمقاومة، يتسابق خصيان مجلس الحكم العميل في العراق على إظهار شجاعتهم من خلال البدء في تحديد لون المحكمة التي سيُحال أمامها صدام حسين، وهي معروفة عند صدام حسين نفسه وعند قادة المقاومة والتحرير في العراق، وهم قد عرَّفوها بأنها ذات مواصفات من أهمها أنها:
أ-ستحاكم بالنيابة عن قوى معادية.. رجعية وانفصالية وشعوبية وماسونية وإمبريالية وصهيونية مفاصل هامة في تاريخ المسيرة القومية التقدمية لحزب البعث العربي الاشتراكي في القطر العراقي.
ب-محكمة ستدعي وتحاكم نيابة عن الإمبريالية العالمية التي استأثرت ولعقود طويلة بثروات ونفط العراق.. وجاء البعث وأخرجها محرراً الثروة والنفط العراقيين بقرار التأميم الخالد في الأول من حزيران 1972.
وهنا أخذت دول العالم الأخرى، حتى تلك الممانعة للحرب مبهورة بأسر صدام حسين، تسترضى سيدها الأميركي، وكأن أسره قد أنهى الصراع وعقد لأصحاب »القرن الجديد« الصهاينة من الأميركيين. ولم يبق أمامهم فرصة أخرى للتسابق حول اقتطاف حصة لهم من مشروع »إعادة إعمار العراق«، الذي ليس إلاَّ تعبيراً حديثاً للاستعمار الجديد.
وتسابقت كل من إيران –للأسف- والعدو الصهيوني –وهذا شيء طبيعي- إعداد ملف إدانة لصدام حسين ليقدموه إلى أية محكمة سوف تنعقد لمحاكمته. (وهنا ألا يكفي فخراً لصدام حسين وحزبه أنهما متهمان لدى العدو الصهيوني بقصف الكيان المحتل وتمويل الاستشهاديين ضد قوات الاحتلال الصهيوني، هذا ولم يتناس الناطق باسم حكومة العدو أن صدام حسين كان يقدِّم المساعدات والدعم لفصائل المقاومة الفلسطينية، والتي يسميها الناطق بالحركات الإرهابية).
تناسى كل أولئك –وكما حصل بعد التاسع من نيسان- أن الكلمة الفصل هي للمقاومة الوطنية العراقية، ولكل العرب الشرفاء الذين صدقوا الوعد مع الثورة العربية المعاصرة، ولكل الذين يمثلون الضمير العالمي من أفراد ومؤسسات (الذين دوَّى صوتهم عالياً ومستهزئاً –في مؤتمر الحملة الدولية ضد الاحتلال الأميركي الصهيوني، في القاهرة بين 13 و14 كانون الأول الحالي، من إعلان بوش الصغير عن انتصاره في العراق بعد أسر صدام حسين).
***

(30): مطرقة »بوش« الحديدية ذات استهدافات عراقية، عربية، ودولية
نشر في موقع المحرر العدد (160) تاريخ 25/ 12/ 2003م. وموقع البصرة – نت تاريخ 23/ 12/ 2003م. وموقع الكادر بتاريخ 27/ 12/ 2003م. ودورية العراق: في 29/ 12/ 2003م. وجريدة الشعب المصرية: 26/ 12/ 2003م.
منذ أن أعلنت قيادة جيوش الاحتلال في العراق عن بدء تنفيذ خطة »المطرقة الحديدية« ضد المقاومة الوطنية، تبادرت إلى الأذهان أن الخطة كانت ذات أهداف عسكرية سياسية ومعنوية لها خصوصياتها في العراق.
لكن تبيَّن لمتابع مسار الحركة على الصعيد الدولي والإقليمي والعربي، أن ل»لمطرقة الحديدية« أبعاداً تتجاوز خصوصيات الساحة العراقية لتطول ساحات الأنظمة العربية والإقليمية والدولية. فما هي تأثيرات ضرب »بوش« بمطرقته الحديدية على رؤوس تلك الأنظمة؟
إن الهم الأول والأساسي، الذي يؤرق مضاجع أصحاب »القرن الأميركي الجديد«، هو القضاء على أية مظاهر للمقاومة العراقية، سواء تلك التي تضمر، أو تؤمن حتى بالقلب، أن طريق خلاص العراق لن يأتي إلاَّ بالمقاومة –بمعانيها الحقيقية وليست الكاذبة (كتلك التي ألبسها أراجوزات الإدارة الأميركية من عراقيين وعرب لبوس السلم والحوار والاجتهاد…).
لقد انتزعت المقاومة العراقية –خاصة المسلَّحة- اللقمة من فم المتكالبين على ثروة العراق، وانتزعت البسمة العريضة والشامتة عن شفاه الثنائي (بوش – بلير)، بعد الأول من شهر أيار من العام 2003م. وأعادت تهديدات الثلاثي الأميركي (باول – رامسفيلد – كوندوليزا رايس) لدول المنطقة العربية والإقليمية، كما إلى دول العالم التي مانعت الحرب ضد العراق، إلى جحورها صاغرة لتتحول إلى نداءات استجداء للمساعدة.
بعد أن لمس أركان إدارة »القرن الأميركي الجديد« مدى الخطورة وعمق المأزق الذي وضعتهم المقاومة الوطنية العراقية فيه، تبادر إلى مخيلاتهم عظم المصاب الذي وقعوا فيه، كأفراد. وتخيلوا جنائزية المشهد لمسيرة تشييع مشروعهم الخبيث إلى مثواه الأخير. وراحوا يتصورون المأساة التي تنحدر إليها »إمبراطورية الشر الأميركية«، التي على أنقاضها سوف يشيِّع الأميركيون الأحرار، وكل قوى العالم الحر، مشروع أمركة العالم، بحيث تكون جثامين أعضاء الإدارة الحاليين محمولة إلى مزبلة التاريخ.
لقد اختلط الشخصي بالعام عند أعضاء »إدارة الشر الأميركية«، وتحوَّل دفاعهم عن مشروعهم الآثم، إلى دفاع عن أشخاصهم. وفي تلك الحالة سيكون حقدهم على المقاومة العراقية مضاعفاً، وسيفرز هذه الحقد كل أنواع الانتقام ممن كان السبب، حتى لو دفعوا من أرواح الجنود الأميركيين أضعاف أضعاف من هم موجودون في العراق. فلن تعني لهم اعتراضات من يعترض، ولن تعني لهم دموع أهالي الجنود شيئاً، ولن يعوِّلوا على كل نداءات الأخلاق والإنسانية، حتى تلك التي صدرت عن عدد من الكنائس المسيحية، فالهم الأول والأخير، وبعد أن تبيَّن لهم أنهم مقتولون لا محالة، فليكونوا هم القَتَلَة وليس المقتولين.
أولاً: المطرقة الحديدية ضد العراق كله:
لكل تلك الأحقاد الشخصية، استعانت »إدارة الشر الأميركية« بالإيديولوجية التالية:
1-بأساليب ووسائل مخططي العنصريين الصهاينة المسترشدة بما جاء في التوراة (إذا تقدَّمت إلى مدينة لتقاتلها، فادعها إلى السلم أولاً. فإذا أجابتك إلى السلم، وفتحت لك، فجميع الشعب الذين فيها يكونون لك تحت الجزية ويتعبَّدون لك. وإن لم تسالمك… وأسلمها الرب إلهك إلى يدك، فاضرب كل ذكر بحد السيف. وأما النساء والأطفال، وذوات الأربع، وجميع ما في المدينة من غنيمة فاغتنمها لنفسك، وكل غنيمة أعدائك التي أعطاكها الرب إلهك).
2-مسترشدة بنظرية رامسفيلد في »حرب الأفكار« تلك النظرية القائمة على (ضرورة ربح حرب الأفكار بموجب ما يستخدمه بوش من عناصر قوة عسكرية ومالية ودبلوماسية واستخبارية وأمنية. فكسب حرب الأفكار -كما يقصده رامسفيلد- هو تلقين الشعوب الأفكار الأميركية بالقوة).
استناداً إلى الإيديولوجية التي انطلقت منها عملية »المطرقة الحديدية«، التي ابتدأت قوات الغزو الأميركي بتطبيقها في العراق –منذ أوائل شهر تشرين الثاني/ نوفمبر السابق- أعلنت قيادة قوات الاحتلال أنها سوف تستخدم –ما تسميه وسائل الدفاع عن جنودها!!!- في احتواء المقاومة العراقية، أو إنهائها، وذلك على قاعدة »تجفيف المستنقع« الذي تحمي فيه المقاومة نفسها، من خلال:
أ-زرع الرعب في نفوس العراقيين لردعهم، ومنعهم من مساعدة، أو إيواء، أو التستر على حركة المقاومين. وأسلوب الرعب هذا يقتضي استخدام كل وسائل ما تسميه المصطلحات العسكرية الأميركية »بالصدمة والترويع«. ولهذا أعادت الطائرات الحربية إلى ممارسة دورها، وأحيت مدفعيتها الثقيلة. وجهَّزت جنودها (ببساطير/ حوافر) من حديد لكي تكون قادرة على تحطيم الأبواب المغلقة…
ب-لأن الملل قد أصاب جنود الاحتلال، تحت ذريعة أنهم مختصون بالأعمال الحربية، وليس بمهمات البوليس المدني، أعادت خطة »المطرقة الحديدية« الحيوية إلى الجنود من جديد، وأخذوا يجدون ما ينفِّسون به عن غرائزهم »الحيوانية« بالقتل، وتفتيش البيوت بحقد مشوب بغرور العنجهية الأميركية، من دون الالتفاف إلى دموع الخوف والرعب التي تبدو بارزة على وجوه الأطفال والنسوة في مواجهة أسلوب »الصدمة والترويع«، سواء بسبب طريقة اقتحام حرمات المنازل »بنزق مفرط وحيوانية منحطة«، أو بسبب إذلال الشباب والكهلة والشيوخ باعتقالهم بطريقة متشفية، وأحياناً كثيرة مهينة للذوق والأخلاق والأعراف الإنسانية…
ج-توسيع مساحة الاعتقالات لتجفيف المستنقع من العنصر الشاب المؤهل، أو القاعدة الشابة التي تستعين بها حركة المقاومين.
د-جمع كل ما يمكن جمعه من أسلحة، بدائية أو متطورة، أو أية مواد أخرى تكون صالحة لتصنيع سلاح يخدم عمل المقاومين.
هـ-إيهام المقاومين بمصادرة عشرات الملايين من الدولارات لمنع تمويل حركة المقاومة بموجبات ضرورية تسمح باستمرارية العمليات العسكرية.
ز-ملاحقة كل وسائل الإعلام التي تتَّخذ من العراق مقراً لها لمنعها من: نقل المشاهد اللا إنسانية التي يمارسها جنود الاحتلال في قمع الشعب العراقي وإرهابه. أو نقل أخبار العمليات العسكرية التي تنفذها المقاومة الوطنية العراقية. وهذا يندرج تحت عنوان »تجفيف الموارد الإعلامية« التي تنقل حقيقة الوضع الميداني، والغاية منها حجب رؤية الرأي العام الأميركي عن حقيقة ما يجري على الأرض، خاصة ذات العلاقة بالمزيد من النعوش التي ينتظر الأميركيون وصولها بين لحظة وأخرى إلى ذويهم. أو لم يصرِّح أهالي الجنود الذين زاروا العراق، في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي: »إننا نريد عودة أبنائنا أحياء لا أبطالاً«؟؟
و-تجفيف المستنقع من قيادات المقاومة، وعلى رأسهم الرئيس العراقي صدام حسين، توهماً منهم أنهم يؤثرون على المقاومة ويسيطرون على حركتها، أو شلها. وهم أسروه، في 14/ 12/ 2003م، ولكن خاب وهمهم، لأن عمليات المقاومة بلغت (243 عملية) في الأسبوع الذي انقضى على اعتقاله.
أما النتيجة على الصعيد العراقي، فلم تكن إلاَّ زيادة عدد المعتقلين من المناضلين، وإزهاق أرواح الآلاف من النسوة والأطفال والشيوخ من العراقيين المدنيين من الذين يتوجب على قوات الاحتلال –حسب المعاهدات الدولية- أن تحافظ على أرواحهم وامنهم.
أما المقاومة التي استهدفتها »المطرقة الحديدية« فلم تتأثر –أحياناً قليلة- إلاَّ بالدرجة وليس بالنوع. فقد صدرت عدة بيانات من قيادة قطر العراق لحزب البعث العربي الاشتراكي تؤكد على أن المقاومة لم، ولن تتأثر، بكل »المطارق الحديدية« الأميركية والبريطانية والصهيونية وغيرها…
ثانياً: تأثيرات »المطرقة الحديدية« على الوضع العربي:
إذا ميَّزنا، ومن الواجب أن نميز، بين الحركة الشعبية العربية بتياراتها الحزبية المؤيدة للعمل الوطني المقاوم مدعوماً بعمقه القومي، والأنظمة العربية الرسمية، فنحن نعني بتلك التأثيرات ما ينصبُّ منها على بنية الأنظمة الرسمية بمواقفها وأهدافها وعلاقاتها.
لقد انحنى النظام الرسمي العربي انحناءة كاملة أمام ضغط »المطرقة الحديدية«، وظهرت تلك الانحناءة بوضوح تام، ومن غير لبس أو التباس، بعدد من التحركات المشبوهة استجابة للسيد الأميركي.
نقولها بكل أسف أن النظام العربي الرسمي، بدلاً من الاستفادة من زخم »مطرقة المقاومة الوطنية العراقية«، التي وضعت »إدارة الشر الأميركية« في أحرج مواقفها، من أجل الضغط عليها للاستجابة إلى ما يحقق المصلحة العربية، راحت تؤدي دوراً مشبوهاً في فك الحصار عن تلك الإدارة. وإن سرعة حركة بعض أطراف النظام العربي الرسمي وتنوعها وتعدد اتجاهاتها، لدليل واضح على مدى عمق المأزق الذي وقعت فيه إدارة جورج بوش.
فإلى ماذا تشير حركة أحمد ماهر، وزير خارجية مصر، إلى الأرض الفلسطينية المحتلة؟
وإلى ماذا تشير زيارة وفد من جامعة الدول العربية إلى الأرض العراقية المحتلة؟
وإلى ماذا تشير قرارات معمر القذافي المفاجئة، سواء بإعلانه فتح منشآت ليبيا النووية، واعترافه بوقف برامجه لأسلحة الدمار الشامل؟
وإلى ماذا تشير حركة دول مجلس التعاون الخليجي باتجاهات لا تخدم مصالح شعوبها، ولا مصالح أمتها العربية؟
وإلى ماذا تشير حركة التبريك العربية للرئيس الليبي بقراره الشجاع الذي نال إعجاب جورج بوش وطوني بلير، وحاز على رضاهما الكامل؟
وإلى ماذا تشير حالة الصمت العربي، والدولي، الكامل عن منشآت العدو الصهيوني النووية؟ فهل الدعوة الخجولة لنزع أسلحته إلاَّ وسيلة من وسائل الاعتراض الخجولة التي تتناغم مع عمق الديموقراطية الأميركية بالسماح لأصدقائها –من العرب- بحق القول وليس الحق بالعمل؟
ولأننا فقدنا الأمل من أي دور نظامي عربي رسمي في قيادة الأمة نحو الخلاص والتحرر، ووضعنا الأمل الوحيد بما تنتجه زنود المقاومين، فإننا لا بُدَّ من أن نؤشر على رسالة بالغة الدلالة للنظام الرسمي العربي، تلك الرسالة التي بعثها المقاومون الفلسطينيون من القدس الشريف، وحمَّلوها لوزير الخارجية المصري، احمد ماهر.
ولن يكون الرد على تواطؤ النظام العربي الرسمي، وعلى أن هذا النظام لا يملك قرار قبول أو رفض الإملاءات الأميركية، وإنما الرد، بقبوله أو رفضه، يأتي من زنود أبطال المقاومة في العراق.
ثالثاً: على صعيد تأثيرات »المطرقة الحديدية« الأميركية على دول الجوار:
بما لا يقبل الشك، انفضحت مواقف إيران الرسمية تجاه التواطؤ مع »إدارة الشر الأميركية«، سواء من خلال مشاركة الاحتلال الأميركي الصهيوني، سياسياً (بمجلس الحكم العميل)، وأمنياً (التنسيق مع قوات الاحتلال الأميركي بمراقبة الحدود العراقية الإيرانية لمنع تسلل الإيرانيين ذوي النوايا في القتال ضد »الشيطان الأكبر«)… لكن كل تلك التقديمات لم تشفع للنظام الإيراني بالنجاة من سيف تقليم أظافره النووية. فقدَّمها طائعاً، وبما أنه تنازل »للشيطان الأكبر« في جانب، فلا بدَّ من أن تتوالى مسلسل التنازلات الإيرانية، واحداً تلو الآخر. حتى أطماعه الاستراتيجية في العراق، لن تكون إلاَّ سراباً ووهماً، لأن »الإمبراطور الأميركي« لن يرضى بأن يشارك أحداً في مملكته، كما أنه لن يرضى بأن يقف على أكتاف حلفائه الخليجيين ما يزعجهم، كمثل إنشاء كانتون إيراني في جنوب العراق.
أما الجار التركي، فقد ارتاح وأراح من دور فاعل في العراق يصب في مصلحة الاحتلال الأميركي الصهيوني، والسبب هو العائق الكردي الذي لجمه عن لعب ذلك الدور. ولكنه غير مطمئن لما يخططه الأكراد الانفصاليون من بناء كانتون كردي في شمال العراق يهدد البنية السياسية والأمنية لتركيا. وهذا ما سوف يُدخله في صراع غير مباشر مع الأطماع الكردية الانفصالية. وكي لا ترتبك خطة »المطرقة الحديدية« الأميركية، فهي تجمِّد الصراع التركي – الكردي عند حدود حرية الكلام للطرفين معاً من دون ترجمتها إلى صراع فعلي على الأرض.
رابعاً: تأثيرات »المطرقة الحديدية« الأميركية على مواقف الدول الكبرى، خاصة تلك التي مانعت الحرب الأميركية ضد العراق:
إن صورة العلاقة الآن بين »إدارة الشر الأميركية«، بعد تعاظم دور المقاومة العراقية، مع الدول الكبرى، وعلى وجه الخصوص: فرنسا وألمانيا وروسيا، شبيهة بتلك التي نشأت في أوائل شهر نيسان/ أبريل من العام 2003م.
مانعت الدول الثلاث الحرب الأميركية ضد العراق، ولما وقفت قوات الغزو مرتبكة أمام المقاومة النظامية العراقية، أعلنت »إدارة الشر الأميركية« أنها ستؤجل تقدمها نحو بغداد إلى أسبوعين على التقريب، وإلى حين وصول الفرقة (101) إلى جنوب العراق، بعد أن تعثَّر دخولها عن الطريق التركي.
تزامن القرار الأميركي مع حركة قامت بها كوندوليزا رايس تجاه أوروبا، كان من أهم نتائجها إعلانات صدرت عن سياسيين من تلك الدول يذكِّرون فيها أنهم »لن يكونوا سعداء أن يروا القوات الأميركية مهزومة في العراق«. إننا نتذكَّر تماماً انقلاب مشهد المأزق الأميركي العسكري النظامي إلى عودة لاستئناف الحركة العسكرية تجاه مطار صدام الدولي. وما تلاها من تطورات عسكرية دراماتيكية غامضة، تبيَّن على أثرها أن هناك قراراً دولياً توافقت عليه دول الحرب مع الدول الممانعة للحرب، وتأكَّدت معلومات استخدام سلاح أميركي غير تقليدي في إبادة قطعات عسكرية عراقية بكاملها في محيط المطار، دفع بالقيادة العراقية إلى اتخاذ قرار الانتقال من مرحلة الحرب النظامية إلى حرب التحرير الشعبية.
أما الآن، فقد اتَّخذت »المطرقة الحديدية« الأميركية أهدافاً باتجاه الضغط على الدول الممانعة للحرب (وهي خاضعة لضغط شركاتها الكبرى)، عندما استثارت شهيتهم بمشاركتهم في ما سمَّته تزويراً إعادة »إعمار العراق« (الذي ليس إلاَّ تخفيفاً للاستعمار). فإذا بالدول الممانعة تعلن صلحاً مع »إدارة الشر الأميركية« وتتعدد وسائل الغزل بالعلاقات التاريخية الإيجابية بين تلك الدول. وراحت التصريحات تتكاثر، خاصة بعد أسر الرئيس صدام حسين، ليستعيد أقطاب التحالف الرأسمالي، الأوروبي – الأميركي، أنفاسهم وهم ينتظرون تقسيم الكعكة العراقية، بعد أن شُبِّه لهم أن الوضع في العراق أصبح تحت السيطرة الأميركية بعد اعتقال رئيسه.
خامساً: في النتائج:
لن يكون حساب البيدر الأميركي مطابقاً لحسابات حقلهم. فكما كان صوت المقاومة هو الرد الحاسم على النصر الأميركي النظامي بعد التاسع من نيسان/ أبريل، سيبقى هو الرد نفسه في هذه المرحلة، خاصة وقد أعلنت قيادة قطر العراق، في بيانها بتاريخ 20/ 12/ 2003م، أن »البعث والبعثيون يعيشون مرحلة نضالية من نوع خاص، ترقى إلى مرحلة البطولة... وقد تصل ببعضهم إلى مرحلة الشهادة أو الأسر، وخيارات البعث معروفة وواضحة وغير مرتدة، وهي خيارات المقاومة المسلحة والاستشهادية في سبيل المبادئ وفي سبيل الوحدة وفي سبيل تحرير العراق وتحرير فلسطين«.
إن مثل هذا الإصرار المبدئي، المدعوم باستمرار المقاومة على الرغم من ضخامة وأذى »المطرقة الحديدية«، و على الرغم من أن الجنود الأميركيين يستعجلون إنهاء مهمتهم القذرة ليعودوا إلى بلادهم، فإنهم يجدون أنفسهم عاجزين عن »تجفيف المستنقع«، لأنه محيط كبير ترفده كل يوم الطاقات النضالية للشعب العراقي بشتى أطيافه السياسية الوطنية، وهي إما تقف في صف دعم المقاومة المسلحة، أو تنخرط فيها بتقديم الشهداء على درب التحرير.
إن سياسة التنفيس عن ملل الجنود الأميركيين بإعادتهم إلى ممارسة دورهم القتالي، ستعود وبالاً على الإدارة الأميركية لأن هذا الجندي، الذي عاد إلى القتل والترويع وارتكاب الجرائم البشعة بحق الأطفال والنساء، لن تمر من دون آثار نفسية بالغة السوء على وضعه النفسي والأخلاقي، السبب الذي يضعه على طريق التمرد على قيادته لأنه سيصاب بالملل والقرف من ارتكاب كل تلك الجرائم. وإن بداية ظهور مثل هذه الحالات قد ألمحت إليها بعض الصحف الفرنسية، والتي ألمحت إلى ظهور بدايات من التمرد أخذت تظهر بين صفوف الجنود الأميركيين. فمن النتائج التي ستولِّدها خطة »المطرقة الحديدية«، هي حالة استياء جديدة وأكثر عنفاً سوف تتمظهر في مطالبة الجنود الأميركيين بالعودة إلى بلادهم، كما أن مناظر العنف سوف تعيد إلى أهالي هؤلاء الجنود حيويتهم بمطالبة إدارة بلاده بعودة أبنائهم أحياء، وأسوياء، بدلاً من عودتهم أبطالاً تتآكلهم الأمراض النفسية والأخلاقية. وماذا ينفع »جورج الصغير« إذا فشلت خطته، وهي سوف تفشل، أو هل من المعقول أن يصنِّع –بعد- مطارق أشد وقعاً من مطرقته التي يستخدمها في هذه المرحلة؟!!
وإذا كان التعتيم على أعمال المقاومة العراقية، بعد أسر الرئيس صدام حسين، قد أعاد الحيوية للدول المساهمة في العدوان، والتي أخذت تتردد في إرسال جنودها إلى العراق، فسوف تستعيد –بعد إبطال مفاعيل »المطرقة الحديدية« الإعلامية- وعيها لترى أن لحظات السراب في أمل استعادة »إدارة الشر الأميركية« المبادرة في العراق ليس فيها ما يطمئنها إلى مشاركة جنودها على أرض سوف يعيد أهلهم أولئك الجنود إلى دولهم في نعوش خالية من القيم الأخلاقية والإنسانية.
أما الدول الممانعة للحرب، والتي توهمَّت أن أسر الرئيس العراقي قد أنهى حركة الصراع في العراق، سوف تجد نفسها أنها كانت عاجزة عن فهم قوانين الثورات الشعبية التي يطلب فيها أبناؤها الشهادة من أجل تحرير أرضهم الوطنية وشرفهم الوطني. بل سوف تعيد وسائل الإعلام الشريفة في دولها صورة بطولات المقاومة العراقية، وسوف يرون أن النعوش التي تعود إلى أميركا وبريطانيا، والدول الصغرى التابعة لهما، ستتصدَّر نشرات الأخبار التي لن تنفع »مطرقة بوش الحديدية« في منعها من القيام برسالتها إلى الأبد. وهذا ما سوف يثير في وجهها زوابع الرأي العام الإنساني في شوارعهم الوطنية، وحينئذٍ لن تتأثَّر كثيراً بضمائر أصحاب الشركات الوطنية التي ضغطت عليهم بأن يلحقوا نصر »المطرقة الحديدية« الأميركية الموهوم والتي قد تجعلهم »يخرجون من المولد بدون حمِّص«.
أما موقف الفرح المؤقت الذي كسبه »جورج الصغير«، والذي لم يستمر أياماً معدودة، فسوف ينقلب عليه وبالاً عندما يرى نفسه عاجزاً من جديد أمام استمرار المقاومة العراقية وتناميها. وأمام تأثيراتها على استعادة المبادرة من جديد في التأثير على جنود الاحتلال، أو في التأثير على لجم حركة بعض الأنظمة العربية المتسارعة لخدمة أوامر »السيد الأميركي«، كما أن حركة الدعم الثانوي للدول التابعة للشركات الأميركية سوف تعود إلى سياسة التردد في تقديم دعمها. وتسري النتائج نفسها على مواقف الدول التي كانت ممانعة للحرب.
وإلى أن يجد »جورج الصغير« مطرقة جديدة، فعلى مشروع »القرن الأميركي الجديد« اللعنة والعار.
***

(31): المرجعية الشيعية في العراق أخذت تفقد أهميتها
منذ أن تمزقتها التيارات السياسية الشيعية الأممية
نشر في المواقع التالية: المحرر: العدد (161): 29/ 12/ 2003م. والبصرة –نت: في 29/ 12/ 2003م. والكادر: في 30/ 12/ 2003م. والوحدوي – نت (اليمن): في 31/ 12/ 2003م. والتجديد العربي: بتاريخ 2/ 1/ 2004م.
إن اتجاهات الفكر الديني السياسي، من موقعها الأممي، عند التيارات السياسية الدينية، تتجاوز الحدود الوطنية والقومية وتعتبرها سجناً لما تحسب أنه رسالة إلهية، وتكليفاً شرعياً.
لقد اعتقدت الأديان السماوية أن أرضها هي الأرض قاطبة وأن رسالتها إنسانية موجهة للعالم بأجمعه. وظلَّت أمينة لمبادئها في تصدير أحكامها إلى العالم على قاعدة الحدود المفتوحة أمام الإمبراطوريات القديمة، بحيث كانت حدود الإمبراطورية هي تلك النقاط التي وصلت إليها الجيوش الفاتحة أو الغازية. ولما انبنت الحدود القومية في العصر الحديث لم تكن موضع ترحيب من حملة الدعوات الدينية.
لم تواكب البنى الفكرية الدينية التطور الجديد الذي تمثَّل بعصر القوميات، وأجمعت معظم التيارات السياسية الإسلامية على الاعتقاد بأن القومية » ما وُجِدت إلاَّ لمحاربة الإسلام«. وهذا السبب هو الذي أحدث جملة من التناقضات بين المشاريع السياسية القومية والمشاريع السياسية الدينية والمذهبية، وهو السبب الذي أوقع أصحاب الأصوليات الدينية في غربة عن عصرهم، وهو الذي وضعهم في دائرة الصراع بين الأصولية (بمعنى التجميد) والقومية (التجديد). فتاهت المشاريع الأصولية الدينية وراحت تحتفل في كل مرة يسقط فيها مشروع قومي، سياسي أو فكري، أو يصاب ببعض التراجع.
عندما نتكلم، هنا، عن البنى الفكرية الدينية، فلا نقصد –نظرياً وعملياً- إلاَّ تلك البنى المذهبية ذات الأهداف السياسية، بحيث اختصر كل مذهب أصول الدين التوحيدية بنفسه، فكراً وممارسة.
وعندما نقدِّم لمقالنا تقديمات عامة، فإنما لندل على أنه لا مشروعاً مذهبياً –في هذا المجال- يتميز عن مشروع مذهبي آخر. فالكل، في طبيعة أهداف المشروع الديني والمذهبي السياسي، واحد.
وأما تخصيص التحليل حول المذهب الشيعي، فليس إلاَّ لإلقاء الضوء على جزء من الكل أولاً، ولأن المسألة الشيعية، في هذه المرحلة، ذات علاقة وثيقة بالصراع الذي يجري على الساحة العراقية ثانياً.
كمثل جميع الأصوليات الإسلامية (وهي أصوليات متعددة المذاهب والمشارب) دخل فقهاء الشيعة في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي –انطلاقاً من الحوزة العلمية في العراق- في معترك الصراع بين أممية المذهب أو قوميته، على قاعدة بناء دولة دينية شيعية تتميز بوجهها الأممي وتتجاوز قيود الحدود الوطنية والقومية.
أثمرت الحركة الفكرية السياسية الجديدة نجاحات واسعة منذ أن انتصرت حركة رجال الدين الشيعة في إيران، بقيادة الخميني. منذ تلك اللحظة انتقل المؤثرون في تعيين المرجعية الشيعية إلى حالة من الصراع، الخفي (في مراحله الأولى) والمعلن (في مراحله اللاحقة والحالية)، بين أممية المرجعية أو قوميتها. وراح كل منهم يدلي بأسبابه وبراهينه. ولم يتوصَّل الطرفان إلى ما يجمع بينهما حتى هذه اللحظة، بل تزداد الهوة بينهما من يوم لآخر.
وعلى خلفية قاعدة الصراع تلك تأثرت الحركة المذهبية الشيعية السياسية الناشطة في الوسط الشيعي العراقي اليوم، وهي مشاركة للاحتلال في إدارة العراق، أو من المهادنين له، وما يحدد لهم تلك الخيارات المُسْتَغرَبة ليس إلاَّ أنهم اختاروا أممية المذهب على وطنيته وقوميته. وشكَّلت تلك المواقف ضغطاً على المرجعية الشيعية في النجف، فتأثرت بها مواقفها، فبدا –في كثير من الأحيان- وكأن تلك المواقف مشوبة بالغموض والتردد. وهذا ما لم تعان منه تلك المرجعية في أي مرحلة من المراحل. خاصة في كل ما له علاقة بالاحتلال واغتصاب الأرض.
فبين التيارات السياسية الشيعية المتعاونة مع الاحتلال، وتلك المهادنة من غير مشاركة، يقف، قسم كبير من الشيعة العراقيين، خارج تلك الدائرة لأنه حسم خياراته إلى العمل على قاعدة المواطنية والانتماء القومي، ووضعهما في المقام الأول على أي ارتباط آخر، تاركاً مسؤولية ترتيب البيت الشيعي دينياً لفقهاء المذهب. وهذا القسم أخذ يعبِّر عن قناعاته بتأدية واجب القتال ضد قوات الاحتلال الأميركي البريطاني.
ولكي تتوضَّح صورة الوضع الشيعي الراهن في العراق، علينا المرور بما كانت عليه العلاقة بين المرجعية الشيعية في النجف وبين مختلف السلطات السياسية.
بالأصل، ومن خلال الأصول الفكرية المذهبية الشيعية، لا يجوز للشيعة الإثني عشرية أن ينخرطوا في أي عمل سياسي أو سلطوي إلاَّ بعد ظهور »الإمام المهدي المنتظر«. وخلافاً للأصول الفكرية نبتت فكرة فقهية بين عدد من فقهاء الشيعة تنظر إلى الأصول بعين التطوير نظراً لطوباويتها. فأجازوا العمل السياسي للفقهاء؛ وتلك كانت من أوائل الأفكار التي وُلِدت منها مبادئ »ولاية الفقيه«.
ولما وصل حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة، كانت العلاقة بين نظام البعث والمرجعية الشيعية تقوم على أساس أن تتدخَّل الدولة في منع الأهداف اللاقومية من أن تتعمَّق، وتترك ترتيب شؤون المذهب الدينية الداخلية للمرجعية الدينية في النجف. وهذا ما أقام الدنيا ولم يقعدها عند الأمميين من الأصوليات الشيعية، فانحازوا إلى إيران في مواقفهم على أساس أن الأولوية عندهم تقوم على نصرة المذهب على حساب نصرة الوطن والقومية. وانخرطوا في صراع مع السلطة في العراق مدَّعين أنها تحرم الشيعة من حقوقهم لسبب واحد وهو اتجاهاتها العلمانية.
وفي سبيل إثبات، ما اعتبروه، لا عدالة النظام تجاه الشيعة راحوا يروِّجون لمقولات إبعاد الشيعة عن حقوقهم في السلطة، تلك الحقوق التي تقوم –حسب اتجاهاتهم السياسية- على قاعدة توزيع الحصص على قاعدة مذهبية، وهي القاعدة ذاتها التي يشكو من قصورها اللبنانيون، لأنها تؤمن مقاعد للنخب السياسية في الطوائف من دون أن تأخذ المصالح الشعبية بعين الاهتمام. فما يرفضه اللبنانيون (من شتى المذاهب والأديان) يعتقد الشيعة العراقيون –كما يعتقد به كل أصحاب المشاريع السياسية من المذاهب الأخرى- فعساهم يتعلمون من تجربة اللبنانيين، وعساهم يوضحون بدون لبس ماذا يريدون؟
وإذا كان الصراع بين السلطة وبعض التيارات السياسية الشيعية يدور على تلك القاعدة، فما هو الذي يفسِّر طبيعة الصراع اليوم- في ظل الاحتلال الأميركي للعراق- بين العديد من التيارات الشيعية نفسها. فهم من مذهب واحد، ويحسب كل تيار منهم أنه معني بالدفاع عن مصلحة الشيعة، وإذا كانوا يحسبون أن مصلحة المذهب تستند إلى منطلقات مذهبية دينية، فهم جميعاً من المنتمين إلى المذهب الشيعي، وهذا ما يثير الاستغراب والتساؤل حول خلفيات صراعاتهم!!
فهل هناك سبب آخر غير الأهداف السياسية التي تحكم مساراتهم وعملهم؟
إن المراقب والمتابع والملاحظ لدموية الصراع –بين تلك التيارات- يصاب بالدهشة والاستغراب، وليس أمامه إلاَّ أن يضع في حساباته كل الاستنتاجات إلاَّ مصلحة الشيعة.
تكتَّلت –في ظل المرحلة السابقة- بعض التيارات السياسية الشيعية ضد النظام السابق، واتهمته بشتى التهم التي حسبت أنها تبرر لها لا وطنيتها ولا قوميتها عندما استقوت تارة بالخارج الإيراني وتارة أخرى بالخارج المخابراتي الأميركي والبريطاني.
هنا لا بُدَّ من أن نعيد التذكير بالموقع المهم الذي كانت تحتله المرجعية الشيعية في النجف ما قبل الاحتلال، وهي نظرة تختلف كلياً عن الذي يتم الترويج له الآن. ويقود حملة الترويج تلك كل أولئك الدعاة لموالاة المذهب على حساب الموالاة للوطن، وهذا ما دفعهم إلى الوقوع في أخطاء كبيرة عندما تبلبلت مواقفهم وارتبكت من الاحتلال الأميركي للعراق. أما أولئك الذين يعيشون عصرهم، عصر القوميات والوطنيات، فقد حسموا خياراتهم بشكل واضح، ومن دون لبس، وأظهروا حرصهم على المذهب عندما أثبتوا حرصهم على الوطن، وهم –بلا شك- المفلحون والصائبون.
ومن هنا نقول صادقين إلى كل أولئك الذين أخطأوا السبيل في تقييم الأمور على الساحة العراقية: لا يمكن الدفاع عن الدين، أو المذهب، بصدق إذا لم تدافع عن الوطن بصدق. فالاحتلال للأرض هو احتلال للمذهب أيضاً.
إن مَثَل التيارات السياسية الشيعية في العراق، ذات المنطلقات اللاقومية، كمَثَل جماعة »التكفير والهجرة« المنبثقة عن حركة الإخوان المسلمين. وهم يتشابهون بالموقف اللامبالي من أي احتلال أجنبي لأرضهم الوطنية، لأن الدفاع عن الوطن –في ظل أنظمة يحسبونها كافرة- ليس قتالاً إسلامياً بل هو دفاع عن أنظمة لا تحكم بما أنزل الله. وهم –كما يدَّعون- يبتعدون عن مقاومة الاحتلال، حتى إذا ما استقر الأمر له يعودون إلى قتاله لتحرير الأرض؟!!
فهل بوسع أي تيار مهادن للاحتلال الأميركي، ومنها التيارات السياسية الشيعية المنخرطة في ما يُسمَّى »مجلس الحكم الانتقالي«، خاصة بعد أن يستقر الواقع للاحتلال الأميركي، أن يقاوموه؟
نحن هنا، لا نشك بأن من يراهنون على إنسانية وديموقراطية العدو الأميركي، هم مقتنعون بالفعل بواقعية مراهنتهم، لكنهم هم في الموقع الذي يضيِّع الوقت، وهم واصلون بدون أدنى شك إلى اختيار طريق المقاومة بشتى وجوهها، بدءًا من رفض التعاون بما يسهِّل للاحتلال استقراره على الأرض انتهاءً بأعلى درجات المقاومة وأقدسها، وهي المقاومة الشعبية المسلَّحة. فعلى كل المراهنين على ديموقراطية الاحتلال أن يبادروا للبدء بسلوك الطريق الصحيح والأكثر تأثيراً في طرده عن كل الأرض العراقية. ومن لم يستطع أن يؤدي واجبه على تلك الطريق، عليه أن لا يعترض كل من يقاوم العدو مهما كانت اتجاهاته الفكرية والدينية، وأن لا يشي به وأن لا يقوم بملاحقته، وأن يغض الطرف عن عمله، وهو أضعف الإيمان.
إن المرجعية الشيعية في العراق، مدعوة –قبل غيرها- إلى الانتفاض على الواقع السياسي الذي يربك الشيعي في هذه اللحظة. وأن لا يغيب عن بالها أن العيش في ظل نظام سياسي وطني وقومي، هو ما يحفظ لها مكانتها ويسهِّل لها القيام بواجباتها الدينية، كما أنه هو المؤهل وحده إلى المحافظة على حرية شتى الأديان والمذاهب على قدم المساواة من دون أي تمييز. وهو الأقدر على محاسبة المواطنين كل حسب عمله تجاه مجتمعه الوطني التعددي وليس حسب انتمائه الديني أو المذهبي أو العرقي. ولعلَّ الموقع الحرج والصعب الذي وضعت فيه التيارات الشيعية والسياسية والاقتصادية مرجعيتهم الشيعية في العراق هو أبلغ درس يدفع المرجعية إلى أن تلعب دوراً موجِّهاً وحاضناً، لا أن تخضع لتوجيه هذا أو ذاك من تلك التيارات السياسية أو الاقتصادية التي يروم كل واحد منها تحقيق مآرب فئوية خاصة على حساب الأكثرية من أبناء مذهبهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق