بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 22 يناير 2010

مقالات العام 2004 (1)

مقالات العام 2004


فهرس مقالات العام 2004
(1): لمصلحة من يتم تجهيل المعلوم في حقيقة المقاومة الوطنية العراقية
(2): في الكشف عن حقيقة بعض مصطلحات العولمة الأميركية في الإعمار والإرهاب
(3): نقطة الضعف في الاحتلال الأميركي للعراق: جنود الاحتلال من دون قضية وطنية أو أخلاقية
(4): مقدمات تمهيدية في مواجهة الحركة النقدية التقليدية لحركة التحرر العربية
(5): موقف السيستاني وفتوى الخالصي: يضعان ضمير الأمة في مكيال مقاومة الاحتلال
(6): بين خبث الخونة وسذاجة العملاء: الصهيونية تؤسس لدولة ثانية في شمال العراق
(7): تحية إلى أطباء وأساتذة الجامعات العراقية
(8): جدران العزل العنصري قمة الأزمة في وجه المشاريع الأنجلو صهيونية
(9): الجامعة العربية: الإصلاح لماذا وكيف؟
(10): الفتوى بالجهاد بين مطرقة »تبرير الخيانة« وسندان »الأمركة«
(11): إحتمال الفتنة العرقية والطائفية في العراق: تأصيل وواقع ومستقبل
(12): هنيئاَ لك أنطوان لحد فقد نلت شهادة بالوطنية
(14): بعد سنة من احتلاله: أي مستقبل ينتظر العراق؟ وأية استراتيجية عربية؟
(15): في وجه حاكم مأفون لا بُدَّ من صرخة جنون
(16): المقاومة العراقية تقطف الحبة الأولى من عنقود الضمير الأممي
(17): أحمد ياسين شيخ المقاومة وشيخ المقاومين: معاني شهادته ودلالاتها
(18): بوش - بريمر: لن ينفع دواء لكم إلاَّ أن تذوقوا المرارة
(19): الديموقراطية قشرة ثلج تغطي كوماً من القاذورات الأميركية
(20): حالة التراكم اللا أخلاقي في مشروع إدارة جورج بوش
(21): إعمار العراق؟‍‍« خدعة أميركية لتضليل الضمير العالمي
(22): قشرة ثلج ديموقراطية أميركية: الديكتاتورية كانت السبب في احتلال العراق!؟
(23): عبد العزيز الرنتيسي لقد اغتالك رصاص الصمت العربي والإسلامي
(24): الموقف الإيراني في العراق والمنزلقات الخطيرة
(25): هل هناك مقاومة للاحتلال تفتت الوطن؟
(26): رسالة إلى أحمد الجلبي: عندما تتساقط رؤوس العملاء فسيكون رأسك »المطلوب رقم واحد«
(27): ألم يطفح كيل معتصم العرب والمسلمين بعد؟
(28): إذا قال بوش بأن »رامسفيلد يقوم بعمله بشكل رائع« فصدِّقوه
(29): إلى القمة العربية: لا نريد إصلاحاً على طريقة جورج بوش وضغوطه
(30): هل يمكن للمرجعية الشيعية في العراق إعادة توحيد الشيعة على أساس وطني؟
(31): رد على مقال للدكتور عصام نعمان
(32): ليس نقل السيادة إلى العراقيين حالة إدارية بل هي حالة تحرر عسكري سياسي واقتصادي.
(33): قرار مجلس الأمن 1546: كسب تكتيكي في الوقت الأميركي الضائع
(34): دراسة حول الواقع السياسي الشيعي في العراق المحتل
(35): إنتخابات البرلمان الأوروبي: إنتصار الضمير العالمي لشرعية المقاومة العراقية
(36): راكاد سلامة (أمين سر جبهة التحرير العربية) منسيٌّ في سجون الاحتلال الصهيوني
(37): نقل السيادة للعراقيين أوكازيون أميركي لبيع العراق
(38): محاولة نظرية في فهم الاتجاهات العامة في السياسة الأميركية والدولية
(39): موقع القضية العراقية الراهن واحتمالات المستقبل
(40): لم تثبت عند الحزب الشيوعي اللبناني رؤية هلال البعث في المقاومة العراقية،
(41): تحذير من الدور الإيراني وتذكير به: رؤية وذكرى لعلَّها تنفع
(42): احتلال النجف أنموذج مصغَّر لاحتلال العراق: أهداف ووسائل واحتمالات
(43): المقاومة الوطنية في فلسطين والعراق: وحدة الاستراتيجية ووحدة النتائج
(44): الخوف من فتنة طائفية في العراق.
(45): إلى الدكتور فؤاد حول قضايا فكرية.
(46): دور الشباب في المجتمع.
(47): حل قضية النجف على أساس تسوية داخلية تجهيل لطبيعة الصراع
(48): رد على نداء الأحزاب الشيوعية العربية الى الحزب الشيوعي العراقي
(49): إسمع يا جورج كلام جاك واخرج من جهنم التي فتحت أبوابها في العراق
(50): كل عام وأنت بخير يا عراق
(51): لبنان: التجاذب الدولي، والنفخ في رماد الحرب الأهلية.
(52): مقابلة مع موقع صوت الوطن حول المقاومة العراقية
(53): الانتخابات في العراق تأسيس للفتنة
(54): أبو عمار رائد الثورة الفلسطينية
(55): ديموقراطية القتل تجتاح الفلوجة
(56): جريمة اقتحام الفلوجة ووسائل الاختزال الأميركي
(57): هل لخطاب الغضب مكان في الإعلام؟
(58): ماذا حصل في العراق؟ وأين موقعه في محطات النضال القومي؟ كيف نواجهه؟
(59): في مواجهة الخطر الداهم من الخارج والاستغلال القابع في الداخل، لا بُدَّ من حركة حزبية عربية سليمة ومتعاونة وناشطة
(60): دول الجوار الجغرافي للعراق في بيت الطاعة الأميركي
(61): الاحتلال الأميركي يستغفل إيران وإيران تستغفل عقولنا
(62): رد حول ردود وتعليقات على مقال غالب الفريجات
(63): بعد سنة على أسره: صدام حسين رائد الثورة العالمية المعاصرة
(64): «كُتَّاب الشنطة» المتجولون على مواقع الأنترنت يبيعون «خردة» صدئة
(65): الاتهامات النقالة والهدف تجهيل وطنية المقاومة العراقية وتجاهلها
(66): حوارية حول مقال: فشل الاحتلال الامريكي وراء التهاب اسعار النفط
(67): مقالات حوارية مع الدكتور موسى الحسيني.
(68): التهديدات الأميركية ضد العراق: الأسباب والأهداف.
(69): ندوة التضامن مع علماء العراق





(1): لمصلحة من يتم تجهيل المعلوم في حقيقة المقاومة الوطنية العراقية
المحرر: العدد 168
حول تحديد هوية المقاومة الوطنية العراقية: يتحايل البعض، ويتذاكى البعض الآخر، أما الأكثرية فهي متآمرة، حول تجهيل تلك الهوية. أما الأسباب فتعود إلى حالات، أو ما شابهها، من التراكم النفسي التاريخي، أو من تراكم العصبية الإيديولوجية، أو من التواطؤ المخطط له.
إن لإعلام أصحاب »القرن الأميركي الجديد«، بملحقاته وملاحقه من المؤتمرين بأوامره، والمتآمرين معه، والطائعين لأوامره، والقابضين من شيكاته، مصلحة في تجهيل المعلوم من حقيقة هوية المقاومة الوطنية العراقية.
أما لمصلحة من يتجاهلها بعض من المثقفين العرب ممن تراكمت عندهم، بالتكرار الإعلامي الأميركي وعملائه وليس بالأسباب الحقيقية، حالات الخوف والفزع من نظام حزب البعث العربي الاشتراكي بقيادة صدام حسين؟
وفي مصلحة من يصب تجاهل الذين تراكمت لديهم أحقاد من تاريخية العصبوية الإيديولوجية التي وسمت علاقات أحزاب حركة التحرر العربية؟
أما أصحاب مشروع أمركة العالم فقد وظَّفوا إعلامهم من أجل تشويه صورة كل من يعارض مشروعهم أو يحول دون تنفيذه، أو حتى كل من يفكر بالدعاء على يديه بالكسر، أو حتى من الذين لا يؤيدونه علناً ويعملون من أجل نجاحه. وبغير تشويه صورة الرافضين لمشروعهم، شكلاً ومضموناً، لا يمكن لأصحاب المشروع أن يقنعوا الآخرين بوجوب الاعتداء عليهم واحتلال بلادهم. فلو أبقوا على صورة حزب البعث وصدام حسين الهادفة إلى تأسيس مشروع نهضوي عربي لما استطاعوا أن يؤلبوا عليه القاصي والداني، حتى الذين لم يقفوا في صف الكارهين لحزب البعث ولصدام حسين أُصيبت مواقفهم بالتشكيك، وهو بالأساس كسب لأصحاب المشروع المعادي للأمة قياساً على أن من لم يكن في صف أصحاب مشروع الأمركة فمن الأفضل أن يبقى على حياد.
ولتسويق تشويه صورة البعث وصورة صدام حسين إتَّبع إعلام أصحاب »القرن الأميركي الجديد« أسلوب التكرار الممل في كل وسائله ووسائطه وآلياته المحكية والمكتوبة والمسموعة والمرئية من خلال انتقائية خبيثة للخبر المراد تسويقه، ولهذا أخذت مجموعات من المختصين في علم النفس والاجتماع والدعاية والإعلان تنتقي من شريط التجربة العراقية (وشريط التجربة فيه من الإصابات والأخطاء) كل السلبيات التي تدغدغ عواطف أنصار مشروع الأمركة، أو التي تضع المتسائلين ممن ليست لديهم مواقف سلبية من نظام البعث في العراق أمام حيرة لم تستطع وسائل الإعلام الصديقة والعارفة بأهمية المشروع العربي النهضوي في العراق –على قلتها أو على ندرتها- أن توضح الجزء الإيجابي من الصورة أو حتى الجزء القليل منها.
ويكفي أن نعطي برهاناً واحداً ندل به حول خبث الإعلام الأميركي – الصهيوني، وهو أن صدور الحكم على متَّهم لا بُدَّ من أن يستند إلى شهادة عدول موثوق بهم. ومن المؤسف أن شهادات أصحاب مشروع الأمركة والمتعاملين معهم من العراقيين هي التي انبهر بها البعض وضللت البعض الآخر وحكَّت على »باب الجرب« عند بعض الملوثين بعصبية إيديولوجية سابقة. فإذا كان الشاهد ملوثاً بالزور فكيف –بالله عليكم- يمكننا أن نصدر الحكم على المتهم بالإدانة استناداً إلى شهادته؟؟!!
لم يكتف أصحاب مشروع الأمركة الخبيث بتشويه صورة البعث وصورة صدام حسين قبل إسقاط النظام، ولكنهم قاموا بعملية نفي مدروسة لما يقومون به من أعمال المقاومة الفاعلة والمؤثرة، وراحوا ينسبونها لكل الألوان والصفات والتيارات باستثناء أنها من فعل البعثيين؛ فأعطوا للبعثيين دوراً هامشياً في المقاومة، وحتى هذا الدور الهامشي نسبوه إلى فلول منهم أو إلى بضعة من الذين كانوا من المستفيدين من نظام البعث أو من نظام صدام حسين.
أما حول تجهيل هوية المقاومة عند بعض الأوساط لأسباب التنافس الإيديولوجي السابقة، فنتوجَّه إليهم، أي إلى أولئك المحسوبين على التيارات الوطنية والقومية، العاملين من أجل مصلحة الأمة ولكن على مقاييس فكرهم السياسي، قائلين: آن للتجربة الحزبية في تيارات حركة التحرر العربية أن تخرج من شرانقها الإيديولوجية المشوبة بالتعصب إلى رحاب الموضوعية التي بواسطتها وحدها تنطلق الحركة الحزبية الفكرية والسياسية بحرية تستند إلى مجموعة من التنوعات والتعدديات المتحاورة على قاعدة أن الآخر الوطني هو على حق إلى أن يثبت العكس. وبمثل تلك العين نحسب أن المواقف الإيديولوجية المشوبة بالتعصب ستخرج من أسار الإعلام الأميركي الموبوء بالتآمر. وبها سوف ترى تلك العين بوضوح أن المقاومة الوطنية العراقية هي أفضل عون لها، وأفضل من يناضل على طريق تحرير كل الإيديولوجيات التقدمية من ديكتاتورية أصحاب »القرن الأميركي الجديد«.
وعلى أية حال، وفي كل حال، لا ينتظر المقاومون العراقيون الاعتراف بمقاومتهم، فهي التي تفرض الاعتراف بها ببسالة مناضليها وتضحياتهم. ولا ينتظر المقاومون العراقيون كل المتجاهلين هوية المقاومة، بل يحفرون من عملياتهم الجريئة هويتهم على الأرض، وبها يحفرون مستقبل هوية النظام الذي سوف تنتجه بزنود أبطالها.
ولتعريف ما هو معروف، على الرغم من التجهيل، ندعو جميع الصادقين، ومنهم أصحاب الخلفيات الإيديولوجية والسياسية، أن يبحثوا عن الحقيقة وسوف يجدونها في عشرات الوثائق السياسية والعسكرية التي صدرت عن »الرئيس صدام حسين«، و»قيادة قطر العراق لحزب البعث العربي الاشتراكي «، و»قيادة المقاومة والتحرير« في العراق. وفيها سوف يجدون الكثير من الحقائق التي لا لبس فيها، والتي تدل بوضوح على أن المقاومة العراقية هي مقاومة وطنية يقاتل في صفوفها كل الوطنين العراقيين، وكل الصادقين في وطنيتهم، من شتى التعدديات السياسية والانتماءات الدينية والعرقية، ومن شتى المناطق العراقية. ولكن هذا التعريف لا ينفي الاعتراف بجهد هذا التنظيم أو ذاك، فهذا لا يتعارض على الإطلاق مع المفاهيم الديموقراطية، بل من حق الأكثرية –كما تنص على ذلك أدنى المفاهيم الديموقراطية- أن نعترف لها بأكثريتها وأن نشير إلى هويتها بوضوح.
أعدَّ حزب البعث العربي الاشتراكي، في أثناء مرحلة وجوده في السلطة في العراق، لموجبات حرب التحرير الشعبية فيما لو وقع العراق تحت الاحتلال الأميركي. وإذا جاز لنا أن نستخدم معلومات الأميركيين حول هذا الجانب، فنحيل الجميع إلى مقال نشره (سكوت ريتر: رئيس المفتشين الأميركيين عن أسلحة الدمار الشامل العراقية في أواسط التسعينيات)، وفيه يكشف أنه نبَّه الإدارة الأميركية إلى أن العراقيين (صدام حسين وحزب البعث وليس غيرهم أحد آخر) يُعدُّون إلى حرب عصابات يحضرون لها بتصنيع قنابل جديدة ذات مفعول كبير ولا تستخدم إلاَّ في حرب العصابات، ويضيف سكوت ريتر أن فرقة التفتيش التي دخلت إلى المصنع المذكور استولت على وثائق ذات علاقة بتعليمات حول طرق ووسائل تطبيق حرب العصابات. وينهي ريتر مقاله بإعلان أسفه لأن الإدارة الأميركية لم تعط تقريره أهمية، ولم تبال بأهمية ما يعده العراقيون( ).
من مصلحة أصحاب مشروع »القرن الأميركي الجديد« أن لا يبالوا بالنظر إلى نتائج تجربة جديدة أعدَّ لها نظام عربي رسمي حول كيفية ووسائل الصراع ضد مشروع الأمركة، بل إن لا مبالاتهم ليست الوجه الوحيد لتجهيلهم هوية المقاومة العراقية فحسب، بل هم يريدون أن يطمسوا معالمها لما تمثله دراسة نتائجها من خطورة على حاضر مشروعهم ومستقبله. أما هنا فنتساءل: ما هي مصلحة العرب، وتحديداً الطبقة المثقفة، وأصحاب الإيديولوجيات المتعصبة من الحزبيين العرب، في طمس هوية تلك التجربة الجديدة؟
إن التجربة عربية، وأهدافها وطنية وقومية وإنسانية، وهي ترقى إن لم تفق تجارب المقاومة العالمية في أساليبها ونتائجها.
ألم يتبادر إلى ضمائر العرب أن لديهم تجربة أثبتت مصداقيتها وفعاليتها باعتراف كل الأحرار في العالم؟
لماذا يفتخر العالم بتجارب فييتنام وكوبا وغيرها من الثورات الشعبية التي حققت أهدافها ضد الاستعمار، بينما نحن العرب لا نرى في تجاربنا إلاَّ الهزيمة والعار.
إن تجربة المقاومة في العراق، لهي من أهم التجارب في العالم، وسوف تكون –إن لم تبدأ- من أهم التجارب التي ستقوم بدراستها الكليات العسكرية والحركات التحررية في العالم، وخاص من زاوية اكتشاف العلاقة بين النظام السياسي والثورة.
لقد أحدث حزب البعث ثورة جديدة في مفهوم العلاقة بين المفهوم السلطوي والمفهوم الثوري، وجمع بينهما بطريقة على غاية من الدقة والوضوح النظري والتطبيق العملي.
أما في مرحلة السلطة فقد رفض حزب البعث كل وسائل الترغيب والترهيب الأميركية لكي يقدم للمشروع الأميركي يد الطاعة. واستهجن كثير من الأوساط واستغرب موقف الرفض العراقي لإرادة السيد الأميركي الذي لا يُقهر. وتساءل الكثيرون: إلى ماذا يستند حزب البعث في العراق في رفضه الأوامر الأميركية؟ كما وصف البعض صدام حسين بالجنون واللا مسؤولية. واتَّهموه بأنه سيجر الويلات على شعبه نتيجة لذلك الرفض.
وتساءل الصادقون، والثوريون عن حقيقة إمكانية انتصار العراق في حرب ليس فيها حدود التوازن المادي الدنيا. وقد يكون الكثيرون منهم قد راهنوا على أن لدى العراق ما يستطيع فيه تحقيق النصر، لكنه لن يعلن عنه إلاَّ في وقته. ولهذا صُعقوا عندما وقع العراق تحت الاحتلال.
نعم كان العراق، بقيادة صدام حسين وحزب البعث، لديه سلاح يخفيه كان قد أعدَّه منذ سنوات سبقت العدوان عليه. وهذا السلاح –كما أكَّدت الوقائع الميدانية- كان سلاح المقاومة الشعبية الطويلة الأمد. فهل من يجرؤ على أن يقول ضد ذلك؟
فيكون حزب البعث –بقيادة صدام حسين- قد استفاد من موقعه في السلطة للاعداد لموجبات الثورة ومستلزماتها. ولأنه نجح في ذلك، تكون تجربة حزب البعث في السلطة فريدة من نوعها وجنسها، بآلياتها ووسائلها،وهي ابتكار جديد بامتياز. وتكون تجربة فريدة من نوعها في تاريخ الأنظمة في العالم، وتجربة فريدة من نوعها بين التجارب الثورية العالمية.
جاء في بيان »قيادة المقاومة والتحرير« العراقية، بتاريخ 22/ 4/ 2003م، ما يلي: »منذ يوم 10/ 4/ 2003م، ورجال ونساء المقاومة والتحرير، يخوضون عمليات قتالية ما بين الهجوم الخاطف والعمليات الاستشهادية، ولصعوبة إصدار بيانات في وقنها… فقد مرَّت الأيام ونحن نخوض حرباً لتحرير العراق العظيم«. وجاء في بيانها، بتاريخ 29/ 4/ 2003م، ما يلي: »وللمعلومات فإن الرئيس صدام حسين، وما زال على قيد الحياة، سيوجِّه خلال 72 ساعة رسالة لأبناء العراق والأمة«.
جاء في البيان الذي أصدرته قيادة قطر العراق، بتاريخ 10/ 6/ 2003م، ما يلي: »المقاومة التي يقودها ويديرها حزب البعث العربي الاشتراكي في القطر العراقي ستتعاظم وتعمم لتكون الرد الثوري على التآمر والاحتلال، وسوف تضرب المحتل وأعوانه من العملاء في داخل العراق وخارجه، فالبعثيون سوف لن يكونوا إلا مناضلين وثواراً، مجاهدين ومحررين للقطر العراقي ومقتصين من كل الخونة والمتآمرين والعملاء صغارهم وكبارهم«.
وجاء في بيان قيادة قطر العراق، بتاريخ 24/ 7/ 2003م، ما يلي: إن »المقاومة المتعاظمة التي لم يستطع المحتل رغم كثافة قواته وتفوق معداته ومساندة العملاء والخونة بالداخل له وتحيز الأعلام في تناوله وتغطيته لفعالياتها التعرضية ونسبها إلى المجهول ومحاولة الكثيرين في الابتعاد عن تسميتها وفقاً لمسمياتها الحقيقية... هذه المقاومة قامت ومنذ طي الصفحة العسكرية التقليدية في المنازلة الحالية على ما هيأت له قيادة الحزب والثورة وفقاً لما ارتأت ودبرت منذ مدة طويلة بتأمين السلاح والعتاد والتدريب على أوسع مدى شعبي وفقاً لمنظومات اقتضتها طبيعة المراحل المشخصة في المنازلة الكبرى منذ أم المعارك الخالدة«. ]ولعلم الذين لا يعلمون أن أم المعارك هي التي حصلت في العام 1991م[.
وإذا كانت المقاومة العراقية من إعداد حزب البعث في العراق قبل العدوان على العراق بسنوات، وإذا كانت بقيادته الآن، فهذا لا يضير أحداً من الصادقين والمخلصين، بل الصادقون والمخلصون يتمنون ويتضرَّعون إلى الله أن تشارك أية قوة حزبية أخرى، أو أية تنظيمات أخرى، في مقاومة الاحتلال، فهذا لا يضير حزب البعث شيئاً بل يعمل بكل الوسائل من أجل توسيع المقاومة بشرياً وجغرافياً. وإن الصادقين من الوطنيين العراقيين، وهم من غير البعثيين، يساندون المقاومة سواء بالقتال أو بالإعلام، من دون أن تثير لهم قيادة حزب البعث للمقاومة أي إحساس تعصبي، فهم يولون الهدف الوطني بتحرير العراق الأهمية الأولى على كل ما له علاقة بالفئويات الضيقة التي ورثتها كل الأحزاب العربية من تراث الماضي.
ومن جانبه يولي حزب البعث أهمية قصوى لكي تكون المقاومة العراقية جامعة وطنية، على الصعيد الديني والطائفي والعرقي، والصعيد السياسي والفكري والحزبي، وهذا ما أكَّدت عليه بيانات قيادة قطر العراق، ورسائل الرئيس صدام حسين، وبيانات قيادة المقاومة والتحرير. وأعلنت قيادة المقاومة والتحرير بلسان بعض الناطقين باسمها أن القيادة السياسية للمقاومة قرَّرت تجهيز كل من لديه النية بالانخراط في صفوف المقاومة بكل ما لدى قيادة المقاومة من إمكانيات، كما أعلنت أن التنسيق العملي بين شتى الفصائل المقاتلة جار بشكل جيد وإيجابي على أرض المعركة.
إن لآفاق العمل الجبهوي وحيثياته مجال آخر للبحث، وإلى أن نقوم بقراءة لها، لا بُدَّ من أن نطمئن الحريصين على عمل جبهوي وأن نؤكد لهم بأن كافة الإشارات العملية والإعلامية التي يمكن الحصول عليها، سواء من أخبار قيادة حزب البعث وبياناتها، أو من التنظيمات الناصرية والقومية، أو من التحالف الوطني العراقي، أو من الكادر في الحزب الشيوعي العراقي، أو من شتى أوساط التنظيمات الإسلامية المنخرطة في العمل الميداني ما يدعو إلى التطمين والاطمئنان.
***

(2): في الكشف عن حقيقة بعض مصطلحات الأمركة في الإعمار والإرهاب
نشر في المواقع التالية: 1-الكادر 8/ 1/ 2004م. 2-البصرة – نت تاريخ 7/ 1/ 2004م
بعد أن تأكَّد رامسفيلد وأعضاء النادي الأميركي الذين وضعوا إيديولوجيا »القرن الأميركي الجديد«، وراحوا ينفذِّونه انطلاقاً من العراق، واستناداً إلى تجاربهم السابقة في لبنان والصومال وأفغانستان… راح المذكور يروَّج لمشروعه الشهير في حرب الأفكار.
أما مضمون مشروعه الفكري، فيستند إلى أن »أن كل إرهابي يتم اعتقاله أو قتله يولد مقابله إرهابي آخر«، فيستنتج أن الأسلوب الأمني لم يؤدِّ إلى نتيجة. ولكي يقنع العالم بأهمية الحضارة الأميركية الجديدة، ولكي يقنع الآخرين بها، ولكي يضمن نتائج مؤكَّدة لمعركة ما تسميه شلَّة الإدارة الأميركية، أطلق مشروعه الأساسي قائلاً: »لكسب الحرب ضد الإرهاب علينا أن نكسب حرب الأفكار«.
فكيف يكسب أعضاء فريق »القرن الأميركي الجديد« تلك الحرب؟
إذا كان رامسفيلد لم يحدد المقصود بحرب الأفكار إلاَّ أن النبيه يقرأ مضمون الرسالة من عنوانها. من الواضح لدى العالم –من أقصاه إلى أقصاه- أن طموح الأهداف الأميركية يشمل السيطرة على العالم: سيطرة عسكرية، ونهباً اقتصادياً، وهيمنة على قرار العالم السياسي… ومن أجل تحقيق الأهداف كانت القوة العسكرية هي تلك الذراع المناسبة. ولما قصَّرت تلك الذراع عن تسريع خطى الهيمنة، وجد رامسفيلد –ناطقاً باسم الشلة التي هو أحد أعضائها- أن الذراع العسكرية تفتقد إلى ذراع فكرية ثقافية تبررها وتعتِّم على أهدافها الحقيقية. فانخرط رامسفيلد –من أعلى هرم عسكري أميركي- في تأسيس قاعدة فكرية يلهي بها العالم ويعمل على إشراكه في الحرب ضد كل ما يعيق تمدد »القرن الأميركي الجديد«.
من أهم خفايا الوسائل الحربية الجديدة هي تضليل العالم بمصطلحات ظاهرها إنساني، وباطنها محتقن بالسم الزعاف.
ولما كانت تلك المصطلحات بالكثرة التي تفوق معالجتها حدود مقال واحد، قمنا باختيار مصطلحين اثنين لكي نكشف عن أنهما سُمَّاً مغطى بالدسم.
من بديهيات تحريض الرأي العالم الأميركي أن يرسم أصحاب مشروع »القرن الأميركي الجديد« مبادئ وطنية لمشروعهم، على أن تكون تلك المبادئ ذات علاقة بالتعبئة والتحريض التي تُلزِم الأميركيين بتأييدها والمشاركة بتنفيذها كأهداف وطنية. فإذا كانت الإيديولوجيا الأميركية الجديدة تريد أن تصدِّر نفسها إلى خارج حدود الولايات المتحدة الأميركية، فلا بدَّ من أن تثير اعتزاز الأميركيين بأنهم يقومون بنشر مبادئ إنسانية، فكيف لو كانت تلك المبادئ من النوع الذي يحظى بتكليف إلهي؟!!!
لمثل هذا السبب قامت فلسفة أصحاب المشروع على أساس على نبؤة تكليف الولايات المتحدة، تكليفاً إلهياً شرعياً، بتحرير العالم، وجورج بوش الصغير هو المخلِّص المكلَّف بتلك الرسالة.
وإذا أراد أصحاب »القرن« أن يجمعوا من حولهم المؤيدين من غير الأميركيين، فعليهم أن يصدِّروا إيديولوجيتهم بلباس إنساني أخلاقي يكون مقنعاً للآخرين، وآلية التصدير لن تتم بدون تبشير فكري، والتبشير الفكري لن يكون مفهوماً من دون مصطلحات جديدة توفِّق بين الأهداف الخاصة الحقيقية والأهداف الإنسانية العامة.
إن أية إيديولوجية إنما تنضح من الإناء الذي صُبَّت فيه، وإناء الإيديولوجيا الأميركية الجديدة،ليس إلاَّ تلك القاعدة الحضارية الهائلة والثورة الجديدة في التكنولوجيا المتطورة التي تملك الولايات المتحدة الأميركية ناصيتها. واستناداً إلى هذا الإرث العظيم (ونحن هنا لا نبخس تلك الحضارة أهميتها)، وبدلاً من أن تستثمرها لمصلحة البشرية (كوعاء إنساني سليم) انغرست في أذهان النخبة الأميركية المفكِّرة (وهي حتماً نخبة اقتصادية تنعم بكل ما أتتهم به حضارتهم الجديدة من خيرات هائلة) أنهم أصبحوا –بالفعل – قادة مؤهلين لقيادة العالم، فهم لا يتميزون بطموحاتهم وجشعهم عن فرعون والاسكندر المقدوني والقادة الرومان وكسرى أنوشروان…
لا ننسى هنا أن عبقريات القادة السابقين، في الإمبراطوريات المنقرضة، لم تكن خالية من أحلام العظمة التي تنحطُّ إلى مستوى الغرور والعنجهية. وقد أظهر أولئك القادة –من دون استثناء- أن تفوق حضاراتهم (كل حضارة حسب مستوى زمانها ومكانها) يعطيهم الحق بأن يسيطروا على العالم المعروف لديهم (سواء عالمهم المجتمعي الخاص، أو عالمهم العالمي المعروف) وينعموا بثروات تلك العوالم كهبة يقدِّمها الله للنابغين والنابهين والمتميزين والعظماء (الذين كما كان يحسب كل منهم في مصره وعصره أن هو نفسه هبة الله للبشرية على الأرض)، وما على البشرية إلاَّ أن تدين لهم بالولاء والخضوع، بالعبودية والشكر لهبة الله.
فإذا كانت سيرة (بني كولومبس) لا تتميَّز عن سير (بني فرعون) ومقدونيا وروما وفارس… فإنما لم تتعلَّم أية سلالة من العظماء والنابهين والنابغين في تلك السلسلة التاريخية المتواصلة من دروس من سبقها، وهي أن كل من كان يتوهَّم (مستنداً إلى حضارته المتقدمة بمصرها وعصرها) قد سقط في أواخر عصره سقوط الظالمين والعتاة، ولم تدم لهم الثروة والسلطان إلى الأبد.
وعلى خلفية كل العتاة في التاريخ تسير التجربة الأميركية من دون أي تطوير أو تحوير، من دون أي اهتمام، أو حتى من دون الحد الأدنى من الاكتراث، بأن أية حضارة ينتجها أي شعب من الشعوب، يجب أن يستثمرها (حتى على قاعدة طوباوية القيم الإنسانية العليا) لصالح الإنسانية نفسها.
لقد ذهب أولئك العظماء في التاريخ، ودالت حضاراتهم، وانبنت –مستفيدة منها- حضارات أخرى، تنحو باتجاهات الجشع والتوسع والعظمة. وعلى خطاهم تسير الحضارة الأميركية، وعلى خطى قادة الحضارات السابقة يسير قادة »العصر الأميركي الجديد«. لقد تميَّزت من بينهم –وبشكل فاقع وواضح (وأحياناً جلف ووقح)- إدارة الإمبراطور جورج بوش الصغير.
إني أرجو هنا أن لا يفهم البعض من تقديمي التاريخي أنه تبرير لما يقدم عليه فريق »القرن الأميركي« الجديد من تمثُّل للخط البياني التاريخي. وإنما جئت لأحذِّر وأبشِّر:
-أحذِّر النخبة الأميركية من الوقوع، على الرغم من أنهم وقعوا، أسرى الأحلام والنبؤات التي سار على هديها أجداد البشرية في التاريخ.
-وأبشِّر بأن دعاة »القرن الأميركي الجديد« لن يطول الوقت الذي سوف يرحلون فيه، وتدول الإفرازات الفكرية التي أنتجوها بطريقة خاطئة.
من بعض تلك الإفرازات (المفاهيم السياسية والفكرية)، التي تثير الاستهجان والاستغراب، سأتناول منها مفهومين لمصطلحيْن: مفهوم الإعمار، ومفهوم الإرهاب.
يتساوى الجميع في وعي أن كل أصحاب حضارة جديدة يعملون على تحصينها بمصطلحات ومفاهيم فكرية جديدة (تتناسب ليس مع الحضارة بوظيفتها وأهدافها الإنسانية العامة، بل مع أهداف النخبة التي أسهمت في إنتاج تلك الحضارة). ولهذا وضع أصحاب »القرن الأميركي الجديد« مضامين خاصة لمفهوميْ الإعمار والإرهاب تتناسب مع تبرير تصدير إمبراطوريتهم إلى خارج الولايات المتحدة الأميركية.
أما بالنسبة لمصطلح الإعمار، وهو المصطلح الذي ننقله بوسائلنا الإعلامية والسياسية (وحتى في الأحاديث الشعبية)، فلا يعني –على قاعدة التكتيك اللغوي والسياسي والإعلامي لمنظِّرين (كمثل رامسفيلد)- أكثر من أنه الاستعمار التقليدي بعينه.
ولما أصبح تعبير الاستعمار ممجوجاً ومستغرباً وسلبياً واستفزازياً عند كل الشعوب، وعلى الأخص عند الشعب العربي؛ ولما كانت أهداف أصحاب »القرن الأميركي الجديد« هي ذاتها أهدافاً استعمارية؛ قامت آلة الإنتاج الإعلامي عندهم بتغيير اللفظ فقط، فتحوَّل »الاستعمار« إلى »إعمار«، فأصبح لفظاً جميلاً وجذَّاباً، ولا يثير الاستفزاز ولا الاشمئزاز، وتلطَّى تحت هذا التعبير كل المتواطئين مع أصحاب »القرن الأميركي الجديد« من عدد من سلطات الدول في العالم، وراحوا يضلِّلون مجتمعاتهم وشعوبهم بأنهم لم يشاركوا في العراق بقوات عسكرية إلاَّ للقيام بواجب (الإعمار) تجاه شعب كان مغلوباً على أمره!!! وهم –إذا كانوا سيشاركون- فليس إلاَّ لمساعدة شعب مغلوب على أمره على »إعمار بلاده«.
غريبة هواية الكذب والتزوير التي تقوم بها الإيديولوجيا الأميركية المعاصرة، والأكثر غرابة هواية الكذب والتزوير التي تمارسها معظم الدول المتواطئة، حتى تلك الدول التي مانعت الحرب والعدوان على العراق هي متواطئة –بشكل أو بآخر- في تضليل الرأي الشعبي العام حينما تستخدم مصطلح »إعمار العراق«. فهي تغطي جريمة استعماره بشكل أو بآخر.
استنكف الجميع عن الإشارة إلى أن ما يريد الأميركيون »إعماره« في العراق، هو ما قاموا هم بتهديمه من أجل تلزيمه للشركات التي يملكونها أو تلك التي هي ملك (بالتشبيح والتشليح والسطو والقنص بشطارتهم) لهم.
أوغل المحتلون الأميركيون والبريطانيون، والصهيونية -ساعدهم الأيمن الذي ألبسوا دوره العملي في العراق »طاقية الإخفاء«- في تدمير البُنى العراقية:التحتية والفوقية، ودسُّوا اللصوص الذين استقدموهم على دبابابتهم، من كل حدب وصوب، من كل ناحية جنس ولون، لتدمير ما لم تستطع أن تدمره آلة جهنم الأميركية التدميرية والتخريبية، العاهرة والمتغطرسة، المسموح بها دولياً أو من غير المسموح –علناً- باستخدامها، وكانت روزنامة التخريب والتدمير والسرقة والنهب ذات أهداف رئيسية تتلخَّص بإيجاد فرص للاستثمار الحرام لشركاتهم التي أُصيبت بالتخمة، ولم تشبع، من جراء سرقة لقمة دول العالم الثالث.
كان المبدأ الذي اتخذته إدارة جورج بوش الصغير يتلخَّص بما يلي: »دمِّر إذا كنت تريد أن تعمِّر«. وهل يتوَّهم أحد بأن ما وراء كواليس »الإعمار« غير هذا؟
وإذا انتقلنا إلى مصطلح الإرهاب، لتبادرت إلى أذهاننا، بشكل تلقائي، من دون أي تحليل أو تعليل، ومن دون أي برهان منطقي صوري أو رياضي، أن كل من ليس مؤيداً لمبادئ النهب الأميركي فهو إرهابي.
أن تدمِّر باسم الحضارة، وفي سبيل خدمة الإمبراطور، باسم فرعون – الإله، فأنت مغفورة خطاياك. وأن تسرق لتبرير تكديس ثروات الغازي الملهم المبعوث إلى خلاص البشر فأنت »لص شريف«. أن تقول للمبعوث الرباني »ما أحلى الكحل بعينك« فعليك غضب الرب وسخطه. أوَ ليس هذا إرهاباً؟
أن تستنكر التدمير والنهب والاغتصاب، فأنت ضد السامية، وأن تدوس على »بسطار« حرس الإمبراطور –مبعوث الله على الأرض- فكأنك قتلت الحضارة والمتحضرين جميعاً. ولكي تكون »آدمياً«، ولكي تكون ليبرالياً »محترماً«، ولكي لا تكون مجنوناً يغرِّد خارج سرب الإمبراطور الأميركي، ولكي تكون واقعياً عليك أن »تقبِّل اليد التي لا تستطيع مقاومتها، وادعو عليها بالكسر«، وإذا قبَّلتها وقبلتها، ثم قبَّلتها، فأنت من خدَمَة المعبد الذي يرأسه من لا تغرب الشمس عن أرضه، وأنت أفضل عابد للمعبود، ممثل الإله على الأرض.
كان من حق مغول الهنود الحمر أن يحوِّلوا ماء دجلة والفرات الصافية إلى نهر من المياه السوداء من تأثير حرائق متحف بغداد، ومن مخطوطات مكتبة بغداد العامة، ومن محفوظات بيت الحكمة، وليس من حق من دفع كل عمره في تجميع كل ما له علاقة بأقدم حضارة في التاريخ البشري أن يحمل البندقية ليكسر اليد التي امتدت لتحرق تراث بلاد ما بين النهرين. ليس من حقه أن يقطع أنفاس من حبس أنفاس كل الحريصين على إتلاف ذلك التراث العظيم. ففي مصطلحات أصحاب »القرن الأميركي الجديد« من مآثر فكرية (وهي نتانة الفكر) ومن وسائل سياسية تغلِّفها قشرة الديمواقراطية (وهي مثال الديكتاتورية والقذارة)، ما ينبئ بقرن جديد من الكذب والاحتيال »والضحك على الدقون « (دقون هواة الركوب على الدبابة الأميركية) أو (دقون من هم من أصحاب الحظ القليل الذين تمنوا أن يكونوا من الراكبين)، أو (دقون من يروِّجون لسعادة البشر إذا انتصر أصحاب القرن الأميركي الجديد). آهـ كم نبت لهؤلاء وأولئك من قرون، فبورك لهم ما ارتضوه لأنفسهم، ولكن لم يقبضوا إلاَّ »ثلاثين من الفضة« الملوثة بدم شعبهم وكرامتهم.
هذه هي المفاهيم التي يروِّجها الأميركان من بهاريج سندويتشات »الهمبرغر«، وعلكة »التشكلس«، وبناطيل »الجينز«، ودواليب »الهولا هوب«، وفضائح مايكل جاكسونهم »عاشق الأطفال«. فليهنأ اسخرطيو »القرن الأميركي الجديد«، وبورك لهم »إعمارهم« و»لا إرهابهم«. ولكن…
لن نرتضي إلاَّ بكسر اليد التي امتدت إلى فلسطين أولاً، واليد التي تجرأت على قصف العراق واحتلاله ثانياً. وليسمعها »بوش الصغير«، و»بلير الذي اكتسب الجنسية الأميركية«، و»شارون« كرمز للمؤسسة الصهيونية الغاصبة العالم كله.
فإذا كان تحرير الأرض إرهاباً فأهلاً بالإرهاب، وإذا باض الإعمار الأميركي ذهباً فهو مكشوف الأهداف، خبيث النوايا استعماري الهوى، ولأنه كذلك فالمحافظة على »خراب البصرة« هو أشرف وأكثر وفاء للبصرة من إعمارها بيد أية شركة أميركية عائدة لأصحاب القرن الأميركي الجديد. لكن أبطال المقاومة العراقية لبُّوا نداء الشرف والكرامة، فتحياتنا من القلب إليكم، فأنتم تؤدُّون العمل الذي تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ.
***

(3): نقطة الضعف في الاحتلال الأميركي للعراق:
جنود الاحتلال من دون قضية وطنية أو أخلاقية
لكي نضع توقعات أقرب إلى الصحة حول نتائج الصراع الدائر بين المقاومة الوطنية العراقية وقوات الاحتلال الأميركي – الصهيوني، علينا أن نحدد موقع الجندي الأميركي الطبقي والوطني والأخلاقي من هكذا صراع. وهنا نتساءل: من أجل أية قضية يقاتل الجندي الأميركي في العراق؟
تحكم في الولايات المتحدة الأميركية نخبة من تحالف اليمين المتطرف الاقتصادي والديني مدعوم من التطرف الصهيوني الليكودي. فكيف تكوَّن مثل هذا التحالف؟
منذ انتهاء حرب فييتنام، وبعد أن أصبحت الحركة اليسارية الأميركية في الموقع الذي يهدد فيه مصالح الشركات الكبرى على الصعيدين: الأميركي الداخلي، والأميركي الخارجي، تحوَّلت أنظار بعض النخب الرأسمالية الأميركية –أصحاب الشركات الكبرى- إلى إنتاج ما يسمونه ب»حرب الأفكار«، وهي تقوم على الترويج ضد أفكار اليسار المطالب والمناضل من أجل الطبقة العاملة الأميركية والمناهض لمشاريع الاستغلال الرأسمالي الأميركي المصوَّبة نحو الدول الضعيفة في سبيل إنتاج عالم يدين بالطاعة للإمبراطور الأميركي.
أعدّت تلك النخب، من خلال مراكز الأبحاث التابعة لها، حملة طويلة النفس ابتدأت بإنتاجها منذ انتهاء حرب فييتنام بفشل ذريع للإدارة الأميركية التي كان يتزعمها –آنذاك- الرئيس نيكسون في أوائل السبعينيات من القرن الماضي.
ولأن عدداً من المبشرين في بعض الكنائس الأميركية كان من المستفيدين من هبات الشركات الكبرى، تكوَّن ما يُعرَف بالحلف بينهما، تعمَّقت جذوره –طوال ثلاثين عاماً- إلى أن أنتج تيار »المحافظين الأميركيين الجدد«، فتوَّجت حرب الأفكار التي خططت لها تلك النخب: الرأسمالية والدينية، بإيصال جورج بوش الصغير –بطريقة أثارت الجدل في داخل أميركا- إلى رأس إدارة أميركية أعمدتها من أولئك المنخرطين في ورشة مراكز دراسات الشركات الكبرى الذين خططوا في سبيل تكوين »قرن أميركي جديد«.
كانت مقدمة المقال طويلة، ولكن كان لا بُدَّ منها، وكانت مطلوبة من أجل معرفة الإيديولوجيا التي من أجلها زجَّت النخب الحاكمة الآن مئات آلاف من الجنود الأميركيين في أتون حرب استهلكت عشرات المليارات من الخزانة الأميركية، بل مئاتها والحبل على الجرار، واستهلكت، ولا تزال، عشرات الألوف من أرواح الجنود الأميركيين ودمائهم وأعصابهم ونفسياتهم وأخلاقهم.
من الواضح أن الحروب التي يقودها جورج بوش الصغير لا علاقة لها بأية مصلحة وطنية، ولا بأية مصلحة طبقية للجندي الأميركي باستثناء كبار الجنرالات الذين كانوا صنيعة من صنائع مشروع اليمينيين المتطرفين الأميركيين.
ولأنها بغير ذات أهداف وطنية أو طبقية، لها علاقة بمصلحة الشريحة التي ينتمي إليها الجندي الأميركي، أصبحت تلك الحرب من دون وظائف أخلاقية أيضاً، فتحوَّلت ميداناً للقتلة المأجورين من جنود الاحتلال الأميركي للعراق.
ولما أصبحت الحرب ذات كلفة عالية تُدفع من أرواح أولئك الجنود ودمائهم وأعصابهم وأمراضهم النفسية،
ولما أخذ الجنود يشعرون بأنهم يقاتلون من أجل قضية لا علاقة لهم بها، سواء كانت طبقية أو وطنية، ابتدأت مرحلة العد العكسي في الزخم الذي دخل فيه الجنود حرباً كانوا يعدونها نزهة يتقاضون مقابل خوضها أجوراً مرتفعة حُرموا منها في مصانع الشركات الكبرى ومؤسساتها التجارية، ويعودون إلى بلادهم أبطالاً يماثلون »رامبو« -الأنموذج الذي أعدته خطط حرب الأفكار لمثل هذه المناسبات.
من مثل تلك الحقيقة انضاف إلى أسلحة المقاومة الوطنية العراقية سلاح آخر، وهو غير منظور، سلاح إيصال الجندي الأميركي المحتل إلى حافة الإفلاس النفسي وهو من أشد الأسلحة فتكاً بين جنود الاحتلال.
لقد حدَّدت المقاومة الوطنية العراقية عدة أهداف ثانوية تخدم الهدف الاستراتيجي الماثل بـ»تحرير العراق« من كل آثار الاحتلال، ومنها: منعه من الثبات والاستقرار على الأرض، ضرب أنابيب النفط من أجل حرمانه من مواردها التي تشكل الهدف الأساس، واستنزاف المبالغ الطائلة من الخزانة الأميركية، ومنع استخدام المرافق الضرورية التي تسمح بتبادل تجاري مريح (وهو عصب من أعصاب التجارة الرأسمالية لأصحاب الشركات الكبرى)، وملاحقة عملاء الاحتلال أينما كانوا وأياً كان لونهم أو عرقهم أو دينهم أو مذهبهم فاصطادت العديد منهم وأجبرت الآخرين إلى الانزواء وراء تحصينات أمنية شديدة….
لقد أثبت أبطال المقاومة الأشداء، الذين يعتز بهم العراق والأمة العربية وكل الصادقين في العالم المناهضين للمشروع الأميركي الخبيث ومنهم عدد كبير من الأميركيين والبريطانيين، أثبتوا كل جدارة وكفاءة بتضحياتهم الكبيرة، أنهم أكفياء،
إننا –ومن موقعنا المؤمن بأسلوب حرب التحرير الشعبية على المستوى القومي الشامل- ومن موقعنا المؤمن بأن لنا دوراً وواجباً علينا أن نوظفه من أجل دعم أولئك الأبطال، ومن أجل أن نسدد لشعب العراق بعضاً من دين قدَّمه لكل القضايا القومية،
نقدِّم الكلمة –وهي أضعف الإيمان- فنقول ما يلي:
أيها الثائر العربي الكبير، صدام الثورة العربية الواقع في أسر قوات الاحتلال
أيها الأسرى في معتقلات الاحتلال في العراق،
يا شعب العراق المعطاء
أيها الجنود العراقيون الأبطال، من شتى تشكيلات المقاومة، القابعون المتربصون في كل زاوية بحارس، أو بدورية، أو برتل، أو قافلة. أيها القاصفون مواقع الاحتلال، ورقاب جنوده…
أيها العراقيون، إلى أي طيف عرقي أو ديني أو سياسي أو أيديولوجي انتموا، من الذين ينظرون بعين الأمل المشرق من خلال بندقية الثوار،
إن المعركة بين المقاومة الوطنية العراقية والاحتلال، قد تحوَّلت الآن إلى معركة عض للأصابع، يستخدم فيها بوش الصغير كل أسلحته –على شتى المستويات لأنها فرصته الأخيرة- تحت مسميات »المطرقة الحديدية«، بعضها ذا أهداف داخلية وبعضها ذا أهداف خارجية، ولكنها تصب أولاً وأخيراً في دعم معنويات جنوده في العراق،
فاصبروا، واصمدوا –فالصبر والصمود من شيمكم- لأنه متى استنزفت ضرباتكم معنويات جنود الاحتلال لأنهم بلا قضية يقاتلون من أجلها، يبدأ العد العكسي لنهاية الاحتلال. لأنه متى أصبحوا –وهم أدوات الاحتلال الرئيسة- بدون أمل ستكون الضربة الكبرى في مشروع المحافظين الأميركيين الجدد.
أيها العراقيون، يا من نعتز بكم –باستثناء من خانوا وركبوا دبابات الاحتلال وروَّجوا لشعاراته الكاذبة- نقول: لا تخافوا من وحشية الجندي الذي يروعكم ب»حافره« لأن حافر »حمار المقاومة أكثر شرفاً وإنسانية منه«. هذا الجندي المحتل عندما يستخدم »مطرقته الحديدية« ليست دليلاً على قوته بل هي دليل على ضعفه، فهو يفرَّغ –بما يقوم به- أزمة نفسية وأخلاقية لعلَّه –بإنهاء مقاومتكم- يسرِّع بالخلاص من المأزق الذي يعيش فيه على أرضكم الشريفة الطاهرة.
هو لن يصمد كثيراً فهو سيهرب –عاجلاً أو آجلاً- بأي اتجاه باستثناء البقاء على أرض المقاومة والتضحيات والشهادة.
سوف تقتله أزمته النفسية والأخلاقية وسوف تشل مقدرته حتى على ممارسة الرعب ضدكم. فيكفيه الآن –بالإضافة إلى بندقية المقاومة- أن تقاوموه بالدق على كل ما يصدر صوتاً مزعجاً ليجعله في قمة المرض النفسي.
يكفيك أيتها الماجدة، ويكفيك يا حدقة عيوننا أيها الطفل العراقي، ويكفيك أيها الكهل، أن تستخدم أي أسلوب يؤدي إلى إزعاج الجندي المحتل، ومهما كان هذا الأسلوب بسيطاً، شرط أن يحدث ضوضاء، فهو لن يدع لأعصابه مكاناً من الراحة أو الاسترخاء.
ليست أيام الاحتلال طويلة، فإن إرهاق أعصاب الجندي الأميركي المحتل، هو من أهم الأسلحة في هذا المرحلة بالذات، وهو من أهم المهمات، لأن تأثيرا ت »مطرقته الحديدية«، على شتى المستويات، ستكون بغير فائدة إذا ما أصبحت أداة الاحتلال المباشرة منهوكة مشتتة، مقتولة أو مجروحة أو متعبة نفسياً.
***

(4): مقدمات تمهيدية في مواجهة الحركة النقدية التقليدية لحركة التحرر العربية
نشر في دورية العراق تاريخ 4/ 1/ 2004م
مضى على حركة التحرر العربية، منذ تأسيس أول كيان صهيوني على أرض فلسطين في العام 1948م، حين من الدهر لم تغيِّر تلك الحركة من آليات مفاهيمها النقدية للوضع العربي. فقد جمَّدت تلك الحركة نفسها على عدد من الآليات التي فرضتها طبيعة المعركة بين عدد من الجيوش العربية والجيش الصهيوني في العام 1948م.
كانت الحركة العربية الثورية –منذ خمسين عاماً- تعيش تجاربها الأولى في الصراع مع الاستعمار الأجنبي. وفي الوقت ذاته كانت تقود معركة ضد التخلف في شتى ميادينه. وكانت تلك الحركة تخوض نوعين ن الصراع: أولهما التسابق من أجل قيادة حركة التحرر العربية، وثانيهما مواجهة الأنظمة بعد أن حمَّلتها وزر كل أنواع التخلف.
أما في الوجه الأول، فقد دخلت تيارات الحركة التغييرية في متاهات التنافس على البروز فدفعت جميعها ثمناً باهضاً لأنها كانت توفر على طرف الصراع الآخر (سواء كان خارجياً أو داخلياً) كثيراً من الجهد فيما لو كان يقف في مواجهة كتلة تحررية موحَّدَة.
أما في الوجه الثاني، فقد أعفت تيارات الحركة التغييرية نفسها وأعفت الجماهير الشعبية من أية مسؤولية في استمرار التخلف وإدامة أسبابه.
أما في مواجهة المشروع الاستعماري (الذي كانت ترثه قوة رأسمالية خارجية عن الأخرى، ومن أخطرها الكيان الاستيطاني الصهيوني على أرض فلسطين)، فقد حمَّلت تيارات الحركة الثورية العربية كل الوزر للنظام العربي الرسمي. فنقدته ووصمته بالعجز، ووضعت أوزار الهزائم في ظهره. بينما لم تتبيَّن أن ذلك النظام ليس إلاَّ من عجين الشعوب، فراحت تحرِّضها بدلاً من توعيتها وتحميلها مسؤولية في إدامة التخلف وفي إلحاق الهزائم بالأمة، فكان النظام العربي الرسمي هو صاحب الوجه القبيح، بينما وجه تيارات التغيير ووجه الشعوب ليست بذلك القبح، وكأنها هي الملاك الطاهر، بل هي مثال الثورية والنقاء.
تحوَّلت حركة النقد العربية، على المستويين الفكري والسياسي، إلى حركة من الندب لم تتوقف أبداً عن تكرار خطابها واجتراره.
إن من أهم مظاهر القصور في تلك الحركة أنها حوَّلت مفاهيم النصر والهزيمة إلى معادلة (نظامية – نظامية). نظام يواجه نظاماً آخر، وجيش نظامي يواجه جيشاً نظامياً آخر. أما نتيجة الصراع (نظامي – نظامي) فلن تكون رمادية، بل هي إما نصر وإما هزيمة. أما دور الحركات والقوى الحزبية والشعبية فكانت دائماً متعالية على النقد، وهي لا تحمِّل نفسها، لأنها –كما أبرز خطابها النقدي الذاتي، هذا إذا كانت تمارسه- لا تتحمَّل أي وزر بالهزيمة، فالنظام هو الذي انهزم، والجيوش النظامية هي التي انهزمت.
إن ثبات تلك المعادلة أوقع تيارات الحركة العربية الثورية وآليات حركتها النقدية بالثبات أيضاً. وهي سوف تبقى ثابتة ولن تتغيَّر ما لم تعيد النظر بها.
من أوائل ما نرى أنه يكسر الدائرة التي دخلت فيها الحركة النقدية الثورية العربية، وكما هي الآن حالة أقرب للندب من النقد، هو أن تنتج معادلة أخرى تستند إلى تحميل مسؤولية في التقصير لنفسها وللجماهير العريضة. فتصبح المعادلة على شكل آخر من أن يكون الصراع (نظامي – نظامي) إلى (نظامي - شعبي).
وحتى تكون تلك المعادلة مفهومة أكثر، نقول ما يلي:
1-ليست قوانين الصراع بين المتناقضات ثابتة، بل تتغير بتغير الظروف وخصوصياتها. فلو أثبت قانون منها فشله، فمن الخطأ تحميل منفذيه المسؤولية دائماً. ولما كان قانون الصراع (النظامي – النظامي) عاجزاً عن تحقيق النصر للأمة العربية في مواجهة أعدائها فمن الخطأ أن نستمر إلى الأبد في تحميل النظام العربي الرسمي –سياسياً وعسكرياً- كل المسؤولية.
2-لا يمكن الحصول على موازين القوى النظامية –حالياً- لأننا أعجز من أن ننتج أدواتها ونوفر شروطها. وإن من نخوض الصراع معه هو من يجب أن نحصل منه على تلك الأدوات. وهو لن يعطيها لأنه كمن يحفر قبر مشروعه الاستعماري بيديه. فما العمل؟
وهل ندبنا على النظام العربي الرسمي –من دون ممارسة نقدية ذاتية- يقدِّم أو يؤخر؟
ستكون الإجابة –حتماً- لا.
هل نستسلم –كتيارات حركة ثورية- لشروط أصحاب المشروع الإمبريالي، ونسلَّم لشروطه تحت ذريعة أننا لن نستطيع المواجهة؟(). طبعاً لن نستسلم سوف يكون رد شتى تيارات الحركة الثورية(*). فتغيير المعادلة / قانون الصراع هو المطلوب أولاً.
من مراجعة تاريخية، على المستويين العالمي والعربي، لم نجد أن قانون الصراع (النظامي – النظامي) كان من المسلَّمات التي لا يمكن تغييرها، بل نرى أن أكثر حركات الاستقلال في العالم، وأكثر حركات التحرر من الاحتلال الأجنبي، قد غيَّرت معادلة الصراع من (النظامي – النظامي) إلى معادلة أخرى (النظامي – الشعبي).
***

(5): موقف السيستاني وفتوى الخالصي: يضعان ضمير الأمة في مكيال مقاومة الاحتلال
نشر في التجديد العربي: تاريخ 14/ 1/ 2004م. الكادر: تاريخ 15/ 1/ 2004م. البصرة نت: 14/ 1/ 2004م
وقفة معمَّقة من الموقفين الصادرين عن المرجع الشيعي آية الله السيستاني و الإمام محمد مهدي الخالصي، تبيَّن أن ضمير الأمة ما زال بخير بعد أن كادت بعض الحركات السياسية الإسلامية تلحق التشويه به.
لم تكن بعض الحركات الإسلامية المسيَّسة إلاَّ اختراق لإجماع الأمة، بشتى تعددياتها الدينية والمذهبية الدينية، حول واجب الدفاع عن الأرض والعرض عندما يقعان تحت الاحتلال. وعندما نقول احتلال فهو يشمل كل إفرازاته، من متواطئين ومتعاونين وساكتين، عن وعي أو من دون وعي، وكل ما يصدر عنه من تغيير في البنى المادية والتشريعية والثقافية، سواء في العرف أو القانون. فكل تغيير قسري في تلك البنى من قبل سلطات احتلال العراق وإفرازاته العراقية، إنما هو تغيير خارج على كل التشريعات الدولية، ولا علاقة له بالديموقراطية ومبادئ الحرية على الإطلاق، كما هو خارج عن كل الأعراف الإنسانية.
في هذا السياق جاءت فتوى الإمام محمد مهدي الخالصي لتزيل اللبس والغموض عن كل موقف لا يدعو إلى مقاومة الاحتلال، ولكي توضح –بما لا لبس فيه- أن مقاومة الاحتلال لا تحتاج إلى فتوى. ففيما يتنازع الآخرون حول طبيعتها وشكلها ولونها، مذهبها أو دينها، ليقرروا شرعية المقاومة المسلحة، كان في الفتوى المذكورة من الجرأة والشجاعة ما يستأهل التقدير والترحيب والتشجيع. وبمثل تلك الفتوى، التي تؤكد أن لا حاجة للفتوى –في حالة الاحتلال- ما يسحب البساط من تحت أرجل من يريدون أن يكبِّلوا المسلمين بنصوص إسلامية أتوا بها في غير محلها.
وفي مواقف الإمام السيستاني –المرجع الشيعي الأعلى في النجف الأشرف- حول إقراره بلا شرعية إفرازات الاحتلال، وما يصدر عنهما من تشريعات وقوانين ما يستأهل الاحترام والتقدير. وفيه من الشجاعة العالية، خاصة وأن تلك المواقف تصدر عنه، ولم يساوم عليها، وهو محاط بقوات الاحتلال الأميركي – الصهيوني - البريطاني، وبأكثر الميليشيات تأييداً لها؛ خاصة من يزعمون أنهم يمثِّلون الشيعة في العراق.
إن كل سلطات الحكم القائمة تحت حراب الاحتلال لا تتمتَّع بأية حماية شرعية أو قانونية: فبول بريمر (الحاكم المدني الأميركي) مفروض على الشعب العراقي من دون غطاء قانوني عام أو خاص، ومن دون غطاء أخلاقي لأنه يستلب صلاحيات الشرائع الدولية والإنسانية. وأعضاء المجلس العراقي أو الوزارة العراقية (المفروضان بإرادة الاحتلال)، لا يتمتعان بأية شرعية –أيضاً- لأن الاحتلال الذي فرضهما لا يتمتع بأية صلاحيات قانونية، فكل ما يصدر عنه لا بُدَّ من أن يكون لا شرعياً ولا قانونياً.
إن رفض تأييد تعيين مجلس انتقالي، أو حكومة انتقالية، إلاَّ على قاعدة الانتخاب الشعبي المباشر والحقيقي (كما هو موقف آية الله السيستاني)، خاصة وأنه يتم على قاعدة الفرض والإذعان؛ وإن دعوة العراقيين إلى المقاومة من دون انتظار فتوى من المراجع الدينية (كما أفتى الإمام محمد مهدي الخالصي)، حققا حالة التكامل في جرأة القرار والموقف، وهذا، وإن كان واجباً فلا يعني ذلك أن الواجب لا يستأهل الشكر، ولهذا فنحن نضم صوتنا إلى أصوات المرحبين والشاكرين، كما ندعو غيرنا إلى اتخاذ الموقف ذاته.
ومن خلالهما نتوجه إلى المقاومة العراقية قائلين: سيروا ونحن معكم، فقد نلتم تأييداً واسعاً لما تقومون به مما سوف يغيَّر اتجاهات التاريخ العالمي، فسواعدكم قد حالت دون تحقيق أهداف مشروع التطرف الرأسمالي الأميركي المدعوم بحركة المبشرين (الذين يدَّعون زوراً وتضليلاً بأنهم دعاة مسيحيون بدليل رفض الكنيستين الشرقية والغربية لهم ولدعواتهم ومواقفهم السياسية، والمدعوميْن من الصهيونية العالمية)، والمدعوميْن بتطرف الصهيونية العالمية.
أنتم اليوم يا أبطال الأمة في العراق، تقاومون أكبر تحالف للشر عرفه تاريخ البشرية، (رأسمالي ويميني مسيحي متطرف وصهيوني عالمي). فبوركت سواعدكم. فلا تهنوا ولا تحزنوا إذا وجدتم الإعلام يعتِّم على أفعالكم (فهو إعلام سيطرت عليه أطراف تحالف الشر الجهنمي)، أما إعلامكم فهو ما ترسلونه من جثث جنود تحالف التطرف العالمي، ففي كل جثة ترسلونها إلى إدارات الشر والعدوان أبلغ من كل الإعلام.
بوركتم فقد حزتم –بالإضافة إلى موقف الصادقين من أبناء أمتكم- على تأييد الضمير العالمي شاملاً مواقف أصحاب الضمير في دول العدوان والاحتلال نفسها.
***

(6): الصهيونية تؤسس لدولة ثانية في شمال العراق
نشر في الوحدوي – نت اليمنية: تاريخ 16/ 1/ 2004م وفي المحرر في العدد 164
كشف أصحاب »القرون من العملاء العراقيين«، من الذين تآكلتهم الخيانة، عن اتفاقهم المسبق –قبل الاحتلال- على تطبيق الفيدرالية في العراق. فلا تغفر لهم »يا أبتاه«، لأنهم، بغبائهم وأوهامهم وخيانتهم، سمحوا للصهيونية، بالتنسيق المتكامل مع أصحاب »القرن الأميركي الجديد«، بالتسلل إلى العراق من كل الأبواب التي شرَّعوها. فهم ادَّعوا، زوراً وبهتاناً، خبثاً وسذاجة، أن تعاونهم مع »الشيطان الأكبر«، كان من أجل ما سمُّوه »تحرير العراق« !!!؟؟؟
ماذا يعني النظام الفيدرالي في قاموس أصحاب »القرن الأميركي الجديد«؟
إذا كان أصحاب المشروع يريدون ابتلاع العالم كله، فهم لن يرضوا بقطعة واحدة من العراق. أما لماذا خططوا للمشروع الفيدرالي، أي المشروع الذي يقسم العراق إلى عدة قطع، فلهذا جوانب تكتيكية ذات علاقة بتسهيل سيطرتهم عليه من خلال إحداث انقسامات عرقية وطائفية يتلهَّى بها التفتيتيون من الإثنيات العرقية والدينية والمذهبية، فيغرقوا بصراعات جانبية، ويتلهون بها فيتناسوا أن هناك احتلال رابض على صدورهم.
إذا كان العملاء، قد انصاعوا إلى المشروع الأميركي المدعوم كلياً من الصهيونية العالمية، فهم من شدة حرصهم!!! على العراق!!! وافقوا على تفتيته لكي ينال كل منهم حصته!!!.
لقد أُصيبوا بلوثة من الأوهام، وتصوَّروا بعد أن انتفخوا ك»البالونات«، أن »القرد الأميركي« سيتقاسم جبنة العراق مع »القطط العراقية السمان« كأمثال: أحمد الكلبي ومحمد بحر العلوم وعبد العزيز الحكيم وإبراهيم الجعفري وجلال الطالباني ومسعود البارازاني، ومحسن عبد العزيز… وهم لا يدرون أن جبنة العراق –إذا ما استقرَّ الوضع للاحتلال، وهذا ما لن يحصل- لن يكون لهم منها أية حصة، لأنهم لن ينالوا أكثر من أجورهم –كخونة وعملاء- كمثل الضابط النمساوي الذي خان وطنه بصفقة مع نابليون بونابرت ولم يحصل منه على مصافحة باليد بل حصل على كيس من الذهب كأجر له.
أما من لهم علاقة بإيران، الطامعة ببناء دولة شيعية في جنوب العراق على قاعدة الفيدرالية، فلن يحصلوا على قشة من تبنها، لأن الدور التالي في المشروع / المؤامرة سيكون -كما سماه المشروع الأميركي، من نصيب »دول محور الشر«. أو ليس إيران من دول هذا المحور؟
لا شك بأن إيران، متذاكية، تخطط بأنها متى تخلَّصت من نظام حزب البعث (بقيادة صدام حسين)، وهو العائق الوحيد الذي كان يحول دون أطماعها في الأرض العربية، سيكون من السهل عليها أن تتخلَّص من أخطبوط »محور تطرف أصحاب الشركات الكبرى الأميركية – وتطرف المبشرين المسيحيين أصحاب مشروع رسالة سماوية – والصهيونية العالمية التي تسعى لحكم العالم بأكمله بمن فيه حلفاءها في التحالف«. وما يثير الاستغراب يكمن في أن البعض، من المؤيدين لإيران، يتوهَّمون بأن من يوافق على تفتيت العراق يعمل من أجل مصالحهم!!!
ومن لهم علاقة بالمشروع الكردي الهادف إلى تأسيس دولة كردية في شمال العراق، ومن هم من المؤيدين له تحت شعار »الحق في تقرير المصير«، يدفنون رؤوسهم في الرمال كالنعامة. فلا تغفر لهم »يا أبتاه« أيضاً، لأنهم –بالفعل- لا يدرون ماذا يفعلون.
أوَ يظن، الواهمون من الأكراد، أن أطراف التحالف الثلاثي »الشركات الأميركية –المبشرون المتطرفون – الصهيونية العالمية« أن همَّ الأكراد كان يؤرقهم؟
أوَ يظن، بعض اليساريين من أدعياء الديموقراطية، أن الاستعمار قد تحوَّل إلى مدافع عن مصالح الشعوب؟ وعن مصالح الأقليات الدينية والعرقية؟
إن تحالف »محور الشر« المذكور هو أذكى بكثير ممن يحسبون أنفسهم أذكياء:
-فجشع الشركات الأميركية، التي تخطط لبناء عالم »مؤمرك« لخدمة مصالحها لن ترى في بناء دولة كردية إلاَّ ضامناً لمصالحها، على أن تكون مستكينة مستسلمة.
-وتطرف المبشرين، الذين يخططون لمعركة »هرمجدون« التوراتية (للصراع بين الخير والشر)، لن يرضيه إلاَّ تأسيس دولة دينية ترى في الأديان الأخرى، والمذاهب المسيحية الأخرى، معبراً للشر الواجب القضاء عليه. وهي لا ترى سبيلاً آخر لخلاص الإنسان في الآخرة إلاَّ عن طريق دعوتها. فهي ليست مسيحية على الإطلاق، لأن الكنائس المسيحية الأخرى أقرَّت بأنه يمكن خلاص النفس بوسائط أخرى غير المسيحية.
-أما الصهيونية فهي لا ترى في تأسيس أي كيان سياسي، من غير المؤمنين بالرسالة التوراتية، إلاَّ معبراً للعودة إلى أرض بابل. الصهيونية التي اغتصبت أرض فلسطين بدوافع توراتية، تعمل من أجل الدخول إلى أرض الرافدين لبناء دولة صهيونية ثانية.
ولأن للصهيونية هدف إلهي!!! في العودة إلى أرض بابل، فهي –بداية- تحفر من أجل موطأ قدم ثابت لها لكي لا تتفاجأ بالاقتلاع تحت أي ظرف أو عامل غير محسوب. فوجدت أن المنطقة الكردية هي العامل الأكثر قرباً من الثبات، والأكثر اماناً، بفعل أكثر من سبب؛ ومن أهمها: أن الأكراد متى ما استمرأوا طعم الحالة الانفصالية في شمال العراق، سيجدون جاذباً فيه مصلحتهم فيعملون على حمايته بكل الوسائل والأساليب.
من داخل الدور الصهيوني ولأهميته تسربَّ الكثير من التقارير، ليست المستندة إلى مرحلة تبشيرية لتوضيح أهمية المشروع الصهيوني في العراق عامة، وشماله خاصة، بل جاءت تلك التقارير لتفضح وجود اتفاقيات وبروتوكولات جرى التوقيع عليها بين الأطراف الثلاثة: الأميركي والصهيوني والكردي.
وأهم ما جاء في مواد تلك البروتوكولات ما يلي:
1-وقَّعت الجماعات الكردية (طالباني وبارازاني) في شمال العراق على بروتوكول مع »إسرائيل« مقابل أن تزود تل أبيب الجيش الكردي الذي سيشكل في شمال العراق بصواريخ ستينجر أرض جو وسيارات وعتاد ومستلزمات عسكرية. وطبقاً للبروتوكول السري فقد قررت إسرائيل توطين 150 ألف يهودي من أصل كردى في منطقة شمال العراق.وحسب هذا البروتوكول فأن اليهود الأكراد سيمتلكون حق الملكية غير المحددة في القطاع الزراعي والحيواني بالإضافة إلى ذلك سيتم إعطاء المثقفين من المهندسين والتقنيين منهم قطع أراضى في المناطق الغنية بالمعادن الطبيعية والنفط ليقوم اليهود الأكراد بالتنقيب عن المعادن الطبيعية والنفط في منطقة شمال العراق. أما للتطوير التجاري في كردستان العراق المستقل فأنه تم تأسيس شركات إسرائيلية أردنية مشتركة لتفتح لها مكاتب في شمال العراق من أجل المساهمة في النهضة الاقتصادية في كردستان( ) .
2-ولإرضاء دول الجوار نص البروتوكول على ما يلي: وفى إطار جميع هذه التغيرات سيتم منح إيران امتيازاً خاصاً من خلال منحها حق شراء أراضى في المنطقة التي لها مكانة خاصة بالنسبة للشيعة والمتمثلة في النجف وكربلاء والكوفة( ).
3-أما الفقرة التي تخص الدول العربية في البروتوكول الموقع بين »إسرائيل« والأكراد فأنه سيتم منح حق شراء الأراضي في البصرة لكل من الإمارات والكويت والبحرين( ) .
4-وللمزيد من ضمانات التطمين للأكراد فقد تعهَّد لهم أرييل شارون –رئيس وزراء العدو الصهيوني- بما يلي:
-تأمين اعتراف أميركي – أوروبي بالدولة الكردية. وتحقيق أكبر معدلات للتنمية. وتأمين حماية الدولة من الأخطار الخارجية بتشكيل جيش كردي – يهودي يؤمن تلك الحماية( ).
وهنا يمكن للقارئ أن يتصوَّر مدى المخاطر التي تتعرَّض لها وحدة أرض العراق وشعبه. ويمكنه أن يتصوَّر قذارة الدور الذي يلعبه »مجلس الحكم العميل« بشكل عام، بعد أن أذعن للتقسيم الفيدرالي، والدور المشابه الذي يقوم به كل من الطالباني والبرازاني.
صحيح أن بعض الدول المجاورة للعراق، ستقف ضد تنفيذ هذا المشروع، ولكنها إذا مانعته فهي لن تستطيع أن تمنعه من دون مقاومة فعلية. فالمشروع الأميركي يسمح بالاعتراض الكلامي لكل من يريد أن يعترض (كحق ديموقراطي صوري) على شرط أن لا يترجم رفضه إلى فعل، ولكن الممانعة الكلامية لن تحبط المشروع الفيدرالي المشبوه، فالحد الأدنى المطلوب، إذا لم يكن مقاومة فعلية ومباشرة ضده، فهو دعوة تلك الإطراف إلى الابتعاد عن الوقوف على الحياد من المقاومة الوطنية العراقية، التي هي وحدها –على المدى المنظور- التي تستطيع أن تلحق الفشل به.
إن الخطر الصهيوني، القادم اليوم من شمال العراق، لن توقف زحفه لامبالاة الأنظمة والحركات الحزبية من قضية اغتصاب الأرض الفلسطينية، التي استخدمت في العام 1948م. فلو أحسن العرب وسائل الدفاع عن فلسطين لما وصلت الصهيونية إلى شمال العراق. وهم إذا لم يحسنوا مواجهة الخطر القادم من العراق اليوم بشكل عام، ومن شماله بشكل خاص، فسوف تدخل الصهيونية إلى مخادع كل العرب وتحدد لهم الطريقة التي ينجبون فيها أجيالهم القادمة.
أو لا يكفينا أن يحمل المشروع الأميركي كل صلافة وغرور وتعالي ثقافة وأفكار أصحاب الشركات الأميركية الكبرى التي رسمها الرئيس الأمريكي (تافت) عندما أعلن في العام 1912م: »سنمتلك القارة بأكملها كما نحن نمتلكها الآن معنوياً بفضل تفوقنا العرقي«( ). ولأن النمط الأميركي في التفكير والسلوك هو على مثل تلك المقاييس فإنه: »لا يرى شيئاً خارج ذاته«، فأصبح استيلاؤه على المجتمعات الأخرى يشكل الخطورة الأولى على البشرية.
أوَ لا يكفينا ما جاء في التوراة: »(10) وإذا تقدمت إلى مدينة لتقاتلها، فادعها أولاً إلى السلم. (11) فإذا أجابتك إلى السلم، وفتحت لك، فجميع الشعب الذين فيها يكونون لك تحت الجزية، ويتعبدون لك. (12) وإن لم تسالمك… (13) وأسلمها الرب إلهك إلى يدك فاضرب كل ذكر بحد السيف. (14) وأما النساء والأطفال وذوات الأربع، وجميع ما في المدينة من غنيمة فاغتنمها لنفسك«؟
أوَ لا يكفينا احتلال العراق من قبل أقذر تحالف عرفه تاريخ البشرية؟ أوَ لا يكفينا جرس الخطر الذي يدق أبواب شمال العراق؟ أو لا يكفينا جرس الخطر الذي تدقُّه فتح أبواب الفيدرالية في العراق؟
إلى أن تتفتَّح ضمائر المتعاملين مع الاحتلال، وإلى أن يعي النظام العربي الرسمي خطورة المرحلة، وإلى أن يعي الخائفون أن قوات الاحتلال ليست إلاَّ نمراً من ورق، يبقى الأمل الكبير معقوداً بنواصي الفرسان أبطال المقاومة الوطنية العراقية. فإليهم تحية وألف تحية.
***

(7): تحية إلى أطباء وأساتذة الجامعات العراقية( )
أيها الأحبة
لقد لقي نداؤكم إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية صدى واسعاً في الأوساط العربية، على مستوى المثقفين العرب، من الصادقين بولائهم لقضايا الأمة العربية، كما على مستوى الشعب العربي.
أيها الأحبة على أرض الرافدين
أيها الأحبة العراقيون في كل مكان على أرض العراق
أيها الأحبة العراقيون القابضون على جمر المقاومة أينما كنتم
لقد أعفانا نداء النخبة من أطباء العراق وأساتذة الجامعات العراقية من تحليل ما يجري في العراق وتفسيره. فقد أوفى بوعي ورؤية واضحة ما يريده العراقيون من معركتهم ضد المشروع الأميركي الصهيوني الخبيث. فحددوا واجباتهم وحددوا لنا الدور الذي علينا –كعرب- أن نقوم به. ولهذا لا أرى من سبب كي أضيف شيئاَ على ما قالوه وتوجهوا به إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية، ومن خلاله إلى العرب والعالم.
أما ما أريد أن أقوله من خلال هذه التحية فهو أن أعبِّر عن وجدانية أردت –منذ زمن- أن أفضي بها، ومن عاطفة بداخلي بلغت حداً من الفخر والاعتزاز بما يقوم به أهلي على أرض العراق العربية على الرغم من أنها تزعج عدداً من المثقفين ممن يحسبون أنفسهم عرباً.
إننا في اللحظات التي ينتابنا فيها الألم على ما وصلت إليه حال الأمة العربية، على أيدي النظام العربي الرسمي، نشعر بالفخر والاعتزاز بما يصنعه أبطال المقاومة الوطنية العراقية، على أيدي الشعب العربي في العراق. كما حصل ويحصل على أيدي المقاومين الوطنيين الفلسطينيين والشعب الفلسطيني. وكما حصل على أيدي المقاومة الوطنية اللبنانية، وسبقت كل هذه التجارب مقاومة الشعب الجزائري.
إن وضوح رسالتكم إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية، ووعيكم الكامل لقضية العراق -ولا عجب في ذلك- فأنتم أصحاب البيت وأصحاب القضية والقابضون على جمرها، يعطي البرهان لكل المصطادين الأموات في أمتنا، من الذين مات فيهم الضمير والقلب والعقل، بأن قرار مواجهة العراقيين لأعتى قوة في العالم لم يكن مغامرة وجنوناً كما تصفه بعض الأوساط السياسية وبعض الأندية الثقافية والسياسية المحسوبة على أمتنا العربية.
إن منطق وعيكم لقضية العراق -قضية العرب والعالم المركزية- دفع بي –شخصياً- لكي أرتاح من عبء منهجي في الكلمة الجافة، وأقتنصها فرصة -من خلال توجيه تحية لكم وللشعب الذي تمثلون وللقضية التي تمثلونها- لكي أشبع جانب الوجدان والعاطفة الشخصية مما كنت أريد أن أشبعه في كل لحظة من لحظات المواجهة الشجاعة –منذ العشرين من آذار من العام 2003م- التي أبداها الشعب العراقي بقيادة وتخطيط حزب البعث العربي الاشتراكي تحت رعاية أمينه العام، الثائر القائد صدام حسين.
لم ينتابنا الوهم يوماً أن خيراً ما موجود في جعبة النظام العربي الرسمي، مع من يطبِّلون له ويزمِّرون، من مثقفين باعوا ضمائرهم، ومن أوساط إعلامية لا ترى في الخبر إلاَّ ما يدرُّه عليهم من أرباح وصفقات.
إن القرار الذي اتَّخذته قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، بقيادة الثائر العربي صدام حسين، أن ينزلوا إلى خنادق الثوار بعد أن تُستنفذ إمكانيات مرحلة الحرب النظامية غير المتكافئة مع قوى البغي والعدوان _أميركا الشركات والصهيونية العالمية- هو آتٍ من قناعة راسخة من أن الأنظمة الرسمية بنخبها المنتقاة على ذوق »أصحاب القرن الأميركي الجديد« والمحمية منه، لن تهزّها الكرامة الوطنية وهي بالأساس لا تكترث –ولن تكترث- للضمير الوطني، فأوطانها أصبحت في »جيوبها ومصالحها الذاتية«.
أيها الأحبة الذين انطلقت رصاصاتكم من خلال النداء الموجَّه إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية، نقول لكم إنه هو التعبير الصادق عن الضمير الوطني، وهو الصوت المدّوي للكرامة الوطنية. وهو الرصاصة المقاوِمة ضد هياكل النظام العربي الرسمي الهزيل.
جاء صوتكم لكي يحرِّض الضمير فينا، ولكي يؤكد أن الرصاصات الرائعة التي يطلقها أبطال المقاومة المسلَّحة ليست إلاَّ تعبيراً صادقاً وممثلاً وحيداً للشعب العراقي الأبي.
جاء صوتكم لكي يذكِّرنا كم نحن مقصِّرون في حق شعب العراق ومقاومته الباسلة وبحق المثقفين العراقيين، فهم يدفعون من أرواحهم ودمهم ولقمة عيشهم وأمنهم الشيء الكثير. لكن
أيها الأحبة الكرام يا من عقدتم مصيركم مع مصير »سواعد الفدائيين الأبطال« فأنتم جزءًا مهماً من المقاومة العراقية، لا تهنوا ولا تحزنوا فأنتم الذين تشقون طريقاً لأحرار الأمة العربية الذين فقدوا الأمل من أية فعالية يمكن للنظام العربي الرسمي أن يقوم بها. أنتم تشقون طريقاً جديداً للحركة الثورية العربية، بل وللحركة الثورية العالمية التي توقَّفت نضالاتها منذ حرب فييتنام.
ونحن اليوم، أبناء العروبة –بسواعدكم وضمائركم وتضحياتكم يا أبطال العراق- نشعر أننا نفتح الطريق أمام الغضب العالمي المكبوت ضد المشروع الأميركي الصهيوني الخبيث. هذا الغضب الذي يظهر حتى من أصحاب الضمير من المثقفين الأميركيين ومفكريهم، ومن أصحاب الضمير بين المثقفين البريطانيين ومفكريهم وسياسييهم أيضاً. وهم هتفوا ضد حكومات بلادهم التي نفَّذت العدوان ضد العراق.
أيها الأحبة، من خلال ندائكم المدروس الواعي لرسالتكم الوطنية النبيلة، وهو نداء الذين ارتبطوا بوعي مع قوميتهم وإنسانيتهم، لا بُدَّ من أن نقف بإجلال واحترام أمام الأسرى العراقيين بقيادة الثائر الشهم صدام حسين. كما نقف بكل إجلال أمام أرواح شهداء المقاومة العراقية، ونقف بإجلال واحترام أمام عظمة الماجدات العراقيات، وأمام عظمة أطفال العراق، وأمام كل شيخ أو كهل عراقي،
فجميعكم ترفعون رؤوسنا عالياً، وأنتم تقدمون كل تلك التضحيات من أجل أن تبقى الأمة العربية شامخة بمقاومتها في فلسطين والعراق، وسيكون شموخها أكثر عظمة أمام كل ثوار العالم الذين يراهنون على نتائج انتصارات كفاح الشعبين العراقي والفلسطيني ويقدمون لهما الإسناد والدعم.
عذراً منكم أيها الأحبة لأننا نقدِّم إليكم كلاماً، وهو يبقى أضعف الإيمان.
تحية من القلب إليكم جميعاً.
تحية إلى كل رصاصة تنطلق ضد العدو، تحية إلى كل عبوة تقنص آلية من آلياته، تحية إلى كل صاروخ ينطلق ضد طائرة من طائراته، تحية إلى صرخة كل ماجدة وكل طفل وكل كهل تنطلق في وجه جندي محتل ترعبه وترهبه وتزيد أعصابه توتراً فيصاب بالعطب النفسي، وتحية إلى كل نداء وكلمة تمثل الرصاصة التي تواجه الجبناء والمنهزمين ممن ينسبون أنفسهم للعروبة.
تحية إليهم كلهم لأنهم لا ينسوا، ولن ينسوا الذين خانوا وطنهم العراق وأمتهم العربية والقيم الإنسانية ممن جاؤوا على دبابات الاحتلال ويحتمون بها من غضب شعبهم الذي خانوه وغضب أرضهم التي خانوها.
***

(8): جدران العزل العنصري قمة الأزمة في وجه المشاريع الأنجلو صهيونية( )
لا نبالغ إذا قلنا بأن هناك ترابطاً وتكاملاً بين المشروعين الصهيوني والأميركي يحيا أحدهما بحياة الآخر وينتعش بانتعاشه يموت بموته ويحتضر باحتضاره. فهما رئتان في صدر واحد، وهما رضيعان يتناولان الحليب من ثدي واحد.
أما الثدي فموبوء والرضيعان مصابان بالوباء. هكذا كانت فلسفة سايكس وبيكو. وهكذا هي فلسفة حفيديهما بوش وشارون.
لم يسمح التاريخ، على الإطلاق، بأن تستمر الحياة لأي مشروع فكري أو سياسي قائم على إلغاء الآخرين، وهل للمشروع العنصري البوشاروني، كرمز معايش للمشروع العنصري الأم، أن يحيا باتجاه معاكس للتاريخ؟
وهل تُكتَب الحياة للمشروعين، الصهيوني القائم على عنصرية الشعب المختار كوعد إلهي مزعوم، و(البوشي) القائم على حرب الأفكار لبناء إمبراطورية قائمة على القوة والاستيلاء لتنتزع عوامل الشر من العالم على أن يقودها جورج بوش كمبعوث لله على الأرض؟
أسئلة طالما وضعها الفكر السياسي العالمي بشكل عام والعربي بشكل خاص، وطالما شارك الآلاف من المفكرين في تحليله واستشراف أهدافه، وبالتالي الاسهام في وضع الرؤى والخطط التي تستهدف لجمه واحتواءه والقضاء عليه.
وبدورنا، نعمل على الاسهام في تلك الورشة لعلَّنا ننير شمعة في طريق إنهائه.
من الأساسي في كل عملية للتغيير أن يكون الفكر هو الرائد والبوصلة والموجِّه والمصوِّب، أو قد يكون الكاشف للحقيقة أو بعضها بما يؤسس لحالة تراكمية تؤدي –في النهاية- إلى تحقيق الغرض من الصراع. وفي صراع العالم ضد العنصرية الصهيونية و»حرب الأفكار« عند المحافظين الأميركيين المتطرفين الجدد، ما يبشِّر بنجاحات كبيرة حتى ولو لم تكن واضحة ومنظورة عند الكثيرين.
ما نراه، كما يراه غيرنا، أن في مثال »جدار الفصل العنصري« الذي تبنيه الإدارة الصهيونية بين الكيان المغتصب لأرض فلسطين وحدود السلطة الفلسطينية الجغرافية. كما المثال الذي تعمل قوات الاحتلال الأميركي في العراق من أجل بنائه على قاعدة الخروج من المدن العراقية والانعزال في ثكنات خارجها. هو ما يؤكد على أزمة ومأزق يعاني منهما المشروعان الصهيوني والأميركي في كل من فلسطين والعراق.
إنها –كما نرى- بداية النهاية للمشروعين معاً، أما البراهين فمنها التالية:
لا شك بأن حسم الصراع يكون دائماً بين مشروعين فكريين، وعلى مقاييس الحسم الأساسية يتجه الصراع في قواعده الأساسية نحو مرحلة من الوضوح تتجه نحو المزيد من العمق. فلقد تحوَّل الصراع الذي يحصره البعض بين طرفين (عربي وإسلامي) وطرفين (صهيوني وأمريكي) ليأخذ طريقه نحو صراع إنساني أممي (بعمقه الإنساني القيمي) ضد مشروع فكري سياسي (بعمقه العنصري المعزول).
لقد ظهرت أولى بوادر الهزيمة الفكرية في المشروع الصهيوني في بناء الجدار الإسمنتي، فهو ليس إسمنتياً بل جدار فكري يعبِّر تمام التعبير عن الأزمة والمأزق الفكري الذي تعانيه الإيديولوجيا الصهيونية، الإيديولوجيا التي وسَّعت نفسها إلى أكثر من الجغرافيا بين الفرات والنيل إلى الكرة الأرضية بأكملها منتعشة بالتحالف مع أممية رأس المال. فبوادر هزيمتها الأولى ظهرت في أن ذلك الجدار الإسمنتي هو تعبير عن أن الإيديولوجيا الصهيونية قد انزوت في حدود ضيقة جداً على حلمها الكبير. وهو بداية النهاية لذلك الحلم. والحجة هو أن الفكر الأممي للصهيونية عندما يرى أن حمايته تستند إلى مجرد عوازل من الإسمنت المسلَّح بارتفاعات كبيرة، يكون قد تعامى عن حقيقة أساسية هو أن مبدأ القلاع المحصنَّة قد سقط أمام ابتكارات التكنولوجيا واحداً بعد الآخر، وليس بالمستحيل على العامل الذي فرض على الأفكار الصهيونية أن تتحصَّن وراء الإسمنت أن يجتاز الجدار العازل الإسمنتي الجديد.
أما أولى مظاهر هزيمة »حرب الأفكار«، إيديولوجيا العنصريين الأميركيين الجدد، فتظهر واضحة من خلال القرار الاستراتيجي لإدارة بوش المبعوث الإلهي الأميركي لتحرير البشرية، في إخراج قوات الاحتلال الأميركي إلى خارج المدن العراقية، وقد لجأت قيادة قوات الاحتلال الأميركي في العراق إلى بناء جدران عازلة لحماية قواتها من نيران المقاومة العراقية. وهل تُحلُّ أزمة حرب الأفكار الإلهية ومأزقها عند صقور إدارة بوش وحمائمها في بناء جدران عازلة؟
لقد دخلت قوات »حرب الأفكار« إلى العراق لتشم رائحة الورود التي كانوا يتوهمون بأن العراقيين قد غرسوها في حدائقهم ليقدموها هدية إلى جنود النبي الكذاب جورج بوش. دخلت تلك القوات لكي تتمتَّع بالسباحة في مياه دجلة والفرات الدافئة. ولكي يأخذوا الصور التذكارية على ظهور »الجمال العراقية« يقودهم عراقي يجر الجمل. ولكي يأخذوا الصور لماجدات العراق وهنَّ سبايا يتوسلن سيدَّهن الأميركي. ولكي يؤهلوا أطفال العراق لدور العبيد السود أو الحمر الذين عليهم أن يكدحوا من أجل تكديس الثروات لسيدهم. وكأن ثروات العراق كانت تنتظر أسياد المناجم لاستغلالها وتوزيعها كغنائم حرب على الأسياد الصقور والحمائم في إدارة بوش النبي الكذَّاب.
لقد ضاع الحلم الأميركي السعيد، وتراجعت إيديولوجيا »حرب الأفكار« المقدسة لتنعزل وراء جدران من الإسمنت المسلَّح خوفاً عن عيون العراقيين الحاقدة في المدن، أطفالاً وماجدات وشيوخاً. وبعيداً عن التلذذ بمياه دجلة والفرات الدافئة التي ابتلعت الكثير من جثثهم، وخوفاً من ورود الطلقات القاتلة التي قتلت وجرحت وأصابت بالهستيريا عشرات الآلاف منهم.
إن جدران العزل العنصري التي يرفعها بناة الأفكار والإيديولوجيات العنصرية التلمودية المتعجرفة، والطامعة بحكم العالم واستعباده، لن تحمي أفكارهم وعنصريتهم بل إن المقاومة الفلسطينية والعراقية سوف تقتحم أسوارها من جديد وتعمل على هدمها، وهذه ليست إلاَّ البداية لنهاية الحلمين الإيديولوجيين الصهيوني والأميركي المتطرف. فابشر بطول مقام أيها المشروع الإيديولوجي الخبيث بين سندان الفلسطينيين ومطرقة العراقيين. فابشر لأن الخير مرهون بنواصي خيل المقاومة الوطنية في العراق وفلسطين، وهما –اليوم- أنموذجان يعمِّقان خط الكفاح الشعبي العربي المسلَّح على طول الساحة العربية من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي.
هذه راية العروبة تخفق من جديد بعد أن أماتها الكثيرون، ويريد كثيرون أن تموت، وهي لن تموت، بل هي حية إلاَّ في أوهام الحاقدين وأسياد الحاقدين من المحيط الهادئ إلى المحيط الأطلسي.
***

(9): الجامعة العربية: الإصلاح لماذا وكيف؟
الوفاق العربي في شباط 2004م.
لقد تحوَّلت المؤسسات الرسمية العربية، ابتداءً من مؤسسة الجامعة العربية انتهاءً بمؤسسة القمة العربية، إلى هياكل تتميَّز بكل شيء إلاَّ بخاصية النبض الوجداني القومي.
منذ أن أخذت تلك المؤسسات في النشوء والتكوين، كان يسكننا الحلم/ الأمل في أن تتطور البنى المؤسساتية إلى مستوى العمل القومي الموحَّد، كما كان يسكننا هاجس الخوف من أن تتحوَّل إلى أداة توحيدية ولكن على قاعدة تنفيذ كل المشاريع وضمان المصالح باستثناء مشاريع التحرر الوطني والقومي ومصالحهما. وهذا ما يدفعنا إلى إعادة استقراء تجربة، منذ تأسيس جامعة الدول العربية في العام 1945م، تقترب من الستين من عمرها. وللأمانة نقول إن تلك المؤسسة الجامعة ارتقت بالعمل الوحدوي العربي درجات كانت توحي بالصحة أكثر مما توحي بالمرض. وكانت دعوتنا للحرص عليها صادقة من دون ريب ولا شك. وكان إحياء الأمل في أن تلعب ذلك الدور مقتلاً لتلك المؤسسة في الوقت ذاته، لأنها –بنظر كل راسمي مشاريع التآمر على الأمة العربية- تتناقض مع استراتيجية احتواء الأمة وإبقائها ضعيفة ومُرتَهنَة لإرادتها.
فإذا كانت الستينيات تُعدُّ مرحلة التطور الارتقائي في عمر جامعة الدول العربية بعد أن تحوَّلت إلى مؤسسة القمة، فإن مرحلة ما بعد حرب حزيران من العام 1967م، كانت بداية النهاية لمرحلة الارتقاء وبداية التآمر لإضعاف دورها وتحويله إلى ما يخدم مصالح المشاريع الاستعمارية.
فمن كثرة الضغوطات، من خلال تفرد وهيمنة أميركية، ارتمى النظام العربي الرسمي بشكل عام وصارخ في أحضان التوجيهات الأميركية وأصبح القرار العربي الرسمي مرتهناً للقرار الأميركي، وقد بان هذا الارتهان واتَّضح وفقد بوصلته القومية منذ العدوان الثلاثيني على العراق في العام 1990م. وأصبح أكثر وضوحاً وأكثر ثباتاً بعد احتلال العراق في آذار من العام 2003م.
وإذا كان يبدو في الظاهر بعض الارتباك في المواقف الرسمية العربية تجاه الاحتلال الأميركي للعراق بما يؤشِّر الو وجود مأزق، فإنما السبب يعود إلى انتظار تلك الأنظمة أن تصدر بعض الحوافز الدولية أو الإقليمية تسمح للنظام العربي الرسمي للتلطي في ظلها ليتخذ إجراءات تصب في مصلحة مشروع الهيمنة الأميركي، وتعمل بالضد من مصلحة العراق سواء في جانبها الوطني أو القومي.
وإذا كانت صورة دور جامعة الدول العربية مرآة لدور النظام العربي الرسمي فتلك الصورة تصبح بغاية من الوضوح في الوقوف ضد مصلحة العراق، كأنموذج ينعكس بالسلب على مجمل القضايا القطرية، ومنها قضايا الأنظمة التي تتَّخذ تلك المواقف البعيدة عن المصلحتين القطرية والقومية (أو لم تعلن الإدارة الأميركية أن الدور القادم لن يستثني الأوضاع في مصر والسعودية؟).
تأتي قضية فلسطين الآن –التي كانت القضية المركزية للعرب- على رأس قوائم التصفية النهائية، وتليها قضية كل قطر عربي حسبما هي مندرجة على جدول أعمال مشروع أمركة العالم، وحسب المواعيد المرسومة والموضوعة على لائحة التنفيذ كل في أوانها المناسب.
فهل بعد استقرائنا لتلك الصورة يفيدنا في الإجابة عن السؤال عن كيف يتم إصلاح جامعة الدول العربية؟
ليست مشكلة جامعة الدول العربية تكمن في التفاصيل، وإنما أصبحت في المبدأ ككل. فيصبح الدخول بعملية الإصلاح مسألة عقيمة، بل لا بُدَّ من الدخول في النظر إلى المبدأ.
أما المبدأ فرحمة الله عليه، فقد مات منذ أن انقلبت مقاييس المصلحة القومية، ومنذ أن أصبح المكيال في الوطنية يتمثَّل في التسابق إلى خدمة المشروع الأميركي بحرارة مادية ومعنوية. ذلك التسابق الذي نشبهه بقطيع من النعاج الذي يقوده الجزار الأميركي إلى (المسلخ)، فيحث القطيع الخطى من دون أدنى اكتراث من أفراده حول متى يأتي دور النعجة التالية.
أما هل تضعنا هذه الرؤية في دائرة اليأس؟ فنجيب: لم تكن النخب الحاكمة في أي يوم من أيام التاريخ في موقع الذي يستطيع أن يلجم التغيير إلى ما لا نهاية. وهي إن كانت تؤخر عوامل التغيير ووسائله ومنعه من تحقيق النجاح، وتعمل على عرقلتها، فإنها لم تستطع في أية مرحلة من المراحل أن تمنعها إلى الأبد.
أما منافذ الأمل فهي كثيرة، وهي بالقوة التي تتعامى عنها المشاريع المعادية من داخلية وخارجية، وهي ليست إلاَّ إرادة الشعوب في التغيير على قاعدة التضحية والنضال مستخدمة أضعف الإمكانيات المادية على شتى الصُعُد ويتمثَّل أرقاها في الكفاح الشعبي المسلَّح.
استناداً إلى كل ذلك، نخاطب القمة العربية القادمة قائلين: لا تخطئوا في اتخاذ قرارات لا توافق عليها كل من المقاومة الفلسطينية والعراقية –بما هما الممثلان الشرعيان للشعبين الفلسطيني والعراقي- لأنه إذا كان القرار الرسمي ملكاً في أيدي الأنظمة فإن قرار الجماهير في أيدي قيادات المقاومة في كل من فلسطين والعراق.
سيجد النظام العربي الرسمي والمحيطين به، فيما نقول، أو فيما تفعله المقاومة المسلَّحة في فلسطين والعراق، نافذة للسخرية والتندر والاتهام بالعبثية واللاواقعية والجنون؛ لكن نخاطبهم قائلين: لا تعبثوا بإرادة الشعوب ولا تستهينوا بقوتها وقدراتها، فإرادة الشعبين العراقي والفلسطيني صمَّمت على متابعة الكفاح المسلَّح، وهي بقراراها تصبح سيدة القرار، أما القرارات الرسمية فلن تكون إلاَّ حبراً على ورق؛ وهي إنما ستُكتَب من أجل إنقاذ إدارات الاحتلال الأميركي البريطاني الصهيوني من غضب شعوبهم. ومن يعش يرى.
لن نطيل الكتابة ونربك أنفسنا في التفتيش عن حلول ذات علاقة بنقد آليات العمل العربي الرسمي المشترك وتطويرها، وإعطاء وصفات للكيفية التي من الواجب أن تكون عليها، لأن آليات العمل إذا فقدت الروح تصبح عقيمة، وتفقد بوصلتها القومية والوطنية، وهذا هو حال آليات عمل مؤسسات جامعة الدول العربية. وهي فقدت الروح عندما راحت تعمل من أجل إنقاذ مشروع المصالح الأميركية والصهيونية، ولا يمكن أن نقترح ما يصلح تلك المؤسسات إلاَّ بعودة الروح إليها، وعودة الروح مرهونة بتغليب المصلحة القومية والوطنية، لا كما ترسمها -وتتصورها مؤسسات النظام العربي الرسمي- وإنما كما تتصورها المؤسسات الشعبية، وهي الوحيدة التي تستطيع أن ترى بوضوح مصلحتها التي لا تنفصل عن واقع التحرر السياسي كمعبر للتحرر الاقتصادي والاجتماعي. أما الذين وجدوا مصلحة لهم في المحافظة على مواقعهم في الحكم فهم لا مطامع لهم ولا طموح إلاَّ البقاء حيث يطمعون في البقاء، ففي المحافظة على مصالحهم النخبوية والطبقية اختصروا مصالح الشعوب التي يحكمون.
وعلى قاعدة المؤسسات الشعبية الوطنية والقومية، نرى أن بعض الاقتراحات قد تكون مفيدة في تطوير المؤسسات السياسية التي تمثل نبض الشارع القومي والوطني. وحول ذلك ننظر إلى تطوير الخطاب العربي وتحديثه وتجديد مضامينه. الخطاب الثوري غير الملامس للخطاب الرسمي العربي أو المعبِّر عنه، بل الخطاب المعبِّر عن الحركة الشعبية والحزبية الثورية.
من هذا الأساس نرى أن أصحاب ذلك الخطاب معنيون ومدعوون إلى نقد آليات مرحلة المراهنة على قوانين الصراع النظامي ضد المشاريع المعادية، من أجل نقد المفاهيم النضالية القديمة واستنتاج آليات جديدة ومفاهيم جديدة، على أن تستفيد تجربة فشل النظام العربي الرسمي في قيادة الشعوب إلى التغيير، ومنها ومن أهمها مسألة الصراع في التحرر من الاستعمار والصهيونية.
إذا كان الخطاب الشعبي التحرري، من خلال كل القوى التغييرية أحزاباً ومؤسسات وأوساطاً مثقفة…، قد فقد الأمل من المراهنة على النظام العربي الرسمي، فهو معني –بل من الواجب عليه- أن يكتشف البديل ويضع أسسه النظرية والتطبيقية ليتحوَّل إلى ثقافة نخبوية وشعبية.
أما الرؤية التي رست عليها كل الاستنتاجات من دراسة قوانين الصراع بين الأمة العربية وبين المشاريع المعادية هي أن تلعب الجماهير دورها، وهي قادرة على ذلك، من خلال الاعداد الثقافي للفكر الشعبي المقاوم، وأرقاه وأشده تأثيراً المقاومة المسلَّحة.
وإذا كانت مساهمتنا في الملف لا تستوعب –كما أعلم- التطويل فيها لأساب فنية، فنختصر بالقول: إن تطوير الخطاب العربي وتحديثه وإغنائه لا ينفصل على الإطلاق عن العناية بالفكر المقاوم وإعطائه حيزاً أساسياً في ثقافة المثقفين، وثقافة المجتمع؛ فهو البديل عن نغمات النظام العربي الرسمي المشروخة عن الواقعية وغيرها من وسائل تخدير المجتمع الوطني والقومي وإقالته من مهمته، وتيئيسه بمقدرته وإمكانياته.
***

(10): الفتوى بالجهاد بين مطرقة »تبرير الخيانة« وسندان »الأمركة«
دورية العراق: أول آذار 2004م
كي لا يتركوا ثغرة حول المبدأ، أجمع مجتهدون كثيرون، من فقهاء ومستشارين ومرجعيات دينية إسلامية، على الاعتراف بأن الغزو الأميركي للعراق هو احتلال بيِّن، وأعلنوا أن الاحتلال كمبدأ مرفوض. ولكن…
ومن »لكن« تبدأ حكاية الفتوى الدينية رحلتها التبريرية الطويلة.
لقد غرق المبدأ في متاهات الضلال، بل التضليل؛ والتبرير، بل »الغاية تبرر الوسيلة«؛ والهروب، بل »دفن الرأس في رمال النعامة«؛ وأصبح النص الإسلامي »الجهاد فرض عين« تائهاً بين مطرقة المستفيدين من الاحتلال، وسندان الاحتلال –ذاته- المستفيد الأول والأخير من احتلال العراق. أما السبب في التيه فيعود إلى أن بعض الفقهاء من المنتمين إلى التيارات السياسية الدينية انبروا يتنافسون حول من يقدِّم أفضل فتوى تُبعد صفة »الخيانة« عن الذين تعاونوا مع الاحتلال منذ البدء بالتخطيط انتهاء بالاحتلال الفعلي لأرض العراق.
إن النص الديني الذي لا جدال بأن الجميع أجمعوا عليه، »من مات دون عرضه أو أرضه أو عياله، فهو شهيد«، تناسته الفتاوى الدينية وأعرضت عنه، واستبدلته بقواعد فقهية كانت تتناسب مع أزمنة وأمكنة وصراعات مذهبية سابقة، وشوَّهوا تُراث الأقدمين وانهالوا على كل قواعد القيم الدينية والإنسانية الثابتة هدماً وتدميرا. ومن تلك القواعد الفقهية التي استندوا إليها في فتاويهم سنورد البعض للاستشهاد وليس الحصر:
-»ما فات كله، لا يُترَك جلُّه«.
-و»عدم سقوط الميسور بالمعسور«.
-و»معايير المصلحة والمفسدة المراعاة في الفقه والفتوى والحكم«.
-و»الموازنة بين المهم والأهم (الترتب) بحسب المصطلح الأصولي الفقهي«.
-و»الحساب الدقيق للمحاذير تجنبا للوقوع في الأشد محذورية«.
-و: »إن أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر«، أي كان من الأولى على الفقهاء أن »يدعوا إلى الجهاد ضد الحاكم الطاغية«، قبل أن تصل موس الاحتلال إلى لحية الأمة.
-و»قتال العرب الآن لليهود لا يمكن بحال أن يُسمَّى قتالاً إسلامياً؛ حيث إن القتال الإسلامي-كما نعرفه-هو القتال في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، يعني لغرض الحكم بما أنزل الله، وليس من الممكن أن يقاتل قوم لا يحكمون أنفسهم بكتاب الله، ليحكموا غيرهم بكتاب الله… «.
النتائج القيمية لفتاوى التبرير والهروب إلى الأمام:
بداية نتوجَّه إلى المرجعيات الدينية السياسية بالأسئلة التالية:
هل على المرجعية الدينية المركزية أن ترهن رأيها بالواقع السياسي؟
أي هل تتغيَّر القيم استجابة لأهواء السياسة؟
فإذا كان ذلك كذلك فما هو الهدف من وجود مرجعية تأخذ المبادئ بوصلة لتصويب الأهواء السياسية وأغراضها؟
من حيث المبدأ لا يمكن أن تستند القواعد الشرعية الدينية في واقع الاحتلال –كمثل ما هو حاصل في العراق- إلاَّ على حدَّيْ المعادلة: الطرف المحتل من جانب، والطرف المفاوض باسم الشعب الذي وقع عليه الاحتلال من جانب آخر. فإذا اتفقت الفتاوى –وهذا شيء سليم- حول لا شرعية الاحتلال، يبقى أن تتأكَّد الفتوى من شرعية أو لا شرعية المفاوض العراقي مع قوات الاحتلال. وهنا يبدأ السؤال: هل يتمتع الطرف العراقي –المفترض أن يكون مفاوضاً- بشرعية أخلاقية أو شرعية التجرد عن الأهواء والأغراض الخاصة، أو الأهلية الفكرية والدينية، أو أهلية التمييز بين المنفعة أو المضرَّة؟
تستند معظم الفتاوى إلى أن »مجلس الحكم الانتقالي« هو الطرف العراقي –حتى كأمر واقع- الذي يمثِّل الشعب العراقي في مواجهة الاحتلال ليفاوض باسمه. وهنا لا يمكن إغفال أن من أبسط قواعد أسس الحكم الشرعي أن يكون –من يفاوض باسم شعب أو جماعة من المسلمين- من الذين يميِّزون بين »المنفعة والمضرَّة« ومن الذين يتميَّزون بالنقاء الأخلاقي، وممن لا مصلحة مادية لهم مع الاحتلال، وممن أثبتوا أمانتهم السياسية والوطنية، وبدون تلك الصفات لن يكون المفاوض حريصاً على وطنه وأبناء وطنه…
فهل تتوفَّر تلك الشروط في أعضاء »مجلس الحكم الانتقالي«، ممن تضعهم الفتوى في موقع الطرف المواجه للاحتلال؟
وهل أخذت –المرجعيات الدينية التي انخرطت في الفتوى- المواصفات الشخصية لأعضاء مجلس الحكم؟
وهل لا تعلم تلك المرجعيات بأن كثيرين منهم لا تنطبق عليهم تلك الشروط؟
وهل لا تعلم أنهم متورطون في مشاريع مالية لا علاقة لها بمصلحة المسلمين ولا بالشعب العراقي، بل هي مشاريع ذات نفع شخصي لا تأخذ النفع العام بعين الاهتمام؟
هل لا تعلم بأن بعضهم محكوم بموضوع سرقات سابقة؟ وهل لا تعلم بأن أكثرهم متورطون بالشراكة التجارية مع عدد من الشركات الأميركية والبريطانية والصهيونية؟
وهل لا تعلم المرجعية بالأدوار السياسية التي لعبها الكثيرون منهم قبل الاحتلال عندما هربوا من وطنهم وراحوا يحيكون المؤامرات ضد وطنهم مع هذه الجهة الأجنبية أو تلك؟
وهل لا تعلم المرجعية بأن المخابرات المركزية الأميركية كانت ترصد موازنة خاصة لتمويل بعض تلك الشخصيات وتنظيماتها؟
وهل لا تعلم المرجعية أن التنظيمات التابعة لبعض أعضاء المجلس قد أسهمت في احتلال العراق جنباً إلى جنب القوات الأميركية والبريطانية الغازية؟
وهل لا تعلم المرجعية بأن بعض أعضاء المجلس لهم علاقات تاريخية مع الصهيونية وأنهم أغدقوا الوعود على حكومة العدو »الإسرائيلي« بتصحيح العلاقة بين العراق »الديموقراطي المحرر« والعدو الصهيوني؟
فإذا كانت تلك المرجعيات تجهل حقائق الأمور حول »الطرف الذي تقبل بتمثيله الشعب العراقي«، نقول بلا حرج بأنها مصيبة، وهذا شرط كافٍ للطعن بشرعية الفتاوى.
أما إذا كانت المرجعيات تعلم كل المعلومات عن »أعضاء مجلس الحكم الانتقالي« أو جزءًا منها، وتصر على فتاويها بإضفاء الشرعية على تمثيلهم للشعب العراقي أو تمثيل مذاهبهم الدينية، فالمصيبة أعظم.
تلك النتائج تجعل من كل مسلم يعرف تلك الحقيقة مسؤولاً إذا لم يقل كلمة حقٍّ في وجه مجتهد ضال، أو من هو في موقع الفتوى وله أوتار وأغراض، ومنعه عن التلاعب في القيم الدينية ووضعها في خدمة مآربه.
وأخيراً نتساءل: ألا تكفي تلك المواصفات الشخصية والعامة لكي تتخِّذ مرجعيات الفتاوى، موقفاً صارماً يقضي بطرد كل أعضاء »مجلس الحكم الانتقالي«، ومنعهم، من الدخول إلى أقداس العتبات المقدسة؟
النتائج السياسية التي تخلِّفها فتاوى التبرير والهرب إلى الأمام:
أما من مجمل تلك القواعد الفقهية فنوجز النتائج التي يريد أصحابها أن يمهدِّوا بها، أو يضعوها في خدمة الأهداف التي حددوها سلفاً. أما الأهداف فهي:
-طمع التيارات السياسية الدينية بحصة من كعكة الحكم السياسي في العراق: ولهذا غرقت الفتوى الدينية في تبرير غرق بعض من ينتمون إلى تيارات سياسية إسلامية في مستنقع التعامل مع الاحتلال، وطمع بعض الذين أصدروا الفتاوى بأن تنال تياراتهم المشاركة للاحتلال في إدارة العراق المؤقتة، حصة في كعكة مستقبل الحكم السياسي فيه، وهماً منهم أن الاحتلال أعفاهم من عبء القضاء على نظام علماني، ومهَّد لهم الطريق لبناء نظام إسلامي، فراحوا يبتكرون قواعد فقهية تجيز لهم أن يدخلوا في حوار مع احتلال لا طاقة لهم، بل لا نية لهم، في مواجهته. ومن جملة تلك الوسائل التي ابتكروها، ما سمُّوه ب»المقاومة السلمية«.
-التعبير عن أحقاد إيديولوجية سابقة، أساسها حرمان بعض المنتسبين لتلك التيارات من تحقيق أغراض وأهواء وطموحات شخصية لا يمكن أن يصلوا إليها بكفاءة وخبرة إلاَّ بالاستنجاد بالسلاح المذهبي. ومن جملة هذه العيِّنة بعض الطامعين بمنِّ »عائدات الحوزات الدينية، من نذور وأخماس وزكوات« وسلوها. وهم لو كانوا ممن يطلبون مصلحة أبناء مذهبهم لطالبوا كل من أشرف على تلك »العائدات« أن ينفقوها على أبناء المذهب الذين يدَّعون بأنهم من المحرومين. أو لم تبلغ تلك »العائدات« المليارات السبع في كل سنة؟؟!!
-أوهام من توهَّموا بأنه يمكنهم –تحت حراب الاحتلال- أن يبنوا، بسهولة ويسر، دولة تطبق الشريعة الإسلامية: وإلى هؤلاء نلفت النظر إلى أن ما يحول دون هذا الوهم حواجز وعراقيل كثيرة، ومن أهمها أن مشروع المتطرفين الأميركيين (طبقياً ودينياً) لن يسمحوا بتأسيس نظام لا يستجيب إلى أفكارهم ويطبقها، وهل يمكن أن يكون النظام في العراق نظاماً دينياً إسلامياً مؤهلاً للتصادم مع أفكار المشروع التحالفي بين التطرف المسيحي (الذي أُعدَّت له إدارة جورج بوش) والتطرف التلمودي الصهيوني (الذي أُعدَّت له حكومة الليكود)؟!
لقد هيأ المخطط الأميركي عدَّة عمله السياسية العراقية كبند من بنود استراتيجيته وعدَّد أعضاءها بالإسم وبالمواصفات الضرورية كأحد شروط دفتر تلزيمها تمثيل الشكل السياسي في حكم صوري في العراق لا حق له بالقرار بل بالتنفيذ والانصياع للقرارات المرسومة.
وعلى افتراض أن الوهم أصبح حقيقة وأُتيحت الفرصة لبناء دولة إسلامية في العراق، حتى ولو لم يكن تحت حراب الاحتلال، أي لو سنحت الظروف للتنظيمات السياسية الإسلامية المشاركة في »مجلس الحكم الانتقالي« أن تحرر العراق، فبأي فقه يمكنهم أن يحكموا دولتهم الإسلامية؟
أبالفقه الشيعي؟ وأي فقه منهما؟ على قاعدة أن المرجع الشيعي »يحتفظ بموقعه الولائي المتفق عليه فقهياً في حدود الأمور الحسبية«، أم على قاعة ولاية الفقيه؟
أبالفقه السني؟ وأي فقه منه؟ أبالمذاهب الأربعة؟ وعلى أية قاعدة؟ أعلى قاعدة فقه أي من التيارات السنية السياسية الكثيرة والمتناحرة؟
وإذا كان تشاؤمنا سراباً، وفقأت المذاهب الإسلامية »حصرمة« في عيننا وأعلنت اتفاقها على فقه موحَّد ودولة إسلامية واحدة، فما هو حال الأديان الأخرى من الأقليات المسيحية؟؟!!
وفي النتيجة نقول للواهمين ببناء دولة إسلامية –بعد أن خلَّصهم الاحتلال الأميركي من نظام علماني لم يعرفوا له قيمة –ولن يعرفوها- إلاَّ بعد خراب البصرة وبغداد وأربيل: إختصروا الزمن على شعبكم وارحموه، لأن الميسور –في هذه المرحلة بالذات، كفرصة تاريخية بين أيديكم- هو أن تطرقوا الحديد وهو حامٍ، بل وهو يشتعل بأيدي المقاومة »المسلَّحة« ضد الاحتلال، لتتخلَّصوا من الاحتلال، وتعودوا إلى طاولة حوار وطنية هي الوحيدة التي من على كراسيها ترسموا قواعد لنظام سياسي يوحِّد بين العراقيين على قاعدة الوحدة في الحقوق والواجبات.
إن أي طريق آخر (وهذا الكلام موجَّه للإسلاميين دون غيرهم) لن يعرف له أي مصير إلاَّ في المجهول. والمجهول هو الطريق الذي تُحدده أهداف الغزو الأميركي للعراق، ولا يتوهمَنَّ أحد إلاَّ أن تكون الكعكة المحلاَّة بالسياسة والاقتصاد والإيديولوجيا والأفكار من نصيب »القرد الأميركي«، ولن تكون الكعكة الممزوجة بالمرارة حتى الثمالة إلاَّ من نصيب الشعب العراقي بأكثريته العرقية والدينية أو بأقليته.
أما إلى الفقهاء والمجتهدين، ممن سلكوا وسائل التبرير مستندين إلى شتى القواعد الفقهية والشرعية، فنقول لا يمكن أن تكون فتاويهم متجاوبة مع معتقداتهم الدينية، إلاَّ إذا استندوا إلى النص الأساسي، الذي يعبِّر عن قيمة دينية عليا وقيمة إنسانية عليا، وهو ما قاله أحد الفقهاء »إن مقاومة الاحتلال لا تحتاج إلى فتوى«.

(11): إحتمال الفتنة العرقية والطائفية في العراق: تأصيل وواقع ومستقبل
يحدو الحريصون على استمرار أداء المقاومة العراقية هواجس ومخاوف من أن يزرع الاحتلال في طريقها بعض العوائق والحواجز، بما يؤثر في إضعافها أو إلهائها عن مهماتها الأساسية في ضرب الاحتلال وأدواته. ومن جملة تلك المخاوف والهواجس يتساءل المخلصون عن وجود إمكانية خلق فتن طائفية هنا أو هناك، أو خلق فتن عرقية.
ولأننا نسهم في الكتابة والبحث عن المقاومة العراقية بما يجعلها تحت أضواء واضحة، من حيث مهمتها وأدائها وتأثيراتها: كشفاً عن أسباب وجودها، ومراحل تكوينها، وواقعها في اللحظة المعاشة، واحتمالات تطورها، وعوامل استمرارها وتطويرها، وبالتالي البحث عن وسائل تنشيطها، وعن عوامل إعاقتها عن مهمتها، واستشراف تأثيراتها في سياق الصراع العام بينها وبين أهداف الاحتلال وواقعه، وسبل إضعاف وسائل حمايته، وبالتالي –ومن خلال اهتمامنا بإصدار كتاب آخر مكمل لكتابنا السابق »المقاومة الوطنية العراقية: معركة الحسم ضد الأمركة«، وقفنا بجدية أمام الإشاعات والتنبؤات التي تنذر بإمكانية خلق سلسلة من الفتن الداخلية في العراق، ومنها احتمال قيام فتنة طائفية، يكون أصحاب مشروع »القرن الأميركي الجديد« من راسميها وصانعي سبل وعوامل توليدها.
لتلك الأسباب، ولأننا نحسب أن زرع مثل هذا العامل فيه ما يعيق عمل المقاومة العراقية، رأينا أن نولي البحث فيه اهتماماً خاصاً. ولأنه من الحساسية بمكان، آلينا على أنفسنا أن نطل بموضوعية وواقعية حول إمكانية تحويل الفرضية إلى واقع؛ فرحنا نفتِّش عن كل ما كتبه من سبقونا، خاصة من الأخوة العراقيين لأنهم الأعلم بخصوصيات الساحة العراقية، ولم نهمل بعض الآراء التي صدرت عن غيرهم ممن لهم آراء في تشخيص عوامل مخطط الفتنة وإمكانية نجاحها وأسبابها.
لهذا السبب قمنا بصياغة هذا البحث، ونحن نطمح إلى الحصول على تصويبات لكل جوانبه، كما نطمع بالحصول على إضافات ممن لهم الاطلاع الأوسع، والرأي الموضوعي حول كل جوانب فرضية اندلاع مثل تلك الفتنة. ولذا نرجو –مسبقاً- من كل الذين يقرأون نواة البحث الذي قمنا بصياغته أن يبادروا إلى تزويدنا بملاحظاتهم ومعلوماتهم وتصويباتهم واقتراحاتهم مشكورين سلفاً. كما نتوجه بالشكر إلى كل من استفدنا من آرائهم في المقالات أو البحوث التي تم نشرها، والتي سوف ننسبها إلى أصحابها، كما تقضي بذلك أمانة البحث العلمي.
أما نص البحث فهو التالي:
بعد أن قلبت المقاومة العراقية الطاولة على رؤوس المحتلين، وفي مقدمتهم إسرائيل والصهيونية العالمية، أخذوا يعملون على نبش وتحريك رماد الطائفية والعرقية في المجتمع العراقي المتعدد التنوع، لتكون المحاولة الأخيرة، بعد أن يدب اليأس في نفوسهم من إمكانية احتواء المقاومة العراقية، أو القضاء عليها. فهم بمثل شعورهم بالفشل لن يأسفوا على شيء ما أن تصبح أطماعهم بحكم المقضي عليها، فمن بعد فشل مشروع »أصحاب القرن الأميركي« الطوفان.
يرمي أصحاب الخطة الخبيثة إدخال العراق في حرب (التدمير والإبادة، حرب الطوائف والقوميات). لذا أصبح المطلوب من جميع المخلصين قراءة الواقع وفهمه. ففيها نرى بعض نُذُر الشر، وفيها الكثير من الخطورة في نقل الصراع من صراع عراقي – أميركي إلى صراع عراقي – عراقي. إنها المعركة الفصل التي يتقرر على ضوئها بقاء العراق عربياً لكل مواطنيه، وفي تفتيته نهاية لتجربة رائدة في داخل الأمة العربية. ومع تلك النهاية تكون رصاصة الرحمة التي يطلقها المشروع الصهيوني – الأميركي على العراق قد حققت أهدافها( ).
ومن جملة مظاهر الإعداد لهذا المخطط الخبيث، نرى أنه ليس من الغرابة ‏أن يتصاعد الحديث في وسائل الإعلام الغربية عن منظور الحرب الأهلية، ويتساوق هذا مع تصريحات أطلقها نائب بول بريمر، الحاكم الأمريكي في العراق، جيرمي غرينستوك عن إمكانية التصعيد في العراق مع اقتراب تسليم السلطة الشكلي لمجلس الحكم المركَّب على مقاييس الفتنة المذهبية والعرقية. واتفقت وسائل الإعلام البريطانية علي فكرة الحرب الأهلية. ويبدو أنها حضرت في كل تحليلات المعلقين البريطانيين. فهي تارة تشير إلى الجماعات الوهابية السنية العراقية، وتارة أخرى إلى أبي مصعب الزرقاوي ومؤامرة القاعدة. وهذا ما يراد به من وراء إبراز الوثيقة التي نسبتها له المخابرات الأميركية. ونحن نرى أن الصُنعة فيها تفضحها من خلال اقتراح مزعوم وجَّهه الزرقاوي لبن لادن لاستهداف الشيعة الذين ارتدوا –حسب الوثيقة المزعومة- لباس الجيش والشرطة، لذا اقترحت استخدام أساليب التفجيرات الاستشهادية للإضرار بهم( ).
ولكن الصحافي البريطاني، روبرت فيسك كان قد حذَّر، في معالجته للموضوع( )، من الأهداف المرسومة للحملة الإعلامية الأميركية والبريطانية في تكرار الحديث عن إمكانية اندلاع فتنة طائفية في العراق بين السنة والشيعة. وكشف زيف الوثيقة التي سرَّبها بول بريمر لوسائل الإعلام. مستنداً في جزمه إلى مدى الفائدة التي تجنيها قوات الاحتلال من التحضير لها وتصنيع عوامل اندلاعها، قائلاً: »إن اندلاعها يعني أن العراقيين سيقبلون أي حل أو خيار تفرضه أمريكا عليهم«. ويقف روبرت فيسك مشككاً بصحة الأخبار التي تروِّجها المصادر الإعلامية ذاتها، عندما تحصر الإشاعات عن التفجير بغير الشيعة، أي بكل من الأجانب الذين يجتازون الحدود السعودية مع العراق، أو بمن هم من »القاعدة« أو بمن هم –حسب زعمهم- من بقايا البعث أو السنة العراقيين الذين يريدون –كما تروِّج الأخبار المدسوسة- حرف المسار الديمقراطي في العراق الذي بدأت تلوح بشائره من خلال الموافقة علي مسودة القانون الأساسي!!!( ).
وتؤكِّد بعض الوسائل الإعلامية الغربية المحايدة تشكيك روبرت فيسك، بحيث تقول إحدى الصحف اليونانية »إن إشعال فتيل حرب أهلية بين الشيعة والسنة، يوفر أعذاراً لإطالة أمد احتلال البلاد من قبل الأمريكيين، وربما حلف الناتو لاحقاً، بحجة تجنيب البلاد »كارثة إنسانية«، وبدعوى »المحافظة على الأمن والنظام«( ).
إنَّ تقسيم العراق وتفتيته إلى كيانات هزيلة، هو أمر مطلوب لإنجاح المخطَّط الأمريكي. فمن المؤكد أنَّ هذا التقسيم لن يمرر بقرار صادر عن سلطات الاحتلال بشكل علني ومباشر عن مجلس سكرتاريَّة بريمر، ولن يتحقَّق عن طريق قرار صادر عن إدارة جورج بوش، بل سيتم طرحه وفرضه كحلٍّ نهائيٍّ ووحيد لإنهاء الحرب الأهليَّة المخطَّط لها، ويتمُّ تهيئة الأجواء المطلوبة لاندلاعها تمهيداً لتقسيم العراق. ومن الواضح أنَّ توفير الشروط المثلى لاندلاع الاقتتال الوطني -لا سيَّما في مجتمع متعدِّد القوميَّات والديانات والمذاهب كالعراق- يتطلب إثارة النعرات الطائفيَّة والعرقيَّة، وشحن الأجواء بالكراهية والبغضاء ، ورفع وتيرة التعصُّب الطائفي والعرقي عن طريق اغتيال رموز معروفة، وتفجير وتدمير مراكز دينيَّة لها مكانة روحية واجتماعية، وإلقاء تبعاتها على جهات محسوبة على طائفة معيَّنة.
ولوضع المخطط قيد التنفيذ يقوم الاحتلال وعملاؤه بالاعتداء على بعض الأماكن المقدَّسة وإلى اغتيال رجل دين من هنا أو هناك. وهذا ما يجد تفسيراً له في ما تعرَّضت له مساجد السنَّة والشيعة من اعتداءات متكرِّرة، واغتيال العراقيِّين المسيحيِّين، أو حملات التطهير العرقي التي تشهدها كركوك( ).
ولقد أسهمت، الميليشيات المذهبية، وكذلك الميليشيات العرقية -ولا تزال تسهم- في تنفيذ مخطط التقسيم المرسوم لها تنفيذه. وما يحدث في المناطق العراقية المختلطة بين الأكراد والعرب يؤكد ضلوع تلك الميليشيات –بقرار سياسي من أحزابها- بالتنفيذ. وحول ذلك، »أضحت كل الأسماء في واجهات المطاعم ودور السينما والمدارس والإدارات باللغة الكردية. أما مزارات الأولياء (من العرب) فقد مُحيت من الوجود بواسطة البلدوزرات لئلا يُقال إن هذه أماكن أولياء من أصول عربية عاشت وماتت في كركوك. حتى شواهد قبور العرب الموتى أزيلت. وأصبح مشهد (تكريد) كركوك ماثلاً للعيان في كل ركن وزاوية من المدينة« ( ).
وهنا نتساءل –على الرغم من محاولات قوات الاحتلال وبمساندة من الميليشيات المذكورة، التي هي معبَّأَة أصلاً لتنفيذ مخطط التقسيم- هل الحرب الأهلية في العراق اليوم، هي خطر حقيقي وداهم؟
يرى البعض، من الذين كتبوا من الأكاديميين والسياسيين العراقيين، »إن الذين يشيعون هذه الخرافة ويحاولون تسويقها، إنما يحاولون عبثاً الإيحاء بأن بقاء الاحتلال هو الحل الوحيد لمواجهة خطر اندلاع حرب أهلية… ومن أبرز هذه الحقائق أن المجتمع العراقي لا يعيش أي نوع من الانقسام المؤدي إلى ارتطام الحساسيّات الثقافية أو الكتل الاجتماعية. على العكس من ذلك، ثمة إجماع متزايد عند الشيعة والسنّة على صيانة الوحدة الداخلية«( ).
لكن من وراء تلك المزاعم أهداف يروِّجها الاحتلال: فإذا »كان رحيل قوات الاحتلال سوف يسفر عن فوضى، كما يُزعم، فالفوضى جلبها الاحتلال نفسه، وبالتالي، فإنها سوف تزول بزواله. لقد كان العراق بلداً مشهودا له بالأمان والانضباط، بينما جاء الاحتلال بالخراب والدمار والفوضى والفتن… ولذلك فثمة ترابط وثيق بين خرافة الحرب الأهلية، وبين الاتفاق الذي عاد به بريمر من واشنطن. هذا الاتفاق الذي يُراد له أن يؤدي، وبصورة مخادعة، إلى جعل الاحتلال عملاً مشروعاً«( ).
ويرى آخر، أن ثمَّة سلوكات إيجابية تنجم بعد كل حادث يشتمُّ منه العراقيون رائحة الفتنة إذ يسارع المخلصون، وهم ليسوا قلة في المجتمع العراقي، إلى التأكيد على الوحدة الوطنية والدينية. ويعطي مثلاً عن ذلك، فيقول:بعد انتشار خبر جريمة الاعتداء، على حرم الكاظمين في بغداد، هرع المواطنون بمختلف مشاربهم وانتمائهم إلى أطراف الحرم المقدَّس للدفاع عنه والتعبير عن شجبهم وسخطهم على هذا الفعل الدنيء. فتعالت هتافات الإشادة بالمقاومة الوطنيَّة وهتافات المطالبة بإنهاء الاحتلال، والتنديد بسياساته وتصرُّفاته الرعناء، وتصرُّفات مرتزقته من خونة الوطن( ).
وفي رسالة ألكترونية أوجز أحد العراقيين المثقفين جوابه حول التساؤل: هل هناك إمكانية حصول فتنة طائفية في العراق، قائلاً: ليس في ماضي العراق وحاضره ما يدل على أن احتمال الفتنة الطائفية، أو العرقية، واقعياً. وبالإضافة إلى تاريخ العلاقات الإيجابية بين شتى الأديان، وشتى العرقيات، فقد كان لاتجاهات نظام حزب البعث الوطنية القومية ما زاد في ترسيخ العلاقات الإيجابية بين العراقيين، إذ أصبح الولاء للوطن هو الجامع الأساس بين شتى أطياف العراقيين. وما يُشاع عن ظلم أُلحِق بالشيعة والأكراد، ليس إلاَّ ذرَّاً للرماد في العيون، وهي إشاعات عمَّمتها أجهزة المخابرات الأميركية، بالتعاون مع أصحاب المشاريع السياسية المذهبية، وأصحاب المشاريع السياسية الانفصالية من الأكراد، والقصد منها إيجاد ذرائع يتغطَّى به مشروع الهيمنة الصهيوني – الأميركي على العراق، أرضاً وشعباً وثروات().
إن نسيج العلاقات الوطنية المتينة بين العراقيين، ونسيج العلاقات القومية ذات الأبعاد الإنسانية، لا تمثل الوجه الوحيد لحصانة العراقيين ضد الاقتتال الطائفي أو العرقي فحسب، وإنما الشعب العراقي واع وبشكل كامل إلى رغبة المحتل في تأجيج الفتنة الطائفية أيضاً. وإن الشعب العراقي يعي أن الاحتلال يرتاح وسط الفوضى والاقتتال الداخلي. ونتيجة لهذا الوعي فلن تنجح الفتنة سواء كانت طائفية أو عرقية. ولكن ما يُخشى منه، كما يرى أحد رجال الدين العراقيين، أن مدة سعي الاحتلال لذلك ستطول مما يؤدي لسقوط المزيد من الضحايا. وفي المقابل يرى العالم نفسه، أنه كلما »كان تلاحم أبناء الشعب أكثر كلما اقتنع المحتل أن لا فائدة من محاولاته«( ).
إن وعي المشكلة ومخاطرها اجتياز لنصف حلها، أما النصف الباقي من الحل فهو مرهون بالتعاون المتكامل بين شتى أطياف المجتمع العراقي، الذي يتطلَّب –في أحيان كثيرة- طول الصبر في امتصاص نتائج وتأثيرات ما يفتعله أصحاب الشأن الأميركي – الصهيوني من محاولات وتفجيرات واغتيالات يكون القصد منها إيصال حالة الاحتقان إلى مدياتها القصوى، أي إلى الحد الذي يحسب فيه أن المتضررين لن يضبطوا أعصابهم من بعدها فيتحولون إلى ردود الفعل، والوصول إليها تنفلت المقاييس والحسابات العقلية وتتحول إلى ردود فعل غريزية.
أما وعي المشكلة والتعامي عن مخاطرها فيمثِّل النصف الأصعب، السبب الذي يجب أن يشكل حافزاً لذوي العاقلة من العراقيين إلى عدم الاسترخاء عن القيام بضبط من يسهل انقيادهم إلى ردود الفعل العشوائية، وهذا الجانب لا يزال مدار اهتمام عند الأوساط العراقية الواعية، وهذا ما يزرع الارتياح في النفس.
لكن، على الرغم من تلك النظرات المتفائلة، والتي تحمل الكثير من جوانب الواقع الصحيحة، تبقى عدة من العوامل التي يشجع الاحتلال على تعميقها، لعل من أبرزها تلك المخاطر التي تواجه العراق بعد الاحتلال وهي مسألة الفيدرالية التي بدأ الحديث عنها في بعض الدوائر يتصاعد ليصل إلى أعلى مستويات الخطورة.
إن الفيدرالية لم تكن في يوم من الأيام علاجاً لبلد يعيش الوحدة بشكل صريح وواقعي كما هو الحال في العراق، لأنها كما هي مطروحة كحل لدى البعض على أساس عرقي ستقود إلى فيدرالية بين المذاهب، لتنطلق عرقياً ولا تنتهي مذهبياً. لذلك »نقول للسنة والشيعة والأكراد والعرب والتركمان وكل فئات الشعب العراقي إن هذه المرحلة ليست مرحلة الحديث عمن يحكم العراق، أو عن الأكثرية المذهبية أو العرقية وما إلى ذلك«. بل إن المطلوب هو أن يتوحد العراقيون بكل أطيافهم السياسية وانتماءاتهم العرقية أو المذهبية على أساس العناوين الكبرى، ومن أهمها السعي الجاد للخلاص من المحتل بكل السبل المتاحة، والسعي لحفظ وحدة العراقيين في مواجهة الاحتلال ومخاطر اللعبة الدولية( ).
يأتي هذا التشخيص على غاية من الأهمية، ويستدعي الوقوف قليلاً عنده. ويتطلَّب النظر إليه من زاوية الواقع السياسي والفكري الذي أدخلته الحركات الدينية السياسية على الفكر الديني من جهة، والفكر السياسي الوطني من جهة أخرى. وقد فتحت الدعوات الفيدرالية الانفصالية لبعض الأحزاب الكردية شهية الدعوات المذهبية السياسية لتحذو حذوها. فهناك ترابط بين الاتجاهين حتى ولو كانت أهدافهما متباينة، إلاَّ أن نجاح أحدهما يدعم نجاح الآخر. بحيث يتغذى وينتشر ويجد له مبرراً.
بداية لا بُدَّ من القول إن للدين دوراً في كل ما يتعلَّق بشؤون الناس الدينية أولاً، والدنيونية ثانياً، بحيث لا يمر طريق الخلاص إلى الآخرة –كما تعتقد التيارات الدينية السياسية- إلاَّ عبر حياة دنيوية صالحة تلبي شروط الخلاص الأخروي. ولأن الحياة الدنيوية لا يمكن إلاَّ أن تكون محكومة بشرائع الدين، يحسب أصحاب التيارات الدينية السياسية أن التكليف الدنيوي للإنسان حسب الشرائع الدينية، والمذهبية على الغالب الأعم، هو الطريق الوحيد للخلاص في الآخرة. ولأن تلك الشرائع تمثِّل –كما يعتقد أصحاب تلك التيارات- إرادة إلهية؛ ولأن الإرادة الإلهية لا يمكن إلاَّ أن تكون ثابتة لا يطالها التغيير من أمامها وورائها، ولا يجوز أن تُستبدَل بشرائع دينية أخرى، ولا حتى شرائع وضعية، تنخرط تلك التيارات في التأسيس للدعوات الانفصالية على قاعدة أن الناجين في الآخرة هم أتباعها وحدهم. ولأجل الترابط بين الخلاص في الآخرة مع تفصيلات الحياة الدنيوية يتوجَّب على كل تيار ديني سياسي، أو تيار مذهبي ديني سياسي، أن يسعى لبناء دولة تطبق شرائع هذا الدين أو ذاك، أو شرائع هذا المذهب أو ذاك.
ولحصر رأينا حول مسألة الفتنة، نقف عند حدود معالجة دور الحركات الدينية السياسية في العراق، وتبيان دورها في التأسيس إلى نظام ثيوقراطي يطبِّق شرائعها الخاصة، تحت حجة أنها تستطيع أن تحترم حرية الإيمان عند الآخرين. ولا يضير أي كان من أن يعيش تحت ظل ذلك النظام. وبمجرد استفحال تلك الاتجاهات تتوالى دعوات المذاهب الأخرى وتتكاثر بحجة تلك الذرائع ذاتها. وبتكاثرها وانتشارها يحق لكل اتجاه ديني أو مذهبي ما يحق للآخر؛ وبها تنتشر دعوات الانفصال عن الدولة الأم. وبدعوات الانفصال تحتاج كل دعوة إلى من يساندها من الخارج لتستقوي به. ويكفي النظر إلى الخريطة السياسية التي سيتحول فيها العراق من وطن واحد إلى العديد من الأوطان. وكم هي خطيرة تلك الجغرافيا عندما تتحول أرض العراق إلى فسيفساء من الدول الحامية.
إن الفكر الديني، بما له علاقة بالسياسة، لا يستقيم مع ما أفرزته التطورات السياسية على صعيد بناء أنظمة ودول وقوميات مسوَّرة بحدود جغرافية. تلك الحدود التي لا يمكن لأي كان اختراقها أو تجاوزها إلاَّ ويكون مخالفاً للشرائع والقوانين الدولية. فكانت الجغرافيا –في مثل تلك الحال- حائلاً دون تكوين دول دينية أو مذهبية، أي بمعنى أن يلزم دين معين الأديان الأخرى بشرائع وقوانين مفصَّلة على قياس منتسبي هذا الدين أو ذلك المذهب. لذا حلَّت مكانها الشرائع الوضعية، التي تؤمِّن حرية الاعتقاد الإيماني لكل مواطني الدولة القومية بما هي اعتقادات شخصية ذات علاقة بين المخلوق كفرد وخالقه. وأصبح من الضروري أن يكون الاعتقاد الإيماني منفصلاً عن التشريعات الدنيوية لأن دور تلك التشريعات هو أن تنظِّم علاقات الأفراد بين بعضهم البعض على هدي القيم الإنسانية العليا. وما لم تستطع أن تنظم أي دولة تلك العلاقات بين أفراد متعددي المشارب الدينية والمذهبية فالبديل هو التفسخات والانفصاليات والدويلات، أو لم نتعلَّم من سلبيات تلك المرحلة في التاريخ العربي الإسلامي؟
وفي تلك الحالة أصبح بناء دول دينية أو دينية مذهبية في حدود جغرافية واحدة، أمراً في غاية الصعوبة، لأن ما يعتبر مشروعاً من القوانين عند دين أو مذهب هو غير ذلك عند الأديان والمذاهب الأخرى. فكانت القواعد الأساسية للشرائع التي عليها أن تكون عادلة بين الأديان هي تلك التي تؤمن حرية الممارسة الدينية لكل مواطني الدولة على أساس قياس الحقوق والواجبات الأخرى على مكيال المصلحة العامة لشتى أطياف المواطنين وانتماءاتهم الدينية.
من هذه البداية يمكن أن نتصوَّر خطورة الفيدرالية القائمة على قاعدة المذهب أو العرق، تلك الاتجاهات التي ينبني عليها المشروع الأميركي بالنسبة للعراق. وإذا كان تطبيقه يخدم المشروع الأميركي فلأنه يعمل تفتيتاً في البنى الوحدوية الوطنية والقومية. وعلى منواله تصب دعوات التنوع في إطار الوحدة خاصة إذا كانت مسألة الحقوق والواجبات مبنية على قاعدة دينية أو مذهبية، ويصح ذلك على كل المستويات بما له علاقة في كل الجوانب ما عدا حقوق الممارسة الدينية التي تقوم على قاعدة حرية الاختيار الذاتي.
يحسب الانفصاليون على قاعدة الفيدرالية العرقية أن مشروعهم يصبح في غاية السهولة إذا ما حاولوا ابتزاز أصحاب المشروع الصهيوني الأميركي، لحاجتهم إليهم في مرحلة احتلال أرض العراق. ولكنهم لا يدرون أن أصحاب المشروع يريدون العراق كله سواء كان موحَّدَاً أو مفتتاً، بل إذا لم يستولوا عليه موحَّداً فأخذه مفتتاً لا يضيرهم شيئاً.
فالعراق المفتت هو مشروع اقتتال دائم بين العراقيين، والاقتتال الداخلي يكون المعبر الآمن لقوات الاحتلال لأنها لن تدفع ثمناً من أرواح جنودها عندما يصبح العراقي عدواً للعراقي الآخر. وليكن على قاعدة العداء العرقي أو العداء المذهبي فالأمر سيان عند من يعمل لاحتواء العالم كله.
وقبل أن يصل الانفصاليون العرقيون أو المذهبيون إلى مواجهة الواقع المر، عليهم أن يراجعوا حسابات الربح والخسارة بين أن يكون العراق، بأكمله لكل منهم، أو أن يكون لكل منهم قطعة من العراق فقط يكون فيها الاحتلال هو الشريك الآمر الناهي. وهو بعد أن يمزِّق النسيج الوطني، اللاحم الوحيد بين أبناء العراق، سيُعيد ترتيب أوضاع البيت بما يخدم مصالحه وحدها (فمشروع المتطرفين الأميركيين الجدد –جورج بوش الإبن وزمرته- لا يرى الآخرين خارج مصالحه).
إن التنازلات المتبادَلَة بين المذاهب الروحية عن شق التشريعات الدنيوية لمصلحة تشريعات الدولة المدنية الموحَّدَة والموحِّدَة، بحيث يحتفظ كل تيار ديني لنفسه بالجانب الإيماني الروحي الذي يحسبه طريقاً للخلاص في الآخرة، هي الطريق الأكثر واقعية في أُسس الدولة القومية وقواعدها بما يحفظ لجميع المواطنين العدل والمساواة في الحياة الدنيا.
وإن احتفاظ الأقليات القومية بخصوصياتها ذات العلاقة بتراثها القومي –بأبعاده الإنسانية- من جهة؛ والتنازل للدولة القومية المركزية عن التشريعات العامة التي تضمن لجميع القوميات تطبيق العدل والمساواة، هو الطريق الأكثر واقعية وعدالة في عصر الدول القومية.
وإذا كانت الدعوة إلى إعادة النظر بوسائل إيصال المنتسبين إلى أديان ومذاهب للخلاص في الآخرة، على قاعدة الاعتراف للآخر بحقه في اختيار طريق خلاصه، من الأحلام التي تثير –في كثير من الأحيان- هزء تلك التيارات وسخريتها، نرى نحن أنها ليست مستحيلة بدليل توافق الفلسفات الوضعية على واقعية حل المسائل الغيبية عن طريق حرية الاعتقاد الفردي الحر من جهة، وتقرير بعض الكنائس المسيحية أن طريق الخلاص في الآخرة ليس محصوراً بالمسيحيين لوحدهم بل يمكن أن يكون عن طرق روحية غير المسيحية من جهة أخرى.
إن إعادة جديدة في النظر حول تعاليم الانفصاليات السياسية العرقية، والانفصاليات الفكرية الروحية التي تروِّج لها عدة من الحركات الدينية السياسية، يسهم في إقصاء فكرة الفيدرالية التي يرسمها المشروع الأميركي الخبيث على مقاييس مصالحه. وبمحاربة الفيدرالية، فكراً وممارسة، يعزل العراقيون الداعين لها ويعرُّونهم عن أهدافهم الحقيقية، قبل أن يستفحل الأمر وينجح الاحتلال في تثبيت مشروعه ليقف متفرِّجاً على صراعات جانبية بين أبناء العراق الواحد، ويصبح وجوده ضرورة دولية أولاً، وضرورة للإنفصاليين العرقيين والمذهبيين ثانياً.
فإذا كانت الحركات الدينية السياسية، والحركات الانفصالية العرقية في العراق، لم تخضع لتجربة خطيرة كمثل التي يحاولون أن يخضعوا لها. وإذا كانوا يجهلون نتائجها ومآلها فليرجعوا إلى تجربة الحرب الأهلية اللبنانية، ولكل منها علاقات بشكل أو بآخر مع حركة لبنانية ذاقت آلام تلك التجربة وعرفت نتائجها.
لا يمكن لصاحب اتجاه انفصالي أن يحقق آماله وأوهامه، وإن التجربة اللبنانية جعلت الأقليات اللبنانية –هذا مع العلم أن لبنان كله مجموعة من الأقليات- يدفعون الثمن غالياً من أرواح أبنائهم وممتلكاتهم. أما بعد طول مرارة وآلام عاد اللبناني –على الصعيد الوطني- إلى دفن رأسه في حضن اللبناني الآخر والدمعة في عينيه، والألم يتآكل قلبه وروحه. فلعلَّ تجربة على الصعيد الوطني القطري تفيد الساحات الوطنية القومية على طول الساحة العربية وعرضها.
***

(12): هنيئاَ لك أنطوان لحد فقد نلت شهادة بالوطنية
دورية العراق بتاريخ 5/ 2/ 2004م. والكادر 8/ 2/ 2004م
بالأمس طالعتنا الصحف اللبنانية بخبر زيارة وفد من مجلس الحكم الانتقالي في العراق إلى لبنان. وضم الوفد عضوي مجلس الحكم موفق الربيعي ويونادم يوسف كنا، والعضو المناوب محمد رؤوف ومستشار وزير الثقافة محمد عبد الجبار. وفي تفصيلات الخبر أن عدداً من الهيئات الرسمية، وبعض الأوساط الطائفية السياسية، استقبلوا الوفد، وأجروا مباحثات معه. وتلقى الوفد وعداً رسمياً يبذل جهود لتحسين صورة (العراق الجديد) لدى الأنظمة العربية. كما وصفت بعض الأوساط الدينية (العراق الجديد!!) بأنه »اصبح محطة آمال العرب والمسلمين«؟!. وقد تُوِّجت زيارة الوفد بحفل عشاء دعت إليه شخصية لبنانية تحت رعاية فنسنت باتل السفير الاميركي في لبنان، وحضر حفل العشاء –للأسف- بعض الوجوه السياسية في لبنان من بينهم ممثل لحزب وطني عريق. (إلى هنا انتهى الخبر).
مرور الكرام تمر بعض المشاهد المسيئة للكرامة الوطنية والقومية، ونحن سوف نقوم بصياغة الخبر بشكل افتراضي كي نرى الصورة من زاوية موضوعية، ولكنها ليست محايدة، بل منحازة إلى ما يتناسب مع المصداقية الوطنية والإنسانية.
أما الخبر –بصياغته الافتراضية- فقد جاء كما يلي:
استكمل العدو الصهيوني سيطرته على لبنان، وعيَّن مجلس حكم انتقالي لأنطوان لحد (قائد لبنان الحر في جنوب لبنان) فيه حصة كبيرة. وافق أنطوان لحد والحكومة الانتقالية، المعيَّنة »إسرائيلياً« على الاحتلال »الإسرائيلي«، وحجته أن العدو المحتل أُسقط الحكومة اللبنانية السابقة التي كان على خلافات معها لأسباب سياسية داخلية، وكان قد تواطأ مع الصهاينة قبل الاحتلال وبعده. وبعدها قام أنطوان لحد بزيارة إلى القطر العربي (أ)، واستقبلته أوساط رسمية ودينية وحزبية، وخرج من لقاءاته بانطباعات إيجابية، كما أن شخصية من القطر (أ) قام بتكريمه بحضور السفير الإسرائيلي في القطر المذكور. (إلى هنا انتهى الخبر).
سيكون وقع الخبر ذي العلاقة مع أنطوان لحد كالصاعقة على رؤوس الوطنيين، وسوف يطالبون القطر (أ) المستضيف بالاعتذار عن الإساءة التي ألحقها الخبر بلبنان المحتل، والسبب أن أنطوان لحد هو من عملاء العدو الصهيوني. وقد ارتكب جرم الخيانة العظمى بتعاونه مع إسرائيل، البلد الذي احتل لبنان، وقد اغتصب قبله الأرض الفلسطينية.
نحن من مؤيدي الاستنكار، لأن أنطوان لحد خان وطنه، وما على الدول العربية إلا أن تمارس عليه فعل العزل. ونستنكر استقبال أنطوان لحد أينما كان، ونتهمه بالخيانة لأنه تعاون مع الاحتلال الصهيوني للأراضي اللبنانية، ومارس في أثناء فترة ارتكابه الخيانة كل ما يعيق حركة المقاومة اللبنانية ضد العدو المحتل، ولأنه فتح سجوناً للوطنيين والمقاومين، ومارس القتل والاغتيال بحقهم.وقام باعتقال المقاومين وتسليمهم للعدو المحتل.
وفي العراق يتكرر اليوم أنطوان لحد من جديد، وعنه قام الاحتلال الأميركي باستنساخ العديد من أمثاله:
لما كان العدو الصهيوني محتلاً الأرض اللبنانية، أصبح كل فعل مقاوم لاحتلاله مشروعاً، والحوار معه، إن لم يرق إلى مستوى الخيانة، فهو على الأقل تواطؤ واضح ومدان. فقتاله واجب وطني وقومي، كما قتال الخونة المتعاملين معه شرعي بدون أي التباس. وكل من يسكت عنهما فهو في موقع تسهيل الخيانة والتواطؤ.
القوات الأميركية تحتل العراق اليوم، فمن حق العراقيين أن يقاتلوا الاحتلال، ويمتنعوا عن أسلوب الحوار معه إلى أن ينهي احتلاله. وما ينطبق على الاحتلال ينطبق على المتعاملين معه، ولذا فإن قتالهما شرعي، أما كل أشكال الحوار معه فهو نوع من التواطؤ في حده الأدنى، وعليه يتم قتال المتواطئ كمثل ما ينطبق على الاحتلال ذاته. وعليه يكون الاحتفاء باستقبال بعض أعضاء مجلس للحكم قام المحتل الأميركي بتعيينهم هو بعيد عن الشرعية والأخلاقية الإنسانية. فهو قام بإعدادهم قبل سنوات طويلة مستفيداً من اعتراضهم على الحكم الوطني السابق، فقاموا بتسهيل احتلاله الأرض، وقبلوا بأنه عيَّنهم في مجلس للحكم، وراحوا يمهِّدون لاستكمال سيطرته العسكرية والسياسية والاقتصادية، ويقومون بالجولات على عدد من الأنظمة العربية لكسب شرعية لا يستحقونها، بل يستحقون الحكم عليهم بالخيانة، على قاعدة تطبيق مكيال واحد على أنطوان لحد وعليهم، فهم تشابهوا بالحيثيات التي قادت إلى الحكم عليهم.
أميركا هي ربة العدو الصهيوني وحاميته وصاحبة مشروع احتلال العالم بالتحالف مع الصهيونية، فكل اغتصاب يمارسه العدو الصهيوني يصب في مصلحة الإمبريالية الأميركية، وكل احتلال أو هيمنة أو سيطرة تمارسها الإمبريالية الأميركية يصب في مصلحة الصهيونية العالمية بشكل عام، وفي مصلحة »إسرائبل« بشكل خاص. وكل مقاومة ضد الكيان »الإسرائيلي« هو مقاومة لمشروع الهيمنة الأميركية، وكل مقاومة للاحتلال الأميركي هو تقليص من قوة المشروع الصهيوني الاستيطاني على أرض فلسطين. ولهذا يأتي التلازم وثيقاً بين المقاومتين الفلسطينية والعراقية، واللبنانية والعراقية. فمن يقاتل الصهيونية في فلسطين يساعد المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأميركي، وكل مقاومة في العراق تساعد المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، ولا يمكن تحرير فلسطين، والقبلتين والحرمين الشريفين من دون مقاومة المشروع الاحتلالي الأميركي في العراق.
وبهذا يكون عملاء العدو الصهيوني في فلسطين ولبنان هم عملاء للعدو الأميركي في العراق، وعملاء العدو الأميركي في العراق هم عملاء العدو الصهيوني.
وبمثل هذا الأمر يمكن أن نطلق على المتعاملين مع العدو الأميركي في العراق صفة الخيانة، وبما أن أنطوان لحد كان السبَّاق في الخيانة يمكننا أن نطلق على موفق الربيعي تعبير »موفق أنطوان لحد الربيعي«، وعلى يونادم كنا تعبير »يونادم أنطوان لحد كنا« …
أو لا يكون عضوي الوفد العراقي هما الشبيهين لأنطوان لحد؟
كان من بين الذين استقبلوه، وهو الأشد إيلاماً، بعض المراجع الدينية الشيعية. ورداً على دعاوى تلك المراجع بأن النظام السياسي السابق في العراق قد ألحق الظلم بالشيعة، وعلى الرغم من بطلان تلك الدعاوى، نقول: لم تتصرَّف تلك المراجع على قاعدة ما أملاه عليهم الإمام علي بن أبي طالب وهو يخوض حرب صفين ضد معاوية بن أبي سفيان. في حينها وصل خبر نية غزو الروم لبلاد المسلمين، فقال أبو الحسن في تلك اللحظة: إذا فعلها بن الأصفر فسوف أفعلنَّها. فلما سألوه ماذا تقصد يا أمير المؤمنين، قال: إذا دخل الروم إلى أرض المسلمين فسوف ألتقي مع معاوية لمحاربتهم.
لقد دخل بنو الأصفر يا أمير المؤمنين، ولم يفعلها من يدَّعون أنهم الناطقون باسمك، والمتَّبعون خطاك.
لم يقل كل المراجع الصامتة أو الناطقة باسمك، في وجه الاحتلال الأميركي، ما قلته أنت عندما نُميَ إليك خبر محتمل عن غزو الروم لبلاد المسلمين، بل التفوا حول بن الأصفر، وساعدوه على احتلال أرضهم نكاية بمعاوية، وراحوا يوغلون سرقة ونهباً لبلادهم وبني قومهم، وفتحوا له الأبواب مشرَّعة لكي يقتل ويسرق ويهين الكرامات...
لقد قاتل المتَّبعون خطاك، من مؤيديك، العدو الصهيوني في لبنان، وعفُّوا عن قتال العدو الأميركي في العراق، وصادقوه تحت ذريعة الحوار. فأينك يا أبا الحسن من تلك التناقضات التي تُرتكَب باسمك؟؟!!
لقد قاتلوا أنطوان لحد –كعميل للصهاينة- واتَّهموه بالخيانة، وبرَّاوا حماعة (مجلس الحكم العراقي العميل) وشرَّعوا الخيانة لهم، ودافعوا عنهم. وهؤلاء هم يستقبلون اليوم »موفق أنطوان لحد الربيعي« في بيوت المسلمين من دون أن يرف لهم جفن خاصة وقد تمَّ تكريمه برعاية السفير الأميركي في بيروت!!!
لقد اغتالك ابن ملجم يا أبا الحسن، وفي عصرنا يغتالك مئات الألوف من أمثاله. فهنيئاً لك يا أمير المؤمنين فقد كان في عصرك ابن ملجم الخوارجي واحد، وعندنا اليوم الملايين منه.
ويحزننا أن نقول أخيراً، وقياساً على وحدة المكاييل المبدأية: العدوان الأميركي والصهيوني عدوان واحد. واحتلال فلسطين واحتلال العراق احتلال واحد. والمتعاون مع العدو الصهيوني خائن. والمتعاون مع العدو الأميركي، أيضاً، خائن.
ولأن أنطوان لحد تعاون مع العدو الصهيوني فهو خائن، ف»موفَّق أنطوان لحد الربيعي« هو خائن أيضاً.
أما إذا أعطينا صك البراءة من الخيانة للربيعي، وقلَّدناه وسام الوطنية، فمبدأ المساواة يقتضي أن نقلِّد أنطوان لحد ذلك الوسام نفسه.
أوَ ليس هذا ما تؤدي إليه »شطارات« بعض الأوساط الرسمية في لبنان؟
أوَ ليس هذا ما تؤدي إليه »شطارات« بعض الأوساط الدينية والحزبية في لبنان؟
أما بالنسبة إلينا فلن نكون إلاَّ حاسمين في أحكامنا على قاعدة المبدأية والأخلاقية، ولن يكون أنطوان لحد إلاَّ خائناً، وقياساً عليه لن يكون أعضاء »مجلس الحكم الانتقالي« في العراق إلاَّ من الخونة.
***

(13): بعد سنة من احتلاله: أي مستقبل ينتظر العراق؟ وأية استراتيجية عربية؟
مجلة الوفاق العربي - تونس

بداية، لا نرى أن عدد السنين هي التي تحدد حجم المتغيرات في عمر الأوطان، بل إن حجم الكتلة النضالية الهادفة للتغيير هي التي تحددها. ومن هنا لا بُدَّ من أن نطل على العراق، قبل سنوات من احتلاله، من أجل أن نعرف وضعه بعد مرور سنة على الاحتلال.
إن العوامل والأسباب التي دفعت بالتحالف الأميركي المتطرف مع السلفية المسيحية مع التلمودية الصهيونية إلى احتلال العراق هي نفسها التي لا تزال تقلق ذلك التحالف وتربكه. فكيف يمكننا تفسير ما نقول؟
كانت التجربة العراقية –بعد ثورة 17 – 30 تموز/ يوليو من العام 1968م تثير في ذاتها عامل الخوف الإمبراطوري الأميركي، والصهيوني التلمودي. لأن التجربة كانت تستند إلى قاعدة فكرية وإيديولوجية تقف على الطرف النقيض من فكر التحالف الأميركي – الصهيوني وإيديولوجيتهما، فهي كانت تمثِّل العائق الأكبر الذي يحول دون اكتمال مشروعيهما في الهيمنة على العالم.
ومن أجل أن تكون التجربة عميقة الجذور، ويكون من الصعب على أحد أن يجتثها، قام نظام حزب البعث بتدعيمها على أسس فكرية وإيديولوجية وعمل على أن تكون بنيتها قائمة على وعي وإدراك شعبيين لأهميتها في إحداث تغيير عميق في البنية الوطنية والقومية كأنموذج يقدِّمه إلى المواطن العربي أينما كان.
ولم تقف التجربة عند حدود التبشير الفكري النظري فحسب، بل استلهمت أهم مبادئ حزب البعث النضالية، لأنه لا حياة لفكر من دون حركة نضالية تعمل على ترجمته، أي أن تنزل بالفكر من عليائه النظرية إلى أرضيته النضالية العملية.
ومن خلال تزاوج الفكر بالنضال، شقَّت تجربة ثورة تموز طريقها، لتصبح منهاج عمل يومي دؤوب ليواجه صعوبتين: داخلية وخارجية. أما الداخلية فهي كل ما له علاقة بإنتاج المواطن الواعي ودفعه إلى إنتاج مجتمع يتوجَّه نحو تغيير كل الواقع الفاسد الذي لفَّ الأمة العربية منذ قرون. وأما الخارجي فيتمثَّل بتخليص الأمة من أدران بقايا الأحلام الاستعمارية، والعمل من أجل حماية الوطن والأمة من بقايا أحلام كانت لا تزال تمثِّل عقيدة أساسية في أفكار الجموح الأميركي نحو تأسيس إمبراطورية عالمية تحكمها عقيدة تستخدم القتل من أجل استكمال سيطرتها على العالم.
من خلال المشروعين المتناقضين حتى العظم كان نظام البعث، برئاسة صدام حسين للدولة وأمانته للحزب، راحت تجربة تموز/ يوليو تخطط لمواجهة الشبق الأميركي – الصهيوني في شتى الظروف والمواقف.
وقد تبيَّن بعد احتلال العراق أهمية ما أعدَّته تجربة تموز. إنه المخطط النضالي القائم على أسس شعبية، يحلو للبعض أن يسميها حرباً للعصابات، فكانت العائق الأكبر والوحيد الذي أبقى الحسك في بلعوم الإدارة الأميركية، فهي لا تستطيع أن تبتلعه ولا تستطيع أن تلفظه.
إنه الواقع الراهن في العراق، إنه المأزق الأميركي في العراق. فهذا هو حاضر العراق بعد مرور أقل من سنة على الاحتلال، وهذا هو مأزق إدارة التطرف الأميركي.
فإذا كان هذا الواقع –كما تصفه بيانات المقاومة العراقية- محكوم بارتياح عراقي في الوقت والتوقيت من جهة، ومحكوم بقصر الوقت والتوقيت عند الاحتلال الأميركي من جهة أخرى، فمن ذلك الواقع يمكننا أن نحدد احتمالات المستقبل بما يقرب من الدقة. ومنه نستطيع ليس أن نضع احتمالات مستقبل العراق فحسب، وإنما احتمالات مستقبل المشروع الأميركي أيضاً.
أما بالنسبة إلى احتمالات مستقبل العراق، وإذا كان لا بُدَّ من التحديد أكثر، فنقول: إن استمرار المقاومة العراقية هو المفصل الوحيد الذي جعل حسك السمك العراقي –ولا يزال-يعلق في بلعوم إدارة بوش. ولأن المقاومة أصبحت من الثبات المطمئن في أدائها العسكري والسياسي، واجتازت مرحلة الخوف من وقوعها في انتكاسة ما، فهي التي سترسم مستقبل العراق، المستقبل الذي تحدَّدت معالمه وأسسه في الماضي، أي أسس أهم تجربة لمشروع نهضوي عربي، يكفيه شهادة أنه زرع القلق والخوف في نفوس أطراف صهيونية واستعمارية، لم تجد حلاًّ للخلاص منه غير الاحتلال العسكري المباشر.
أما ما يتلطَّى به بعض الخائفين عن صدق، أو بعض القوى التي تريد أن تصطاد في الماء العكر خدمة للمشروع الأميركي الصهيوني الخبيث، وهو ما يتمظهر بالخوف من عودة النظام السابق إلى الحكم، فلهذا نريد أن نقدِّم بعض ما نحسبه توضيحاً يزرع الاطمئنان في نفوس الصادقين في حرصهم على العراق. أما المتواطئين فلن يهمنا من أمرهم شيئاً لأنهم هم الذين أسهموا في تضخيم ورشة التهم ضد النظام السياسي قبل الاحتلال.
من دون الخوض في هوية فصائل المقاومة العراقية، سيكون حتماً للمقاومين ومن كان في موقع الدفاع عن المقاومة الدور الأساسي والأول في إنتاج نظام سياسي في العراق، وكما نحسب سيكون متحرراً من مخاوف تسلل معارضات عميلة للخارج أو من صنعه، وهذا ما أكَّدت حقيقة وجوده –في السابق- تيارات ممن كانوا يُصنَّفون في موقع المعارضة لنظام ثورة تموز.
أما الحقيقة الثانية، فهي أن تجربة المقاومة العراقية ستكون المفجِّر الثوري لطاقات الجماهير العربية، كما ستكون الملهم للتيارات الثورية فيها، بحيث ستشكِّل الأنموذج الذي ستواجه فيه تقصير عدد كبير من الأنظمة العربية، وترد فيه على أسانيدهم في الامتناع عن مواجهة الاستعمار الأميركي بعذر غياب التوازن في القوى.
أما الحقيقة الثالثة في مستقبل العراق، فهو أنه سيدخل بوابة العالمية من حيث أنه كان طليعة للقوى العالمية في حسم المعركة مع مشروع أمركة العالم.
وهنا، وكي لا نتجاهل ما هو مطلوب من الأنظمة العربية، نرى أن تغيير المسارات النقدية أصبح من الضرورة بمكان، وهي أن النظام العربي الرسمي –إذا لم يكن متواطئاً- لن يكون بذي فائدة في رسم مستقبل المقاومة العراقية، ولا في رسم مستقبل العراق، لأنه اختار سلوك طريق الاستعمار الأميركي وأصبح خاضعاً بالكامل لإرادة الصهيونية العالمية. وإذا كنا لا نعفيه من المسؤولية الكبرى، ومن الضروري أن لا نسكت عن تقصيره وآثامه، أصبح من اللازم على الحركة العربية الثورية أن تتحمَّل مسؤولية تقصيرها في تعبئة الطاقات الشعبية التي هي الوحيدة القادرة على مواجهة الاحتلال والهيمنة الاستعمارية بأيسر السبل والإمكانيات المتاحة. أو ليس الأنموذج اللبناني والفلسطيني، والعراقي، هو خير الأدلة؟
***

(14): في وجه حاكم مأفون لا بُدَّ من صرخة جنون
يطالعنا من فترة لأخرى أحد أركان إدارة جورج بوش بأكاذيب من هنا وتهديدات من هناك. ويعزف على أوتارهم بوق من هنا أو بوق من هناك، (ويؤلمنا أن يكون من بينها أبواق عربية الهوية).
تمرِّر شاشات التلفزة، وأحياناً بخجل أو تسلل، مشاهد الدمار والفقر والقتل والاعتقال لعراقيين وعراقيات، لأطفال منهم وطفلات، ويضعها جورج بوش في مستند الخسائر الموظَّفة كثمن لديموقراطيته.
تحكي مانشيتات التلفزة، في كثير من الأحيان، عن عملية فدائية ضد المحتل الأميركي فإذا الذين قُتلوا أو جرحوا هم من العراقيين المدنيين،
يسقط جندي أميركي، أو جندي بريطاني، أو جندي من دول التخاذل والجبانة، على أرض العراق، فيتحول قاتلهم إلى إرهابي،
يهدِّم الجندي المحتل كل ما بناه نظام البعث، فيهتف جورج بوش وطوني بلير وأزنار والرئيس البولندي والرئيس الأوسترالي والرئيس الياباني، ومن جرَّ جرَّهم من عملاء (رسميين وإعلاميين وديبلوماسيين، من أجانب وعرب، ويعقدون مؤتمرات، وندوات، ويتزاحمون ويتنافسون، ويتقاتلون، ويتهم بعضهم البعض الآخر، حول من منهم أكثر إنسانية في المشاركة في إعادة إعمار العراق!!!). فيا لخزيهم، ويا لعارهم، ويا لبؤسهم، ويا لكذبهم، فقد أعمتهم بضعة عقود، لا تسمن من جوع ولا تفك حاجة، لأن هاليبرتون (بوش وديك تشيني ورامسفيلد…) قد احتكرت كل العقود.
أما ما يثير الجنون هو أن الذي هدَّم ليس إلاَّ آلة بوش الجهنمية. والمثير فيه أنه يدعو الآخرين إلى ما هدَّمه صدام حسين!!. أما كيف؟ فهو المضحك والمبكي معاً، لأن الذين يصفقون لبوش، من التجار والمقاولين العرب الذين أعطاهم صدام حسين ميزة الأولوية في إعمار ما هدمه الأب في العام 1991، وما تابعه فيه بيل كلينتون حتى تاريخ انتهاء ولايته. ومن بعدهما دمَّر بوش ما عمَّره صدام حسين. ودعا بوش –كرشوة هزيلة من فتات ما تبقَّى من عقود احتكرتها شركة هاليبرتون- لتسوير اللص الأميركي بحماية سياسية.
يا لعارهم، ويا لبؤسهم، خاصة أولئك الذين يحملون الجنسية العربية، من الذين لا يرون الحقيقة إلاَّ من جيوبهم. إنهم أجبن حتى من أن يكونوا تجاراً، وأغبى من أن يكونوا سياسيين.
لقد احتل المغول من »العرق الأبيض الأميركي« العراق، واخترقوا حصانة البيوت العراقية، وروَّعوا نساءه وأطفاله، ولم يتركوا باباً محصناً إلاَّ وخلعوه ببساطيرهم…
هدموا أسس الدولة العراقية، سطوا على دستور العراق وأسروا حكومته الشرعية، وأتوا بكل خائن لوطنه، سواء ممن ادَّعوا أنهم لم ينالوا من كعكة العراق في عهد الرئيس صدام حسين، أو ممن لم تطأ أقدامهم أرض العراق منذ ما قبل ثورة تموز.
قاموا بحل الجيش الشرعي، والأجهزة الأمنية، التي كأن صدام حسين وحده من بين كل دول العالم هو الذي ابتكر صيغة الأجهزة الأمنية، وأتوا بكل أنواع المجرمين المدربين على السرقة والنهب والقتل والاغتيال وممارسة أقذر أنواع المخابرات، ونصبُّوهم أولياء الشعب العراقي.
طهَّروا كل أجهزة الدولة –بما فيها الجامعات والمدارس العراقية- من موظفيها، فشردوا الملايين من العراقيين، وتركوهم نهباً للفقر والعوز والحاجة…
باسم احتكار تصنيع الديموقراطية وتصديرها صنَّعوا أدواتهم في العراق، يسرحون ويمرحون وينفِّذون أوامر تطهير المجتمع العراقي من كل مَعْلَمٍ من معالم التقدم والحضارة فيه، ومن كل مَعْلَمٍ من معالم الشرف الوطني والكرامة الإنسانية، وراحوا يحملون قمصان بعض من ادَّعوا بأنهم كانوا من المظلومين والمعتقلين والمحرومين والمكسورة أرجلهم أو أيديهم في أقبية مخابرات صدام حسين، فإذا بالذين يتباكون كانوا يتدرَّبون في معامل مخابرات جورج بوش وطوني بلير والصهيوني شارون. وكثيرون منهم تجاوزت مدد غيابهم عن العراق عمر ثورة 17 – 30 تموز. كما أن أكثر المحررين من العراقيين، من أزلام بول بريمر، من القتلة واللصوص والذين خانوا وطنهم أو من الذين يتاجرون باسم طوائفهم أو جنسياتهم.
باسم الديموقراطية يتلذَّذ جورج بوش بإطلاق الكذبة وراء الأخرى، ودليله الدائم »إكذب ثم إكذب حتى تصدَّق نفسك«، أو لم تصل حدود الكذب عند وزير دفاعه إلى درجة كان يرتبك فيها أمام سؤال مفاجئ لم تكن أجهزة المخابرات قد لقنته الجواب المناسب عليه؟ أوَ لم يفز بجائزة »حذاء في الفم« لأفضل جواب غير مفهوم؟
ليس دونالد رامسفيلد هو الوحيد الذي يستحق الجائزة، بل منهج الأكاذيب والتستر عليها وتجاهلها أو عدم التقاطها، هو الذي يستحقها بامتياز، ومنه يتم توزيعها على كل المصدقين والمتجاهلين والمروِّجين والخائفين والمتواطئين والدافنين رؤوسهم في الرمال.
تعالوا يا أصحاب البصيرة والعقل من العرب، لنقدِّم حساباً عن سنة مضت من عمر الاحتلال في العراق (قصَّر الله بعمره، ولا أطال الله بأعماركم، ولا أمدَّكم بالبصيرة، لأنكم لوثة على الإنسانية):
كلَّما قلنا هو احتلال تقولون تحالف.
وكلَّما قلنا: إن الذين قاموا باحتلال العراق كذابون، قلتم: »إلحق الكذاب على باب داره«.
وكلَّما قلنا إن جورج بوش قام باحتلال العراق من أجل نفطه، قلتم بل لأن صدام حسين ديكتاتور!!.
وكلما قلنا: إن آخر هموم جورج بوش هي الديموقراطية في العراق، قلتم حتى لو كان ذلك صحيحاً فإن على رأس مهماتنا أن نجلد صدام حسين على خلفية اتهامه بالديكتاتورية. وكلما قلنا: اتركوا الثانوي لمواجهة الاستراتيجي، قلتم بل مهر العراق المعجَّل أن يقوم صدام حسين بنقد نفسه.
وإذا قلنا إن صدام حسين هو في خندق الثورة، أو في الأسر، ولا يمكنه أن يعقد مؤتمراً نقدياً، قالوا ولو كان.
ألا تستفز العاقل ديموقراطية »عنزة ولو طارت؟
بالأمس ضغط العرب (رؤوس في أنظمتهم، ومرؤوسين في دوائرهم، إعلاميون في منابرهم، ومثقفون في مقاهيهم، وأغبياء في عقولهم، ومأفونون متعصبون في أحكامهم) على العراق لتدمير أسلحة الدمار الشامل (وعلى الرغم من الاستغراب أن يطلب عربي تدمير سلاح من إنتاج عربي، ويسكت على ترسانة أميركا -بل و»إسرائيل«- وكأنه حق مشروع لهما)، فيقول العراق إنه دمَّرها (لسحب ذريعة العدوان ليس من أميركا بل من أبناء القوم والبيت، من أبناء العمومة والخؤولة…)، فيجيبون عليك أن تدمَّرها لندافع عنك!!!
استجدى (أولئك المذكورين بين قوسين جميعهم) صدام حسين ليستقيل من مسؤولية الحكم في بلاده كثمن إنقاذ للعراق (إستمعوا إلى معزوفة جورج بوش المشروخة)، ولما أجابهم صدام حسين إنه لن يفعلها لأنه سيكون كمن يبيع حرية قرار الشعوب في تقرير مصيرها لحاكم أميركي مأفون، وكمن يبيع الكرامة والشرف الوطني لكل مجنون مأفون يطلب التمتع بقرار أي بلد تختاره نزواته وبثرواتها. قالوا »إن اليد التي لا تستطيع كسرها، قبِّلها وادع عليها بالكسر!!!
ألا يحق لمن يسمع ويرى منطق »عنزة ولو طارت«، أن يكون مجنوناً ليقول: إن من حق العاقل أن يكون مجنوناً بمواصفاته الخاصة، خير له من أن يكون عاقلاً بين مجانين لا يدرون أنهم مجانين؟
على من تقرأ أكاذيبك يا جورج بوش؟
لست ديموقراطياً على الإطلاق، ولا تعني لك الديموقراطية إلاَّ ما تملأ به جيوبك وجيوب أبيك، وجيوب أمك، (التي لا تريد أن تشوِّه صباحها بتعداد الجنود الأميركيين الذين يُقتلون في العراق، بل هي تطرب لسماع كم حصَّل زوجها من أرباح تهريب النفط العراقي)، وجيوب نائبك، ووزرائك، وكل الذين اختاروا التطرف معك كأفضل طريق لتغليف النهب والسرقة والسطو والتشبيح والضغط على الخصوم والاصدقاء وعلى القوي والضعيف.
إنك ومن معك في الإدارة الأميركية أو المصانع الكبرى أو المؤمنين بمعركة هرمجدون الفاصلة بين الخير والشر، أو الصهاينة الذين رشوا يهودا الاسخريوطي لبيع السيد المسيح بثلاثين من الفضة. إنك التاجر الفاجر العاهر النبي الكذاب (الذي سيسقط رأسه –كرأس للشر- في المعركة الدائرة الآن بين قوى الخير وقوى الشر). وإن القوادين الذين يسايرونك ويجاملونك ويمسحون جوخك ويتلمسون قراراً منك تزيد فيها رشوتهم، ينتظرون على بوابة الماخور الذي يشرف عليه نائبك، ويحميه وزير دفاعك، ويقوم بتسويقه وتحسين شروط الإعلان عنه وزير خارجيتك.
كلكم، متعاونون متآمرون، شاطرون في التجارة، ماهرون في تسويق أسوأ السلع بأفضل الأكاذيب. وأشك أن يكون حلفاؤك –على شتى المستويات: عراقياً وعربياً ودولياً- من الأغبياء أو الذين لا يعرفون حقيقة دورك، الذي تمثله باسم أحقر تحالف في التاريخ وأقذره، بما احتوى من أصناف اليمين الأميركي والمسيحي والصهيوني.
على من تقرأ أكاذيبك يا جورج بوش؟
هل صدقاً إن العالم اليوم أفضل من دون صدام (هسين)؟ وهل صدقاً إن العالم هو الأفضل بوجود جورج دبليو؟
تلك كذبتك الكبرى، التي ينخدع بها إما الجهلة من شعبنا العربي أو المتعصبون الذين يرون فيك، لحقدهم (والحقد طريق التهلكة للذات وللآخر)، النبي المنقذ (شاؤوا أم أبوا). فأما من يؤمنون بك لمصلحة تجارية، أو لكسب مادي مهما كان وضيعاً وملوَّثاً، وأياً كان مصدر تلويثه، فهم الصادقون لما يؤمنون به. أما الطامة الكبرى، أيها النبي المكذاب (الذي يُكثر من تصنيع الكذب) فهو موقف من لبسوا العمائم ووضعوها ليروِّجوا بواسطتها أكاذيبك (وليراجع أصحاب العمائم طريقة تصنيعك على أيدي المتطرفين المسيحيين المنبوذين من كنائسهم). إنها وسيلة خادعة في ترويج تجارتهم (البعض منهم طامع بمنصب سياسي، والبعض الآخر طامع بتعزيز تجارته، والبعض الثالث طامع بتراكم رساميله). إنهم لا علاقة للدين بمواقفهم (بل يستغلُّون الدين والمذهب والأخلاق بين وسط ساذج جاهل مؤيد لهم ومخدوع بهم). أو ليخجلوا –أقله- بالشكل عندما يبشرون ويضغطون من أجل نص دستوري للعراق يكون مصدره التشريعات الدينية. فهم »يتباهلون« أمام أنفسهم لأنهم واعون ما يفعلون، وإنما »يستبهلون« قواعدهم المذهبية التي »سربلوها« بالسطحية والسذاجة والطيبة، وفي أحيان كثيرة بالجهل والأمية والحقد الأعمى (لا تؤاخذونا فنحن في لحظة من لحظات الجنون).
وهل في الإمكان أمام كل تلك المشاهد إلاَّ القول: ما أحلى الجنون.
ولأن جورج دبليو، مكذاب (بشهادات بني جلدته ووطنه، وبشهادات الأميركيين قبل غيرهم)، وهو مأمور وآمر، طرطور وحاكم (هكذا هو ترتيب المواقع في داخل العصابات والمافيات)، ولأن بني جلدتنا ووطننا مبهورون بحذاقته ومهارته وشطارته وعصاه الغليظة، راكعون أمام مصانع مخابراته لعلَّهم يحظون بمنحة أو هبة أو عقد مزيَّف ليأكلوا بأثدائهم (تموت الحرة ولا تأكل بثدييها)، لأنهم ليسوا أحراراً، ولو كانوا كذلك لما فعلوها، بل لكانوا رشقوا الزناة من أبناء قوميتهم وأوطانهم بالصخور وليس فقط بحجر واحد. فلا تغفر لهم يا أبتاه لأنهم عالمون ماذا يفعلون.
في مواجهة ما يحصل من تزوير للحقائق، ومن طلاق مع الكلمة الحكيمة في بيئة يسيطر عليها »منطق اللامعقول«، من الخطأ أن تواجه جنون جورج بوش بالكلمة الحسنة، ومن الخطأ أن تضيَّع الوقت بكلمة عاقلة. فأحسن الدواء (وهو مثبت علمياً) الصدمة الكهربائية، أو أحياناً الصفعة القوية لتلجم حالة الهستيريا التي تصيب المجنون. وأنت مضطر لأن تكون مجنوناً، وكلمتك مجنونة، وصفعتك للمجنون مجنونة. وإلاَّ فسوف ترى نفسك العاقل الوحيد بين مجموعة من المجانين تستغفلك، وتستغل تهذيبك، لتزيد من جنونها عندما تجده مجزياً ومربحاً.
يعيش جورج دبليو الآن، حالة من الهيستيريا في أعلى درجاتها، إلاَّ أنه لم تقبض عليه شرطة المجانين وهو ما زال فالتاً. أما السبب فلأن إدارة المارستان تخضع لمجانين أصحاب إيديولوجيا »القرن الأميركي الجديد« وهم بالذات بحاجة إلى العلاج مثلهم مثل رئيسهم. وهم قد يضحُّون به وبالأكثرية ممن يغامرون بتطبيق نظرية »القرن« إذا ما اكتشفوا أن العالم أخذ يعي حقيقة جنونهم.
أما العالم الواعي لفلتة الجنون الأميركي، الجزء من العالم الذي لم يكن بالقوة التي يستطيع فيها أن يحِدَّ من هياج »الثور الأميركي« الجامح، أخذ يمتلك بعض القوة التي تؤهله لصناعة »مطرقة حديدية« تسهم في تكسير صلابة »قرن جورج بوش«، وتقوده إلى مستشفيات حالات الجنون المستعصية. ولكن لا يمكن أن تستأصل مرض الجنون الأميركي إلاَّ »باجتثاث أصحاب القرن الأميركي الجديد« واستئصال فلسفتهم من مناهج التعليم الأميركية المقروأة والمسموعة والمرئية. أوَ هل هناك من مساعد ومعين؟
بلى أيها العاقلون والحكماء، من أبناء شعبنا العربي. أيها المسؤولون في نظامنا الرسمي العربي. هناك من نفتخر بجنونهم الثوري، وجنونهم بالدفاع عن شرفهم وكرامتهم (وكرامتنا في البداية) وكرامة (الحكماء والمتعقلين من أبناء شعبنا). نعم هناك من نفتخر بهم وهم، كل من حمل بندقية أو متفجرة أو صاروخاً ليصطاد آلية محتلة أو روحاً لمحتل.
لن يوقف جموح هذا الثور المأفون المجنون الهائج إلاَّ مطرقة المقاومة الوطنية العراقية لتكسر »قرنه« و»قرون الخيانة« للذين لا يدرون (خاصة من العراقيين ومن العرب) كم طالت قرونهم، من كثرة ما زنى عدو البشرية، جورج بوش وإدارته، بالشرف الوطني والقومي على مسمع منهم ومرأى؛ وتشجيع له وتمسيح لجوخ سرواله.
وكل صرخة جنون وأنتم بخير. ولعلَّ كلمة العقل لا تسجِّل علينا تلك اللحظة التي أحببنا فيها أن نصرخ من شدة ألمنا، وفي الوقت الذي يستحيل فيه أن تستخدم كلمة العقل. وفي الوقت الذي لا تتحمل فيه شدة الوجع كلمة تهذيب أو المغلَّفة بالتهذيب.
***

(16): المقاومة العراقية تقطف الحبة الأولى من عنقود الضمير الأممي
في 17/ 3/ 2004م
قل لي من تقاوم؟ أقل لك ما هي أبعاد مقاومتك ونتائجها. هذا السؤال يطرح نفسه بإلحاح حول ما يحصل في العراق بين المقاومة الوطنية العراقية وقوات الاحتلال الأميركي وأتباعها.
من الواضح أن أهداف المقاومة العراقية وطنية قبل كل شيء آخر، لكن تلك الأهداف المباشرة ليست محدودة بجغرافية العراق، بل لها انعكاسات غير مباشرة ونتائج غير مباشرة على المستويين القومي العربي، والدولي الإنساني. فإذا كانت استراتيجيا قيادة المقاومة العراقية تستند إلى أهداف استراتيجية قومية من خلال تجربة نضال وطني يقودها حزب البعث العربي الاشتراكي؛ فإن نتائج نضالاتها الإيجابية، بعد أن تفرض على القوات المحتلة الانسحاب من العراق، ستصب في مصلحة حركة التحرر العربية.
إن النظر إلى أهداف المشروع الأميركي، التي تستهدف العالم بأكمله من المحيط إلى المحيط، يدفعنا إلى التأكيد أن ما نحسبه نتائج إيجابية لصالح القضية الوطنية العراقية، أو لصالح القضية القومية العربية ككل، ليس هو كذلك فقط من حيث النتائج غير المباشرة، وإنما ستكون نتائج اندحار المشروع الأميركي في العراق ذات مردود عالي الأهمية بالنسبة للمصالح الأممية على صعيد كل دول العالم، ومن أهمها منظومة دول النادي الرأسمالي.
لو حصرنا مقالنا في حدود تأثيرات القضية العراقية على المستوى الأممي، لكان من الضروري واللازم أن نوضح بعض جوانب الصراعات الأممية غير المنظورة ضد مشروع »أمركة العالم«. وهنا نرى –من خلال العودة إلى مئات التقارير والكتابات ذات العلاقة بأبعاد الصراعات الدولية ضد المشروع الأميركي- أن دول العالم، قاطبة، تعرف خطورته. ولكن بدلاً من أن تُعدَّ العدة من أجل لجمه، ولأنها تحسب أنها لن تستطيع »كسر يده«، فإنها تقبِّلها و»وتدعو عليها بالكسر«، على قاعدة المثل الشعبي الرائج كثيراً على مستوى الثقافة والتعبئة الشعبية العربية، كما هي رائجة كثيراً حتى في ثقافة مثقفي »الأنتليجنسيا العرب«.
لما تواصل إلى مسامع الدول الكبرى سقوط بغداد تحت الاحتلال تزاحمت أنظمة معظم دول العالم السياسية على أبواب رأس مشروع الأميركيين المتطرفين الجدد طلباً لمغفرته ورضاه عن الأبناء الذين ضلُّوا الطريق عندما مانعوه في إعطائه شرعية أممية في حربه ضد العراق.
ولما تنامت أخبار المقاومة العراقية إلى مسامع تلك الأنظمة التقطت أنفاسها وخفَّ تزاحمها على أبواب البيت الأبيض لأنها توسَّمت بنتائج أعمال المقاومة العراقية خيراً في أنها إذا لم تكسر اليد، التي تزاحمت لتقبيلها بحجة عدم قدرتها على كسرها، فإنها بلا شك ستلويها. فمن تغير الأوضاع من حال إلى حال بدأ مشروع الوقوف الدولي ضد المشروع الأميركي ينتعش ويظهر، رويداً رويداً وبقفازات ديبلوماسية، إلى العلن.
من تلك المراهنة، حتى ولو كانت مغلَّفة بالنوايا غير المعلَنَة وتتمظهر بقفازات ديبلوماسية، لا بُدَّ من أنها تضع نضالات المقاومة العراقية في مصاف الوسائل الأممية لتحرير العالم من الكابوس الأميركي وجموحه. ولهذا ليست المقاومة العراقية ذات أبعاد وطنية أو قومية فحسب، بل هي ذات أبعاد أممية إنسانية أيضاً.
إن الضمير العالمي (في محاولة منا للتمييز بين مصالح الأنظمة وضمائر الشعوب) قد التقط منذ لحظات التهديد الأولى باحتلال العراق حقيقة الصراع الأميركي العراقي، واتَّخذ منه موقف المنحاز إلى الطرف العراقي بدون لبس أو غموض. فكانت مظاهره أكثر بروزاً في المظاهرات التي جابت شوارع المدن الرئيسة في شتى أنحاء العالم، ولم تستثن ضمائر الشعوب في الدولتين المحتلتين: الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا. كما أن خطورة المشروع الأميركي، على خلفية الدور المسيحي المتعصب الذي يستند إليه التطرف اليميني الأميركي في مشروعه الخبيث، أثار –بحدة وإصرار- ضمير الكنيسة المسيحية الغربية والشرقية وظهرت ردود فعلها الغاضبة والمستنكرة والمحذِّرة في تصريحات وبيانات ورسائل رؤوساء تلك الكنائس في شتى أنحاء العالم المسيحي.
لقد أعطت الأنظمة الدولية المؤيدة للحرب والعدوان، ومن بعدهما الاحتلال، الأنموذج الأسوأ للديموقراطية المزيَّفة في العالم الذي تتشدَّق بفضائلها. وزوَّرت تلك الأنظمة إرادة شعوبها، وتحديداً إرادة الأكثرية الشعبية الرافضة للحرب، فتجاوزتها وأهملتها وضربت بها عرض الحائط، وركبت رأسها –بتحريض من أصحاب الرساميل فيها- وراحت تعمل على تخفيف المأزق الأميركي في العراق.
إن الأنموذج الأكثر دلالة عن السلوك اللاديموقرطي الذي تتمسَّك به الأنظمة الداعمة للحرب والاحتلال، هو ما حصل في أسبانيا. لقد صوَّرت أبواق أزنار (رئيس الحكومة الإسبانية ما قبل الانتخابات الأخيرة) أن قرار دعم قوات الاحتلال الأميركي كان ديموقراطياً ويعبِّر عن رأي أكثرية الشعب الإسباني، فجاءت نتائج الانتخابات الأخيرة لتثبت الأكاذيب التي كانت حكومة أزنار تمارسها لتضليل الرأي العام العالمي والأسباني، فجاء صوت ضمير الشعب الإسباني ليكشفها ويعرِّيها. وقد عبَّر رئيس الحكومة المنتخب ليعلن بوضوح وإصرار عن حقيقة ضمير الشعب الإسباني وقراره بلاشرعية الحرب الأميركية والاحتلال الأميركي للعراق. وعبَّر بعض الجنود الأسبان الموجودين في العراق –وهم من الذين صوَّرهم أزنار ووزيرة خارجيته (آنا بالاثيو) أنهم موجودون في العراق للقيام بمهام إنسانية- عن أنهم لن ينتظروا نهاية حزيران ليعودوا إلى بلادهم، بل طالبوا أن تعيدهم حكومتهم فوراً إلى إسبانيا.
تلك هي الحبة الأولى لقطاف عنقود الضمير العالمي تُسجَّل لحساب المقاومة العراقية. وهو وسام لها بتقليدها نجمة أولى لما تقدِّمه من خدمات وتضحيات من أجل العالم قاطبة، وهي وسام لحركة التحرر العربية تعلِّقه المقاومة العراقية، بنضالات أبطالها، وصبر المعتقلين من أفرادها في سجون العدو، ومن حياة شهدائها، ومن دماء جرحاها، ومن معاناة أطفالها ونسائها وشيوخها القابضين على جمر العذاب، قابلين وراضين ومصرِّين على متابعة النضال والتضحية.
لقد مرَّ عام أول من عمر المقاومة العراقية، وعمر الإرادة بالتحرير لا يُقاس بالسنين، بل يُقاس بحجم الكتلة النضالية التي تختزنها الشعوب المكافحة من أجل الحرية والاستقلال، ولهذا نرى –قياساً على هذا المكيال- أن عمر حالة التراكم النضالي الذي صنعته المقاومة العراقية هو عدة من السنين. فبوركتم يا أبطال العراق، وهنيئاً لك يا مقاومة العراق، يا مقاومة الأمة العربية، وانتظري حبات أخرى ستُقدَّم إليك قريباً من عنقود الضمير العالمي الذي أعطى نتائجه الأولى واليانعة بفعل ضمير الشعب الإسباني النبيل.
***

(17): أحمد ياسين شيخ المقاومة وشيخ المقاومين: معاني شهادته ودلالاتها
لما كنت أتابع ما قيل في شهادته سمعت كلاماً جميلاً وبليغاً، رأيت نفسي أنه مهما كتبت حولها سأكون عاجزاً عن الإتيان بمثله. وهذا ما يجعلني أقول بأن كل ما قيل فيه، وما سيقال لن يفي معاني شهادته، ودلالاتها، كل ما يرضي روح الثورة فينا.
كثيرة هي الأحيان التي يملُّ فيها القارئ من متابعة مقال أو بحث هادئ. فقد تعوَّدنا أن نتناول المعرفة كوجبة سريعة لا تستهلك من وقتنا إلاَّ بضعة من الدقائق. وعلى الرغم من ذلك الواقع سأكتب عن معاني شهادة الشيخ أحمد ياسين ودلالاتها بطريقتي الخاصة.
من أبي العباس إلى الشيخ أحمد ياسين قصة مع العدوان الأميركي الصهيوني واحدة، رسالة واحدة، عدوان واحد، أهداف واحدة، أداوات واحدة، شخص واحد بلباسين مختلفين باللون، للتمويه. إنها قصة سايكس بيكو التي رُسِمت بأقلام صهيونية استعمارية.
بالأمس اغتالوا أبا العباس في معتقلات الاحتلال الأميركي في بغداد، واليوم اغتالوا الشيخ أحمد ياسين في المعتقل الصهيوني الكبير في غزة. فكلاهما شهيدان بيد عدو واحد، ومن أجل مشروع واحد ضمَّ إليه اليمين الأمريكي المتطرف مع الصهيونية العالمية. ومن نقطة الحقيقة هذه كيف أرى معاني شهادة شيخ المقاومة ودلالاتها.
يؤاخذ الكثيرون من الصادقين في انتماءاتهم القومية كثرة تكرار المعزوفة، »سايكس - بيكو«، تحت حجة الخروج من المعروف في ثقافتنا العربية إلى جديدها. وكثيرون ممن لا مصداقية لهم ينتقدون تكرار معزوفة »سايكس بيكو« وأسبابهم مختلفة، ومقاصدهم واضحة، وهي محو ذاكرتنا من معرفة المخططات الاستراتيجية التي يعمل التحالف الأميركي الصهيوني على هديها. فهم لا يريدون من العرب أن يتذكروا المخططات الاستراتيجية كي تصبح طريقتهم في الكذب والتمويه سهلة في حرف الرأي العام العالمي عن طبيعة مؤامرتهم وحقيقتها.
وإذا كنا مع تجديد الثقافة وجديدها، ونحن معهما فعلاً، فعلى أساس أن لا ننسى الخط الاستراتيجي للمشاريع المتصارعة. أما على صعيد الخط الاستراتيجي المعادي الذي نقاومه اليوم، فلا ينفصل على الإطلاق عن المخطط الذي وضعه التحالف الاستعماري الصهيوني منذ أكثر من قرن. ولأن هذا المشروع لا يزال ثابتاً بما حصَّل من نجاحات، بينما الذي تغيَّر فيه هو أسماء منفذيه، فمن الواجب أن لا نقصيه عن ذاكرتنا -حتى لو كان من قبيل التكرار- ونتلهَّى بردح مواصفات المنفذين الجدد –وما أكثرهم- فيضيع الاستراتيجي في المرحلي وهو الهدف الأساس من محو ذاكرتنا المعرفية حول المشروع الأب.
فما هو الذي تغيَّر في مضمون المشروع عند كل من طرفيه: الاستعماري والصهيوني؟
رعى المشروع الاستراتيجي كل من فرنسا وبريطانيا، ولما عجزتا –بعد الحرب العالمية الثانية- عن متابعة تنفيذه –بشكل مباشر- ورثته الولايات المتحدة الأميركية، تلك التي كانت لا تزال فتية في تلك المرحلة، وتابعت تنفيذه لأنها وجدت فيه ما يفيد مصالحها. فالراسم هما سايكس وبيكو (الفرنسي – البريطاني)، والرسم يترجم مصلحة استعمارية عامة. فلما رسما المشروع لم يرسماه لرؤوساء فرنسا وبريطانيا، ولكن رسماه لمصلحة المشروع الإيديولوجي الاستعماري العام، وعلى كل الذين يرون مصلحة في تطبيقه، بغض النظر عن الأسماء أو الهويات القومية. يتبناه كخط استراتيجي يعبَّر عن مصلحة طبقية لمنظومة الدول الرأسمالية.
أما الآن، فلن تدعو فرنسا القرن الواحد والعشرين –مثلاً- إلى إزالة المشروع الاستراتيجي، وما تحقق من نجاحات في تنفيذ مراحله، وإنما تريد أن تنقلنا منه كاستهداف استراتيجي إلى معالجة بعض ذيوله. فهي لا تريد أن تعود فلسطين كاملة إلى الفلسطينيين، ولا هي تريد أن تقتلع جذور الصهيونية من المنطقة العربية (لأنها ستبقى حامية لمصالحها في وجه الإيديولوجيا التحررية). أما تميزها عن المتطرفين من أصحاب المصالح الأميركية فهو بالدرجة وليس بالنوع. فإذا كانت ترفض مظاهر الفظاظة الصهيونية لكنها لا تسمح باقتلاع وجوده. وما ينطبق على فرنسا ينسحب على الموقف البريطاني (الشريك التاريخي في رسم خرائط سايكس بيكو).
دالت قوة فرنسا وبريطانيا، وحلَّت مكانها قوة أميركا. تغيَّرت وجوه المنفذين، وبقيت إيديولوجيا المشروع ثابتة.
أما الأب السياسي الأميركي للمشروع الإيديولوجي (سايكس بيكو) فقد تبنَّى المشروع كإيديولوجيا ترتبط بمصلحة الرأسمالية الأميركية، فقد تبنَّاه كنظام وليس كأفراد. ذهب ترومان، وجاء أيزنهاور. ذهب كينيدي وجاء نيكسون. ذهب كارتر وجاء ريغان. ذهب بوش الأب وجاء كلينتون. ذهب كلينتون وجاء بوش الإبن وسيرحل. ذهب الجميع، ويذهبون -كمتغيرات تنفيذية- وبقي مشروع سايكس بيكو ثابتاً، وسيبقى.
لكل تلك الأسباب نرى أن ثبات مشروع إيديولوجيا (سايكس – بيكو) هو ما علينا أن نجعله ثابتاً في رؤيتنا المعرفية، ومن الخطأ أن نحكم على الإشارة إليه كلما كتبنا في الفكر وفي السياسة وفي المواجهة النضالية بالتكرار المعرفي، فنكون كمن يحكم على من يرددون الدعوة إلى العدالة والمساواة والتحرر بالحكم ذاته، وهو ما لا يستقيم مع تراكم المعرفة وتعميقها وتجديدها.
وفي الشق الصهيوني، يعمل الإعلام، عن صدق نية أو عن سوئها، على تجاهل المخطط الصهيوني الأم، أو على الأقل وصفه بالتكرار المعرفي. وهنا نرى أننا كمن يؤخر الثابت لحساب المتحرك. وكثيراً ما تتجاهل الوسائل الإعلامية الإشارة إلى المشروع الإيديولوجي الصهيوني وتغرق في محاكمة متغيراته. لقد وضع ناحوم غولدمان أسس الإيديولوجيا الصهيونية، مستنداً بالطبع إلى الإيديولوجيا التوراتية. ولم تتغيَّر أهداف المشروع الاستراتيجية، بل ظلَّت ثابتة تصوِّب لكل الصهاينة –وعلى الرأس منهم الإدارات المتعاقبة على الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة- كلَّما خافوا من أن تنحرف تكيكاتهم عن الخط الإيديولوجي العام.
مات غولدمان وورثه بن غوريون. مات بن غوريون وورثته غولدا مائير، والتي ماتت وورثها مناحيم بيغن، والذي رحل وورثه … من ماتوا من بعده، وورثهم من ينتظرون الموت كإسحق شامير وشيمون بيريز ونتنياهو وشارون. كلهم ممن ماتوا أو من سيلحق بهم، فكلهم كانوا جنوداً للإيديولوجيا الصهيونية، ولأخطر مظاهرها السياسية في الكيان الصهيوني المغتصب لأرض فلسطين، بينما ظلَّت الإيديولوجية الفكرية ثابتة، وظلَّت الإيديولوجيا السياسية (كيان الاغتصاب في فلسطين) ثابتة.
غرقنا في محاكمة الأشخاص، من خلال تصنيفهم حمائم وصقور. وغرقنا في بؤرة الوهم: من يعطي مساحة أكثر من الأرض الفلسطينية للفلسطينيين. وتناسينا أن المشروع الاستراتيجي هو ما يجب علينا أن نبقيه ماثلاً في أية خطة للمواجهة مع المشروع الاستراتيجي الصهيوني الأم.
ومن ناحية أخرى، وهي الأخطر، غرقنا في التمييز بين اليمين الأميركي (كأب يرعى التحالف الاستعماري الصهيوني) واليمين الصهيوني أو اليساري منه (فهم من نوع واحد وفصيلة واحدة يعملان على تنفيذ المشروع الصهيوني).
والخطورة في التمييز آتية من نسيان المشروع الأم والأب الواحد (إيديولوجيا سايكس بيكو) أولاً، والنظر إلى الطرف الأقوى في التحالف وكأنه الراعي الصالح لحل تناقضاتنا مع توأمه الصهيوني ثانياً.
كثيرة هي الأنظمة والقوى والحركات التي استغفلت نفسها، أو حاولت أن تستغفلنا. استغفلت نفسها لأنها كانت مرهوبة من القوة الأميركية، واستغفلتنا لأنها حاولت إقناعنا بأننا لا نملك قوة الرد على كل من يريد أن يمارس الاغتصاب علينا، فدعتنا إلى الاستسلام إلى إرادة الغاصب: الصهيوني في فلسطين، والأميركي في العراق.
سواء صدر التوجيه، عن حسن نية فيقع الموجِّهون في دائرة المغفَّلين الاغبياء، أو عن سوئها فيكون من الجهل أن نركن إلى القناعة بتوجيه من مغتصبينا.
خارجاً عن مألوف حكمة الحكماء، وغباوة الاغبياء، وسذاجة الجبناء، وتآمر بعض الفرقاء، وحسابات الربح في التجارة، ومخاوف التجار من الخسارة، وتخويف أصحاب المشروع الأميركي الصهيوني لإلحاقنا في مشروعهم، أو وعودهم للتجار بأن أفضلهم هو كل من يتميز بالشطارة.
خارجاً عن مألوفهم وسذاجاتهم وحكمتهم وأحكامهم، كان الشيخ أحمد ياسين شعلة جديدة ومعلماً من معالمنا المعرفية والسياسية والنضالية. خرج عن مألوف ما نعرفه من فقهاء السلاطين، وتلطيهم بجزء من النص الإسلامي لتبرير حكمة حاكميهم، وأخطاء جاهليهم، وتنفيس أحقادهم الإيديولوجية، والترويج لأوهامهم السياسية.
خارجاً عن مألوف بعض الحركات السياسية التي تغلِّف تراخيها عن مقاومة المغتصب إلاَّ بالكلمة الحسنة والحكمة السياسية!!!
خارجاً عن المألوف، اتَّخذ الشيخ الشهيد مساراً خاصاً برؤيته في الصراع مع حالة الاغتصاب العامة، سواء كانت في الشرق أو في الغرب، وأعلن أن الاغتصاب الذي قام بفعلته بالقوة لا يمكن أن ترشقه بالحكمة والموعظة الحسنة، بل من الخطأ أن تفعل ذلك
لقد وعى، وقبل كل شيء، الترابط الوثيق بين طرفي التحالف الاستعماري الصهيوني، ودفعه وعيه لثبات مشروع الهيمنة والاغتصاب (سايكس – بيكو) إلى الابتعاد عن المراهنة على الحوار السياسي، وهو إذا كان لا يرفضه، لكن على أن لا يكون البديل عن المقاومة المسلَّحة بل على أن تصب نتائجه في تعزيز روح المقاومة والعمل على توسيعها وانتشارها، بالمال والأرواح والأنفس، حتى تحقق نجاح أهدافها في تحرير الأرض كاملة.
لقد أعلنها بوضوح، وهو في المسجد، والمعتقل، وعلى الكرسي، أن الجهاد فرض عين على كل فلسطيني لأن أرضه خاضعة لاحتلال. وإن تنوَّعت درجات الجهاد كان أفضلها –عند الشيخ الشهيد- وأكثرها ضرورة وواجباً وجه المقاومة المسلَّحة. وإنه قد أفتى ومارس أيضاً لأنه كان في قلب معركة الجهاد حتى التحرير، وآمن بأن الأرض لن يحررها إلاَّ المؤمنون الطليعيون الشجعان.
أعلنها مقاومة بالسلاح أولاً وقبل كل شيء، وأهلاً وسهلاً بما توفِّره المقاومة السياسية والحوار السياسي والمقاومة السلمية من نتائج تصب في أهداف المقاومة المسلَّحة. ولكن بشرط أن لا يسترخي كل الداعين للمنطق الأسهل والأكثر تبريراً لخوفهم ورعبهم من الشهادة على طريق اختيار قتال العدو بالسلاح. ومن يخشى على روحه عليه أن يكفي المقاومة المسلَّحة شرَّه، وأن لا يروِّج، لا للحكمة ولا للكلمة الحسنة إذا لم يكونا في موقعهما الصحيح والشرعي. وإذا أراد أن يقوم بدور فليس من أجل الحد من زخم المقاومة بل من أجل أن يدعمها ويقويِّها.
فإلى روحك يا شيخنا، يا شيخ المقاومة بالفكر والفتوى، ويا شيخ المقاومين بالنضال على أرض المعركة، نقف بالإجلال والاحترام. فبسيرتك ونظرتك، فبسلوكك ونضالك، ستبقى لنا القدوة. وسوف تستمر مقاومة الشعبين الفلسطيني والعراقي شعلة تستلهم، في فلسطين والعراق، من معالمها النضالية ورموزها الأكثر إشعاعاً في تاريخنا.
وأنتم يا سيدي الشيخ الشهيد، وصدام حسين الثائر الأسير، مع كل الأخوة الذين يقدمون أرواحهم وحريتهم مهراً لتحرر هذه الأمة واستقلالها،ستبقون لنا التُراث الذي سننهل منه ونقتدي به.

(18): بوش - بريمر: لن ينفع دواء لكم إلاَّ أن تذوقوا المرارة
دورية العراق: 3/ 4/ 2004م. والبصرة: 3/ 4/ 2004م.
وصف جورج دبليو مقتل الأميركيين في الفلوجة بأنه عمل مروِّع، وأردف صنيعته بول بريمر مهدداً بأن الفاعلين سينالون العقاب.
غازٍ وحارس للغزو يشكوان من قسوة المدافعين عن أرضهم وعرضهم.
دعوهم يشكون، دعوهم يشعرون بالألم، دعوهم يضربون رأسهم بالحائط.
شكراً لله على نعمته بأنه وهبنا قبضات لها ضربات موجعة. لقد مللنا من الشكوى، فنحن لن نشتكي بعد الآن. فلندع العدو يشكو ويتألَّم.
جورج دبليو يا عرب تعوَّد أن يضرب ليرهب. وجاء تابعه بريمر –كخبير في الإرهاب- ليمكَّن الإرهاب من رقابنا، وليعلَّمنا كيف يكون الخضوع. جاء هذه المرة بقبضة حديدية، ومطرقة حديدية، وعقارب وأفاعي من حديد، وهي كلها من ابتكاراته. أوَ ليس هو الخبير في الإرهاب؟!
لقد قال »آخ«، وكان عليه، وعلى رئيسه أن يقول الآخ من زمان. لكنهما لم يقولاها لأننا لم نكن نمتلك قبضات لنستخدمها، بل كنا نتلقى اللكمات ونتألم، أو أن البعض منا لم يكن لديهم جهاز عصبي ليحسوا بالألم، فقد تخدروا. أما الآن فقبضتنا أصبحت »فلوجية« الطعم والمذاق. أصبحت قبضتنا عراقية الموطن عربية الهوى. والحمد لله.
صرخ جورج دبليو، لكن صرخته، ولأول مرة في تاريخه، لم تكن مملؤة بالكذب والخداع، بل كانت صرخة حقيقية. ولكنها ليست بحرارة من يتألم لفقدان عزيز على قلبه، كما تتألم الأم الأميركية التي فقدت فلذة من كبدها في العراق. بل كانت صرخة جورج دبليو، مملوءة بألم من أفلتت طريدة »نفط العراق« من يده، فهو استفاق من حلم بدت له فيه ثروة العراق مطواعة مستسلمة تنتظره في مطار صدام الدولي، لا لكي يقدِّم »ديك الحبش« من البلاستيك لجنوده، بل ليمشي على السجاد الأحمر فيدخل بغداد إمبراطوراً للعالم كله. لقد استفاق فإذا بأحلامه مملوءة بالدم المسبوق بالكذب والاحتيال.
لقد استفاق جورج بوش على صورة عدد من السارقين الأميركيين لثروة العراق وهم يحترقون على مرأى ومسمع من العالم كله على أرض الفلوجة.
»لا شماتة«، نقولها لمن شاهد اللصوص يحترقون في الفلوجة بالأمس القريب، واعتصر قلبهم ألماً من تلك المشاهد. ولكننا نعيد استذكار ما لم تنشره وكالات الأنباء من صور، ولم تردد وسائل الإعلام ما يجري من مجازر يندى لها جبين البشرية خجلاً، جرائم يرتكبها »لصوص القرن الأميركي الجديد« على أرض العراق.
مجازر يرتكبها جنود وضباط وقادة أولئك اللصوص والمافيات على أرض العراق بحق نسائه وأطفاله وشيوخه. مجازر هدمت البشر والحجر. هدَّد بوش الأب، قبل العدوان الثلاثيني في العام 1991م، بأنه سيعيد العراق إلى ما قبل العصر الصناعي، وما بدأه الأب بطريقة الحصار، أنهاه الإبن بالصورايخ والطائرات والأفاعي والعقارب والقبضات في العام 2003م.
أما في العام 2004م، فقد انقلبت الموازين رأساً على عقب، ففيه أصبح بوش عاجزاً عن إخفاء الحقيقة، بأن عقاربه أعادت عقارب الوقت إلى الوراء. وهذا هو اليوم يواجهها بمرارة المغلوب على أمره. فقد انتهت مشاريعه وأصبحت في مهب الريح.
نحن، والله العظيم، ينفطر قلبنا حزناً إذا رأينا نملة تُسحق، فكيف لو شاهدنا بشراً يحترق؟ ولكن إذا أردنا أن نظهر حالة الخير فينا، علينا أن نسمع بأذنين اثنين، وأن نرى بعينين اثنين، وأن نستفتي قلبنا ببطينيه الاثنتين، وأن يكون حكمنا واحد ليس بلسانين، بل بلسان واحد.
لمن له إذن تسمع، وله عين ترى، وله قلب يزن الألم بعدل، وله لسان لم يتعود إلاَّ على قول الحق والصدق، نفتح له شاشة التلفزيون، وصفحة الجريدة، ومذياع الراديو، ونقول له: تعال معنا وشاهد واقرأ واسمع واحكم:
قالت، منذ أيام قليلة ماجدة عراقية، كانت معتقلة في أحد معتقلات الاحتلال الأميركي، (معتقل ديموقراطي فلا تتعجبوا لأن للديموقراطية معتقلات رحيمة). خرجت من تحت رحمة الاحتلال لتصرخ، ويحق لها أن تصرخ، لأن الحسناء ما كانت ترفع صوتها لو كان في تلك الجموع رجالا!!
قالت الماجدة العراقية مخاطبة العرب والمسلمين والضمير العالمي: »أعراضنا هتكت، وملابسنا تمزقت، وبطوننا جاعت. دموعنا جارية، ولكن من ينصرنا؟ أقول لكم: اتقوا الله في أرحامكم فقد امتلأت البطون من أولاد الزنا«. وناشدت ضمير العراقيين قائلة: »إذا كنتم تملكون من الأسلحة فاقتلونا معهم داخل السجون«.
بلى لقد سمع أبطال الفلوجة النداء يا أختاه. قتلوا اللصوص ومن يحمي اللصوص. ولكننا نعتذر منك أن الرجال فينا قد هزَّتهم مناظر اللصوص وهم يحترقون، لكن نداءك يا أختاه ذهب رجع الصدى ولم يخدش آذانهم.
تعالوا نتساءل: لو غزا العرب أميركا وبريطانيا، وفعلوا ما يفعله بوش وبلير وبريمر. أو غزوا فرنسا أو أستراليا أو إيطاليا، وسكت العالم على فعلة العرب، وخُدعوا بمعزوفة إعمار أميركا.
ولو كانت أم جورج دبليو أو أخته أو زوجته، أولو كانت أم بلير أو أخته أو زوجته، أولو كانت أم بريمر أو أخته أو زوجته، ممن اعتقلهن العرب في سجن في واشنطن، أو في لندن، مع كثيرات من حرائر أميركا أو بريطانيا، وصرخن –كما صرخت تلك الماجدة العراقية- ماذا كان كل منهم سيفعل؟! بلى كان يمكنه أن يجر جثة الغازي بذيل فرسه ليجعل منه أمثولة لكل العالم. لكنه لم يهتز، ولن يهتز، أمام صرخة أطلقتها ماجدة رأت المخازي في معتقلات »ديموقراطية جورج بوش«.
لقد اهتزَّ بوش رأفة بأمثاله، رأفة بموفدي شركاته وشركات أبيه ونائبه ووزير دفاعه ونائب وزير دفاعه، وأولياء نعمة بول بريمر ربيب المافيات التي يخطط لها، ويمهد الطريق من أمامها ككاسحة للإرهاب.
يهدد بريمر الفاعلين بالعقاب! نعم يحق له، فالذين احترقوا، والذين قُتِلوا، كانوا قد ورثوا قطعة أرض في الفلوجة، وقد سلبها العراقيون منهم، ولما حرَّر جورج دبليو العراق؟! رجعوا إلى الفلوجة ليستعيدوها! فقتلهم أهل الفلوجة الغاصبين لأرض رجال الأعمال الأميركيين، وأحرقوهم، أوَ هل هناك من وحشية أكبر من وحشية أهل الفلوجة؟!
لم أك لأهتزَّ أمام كل عوامل الإثارة، ولكنني يا أختاه طعنتني صرختك في الصميم، وشعرت بالذل الحقيقي في أن أكون هادئاً بينما يدنس أبناء الأفاقين، وأبناء الحرام، الأرض والعرض تحت يافطة الديموقراطية التي ينعم بها عملاء الاحتلال وحدهم، وهم محقون أنهم لم يسمعوا صرخات الماجدات العراقيات كاشفات حاسرات فهم قد فقدوا كل معاني الشرف عندما ركبوا دبابات الاحتلال.
لا تلومينهم يا أختاه، فهم فقدوا معاني الشرف والكرامة منذ أن لوَّحوا لجندي مرتزق، ولقائده الأكثر ارتزاقاً منه، بحيث لم يتورَّع بعضهم من احتضانهم وتقبيلهم من الفم للفم.
أما المتفرِّجون من العرب والمسلمين وكل أرباب المافيات المالية العالمية فهم على استعداد لأن يبيعوا الضمير بقليل من الفضة.
أما المعتصم، يا أختاه، فقد غاب عن المويوئين ونأى بنفسه عنهم. واختار خندق المقاومة لأنه وجده السبيل الوحيد لإنقاذ الأرض والعرض من الذل والهوان.
ولو أردنا أن نسمع صوت المعتصم في الضمير العالمي لرأينا أن الأميركي أجرأ على جورج بوش من كل حكمائنا الخائفين والمرتعدين أمام جبروته. والماثلين بين يديه.
وهذا واحد من أصحاب الضمير يقول: إن تأثير القتل، الذي تمارسه الإدارة الأميركية، غير المميز بأسلحة الدمار الأميركية، سيكون غبار اليورانيوم في أجساد العراقيين وأجساد قواتنا التي ستعود إلينا حيث سيكون كل منهم قنبلة موقوتة تدق ببطء وآخذة معها حياة السذج، والجهلة، القادمين مع مصادر إشعاعهم الداخلي كحطب للحروب، الحروب النووية الأمريكية في القرن الحادي والعشرين. ونبقى نتساءل: لماذا يكرهوننا ويزدروننا هكذا!!! ( ).
ويقولون بالتالي: لماذا تطحن أسناننا عظام مستوطن مرتزق على جثتنا وثروتنا وأعراضنا وكرامتنا؟
رأفة بدموع بول بريمر، أبو الإرهاب. ورأفة بقلب رئيسه الرقيق، نقول للمقاومين الأبطال: لا شُلَّت أيمانكم أيها الأبطال، أذيقوهم المر، لأنهم بغير المر لن يفكروا بالخروج. ولأنهم بغير طعم المر لن يدعوا ماجداتنا حرائرا، بل هن سيمتن خجلاً من أن ليس لديهن رجال، فيصبح الموت أكثر رأفة من وجود رجال ليسوا رجالاً.
***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق