بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 22 يناير 2010

مقالات العام 2008 (2)

19-هل يحرر الأسرى العائدون من سجون العدو الصهيوني القوى السياسية في لبنان
من عبودية المصالح والأهواء والنفعية؟
إنه حلم سعيد عاشه لبنان بأسره وهو يستقبل الأسرى اللبنانيين في مطار بيروت. إنه حلم اللبنانيين المغلوبين على أمرهم في أن يستمر السياسيون الممثلون لهم في شتى مؤسسات السلطة في وحدة يحتفلون معاً، بصفوف متراصة، من أجل أسمى قضايانا الوطنية التي تقع مسألة السيادة في أولوياتها.
إنه حلم سعيد، يفرك اللبنانيون أعينهم مذهولين سعادة وحبوراً، يذرعون إلى الله أن يستمر الحلم على أرض الواقع.
يتساءل اللبنانيون عما إذا كان أمراء الطائفية السياسية قد اتَّعظوا باستعراضهم التوحيدي في المطار، خاصة وقد وحَّدهم تشابك أيدي المقاومين الأسرى، وخروج جثامين الشهداء في قافلة واحدة تبتدئ في الناقورة وتنتهي عند حدود لبنان الشمالية. وبمسيرتهم تلك وحدوا بلدات لبنان الساحلية ومدنه التي كادت الفتنة الأخيرة تودي بكل معالم الوحدة فيه .
ويتساءل اللبنانيون عما إذا كان أمراء الطوائف قد أتوا ليأخذوا صورة تذكارية في حفل الاستقبال يحتفظون بها لإظهارها في ملصقاتهم الانتخابية ليستغلوها في الدعاية لأنفسهم. وعلى الرغم من ذلك كان المظهر الشعبي، اللبناني والفلسطيني، منفعلاً بالحدث الكبير بوجدانية وصلت إلى حدود إهراق الدمع الحقيقي، حزناً وفرحاً واعتزازاً. حزناً على أن الأبطال لأنهم عادوا في نعوش، وفرحاً لأنهم دفعوا حياتهم ثمناً لسيادة أمتهم، واعتزازاً لأنهم كانوا صادقين في حبهم لوطنهم وأمتهم غير منتظرين جزاء ولا شكورا إلاَّ ما يضمن استمرار توليد الأبطال من أمثالهم.
كان الاستقبال الشعبي ذا مصداقية حقيقية، لا تلوُّن فيها ولا تبرُّج. كان الاستقبال مظهراً من مظاهر احتفاء الجماهير الشعبية بالأبطال الحقيقيين، الشهداء منهم القادمين بنعوش حتى ولو حملت أرقاماً، والمحررين الذين عقدوا العزم على أنهم ما قدموا من الأسر إلاَّ لكي يعودوا إلى ساحة النضال من جديد.
الافتتاحية
(طليعة لبنان الواحد/ تموز 2008)
حزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي
وجبهة التحرير العربية
عودة الأسرى والشهداء تمثل حلقة من حلقات تراكم العمل المقاوم
عندما أعلن حزب البعث العربي الاشتراكي شعار (الكفاح الشعبي المسلح) في العام 1948، وعندما أطلقت (حركة فتح) العمل المقاوم في 1/ 1/ 1965، كانت إشعاراً بأن الأمة اعتنقت عقيدة المقاومة المسلحة طريقاً وحيداً لتحرير فلسطين، كبوابة أساسية لحماية الأمة العربية من مخطط المشروع الصهيوني التوراتي، واعتماده طريقاً أساسياً في تحرير أي أرض عربية تتعرض لأي احتلال آخر، ويأتي في مقدمته المخطط الإمبراطوري الأميركي. واستأنفت أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية سلوك هذا الطريق منذ أوائل السبعينيات من القرن العشرين، واشتدَّ تأثيرها منذ العام 1982، في مواجهة الاحتلال الصهيوني. وازدادت تأثيراً بالفعاليات المقاومة التي أضافها (حزب الله) منذ أواسط الثمانينيات من القرن الماضي، وأنتجت تحريراً لجزء كبير من الأرض اللبنانية في أيار من العام 2000، وأثبتت أنها تستطيع المواجهة في حرب عسكرية مفتوحة في تموز من العام 2006. وهكذا تكرر المشهد في العراق بعد أن أطلق حزب البعث العربي الاشتراكي المقاومة الشعبية في 10 نيسان من العام 2003 لمواجهة الاحتلال الأميركي، وأثبتت أنها كفيلة بإنجاز التحرير ببنادق الثوار وعبواتهم الناسفة.
إن عودة الأسرى وجثامين الشهداء، في تموز من العام 2008، جاءت لتكشف عن جملة من الحقائق التي على الذين أعلنوا انتماءهم لخيار المقاومة الشعبية المسلحة أن يسجلوها في تاريخ المقاومة العربية لكي تستفيد منها فصائل حركة التحرر العربي، ومن أهم تلك الحقائق:
1-نهج المقاومة خط تراكمي بنته دماء الأبطال العرب، وأرواح شهدائهم، على مدى زمني طويل ابتدأ في مقاومة الانتداب الفرنسي والبريطاني، في مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين، في أكثر من قطر عربي: العراق وسورية وفلسطين وجنوب لبنان... ومرَّ على ليبيا عمر المختار، وجزائر جميلة بوح يرد وبن بيلا، وبور سعيد عبد الناصر... وانتقل إلى فتح ياسر عرفات من جديد، وكافة فصائل المقاومة الفلسطينية، وسلكت أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية الطريق ذاته.
2-قومية المعركة، وأحياناً عالميتها، وهذا ما تبرهن عليه جنسيات الشهداء الذي عادوا إلى الأرض اللبنانية، فضمت قافلة الشهداء من فلسطين ولبنان والعراق وسورية وتونس والمغرب ومصر و...
3-جبهوية المعركة وهذا ما تبرهن عليه انتماءات الشهداء العائدين المتعددة.
4-الروح البطولية الفائقة التي تميز بها أولئك الأبطال، وبالعودة إلى قراءة تفاصيل المعارك التي خاضوها ندرك كم كانوا يتميزون ببطولة نادرة، خاصة وأنهم اختاروا اجتياز الأسلاك الشائكة من أجل الوصول إلى أرض فلسطين، وهم يوقنون تماماً أنهم سيلاقون الموت لا محالة، فاختاروا طريقه من دون رهبة أو خوف.
5-تكامل الروح البطولية بين الرجل والمرأة، بين المقاتل والمقاتلة، ويكفينا أن نذكر اسم دلال المغربي، وسناء محيدلي، لنحيي من خلالهما أكثر من بطلة سلكت طريق البطولة والشهادة قل نظيرها عند الرجال.
6-احترام سيادة الوطن، والدفاع عنها أو الموت في سبيل استردادها، لم يميز بين الأديان والمذاهب، إذ وحَّد موكب الشهداء بينهم، إلى الدرجة التي لم يكونوا يشعرون بتلك الفروقات أو يولوها هماً، وكان يجمعهم الدفاع عن سيادة وطنهم، لأنهم كانوا يعرفون أن العدو سيعمل على إذلال الجميع واستعبادهم.
إننا، على الرغم من قناعتنا بأن يبقى الشهداء الفلسطينيون على أرض فلسطين، لكي يحتضن ترابها أجسادهم، لا سيما أن أمنياتهم كانت تتعلق بالعودة إليها، أحياءاً كانوا أم أمواتا، إلاَّ أنه لا يجوز الوقوف عند مناسبة عودة الأسرى والشهداء من دون الوقوف عند معاني شهادتهم ودلالتها، التي تؤكد أن نهج المقاومة تتوارثه أجيال عن أجيال، وإن قومية الأهداف ووطنيتها هي العامل الأهم الذي يفتح الباب لكل عربي في الدفاع عن أمته العربية من خلال كل قطر يتعرض للاحتلال، وأن الروح البطولية تسكن عقل العربي وضميره، وأن جبهوية المقاومة وشموليتها كل المواطنين هي الضامن الأكبر لقوتها وفعاليتها لا سيما أنها تسمح للجميع بالمشاركة في غرم التضحية وغنم الانتصار، وأن التكامل بين الرجل والمرأة في معارك التحرير هو تحرير لدور المرأة في المشاركة في بناء الوطن الذي يتكامل مع دورها في بناء الأسرة...
من كل ذلك هل كانت عودة الأسرى، وعودة جثامين الشهداء الأبطال من معظم الجنسيات العربية، بأبعادها ومغازيها، درساً جديداً تضيفه مسيرة الكفاح العربي الشعبي المسلح إلى تراثها الكبير، وتقف عند أبعادها الحقيقية لتستفيد منها في مسيرتها الراهنة لتصحيح الثغرات التي تعيق بعضاً من زخمها في لبنان وفلسطين والعراق؟

20-استمرار نهج المقاومة العربية مرتبط بتجديد حيوية أحزابها
29/ 7/ 2008 حسن خليل غريب
كانت المقاومة العربية نتيجة طبيعية لخصوصية موقع الأمة العربية في قلب المخططات الاستعمارية والمخططات الاستيطانية الصهيونية. وكانت ردة فعل طبيعية ضد انتهاك سيادتها واحتلال أرضها والاطماع بثرواتها.
ومن جانب آخر، وللديمومة التي تميز تلك المخططات كان لا بدَّ من ديمومة المواجهة، تلك الديمومة مشروطة ببناء الحزب المقاوم، الحزب الذي يجدد نفسه ويضمن استمرار نهج المقاومة طالما ظلت مشاريع الاحتلال قائمة، ولا يضمن هذا الاستمرار إلاَّ الأحزاب التي تجدد حيويتها وتنتج أشكالاً وآليات قادرة على مواكبة التجدد في استراتيجية المشاريع المعادية بأشكالها وآلياتها.
بنظرة فاحصة لواقع الحزب العربي، من المحيط إلى الخليج، لا نستطيع التقاط ما يجعلنا نطمئن إلى حاضر الأمة، لأن الحزب العربي الذي يمتلك تلك المواصفات أصبح نقداً نادراً، لكنه ليس مستحيلاً، ودليل عدم استحالته هو أن الأمة التي تنتج المقاومة باستمرار، منذ الربع الأول من القرن العشرين، أي منذ أطلت مشاريع الاستعمار والصهيونية، لهي قادرة أيضاً على أن تنتج الحزب العربي الذي يرتقي إلى قامة المقاومة.
ليست نشأة الأحزاب الطليعية منفصلة عن توق الأمة واتجاهاتها وأهدافها، تلك الأمة التي هي مجموع جماهيرها. ولما كانت الأمة تتوق إلى مواجهة كل من ينتقص من سيادتها وكرامتها ويعمل على سرقة ثرواتها ويحرص على تجويع شعبها وإذلاله، فإنها ستبقى المهماز الحقيقي والعملي لكل الحريصين والواعين من أجل أن يبقى خيط الارتباط موجوداً بين أهداف الأمة وآمالها من جهة، ومن جهة أخرى بين الحزب العربي الذي ينظم جهود طلائعها وجماهيرها في نسيج تنظيمي له أعماقه الفكرية الاستراتيجية وخططه المرحلية المتجددة بحيوية تواكب حركة المتغيرات، فتعمل على صناعتها وإنتاجها بما يتناسب مع أهداف الأمة ومصلحتها.
وحتى لا يكون الحزب العربي صدى منفعلاً بتلك المتغيرات، عليه أن يكون عاملاً فاعلاً في صناعته من جهة، مواجهاً وموجهاً لها من جهة أخرى.
استناداً إلى ذلك، فأين هو موقع الحزب العربي المنشود؟
لا نقصد أن يحتكر حزب واحد كل الأحزاب ويختصرها بنفسه، أو تحتكر قيادة الحزب العربي السلطة التنظيمية وتختصرها بنفسها، بل نعني بالحزب العربي المنشود هو تعددية في الاتجاهات والقوى والحركات المنضوية تحت خيمة مرجعية قومية عربية تعمل على الدفاع عن كل الأمة، قطراً قطراً. وتعمم استراتيجية المواجهة في نفوس كل جماهير الأمة، فرداً فرداً. الحزب العربي الذي يرفع مصلحة أمته العربية فوق كل المصالح والأهواء، انطلاقاً من الإيمان بأن من لا يكون وطنياً صالحاً فلن يكون قومياً صالحاً، ومن لا يكون قومياً صالحاً فلن يكون أممياً صالحاً.
إن الحزب العربي المنشود هو الحزب الذي يبدأ بصياغة عوامل حيويته من داخله أولاً، وينتقل إلى الإسهام في دفع غيره من الأحزاب إلى اجتياز مخاضة أزماته ثانياً، وتكوين عمل جبهوي وطني يعمل على تطويره إلى المستوى القومي ثالثاً.
مقارنة بين مرحلة المد الحزبي الذي عرفته الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، على الرغم من الثغرات التي كانت سائدة بين مجموعة أحزاب حركة التحرر العربي، وبين المرحلة الراهنة، لا نرى إلاَّ أزمات داخلية هنا أو هناك.
وإنه في الوقت الذي كنا ننشد فيه هدف ردم ثغرات العلاقات السلبية السائدة في تلك المرحلة بين أحزاب كانت تعرف حداً أدنى من التماسك الداخلي، نجد اليوم أزمات داخلية تعمُّ الأحزاب وتنهش في بنيانها الداخلي، الأمر الذي يدفعنا للدعوة إلى أن تبدأ أحزاب حركة التحرر العربي بالخروج من أزماتها الداخلية أولاً، وثانياً بالسرعة التي توجبها انطلاقة مقاومة عربية تتوسع وتنتشر حيثما يضع الاستعمار والصهيونية أقدامهما.
هنا يلفتنا ما حصل في العراق بعد الاحتلال، خاصة مرحلة حالة الذهول التي صدمت جماهير الأمة العربية، ومنهم البعثيون، عندما رأوا دبابات الاحتلال في وسط العاصمة بغداد، حينذاك كانت للصدمة وقع الصاعقة حينما دفعت الكثيرين منهم إلى التنكر لحزبهم، ودفعت الكثيرين إلى الانقلاب عليه. لكن ما إن انطلقت المقاومة العراقية وانتشرت أخبارها وعمَّت تأثيراتها، حتى تراجع المذهول عن ذهوله، وفاقد الثقة بحزبه إلى الثقة به وبقيادته.
لقد فعل ذلك مئات الآلاف من العراقيين، إلاَّ من روعته الصدمة ومن اختار طريق الانهزام، وحصل الشيء ذاته بالنسبة إلى جماهير الأمة العربية. فشكلت المقاومة التي أعدَّ لها الحزب وأطلقها العامل الأساسي الذي أعاد للمروَّعين ولفاقدي الثقة، الحيوية، بمن فيهم البعثيون وجماهير الأمة العربية.
إن المقاومة العراقية، كونها مقاومة تنتسب إلى حزب منظم قومي الاستراتيجية والأهداف، قد أدَّت دورها ومهماتها بإعادة الحيوية والثقة إلى تلك الشرائح الواسعة، فيكون دورها قد انتهى عند تلك المهمة أما استكماله فيقع على عاتق الحزب العربي، الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل عن المستوى الذي بلغه بالقيام بالدور النوط به؟
هذا ما له علاقة بالمقاومة العراقية كونها المقاومة المنوط بها سحق رأس الأفعى المتسلقة الذي، من دون سحقه، ستعود إلى استعادة ما خسرته في كل مكان من العالم، وبشكل أخص في كل من لبنان وفلسطين.
أما المقاومة في فلسطين، صاحبة الفضل الأول بتطبيق استراتيجية الكفاح الشعبي المسلح، والتي لا تزال مستمرة بأشكال ووسائل أخرى، والمقاومة في لبنان، كاستمرار لمخزون مقاوم لبناني وطني، التي حققت إنجازين مهمين في العام 2000 والعام 2006، فلا يزالا يقومان بدورهما. لكن، من دون أن نتناسى دور بعض ما تبقى منه، أين هو موقع الحزب العربي في الإسهام بإدامة المقاومة العربية في الأقطار الثلاثة؟
لا ينكر أحد علينا القول إن الحزب العربي لا يزال يلعب دوراً منفعلاً بما تحققه المقاومة العربية من دون الانتقال إلى دور المساهم والمشارك والمعد لاحتمال احتلالات أخرى بأشكال مباشرة أم غير مباشرة.
باعتبار فلسطين أول قضية عربية تعرَّضت للاحتلال، وهي لن تتحرر ما لم يتم القضاء على الاستعمار في وطننا العربي، نتساءل: أين دور الحزب العربي في الاعداد لمرحلة ما بعد تحرير كل من لبنان والعراق؟
إن أول ما يتبادر إلى ذهننا المفاهيم المطروحة، علينا أن نعرف كيف نبني إذا هدمنا، يتبادر إلى الذهن أيضاً السؤال التالي: هل لدى الحزب العربي المنشود خطة للبناء بعد تحرير لبنان والعراق؟
إننا، وعن هذه الأسئلة، نسهم في الإجابة قائلين: ما لم يمتلك الحزب العربي مشروعاً للبناء، فإنه كمن لا يمكنه الاستفادة من إنجازات التحرير فحسب، بل سيعرِّض تلك الإنجازات للتآكل والاهتراء من جديد، فتعود الدائرة الجهنيمة إلى فرض نفسها، إذ إن العجز عن البناء سيشكل البوابة التي سيعود منها الاستعمار إلى احتلالنا من جديد، بطريق مباشر أم غير مباشر.
إنها بالحقيقة أزمة الحزب العربي الداخلي أولاً، لأنه إذا كان عاجزاً عن تطوير أدائه التنظيمي الداخلي، فهو عاجز أيضاً عن تطوير أدائه النضالي في قيادة الجماهير ثانياً، وهو عاجز عن تطوير آلياته القيادية وتثبيت عجزها عن التجديد في فهم مهماتها التي إذا لم تفرضها ضرورات المرحلة الراهنة فهي ستكون أعجز من أن تواكب متغيرات المستقبل.
إنه الحزب العربي الذي لا يزال يقتات من بعض السمنة في تجاربه السابقة قبل دخوله إلى مرحلة السبات الحالية. إنه الحزب العربي الذي عليه أن يراجع إيجابيات تجربته السابقة ليبني عليها مداميك أخرى بدلاً من الحرص على الأكل مما تركه الأسلاف، لأن هذا الاحتياط سينفد معينه لا محالة.

حوار حول المقال
عزيزي الدكتور حسن غريب المحترم
قرأت مقالك الاخير الدعوة الى الحزب العربي لقيادة الجماهير ما معنى هذا ؟؟؟
هل هو تجديد للحزب البعث او ان الحزب فشل ؟؟؟
فلا بد من حزب عربي جديد يجمع كل القوى الحية ليتابع مسيرة التحرر؟؟؟
نريد توضيح على ذلك ولك جزيل الشكر
مارس الحج
أيها الحبيب
تحية طيبة
يريحني عندك الحس النقدي الدقيق، وتلك ميزة يفتقدها المثقف العربي.
بالنسبة للمقال المذكور، استخدمت مصطلح (الحزب العربي) كرمز يعني كل حزب من أحزاب حركة التحرر العربي، وليس حزباً بعينه. أما السبب فهو أن كل تلك الأحزاب تعاني من أزمة داخلية تطال بنيتها الداخلية وبنيتها الفكرية والسياسية.
وحزبنا أيضاً يعاني منها.
وعندما أخاطب الجميع أخاطب أيضاً حزبنا، الذي ننتمي إليه منذ عشرات السنين، ولا نزال نراهن عليه، خاصة أنه أنتج في العراق أكبر مقاومة في التاريخ.
وأما أزمة (الحزب العربي) فماثلة في عجزها الى حد كبير عن الاستفادة من استراتيجية المقاومة، وبدلاً من أن ترافقها بآليات ووسائل جديدة ومبتكرة، فهي تقف في صف الذي يتلقى الفعل المقاوم ويشاركه بردود فعل لا ترقى الى مستوى أدائها وفعلها.
و(الحزب العربي)، كما يرمز الى كل حزب لوحده، فهو يرمز أيضاً الى (مجموعة الأحزاب) كلها، وهذا يقودنا الى طرح إشكالية العمل الجبهوي، والعمل الجبهوي هو (الحزب الجديد) الذي لا يمكن للأمة أن تسدد خطاها وتنظمها من دونه. وفقدان العمل الجبهوي العربي يحرم حزب المقاومة (حزب البعث) من إمكانيات كبيرة كان يمكنه أن يستفيد منها في شتى المجالات.
حزب البعث، اليوم، هو حزب المقاومة. خطط لها وقادها، وقدم التضحيات الكبرى ولا يزال، وهي أكثر من أن تحصى. وقام بخطوات كبرى على صعيد بناء عمل جبهوي في ميدان القتال. ولكن (حزب البعث) خارج العراق، ما هو دوره؟ وإذا كان يمارس بعض النشاطات التي تدعم المقاومة فهل تعتبر كافية؟ وهل يمكن توسيع تلك النشاطات؟ وهل يستفيد من زخمها في الوسط الشعبي؟ هل حضَّر نفسه للاستفادة قومياً من نتائجها المرتقبة؟
لا تكفي سيدي الكريم جلسة أو مقال أو كتاب ليس للإضاءة على أهمية مقاومة الحزب في العراق فحسب، بل لحجم تداعياتها على كل المستويات الدولية والإقليمية والعربية أيضاً، حتى على مستوى استفادة الحزب نفسه على المستوى القومي.
حزب البعث لم يفشل، بل أصاب في رؤيته، وفي تخطيطه لتغيير مفاهيم العقيدة العسكرية التقليدية في مواجهة مخططات الخارج.
وحزب البعث أصاب في استراتيجيته الفكرية من خلال ثلاثية أهدافه. هذا أمر محسوم.
لكننا كحزب قومي، أنا مقتنع أن المقاومة العراقية عملت على تركيب أرجل حتى لبعض الأنظمة الرسمية، والمقاومة العراقية أعادت للفكر القومي حيويته، ولكن من أجل إدامة زخم المقاومة، الآن وفي المستقبل، على (الحزب العربي)، كرمز، أن يفتش عن وسائل إعادة الحيوية الى بنيانه التنظيمي والفكري، بمواكبة مستجدات العصر، والسياسي بواسطة التواصل بين مكونات وفصائل (أحزابه).
سيدي الكريم
لا يجوز اختزال الأحزاب العربية، بحزب واحد، كما لا يجوز أن تتساوى كلها بالحجم والفعالية، بل بالتعددية التي تحترم كل الآراء والمواقف وتوظفها في خدمة القضايا العربية.
مع التحية، وبانتظار ملاحظاتكم الذكية والواعية
حسن
اخي الدكتور حسن المحترم سلاما واحتراما
بالنسبة للحزب العربي او للجبهة ..؟
لنأخذ وضعكم بلبنان المسيطر حاليا على الساحة من جهة " الرافض للواقع الراهن " وليس لاغتصاب العراق .... هو حزب الله
سؤال اول: هل بمقدورنا التفاهم مع حزب الله والاحزاب الملحقة به من اجل جبهة عريضة وهو ه لحد الان غير معترف بالمقاومة بالعراق ؟؟؟؟!؟
سؤال الثاني : بالنسبة للاحزاب القومية والوطنية وخاصة الناصريين والشيوعيين والفصائل لفلسطينية لحد الان ما زالوا بين بين اي مع ايران او مع الامريكان يعني بالنهاية هم بشكل او باخر مع الموجة المسيطرة للامريكان وايران؟؟؟؟
سؤال ثالث مع من نبني جبهة الحزب المقاوم اذا كل الاحزاب الاصولية الان مع امريكا؟؟؟؟
وكلها تتمول من البترودولار الخليجي الذي يخدم الصهيونية لانه جزء من الراسمال العالمي؟
تحياتي للاخ المناضل
اخوكم مارس الحج
أخي العزيز
تحية طيبة
كلها أسئلة مطروحة، وهواجس، وواقع أيضاً، وهذا هو المؤلم فيها، ولكن
إن الحركات الثورية لا معنى لها خارج دائرة النضال من أجل تثوير الواقع وتغييره.
المقاومة صفحة مشرقة في تاريخنا
المقاومة عامل تغييري جذري
الحزب المنظم هو الذي يولِّد المقاومة
الحزب المنظم الثوري غير موجود
فما العمل؟
هل نصاب باليأس؟
كلا
من الواجب تشخيص الواقع أولاً، وهو مشخَّص بأسلئلتك.
الأجوبة عن الإسئلة سلبية، ونتفق معك تماماً.
هل يثنينا الواقع عن إطلاق صرخة؟
كلا
لم تولد حركة تغيير إذا لم يكن هناك ما يجب تغييره، والواجب العمل على تغييره هو الواقع الأليم الذي يعيشه (الحزب العربي) في عصر المقاومة. ونعني به كل الأحزاب العاملة الآن.
إنها أزمة ثقافة وأزمة هوية (مع العلم أنني سأشارك بمؤتمر فلسفي في عمان هذا الشهر) والمسألة التي سأتطرق إليها هي أزمة (الحزب العربي)، وأرجو أن أزودك بنسخة عن دراستي بعد المؤتمر.
كما أنني أنجزت بحثاً، سأنشره بكتاب قريباً، وهو بعنوان (تهافت الأصوليات الإمبراطورية: شروق العصر القومي).
فيهما توصلت الى وجود الأزمة التي تثيرها بأسئلتك، وبهما سأعبر عن رأيي في وضع الحلول.
سيدي الكريم
إن مقالي المنشور هو صرخة صغيرة. لن تجترح الحلول، ولكنها تعبير عما نعاني منه، وهي واجب علينا أن نؤديه. وكلما تكاثرت الصرخات، وهي لا شك تتكاثر، وستتكاثر، سنسلك الطريق الصحيح، حتى ولو كانت خطوة على طريق الألف ميل.
أرجو بهذا الإيجاز أن أكون قد أوضحت بعضاً مما أريد
حسن
عزيزي الدكتور حسن سلاما واحتراما
شكرا للرد انت القدوة ونحن معكم
نتمنى لك النجاح بالمشاركة بالمؤتمر الفلسفي بعمان انت لسان حالنا ...!!!1
وشكرا سلفا لك لارسال نسخة من الموضوع ....ه
انها ولادة امة لا بد من التضحيات الجسام
تحياتي لكم مع الدعوة لكم بالتوفيق
مارس الحج

21-ارتفاع أسعار النفط
الأسباب الحقيقية والأبعاد الاستراتيجية والتداعيات على المجتمع البشري
30/ 7/ 2008
أولاً: شركات الوقود الأحيائي يشعلون النار في أسعار الطاقة
في 11/ 7/ 2006، ورد خبر نشرته (CNN) المحطة التلفزيونية الأميركية الشهيرة، يعلن عن افتتاح محطة لتوزيع الوقود المعتمد على مادة الإيثانول، تُسمى (E85). وحتى تلك اللحظة لم تجن المحطة أية أرباح، وتوقَّع مالكها مايك لويس أن تزيد أرباحها بعد أن ترتفع أسعار النفط بشكل كبير، بحيث تدفع السائقين للبحث عن مصادر جديدة للوقود بأسعار أرخص. وكأن هذا الخبر كان تمهيداً للإعلان عن مخطط رأسمالي جديد للهيمنة على الطاقة من مصادر أخرى غير الثروة النفطية.
لقد استأثرت ظاهرة المحطة بانتباه وسائل الإعلام الأميركية بعد دعوة الرئيس الأمريكي جورج بوش، لتخفيف اعتماد الأميركيين على النفط المستورد من الخارج، الأمر الذي دفع الكثيرين إلى إعادة النظر في استخدام مصادر جديدة من الطاقة.
ولم يمض وقت طويل حتى شهد العالم نشاطاً محموماً من التحركات الدولية، التي كانت مركزيتها الولايات المتحدة الأميركية، وكانت توحي بأن في أفق المخططات الرأسمالية تلوح مشاريع جديدة لها علاقة بالطاقة، سنحاول أن نقوم بترتيبها وتبويبها لعلنا في ذلك نصوغ حكاية ما كان يدور في أذهان أقطاب الرأسمال العالمي وخاصة المهيمن على الولايات المتحدة الأميركية، وخلصنا إلى ما يلي:
في 22/ 3/ 2007، نقلت الـ(CNN) خبراً من مكسيكو، يفيد أن أسعار الذرة العالمية ارتفعت إلى أعلى مستوى لها منذ عقد تقريباً مدفوعة بازدهار صناعة الإيثانول في الولايات المتحدة، وهو ما دفع مزارعي الذرة في المكسيك إلى اعتبار محاصيلهم بمثابة «ذهب أصفر جديداً».
كان في ذلك الحين 111 محطة وقود تبيع الإيثانول في الولايات المتحدة، وتستعد لإدخاله في 78 محطة وقود أخرى، وفقاً لما ذكرته نقابة الوقود المتجدد الأمريكية. وتوقع كيث كولنز، كبير الاقتصاديين في وزارة الزراعة الأمريكية أن يحتاج المزارعون الأمريكيون إلى زراعة نحو (360 ألف كيلومتر مربعاً) بالذرة بحدود عام 2010، أي بزيادة (قرابة 40 ألف كيلومتر مربعاً) عن المساحات المزروعة الآن لتلبية احتياجات النمو الأمريكية المتسارعة.
ويعني هذا أن الأسواق العالمية ستتجه إلى المناطق المنتجة للذرة، مثل أمريكا اللاتينية، لسد احتياجاتها، في حال عدم قدرة المصدِّرين الأمريكيين على تلبية هذه الاحتياجات.
وتعتبر البرازيل والأرجنتين أكبر دولتين منتجتين للذرة بعد الولايات المتحدة، فيما تحتل المكسيك المركز العاشر عالمياً إذ تصل إلى (حوالي 85 ألف كيلومتر مربعاً)، ويتوقع أن تزيد (نحو 17 ألف كيلومتر مربعاً). وتوجد في المكسيك أكثر من 3.1 مليون مزرعة خاصة بإنتاج الذرة، وأنتجت خلال العام 2006 حوالي 22 مليون طن من الذرة، مقارنة بحوالي 19.5 مليون طن أنتجتها في العام 2005.
وفي 8/ 4/ 2007، نشرت الـ(CNN) خبر توقيع (اتفاق الإيثانول) بين الولايات المتحدة الأميركية والبرازيل، مرفقة بمعلومات تلقي الضوء على أهمية ما يجري، إذ وصف الرئيس الأمريكي جورج بوش الاتفاق بأنه سيفتح الطريق لإنتاج نوع جديد من الوقود الذي يمكن استخدامه بشكل أوسع كوقود للسيارات. وفي الوقت نفسه تظاهر البرازيليون، وأعلنوا مخاوفهم من أن تكون اتفاقية الوقود الحيوي، قد تضر بالمصالح الاقتصادية لبلادهم. كما تشمل المخاوف أن تكون الاتفاقية ترجمة لرؤية الزعيمين الأمريكي والبرازيلي حول إنشاء منظمة أوبك جديدة ليست للنفط ولكن للإيثانول هذه المرة.
وتضمنت مباحثات الرئيس الأمريكي ونظيره البرازيلي، مناقشة سبل تشكيل «تحالف للدول المصدرة لوقود الإيثانول». وتعد البرازيل أكبر دول العالم في مجال استخدام مصادر الطاقة الحيوية، حيث يتم تشغيل نحو ثمانية من كل عشر سيارات جديدة، بوقود الإيثانول، الذي يتم إنتاجه من قصب السكر. كما أن حقول قصب السكر، الذي يستخرج منه الإيثانول، تمتد لمئات الأميال، في البرازيل.
وتعتبر البرازيل أكبر مصدر للإيثانول، رغم أن الإنتاج الأمريكي منه يفوق ما تنتجه البرازيل، إلا أن المراقبين يتوقعون أن تتفوق البرازيل في المستقبل، وذلك لأن الإيثانول المستخرج من قصب السكر، أرخص بكثير من ذلك المستخرج من الذرة.
وحدد بوش هدف إنتاج نحو 35 مليون برميل من الإيثانول، وبدائل النفط الأخرى سنوياً، بحدود العام 2017، وهو رقم يمثل خمسة أضعاف المتطلبات الحالية.
وفي 18/ 4/ 2007، أشارت الـ(CNN) إلى تصاعد وتيرة الجدل حول ما يُقال عن أن الإيثانول صديق للبيئة، فقد أفادت دراسة علمية جديدة أن التحول من استخدام البنزين إلى الإيثانول، قد يساهم في تلوث الهواء ويزيد بالتالي من حالات الموت الناجمة عن الدخان الأسود الكثيف أو ما يعرف بـ«السخام» وسوف يعمل وقود الإيثانول على زيادة مستويات الأوزون. وبحسب الدراسة فإن نحو 4700 شخص سيموتون سنوياً نتيجة أمراض في الجهاز التنفسي ناجمة عن الأوزون، وهو أحد مكونات السخام غير المرئية.
وفي 4/ 6/ 2007، أضاءت الـCNN) ) على أن ما يُسمى (جنون الإيثانول)، قد بدأ يجتاح الولايات المتحدة ودول أمريكا الوسطى والجنوبية، مما شكَّل ضغوطاً متزايدة على الإمدادات العالمية من الذرة.
ولأن الذرة تشكل أحد أهم المواد الأولية لصناعته، ولشدة طلب مصانع الإيثانول له، ولأنها تُعتبر من المواد الغذائية الرئيسية للإنسان، إلى جانب أنها تدخل في صناعة علف الحيوانات، وغيرها من المواد الغذائية، فقد ارتفع سعر مكيال الذرة من دولارين، إلى أكثر من أربعة دولارات، فيما أشارت التوقعات إلى أن هذا السعر سيرتفع إلى مستويات أعلى خلال السنوات الخمس المقبلة. ورغم أن ارتفاع أسعار الذرة يصب في مصلحة المزارعين، إلا أنه ألحق الضرر بالمستهلكين بسبب تضاعف أسعارها.
وفي هذا الخصوص، خصصت وزارة الطاقة الأمريكية في شباط 2007، 385 مليون دولار لستة مشاريع على مدى أربع سنوات بهدف إنتاج إيثانول سيليلوزي وتجنب أزمة الذرة عن طريق إنتاج الوقود من القصب وغيرها من المخلفات الزراعية.
وكانت تكلفة إنتاج الإنزيم المستخدم في صناعة وقود الإيثانول الكبيرة سبباً في عدم إنتاجه بكميات كبيرة، غير أن انخفاض تكلفة الإنزيم من نحو خمسة دولارات للغالون الواحد إلى أقل من 20 سنتاً جعل الأمر ممكناً، وسوف يصبح الإيثانول السيليلوزي متاحاً بصورة أكبر مع انخفاض التكلفة إلى أقل من سنت واحد.
يشار أن أسعار النفط ومشتقاته ارتفعت بشكل جنوني خلال العامين الماضيين (2005 و 2006)، إذ بلغت أسعار البرميل 75 $ في العام 2006، أي ثلاثة أضعاف سعره في العام 2003، حيث كان سعر برميل النفط بحدود الـ(25 $)، الأمر الذي جعل البحث عن بدائل لها أمراً مهماً بالنسبة لأكبر دولة مستهلكة للنفط في العالم، أي الولايات المتحدة.
وفي 7/ 6/ 2007، أشارت الـ(CNN) إلى انعقاد قمة تبحث كيف يمكن إنتاج طاقات بديلة وأنظف من النفط، من دون تهديد الأمن الغذائي. ومن ضمن الحضور في هذه القمة رجل الأعمال الأمريكي جورج سوروس الذي يملك واحداً من أكبر المصانع في البرازيل وكذلك الرئيس البرازيلي السابق هنريكي كاردوسو ورئيس الوزراء الإسباني السابق فيليبي غونزاليس. وكان حكام البرازيل العسكريون قد اتخذوا قراراً في سبعينيات القرن العشرين بالتحول إلى الوقود الحيوي أو الإيثانول كوقود للسيارات.
ويتركز إنتاج الإيثانول في الولايات المتحدة والبرازيل بنسبة ثلثي الإنتاج العالمي، حيث يمثل الإيثانول الأمريكي المرتكز على الذرة نسبة 37 بالمائة من الإنتاج العالمي فيما يمثل الإيثانول البرازيلي المرتكز على القصب السكري نسبة 35 بالمائة منه. كما تستأثر الصين بنسبة 7.7 بالمائة من الإنتاج العالمي متبوعة بالهند بنسبة 7 بالمائة.كما تستأثر ساو باولو بنسبة 60 بالمائة من إنتاج البرازيل التي تضخ نحو 20 مليار لتر يتم تصنيعها في 344 معملا.
ولتبرير تصنيع الإيثانول، وجواباً على مشكلة كيف يمكن تخفيض أسعار الوقود، نشرت الـ(CNN)، بتاريخ 17/ 12/ 2007، التقرير التالي: الإيثانول هو الجواب فهو نظيف ورخيص وملائم لسيارات اليوم. ويتم الحصول عليه من عبّاد الشمس وقصب السكر، غير أن التكنولوجيا الحيوية (البيوتكنولوجي) تمنح الإنسان الآن فرصة إنتاج الإيثانول من كل شيء طبيعي تقريباً؛ بدءاً بالخشب والعشب البري وانتهاء بمخلّفات الطبيعة. وأياً كان مصدره، يقلص حرق الإيثانول نسبة انتشار غاز الكربون بنسبة 80 في المائة، ويقضي تماماً على الأمطار الحمضية التي تلوث البيئة.
وتوقع التقرير أن يتم إحلال وقود الإيثانول محل الوقود العادي في القريب العاجل بنسبة كبيرة، فيما تتوقع السلطات الأمريكية أن ينتزع الإيثانول ثلث مستهلكي الوقود العادي بحلول عام 2030.
وأشارت التقارير إلى إن خمسة ملايين مَركبة تعمل بالإيثانول جاهزة في انتظار قرارات المشرِّعين بالسماح لها بغزو الطرقات. وبطبيعة الحال فإن استخدام الإيثانول يستتبع تقنية محركات جديدة تدعى «فلكس»، وهي تقنية أخذت تشهد نمواً متزايداً في السنوات الأخيرة، ولاسيما في البرازيل وفي بعض دول أوروبا ومن ضمنها ألمانيا. ويعمد المستهلكون إلى مجرد شراء مبدّل تقنية بسعر لا يتجاوز 100 دولار مرة واحدة، حتى تتلاءم سياراتهم مع استخدام الإيثانول.
وغيّر الإيثانول فعلاً بنية الاقتصاد في البرازيل حيث يمكن لنحو ثلاثة أرباع المركبات هناك أن تعمل سواء بالإيثانول أو بالوقود العادي. ولم يتح ذلك للبرازيل بأن تستغني عن استيراد النفط فحسب، بل إن نحو 70 مليار دولار من النفقات التي كانت تذهب إلى دول الخليج العربية نظير صادرات من النفط، بدأ تدويرها في البلاد وتم وضع برنامج طموح وفعال لتنمية المناطق الريفية التي تعد الآن المزوّد الرئيسي للبلاد بما يعتبر «الطاقة البديلة».

ثانياً: حملات التنديد والإدانة تنتشر وتعم
وفي 27/ 10/ 2007، حسب الـ(CNN)، اعتبر جان زيغلر، المقرر الخاص بالأمم المتحدة، الذي كان يتحدث أمام الجمعية العامة لهيئة الدفاع عن حقوق الإنسان، حول الحق في الغذاء، أن تحويل المزروعات، مثل الذرة والقمح والسكر، إلى وقود يزيد من أسعار المواد الغذائية، وحذر من أن استمرار ازدياد الأسعار سيعيق الدول الفقيرة من استيراد الطعام الكافي لشعوبها. وإن إنتاج الوقود الحيوي سيزيد من الجوع في العالم حيث يعاني 854 مليون شخص من الآفة، ويلقى 100.000 شخص حتفهم سنوياً بسبب الجوع أو أمراض ناتجة عنه. وأشار إلى أنه ما بين عام 1972 و2002 ارتفع عدد الأشخاص الذين يعانون من نقص التغذية في أفريقيا من 81 مليون إلى 202 مليون، ودعا مجلس حقوق الإنسان لإعلان حق إنساني جديد لحماية الفارين من الجوع. وللتأكيد على صحة استنتاجاته، أوضح الخبير الدولي أن إنتاج 13 ليتراً من الإيثانول يحتاج إلى أكثر من 231 كيلوغراماً من الذرة بينما يمكن لهذه الكمية توفير الطعام لطفل جائع في زامبيا أو المكسيك لمدة عام كامل.
وقال إن الجدال الدائر بشأن الوقود الحيوي «مشروع فيما يتعلق بترشيد استهلاك الطاقة ومكافحة آثار تغير المناخ»، إلا أن تحويل المحاصيل مثل الذرة والقمح إلى وقود زراعي، يمثل كارثة حقيقية وجريمة ضد الإنسانية. ولذلك طالب بتعليق هذه النشاطات لمدة خمسة أعوام ريثما يتم تطوير آليات إنتاج الوقود من البقايا الزراعية والغذائية وليس من المنتجات مباشرة.
وفي 13/ 5/ 2008، نشرت الـ(CNN) التقرير التالي: وقال جون زيغلر، إن سياسات الوقود الحيوي، التي تنتهجها كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، تعتبر أحد أهم الأسباب لأزمة الغذاء العالمية الراهنة، في الوقت الذي تعاني فيه العديد من الدول الفقيرة نقصاً حاداً في المواد الغذائية. وأشار إلى أن الولايات المتحدة قد استخدمت ثلث محصولها من الذرة في إنتاج الوقود الحيوي، فيما يعتزم الاتحاد الأوروبي استخدام الوقود الحيوي بنسبة تصل إلى عشرة في المائة.
وقال زيغلر إن المضاربةفي الأسواق العالمية كانت وراء ارتفاع أسعار الغذاء بنسبة تصل إلى 30 في المائة، مشيرا إلى أن شركات مثل «كارغيل»، التي تحتكر ربع إنتاج الحبوب، لديها تأثير قوي على الأسواق. وأضاف إن الصناديق الاحتياطية تجني أرباحاً هائلة من أسواق المواد الخام، ودعا في الوقت نفسه إلى وضع قوانين مالية جديدة تمنع مثل هذه المضاربات. كما حذر من ازدياد الاحتجاجات على ارتفاع السلع الغذائية، ومن ارتفاع مريع في أعداد الوفيات الناجمة عن الجوع.
إلى ذلك، قال خبير التغذية بمنظمة الأغذية والزراعة «فاو»، أندور ثورن ليمان، إن «ارتفاع أسعار الغذاء تعني تحديدًا نزع الطعام من أفواه الأطفال الجوعى، الذين لا يستطيع ذووهم إطعامهم». وأضاف: إن الأسر في الدول النامية قد تناقصت قوتها الشرائية للطعام، بسبب ارتفاع الأسعار، مما يعني شراء كمية أقل من الطعام أو الحصول على غذاء أقل فائدة.
وفي 22/ 5/ 2008، أوصى علماء دوليون، حسب الـ(CNN) بوقف استخدم الوقود العضوي في سياق مكافحة ارتفاع أسعار المواد الغذائية وتفشي الجوع.
وتناقض مطالب خبراء الغذاء تصريحات الرئيس الأمريكي جورج بوش الأخيرة التي أعلن فيها زيادة استخدام الولايات المتحدة للإيثانول لأسباب تتعلق بالأمن القومي وارتفاع أسعار الوقود،..
ويشير ثلاثة من كبار خبراء الغذاء في كونسورتوم للأبحاث الدولية، في معرض مطالبهم بتعليق استخدام الوقود العضوي، إلى حاجة دول العالم لإعادة النظر في برامج تحوير استخدام بعض أنواع المحاصيل الزراعية، كالذرة وحبوب الصويا، إلى وقود عضوي، بالنظر إلى أزمة الغذاء العالمية. ونادوا بتركيز الجهود على منتجات زراعية أخرى غير الحبوب، وقال بروفيسور علوم التربة بجامعة ولاية أوهايو: «نحن بجاحة لإطعام البطون قبيل إطعام سياراتنا. افتقار الأمن الغذائي يتهدد مليار شخص، ونحن لسنا في موقف يتيح لنا رفاهية تجاهل هؤلاء والاهتمام بالغازولين».
إلا أن الرئيس الأمريكي أكد في معرض رده على سؤال بشأن التضارب حول الجوع العالمي وارتفاع أسعار الغذاء محلياً، على أمن الطاقة قائلاً: «حقيقة الأمر أن مصالحنا القومية تقتضي زراعة المزراعين للطاقة».
ثالثاً: حتى لا تضيع حقيقة ارتفاع أسعار النفط
نبدأ من حيث انتهينا في الفقرة السابقة لنعيد تثبيت تصريحات جورج بوش، ونقتصر فيها على ثلاث مسائل:
-الأولى: زيادة استخدام الولايات المتحدة للإيثانول لأسباب تتعلق بالأمن القومي وارتفاع أسعار الوقود.
-الثانية: تأكيده على ربط المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأميركية بتكثيف زراعة المواد الأولية التي تستخدم باستخراج الإيثانول.
-الثالثة: تشكيل منظمة الوقود الحيوي في مواجهة منظمة أوبك التي تجمع الدول المصدرة للنفط.
محتفظين بهذه المسائل لاستخدامها في استخلاص النتائج من دراستنا، إلى حين استعراض ومناقشة ما صدر من تقارير عن مختلف الجهات المختصة بموضوع معالجة أسباب زيادة أسعار النفط، خاصة تلك التي أعقبت موجة الجنون في ارتفاع الأسعار، خاصة الفترة التي التهبت فيها الأسعار قبل سنتين من الآن.
يعيد د. أنس بن فيصل الحجي، أحد الدارسين لارتفاع أسعار النفط في جريدة «الاقتصادية» السعودية، أسباب الارتفاع إلى عجز دول أوبك عن توفير حاجة الأسواق العالمية. رافضاً إعادة السبب إلى عامل المضاربة. وقد وصل إلى تلك النتيجة بعد أن حصر احتمالات الارتفاع بالعوامل التالية:
1-العوامل الاقتصادية: تتمثل في زيادة الطلب على النفط في الصين والهند وانخفاض الدولار والمضاربات في عقود النفط الآجلة وتصرفات دول «أوبك».
2-العوامل السياسية: تتمثل في اضطرابات نيجيريا، وتوتر العلاقات بين الحكومة الفنزويلية وشركات النفط العالمية المستثمرة في فنزويلا، وتفجير الأنابيب والمنشآت النفطية في العراق وتوتر العلاقات بين إيران والدول الغربية.
3-العوامل الطبيعية: تشمل الأعاصير الموسمية في خليج المكسيك والأعاصير الرملية في العراق والأعاصير الشتوية في بحر الشمال والأعاصير الثلجية في أمريكا الشمالية.
4-العوامل الفنية: الأعطال الميكانيكية والإلكترونية والكهربائية التي تصيب المنشآت النفطية, خاصة المصافي، وأعمال الصيانة الدورية المفاجئة، وعدم توافق نوعيات النفط المنتج مع قدرة المصافي على التكرير.
كما توقعت مجموعة من الخبراء الجيولوجيين العالميين على صعيد الاحتياطي النفطي أن العالم لم يتمكن من تعويض ما استخرجه من النفط خلال السنوات العشرين الماضية وان الإنتاج سوف يتجه نحو الانخفاض في منتصف العقد الثاني من القرن الحالي. وهذا ما يحدث الآن بالفعل في الدول المنتجة خارج أوبك وأكد هؤلاء الخبراء أن 80% من الإنتاج العالمي يتدفق من حقول اكتشفت قبل عام 1973 وأن أغلبها بدأت رحلة النضوب.‏
كما توقعت الدراسة أن يرتفع حجم الاستهلاك داخل الدول الصناعية الغربية إلى نحو 50,7 مليوناً ب/ي بحلول عام 2020 بينما لن يتجاوز إنتاجها 12 مليوناً ب/ي أي بفجوة تصل إلى 39 مليون ب/ي وهذا يعني أنها ستعتمد في توفير تلك الكمية على دول أوبك وخاصة الشرق أوسطية.‏
وبذلك استمرت أسعار النفط بالارتفاع على خلفية حملات التشكيك تلك بالاحتياطي العالمي وبقدرة الدول المنتجة الرئيسية على التوسع في طاقاتها الإنتاجية.‏
إن الدول الثماني الأكثر ثراءً في العالم (الولايات المتحدة واليابان وبريطانيا وفرنسا وكندا وألمانيا وإيطاليا، فضلا عن روسيا)، لم تستطع تحديد أسباب الارتفاع، الأمر الذي دفعها إلى تكليف صندوق النقد الدولي بدراسة الأسباب الحقيقية، ولعلَّ في التصريحات التي صدرت عن ممثلي بعض الدول ما يلقي الضوء على خلفيات تلك الإحالة.
وقال رئيس صندوق النقد الدولي، إن العديد من الدول الأعضاء في مجموعة الثماني تعتقد بأنه من الضروري بحث ما إذا كانت المضاربات هي التي تدفع الأسعار إلى أعلى، بينما كان وزير الخزانة الأميركى هنري بولسون حازما في اعتقاده بعدم وجود تأثير للمضاربات. وأكد بولسون ان من «الخطأ» اعتبار المضاربات السبب الرئيسي لارتفاع أسعار النفط وان الظاهرة ناجمة عن مسألة «العرض والطلب». ونفى أن يكون تراجع العملة أحد العوامل وراء ارتفاع أسعار الطاقة العالمية.
بانتظار ما سيقدمه صندوق النقد الدولي، ونحن نشكك بمصداقيته خاصة إذا عرفنا الجهة التي توجه قراراته وتوصياته، سنقوم بإلقاء الضوء على بعض العوامل التي تؤثر بشكل أو بآخر في استفحال مشكلة ارتفاع أسعار النفط:
نقلاً عن الجزيرة، في 14/ 9/ 2007، يثبت الدكتور ابراهيم علوش حقيقة أن منظمة الدول المصدرة للنفط ليست المسؤول الأساسي عن تحديد سقف الانتاج، لأنه لا يصلها إلا 13.38% في أحسن الحالات من السعر النهائي للبنزين في الدول المستوردة للنفط، «أما الباقي فهو ضرائب حكومية، ومكاسب تجنيها مصانع التكرير (في دول الغرب غالباً) وشركات النقل وتجار الجملة والتجزئة». فدول منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي (OECD)، وهي ثلة الدول الصناعية المتقدمة، الأكثر استهلاكا للنفط العالمي تهيمن على السوق النفطي العالمي ويحبس الإنتاج لكي يرفع سعر برميل النفط. المهم إن دول أوبك تقف في مواجهة احتكار آخر للمشترين هو منظمة (OECD)، وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي تبتاع أكثر بكثير من 40% من النفط العالمي، كما أن سوق المنتجات النفطية داخل الولايات المتحدة نفسها تسيطر عليها خمس شركات نفطية عملاقة.
وبمثل ذلك تتبادل المنظمتان التهم حول تحميل المسؤولية، بين (OPEC)، التي تنفي وجود هوة بين العرض والطلب، وبين (OECD)، التي تعيد السبب إلى الهوة بينهما.
يبرِّئ الدكتور رمزي سلمان، مستشار وزير الطاقة القطري، في قناة الجزيرة، بتاريخ 8/ 6/ 2008، الدول المنتجة للنفط من مسؤولية ارتفاع الأسعار، ويبررها بأن هناك سوقين: سوق النفط الفعلي في الدول المصدرة، وسوق النفط الورقي الذي بدأ سنة 1983، وأصبح الآن بسبب انهيار سوق العقار وانهيار بعض البنوك وانهيار بعض البورصات لدى صناديق المال والمتاجرين أموال كثيرة يجب أن يستثمروها بسرعة ويبنوا أرباحا فذهبوا إلى النفط، فالسوق الورقية هي سوق خيالية هي سوق رهان وليست سوق نفط.
رابعاً: لكن هل هناك حل سريع للمشكلة؟
وكأننا بالولايات المتحدة الأميركية تعمل على التسريع بسرقة نفط الدول والسيطرة على حقول جديدة، نقلت الـ(CNN)، في 5/ 6/ 2008، عن وزير الخزانة الأمريكي هنري بولسون، أنّه لا يوجد تصحيح سريع لأسعار النفط المرتفعة، إلاَّ برفع سقف الإنتاج، لهذا دعا دول منظمة (OPEC) إلى فتح أسواق النفط فيها على الاستثمار بما يزيد من الاستشكاف والإنتاج. وفي الوقت ذاته حمَّل وزير الطاقة الأميركي، صامويل بودمان، مسؤولية ارتفاع الأسعار للبلدان التي تدعم أسعار النفط.
على الرغم من أن تلك التصريحات تعبِّر تمام التعبير عن إيديولوجيا اقتصاد السوق، وأمركة اقتصاد العالم، تأتي دراسات أميركية أخرى لتتناقض مع تلك الإيديولوجيا. ففي تناقض لافت، نشرت الـ(CNN) بتاريخ 25/ 6/ 2008، دراسة يؤكد مضمونها الحقيقة التالية: (متى ستتراجع الأسعار؟ وليس هل ستتراجع الأسعار?). توصل فيها كاتبها مدير تحرير مجلة (فورتشن) الأمريكية، شون تيلي، إلى أن استمرار ارتفاع أسعار النفط سيقود تدريجياً إلى العثور على موارد جديدة للطاقة من جهة، وسيدفع إلى تبديل أساليب الاستهلاك من جهة أخرى، الأمر الذي يعيد التوازن إلى الأسواق والأسعار. و لفت إلى أن تواصل الارتفاع يقرّب الموعد لأنه يزيد شهية المنتجين، متوقعاً انهياراً سعرياً يعيد النفط إلى ما دون مستوى 50 دولاراً.
خامساً: الشركات الاحتكارية الكبرى تضيء شموع جيوبها على حساب الاقتصاد العالمي
لقد تضمن بيان وزراء الطاقة في حكومات الولايات المتحدة واليابان والصين وكوريا الجنوبية إلى جانب أحد كبار المسؤولين في الهند نداء يقول إن ارتفاع أسعار النفط «ضد مصالح البلدان المستهلكة والمنتجة على السواء».
سادساً: إنتاج الإيثانول وتحقيق أرباح منه سبب لا يمكن تجاهله في تقييم أسباب ارتفاع أسعار النفط
يقول شون تيلي مدير تحرير مجلة (فورتشن) إن زيادة أسعار النفط دفع شركات عالمية إلى الاستثمار في الوقود الحيوي وإنتاج النفط من الصخور أو الرمال النفطية الموجودة بكثرة في الغرب، وتطوير تكنولوجيا استخراجه أيضاً من الفحم، وذلك بتكلفة 70 دولاراً للبرميل، أي بهامش ربح كبير وفقا الأسعار الحالية.
يعتبر الدكتور رمزي سلمان، مستشار وزير الطاقة القطري، في قناة الجزيرة، بتاريخ 8/ 6/ 2008، أن الموضوع لا يخلو من دفع الأسعار اصطناعيا وسياسيا لغرض تطوير البدائل، البدائل مكلفة، ولتطويرها لا بد من رفع أسعار النفط لكي تكون اقتصادية هذا من ناحية، من ناحية ثانية الآن بدؤوا استثمارات في إنتاج النفط بكلفة 75 دولارا للبرميل. فلهذا مهما حدث أن الأسعار لن تنزل دون الـ 75 أو 80 دولاراً. وارتفاع الأسعار سيساعد على الاستثمار في مناطق عميقة جدا للنفط بكلف قد تتجاوز المائة دولار للبرميل.
سابعاً: مشاريع نووية وفضائية لتوليد الكهرباء لتوفير البترول من أجل وسائل النقل
لا بد من إيجاد نفط لوسائط النقل لأنه ليس بالإمكان إيجاد بدائل لها في المستقبل المنظور. فلهذا هناك تشجيع على بناء محطات نووية في الدول النامية الفقيرة لتوليد الكهرباء بدل استعمال النفط ومنتجاته لإبقاء النفط مستقبلا لوسائط النقل وعلى الأخص الطيران.
ويُذكر في هذا الصدد أن هم الطاقة سوف يطال الفضاء، وتلقى الفكرة تشجيع واهتمام الدول الكبرى، ولقد نقلت الـ(CNN)، في 1/ 6/ 2008، تقريراً عن ذلك، من أهم ما جاء فيه: في ظل الارتفاع الحاد والمتواصل في أسعار الطاقة والطلب عليها، يعيد العلماء النظر في تقنيات جديدة بديلة لدفع عجلة الاقتصاد المتنامي في العديد من الدول تحديداً الصين والهند. وتشير تقديرات (مفوضية التخطيط) في الهند إلى أن البلاد، وبحلول العام 2030، ستنتج 700 ألف ميغاواط من الطاقة الإضافية لتغطية احتياجات النمو الاقتصادي والسكاني. وسيتم توليد معظم هذه الطاقة عبر منشآت لتوليد الكهرباء تعمل بالفحم، مثل مخطط بناء مجمع "توندا واند" العملاق، قرب خليج كوتش، الذي ستبلغ تكلفته 4 مليارات دولار.
ويرى براناف ميهتا، من "مجموعة سبيس أيلاند" لتطوير أقمار الطاقة الشمسية، أن حل أزمة الهند لشح الطاقة الكهربائية لايمكن على وجه الأرض، بل إقامة أقمار صناعية لجمع الطاقة الشمسية من المدارات "جيوسينكرونوس geosynchronous" على بعد 22 ألف ميل في الفضاء. وتبعث تلك الأقمار الصناعية ميغاواط من الطاقة الشمسية، بترددات كهرومغناطيسية ، إلى أجهزة استقبال، حيث يتم تحويلها إلى كهرباء وتنقل عبر قضبان الطاقة. ويقول ميهتا إن تمركز الأقمار الصناعية في تلك المدارات البعيدة ونظراً لعدم انعكاس ظل الأرض عليها، يعني فيضاً لا ينضب ومتواصلاً، على مدار الساعة، من الطاقة الكهربائية المتجددة.
وخلصت دراسة "دائرة الطاقة" بوكالة الفضاء والطيران الأمريكية "ناسا"، إلى أن التقنية قابلة للتطبيق، باستثناء تكلفتها الباهظة. وشجع تقرير صادر عن مكتب أمن الفضاء القومي التابع للبنتاغون عام 2007، الحكومة الأمريكية إلى تولي دور ريادي في تطوير أنظمة توليد الطاقة من الفضاء.
وذكر التقرير أن روسيا والصين والاتحاد الأوروبي والهند، مهتمون بمفهوم توليد الطاقة من الفضاء، وأن اليابان، التي انفقت ملايين الدولارات على دراسات لتوليد الطاقة من الفضاء منذ عقود، تعمل حالياً لإجراء اختبار محدود في هذا الصدد في المستقبل القريب.


الاستراتيجية الأميركية الراهنة انسحاب مشرِّف من العراق
26/ 8/ 2008 حسن خليل غريب
حسن غريب يحاضر في مقر البعث بالاردن عن المقاومة العراقية
شبكة البصرة
هشام عودة - عمان
بدعوة من مكتب الثقافة والاعلام في حزب البعث العربي الاشتراكي بالاردن قدم الباحث والكاتب والمفكر اللبناني حسن خليل غريب محاضرة في مقر الحزب مساء الاثنين الخامس والعشرين من تموز الجاري، عن راهن المقاومة العراقية واستشراف المستقبل.
وتحدث المحاضر عن معسكر الاعداء الذي يقف في مواجهة المقاومة العراقية، والتعتيم الاعلامي المقصود والمبرمج الذي يفرض على عملياتها الجهادية عبر وسائل الاعلام، مؤكدا ان هذه المقاومة الباسلة ما تزال تسيطر على المشهد العراقي وهي التي تقود الشارع، وهي وحدها المؤهلة لاحداث التغيير في العراق.
وقال غريب ان عنوان الاستراتيجية الاميركية حاليا هو البحث عن انسحاب مشرف من العراق، بعد ان نجحت المقاومة العراقية بنقل ازمة الاحتلال وجيشه في العراق الى كل بيت في الولايات المتحدة، ولم تعد الادراة الاميركية قادرة على مواصلة اخفاء الحقائق عن الشارع الاميركي، رغم ما تمارسه من تعتيم على الجهد العسكري الذي تقوم به المقاومة الباسلة في كل ارض العراق، في خطوة مقصودة للتأثير على نفسية المواطن العراقي والعربي الذي ما زال يراهن على هذه المقاومة وبرنامجها الجهادي في الحاق الهزيمة بالمشروع العسكري والسياسي والامني للاحتلال وعملائه.
وسخر المحاضر من قدرة قوات الاحتلال وعملائها في مواجهة المقاومة، وقال ان الاحتلال نفذ خلال سنوات الاحتلال ما يزيد على مائة عملية عسكرية كان يدعي قدرتها على حسم الموقف لصالحه، لكن كل هذه العمليات ذهبت الى النسيان وبقيت المقاومة الباسلة بقوتها وحضورها وسيطرتها على ارض العراق.
وحذر غريب من الدور الايراني المتنامي في العراق، مشيرا ان النظام الايراني يسعى الى تجزئة العراق وتفتيت وحدته على اساس طائفي وعرقي، لكن مشروعه فشل بفضل وحدة الشعب العراقي، وان هناك تناغما مكشوفا بين الاحتلالين الاميركي والايراني للعراق.
وطالب المحاضر اللبناني بضرورة توفير كل وسائل الدعم للمقاومة العراقية، مراهنا على جماهير الامة، لان الانظمة متورطة في المشروع الاميركي، داعيا المواطنين والمؤسسات الى ضرورة العمل على ابراز الدور الجهادي للمقاومة العراقية في كل وسائل الاعلام المتاحة التي لا تملك الإدارة الاميركية السيطرة عليها.
وفي نهاية المحاضرة التي قدمها الرفيق عمر ابو زيد دار حوار بين الباحث حسن غريب والجمهور تركز على ان المشروع القومي هو مفتاح الحل لمشاكل الامة، وان المقاومة العراقية هي حارسة هذا المشروع وحاميته.
وحضر المحاضرة اعضاء القيادة العليا لحزب البعث العربي الاشتراكي في الاردن والرفيق ناصيف عواد وزير الاعلام الاردني الاسبق والدكتور هاني الخصاونة وجمهور من اعضاء الحزب واصدقائه واعضاء التيار القومي في الاردن.
وكان الباحث حسن غريب قد حضر للاردن للمشاركة في مؤتمر الجمعية الفلسفية الاردنية الذي ناقش الهوية والانتماء وقدم ورقة مهمة في هذا المؤتمر الذي استمر على مدى يومين.
شبكة البصرة/ الثلاثاء 25 شعبان 1429 / 26 آب 2008

الاستراتيجية الأميركية الراهنة انسحاب مشرِّف من العراق
كثيرة هي المواضيع والقضايا التي تتعلق بالمقاومة الوطنية العراقية، وهي تتشعَّب إلى المظاهر العسكرية والسياسية والعقائدية والفكرية، كما تطول شتى جوانب القضايا التحررية على مستوى العراق والأمة العربية والعالم بأسره. ولهذا السبب يجد المرء نفسه أمام سيل من القضايا التي من الواجب الكلام عنها حينما يتعلق الأمر بهذه المقاومة.
فاضلت بين أن أتكلم عن قضيتين:
-القضية السياسية الميدانية التي تطل على واقع المقاومة الراهن بكل ما يتعلق بواقعها الميداني وآفاق مستقبلها.
-أم القضية الفكرية بكل ما يتعلق بالجوانب التي تطرحها المقاومة الشعبية المسلحة كاستراتيجية تحررية قبل الاحتلال وأثناء الاحتلال وما بعد التحرير.
عن ذلك يحسب البعض أنه من المبكر استخلاص الدروس الفكرية من مقاومة لا تزال تخوض المواجهة العسكرية ضد الاحتلال، كما يحسبون أيضاً أن نتائج البحث في هذا الزوايا أو الكلام عنها ستكون أقرب إلى الدقة فيما لو تم بحثها في المراحل اللاحقة.
بين الكلام عن الواقع الراهن، عسكرياً وسياسياً، واستشراف المستقبل فكرياً، مساحة ضيقة، لأنه لا يمكن لمقاومة ما أن تكون منفصلة عن عمق فكري يصوِّب اتجاهاتها، كما لا يمكن لها أن تشكل مشروعاً سياسياً للمستقبل من دون استراتيجية فكرية. وما يملأ تلك المساحة هي المواجهة العسكرية التي تعتبر المحور الجاذب لكل الكلام عن الزوايا الأخرى. والتي على صعيد سقفها الميداني تتحدد كل المسائل.
عندما نقول إن المقاومة هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب العراقي، نعني بذلك حقيقة واقعية وعملية وهي أن القضية العراقية، تحت الاحتلال، تحيا أو تموت بحياة أو موت المقاومة المسلحة. وهذا يعني أن مركز التأثير الأساسي هو العمل المسلح، الماثل بزنود الأبطال المقاتلين وإرادتهم. كما أن العمل المسلح هو قطب الرحى لكل أنواع المقاومة الأخرى، سياسية وإعلامية وفكرية. ومن يريد استمرار المقاومة عليه أن يعمل على إدامة العمل المسلح بكل الوسائل والسبل. وهنا أستذكر سؤالاً وجَّهه أحد الحاضرين لي، في ندوة عقدت في حزيران من العام 2003، قائلاً: في ظل التعتيم السائد على بيانات (قيادة المقاومة والتحرير)، ورسائل الرئيس صدام حسين، كيف يمكن للعالم أن يعرف أن هناك مقاومة في العراق؟ فأجبته قائلاً، وهو لا يزال يذكِّرني بذلك الجواب: إن انتشار المقاومة وتأثيرها على قوات الاحتلال ستفرض نفسها على كل وسائل الإعلام بغض النظر عن ارتباطها بالإعلام المعادي أم عكسه.
من مركزية هذه الحقيقة نبني قناعتنا، وعلى إدامة العمل العسكري نراهن أساساً على إنتاج متغيرات جديدة تُضاف إلى المتغيرات الراهنة بحيث تدفع المقاومة إلى المزيد من الضغط على الاحتلال الأميركي الأم، وعلى كل الاحتلالات الأخرى المقنَّعة.
لقد حافظت المقاومة العراقية على سقف تأثيرها العسكري منذ البداية من دون أن نقع في وهم تضليل الإعلام المعادي، فقد تمَّ تجهيلها في بداية الاحتلال لكنها اخترقت حصار الإعلام بروائع أدائها، وفرضت نفسها عليه، واجتازت كل المحيطات لتحط رحالها في الشارع الأميركي، وأنتم تعلمون مدى التأثير الذي تركته على كل زوايا الحياة في الولايات المتحدة الأميركية.
أما الآن، وبعد أكثر من خمس سنوات من انطلاقة المقاومة الشعبية المسلحة، تستأنف إدارة جورج بوش أسلوبها في التضليل على المقاومة العراقية والتعتيم على دورها وتأثيرها، ولكن اليوم على وقع زوابع من إعلام قيامها بسلسلة متواصلة من العمليات العسكرية الأكثر وحشية التي لا يحار المرء باكتشاف حقيقتها من أسمائها: (صولة الفرسان)، (زئير الأسد)، (إعادة فرض النظام)... وهو يوحي بأنها استطاعت أن تعيد الأمن إلى العراق. ونحن إذا أردنا أن نعرف نتائجها الفعلية، فلن يكون جوابنا أكثر من إعادة التذكير بأخواتها التي شنتها قوات الاحتلال تحت أسماء أخرى، منذ أواخر العام 2003، كمثل (المطرقة الحديدية)، و(الأفعى المتسلقة)، التي وصلت أعدادها إلى أكثر من مائة اسم، تبخرت أسماؤها وأفعالها، واستمرت المقاومة ووصلت أخبارها إلى الشارع الأميركي، الذي كانت ردة فعله السريعة بتسمية رئيس الولايات المتحدة الأميركية وإدارته بالكذابين.
باستثناء ما يدفعه الشعب العراقي من تضحيات جسام، وصلت إلى حدود من المشاكل لا تنتهي، نرى أنه ما أشبه (زئير الأسد) اليوم، بلسعات (الأفعى المتسلقة) البارحة. تسمع جعجعة المعارك ولا ترى طحينها. فطاحونة الموت اللاحقة بجنود الاحتلال، ونهر المليارات التي تتسرب من ميزانية الولايات المتحدة الأميركية، لا تزالا الكابوس الذي يؤرق جفون الشارع الأميركي، وتحفزه على الإصرار على إعادة أبنائهم إلى أحضانهم.
وهنا يتبادر إلى ذهننا التساؤل التالي: ما دام الواقع على ما قمنا بوصفه، فلماذا تلجأ إدارة جورج بوش إلى التعتيم والتضليل، وما هي أهدافها من الترويج لكذبة عودة الأمن إلى العراق؟
لقد تعوَّدت الجماهير على سماع رقم مئات العمليات اليومية وسقوط العشرات من جنود الاحتلال قتلى وجرحى، وفجأة تختفي هذه الأخبار من شاشات التلفزة وصفحات الجرائد. إن هناك عاملاً نفسياً تكوَّن عند المتابع، يتعلق بسقف محدد من العمليات، ولم يعد يتقبل نهمه النفسي أقل منه.
من هذا العامل، مترافقاً مع حالة تعتيم قصوى على أداء المقاومة، نشأت مشكلة المراقب النفسية وأصبحت كأنها مشكلة ما حصلت عند المقاومة، بينما واقع الأمر هو غير ذلك. فباستثناء انحسار عدد العمليات العسكرية للمقاومة العراقية، وهي عائدة لأسباب عسكرية تكتيكية وفنية مدروسة، لا نرى شيئاً مما تروج له إدارة جورج بوش له علاقة بالواقع الميداني على أرض العراق.
ليست هناك حركة جديدة تمارسها إدارة جورج بوش إلاَّ وتكون مدروسة وموجَّهة ومخططاً لها، آخذة بعين الاعتبار أهداف خطابها الموجَّه إلى أكثر من جهة أميركية ودولية وعربية. وإنه مما فاجأني أيضاً تصريحاً لباراك أوباما، المرشح الديموقراطي لرئاسة الولايات المتحدة الأميركية. الحزب الذي وصل على أصوات الرافضين لاحتلال العراق، يُستنتج من تصريحه أنه أصبح مقتنعاً بأن الهدوء الأمني يسود العراق، أما في الوقت ذاته فلا يزال مصراً على سحب الجنود من العراق وإعادتهم إلى بلادهم. فهل هي صحوة ضمير ضد مبدأ الاحتلال، أم أنه معبِّر عن حقيقة ما يتعرَّض له الاحتلال من مصاعب حتى في هذه المرحلة؟
وإذا علمنا أن اعتراض الحزب الديموقراطي على الاحتلال كان نتيجة لفشل الاحتلال، وليس رفضاً للاحتلال بعينه، فكيف يوفِّق أوباما بين موقفيه: الاعتراف بعودة الأمن إلى العراق والإصرار على الانسحاب منه؟
فإذا رحنا نفتش عن الأسباب، فسنجدها في مقولة الديموقراطيين المبدئية، التي يتوافقون فيها مع الجمهوريين، القائلة: إن انسحاب الجيش الأميركي من العراق يجب أن يكون مشرِّفاً.
إن قراءة ما يجري الآن في الولايات المتحدة الأميركية، وما يُعد له من ترتيبات جديدة لاحتلال العراق، تفرض علينا أن نعيد التذكير بتلك الحقيقة، وهي العمل من أجل (خروج مشرِّف) للجيش الأميركي من أرض العراق التي تتحرك تحت أرجل جنوده وإدارته.
فهل هناك دلائل وبراهين تؤكد أن ما يتم الإعداد له هو الإعداد لـ(لانسحاب المشرف)؟
-أولاً: وقبل كل شيء، إن عامل المقاومة الذي أرغم احتلالاً كان يعد نفسه لحكم العراق إلى الأبد، هو ذاته ميزان الثقل والتأثير. فما دامت مطحنة المقاومة تستهلك روح العدو وجيبه، فلا خوف على النتائج المحسوبة اليوم من التراجع. مقاومة مستمرة حتى لو نجح المرشح الديموقراطي. لأن تراجع الفعل المقاوم الذي كان سبباً في إرغام الشارع الأميركي على المطالبة بالانسحاب، سيعيد ذلك الشارع إلى حالة استرخاء طالما أصبح أبناؤه الجنود بأمان، وطالما استراحت جيبه من الإنفاق الخيالي على حرب تصب نتائجها في جيوب الشركات الكبرى.
وطالما كانت فاتحة الكلام البسملة، فإن فاتحة تحليل نتائج ما ستؤول إليه قرارات الولايات المتحدة الأميركية هو استمرار المقاومة، هذا إذا لم يكن من تكتيكاتها أن تنقل عملياتها إلى مستوى نوعي أكبر لكي لا تجعل الرئيس الجديد يلتقط أنفاسه.
ثانياً: من أهم عوامل القوة في احتلال العراق، كانت الثقة بمستوى التكنولوجيا الهائلة التي يمتلكها، وطالما لم يستطع تحديثها إلاَّ ووجد ما يبطل مفعولها في ما ابتكرته الأجهزة الفنية لعسكريي المقاومة، فإنه لن يراهن إلى الأبد على تقدم تلك التكنولوجيا طالما أصبحت معنويات من يستخدمها دون درجة الصفر.
ثالثاً: تهدم الجدار الدولي الشكلي الذي بنته إدارة جورج بوش حول قواتها في العراق، وهو شرط لا تستطيع الولايات المتحدة الأميركية أن تستمر في احتلالها من دونه، بخاصة عندما تراكمت حالة العداء للأميركيين حتى في الشارع الغربي.
رابعاً: انحسار حيوية النظام العربي الرسمي وعجزه عن تقديم حتى قشة التمثيل الديبلوماسي في العراق المحتل. ومن فعل ذلك فقد فعلها ليس عن قناعة إلاَّ بمقدار طلبه للنجاة من الضغط الأميركي.
خامساً: لم يكن الجدار الدولي المناهض للاحتلال، قبل الاحتلال، متيناً، بحيث أن المناهضين لم تكن خطورة مشروع الاحتلال بائنة بشكل تام وواضح. أما الآن فتميل علاقات تلك الدول مع الولايات المتحدة الأميركية باتجاه التوتر. وهي إن كانت لا تريد أن ترى أكبر جيش في العالم مهاناً، إلاَّ أنها لا ترى مصلحة لها في تمكين الاحتلال من الاستقرار في العراق. وقد تنعكس تلك المواقف إيجاباً على دعم المقاومة العراقية بشتى الأشكال والوسائل.
سادساً: دخل الإقليم، وتحديداً النظام الإيراني، شريكاً في احتلال العراق طمعاً بتنفيذ أجندته الخاصة، ذلك الدخول كان ورقة قوة بيد الاحتلال الأم، ولكن تضارب المصالح الآن حول تقسيم الحصص، دفع بالحليفين إلى موقع الضعف معاً على الرغم من أن ما تراه العين يوحي وكأن النظام الإيراني يمتلك أوراق قوة في العراق، إلاَّ أن العكس هو ما نراه. أما السبب فهو أن المشروع الإيراني، بإصراره على تقسيم العراق، يدفع بكل دول الجوار العربي وغيره إلى الخوف والريبة مما يتهدده من مخاطر تفتيت طائفي ومذهبي.
سابعاً: عجز أدوات الاحتلال وعملائه عن تنشيط ما يسمونه بـ(العملية السياسية)، بفعل ما يدور بينهم من صراعات وصلت، وقد تصل في المرحلة القادمة، إلى ما يشبه الاقتتال الشرس بين ميليشياتهم.
ثامناً: ماذا بقي من عوامل تساعد على صمود الاحتلال؟
لم يبق في أجندة إدارة جورج بوش غير رهانين اثنين:
-الأول: الرهان على إضعاف المقاومة العراقية من خلال استخدام كل التكتيكات الآنفة الذكر. تلك التكتيكات التي لم يقبض الشعب الأميركي بنفسه صلاحيتها لتجاوز مأزق احتلال العراق.
-الثاني: الخروج بما تيسر من اتفاقيات يحسب الاحتلال أنها ستكون ملزمة للعراق حتى بعد الانسحاب.
فإذا كان الرهان على إضعاف المقاومة لا يزال ساري المفعول، فإن الاحتلال لم يترك مكتسبات للشعب العراقي تشجعه للدفاع عنها، بل ترك له كل ما يستفزه ويحرضه على المقاومة. لم يترك له الحد الأدنى من معالم الدولة، فهو قد دمَّر كل شيء، ونهب كل شيء، وأفسد كل شيء، وهجَّر كل شيء. أما عملاء الاحتلال، وشركاء الاحتلال، من بعض الأنظمة الرسمية العربية والنظام الإيراني، فلم يتركوا أيضاً في ذاكرة الشعب العراقي ما يجعله يغفر لهم. وهل تموت المقاومة عند شعب يتعرَّض لكل تلك المآسي؟
وأما الاتفاقيات، باستثناء حماية جيش الاحتلال في قواعد عسكرية محصَّنة، فهي حبر على ورق قانون لا يمت للقانون الدولي بصلة. وأما القواعد العسكرية فستكون وظيفتها حماية حكومة الاحتلال من خارج المدن والمناطق الآهلة بالسكان، وهذه سوف تنجح بوظيفتها النظرية إذا بقيت مدن أو مناطق خاضعة لحكم العملاء.
وقد يراهن البعض على تشكيل عمق إقليمي، قدماه إيران وتركيا، سيعمل على ملء فراغ سيتركه الاحتلال الأميركي في العراق، وعلى الرغم من أنه احتمال يتم الإعداد له، إلاَّ أن التخطيط يحتمل عشرات الثغرات التي تحول دون اعتباره واقعياً.
أيتها السيدات أيها السادة
يبقى عامل الدفاع عن السيادة الوطنية العراقية عبوة ناسفة ستنفجر في وجه أي معاد لها ومنتقص منها. ويبقى عامل الدفاع عن السيادة القومية مهمازاً يؤرق حتى أكثر العابثين بالمصير القومي العربي. فهؤلاء جميعاً إذا كانوا قد رضخوا إلى إملاءات أكبر دول العالم وجبروتها تحت وهم حماية كراسيهم، فإن كراسيهم تحت ظلال الإقليم ستكون مهانة تهتز من تحت أقدامهم لا محالة.
وأخيراً فليعذرنا من يتهمنا بالرومانسية، ونقول لهم متى كانت حماية الكرامة والسيادة رومانسية؟
فمرحباً برومانسية تحرض المدافع عن وطنه ليصبح زاهداً بحياة، بل رافضاً لحياة، لا كرامة فيها ولا شرف.


23-المسألة اللبنانية بمنظار وطني وقومي

25/ 8/ 2008
لكي نطل على تأثيرات بعض عوامل التفتيت في المجتمع العربي، ومن أهمها الطائفية، لا بدَّ من أن نقرأ عوامل تكوين المجتمع اللبناني التاريخية وتكوين نظامه السياسي، ومنها نقف عند قراءته في صورته الحالية.
لبنان بلد تعددي، طائفياً وثقافياً وسياسياً، والخطأ في قراءتنا له أننا نحلل ما يجري على ساحته مستندين إلى مواقف ومتغيرات سياسية مرحلية، ولأن تلك المواقف والمتغيرات تتبدل وتتغير، لا بدَّ من أن الاستناد إليها سيصل بنا إلى نتائج تكون في أحيان كثيرة مضلِّلًة. أما القراءة الصحيحة فتنطلق من القانون الذي يتحكم بتلك المواقف ويسيِّرها.
في حياة لبنان السياسية تغيب أسماء وتحضر أخرى، تذوب ظواهر وتحل مكانها ظواهر أخرى، لكننا لا نرى شيئاً يتغير، فالأزمات تخلف أزمات، والمشاكل تخلف مشاكل. يتوهم القادم أنه أفضل من الراحل، فالقادم يلعق من دم اللبنانيين كما فعل سلفه، ويتوهم اللبنانيون بأن هناك متغيرات قد تُحدث انقلاباً في حياتهم، ولكن عبثاً ما يتوهمون، فيشاركون بلعق دمائهم ولكنهم لا يدرون أنهم يلحسون المبرد. أما السبب فهو أنهم لم يستطيعوا أن يشخصوا الداء، وإذا استطاعوا فإنهم أعجز من أن يصفوا العلاج الشافي.
لبنان، كما نراه نحن، ظاهرة محيرة، تارة يكون أفضل ساحة ديموقراطية عربية، وتارة أخرى يكون مثالاً لتعايش الأديان والطوائف، وتارة ثالثة يصبح أسوأ أنموذج لعلاقات الطوائف، ومثالاً منفراً للفتن الطائفية.
إنه أمر محير، يحتضن دعاة بناء نظام سياسي علماني، كما يحتضن دعاة بناء دولة دينية، أية دولة دينية. دولة مذهبية أية دولة مذهبية.
يحتضن عقيدة تدعو وتمارس الكفاح المسلح من أجل فلسطين ولبنان وأي قطر عربي محتل، كما يحتضن عقيدة إبعاد لبنان عن الصراع الدائر مع العدو الصهيوني سواءٌ أكان في لبنان أو فلسطين والعراق. يحتضن أنموذج البطولة والفداء من أجل تحرير الأرض من الاحتلال الصهيوني، كما يحتضن عقيدة النأي بلبنان عن المقاومة المسلحة وتقليد أسلوب التفاوض والمساومة، وأحياناً عقيدة الاستسلام من دون شروط.
والأمر المحير الآخر، هو أن اللبناني مسموح له التغريد كيفما يشاء، وأينما يشاء، لكن من غير المسموح له أن يغرد خارج قفص الطوائف، وإذا فعلها فإنه يقف بعيداً عن أبناء طائفته لأنه كما يشيع المثل العامي (سيتعرى من ثيابه، فيصاب بالبرد)، والثياب هنا هي الطائفة.
اللبناني يستطيع أن يتمرد على كل شيء، لكنه لا يستطيع أن يتمرد على أمير الطائفة، فيصبح كالبعير الأجرب، ولن يحظى بالوصول إلى وظيفة أو مركز في الدولة لأن العبور إليها يمر من بوابات حراس الطائفية السياسية.
تلك ظاهرة لبنان، فيصاب بالحيرة كل من يرى تلك التناقضات، لأنه معجب بالتعددية فيه. لكن إذا كانت التعددية فيه عامل صحة، فإنها في الوقت ذاته عامل مرض.
لبنان تائه بين التقدمية والتخلف، تائه بين العصرنة والجمود. لبنان تائه بين التحريض الطائفي والدعوة إلى التعايش بين الطوائف، أي بمعنى أوضح، كن لبنانياً عصرياً ولكن عليك الاحتماء بطائفتك، كن متحرراً من القيود والاستزلام ولكن قيد أمير الطائفة والاستزلام له هو من معالم التقدمية فيك.
إنها إشكالية الالتباس بالولاء للوطن، إنها إشكالية أنك لن تكون لبنانياً صالحاً إذا لم تكن طائفياً صالحاً.
تلك مقدمة لا بدَّ من الدخول عبرها لفهم موقع لبنان من الصراع العربي – الصهيوني بشكل خاص، وموقع لبنان من العمل المقاوم بشكل عام.
شكلت قضية فلسطين محوراً أساسياً في الصراع الداخلي في لبنان، ولعلَّها كانت المدخل الرئيسي للحرب الأهلية بين مؤيد لها ومشارك، وبين رافض لها وناقم. وكانت البوابة الطائفية مدخلاً لاتخاذ موقف المع وموقف الضد، فالانتماء الأكثري للفلسطينيين إلى طائفة معينة كان يشكل الهاجس من الإخلال بالتركيبة الديموغرافية فيه، وفي تلك التركيبة تشعر الطائفة بالقوة أو الضعف. وتلك ثغرة تسللت منها قوى الخارج في العزف على وترها، وتفجير الشارع اللبناني على وقع قنابلها الموقوتة.
تحت ظلال هذا الواقع، كانت أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية تشكل الشمعة المضيئة التي خرجت من ثيابها الطائفية لتحمي المقاومة الفلسطينية بثياب وطنية تحررية، وبثياب قومية تحريرية. وبمثل تلك العقيدة تم استهداف التحالف الفلسطيني اللبناني: حركة المقاومة الفلسطينية في لبنان، وحركة الأحزاب الوطنية اللبنانية. وقد تحققت نتائج سلبية على غاية من الأهمية إذ تم استهداف الجاذب المركزي المشترك بينهما، وهما الجاذب الوطني اللبناني من جهة، والجاذب القومي العربي من جهة أخرى.
لقد تحققت تلك النتائج في فترة أقل من عشر سنوات، تم في خلالها خروجان إرغاميان لطرفي التحالف:
-الأول: إرغام منظمة التحرير الفلسطينية، بهيكليتها المقاومة، على الخروج من لبنان في العام 1982، بفعل العدوان الصهيوني الذي وصل إلى حدود بيروت، وهي كانت تشكل الرمز القومي المقاوم.
-والإرغام الثاني أخرج الحركة الوطنية اللبنانية من الحياة السياسية اللبنانية وأضعف وجودها الشعبي إلى ما دون الحد الأدنى، وهي التي كانت تشكل الرمز الوطني المقاوم.
وكان في هذا الإرغام إبعاد للحركتين معاً عن دائرة الفعل المقاوم. وبهما أُنزلت المقاومة من سقفها الوطني والقومي، واختزلت في عناوين أخرى أصبحت معروفة ومشهورة.
أيها السادة
من تلك النتائج نستطيع أن ندخل إلى قراءة متأنية لما يجري في لبنان منذ أوائل التسعينيات من القرن الماضي، بحيث دخل العمل المقاوم في عقيدة جديدة، ووسائل جديدة، وإمكانيات جديدة. كل ذلك لا يعني أن المقاومة انحدرت باتجاه الضعف والوهن، وإنما العكس كان الصحيح، والدليل هو حصول انتصار استراتيجي تمثل في إرغام العدو الصهيوني على الانسحاب من لبنان في العام 2000، وكان انتصاراً لافتاً وباهراً جعلنا نقرأ بوضوح عقيدة عسكرية جديدة ستكون المفتاح الجديد في إدارة الصراع مع العدو الصهيوني أو أية قوة أخرى تسوِّل لها نفسها احتلال أي أرض عربية.
أيها السادة
قد يبدو ما نقول متناقضاً، ويدعو إلى الحيرة والاستغراب، ويمكننا أن نشير إلى بعض جوانب ما يظهر متناقضاً. إن بعض المتناقضات تنطلق من أسفنا على إحباط تجربة التحالف المقاوم الفلسطيني اللبناني من جهة، بينما البديل حقق انتصارات أكثر وأكبر وأعمق، والحال كذلك يُعتبر الأسف في غير محله. فالنتائج التي كان من المفترض أن يحققها التحالف قام بتحقيقها البديل، وهل لعاقل أن ينتظر أفضل من ذلك؟
أما نحن فسوف نغامر بالبرهان على أحقية أسفنا بالتالي:
لا شك بأن نتائج مقاومة الاحتلال أكثر من إيجابية بغض النظر عمن قام بإنجازها، سواءٌ أكان عملاً جبهوياً وطنياً علمانياً، أم كان عملاً أنجزته طائفة من الطوائف الدينية. إلاَّ أن إنجاز مهمات المرحلة التحريرية ليست نهاية المطاف في بناء الأوطان، بل هي مدخل أساسي وضروري وتمهيدي لمهمة ذلك البناء. ولهذا لا نستطيع الفصل بين المهمتين، حتى ولو كانت مرحلة التحرير قائمة على المقاومة المسلحة التي هي أعلى درجات البذل والتضحية، فمرحلة البناء الوطني إذا لم يتم إنجازها بشكل سليم ووطني فنكون كمن ينقل الوطن من هيمنة الاحتلال وقسوته وإرهابه إلى هيمنة قوى عاجزة عن بناء وطن لكل مواطن فيه حق العيش بالتساوي مع المواطن الآخر بغض النظر عن لونه وجنسه ودينه ومذهبه واتجاهه السياسي.
إننا نعطي الأولوية لعامل المقاومة المسلحة إذا كان الوطن محتلاً على كل ما عداه من العوامل الأخرى، إلى الدرجة التي لا نعير فيها اهتماماً إلى الفروقات في الاتجاهات والإيديولوجيات، بحيث لا نربط تأييدنا للعمل المقاوم بشرط انتماء الفصيل المقاوم إلى هذا الاتجاه أم ذاك، لأن الخطورة الكبرى تكمن في أمثال هذا التمييز لأنها تغرق الفصائل المقاومة في صراعات جانبية لا شك بأنها ستكون على حساب وحدة الفصائل وكمية العمل ونوعيته يستفيد منها المحتل لتغذيتها وتعميقها.
فإذا كان هذا التمييز حاجة ضرورية في مرحلة الاحتلال، لأنه لا صوت يجب أن يعلو فوق صوت المقاومة المسلحة، إلاَّ أنه من الضروري أيضاً أن تكون القيادات السياسية للمقاومة مسؤولة عن إجراء حوار طويل النفس يحمل صفة الاستمرار بين تعدديات الفصائل ومشاريعها السياسية من أجل تقريب مسافات التباعد في الرؤى السياسية للتحضير لمرحلة ما بعد التحرير بين الفصائل المقاتلة من جهة وبينها وبين القوى السياسية الرافضة للاحتلال على طريقتها من جهة أخرى.
تلك إشكالية واجهتها المقاومة اللبنانية ولا تزال تواجهها، على مستويين اثنين:
-الأول بين الفصائل المقاتلة منذ أول مواجهة مع العدو الصهيوني في أوائل السبعينيات.
-والثاني بين الفصيل الذي استمر منفرداً منذ أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وبين شتى التعدديات اللبنانية الأخرى التي يتشكل منها المجتمع اللبناني.
لقد سلَّمت الفصائل المقاتلة الأخرى أوراق المقاومة اللبنانية للمقاومة الإسلامية لأكثر من سبب سواءٌ أكان مشروعاً أم غير مشروع، خاصة وأن المقاومة الإسلامية استطاعت أن تحصل على تأييد ومشاركة واسعين، مادياً وعسكرياً ولوجستياً، شاركت فيه ثلاث حكومات. وفي هذا الوقت محضت الفصائل التي قدَّمت التضحيات السابقة لانطلاق المقاومة الإسلامية التأييد الواسع خاصة أن المقاومة الإسلامية قد أنجزت مهمتها بكفاءة واقتدار.
أما الشرائح اللبنانية الأخرى ومنها التي لا تمحض المقاومة أي تأييد لأكثر من سبب، تلك الشرائح التي شئنا أم أبينا، تمثل شريكاً في الوطن لا يمكن تجاهله أو لا يجوز تجاهله، فقد كانت تتصارع مع التيار المقاوم من أجل إرساء نظام سياسي يضمن لها مصالحها. ومن هنا بدأت إشكالية مرحلة ما بعد التحرير، تلك الإشكالية التي جمعت شتى التنوعات الطائفية كل أسلحتها من أجل المحافظة على مصالحها في لبنان ما بعد التحرير.
استناداً إلى ذلك، نستنتج أن المقاومة التي حررت لبنان من الاحتلال الصهيوني ما كانت لتواجه تلك الصعوبات في الوسط الطائفي اللبناني لو كانت تلك المقاومة ذات هوية وطنية، أي لو كانت مقاومة وطنية شارك فيها كل اللبنانيين من كل الانتماءات السياسية والطائفية كما كان حاصلاً قبل انطلاقة المقاومة الإسلامية بعد الاحتلال الصهيوني في العام 1982.
لم تشعر الفصائل الوطنية في لبنان، تلك التي أسست لمقاومة العدو، بأنها مغبونة عندما تم تحجيم دورها وإلغائه فيما بعد، لأنها كانت تعطي الأولوية للتحرير. ولكنها بعد التحرير، أي ما يشبه المرحلة الراهنة، تشعر بأن دورها سيكون مغيَّباً في مرحلة البناء الوطني خاصة في هوية النظام السياسي الذي يجري التأسيس له.
أما التنوعات الأخرى من الشرائح اللبنانية، حتى لو كانت تنتمي إلى تيار معرقلي المقاومة وغرس روح التقاعس، فإنها لم يكن لها دور في المقاومة، إلاَّ أن هذا الأمر لا يمكن أن يلغي دورها في تحديد هوية النظام السياسي الذي يجب الاتفاق عليه بعد مرحلة التحرير على الرغم من دورها السلبي السابق من استراتيجية المقاومة المسلحة.
وهنا لا بدَّ من التأشير إلى أن هذه المرحلة أخذت تخلط الأوراق من جديد بين الكتل السياسية:
-الأول أن المقاومة الإسلامية ومعارضيها ممن اصطفوا تحت راية بناء النظام الطائفي السياسي متفقون على استئناف مسار النظام الطائفي السياسي. فعادوا جميعاً، مقاومة وضد المقاومة، إلى الاتفاق على نظام طائفي سياسي لا تستطيع المقاومة الإسلامية أن تعيش خارجه أو تعمل ضده.
-الثاني أن المقاومة الإسلامية، ومؤيديها من التيارات الوطنية، سيكونان على طرفيْ نقيض عندما يتعلق الأمر في تحديد هوية النظام السياسي. وعن ذلك تؤيد المقاومة الإسلامية، في الحد الأدنى، نظاماً طائفياً سياسياً ترفضه مجموعة القوى والأحزاب الوطنية. أما في حدها الأعلى فتعمل من أجل تأسيس دولة دينية عالمية ترفضه الأحزاب القومية.
أما أيهما نؤيد؟
هنا نقول بأن معطيات وشروط بناء مقاومة تحريرية هي غير ها عندما يتعلق الأمر بمرحلة بناء وطني.
وكي تكون التجربة درساً للمستقبل، وإذا خُيِّرنا بين مقاومة ذات آفاق إيديولوجية طائفية وبين مقاومة ذات إيديولوجية وطنية جامعة لكان علينا اختيار الإيديولوجية الوطنية الجامعة. وأما إن لم يكن هناك إلاَّ خيار واحد في مقاومة الاحتلال، وليكن خياراً مذهبياً، فنحن منحازون إليه من دون مقدمات أو شروط.
وهنا يتبادر إلى أذهاننا السؤال التالي:
لكن هل كان أمام اللبنانيين خيار واحد؟ أم خيارات شتى؟
لا يعجزنا الجزم بأن المقاومين اللبنانيين كانوا أمام خيارات شتى، وعلى الرغم من ذلك وُضعوا أمام خيار واحد. ولهذا أسباب وعوامل أسهمت في ذلك. وتلك العوامل ذات أعماق عربية وإقليمية نرى أنه من اجل اكتمال الرؤية أمامنا لا بدَّ من البحث عن تشخيصها.
أما العوامل العربية فقد اختُصِرت بالدور السوري في لبنان.
والعوامل الإقليمية فقد اختُصِرَت بالدور الإيراني فيه بعد انتصار ثورة رجال الدين.
أولاً: العامل السوري:
وإن كان الدخول السوري إلى لبنان تمَّ بضوء أخضر أميركي، إلاَّ أن لسورية في لبنان مصالح، بعضها يرتبط بالأمن الوطني السوري كجزء من الأمن القومي العربي. وبعضها يرتبط بمسار التسوية في الصراع العربي – الصهيوني، بعد أن دخل النظام السياسي في سورية دائرة التسوية لحساباته الخاصة حسباناً منه أنه قد يستعيد الجولان عبرها.
ولتعقيدات الوضع السياسي في لبنان، لم تستقر تحالفات الوجود السوري عند حدود معينة بل واجه متغيرات متعددة، الأمر الذي كاد يهدد أمن قواته العسكرية، فلجأ إلى خلط الأوراق مستثمراً حاجة الشيعة لجدار استقواء في حرب داخلية اتخذت في أكثر جوانبها مسارات واتجاهات وأغراض طائفية. فانعقد التحالف بين سورية والمشروع السياسي الطائفي الشيعي الذي كان لا يزال يحبو خطواته الأولى باتجاه الشيعية السياسية بقيادة حركة أمل. وتعمَّقت أواصر هذا التحالف تدريجياً منذ العام 1979 تقريباً. إذ كادت قيادة الشيعة أن تكون محصورة بتلك الحركة. وتعمَّقت أكثر على الرغم من المتغيرات التي شقت الشيعة إلى تيارين رئيسين بعد تأسيس حزب الله كذراع شيعي موالٍ لإيران بعد الشاه.

ثانياً: العامل الإيراني:
بعد انتصار الثورة الإيرانية، خاصة أن أهدافها كانت ذات أبعاد أممية وأهداف بناء دولة إسلامية عالمية، كانت الساحة اللبنانية من الساحات الأساسية التي يمكن بناء قاعدة فيها مؤيدة لأهدافها، فأسست حزب الله. ولم تمر تلك المتغيرات على الساحة الشيعية في لبنان من دون صدامات أو ترقب متاعب تواجه التحالف السوري مع حركة أمل. إلاَّ أن تلك العُقد تم حلها برعاية سورية وإيرانية. وبمثل ذلك انعكس التحالف الإيراني – السوري على صيغة الانقسام الشيعي في لبنان فأعلن التحالف بين التيارين المذكورين على وقع ضبط العلاقات بينهما بتأثير سوري وإيراني.

ثالثاً: المقاومة الإسلامية إحدى نتائج التحالف السوري والإيراني:
كانت المقاومة الوطنية اللبنانية في أوج عطاءاتها بعد الاحتلال الصهيوني للبنان في العام 1982. وكانت المقاومة متعددة الفصائل والأطراف، انخرط في فصائلها كل التعدديات السياسية والدينية، وكانت تسير على خطى العمل لتوحيد جهودها، خاصة أن التجربة التي سبقت الاحتلال الصهيوني كانت واعدة، بتجربة ميدانية تأسست منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي، وبتجربة جبهوية ذات أعماق وطنية وقومية. وفي أثنائها انطلقت المقاومة الإسلامية بعد إعلان تأسيس حزب الله في العام 1985. وكانت فصيلاً آخر دخل على خط المواجهة من دون تميُّز، وقد ساعد على انتشارها سيطرة الشيعية السياسية على الأراضي اللبنانية التي انسحب الاحتلال الصهيوني منها بعد العام 1985، وبعد مخاض عسير من الاقتتال الشيعي – الشيعي أعقبته تفاهمات برعاية سورية إيرانية، بعد العام 1988، أخذ نجم المقاومة الإسلامية تحت علم حزب الله يتجه نحو الصعود خاصة أن الأحزاب اللبنانية الأخرى كان يتقلَّص عملها لأسباب كثيرة، يأتي في مقدمتها قرار تلزيم المقاومة لحزب الله بضغط وتدبير من القوى العربية والإقليمية الفاعلة في لبنان.
رابعاً: الدروس المستخلصة للمستقبل:
لقد سجَّلت المقاومة الإسلامية في لبنان تجربة جديدة على المستوى الوطني اللبناني، والقومي العربي، والإقليمي الممانع للاحتلال، تضافرت في بنائها جهود رسمية وشعبية، تكامل فيها الشعبي مع الرسمي، الأمر الذي أثار الانتباه إلى إمكانية الجمع بينهما في حالة المواجهة مع الاحتلال، وفي تلك التجربة ما يمكن أن يغيِّر في العقيدة العسكرية التقليدية في الصراع العربي - الصهيوني.
1-على مستوى التكامل الوطني اللبناني:
لأول مرة في تاريخ لبنان الحديث تنخرط الحكومة اللبنانية في منظومة عسكرية تواجه العدو الصهيوني في لبنان، وإن كان بشكل غير مباشر، قدَّمت للمقاومة تسهيلات لوجستية لم تحظ بها مقاومة على الإطلاق. إلاَّ أن تلك المساعدة لم تكن تعبِّر عن إرادة التعدديات الكثيرة وفي مقدمتها تلك التي لا تثق بقدرة لبنان العسكرية على المواجهة مع العدو الصهيوني. ولم تكن تلك المساعدة ممكنة لولا الوجود السوري في لبنان.
إن المقاومة قد حققت تلك النتائج الإيجابية، وأثبتت فعاليتها، ولم تعد معروضة للتجربة لأن التجربة نجحت في مرحلتين أساسيتين، حرب العصابات في العام 2000، وحرب المواجهة في العام 2006، لا سيما أن المرحلتين كانتا مثار إجماع شبه وطني شعبي، وسياسي إلى حد كبير. إن هذا الواقع يطرح مسألتين على بساط البحث، وهما:
-الأولى: إمكانية أن تتخذ أية حكومة في لبنان قرار دعم المقاومة الشعبية المسلَّحة من دون إجماع سياسي وطني. لأن قتال العدو مسلَّمة لا يجرؤ أي كان على إعلان معارضته لها.
-الثانية: إمكانية أن تتكامل قدرات نظامين عربيين رسميين متجاورين، في بناء استراتيجية دفاعية ضد العدوان الصهيوني.
إن هاتين المسألتين تعيدان إلى الذاكرة اتفاقية الدفاع العربي المشترك التي وُقِّعت في الستينيات من القرن الماضي، وأفشلتها نتائج حرب حزيران في العام 1967. ونحن نعتقد أن فشلها كان مرتبطاً بجوانبها الفنية وليس بجوانبها المبدئية، أي باعتمادها على مستلزمات الحرب النظامية التي تنتصر فيها نوعية التكنولوجيا العسكرية المستخدمة فيها، بحيث عندما تهزم تكنولوجيا متطورة تكنولوجيا متخلفة تنعكس الهزيمة على الجندي، فيحصل الاحتلال من دون عناء. الأمر الذي يستلزم الدعوة لتطويرها على ضوء نتائج المقاومة الشعبية المسلحة التي يأتي دورها متزامناً أو متلازماً مع الحرب النظامية، بحيث عندما تنهزم التكنولوجيا لا تنعكس هزيمة على الجندي، وعندما تبقى معنويات الجندي نائية عن مصير الآلية تدوم المواجهة بين جندي يقاوم على أرض يعرفها تمام المعرفة ضد جندي محتل لأرض يجهلها.
فالأمر الأول الذي نستخلصه هو أن تستثمر أي حكومة في لبنان مبدئية إيمان اللبنانيين كلهم بواجب الدفاع عن لبنان، باستثناءات نادرة يرتبط أصحابها بالمشاريع الخارجية المعادية تحت ستائر شتى، لكي يتفق الأطراف على سياسة دفاعية يتكامل فيها الرسمي مع الشعبي. ويأتي في مقدمتها تشكيل شعبي مقاوم يخضع لتأهيل وطني دقيق بعيداً عن الانتماء الطائفي.
2-على مستوى التكامل القومي العربي:
أما الأمر الآخر، وهو التكامل القومي بين قطرين أو أكثر، فيُعدان لاستراتيجية دفاعية مشتركة، بحيث يُعتبر القطر منهما جبهة داعمة للآخر. ومن هذا المنظار، يمكن لتجربة المقاومة اللبنانية، خاصة في مرحلتها الأخيرة، أن تشكل حافزاً مضموناً من أجل تطوير العقيدة العسكرية التقليدية بالانتقال بها من مفاهيم الحروب النظامية التي لا يمكن لأي نظام عربي أن يصل بها إلى مستويات التوازن مع القوى المعادية إلى مستويات التوازن بالرعب معها، وعلى مستويين:
-في المواجهة مع العدو الصهيوني تُستخدم منظومات الصواريخ العابرة.
-في مواجهة نوايا الاحتلال تُستخدم فيها عوامل التضحية والفداء كعقيدة لحرب العصابات.
وإذا كان لا بدَّ من الحصول على الدعم الدولي، فهو وافر وخصب حتى بين أقطاب النظام الرأسمالي الغربي، لأن هؤلاء الأقطاب تحكم علاقاتهم العمل على التوازن في ضمان المصالح، والعرب يمكنهم أن يضمنوا مصالح من يضمن مصالحهم. والأمر سيكون أكثر ترغيباً إذا نظرنا لمثل هذه العلاقة مع دول العالم الأخرى التي كانت تشكل القطب الثاني في الحرب الباردة قبل تفكيك الاتحاد السوفياتي.
3-على مستوى التكامل الإقليمي:
إن الهجمة الاستعمارية، خاصة بطبعتها الأميركية الجديدة، تستهدف العالم كله، وفي القلب منه مربع إنتاج البترول، وتقع إيران في هذا القلب. هذه الحقيقة تستدعي أن يكون الوطن العربي على تنسيق تام مع الإقليم الجغرافي المجاور لحماية المصالح المشتركة التي توجبها الجيرة الحسنة.
وإذا كان الأمر واضحاً بالنسبة لقوى المقاومة العربية لأهداف الإمبريالية، وأكثرها وعياً المقاومة الوطنية العراقية، فإن التجربة دلَّت على أن إيران ليست واعية بما فيه الكفاية لتلك الأهداف، وحتى وعيها الجزئي لها دفعها من أجل ضمان مصالحها إلى أن تقف إلى جانب قوى العدوان بدلاً من الوقوف إلى جانب الجار العربي.
وحيث إن لإيران مواقف داعمة لفصيل من المقاومة اللبنانية لمواجهة العدو الصهيوني، كما أوضحنا في فقرات سابقة من دراستنا هذه، ومواقف مغايرة ومستهجنة ومعادية للمقاومة العراقية، وقعت أوساط عربية واسعة في دائرة التضليل جراء هذا الالتباس وراحت تؤيد الجانب الإيجابي من تقديمات النظام السياسي في إيران للمقاومة اللبنانية، وتغاضت عن المواقف السلبية التي وصلت إلى حدود الجريمة المنظمة التي تمارسها في العراق التي من أهمها العمل على ذبح المقاومة العراقية بطريقة لا تقل شراسة عما يفعله الاحتلال الأميركي أولاً، وعلى ذبح العراق بتقسيمه وتفتيته ونهبه واجتثاث عروبته ثانياً.
إن الاحتلال الأميركي ما كان ليحصل لولا الدعم الإيراني، وما كان له أن يستمر لولا هذا الدعم أيضاً.
والحال على هذا المنوال يدفعنا النظر إلى الصورة بشكل معكوس، أي أنه لو سلكت إيران طريق الحوار مع الجوار العربي لكان من الممكن أن تضمن مصالحها بشكل أكثر ثباتاً بدلاً من أن تلتف على الحقيقة لتقوم بضمانها عن طريق الولايات المتحدة الأميركية التي عندما تتمكن من الاستقرار في الوطن العربي، وبشكل خاص في العراق، فإنها لن تترك لأحد مصلحة هذا إذا لم تبتلع تلك المصالح كلها وهي أقدر على ذلك من كل القوى العالمية.
نتيجة كل ذلك، كيف يمكن للمقاومة أن تؤسس قاعدة ثابتة لها، نرى ما يلي:
-ترسيخ أسس وطنية تشكل الضامن لاستمرارها.
-ترسيخ أبعاد قومية تضمن سلامة عمقها الاستراتيجي العربي.
-ترسيخ قواعد إيديولوجية وطنية لبنانية، وقومية عربية، تحول دون تحويل مسارات وظائفها الإقليمية الضيقة لمصلحة مقاومة توازن بين مصالح الثلاثي: الوطني والقومي والإقليمي.


24-الاختلاف حول الهوية الثقافية والهوية القومية
أزمة أساسية تعيق طريق حركة التحرر العربي

25/ 8/ 2008
إذا كنا نعترف بحق الاختلاف، وهو أمر ضروري في داخل المجتمع الواحد، كما هو حق ديموقراطي، إلاَّ أننا لا نجد في الاختلاف الدائر بين التيارات الثقافية العربية، حول الهوية الثقافية العربية، اختلافاً داخل الوحدة، بل هو اختلاف يقودها إلى خارج الوحدة. وإذا لم تكن الثقافة عاملاً أساسياً في توحيد المجتمع العربي، فلن تكون ثقافة لها هويتها العربية، وكل ثقافة تعمل على تمزيق المجتمع العربي من الدعوة إلى غير وحدة سياسية عربية، فهي ليست ثقافة قومية، بل هي ثقافة تكتسب هوية مشروعها السياسي الطامح إلى بناء وحدات أخرى على حساب الوحدة القومية العربية.
وإذا كنا نميِّز بين الاستفادة من كل فكر مهما كانت منابعه وبين أهدافه السياسية، نرى أن هناك علاقة بين هوية الثقافة ومشروعها الإيديولوجي، وبالتالي السياسي.
وهنا ترتفع في وجهنا أسئلة وتساؤلات عن أنواع الثقافات التي تسود في مجتمعنا العربي، مثل:
-الثقافة القطرية بمعنى تسويغ بناء أمم قطرية داخل الأمة الواحدة.
-والثقافة الدينية بمعنى ثقافة التيارات الدينية السياسية التي تتجاوز أهدافها حدود الأمة إلى خارجها تلك التي تعمل على بناء دول دينية أو مذهبية دينية ترتبط بمشروع أممية دينية.
-والثقافة الماركسية التي تربط الثقافة بمرجعيات فكرية أممية تتجاوز أيضاً حدود الأمة إلى خارجها.
-بعض التيارات الليبرالية المنفعلة بالحضارة الحديثة المرتبطة بعجلة النزعة الإمبراطورية الأميركية.
فهل التيارات الثقافية التي تعمل على بناء أمم داخل الأمة إلاَّ تيارات تكتسب هوية ثقافية تنتسب إلى مرحلة ما قبل القومية العربية؟
وهل التيارات الثقافية التي تجر أجزاء الأمة إلى وحدات أخرى تقع خارج حدودها إلاَّ تيارات تكتسب هوية ما بعد القومية؟ وإذا كنا حتى الآن لم ننجز بناء الأسوار السياسية لقوميتنا، فهل يمكننا الاعتراف بمرحلة ما بعد القومية؟
وهل التيارات الثقافية، كالثقافة الليبرالية التي هي مفتاح عام لثقافة التحرر في العالم، فيها ما يناسبنا وفيها ما يتعارض مع مفاهيمنا ذات الخصوصية، فالثقافة الليبرالية التي تدعو إلى الاستهلاك من حضارات الشعوب المتقدمة من دون الدعوة والعمل لبناء مجتمع الإنتاج، إلاَّ تيارات ثقافية تجرنا إلى الانتماء للمجتمعات الأكثر تطوراً صناعياً، وإنتاجاً حضارياً. وهل هي إلاَّ هروب إلى وراء يضعنا في دائرة الاتكالية بحيث نقتات من حضارات الأمم الأخرى ونستهلكها من دون العمل لإنتاج الحضارة، لكي يكون عندنا ما نقتات به ونسهم في توفير قوت عربي للأمم الأخرى؟
من الإجابة على هذه التساؤلات نستطيع أن نفهم أزمة الاتفاق على تعريف الهوية الثقافية العربية. تلك الهوية التي أصبحت كالعربة التي يجرها عدة أحصنة، كل حصان منها يجرها إلى اتجاه يعاكس تيار الأحصنة الأخرى، وفي مثل تلك الحالة سوف تنشطر العربة وتتشظى. والثقافة عندنا، حتى ولو كانت لغتها العربية، ومنتجوها من الذين يسكنون الأرض العربية، الثقافة التي لا تدعم أحصنتها قطر الدائرة إلى التماسك فإنها ليست ثقافة عربية.
فإذا كانت الثقافة القطرية مفهوماً يعود بالأمة إلى عصر ما قبل القومية، أي عصر الدويلات الطائفية، وهو بالتالي سيكون أقرب إلى خدمة التيارات الثقافية العابرة للقومية،
وإذا كانت الثقافة الليبرالية لا تكتسب هوية الثقافة القطرية ما قبل القومية، ولا تكتسب أيضاً هوية الثقافة عابرة القوميات، بل أهدافها تتلون وتنشد باتجاه هوية المجتمعات الأكثر تقدماً صناعياً وحضارياً، وتكون بهذا المعنى أقرب إلى المجتمعات الغربية،
ولما كانت الثقافتان القطرية والليبرالية حالتين ثقافيتين منفعلتين بمواصفات مجتمعية تتناسب مع مصالح مروجيهما، وهي ليست أكثر من ردة فعل على حالة التخلف السائدة في مجتمعاتنا، وهما ستزولان بزوال أسباب ردات فعلهما، فإن الثقافات الأممية، دينية وماركسية، لهما مشاريع سياسية مبنية على إيديولوجيا فكرية عابرة للقوميات لا يمكن العبور إليها إلاَّ بهدم الجدران القومية.
من أجل ذلك سنولي الاهتمام في دراستنا هذه للتيارات الثقافية ذات المشاريع السياسية المحددة، ولعلها الأكثر تأثيراً في الحفر تحت أسس الثقافة القومية من أجل تقويضها.
من كل ذلك نستنتج أن هناك أزمة ثقافية عربية فعلية، هناك اختلاف حول تحديد هويتها.

تعريف أزمة الهوية الثقافية العربية:
لا تعاني أمة على وجه الكرة الأرضية من أزمة هوية ثقافية شبيهة بما نعاني منها كعرب. فمفهومنا للأزمة حول الهوية هو أن الاختلاف حول تحديدها يؤدي إلى اختلاف على شتى جوانب الحياة، سواءٌ أكانت سياسية أم اقتصادية أم أمنية وعسكرية، بل إلى خلاف يعيقنا عن مواجهة مخططات الخارج بمنهج واحد واتجاهات واحدة ووسائل واحدة ويد واحدة. وما نشهده اليوم من اختلافات في الرؤى والإيديولوجيات حول هويتنا، يرتبط بما نشهده من ضعف في المواجهة في شتى القضايا العربية الساخنة، بل هو نتيجة لغياب الاتفاق حول مفهوم موحد حولها.
لم تكن الهوية أزمة حديثة بل لها جذورها التاريخية التي تمتد إلى عمق تكوينها الفكري والسياسي، أي منذ انهيار آخر حلم أممي إسلامي بسقوط الإمبراطورية العثمانية الإسلامية، وما شاب تطورهما من متغيرات، واختلافات عقائدية وجغرافية، وأحداث سياسية. وما انقسام المشاريع الإيديولوجية إلى قومية وأممية دينية وماركسية إلاَّ مظهر واضح من مظاهر الأزمة.
ولهذا، وكمثل كل القوميات الحديثة التي لم تعرف الاستقرار إلاَّ بعد صراع طويل، كانت قوميتنا عرضة لمتغيرات متواصلة لم نستثمرها بالوجهة الصحيحة وعلى قواعد صحيحة، بل كانت الأحداث السياسية والعسكرية هي المؤثر الأساسي التي تشكل عجينة ثقافتنا كما تشاء وكيفما تشاء.
ولعلَّ، في تقديرنا، كانت أسباب الانتشار والتوسع، بالمفهوم الإمبراطوري، الذي طبع الأحداث التاريخية للبشرية كافة، سبباً في ذلك. الانتشار الإمبراطوري الدولي، الذي انتعش في تاريخنا الحديث والمعاصر، كان قد أسهم في تقويض إمبراطورية عالمية أسسها العرب المسلمون، والمسلمون من غير العرب، وعملوا على تقويضها من أجل القضاء على كل حلم بالوحدة. وقد استخدموا كل عوامل السياسة والجغرافيا والفكر ووسائل المعرفة من أجل ذلك.
تلك الأزمة يديرها اليوم، اتجاهان إيديولوجيان: أحدهما قومي حديث، وثانيهما أممي قديم لم يتغير يقوده فكر ديني ذو أغراض سياسية يسعى لبناء دولة دينية عالمية تستمد سلطاتها مما تزعمه تشريعات إلهية، وأممي حديث تقوده فلسفة مادية تسعى لبناء دولة عالمية تستمد سلطاتها من تشريعات اقتصادية وضعية.
يستند المشروع القومي الحديث إلى فكر غربي حديث النشأة، استطاع أن يحل أكثر الأزمات حدة عند شعوب أوروبا، وتلك النظرية الفكرية، من هذا الجانب، يمكن أن تكون قد تواجهت بردود فعل سلبية على قاعدة الحكم بأن ما يأتي من الغرب هو أحد حكمين (إما غزو يجب رفضه كله، أو إشعاع يجب أخذه من دون نقد أو تمحيص).
ويمثل الثاني تياران:
-تيار أممي إسلامي يحاكي تجربة الإمبراطورية الإسلامية بآخر مظاهرها الخلافة الإسلامية في تركيا.
-وتيار أممي يحاكي الفلسفة الماركسية بآخر مظاهرها نظام الاتحاد السوفياتي من جانب آخر.
فالقومي الحديث والمعاصر يُبنى على أسس تاريخية يتَّخذ حقائق العصر بوصلة يهتدي بها. والقديم الأممي الإسلامي يتَّخذ الواقع التاريخي مرشداً له متناسياً حقائق العصر ومتغيراته. والأممي الحديث، بآفاقه ومنهجه الاشتراكي، يتخذ موقع الصراع في مواجهة الأطماع الرأسمالية، من أجل بناء دولة أممية.
إن أهداف تلك التيارات تقع على حدود متناقضة الأمر الذي يضع بعضها في مواجهة البعض الآخر، فتضيع هوية الثقافة، ويتم تجهيلها، تحت مطارق النزعات الأممية. وتلك التيارات هي:
-تيار الثقافة القومية العربية التي تعمل لمصلحة بناء دولة قومية.
-تيار الثقافة الدينية السياسية التي تعمل لمصلحة بناء دولة دينية عالمية.
-تيار الثقافة المادية الصرفة التي تعمل لبناء دولة مدنية عالمية.
ولأن تلك التيارات تمثل شرائح بشرية عربية واسعة، وتعمل على التبشير بإنتاج ثقافي باللغة العربية يتم استهلاكه عربياً وهضمه عربياً، وتنعكس تفاعلاته انقساماً حاداً ليس على مستوى النخبة فحسب، بل على مستوى الانقسام الفكري على البنية البشرية التحتية للمجتمع العربي أيضاً. وقعت هوية الثقافة العربية في أزمة، وتوزَّعت إلى هويات متعددة تتصارع على حساب مواجهة الغزو الإمبراطوري الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية.
وإذا كان الأممي الإمبراطوري الرأسمالي يعمل للاستيلاء على منطقتنا من الخارج، فهناك إجماع من التيارات القومية والتيارات الأممية، بشقيها، على مواجهته. ولكن يقود كل تيار وسائل المواجهة على طريقته ومنهجه العقيدي والسياسي، إلاَّ أن هذا الإجماع يبقى نقطة ضعف أساسية يعود سببها إلى أن المواجهة مع الخارج تترافق مع انتشار المواجهات الموضعية التي تدور بين التيارات الثلاثة حول تحديد هوية للعرب. أهوية عربية هي؟ أم هوية إسلامية تتجاوز حدود الأمة؟ أم هوية أممية مادية تهدف إلى بناء دولة عالمية؟
وبمثل هذا الجدل الداخلي صحَّ فينا القول: بيزنطية تتعرض للعدوان وأهلها يتلهون بجنس هويتنا. الأمر الذي يدفع بنا إلى معالجة مسألتين مركزيتين، وهما:
-الأولى: إشكالية تعريف الهوية الثقافية نتيجة لإشكالية الاختلاف حول هوية الأمة
إن وقوع الهوية الثقافية بأزمة ليس إلاَّ نتيجة لأزمة الاتفاق هول هوية أمتنا القومية، ومن السبب المؤسس يمكننا الانطلاق، والبحث والبناء وتوصيف المعالجات والحلول. ونحن نرى أن الإشكالية المطروحة ليست بالسهلة القريبة على المنال بقدرة سحرية، ولكنها لن ترقى إلى درجة المستحيل، بل يجب أن تبقى الحلم الأساسي الماثل في حركة دؤوبة تتصدى للمسؤولية فيها الحركة القومية العربية، أحزاباً وهيئات وقوى وشخصيات معنوية ومفكرين قوميين، تعمل على توحيد جهدها أولاً كتمهيد لا بدَّ منه لحركة حوار جدي مدروس مع التيارات الأخرى ذات الاتجاهات الأممية السياسية.
الثانية: تقوية جدران صمود الفكر القومي مسؤولية التيارات القومية
ومن أجل كل ذلك، يتطلب الأمر ورشة عمل فكري، تستند إلى نتائج البحث الأكاديمي الصارم، إذ بغيره انزلق الخطاب القومي الراهن إلى المحاباة والمجاملة والتنازل عن كثير من ثوابته، أو على الأقل جعل تلك الثوابت واهنة تنوء تحت أثقال ما تزعمه الحركات السياسية، خاصة منها التي تستند إلى حركة فكرية، صعوبة المواجهة مع الثقافة الشعبية السائدة.
وعلى شتى الأحوال يطرح هذا الأمر إشكالية ترتيب الأولويات: بين أولوية الخطاب السياسي أم أولوية النظرية الفكرية، ومن منهما عليه أن يصوِّب الاتجاهات للآخر.
كما يطرح البحث عن الإشكاليتين: أزمة هوية الأمة، وأزمة هوية الثقافة، إشكالية على غاية من الأهمية تشكل المدخل الأساسي في التغيير، وهي إلى متى يستمر انكفاء الأحزاب السياسية، العقائدية منها على وجه التحديد، عن النظر إلى المصالحة بين الفلسفة والإيديولوجيا؟

أولاً: تعريف هوية الثقافة
(ملاحظة: لم نقم بتوثيق ما ورد في الدراسة لأنها تعتمد على نتائج بحوث موسَّعة سابقة للمؤلف نُشرت في كتب ودوريات. لذلك اقتضى التنويه)
1-مفهوم الثقافة:
إن «التراث الثقافي هو مجموعة النماذج الثقافية التي يتلقاها جيل من الأجيال عن الأجيال السابقة، وهو من أهم العوامل في تطور المجتمعات البشرية، لأنه هو الذي يدفع المجتمع إلى السير خطوة جديدة في سبيل التطور، فعن طريق دراسة ذلك الإرث يصل العلماء إلى التجديد والابتكار». والمسألة التراثية هي هاجس إنساني لا تنحصر أهميته بالأمة صاحبة التراث فحسب، بل تستفيد منها المعرفة الإنسانية أيضاً، لأنها عبارة عن تراكمية المعارف في التراث الإنساني بحضاراته المتعاقبة المختلفة. وتراثنا العربي هو جزء من أهم أجزاء هذا التراث الإنساني لأنه الأقدم والأعرق في التاريخ.
فالثقافة تتميز بثلاث خصائص رئيسية: إنها إنسانية، وإنها تنتقل من جيل إلى جيل، أو من وسط اجتماعي إلى وسط آخر. وإنها قابلة للتعديل والتغيير، وفق ما يحيط بالإنسان من ظروف خاصة جديدة.

2-مفهوم الثقافة العربية:
هنا يستحضرنا التساؤل التالي: هل كل من كتب بلغة عربية، حتى لو سكن الأرض العربية، يعبِّر عن الثقافة العربية، بل هل اللغة وحدها هي التي تعطي للثقافة هويتها؟ وهذا يستتبع التساؤل التالي: لو كانت لغة التأليف هي التي تحدد هوية الثقافة، لكانت الكتب المعرَّبة من العوامل التي تسهم في تحديد هوية الثقافة العربية.
فهل الثقافة الدينية ذات الأهداف الأممية تسهم في تعريف هوية الثقافة العربية؟
وهل الثقافة العلمانية ذات الأهداف الأممية تسهم في تعريف هوية الثقافة العربية؟
إن كل ثقافة لا تستند إلى خصوصيات المجتمع القومي، ولا تهدف إلى خدمة هذا المجتمع، فهي لن تنتسب إلى ثقافة هذا المجتمع.
إن الثقافة الإسلامية، كانت ذات نشأة عربية، بلغة عربية، وعلى أرض عربية، وفي مجتمع شبه الجزيرة العربية، ومن أجل التغيير في البنى المجتمعية العربية، هي ثقافة عربية، لخصوصية أهدافها وأدواتها ووسائلها. لكن إذا انتزعنا منها خصوصياتها، ووظفنا تأثيرها لغير مصلحة الأمة العربية، فهل تبقى على صلة وثيقة بالثقافة العربية؟
وهذا يستتبع التساؤل التالي: هل تمثل الدعوات الإسلامية التي تؤمن بأن القومية العربية ما وجدت إلاَّ لمحاربة الإسلام، كلاً أو جزءاً، من الثقافة العربية؟
كما أن دعاة الفلسفة الماركسية ممن يسكنون الأرض العربية، ويتكلمون باللغة العربية ويكتبون بها، لكنهم يعتبرون القومية العربية شوفينية المضمون والأهداف، ويدعون إلى تجاوزها ومحاربتها، ويبشرون ويناضلون من أجل وحدة أممية، يفرضون علينا التساؤل التالي: هل يرتبط إنجاز الماركسيين العرب وكتاباتهم وتنظيراتهم، بأي رباط مع الثقافة العربية؟
جواباً على كل ذلك، نعتبر أن هوية الثقافة العربية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمضمون المشروع الثقافي الإيديولوجي لأية حركة فكرية أو أية حركة فكرية سياسية. فكل مشروع ثقافي يحمل مضموناً سياسياً أممياً، دينياً كان أم علمانياً، يقع خارج تعريف الهوية الثقافية العربية لأنه لا يعبِّر عن خصوصياتها.
وفق هذه الأسس يمكن التمييز بين الثقافة القومية كحالة تراكمية للمعارف الإنسانية، وبين ثقافة مرحلة معينة تمر بها الأمة. فالحالة التراكمية هي نقل ثقافة مرحلة لاحقة عن ثقافة مرحلة سابقة بجدلية ترفض السلبي وتبني على الإيجابي وتضيف شيئاً جديداً إليهما. هذا الأمر يساعدنا على تعريف الأمة وثقافتها، ويجعلنا نتساءل: هل الثقافة العربية كانت نتاجاً لثقافة إسلامية فقط؟ أم أنها كانت نسيجاً لتراكم جدلي تاريخي تفاعلت فيه ثقافات سابقة لشعوب عاشت في أماكن جغرافية مجاورة للجزيرة العربية؟
هذا الأمر نجده مدخلاً لمعالجة الالتباس الحاصل في مفهوم الأمة العربية كحالة تكوَّنت تاريخياً بشكل تراكمي بلغت أوجها في الإمبراطورية الإسلامية التي كان العرب يمثلون جزءاً منها. ومنه جمعت الأمة العربية بين حضارات الشعوب التي تشكل الآن جزءاً منها، تلك الحضارات تفاعلت بشكل جدلي أنتج ثقافة عربية تمثل المرحلة الإسلامية أهم مراحلها. هذا التفاعل أضفى على مفهوم الأمة العربية تعريفاً أوسع من العامل العرقي، ومن العامل الديني، ومن العامل اللغوي، ومن العامل الجغرافي البيئي، واتَّسع أكثر من وعاء ثقافة واحدة، إذ أصبح يعنيها كلها، إلاَّ أن عامل اللغة أسهم بشكل جدي وواضح في انصهار كل تلك العوامل في وحدة جديدة عُرفت بالثقافة العربية الواحدة. الثقافة التي يجد كل عرق من أعراقها حصة له فيها، كما يجد له مصلحة في المحافظة عليها وحمايتها. كما تجد كل ثقافة دينية، قبل تنزيل الدعوات السماوية وبعدها، حصة في تكوين الثقافة العربية سواءٌ أكانت هذه الحصة كبيرة أم كانت صغيرة. هذا الأمر يدفعنا إلى القول بأن كل ثقافة فرعية لها خصوصيتها ولها احترامها داخل الجسد الوحدوي، بما يغرس الاطمئنان في نفوس التجمعات المتعددة في المجتمع العربي، ويجد له حماية بالمحافظة على الوحدة المركزية التي وحدها تضمن لها حماية معتقداتها ومصالحها.
وإذا كنا نحفظ الدور الأكبر للمرحلة الإسلامية في التاريخ العربي، فإنما هذا الدور كما نعتقد لا يستند إلى العامل العرقي كما كان معروفاً قبل انطلاقة الدعوة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية. كما لا يستند إلى إلزام روحي إسلامي لكل تنوعات الأمة الروحية، لأن هذا الإلزام سيجرنا أيضاً إلى الاختلاف حول مذهبية هذا الالتزام. تلك الوقائع التاريخية: انتشار الدعوة الإسلامية خارج شبه الجزيرة العربية، شاملاً بلاد ما بين النهرين شرقاً، أي ما يُسمى بسورية الطبيعية، وشواطئ المحيط الأطلسي غرباً، والسودان جنوباً، أسهمت بشكل واضح في رسم معالم القومية العربية، وتشكلت من تفاعلها معالم الثقافة العربية.
هذا الجزء من الإمبراطورية الإسلامية حاز على شروط الحد الأدنى من الثقافة الإسلامية الموحدة عبر اكتساب اللغة العربية. فلعب عامل اللغة عند الشعوب والأعراق، التي أصبحت رعايا للدولة الإسلامية، دوراً كبيراً في اكتساب الثقافة الإسلامية، وأسس بنية حضارية اكتسبت خصائص الثقافة الجديدة متكاملة مع خصائص البنى الحضارية للشعوب والأعراق الأخرى.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الشعوب الأخرى، التي كانت من رعايا الإمبراطورية الإسلامية، والتي لم تكتسب اللغة العربية، لم تستطع التفاعل مع الدعوة الإسلامية، وبالتالي مع الدولة الإسلامية، وهذا ما تؤكده وقائع عودة تلك الشعوب إلى أحضان قومياتها وأديانها السابقة بعد انهيار الدولة الإسلامية الواحدة.
وإذا كانت الحضارات التي عرفتها دويلات المشرق العربي، دويلات سورية الطبيعية، من أقدم الحضارات في العالم، قد سبق تاريخها مرحلة سيادة الإسلام، فإن الإسلام شكَّل مرحلة من أهم مراحل التاريخ العربي، إلاَّ أن هذا لا يعني أن المرحلة الإسلامية كانت العامل الوحيد في تكوين الهوية العربية، بل كان لكل حقبة زمنية منذ آلاف السنين دور في تكوين تلك الهوية.
وإذا كانت الثقافة القومية نتاجاً لكل المراحل، ولا نستثني الدعوات السماوية منها، لأن كل واحدة أخذت عن التي سبقتها، وكانت الدعوة السماوية الأولى قد أخذت عن المراحل الحضارية والثقافية التي سبقتها. ويكفي في هذه الدراسة المتواضعة أن نشير إلى القليل من دلائل الحضارات التي سبقت الحضارة العربية الإسلامية، ومنها نستدل على الكثير من البراهين والأدلة التي تخدم استنتاجاتنا:
-بداية الخلق، والجنة، والطوفان. (( ) ديورانت، ول: قصة الحضارة (المجلد الأول / الجزء الثاني): جامعة الدول العربية: 1965م: ط 1: (ترجمة محمد بدران): ص 16. (لما تقدم العهد بمدنية السومريين (حوالي العام 2300 ق. م.) قام شعراؤهم بكتابة قصص عن بداية الخلق وعن جنة بدائية،، وعن طوفان مروع غمر تلك الجنة وخرَّبها عقاباً لأهلها على ذنب ارتكبه أحد ملوكهم الأقدمين. وتناقل البابليون والعبرانيون قصة هذا الطوفان، وأصبحت –بعدئذٍ- جزءًا من العقيدة المسيحية).
-قصة النبي موسى: مصدرها الأساطير السومرية ونقلتها الكتب السماوية. (ديورانت، ول: قصة الحضارة (المجلد الأول / الجزء الثاني): م. س: ص 18 – 19. (بعد العام (300 ق. م.) أنشأ سرجون الأول مملكة عاصمتها مدينة آجاد (على مسيرة مائتي ميل من دول المدن السومرية). لم يكن سرجون من أبناء الملوك، بل ابن عاهر من عاهرات المعابد. واصطنعت الأساطير السومرية له سيرة شبيهة، في بدايتها بسيرة موسى. وجاء فيها أن أمه –وضيعة الشأن- أخرجته إلى العالم سراً، ووضعته في قارب مُغلَق، فأنجاه أحد العمال، وأصبح ساقٍ للملك، فقرَّبه وازداد نفوذه. وخرج على سيده وخلعه وجلس على عرش آجاد).
-قصة آدم وحواء نجد لها أصولاً في المرحلة الآشورية. (( ) راجع فراس السواح: مغامرة العقل الأولى: ص 100. (وتجد الكثير من هذه الدلائل والبراهين في الحفريات السومرية منذ 2300 سنة قبل الميلاد).

ثانياً: أسئلة لا بدَّ منها على طريق حلٍّ للأزمة
إن البحث عن هوية للثقافة السائدة، في هذه المرحلة، يدفعنا إلى البحث عن أجوبة عن الأسئلة التالية:

1-هل لثقافتنا هوية قومية عربية؟
إن كل ظاهرة عامة، خاصة إذا كانت ظاهرة تتكرر عالمياً، فهي علمية. ولأن الظاهرة القومية تتكرر عالمياً فهي ظاهرة علمية. ونسترشد بما آلت إليه إمبراطورية الإسلامية عندما سقطت في الحرب العالمية الأولى، فعاد كل شعب إلى حدوده القومية بآخر وقائعها ومفاهيمها وعواملها قبل سقوط الإمبراطورية الأم وتفسخها. فعادت دول البلقان إلى أسوارها القومية، وتركيا إلى القومية التركية، وبلاد فارس إلى قوميتها الفارسية، وإسبانيا إلى قوميتها الإسبانية.
ونسترشد أيضاً بما آلت إليه الإمبراطورية الاشتراكية العالمية، فبعد سقوط الاتحاد السوفياتي الدولة العالمية الأم، عادت كل الدول التي شكلت هيكليتها إلى قواعدها القومية سالمة. إلى القومية الروسية، وإلى القومية الأوكرانية، والقومية البلغارية....
و لا بد هنا من الإشارة إلى حقيقة معرفية ثابتة تقول إنه لو جمَّدنا كل واقعة في التاريخ عند الحدود التي وصلت إليها، لكان العالم كله قد ثبت عند حدود صراعات القبائل، ولكان على المرحلة القبلية التي طبعت تاريخنا العربي أن تبقى ثابتة، ولكان يجب علينا الاستقرار عند مرحلة الغزو المتبادل الذي كان يطبع أهداف الزحف البابلي القادم من بلاد الرافدين باتجاه سورية ولبنان والأردن وفلسطين، وكذلك أهداف الزحف الفرعوني القادم من مصر. وكان يجب علينا تثبيت ممالك سبأ، وتدمر، وغيرها وغيرها...
2-هل هوية ثقافتنا هوية دينية؟
لما كان الفكر القومي قد نشأ في أوروبا ردَّاً على أممية الكنيسة واستغلال الشعوب الأوروبية تحت ستار التكليف الإلهي، والحيلولة دون تطوير العلم بحجة مخالفتها للتعاليم الإلهية، فقد استطاع، حتى ولو بمفاهيمه الشوفينية والفوقية، أن ينقل الأمم الأوروبية من عصر الظلام إلى عصور التنوير والتطور والتجديد الفكري والسياسي والعلمي والحضاري.
وهل كان حال الدولة الدينية في التاريخ العربي الإسلامي أقل قسوة من دولة الكنيسة؟
عن ذلك، تحت ذريعة أممية الدولة الإسلامية ورسالتها الإلهية، وشرائعها الثابتة، التي يعتقد الإسلاميون أنها تصلح لكل زمان ومكان، كانت علاقة السلفيين الإسلاميين بمحاولات التجديد والتطوير التي بذلها الفلاسفة والمفكرون الإسلاميون علاقة صراع وتكفير، انتصر فيها النقليون على العقليين، فأحرقوا الكتب وحاكموا المتنورين الذين نادوا بسلطان للعقل على النقل.
وإننا لو أخضعنا تلك الوقائع لمحاكمة عقلية تستند إلى مبدأ التفكير الحر غير المقيَّد، وعلى قاعدة تستند إلى أنه لا معرفة جديدة يمكن أن تكون مقطوعة الجذور عن المراحل المعرفية التي سبقتها، لخلصنا إلى نتائج مغايرة عن تلك التي توصَّل إليها المفكرون الإسلاميون السلفيون.
إن البحث عن تلك النتائج تستدعي الوقوف على معرفة المراحل التاريخية التي مرت بها مختلف الجماعات والمجتمعات التي عاشت في المنطقة التي رست فيها مراكب الأمة العربية وفق المفاهيم الحديثة والمعاصرة التي هي عليها اليوم.
وإذا فرضنا جدلاً أن الدين يشكل قاعدة وحيدة صالحة لثقافة واحدة في المجتمع العربي، سواءٌ أكان على الصعيد الوطني أم كان على الصعيد القومي، فمن الموضوعي أن نقوم بمعالجة الإشكاليات التالية:
-أي الأديان السماوية الثلاثة تشكل ثقافة لمجتمعنا، وبالتالي أي من تشريعاتها يمكن تطبيقها في المجتمع الوطني، والمجتمع القومي؟
-أي المذاهب الدينية يمكنها أن تشكل ثقافة لمجتمعنا، وأي تشريع مذهبي يمكن تطبيقه؟
-كيف نعالج إشكالية التكفير والتكفير المضاد بين الأديان من جهة، وبين المذاهب من جهة أخرى؟
-كيف نقارب بين التشريعات الأممية وبين التشريعات الدينية والمذهبية الدينية؟
-هل يمكن للأديان تبادل الاعتراف بعضها بالبعض الآخر؟
-هل يمكن للمذاهب الدينية أن تتبادل الاعتراف أيضاً؟
لقد قمنا بمعالجة هذه الإشكاليات بالكثير من البحوث العامة والبحوث التفصيلية، فلم نجد لها دواءً شافياً. ونتائج أبحاثنا، معطوفة على نتائج أبحاث عدد من المفكرين العرب، تشكل مادة أساسية تكفي للاتفاق على وضع خطة ثقافية تعمل على التمييز بين حاجة الإنسان إلى التهذيب الروحي، وبين إغراقه في المشاريع السياسية المستحيلة التحقق والتحقيق.

3-هل هوية ثقافتنا هوية أممية تستند إلى الفكر الماركسي؟
عندما دعت الماركسية إلى بناء دولة أممية مبنية على أسس وحدة حقوق العمال في العالم كونهم يتعرضون إلى الاضطهاد، فإنما بنت مشروعها الإيديولوجي على أساس قيمة عليا تستند إلى توفير حقوق المضطهدين وضمان تلك الحقوق. إن القيم العليا، بصفتها الإنسانية العامة، تشكل رابطاً بين أبناء المجتمع الواحد، ورابطاً بين أبناء المجتمعات الإنسانية كافة، إلاَّ أنها لن تشكل أساساً لبنيان سياسي عماده دولة عالمية، تحكم كل شعوب العالم. وإن الماركسية قد برهنت على استحالة تحقيق هذا الحلم بنفسها عندما نادت بقيام المجتمع الشيوعي القائم على أرضية انتقال الفرد من مرحلة المعرفة النفعية إلى مرحلة الذوبان المعرفي الكلي بالقيم العليا المجردة عن النفعية الفردية والاجتماعية من خلال قاعدتها الفكرية: من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته. بحيث يلغي بلوغ كل البشر هذا المستوى من الذوبان مفهوم الدولة بمفاهيمها التقليدية.
كان حلم الماركسية جميلاً ببناء دولة أممية توفِّر للإنسان حياة دنيوية سعيدة، شبيهاً بجمال حلم الوعد بالجنة بالمفهوم الديني الميتافيزيقي، إلاَّ أن تحقيق هذا الحلم غير متيسر بمقاييس الموضوعية العلمية على الكرة الأرضية. ولهذا تتحول ثقافتنا، إذا أصبحت عالمية بالمفهوم الماركسي، إلى ثقافة من دون هوية خاصة. وهنا يدركنا التساؤل: هل ما هو ثقافي غير واقعي يعطي هوية لثقافة يجب أن تمهّد الطريق لسعادة مجتمعات واقعية؟
وفي جانب الماركسية السياسي، من خلال إدراكنا لنتائج أسسها النظرية الإيديولوجية، تدعو إلى رفض القومية وتحول دون تحقيقها كحاجة واقعية من جهة، من دون أمل في تحقيق مجتمع عالمي أممي مثالي من جهة أخرى.
إلاَّ أنه، على الرغم من ذلك، فلا شيء يمنعنا من الاستفادة من مقولاتها وقوانينها الاقتصادية والسياسية إذا استطعنا أن نضفي عليها خصوصياتنا الثقافية العربية.
ثالثاً: نتائج ومقترحات
إذا كان موضوع بحثنا هو تعريف الهوية القومية، وبالتالي تعريف هوية الثقافة العربية، فإن الهوية القومية هوية عربية، وإذا كان هدف الثقافة العربية وضعها في خدمة الأهداف القومية، نستطيع أن نقف عند مسلمة هي أن الهوية القومية عبارة عن مركز قوة تجذب كل العوامل الثقافية باتجاه مركزيتها، وتضعها في خدمتها.
والتعددية داخل الفكر العربي، أو الثقافة العربية، بهذا المعنى يجب أن تنجذب باتجاه المركز القومي العربي. أما أن تكون طاردة إلى خارجها فهي تكون في خدمة كل الأهداف باستثناء الهدف المركزي القومي.
فالتعددية ذات المركزيات المتعددة، كما هو حاصل في الصراع بين النزعات الثقافية الأممية والأصول الثقافية القومية العربية، فهي في داخل الثقافة العربية تشكل عاملاً طارداً وجهته كل الجهات باستثناء مركزيتها القومية العربية.
أما الحل من أجل استعادة تعريف للتعددية الثقافية داخل الوحدة المجتمعية العربية فلا يمكن أن يتم من دون إعادة توجيه التعددية الحاصلة الآن، بنسختها الراهنة، إلى تحديد مركزية الجذب القومي العربي. ولكن على أساس أن تتم الاستفادة من التنوعات الثقافية التي تختزنها الثقافات الطاردة إلى خارج المركزية القومية، ووضعها في مصلحة المجتمعية القومية العربية.
وإنه بمثل هذا العلاج نخرج من أزمة تعريف الهوية الثقافية العربية، وتصبح التعددية عامل توحيد لا عامل تفتيت، عامل استعادة الوعي القومي لا عامل تغييبه وتجاهله.
وهذه هي أزمتنا الثقافية العربية، وإننا إذا أردنا أن نسهم في الحل، نقترح دراسة الخطوات التالية:
لا بدَّ، قبل كل شيء، من التمييز بين النزعات الإمبراطورية التي تعمل على تصدير نفسها إلى الخارج بوسائل سياسية وفكرية وعسكرية، وبين أنسنة القيم العليا التي يتم تصديرها بوسائل حوارية. فالأولى تعمل للاستيلاء على الأمم الأخرى من أجل إخضاعها بالقوة تحت أكثر من ذريعة، ومن أهمها:
1-النزعات الرأسمالية، ومن أبرز مظاهرها، في عصرنا هذا، مشروع أمركة العالم باعتبارها تمثل (نهاية التاريخ)، وقيادته على مقاييس الأفكار الرأسمالية.
2-النزعات الدينية، ومن أبرز مظاهرها، في عصرنا هذا، مشروعيْ (لا حاكمية إلاَّ لله) ومشروع (ولاية الفقيه)، باعتبارهما على الرغم من تناقض أهدافهما وتكفير أحدهما للآخر، يمثلان (أمراً إلهيا) لقيادة العالم إلى الخلاص في الآخرة. والنزعتان معاً يمثلان نهاية للتاريخ أيضاً.
3-النزعات الماركسية الأممية، وكان الاتحاد السوفياتي من أبرز تجاربها في التاريخ. وعلى الرغم من انهياره لا تزال نزعة بناء حلم أممي تسكن مخيلة الماركسيين.
4-على الرغم من أن بعض التيارات الدينية الإسلامية قد اختار بناء دولة قومية عربية، وعمل على تفكيك الكثير من ألغام الصدام بين القومية والدين إلاَّ أنه لا يزال التيار الأضعف، وهو بطبيعة الحال سيكون صلة الوصل في تعميق الحوار بين قومية أهداف مجتمعنا وعالميته.
5-على الرغم من أن قطاعاً من الشيوعيين العرب عملوا على المقاربة بين الماركسية، كنظام دنيوي اقتصادي، والقومية كنظام اجتماعي سياسي، إلاَّ أنه لم يبلغ المقدار الفاعل والمؤثر للتقريب بين الماركسيين العرب والقوميين العرب، من أجل إدارة حوار وتعميق اتجاهاته وأهدافه.
لكل من النزعات الثلاث أهداف القفز فوق القوميات والمجتمعات القومية، تلك الأهداف التي تجمد العالم بأسره داخل دائرة حروب لا تنتهي ولن تنتهي، وهي مشاريع الدول الدينية التي أثبتت وقائع التاريخ أنها لا تتمتع بصفة الاستمرار، ومشروع التوسع الإمبراطوري الأميركي الذي يشهد نهايته في العراق، هذا الأمر يدفع بنا للدعوة إلى أن تأخذ المرحلة القومية فرصتها بالنمو، باعتبارها نتاج الفكر الحديث الذي مهَّد الطريق أمام نشأة مجتمعات قومية متماسكة أسهمت بشكل جدي وملموس في بناء الحضارة الحديثة والمعاصرة. المرحلة القومية التي تعمل على بناء علاقة متينة بين دولة تعبِّر عن مصالح المجتمع من جهة، وترتبط بالمجتمع البشري بعلاقات متوازنة تحكمها القيم الإنسانية العليا من جهة أخرى.
وعلى قاعدة المصالحة بين الدولة والمجتمع القومي المتعدد، والمصالحة بين شتى القوميات على الكرة الأرضية، تُبنى أسس ثقافة عربية قومية تدين بالولاء لمصالح الأمة العربية أولاً، كما تبني لعلاقات إنسانية متكافئة مع الثقافات الأخرى ثانياً.
إن هذا الأمر يترتب عليه عودة التيارات الفكرية والثقافية الأممية إلى دائرة التعددية داخل الوحدة، على أن يسبقها خروج تلك التيارات من التعددية خارج الوحدة وضدها. ويقابل ذلك انفتاح القوميين على كل ما هو إنساني في إيديولوجيا تلك التيارات.
وبناء على كل ذلك نقترح المرور بالخطوات التنفيذية التالية:
أولاً: أن يبدأ التيار القومي، بكل فصائله، بدراسات تهدف إلى توحيد رؤيتها عن الفكر القومي.
ثانياً: دراسة التيارات الثقافية الأممية التي تعمل على ساحتنا العربية، وتحديد اتجاهاتها وأهدافها. وتشخيص نقاط التلاقي ونقاط الافتراق معها.
ثالثاً: الدعوة إلى حوار منظم بين تلك التيارات، وضمان شروط استمرارها.
رابعاً: صياغة النتائج المتفق عليها، والعمل على تعميمها ونشرها.
خامساً: العمل من أجل إنتاج ثقافة عربية موحدة، تحصنها أهداف سياسية تضمن توظيف جهود كل التيارات لخدمة القضايا الساخنة في الوطن العربي.
سادساً: أن تكون الأهداف الإنسانية، التي يُعبَّر عنها بالقيم العليا، الجامع المشترك بين كل التيارات، من أجل بناء فكر قومي بعيد عن التعصب والشوفينية.
سابعاً: خصوصية المجتمع العربي كونه منبعاً لكل الأديان السماوية من جهة، وللحاجة إلى موقف واضح من الثنائية الفلسفية (الروح والمادة) من جهة ثانية، يستدعيان من الفكر القومي العربي أن يحدد موقفاً منها. وهذا لا يعني الإغراق في المسألة الدينية، أو الدعوات المادية، بل العمل بما يشبع حاجة الإنسان الروحية الميتافيزيقية كجامع إنساني عام بين كل المجتمعات البشرية. هذا الأمر يستدعي التمييز بين مسألتين:
1-تهذيب معتقدات ووسائل الانتماء إلى دين أو مذهب.
2-توحيد التشريعات المدنية التي تساوي بين الجميع، على قاعدة العدل والمساواة في الحقوق والواجبات الأمر الذي يوجب على الدولة القومية أن تستحضر في تشريعاتها كل ما يضمن للمجتمع القومي عوامل الوحدة والدفاع عن تلك الوحدة.

25-المقاومة العراقية تعيد الحيوية لحركة دول الإقليم والعالم
فهل تشهد الأيام التي تفصلنا عن الانتخابات الرئاسية في أميركا
حركة دولية وإقليمية وعربية تجاه المقاومة العراقية؟
في 24/ 9/ 2008 حسن خليل غريب
لا يمكن قراءة صورة الوضع الدولي في اللحظة الراهنة من دون التعمق في دور المقاومة الوطنية العراقية، هذا الأمر يعود بذاكرتنا إلى عشية اتخاذ القرار الأميركي المنفرد بالعدوان على العراق.
في ظلام تلك العشية، كان النظام الدولي الجديد قد أسقط أوراق اقتراعه في صندوقة اختيار أميركا زعيمة مكللة الهامة على العالم. لا يغير في الصورة شيئاً أن يكون البعض قد اقترع لصالحها خوفاً ورهبة، والبعض الآخر تملقاً من أجل الحصول على رضى شركات جورج بوش ومن يمثل، والبعض الثالث، ومنهم روسيا وفرنسا وألمانيا، مانعوا الحرب ولم يقترعوا لصالحها، ولكنهم سكتوا مرعوبين من ردة فعل الإمبراطور الجديد.
باختصار شديد لقد اهتزت ركب الكبار، فكيف بركب الصغار؟
وليس بعيداً عن ذاكرتنا مشاهد الزحف الكبير الذي نظَّمه الكبار عشية احتلال بغداد، منهم من راح يمنن بمواقفه، ومنهم من أخذ يعتذر عن تقصير بدا منه، ومنهم من تلا فعل الندامة لأنه عارض أو اعترض.
ولم يمر شهران اثنان على احتلال بغداد حتى أخذ دخان المقاومة العراقية الأبيض يتصاعد من مداخن كل قطعة أرض في العراق، الأمر الذي دفع بجورج بوش إلى لحس توقيعه على الأمر العسكري عندما بشّر جنوده بالنصر، ودعاهم فيه إلى حزم أمتعتهم للعودة إلى بلادهم.
منذ تلك اللحظة أخذ المتهافتون على عتبات البيت الأبيض يتراجعون عما فعلوه مذهولين بما يحصل على أرض العراق إذ أخذ يحصل ما لم يكن بحسبانهم، فأخذوا يعيدون حساباتهم، وتصاعدت لهجات رفضهم واستهاناتهم بمزاعم إمبراطور العالم الجديد عندما اكتشفوا أنه يتحول إلى نمر من ورق، كما يتحول إلى أسد تقتلع المقاومة العراقية أنيابه واحداً تلو الآخر.
وازدادت استهانتهم به خاصة عندما أقلع عن مزاعمه بأن أميركا تستطيع أن تروض العالم بعد أن تحتل العراق بقدراتها وإمكانياتها الذاتية، وكانت أوضح البراهين عن هذا الإقلاع عندما أخذ يستنجد بدول العالم لكي تساعده على اجتياز مآزقه في العراق. وجاء الدعم الإعلامي من خلال القرار 1546، في حزيران من العام 2004، ولكنه كان دعماً على الورق، والسبب أنه لم يُضَف إلى إمكانياته أي مجهود بالمال أم بالجنود. وإن العكس هو الذي حصل عندما أخذت أسماء الدول المساندة له على أرض العراق تتناقص.
ومنذ تلك اللحظة، وكلما كانت مآزق الاحتلال الأميركي تزداد، كان دلال الدول الأخرى يزداد في المقابل، وهي تلك التي كانت تبتهل من أجل كسر الذراع الأميركية في العراق لأنها لا تستطيع كسرها، فانتظرت من المقاومة العراقية أن تكسرها وتستفيد منها.
إن ما نشهده اليوم من تحولات على الصعيد الدولي، من حركة هنا أم هناك، أو مناوشة هنا أم هناك، بين تلك الدول والإمبراطور الأميركي، ليست إلاَّ نتيجة تراكم نوعي أحدثته المقاومة العراقية بُني على تداعيات إضعاف قوة الاحتلال طوال أكثر من خمس سنوات. وهنا لا بدَّ من تسجيل حقيقتين:
-حقيقة علينا أن نفخر بها، وهي أن المقاومة العراقية روَّضت الأسد الأميركي بمقدرتها وقوتها الذاتية وفتحت الأبواب واسعة لكل من له ثأر أو من يسكن قلبه خوف ورهبة للاستقواء على إمبراطور العالم الذي لم يهنأ بوضع أكاليل الغار على رأسه.
-حقيقة أخرى تجعلنا نرفع علامات الاستفهام والأسى، عندما نرى المستفيدين من دم ثوار العراق وجهدهم ومعاناتهم وتضحياتهم، لا يشيرون إلى هذه الحقيقة ويضعونها في مكانها الصحيح، ويعترفوا أنه لولا نضالات المقاومة العراقية، لكانوا لا يزالوا يمارسون طقوس عبادة فرعون أميركا والتقرب منه زلفة ونفاقاً.
إن تجاهل هذه الحقيقة، شبيه بتجهيل الإعلام الأميركي لحقيقة هوية المقاومة العراقية وإلباسها إلى تنظيم القاعدة، وهي خطأ أخلاقي بلا شك. وإن كنا نعرف مدى ضرورة هذا التجهيل عند الأميركيين خاصة وأنهم يمارسون سياسة بلا أخلاق، فإننا نرى في تجاهل دور المقاومة العراقية، وهو الدور الأساسي الذي قلب موازين القوى العالمية رأساً على عقب لصالح كل حركات التحرر في العالم، وحتى للأنظمة والدول، نرى في هذا التجاهل تجاهلاً للقيم الأخلاقية التي على الحركات والدول أن تتميز بها.
وإذا كان لا يحبط المقاومة العراقية هذا التجاهل فإنما لأنها تحمل رسالة إنسانية وقومية ووطنية لا يضيرها من يعترف بها أو يتجاهلها. فهي مستمرة في أدائها ومستوى نضالها المفعم بإيمان سيادة شعبها وأرضها وثروات أرضها الوطنية.
فالمقاومة الوطنية العراقية وعت أهدافها ومصالح شعبها وأمتها وهي تعمل من أجل تحرير تلك المصالح، وعلى دول العالم الأخرى أن تعي أن مصلحتها لا يمكن أن تكون موفورة ومأمونة إلاَّ بدعم نضال تلك المقاومة وتوفير سبل الإسراع في خنق الأخطبوط الأميركي الجديد الذي يعمل على خنق كل دول العالم وحركاته التحررية.
إن صورة العالم اليوم لا توحي بأن الدول الكبرى مستعدة لإنقاذ إدارة جورج بوش، أو أي إدارة على شاكلتها، لأنها وإن أتيح لها مقاومة بعلو قامة المقاومة العراقية في هذه المرحلة فقد لا تتوفر لها تلك الفرصة في المستقبل، ولذلك تبدو الدول الكبرى ناشطة من أجل تمهيد الطريق أمام نظام عالمي جديد يخلف النظام الإمبراطوري الأميركي، وهو حتماً سيكون نقيضاً لأوحدية الأمر الأميركي واستفراده بحكم العالم، وسيكون في حدوده الدنيا نظاماً متعدداً تشارك فيه الدول الكبرى في صناعة القرار الدولي.
ليست أحداث جورجيا إلاَّ الشرارة التي أطلقت المارد الروسي من قمقمه. وهو استفاد من مرحلة الوهن الذي أصاب الأسد الأميركي في العراق أولاً، ولبنان ثانياً، وأفغانستان ثالثاً، وفلسطين رابعاً، ومن كل حالات الرفض والممانعة في العالم خامساً.
وليست الصين بأقل رغبة من روسيا في رؤية الأسد الأميركي من دون أنياب، وإذا كانت روسيا تخوض معركتها مع أميركا على نار حامية، فإن الصين تخوضها على نار باردة، نار المنافسة الاقتصادية.
أما الاتحاد الأوروبي، ظاهراً بالحركة الفرنسية النشطة، على الرغم من انتمائه إلى المعسكر الرأسمالي إلاَّ أنه يريد أن يحافظ على مصالحه من دون هيمنة أو رقابة أميركية أو أي وصاية على شركاتها تفرضها الشركات الأميركية.
باستثناء إيران التي ستتخبط بين أكثر من إستراتيجية في المستقبل: إستراتيجية احتلال موقع قوة في المنطقة على حساب ضعف دولها، أم إستراتيجية بناء موقع قوة في المنطقة بين دول قوية متحالفة ضد المشروع الإمبراطوري الأميركي، لا يقل الإقليم المجاور لحدود الوطن العربي حرارة في التمهيد لبناء نظام إقليمي جديد. وحركة الإقليم اليوم تُصوِّب اتجاهاتها نحو دول الوطن العربي.
سواءٌ أكانت تلك الحركات والتداعيات التي سبَّبها النزاع الأميركي الروسي تعمل من أجل ضمان مصالحها في مرحلة ما بعد انهيار الاحتلال الأميركي في العراق، أم كانت تعمل لنسج تحالفات بين العرب والإقليم ودول العالم الأخرى، فإنها في غمرة حركتها الناشطة، لا يجوز أن تتجاهل وقائع الأمور وحقائقها، ومن أهمها:
-أن لا تتناسى في معرض مفاوضاتها النشطة، الحقيقة الأولى والأخيرة وهي أن برامجها لن تكون مأمونة ومضمونة إلاَّ من خلال المحافظة على المقاومة العراقية أولاً، وتوفير سبل إدامة زخمها وقوتها ثانياً.
-إن أي طاولة للمفاوضات والتخطيط لبرامج المستقبل لا تحفظ كرسي الصدارة للمقاومة العراقية تكون كمن يبني برامج لتطبيقها على أرض رملية.
-إن المقاومة العراقية لديها مشروع إعادة بناء العراق بعد التحرير، وهي تدرك أن للدول مصالح واقعية، وللعراق مصلحة في بناء علاقات معها.
وإذا كنا نحسب أن المقاومة العراقية تحتاج إلى فتح علاقات مع تلك الأطراف، لكنها لن تستجديها، فهي التي صنعت القرار الذي يقوم الآخرون بصياغته، وهي التي أثّرت في صناعة عناوين هذه المرحلة الكبرى، وهي التي قامت بكل ذلك من دون مِنَّة لأحد، فهل تشهد الأيام التي تفصلنا عن الانتخابات الرئاسية في أميركا حركة دولية وإقليمية وعربية تجاه المقاومة العراقية؟

26-الحلول الراهنة للأزمة اللبنانية بين الثوابت والمتغيرات
افتتاحية طليعة لبنان الواحد
شهر أيلول 2008
عندما يتخلخل البناء تتسلل إلى شقوقه كل عوامل التفتيت لمنع إعادة اللحمة إليه. وما يمنع تلك العوامل من أن تقوم بدورها التفتيتي هو إعادة اللحمة إلى البناء من جديد، حتى لا يتعرض إلى الاهتراء، وينشغل مالكوه بعمليات ترميم متواصلة لا تصمد طويلاً أمام عاديات الزمن.
إن إعادة البناء في لبنان بقوة ومتانة لها شروط وثوابت، تبدأ بمعالجة أمراض الطائفية أولاً، والطائفية السياسية ثانياً، وإرساء أسس التربية الوطنية ثالثاًً، وتوفير الشروط اللازمة لعلاقات قومية عربية رابعاً.
إن أسس المعالجات تقوم على خطط استراتيجية، وخطط مرحلية. ولا يمكن للخطط المرحلية أن تصمد وتشكل علاجاً شافياً ما لم يتم تأسيس خطط استراتيجية تشكل البوصلة الموجهة لكل مرحلة بعد مرحلة.
ما يجري الآن في لبنان من طوفان من المبادرات، ومنها المصالحات القائمة على قاعدة المناطق تارة والطوائف تارة أخرى، ليست إلاَّ محاولات ترقيعية تعمل على تقطيع الوقت الضائع في زمن ربط لبنان بعجلة الخارج ومصالحه.
إن موجة المصالحات التي يشهدها لبنان اليوم، على الرغم من بعض ذيول الفتنة النقالة، حاجة ضرورية تفيد في تفريغ حِقَن التعبئة والتحريض التي اجتاحت لبنان في الماضي القريب بشكل مخيف دفع بعفاريت الفتنة إلى الانتشار أفقياً بحيث لم تسلم منه إلاَّ القوى التي تنظر إلى المستقبل بعيون وطنية.
مفيدة تلك المصالحات مرحلياً إلاَّ أنها لن تصمد استراتيجياً، فيكون الأكثر فائدة منها وضع حلول استراتيجيه ثابتة تقوم بتحصين المواطنين والوطن من غوائل المستقبل، وهنا رداً على موجة المصالحات الجارية، يصح المثل القائل: (رحم الله ليس من جبرها، بل رحم من منعها من الكسر).
ولا شك بأن الذي يجبر العلاقات اليوم قد أسهم بشكل أو بآخر بكسرها، ولكي لا يضطر اللبنانيون أن يغرقوا في دواء الجبر في المستقبل وهو دواء مرحلي سيأتي من العوامل ما يعيد هدمه، عليهم أن يجدوا الدواء الذي يمنع الكسر في العلاقات كلما تناقضت مصالح القائمين بالمصالحات الآن.
مفيدة طاولة الحوار بعد المآسي التي شهدها لبنان منذ أكثر من سنتين من الانقسام والفرقة، وكان قد سبقتها انقسامات ومآس طوال الأربعين عاماً المنصرمة، والأكثر فائدة منها الاتفاق على أن يكون الحوار قاعدة ثابتة. وأما الحوار فسيبقى مهزوزاً والوطن مهتزاً إذا لم يستند إلى عوامل ثابتة ودائمة من قواعد التعددية ضمن الوحدة، وليست التعددية ضمن إيديولوجيات التفتيت والفرقة، وهل هناك من عوامل للتفتيت أكثر من الطائفية؟
إن المصالحات التي تنتقل من منطقة إلى منطقة، ومن طائفة إلى طائفة، لن تنتج خبزاً إلاَّ من العجين الذي خُبزت منه، والعجين ليس أكثر من طحين طائفي، وطائفي سياسي، أنتجته مطاحن الطائفيين المستفيدين منه لتثبيت مواقعهم في السلطة تحت ذريعة حماية حقوق الطوائف، بينما لم يعرف تاريخ لبنان إلاَّ حقيقة واحدة وهي أن أكثر الذين ظلموا أبناء طوائفهم كانوا من الذين يزعمون حماية حقوقهم.
وأما طاولة الحوار، التي حصرت كل قضايا لبنان ببحث قضية (الاستراتيجية الدفاعية)، أي القضية التي كانت محور خلاف دامٍ بين الأفرقاء السياسيين، بحيث انقسمت الطوائفيات السياسية بين مؤيد لمقاومة العدو الصهيوني وبين داع لسياسة الابتعاد عن العمل العسكري في حسم الصراع معه، فقد رافق الخلاف التباسات عديدة وإشكاليات أكثر عدداً منها، وصل الأمر بالمنقسمين إلى حدود تبادل الاتهامات بالتخوين، وتصنيف بعضهم للبعض الآخر بوطني وغير وطني، وبملتحق بهذه السياسة الخارجية أو تلك.
وهنا لا بدَّ من أن نولي هذه المسألة اهتماماً خاصاً واستثنائياً، لأن البحث فيها ما يفيد تشخيص الأمراض المستفحلة بين اللبنانيين.
إن دون الوصول إلى اتفاق حول هذه الاستراتيجية عوائق وأسباب، ومن أهمها عوامل الجامع الوطني وعوامل الجامع القومي، تلك العوامل التي من دون الاتفاق على أرضية ثابتة لها لا يمكن اللبنانيين، أو القوى المتحاورة / المتحاربة، أن يتفقوا على تفاصيلها، أو حتى عناوينها الكبرى. وتلك العوامل هي:
أولاً: من خصائص الاستراتيجية أن تُقفَل أبواب العلاقات مع الخارج إلاَّ ما تفترضه من تكافؤ ومصالح تصب في مصلحة لبنان الواحد:
إن الفتنة المتنقلة من منطقة في لبنان إلى منطقة أخرى، على الرغم من محدوديتها، تبرهن على أن تشريع أبواب لبنان على الخارج، ثبَّتت أقدام كل أنواع المخابرات الخارجية، التي من أهم مهماتها أن تعرقل أي حل لا يحظى بموافقة الجهات التي وظفتها. كما أن هذا التشريع، إضافة إلى غياب الحصانة الوطنية أو ضعفها، جعل جدران لبنان وأسسه هشَّة أمام اختراق أمن لبنان بسهولة ويسر.
-ثانياً: خصائص الاستراتيجية يجب أن تكون وطنية:
-بأهدافها بحيث يُجمع اللبنانيون على أهمية الدفاع عن أرض الوطن.
-بمشاركة كل اللبنانيين في تشكيل القوة الكفيلة بإنجاح مهمة المقاومة.
-منع استخدام السلاح المقاوم، مرحلياً وقبل إقرار أية خطة دفاعية، من الإخلال بالتوازن الراهن بين التعدديات اللبنانية.
تلك العوامل يمكن ضمان حمايتها باعتبار وجود دولة لبنانية، يحكمها نظام سياسي يؤمن بعقيدة الدفاع عن لبنان، ومن أهم أسسها تأهيل اللبنانيين لممارسة المقاومة الشعبية في ظروفها الزمنية والمكانية.
إن وجود دولة ضامنة لهذا الحق، ومحتضنة له، ستعيد عوامل الثقة المفقودة بين اللبنانيين ممثلة برموز أطيافها السياسية والطائفية. ولا يمكن الحصول على مثال لهذه الدولة إلاَّ بتميزها بمواصفات وطنية تقترب من كل ما هو هدف جامع، ومستبعدة كل ما هو عامل تفتيت واحتراب، وهذه لن تتوفر إلاَّ بتنازل الطوائف عما تزعم أنه من حقوقها لتصب في مصلحة الوطن. فهل القوى المؤثرة في صياغة القرار اللبناني على استعداد للتنازل؟
ثالثاً: خصائص الاستراتيجية يجب أن تكون قومية عربية:
بما أن هوية لبنان عربية، والوطن العربي يتعرض إلى حملات تفكيكه وتفتيته والقضاء على كل أمل في وحدته.وبما أنه يتعرض إلى عدوان صهيوني مباشر كونه مُستَهدَف كقطر عربي. يستتبع ذلك اعتبار مواجهة الصهيونية مهمة استراتيجية عربية شاملة، يرتِّب على لبنان وعلى غيره من الأقطار العربية مهمة الإعداد لموجبات الدفاع عن أرضه وحمايتها من الاحتلال. ولا ينتقص من هذه الحقيقة أن بعض الأنظمة العربية قد استقالت من مهمتها القومية. لكل ذلك لا يمكن اعتبار أمن لبنان الوطني معزولاً عن الأمن القومي العربي، بل يأتي في القلب منه. ولهذا السبب لا يمكن أن يُكتب النجاح لأي استراتيجية دفاعية عن لبنان من دون ربطها بعمقها القومي العربي، ومن أهم عوامل نجاحها واستمرارها التالية:
1-أن تكون الاستراتيجية ذات عمق قومي، ولا يغيِّر الأمر علاقات سلبية مع هذا القطر أم ذاك. بل أن يسعى لبنان إلى بناء علاقات سليمة من أجل تحصين الإستراتيجية الدفاعية الوطنية.
2-أن تكون الاستراتيجية الدفاعية، بفعل عقيدتها العسكرية الجديدة القائمة على تكامل الطاقات الشعبية مع طاقات الدولة اللبنانية، ذات اتجاهات تكاملية مع كل المقاومات العربية، والامتناع عن التصادم بينها أو التناقض، ورفض أي ذريعة كانت تحول دون تكاملها، ومن أهم تلك الذرائع التعارضات في الانتماءات السياسية أو الحزبية.
3-أن تنعكس تأثيرات الاتفاق على الإستراتيجية الدفاعية في لبنان على نشر وتعميم تربية وطنية قومية تكون من أهم أسسها أولوية الصراع مع العدو الصهيوني.
إننا، ومع تأييدنا لخطة دمل الجراح، والقفز فوق الصراعات الجانبية، ندعو إلى وضع ثوابت الحل والاتفاق حولها قبل الانخراط في بحث التفاصيل، لأننا نخشى أن تغرقنا التفاصيل فنغرق في لججها، ونعود إلى نقطة الصفر في كل مرة تتناقض فيها مصالح الطبقات الحاكمة. فدعونا نتفق حول الثوابت لكي تأتي المتغيرات ثابتة تصمد في كل وجه كل الأنواء والعواصف.

27- مقابلة مع جريدة العرب اليوم الأردنية
الفلسفة تصوب الحقيقة الموضوعية باتجاه القيم المقدسة
المفكر والباحث اللبناني حسن غريب لـ "العرب اليوم"
غياب المؤسسات الفكرية في الوطن العربي
التعددية داخل الوحدة تعددية سليمة تغني الفكر والثقافة

8/10/2008: العرب اليوم - آيه الخوالدة/ تصوير: عاطف العودات
لم يكمل رسالة الدكتوراه انما تم منحه اللقب مستندين على الابحاث التي قام بها, الى جانب مؤلفاته الثلاثة عشر والتي تنوعت بين الاطار الفكري النظري وبين ما يتعلق بالمقاومة العراقية. كما اولى الاهتمام بالبحث حول اصول الفكر الديني من منطلق نقدي, واعتبر انه يصب في مصلحة المسالة القومية العربية ككل. في كتابين هما " الردة في الاسلام" و " في سبيل علاقة سليمة بين العروبة والاسلام". التقت العرب اليوم المفكر والباحث اللبناني حسن غريب على هامش مشاركته في مؤتمر الجمعية العلمية الفلسفية, بادرناه بالسؤال عن هذا المؤتمر الفلسفي فقال: العنوان الرئيسي للمؤتمر واضح " اشكالية الهوية في ضوء التحولات العالمية" الحاصلة على الارض العربية بوجود التيارات الثقافية المتعددة. ولقد حاولت ان امنح ذوقا حول هذه التيارات المتغيرة لان تسارع هذه الثقافات يصنع الهوية العربية في التيار الثقافي القومي العربي, بغض النظر اذا كان مكتملا او غير مكتمل بسيرته الراهنة ام يريد تجديده, لكنني انحاز الى هذا الفكر القومي العربي.
هناك تياران اثنان في مواجهة التيار القومي العربي هما التيار السياسي الديني الاسلامي الذي يرفض فكرة القومية العربية وبالتالي يرفض ان يكون هنالك وحدة للارض العربية. التيار الاخر هو الماركسي الذي يعتبر الدعوة القومية دعوة شوفينية, اذن يتجاوز حدود المسالة القومية العربية الى بناء دولة اممية سياسية على المستوى العالمي. هذان التياران الديني السياسي والماركسي غير متفقين على الاطلاق.
ومثال على ذلك ما يحدث الان في العراق, فاذا كان الاسلام يدعو للجهاد في وجه اي غاز لاي ارض اسلامية, فما الذي يفسر وقوف التيار الاسلامي بالعراق مع الاحتلال? ما يفسر ذلك، هو المشروع الاممي الذي لا يهمه التقسيم الحاصل على مستوى الامة العربية, بل يعمل على تقسيم كل قطر على حده.
اذن وحدة الثقافة وحوار الثقافات الموجودة على الساحة العربية بين التيار القومي والتيارين الاممين هو المنطلق الصحيح لاعادة توحيد الثقافة.
* تتحدث في ورقتك المشاركة عن ازمة تعريف الهوية الثقافية واسبابها المتعلقة بتعريف هوية الامة, فكيف يكون ذلك?
- هناك تيارات ثقافية متعددة بالوطن العربي. هي التيار القومي : يدعو لوحدة الامة العربية وترجمة المسألة القومية الى دولة سياسية.
التيار الماركسي : يعتبر ان بناء دولة عربية قومية من المحيط والخليج عائق لبناء دولة اممية على المستوى العالمي, مثل سقوط الاتحاد السوفييتي, الذي كان يشكل مركزية الفكر الاممي الماركسي. والتيار الديني: يعمل على بناء دولة اسلامية عالمية.
اذن هو خلاف ثقافي اساسه ايدولوجي قومي يعمل على بناء دولة قومية عربية "اسلامية, سني, شيعي" وهذا الخلاف الثقافي يعود الى عدم الاعتراف بوجود قومية عربية ووحدة هذه الامة.
* ماذا تمثل لنا الفلسفة في حياتنا اليومية?
- الفلسفة فكر انساني يأخذ القيم العليا, بمعنى الاخلاق الصدق, الكذب, العدل, المساواة, هذه القيم منتشرة بكل العالم وموجودة في كافة الاديان لكن كل دين يسبغ على اخلاقيته القدسية الالهية. اذا اخذنا هذه الفضائل العليا من الدين الاسلامي يصح لان يكون ديناً عالمياً لكن من دون خصوصيات العبادات والتقاليد وخصوصيات المقدس.
في الفلسفة ننظر الى القيم العليا من ناحية مجردة منتشرة في كل المجتمعات, بينما كل الدعوات الدينية التي تدعو الى التعصب لفضائلها في مواجهة فضائل الشعوب الاخرى, هي بعيدة عن الفلسفة, اذن الفلسفة هي التي تصوب الحقيقة الموضوعية في كل زمان ومكان باتجاه هذه القيم, تنير عليها وتدعو كل البشرية للانتماء لها.
* ما هو دور الفلسفة في التواصل ما بين الحضارات والثقافات المختلفة?
- بالتأكيد لها الدور الاكبر, ومثال ذلك فلسفة ارسطو التي كانت قبل الاديان الوثنية, التي تدعو الى القيم العامة, وكانت تدعو الى القيم اليونانية. الى جانب فلسفة افلاطون وسقراط. الفلسفة العربية استندت الى الفلسفة الاغريقية التي هي الاساس وحاولت ان تنتج خطابا فلسفيا اسلاميا عربيا يعبر عن القيم العربية والاسلامية فكل فيلسوف عربي خرج خارج اطار التعاليم الفقهية للتشريع الاسلامي اتهم بالردة وحوكم وحرقت كتبه والبعض منهم قتل. بينما استندنا نحن بالفكر الفلسفي على الفكر الاغريقي, واستند الفكر الفلسفي الاوروبي الحديث على الفكر العربي.
فاول من اثر في الفلسفة الغربية هو ابن رشد" ابو الفلسفة الغربية" لكن حرقت كتبه وحكم عليه بالردة ونفي من منطقته.
* هل للفلاسفة العرب حضور في ساحة الفكر الفلسفي?
- لقد حصلت على شهادة البكالوريس في تخصص " علم الفلسفة والاجتماع وعلم النفس" والذي يحدث الان ان الالقاب العلمية لها الاهمية الاكبر ولذلك يعرف الفيلسوف بلقبه العلمي لا بدراساته الفلسفية.
وعدم انتشار هذه التأثيرات الفكرية للانتاج الفلسفي في العالم العربي هو عدم نشاط القارئ العربي, فاذا دعينا الى محاضرة يلقيها رجل دين سنجد المئات بل الألوف, بينما اذا القى المحاضرة رجل مثقف ومفكر بالكاد يحضر العشرات, كما هو الحال في هذا المؤتمر.
ربما يعود ذلك الى تعقيد المسالة النظرية, فالمثقف العادي يمل بسرعة, لانه لا يملك قاعدة ثقافية اساسية يستوعب ما يقال نظريا, فينسحب الى الوسائل الاكثر سهولة كالتلفاز والصحف والمجلات.
هناك حالة جدلية متبادلة حول غياب المسألة الفكرية عن الشارع العربي وغياب المؤسسات الفكرية, التي لا تحاول ان تنتج شيئا جديدا يصل الى مستوى المثقف العادي الذي تحول الى نوع من الكسل والخمول ويبحث عن الموضوع الاسهل.
* برأيك ما هو سبب الاقبال الضعيف من قبل الشباب على دراسة الفلسفة في الجامعات العربية?
- في كل مجتمع عربي, الدراسات النظرية معادية لوسيلة ايجاد لقمة العيش, اذ ان تخصص التاريخ, الجغرافيا, علم نفس والفلسفة كلها لا تؤمن الا وظائف في مهنة التدريس, لكن المدارس لا تستوعب كل هذه الاعداد, وبالتالي يلجأ عنصر الشباب الى الدراسات المتعلقة بالتكنولوجيا لايجاد وظائف بسرعة وبرواتب عالية.
* ما هو دور التعددية في الهوية الثقافية العربية كعامل توحيد واستعادة للوعي القومي?
- ليست هناك حقيقة مطلقة, هناك حقيقة وعدد من العقول والمفكرين ينظرون الى هذه الحقيقة كل من زاويته, هنا تظهر التعددية, فتتعاون كل وجهات النظر لتبيان الحقيقة المركزية التي نبحث عنها. لا يوجد بالمجتمع القطري والعادي من يمتلك نظرية متكاملة لبناء مجتمع متكامل في الاردن او لبنان انما يكون العمل في اطار خارج عن الحقيقة. اذ ان التعددية مجموعة من وجهات النظر التي تنظر الى مركز الحقيقة الذي نبحث عنه.
التعددية داخل الوحدة هي التعددية السليمة, بينما التعددية الطائفية لا تهدف الى خدمة مجتمع, اذن هي ليست تعددية تصب في الوحدة.
التعددية تغني الفكر, النظرية, الثقافة, بالاخص تعددية الفكر الموضوعي, بينما تعددية الفكر العشائري والطائفي غير سليمة الا اذا كانت تصب في سبيل وحدة هذا المجتمع وتطبق هذا القانون الموحد لكل المجتمع.

28-بانتظار التحولات العالمية الكبرى
هل حدَّدت أنظمة العرب الرسمية خياراتها الصحيحة؟
(افتتاحية طليعة لبنان الواحد)
تشرين الأول 208
قبل احتلال العراق وقف العالم بأسره خانعاً وخاضعاً للهيمنة الأميركية عندما استولت إدارة المحافظين الجدد على موقع القرار الأول وتفردت بحكم العالم، حيث مانعها من مانع، واستسلم لها من استسلم، وركع أمام جبروتها من ركع. وأعلن سيد البيت الأبيض نفسه إمبراطوراً للعالم بعد أن دخلت جيوشه إلى بغداد في التاسع من نيسان من العام 2003. وبإعلانه هذا هتف مفكروه وسياسيوه وعسكريوه ورددوا وراءه معلنين ولادة القرن الأميركي الجديد، أي ما يعادل إعلان استمرار القرن الواحد والعشرين قرناً أميركياً بامتياز.
وبعد احتلال العراق، وبأقل من ست سنوات، تبدلت الصورة وانقلب المشهد وراحت الإدارة الأميركية تحت ضغط الشعب الأميركي تعمل من أجل خروج مشرف لها من العراق لتخليص حياة أبنائهم من طاحونة حرب تستقبلهم أحياء يُرزقون، وتعيدهم إلى بلادهم جثثاً في توابيت، أو معاقين على عربات الإعاقة، أو معتوهين يتجولون في المصحات النفسية، أو مجرمين فالتين في شوارع مدن أميركا وبلداتها.
وتم استنزاف اقتصاد أميركا بفاتورة حرب باهظة الثمن، قدَّر الخبراء الأميركيون، بأنها كانت تفوق الألفيْ ملياراً من الدولارات. لم تصدق الإدارة الأميركية في حينه النبأ، ولكنها في الخامس عشر من أيلول من هذا العام أعلنت إفلاس كبرى مؤسساتها المصرفية، وهو انهيار فاق كل التصورات، ترددت أصداؤه وتداعياته في كل أنحاء العالم، وانعكست تأثيراته في إفلاسات دفعت بالملايين من الشعب الأميركي إلى بناء مخيمات بائسة تؤوي إليها من لم يعد يملك إيجار بيت يقطن فيه أو لقمة خبز تملأ زاوية من معدته.
فأعلن العالم أن النزعة الإمبراطورية الأميركية بالتوسع والاستيلاء قد انتهت، وإلى الأبد.
وأعلن العالم ذلك، متجاهلاً أن هذا المتغير الزلزال قد كانت السبب الأساسي فيه المقاومة الوطنية العراقية التي، تحت غضب حرابها، سيخرج جيش الاحتلال الأميركي مستسلماً لقدره بفعل الضربة القاضية، وبخروجه فات قطار القرن الجديد الولايات المتحدة الأميركية وتركها تلعق جراحها على رصيف المحطة.
وبذلك، منتظراً عهداً أميركياً جديداً، راح العالم بأنظمته ودوله يعدون العدة لاستقبال تغييرات جذرية في صياغة نظام دولي جديد، بديلاً لنظام التفرد الأميركي، هذا النظام الذي انتحر على أبواب بغداد. وامتدت التحضيرات لتشمل أنظمة العرب الرسمية، ومنها لبنان.
لقد بدأ التحضير العالمي لاستقبال مرحلة المتغيرات الجديدة، التي أحدثتها سواعد أبطال العراق، الأبطال الذين اعتنقوا عقيدة البعث واستراتيجيته، وكانوا أمناء لقيادة صدام حسين شهيد الحزب والعراق والأمة العربية، الاستراتيجية التي وُضعت من أجل دفع أكبر جيش في العالم إلى الانتحار أمام أسوار بغداد، خاطَّاً لمرحلة جديدة في النظام العالمي، بدءاً من طريقة التعامل مع ما يفترضونه دولاً ضعيفة، مروراً بعلاقات دولية متوازنة بين مختلف الأنظمة، انتهاء بإعادة النظر في العلاقات بين أنظمة الدول الرأسمالية، بما فيها إعادة النظر بالمنهج الرأسمالي الذي، بأخطائه وجشع شركاته، وضع العالم كله على حافة الإفلاس.
إن التحضير جارٍ على قدم وساق، ويُخشى معه من أن تطأ أقدام الفيلة الكبار صغار الدول والشعوب. وسيكون وطئها مؤلماً لمن لم يحضِّر نفسه لشق طريق له بين الدول. وبقدر ما ستكون مؤلمة لمن سيبقى على هامش طاولة الكبار، فإنها ستبشر بالخير، حتى لو كان القليل منه، لأولئك الضعاف هذا إذا أحسنوا الاستفادة من فرض مصالحهم في مرحلة رسم تلك الاستراتيجية، ويأتي العرب، ومنهم لبنان، في المقدمة حيث إنهم هم وحدهم المُثْقَلون بعبء القضايا الشائكة التي تتطلَّب الحلول العاجلة.
يترافق كل ذلك مع وجود ثور رأسمالي أميركي خائر القوى لا يزال يترنح تحت ثقل أزماته التي راكمتها المقاومة العراقية كماً ونوعاً، وراحت الدول الكبرى والصغرى، مستغلة هذه الفرصة الثمينة من أجل إعادة ترتيب بيوتها الداخلية، وعلاقاتها الخارجية، وهي واثقة بأنها ستحصل على أكثر ما تخطط له في مرحلة الضعف الشديد الذي ينتاب جسد أكبر إمبراطورية في العالم.
إن الاستراتيجية البعثية، في إدارة المعركة مع الثور الأميركي، قدمت للعالم كله، بفضل هذا الأنموذج الرائع في التخطيط والتنفيذ، هدية من أجمل الهدايا، وهي أنها جعلت العالم أكثر اطمئناناً على مستقبله بإسقاط أخطر مشروع أميركي عرفه التاريخ.
إن الاستراتيجية البعثية هذه، تشكل أهم النماذج لأقطار الوطن العربي للاستفادة منها، خاصة وأن الرئيس الشهيد، صدام حسين خاطب شعبه العربي قائلاً: سنخوض المعركة مع أميركا، وعليكم أن تستفيدوا منها.
إن هذه الاستراتيجية لا تزال تصلح لصياغة موقف عربي جديد، مستفيداً من هذه الفرصة، وليس أكثر أهمية من تلك الدروس التي أثبت فيها العراق، وحيداً منفرداً، أنه يستطيع أن يخوض أكثر الثورات تأثيراً في التاريخ. واستطاع ليس أن ينجز النصر في المعركة فحسب، بل أن يدفع أيضاً إلى تفكيك أهم مفاصل عوامل القوة في النظام الرأسمالي الأميركي، وسيفرض عليه اتجاهات جديدة في التعاطي مع كل القضايا العربية، هذا إذا أحسن العرب وسيلة الاستفادة من هذا الظرف.
إن الموقف العربي المطلوب تجاه كل القضايا العربية يبتدئ بالنظر إليها كرزمة واحدة، وبتوافق عربي يستند إلى أسس من أهمها ثابت المصير العربي الواحد، وهذا الثابت فيه ما يفرض على الجياد العربية التي تجر عربة الحلول أن تقودها باتجاه واحد، وليس باتجاهات متعاكسة، لأن الاتجاهات المتعاكسة لأحصنة الأنظمة العربية الرسمية تكاد تمزق العربة ومعها كل القضايا الساخنة.
هل تستفيد الأنظمة العربية الرسمية من نتائج نضال المقاومة الوطنية العراقية؟
فبالنسبة للعراق، الذي سيتحرر قريباً، بغض النظر عمن سيفوز في انتخابات الرئاسة الأميركية، على العرب جميعاً أن يستفيدوا من تلك الخصوصية، ليغيروا اتجاهاتهم الاستسلامية للأوامر الأميركية ويعلنوا بالفم الملآن أن العراق بلد عربي محتل ولا مناص من إنهاء هذا الاحتلال أولاً، وأن يرفضوا تقديم أية قشة تحسب الإدارة الأميركية أنها تنقذها من الغرق أكثر في العراق ثانياً. وتتم ترجمة هذا الإعلان بدعوة الاحتلال إلى الرحيل من جهة، وأن يبادروا إلى تقديم العون والمساعدة إلى المقاومة الوطنية العراقية، لأنها الوحيدة التي تملك المشروع النظري والعملي لاستعادة وحدة العراق أرضاً وشعباً. كما أن يبادروا للمساعدة على اقتلاع كل من تسول له نفسه بالحلول مكان الاحتلال الأميركي من دول الجوار الجغرافي للعراق.
هل تغادر القوى السياسية في لبنان موقعها التابع للخارج؟
أما بالنسبة للبنان، فمشكلته ذاتية أكثر منها خارجية، أي بمعنى أن القوى السياسية فيه قابلة بتدخل الخارج، بحيث تستقوي كل قوة بخارجها الخاص، وهذا الخارج يدعمها ويسندها من أجل اعتبارها ورقة قوة قادمة يريد استثمارها من أجل فرض مصالحه في مرحلة معالجة التداعيات الحالية والمتغيرات القادمة.
ولأن الجزء الأكبر من أرض لبنان أصبح محرراً بفضل المقاومة، ولأن العدو الصهيوني ينوء بأثقاله أيضاً في مرحلة إنهاك الولايات المتحدة الأميركية كشريك رئيسي، نرى أنه لا مناص أمام القوى السياسية في لبنان من أن تحسم أمرها وتوجَّه حركتها واتجاهاتها وتوحِّد مواقفها وتجميع أوراقها للضغط من أجل احتلال موقع يليق باستقلالية القرار الوطني اللبناني، مدعوماً باستقلالية القرار القومي العربي سواءٌ أكان على الصعيد الرسمي، أم على الصعيد الشعبي.
ولأن المرحلة التي تفصلنا عن نتائج الانتخابات الأميركية وما ستفرزه من متغيرات هي مرحلة تجميع أوراق القوة، على القوى السياسية في لبنان أن لا تهدر هذه الفرصة بل أن تستفيد من مرحلة التحضير الجارية لتجميع أوراق التقارب والوحدة لكي تدخل مرحلة المتغيرات الكبرى بهدف واحد لبناء دولة قوية تعمل على حصد أكثر ما يمكن من نتائج تحصين لبنان من ابتلاعه في مرحلة المساومات القادمة بين القوى العظمى. كما تعمل على نقل لبنان من وصاية الخارج ومتاهاته لتجعل منه دولة متينة لا يمكن أن تكون كذلك إلاَّ بوحدة داخلية متماسكة، وأن تضع نصب أعينها أن طاولات المساومات بين الكبار لن ترحم مصالح من لا يرحم مصالحه.
عطفاً على كل ذلك لا يفوتنا التنبيه إلى أن النتائج التي يريد اللبنانيون الحصول عليها لا تستند إلى كم من الأوراق عليهم أن يجمعوا فحسب، وإنما بالكيفية والوسيلة التي عليهم أن يستخدموها على طاولة اللعبة حينما يحين أوانها أيضاً.
ففي سبيل أن يستفيد اللبنانيون من الفرصة المتاحة الآن، على القوى السياسية في لبنان أن تتفهَّم أن الخارج الذي تستقوي به لحاجتها إلى دعمه وإسناده، فهو بحاجة إلي دعمها وإسنادها أيضاً، وعليها أن تعرف موقعها ولو للحظات من أجل أن ترسي قواعد علاقات متوازنة معه توظفها لخدمة وحدتها الوطنية ومصلحة الوطن. وهي بهذا المعنى عليها أن تغلِّب مصلحة اللحمة الوطنية أولاً وأخيراً، لأنها عنوان تعايش اللبناني مع اللبناني، وإن هذا الأمر يقتضي أن يكون للقوى السياسية حق الاختلاف ولكن داخل الوحدة الوطنية بشكل تام وشامل.
وأن تميز تلك القوى بين حالة التكامل الإنساني بعلاقات متوازنة مع كل دول العالم وقواه السياسية من أجل توظيفها للمصلحة الوطنية اللبنانية، وبين حاجات التكامل القومي العربي، التي لها أسسها ومبادؤها التي لو اختلت موازينها فإنها سوف تلحق الضرر بلبنان والأقطار العربية معاً.
وهل تتراجع الأنظمة العربية الرسمية عن دورها الالتحاقي؟
واستئنافاً لهذا الواجب الوطني اللبناني تجاه العمق القومي العربي، يأتي السؤال: كيف تغادر الأنظمة العربية الرسمية موقعها الالتحاقي بعجلة السياسة الأميركية، وكيف عليها أن توظف تداعيات هذه المرحلة من أجل أن تفرض على كل الإدارات الأميركية معالجة واضحة وجذرية لكل قضايا الأمة؟
كما أنه على قاعدة أن للعرب حق باستقلالية القرار القومي العربي، نفهم أن استقلالية القرار تتناقض كلياً مع موقع التبعية للخارج وتحديداً الخارج الأميركي، نرى أنه من الصحة بمكان أن يعمل العرب على تجميع أوراقهم للمرحلة المقبلة على قاعدة توظيفها من أجل صياغة حلول لكل القضايا العربية الساخنة، ومن أهمها وأكثرها تأثيراً على صياغة مستقبل الأمة، هي المسألة العراقية، والأكثرها مركزية القضية الفلسطينية، والأكثرها تعرضاً للخطر القضية اللبنانية والسودانية والصومالية واليمنية..


29-لأن المقاومة العراقية كسَّرت قرون الثور الأميركي
فإذا خارت قوى الثور فلا تدعوه يلتقط أنفاسه

27/ 10/ 2008
منذ نجاح اليمين الأميركي المتطرف في الاستيلاء على السلطة في الولايات المتحدة الأميركية، تحوَّلت أميركا إلى ثور هائج حسب نفسه أنه سيطيح بكل مصارعيه على الحلبة الدولية، واستمرأ سرعة الانتصار في بلاد البلقان في ظل غياب الاتحاد السوفياتي، ومن بعدها سرعة الانتصار في أفغانستان مرتداً على حلفائه الذين أرغموا الاتحاد السوفياتي على الانسحاب منها تحت ضربات رجال حرب العصابات. وراح يكمل الشوط في العراق، الذي كان يحكمه نظام حزب البعث العربي الاشتراكي الذي أظهر كل أنواع الممانعة للمشروع الأميركي الصهيوني، وأعدَّ العراق لكي يكون حصناً منيعاً في وجه ذلك المشروع.
في العراق، بداية، غرزت المقاومة العراقية جنازير دبابات الاحتلال في رمال متحركة، فلا هي تتقدم بأهداف مشاريع الاحتلال، ولا هي بقادرة على التراجع، فواجهتها عقدة هزيمة أكبر جيش في العالم.
كان من أبرز معالم المأزق الأميركي، أن المقاومة الوطنية العراقية لم تمنع الاحتلال من سرقة ما تريد سرقته من بترول العراق فحسب، وإنما جعلته يدفع ثمن وجوده دماً غزيراً من دماء الشبان الأميركيين أيضاً.
لم يصدق العالم أن فاتورة الاحتلال ستضع الولايات المتحدة الأميركية أمام مرحلة استنزاف مادي هائل، وأن هذا الاستنزاف سوف يؤثر بشكل سلبي كبير على عجلة الاقتصاد الأميركي، إلى أن حصل ما حصل، وكان الثالث عشر من أيلول من العام 2008، بداية الانهيار الاقتصادي الكبير.
وإنه كما أن الاحتلال الأميركي دأب على تجهيل دور المقاومة الوطنية العراقية في مواجهته التي وضعته على حافة الانهيار العسكري، راحت إدارة جورج بوش تعمل على تجهيل دورها في وضع الولايات المتحدة الأميركية على حافة الإفلاس الاقتصادي. وحمَّل جورج بوش مسؤولية الانهيار لأصحاب «عمليات الاحتيال» التي مارستها المصارف الأميركية، متناسياً أن عصبة من لصوص إدارة اليمين الأميركي المتطرف نفسها، ليعلق في رقبته وزر ذلك الانهيار.
لقد قدّمنا لمقالنا بما سبق قوله لكي تشكل مدخلاً للإعلان عن أن الثور الأميركي الهائج قد تكسرت قرونه، وليس أكثرها إيلاماً انكسار «القرن الأميركي الجديد». وجاء هذا الانكسار على أيدي أبطالنا في المقاومة الوطنية العراقية الذي على العالم الناقم على نظام الرأسمالية الأميركية أن يدين بالاعتراف الصريح بهذه الحقيقة. وإن هذا الأمر يدفع بنا إلى مخاطبة أحبائنا في المقاومة أن يتأكدوا أن النصر أصبح بين أيديهم، وأن يتابعوا ما هم بادئين به بمعرفة أن الثور الهائج قد خارت قواه وأن لا يأمنوا لواقع حاله، وأنه يأخذ استراحة يلتقط فيها أنفاسه، ولذلك نرى أن من أهم ما يأمل به، هو الحصول على عطف العالم كله من أجل إنقاذه من ويلات الإعصار الاقتصادي الذي لاقى اهتماماً جامعاً من دول المنظومتين الرأسمالية ومما تبقى من المنظومة الاشتراكية.
فتحت حجة إعطاء الأولوية لإنقاذ الاقتصاد العالمي قد يشيح المجتمع الدولي بوجهه، حتى المناهض منه للرأسمالية الأميركية ومشاريعها، عن الساحة العراقية، ويخفضون من مستوى اهتمامهم بما يجري عليها.
ورداً على هذا الواقع نرى أنه كما ابتدأت المقاومة الوطنية العراقية نضالها ضد الاحتلال من دون نصير فإنها ترى نفسها الآن في واقع مماثل، السبب الذي يدفعها إلى مواصلة زخمها وزيادة منسوبه في الأشهر القليلة القادمة. وكل ذلك من أجل هدفين أساسيين، وهما: منع الثور الأميركي من التقاط أنفاسه أولاً، وثانياً، من أجل فرض نفسها عاملاً أساسياً في صياغة مستقبل العالم الجديد، من أجل شد أنظار الدول التي انهمكت بمداواة جروح الإعصار الاقتصادي الثخينة وكسوره المؤلمة.
كنا قد أصدرنا كتاباً، في حزيران من العام 2004، تحت عنوان «المقاومة الوطنية العراقية: الإمبراطورية الأميركية بداية النهاية»، وأصبحنا اليوم على قناعة بأن هذه الإمبراطورية أصبحت على عتبة «نهاية النهاية» بفعل نضال تلك المقاومة. وإن ذلك أصبح مسنوداً بما يلي:
1-مارست القوى الدولية، الممانعة للحرب ضد العراق، في العام 2003، سياسة «اليد التي لا تستطيع عضَّها، قبِّلها وأدع عليها بالكسر»، فاستجابت المقاومة الوطنية العراقية لهذا الدعاء على الرغم من أن أحداً لم يقدّم لها حجراً لتكسر به اليد الأميركية الغاصبة والمعتدية.
وكل ما أنتجته تلك المرحلة هو أن العالم، وعلى رأسه الأكثرية من الشعب الأميركي، هو أنه ضاق ذرعاً من عدوانية الولايات المتحدة الأميركية، و على الرغم من ذلك فقد وفَّرت الدول الممانعة غطاء شكلياً للاحتلال الأميركي ممثلاً بالقرار (1546). ولكنها لم تقدِّم، باستثناء المؤسسات العالمية الأهلية والمدنية، أي دعم حتى إعلامي لتلك المقاومة. وكانت كل مراهناتها أن تقف في وسط الطريق تراقب ميزان القوى في الصراع بين المقاومة والاحتلال.
2-إن القوى الدولية اليوم، بعد 13 أيلول/ سبتمبر، تقف منشدَّة إلى معالجة الإعصار المالي الذي يعصف في شوارع العالم كله، وليس في شوارع «وول ستريت» الأميركية وحدها، ويخشى معها من أنها قد تضع احتلال العراق وراء ظهرها، أو هي ربما لا تزال تراهن على جهود المقاومة الوطنية العراقية وحدها.
فسيان نسيت تلك الدول أن من واجبها أن تساعد المقاومة التي كسرت «القرن الأميركي الجديد»، أم أنها لم تنس، تبقى المقاومة الوطنية العراقية صاحبة الرسالة الإنسانية الأولى في التسريع برحيل الاحتلال عن أرض العراق. وهذا ما تعمل تلك المقاومة على هديه وخطاه.
3-إن العالم اليوم، ومنه النظام العربي الرسمي، بانتظار ما ستؤول إليه نتائج الانتخابات الأميركية القادمة، تقوم بلعبة تجميع الأوراق من أجل تدعيم شروطها في صياغة عالم جديد، ومنه صياغة واقع جديد في الوطن العربي وفي الإقليم المجاور للعراق.
إن الاستراتيجية الأميركية القادمة، بعد الانتخابات الأميركية، ستكون مختلفة تماماً عن مرحلة استراتيجية «الصدمة والترويع»، و«الفوضى الخلاقة»، و«تصدير الديموقراطية الأميركية الليبرالية» بقوة السلاح، وحلم «القرن الأميركي الجديد». وستشهد المرحلة القادمة بعد انهيار استراتيجية «اليمين الأميركي المتطرف أو الجديد»، متغيرات كثيرة ومتشعبَّة بعد التداعيات الكبرى التي حصلت بدءاً من مرحلة استنزاف أميركا المعنوي والعسكري والمادي في العراق، وانتهاء بتداعيات الاقتصاد التي هزَّت ليس الولايات المتحدة الأميركية فحسب، وإنما طرحت مصير النظام الرأسمالي بمجمله أيضاً.
إنها مرحلة التقاط الأنفاس للولايات المتحدة الأميركية، كما هي مرحلة إعداد جداول الحسابات للعالم كله، إنها مرحلة استرخاء وتهدئة تسبق جولة «الماراتون» العالمي القادم. لذلك فلا نجد لحركة النظام العربي الرسمي تجاه حكومة العمالة في العراق ما يدعو إلى الخوف أكثر مما يدعو للأسف.
فيه ما يدعو للأسف، ونحن نرى أن حالة الخنوع والاستسلام العربية الرسمية لا تزال مستمرة أمام «صولجان» إمبراطور أميركي خائر القوى، منزوع الأنياب والمخالب، يستجدي عطف الدول ورأفتها، لكي لا تدع «لئيم قوم قد ذُلْ» فريسة أمام غوائل الدهر التي ارتكبتها يداه.
وفيه ما يدعو للأسف أيضاً أن الجوار الإيراني لم يظهر منه ما يدل على أنه قد تعلَّم الدرس. وليس فيه ما يظهر أنه قد تأكَّد من أن النزعة الإمبراطورية في التوسع، حتى ولو على حصان مذهبي، قد ولَّى عصرها، وأصبحت ذكرى أليمة من الماضي القريب أم البعيد.
وفيه ما يدعو للأسف أن تكون بعض الأوساط السياسية العربية، والأوساط المثقفة العربية، لا تزال تصر على التفكير والنظر إلى الأمور بمقاييس مجتزأة، وبعيون حولاء، وبتقية سياسية، وبمواقف تبريرية تحكمها مراحل وظواهر سياسية مؤقتة فيها من السُمِّ أكثر مما فيها من الدسم.
وحدكم أنتم أيها المقاومون الأبطال، خاصة على ضفاف الرافدين، وفي الأهوار، وفي معظم مدن الشمال العراق وقراه، تبقون ليس أمل العراقيين فحسب، بل أمل العرب، ليمتد إلى أمل للعالم الحر أيضاً.
نقولها، وكلنا ثقة، أن الثور الأميركي الهائج قد خارت قواه، وأن له استراتيجية جديدة سيفرضها العالم عليه، سواءٌ أوصل الرئيس الديموقراطي، أم وصل الرئيس الجمهوري، لأن الانهيار الاقتصادي لن يترك له خيارات أخرى للانسحاب من العراق كأحد أكثر المهمات استعجالاً لمعالجة ما تعرَّض من كسور سياسية واقتصادية وعسكرية.
ولهذا من أجل تسريع الانسحاب لا تتركوا الثور الأميركي حتى ولو كان ديموقراطياً فترة من الراحة أو الاسترخاء، فلعابه يسيل أمام إغراءات نفط العراق وموقعه الاستراتيجي إذا ما وجد أن بقاءه فيه لن يكون كثير الكلفة والثمن.


30-لحماية التحولات الكبرى في مرحلة ما بعد الانتخابات الأميركية
الاعتراف بأن المقاومة الوطنية العراقية هي صانعها الوحيد

في 12/ 11/ 2008
يُروى أن ذئباً غزا قرية فروَّع رجالها فلم يجرؤ أحد منهم، فرادى ومجتمعين، على التصدي له. فاستنجدوا برجال الجوار فوجدوا من قتل الذئب، وعرض جيفته في ساحة القرية. ولما اطمأن رجالها على أن الخطر قد زال، تجمهروا حول تلك الجيفة، مبتهجين وأخذ كل منهم ينسب الفضل في قتل الذئب لنفسه.
حال رجال هذه القصة، حال العالم اليوم، ومنه بعض أنظمة الجوار الرسمية والإعلاميين الدائرين في فلكها. وقصة العالم اليوم تبتدئ عندما غزت الولايات المتحدة الأميركية العراق، واحتلت بغداد في التاسع من نيسان من العام 2003. في حينه لم يستطع العالم كله أن يمنع العدوان، وحينما وقع الاحتلال، تقاطر رجال العالم لتهنئة الذئب الأميركي بالنصر، وطأطأوا الرؤؤس طالبين رضاه ملتمسين مغفرته لأن البعض منهم لم يقدم له العون في العدوان على العراق.
بعد مرور أقل من ست سنوات استفاق العالم على هزيمة الذئب الأميركي، وذرت رياح الهزيمة كل مخططاته التي وضعت العراق شرطاً ضرورياً لا بدَّ من حيازته لحكم العالم من أقصاه إلى أقصاه. وعند تلك اللحظة تكاثر زعماء الدول، وتبارى المحللون والكتاب في قراءة مستقبل العالم، ورسموا صورة وردية لعالم أفضل بعد سقوط الذئب الأميركي صريعاً، بينما جيفته معروضة في ساحة القرية الكونية، وقد تجمع حولها قناصو الفرص في سرقة الأمجاد من أقصى الكون إلى أقصاه. وكان من أشد طعنات تلك المباريات أن أحداً لم ينسب فضل قتل الذئب الأميركي لأصحابه الحقيقيين.
كأن الذئب مات بالسكتة القلبية، وكأن صعقة سحرية هي التي قتلته، لذلك توقَّف كثيرون من المحللين في رسم صورة وردية للعالم الجديد من دون أن يشيروا إلى أن الصورة التي يرسمونها كانت نتيجة لسبب أساسي. وهذا السبب هو أن قتل الذئب وحده أدى إلى تلك النتائج، فكانت الثغرة الأولى والأساسية تكمن في تجاهل من قتل الذئب، أو تجهيله.
وكان من أغرب ما ساقه هؤلاء المحللون أن ما يسمونهم دول الممانعة هم كانوا السبب، وزوروا تحديد من يقصدون بدول الممانعة فشملوا فيمن شملوا النظام الإيراني على الرغم من أنه شارك في غزو العراق والعدوان عليه ولا يزال حتى اللحظة. ووصل الأمر ببعض المحللين إلى الاستنتاج بأن إيران اليوم تحتل موقعاً أساسياً في المنطقة، وهم لا يزالوا يراهنون على دور إيجابي سوف تلعبه في المستقبل بفضل ذلك الموقع القوي المزعوم.
لقد تناسى هؤلاء أن العالم يعرف، من أقصاه إلى أقصاه، أن من قتل الذئب الأميركي هم أبطال المقاومة الوطنية العراقية.
ويعرف العالم، من أقصاه إلى أقصاه، أن المقاومة الوطنية العراقية لا تدين لأحد، ليس في حجب يد المساعدة عنها فحسب، بل هي لم تسلم من الأذى الذي نالها من الأكثرية الساحقة من هؤلاء أيضاً، وكان أكثرهم إيذاءً دور النظام الإيراني في العراق الذي كان همه الأول والأخير ملاحقة المقاومين العراقيين واغتيالهم. وكانت أكثر سهام أولئك المحللين إيذاءً هي غياب العامل الأخلاقي الذي تمثَّل ليس في تجاهل دور المقاومة العراقية الأول والأخير فحسب، بل في تجهيل هذا الدور أيضاً عن سابق إصرار وتصميم.
لم نقصد بالإشارة إلى دور النظام الإيراني إلاَّ لأن مستوى تزوير دورها في قتل الذئب الأميركي بلغ حداً لا يمكن السكوت عنه. وخطورة هذا الزعم يكمن في أن ممانعة النظام الإيراني في المرحلة الراهنة للولايات المتحدة الأميركية لم تكن مبنية على قاعدة تحرير العراق لاستعادة وحدته وسيادته، بل هي مبنية على أن الانسحاب الأميركي سيفسح للنظام المذكور المجال للاستفراد بالعراق واحتلاله من جديد تحت ذريعة ملء الفراغ الأمني فيه أولاً، ولاستئناف مشروعه الأساسي في تقسيمه بما يتناسب مع استراتيجيته الثابتة ثانياً.
إن المقاومة الوطنية العراقية، التي صرعت الثور الأميركي، لهي قادرة على أن تصرع أي ثور آخر، لأن من صرع سيد القوة العسكرية في العالم ليس بعاجز عن مصارعة من يقلون شأناً عنه بكثير.
لذلك فمن السبب الذي أدى إلى النتائج الحالية في داخل الولايات المتحدة الأميركية، كما إلى النتائج التي سيقطفها العالم كله، ومنها دول الجوار الجغرافي للعراق، مضافاً إليها حركة التحرر العربي، نبدأ بالتحليل، وهي تبتدئ، بل يجب أن تبتدئ، بأن الفعل العربي المقاوم، ومن أهمه على الإطلاق الفعل العراقي المقاوم، كان العامل الأساسي في إهداء العالم كله سلة مليئة بوعود المتغيرات الإيجابية للمرحلة القادمة،
انطلاقاً من الاعتراف بهذه الحقيقة، كاعتراف أخلاقي أولاً، ولأنه يعبِّر تمام التعبير عن الواقع الراهن ثانياً، ندعو كل الجاهلين أو المتجاهلين إلى التفكير بجدية ومسؤولية إلى الامتناع عن النوم على وسادة من حرير الوعود القادمة، وأن يبادروا إلى الالتفاف حول المقاومة الوطنية العراقية ويكفوها شرور تجهيلهم لها، ونسبة الفضل لغير أهله أولاً، وأن يدعو لها بالاستمرار كأضعف الإيمان ثانياً، وأن يبادروا إلى مساندتها إعلامياً كأرخص الوسائل تكلفة مادية ثالثاً، وأن يقدموا إلى عوائل مناضليها ومجاهديها الدعم المادي رابعاً، وأن يسهموا بالضغط على كل الأنظمة السياسية، عربية أكانت أم إقليمية أم دولية، من أجل الاعتراف بها خامساً، وأن يعتبروا أن العالم سيحصد حفنة ريح من دون استمرار المقاومة العراقية سادساً، وسابعاً وأخيراً أن يستفيدوا من نضالها واعتبار المقاومة الشعبية سلاح الشعوب المغلوبة على أمرها أمام جبروت التكنولوجيا العسكرية.
صحيح أن المرحلة القادمة حبلى بالوعود، ولكنها سوف تتبخر أمام خداع مؤسسات الإدارة الأميركية، أياً يكن على رأس تلك الإدارة، سواءٌ أكان باراك أوباما أم كان جورج بوش. إن الإثنين إبنان لمدرسة واحدة، يتفقان في نوعية الأهداف حتى ولو اختلفا على درجة الوسائل. تجمعهما الأهداف الرأسمالية وجشعها، ويفترقان في تحديد الوصول إلى تلك الأهداف. الأول منهما يستخدم العصا أما الثاني فيقدم الجزرة. وقد يكون طعم الجزرة أحياناً أشد قسوة من لسعة العصا.
استناداً إلى هذه الحقيقة، على العالم كله، ومنهم بعض العرب ممن ينسبون الفضل لغير أهله، وبعض دول الجوار الجغرافي ممن يلبسهم البعض تزويراً ثياب الممانعة، أن يعوا أن المعركة في العراق لم تنته بعد، فما قدَّمه أوباما من وعود الانسحاب لا تزال وعوداً. وان يعوا أيضاً أن جيش الاحتلال لا يزال قابعاً على أرض العراق ينتظر أي انتكاسة في أداء المقاومة ليبتلع وعوده ويعود عنها إذا اطمأن على أن بقاءه غير مكلف له.
لهذا ومن أجل ضمان استمرار الصورة الوردية، لا بدَّ في مرحلة الوقت الضائع القادمة من الإعداد لما يلي:
1-تعزيز موقع المقاومة العراقية، وتقديم كل أشكال العون لها، لأنها الضامن الوحيد لمنع أوباما من التراجع عن وعوده أو لحس توقيعه عليها.
2-إعداد المسرح السياسي العربي إلى توقع احتمال استبدال احتلال أميركي باحتلال إيراني، وهو احتمال تأخذه المقاومة العراقية على محمل الجد حتى ولو كان البعض يجهله أو يتجاهله، فالمقاومة العراقية تملك من الأدلة والبراهين على ذلك مما لا يمكن دحضه أو رفضه إلاَّ من مكابر أو صاحب غرض أو مصلحة. فالأفضل لهؤلاء أن يتقوا الشر قبل وقوعه، وأن يمنعوا كسر الجرة لئلا ينشغلوا في رأب صدوعها في مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي.

31-إن النظام الإيراني الآن قوي فعلاً، ولكنه أقوى الضعفاء في العراق
لن تكون إيران قوية من دون عرب أقوياء
والعرب أقوياء بوحدتهم وبجار قوي
في 3/ 12/ 2008
كي لا يصل النظام الإيراني إلى الطريق المسدود كما وصل إليه حليفه جورج بوش، ولكي لا يعترف متأخراً كما اعترف حليفه بأنه لم يكن مستعداً للحرب ضد العراق عندما تولى رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، هذا إضافة إلى اعترافه بأن أجهزة المخابرات قد ضلَّلته.
وكي لا تُعاد أيام حرب الثماني سنوات بين إيران والعراق، ويُرغم النظام على تجرع السم مرة أخرى. تلك الحرب التي نراها قادمة بعد الانسحاب الأميركي، كنتيجة مُحَقَّقة، إذا ما ظلَّ النظام الإيراني مسكوناً بأوهام القوة والعظمة، اللتان لم يحز عليهما لولا الضعف الذي انتاب الثور الأميركي.
وكي لا يبكي مشجعو النظام الإيراني وأنصاره من العرب فرصة للسلام مع إيران كانت متاحة وتمَّ تفويتها من قبله بمجاملاتهم، ومواقفهم القاصرة عن رؤية المستقبل.
وكي لا يأتي اليوم الذي يكتشف فيه النظام الإيراني أنه كان مضلَّلاً، وعليه أن يثوب إلى رشده، ويقلع عن الأوهام التي تتلبسه بأنه يحتل اليوم موقع قوة.
كل ذلك كان دافعاً لنا لكتابة ما نكتب.
نحن لا نتجاهل دور الاحتلال الأميركي كسبب رئيسي لما جرى ويجري في العراق. فدور الاحتلال الأميركي قد انتهى، لأن المقاومة الوطنية العراقية التي وضعته على حافة الهاوية كفيلة باستمرارها ووحدتها أن تدفعه إليها.
ولأن المقاومة العراقية قد كتبت نهاية للحرب والعدوان، لم يبق لدينا إلاَّ أن نعمل من أجل إزالة الألغام التي قد تعيق إلى حين إعادة توحيد العراق كما كان قبل العدوان، ولا نرى أكثر أهمية من رؤية الدور الإيراني الذي سيكون عائقاً بحيث يحفر منذ الآن خنادق جديدة قد تزيد من ألم العراق والعراقيين في المرحلة الفاصلة بين انسحاب قوات الاحتلال الأميركي وبين إعادة نظام وطني يجمع ويبني ويرمم ويعيد العراق موحداً ناهضاً متقدماً.
لماذا إيران؟
وهل إيران قوية في هذه المرحلة؟
في مرحلة انتقالية كبرى، كالتي تمر بها الأمة العربية، قياساً بالتحولات المرتقبة، التي فرضتها المقاومة في العراق على أميركا وعبرها على العالم بأسره، قد يكون من المستغرب أن نخصص مقالنا عن إيران. هذا الأمر، إذن، يطرح التساؤل التالي: ولماذا إيران؟
غامرت الولايات المتحدة الأميركية، رغماً عن إرادة العالم الحر، بالعدوان على العراق واحتلاله، من أجل احتلال موقع ريادة الكون وقيادته ووضعه تحت إمرة الإدارة الأميركية لبناء قرن أميركي جديد. ولتدعيم مغامرتها وضمان نجاحها استدرجت النظام الإيراني، بالإضافة إلى سيطرتها على معظم أنظمة العرب الرسمية المذعنة أصلاً، ووعدته بحصة من كعكة العراق. فوقع النظام المذكور بالفخ وأسهمت بوقوعه فيه نزعة الثأر التي كبتها بعد فشل تصدير مشروعه في العام 1988.
وخلافاً للقاعدة السياسية المشبعة بالأخلاق والمروءة التي وضعها الإمام علي بن أبي طالب، التي تنص على أنه (إذا غزا بن الأصفر الدولة الإسلامية فسوف يتحالف مع معاوية بن أبي سفيان)، فقد فعلها النظام الإيراني وتحالف مع ابن الأصفر. فغزا ابن الأصفر بغداد وسار النظام الإيراني في ركابه.
منذ تلك اللحظة التي دخل فيها عملاء إيران إلى بغداد، تحت مظلة ابن الأصفر، توهَّم النظام الإيراني أنه احتل موقع قوة على الأرض العربية، خاصة وأن صحة ابن الأصفر في العراق اعتلَّت وساءت إلى الدرجة التي أعلن فيها الانسحاب من العراق.
ولو جئنا لنتفحص صحة الوهم الإيراني بأنه قوي لوجدناه عليلاً يهذي من شدة الحرارة التي ارتفعت، ودليل ذلك أن القوة التي ساعدته في دخول العراق أصبحت من الضعف درجة لم يعد بالإمكان إخفاؤها.
العدو الأميركي أعلن انتصاره الموهوم في أيار من العام 2003، أما النظام الإيراني فقد أعلن انتصار أفكاره ونواياه منذ أن بدا الضعف ينهش بمشروع حليفه اللدود، وهو لا يزال يحلم باليوم الموعود الذي يتوج فيه هذا الانتصار. وهو يتصرف الآن كونه الأقوى في الساحة العراقية.
إن النظام الإيراني الآن قوي فعلاً، ولكنه أقوى الضعفاء في العراق. ومن بنى قوته على هذه القاعدة فعبثاً يحرز أي نصر، وسيتحول نصره إلى حفنة من ريح سوف تذروها المقاومة العراقية ولن تدعها تمطر حيث يشاء النظام الإيراني أو يتوهم أنها سوف تمطر. أما السبب فلن يعوزنا التفكير طويلاً لتحديده.
سبب قوة المقاومة الوطنية العراقية، أنها ممولة من كرامة العراقيين ورجال العراق وسلاحهم وأموالهم، ولا يزال هذا التمويل على زخمه إذا لم تكن معاناة العراقيين قد زادته قوة على قوة، والحبل على جرار وقع تتالي إعلان الهزائم الأميركية المنبعثة من دخان الساحة العراقية.
لقد تواطأ قويان على احتلال العراق، وعجزا عن تثبيت قاعدة سياسية أو عسكرية واحدة على أرضه، أما المرحلة الراهنة فيقود الاحتلال ضعيفان فالأحرى بالمقاومة التي أضعفت قويين أن تضعف ضعيفين.
في المستقبل القريب سينسحب واحد من الضعيفين، وسيبقى الضعيف الإيراني وحيداً، فيا ويله من ذل المستقبل. ولا يعفيه من ذلك الذل أنه جار للعراق يوفر الدعم لعملائه من دون عوائق جغرافية أولاً، أو أنه يمتلك عمقاً مذهبياً يشكل له قاعدة ثابتة للانطلاق ثانياً. فعملاؤه لن يصمدوا في مرحلة ما بعد رفع الحماية الأميركية عنهم، والعمق المذهبي لن يصمد أمام عمق المقاومة العراقية الوطني.
هذه الحقيقة سوف تحول المشروع الإيراني إلى أضغاث أحلام ستذروها لحظة الصحوة المبنية على قاعدتين نفسيتين:
-الأولى عندما يستفيق العراقي المتردد المسكون بالضعف ويرى أن أكبر أباطرة الشر قد رحلوا.
-أما الثانية فعندما يستفيق العميل المستند إلى قوة أميركا فيراها مهزومة يلوذ جنودها إلى طلب السلامة، فسيلوي ساقيه ويعدهما للهرب، وتصبح عنده (السلامة غنيمة) لأنه لن يبقى لديه ما يحميه.
هذه الحقيقة تبرهن على خطل أوهام النظام الإيراني وعليه أن يحسبها بدقة، ففحول إدارة الشر الأميركية بكل عنفوان قوتها كانت عاجزة فكيف (الخصية السود)؟
وإذا كان الاحتلال الأميركي، لحقيقة واضحة فعلاً، قد دفع غالياً ثمن مغامرته، فهل يتوهم النظام الإيراني أنه لن يدفع الثمن لأنه جار للعراق أولاً، وانه ستحميه زمرة من عملائه ثانياً؟
الاحتلال هو احتلال سواءٌ أكان من بعيد أم من قريب. وتفتيت وحدة العراق الوطنية هو تفتيت سواءٌ أمارسته أميركا أم الصهيونية أم إيران. فوحدة العراق هو ثابت لا يمكن للشعب العراقي أن يتخلى عنه. وخلاف ذلك سيكون مخالفاً لقواعد إنسانية كأن تدعو إلى رفض الظلم من البعيد وتتقبله من القريب، أو لم نتعلم أن (ظلم ذوي القربى أشد مظاظة)؟؟
لكل ذلك، ولغيره من الحقائق الأخرى، لا نحسب أن النظام الإيراني قوي، بل هو في أدنى درجات الضعف. فما يبدو شحماً ليس أكثر من ورم ستفقأه الحقيقة عندما يحين أوانها، وهو أقرب إلينا أكثر مما يتصور هذا النظام.
إن من يريد أن يبنى قوته على ضعف الآخرين فقوته ليست أكثر من ضعف. فالموقع الضعيف هو حاصل جمع عدة مواقف ضعيفة.
أما كيف يكون موقع النظام الإيراني قوياً؟
نحن نحسب أن مجموع مصالح الأمة العربية، زائداً مصالح جوارها الجغرافي، متوازنة متعاونة متساندة في مواجهة كل طامع قادم من حرم النظام الرأسمالي العالمي، وفي المقدمة منه أميركا والصهيونية، هي القاعدة الحقيقية للقوة. وإن حاصل جمع أنظمة عربية رسمية ضعيفة، زائداً حاصل جمع دول مجاورة ضعيفة، سيشكل الحزام الأضعف أمام هجمة أميركية صهيونية جديدة إذا ما استقر الوضع أمام أميركا في الخروج من أزماتها، وإن ضعف الأمة العربية إضافة لضعف الجوار العربي سيظل أفضل الظروف لاستعادة الأطماع الأميركية والصهيونية.
واستئنافاً، فقوة العرب لن تكون بغير وحدتهم، وبغير جار قوي.
وقوة النظام الإيراني، لن تكون بغير جوار عربي موحد.


32-جائزة حذاء في الفم لرامسفيلد وجائزة حذاء على الرأس لجورج بوش
في 16/ 12/ 2008
بتاريخ 1/ 12/ 2003، منحت هيئة بريطانية، تدعى (حملة اللغة الواضحة)، جائزة (حذاء في الفم) لدونالد رامسفيلد، وزير دفاع جورج بوش الأسبق، الذي قام بأكثر التصريحات غموضاً على سؤاله عن أسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة.
وبتاريخ 14/ 12/ 2008، منح منتصر الزيدي، الصحافي العراقي البطل، جائزة (حذاء على الرأس) لجورج بوش، رئيس دونالد رامسفيلد، وهذه المرة أيضاً بسبب العراق، الذي زعم فيه جورج بوش، محاطاً بنوري المالكي رئيس العمالة في العراق، أنه انتصر في العراق.
وبتاريخ لم يمر عليه الزمن استقبل أطفال الفلوجة قوات الاحتلال الأميركي برفع الأحذية بدل الزهور.
وبتاريخ لا نعرف متى سيحصل سيمنح الشعب الأميركي (جائزة أكبر لعنة في التاريخ) لرئيس أميركي مرَّغ شرف الأمة الأميركية بوحول العراق وقذارات مجارير مدنه وقراه. أما السبب فهو أنه زعم، كاذباً، بأنه حقق لأميركا انتصاراً كبيراً.
وبتاريخ، لا نعرف متى سيحصل، سيمنح الضمير العالمي جائزة (حذاء على الرقبة) لرئيس أكبر دولة في العالم لأنه ارتكب أكثر الجرائم بشاعة في العراق، وسيكون التنفيذ شنقاً بحبال مجدولة من مجموعة كبيرة من خيطان أربطة الأحذية.
إدارة كلَّلت هامات مسؤوليها بمجموعة نادرة من جوائز الأحذية، لن تمر كما نحسب، مرور الكرام. فالشعب الأميركي فيه عوامل الخير كما في نفوس إداراته عوامل الشر. أما عوامل الخير فهي مجموعة أصحاب الضمير من الأميركيين الذين وعوا في أوقات مبكرة خطورة النهج الأميركي الرأسمالي البشع، الذي لم يكو العالم بجشعه فحسب بل كوى فقراء أميركا وشرفاءها أيضاً.
إن حذاء شعب العراق إلى جورج بوش، الذي قدمه البطل منتظر الزيدي، سيبقى سيفاً معلقاً فوق رقاب كل من سوَّلت له نفسه، أو ستسولها في المستقبل القريب أم البعيد، ممن امتهنوا أو سيمتهنون كرامة العراقيين، وسلبوا أرواح مليون منه، وشردوا ملايين أخرى في شتى أصقاع الأرض، ولم يبق في العراق من يجد لقمة من الخبز يسد بها جوع أطفاله. . .
فهل سيتحسس الظلَمَة رقابهم ليتأكدوا أنها غير مهددة بالصفع بحذاء الكرامة العراقية وعنفوانها؟
وهل سيتحسس كل من ينوي امتهان كرامة الأمة العربية وعنفوانها رقبته ويحميها من ضربة حذاء عربي؟
وإذا كان حذاء منتظر الزيدي جديداً لأنه كان مضطراً لاحتذائه لأسباب أمنية، فإن الأمة العربية تتحضر لجمع كل النعال القديمة المهترئة لضرب كل الرقاب التي ستتجاسر على كرامتها وعنفوانها.

33-تطويب صدام حسين رائداً ثورياً عالمياً

في 25/ 12/ 2008
عرف التاريخ رجالاً متميزين في مجتمعاتهم، من الذين تركوا آثاراً قيِّمة أحدثت تغييراً مهماً في مسارات تلك المجتمعات في المجالات الفكرية أو السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية أو العلمية. كما عرف رجالاً متميزين في إعادة صياغة مسارات المجتمع العالمي في شتى الحقول.
وعادة ما يكون الذين صُنِّفوا في موسوعة رواد صياغة المسارات العالمية من بين الذين أسهموا في صياغة مسارات مجتمعاتهم، أي بمعنى أن المتميزين على الصعيد العالمي، خاصة في معارك تحرره وتحريره، هم من الذين انطلقوا على صعيد مراحل التحرير الخاصة لأوطانهم، فاستفادت من نضالاتهم شعوب أخرى.
أما عن بنىة النظام العالمي فقلما تميز شعب من الشعوب في خوض معركة التغيير فيها، ومن تلك القلة النادرة كان شعب العراق في الطليعة التاريخية الذي حقق هذا الإنجاز بنضاله المرير الذي خاضه ضد الاحتلال الأميركي في العراق.
فالثوري العالمي، بهذا المعنى، هو من يوظف نتائج تضحياته في سبيل البشرية كلها، أو هو من تستفيد شعوب العالم من تلك النتائج. فكانت تجربة الشعب العراقي الراهنة في مواجهة الاحتلال الأميركي ترتقي إلى مصاف التجارب التي ستنعكس نتائجها الإيجابية على تخليص العالم وتحريره من مشروع كاد يبلغ أهدافه لو لم تنطلق الثورة الشعبية المسلحة في العراق وتحبط تلك الأهداف.
لم تكن نتائج ثورة الشعب العراقي تقليدية أو محدودة بل كانت فريدة في خصوصياتها. فخصوصياتها أنها ارتكزت إلى جهود شعب في زمان ومكان عزَّت فيهما عوامل الإسناد كما حصل لثورات أخرى. كما أنها انتدبت نفسها لأعتى قوة في التاريخ من جهة، ولأول مشروع يستهدف الاستيلاء على العالم بأكمله من جهة أخرى. فبالعودة إلى صفحات التاريخ الماضي لم نجد في تجارب الثورات السابقة مرحلة كادت فيها دولة تهيمن على العالم كله مثلما حصل مع الولايات المتحدة الأميركية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. وكاد مشروع الهيمنة يتحقق، انطلاقاً من احتلال العراق، بإعلان نهاية التاريخ العالمي ووضعه تحت حكم إدارة (اليمين الأميركي الجديد) بإدارة جورج بوش.
فكان لا بدَّ، والأمر كذلك، من تخليص العالم بأسره من خطورة المشروع الأميركي الشامل والمطلق. وكانت مهمة الخلاص تقع ليس على عاتق حركات التحرر في العالم فحسب، بل هي من واجبات النظام الرسمي العالمي بكل دوله وأنظمته أيضاً. ولكن هذا ما لم يحصل، باستثناء نشاطات مضادة للمشروع قامت بأودها الشوارع الشعبية في العالم، من تظاهرات واحتجاجات، التي هي بحد ذاتها، كوسائل، تستطيع أن تحتج ولكنها لا تستطيع أن تحرر، وهي وسائل لم تكن لتكفي ولن تتحقق أهدافها في لجم الاجتياح الأميركي إلاَّ إذا كانت مسبوقة بثورة مسلحة، فكانت ثورة الشعب العراقي المسلحة تشكل الطليعة الأساسية. فالاحتلال العسكري لا يمكن أن تلغي نتائجه وأهدافه كل أنواع المقاومة السياسية من دون مقاومة عسكرية.
وانطلاقاً من ذلك تصدى الشعب العراقي لمثل تلك المهمة الصعبة إذ بادر إلى حشد كل الطاقات الشعبية المسلحة من أجل مواجهة قوات الاحتلال بما يجعل بقاءها على الأرض ليس صعباً فحسب، وإنما أن يكون مكلفاً أيضاً. كما يمنع الدولة المحتلة من توفير عوامل الاستقرار لوجودها في العراق، واستطراداً توفير الهدوء والأمن اللازمين لحماية أهدافها الاقتصادية والسياسية والأمنية.
ولكل ذلك تحوَّل إعلان جورج بوش بالنصر، في الأول من أيار من العام 2003، لغواً من الكلام الفارغ، بعد انطلاقة المقاومة الوطنية العراقية وتثبيت وجودها واستمرارها وفعالياتها. وبفعل تراكم الفعل النضالي للمقاومة واستمراره، وبعد أقل من ست سنوات، أعلن جورج بوش إفلاس مشروعه، فارتاح العالم بأسره وتنفَّس الصعداء. وبذلك راحت دول العالم قاطبة تستعد لصياغة أسس لنظام عالمي جديد خالٍ من مخاوف أمركة العالم والاستيلاء عليه.
فالمقاومة الوطنية العراقية، بهذا المعنى لعبت الدور الرئيسي والأساس في إفشال مشروع الاستيلاء على العراق والعالم من بعده، وكانت البنية الأساسية التي لولاها لما استندت كل عوامل المقاومة الأخرى إلى متراس صلب وثابت. ولمعرفة ذلك الدور وأهميته يمكننا أن نتصور إلى أي نتائج كانت ستؤدي كل عوامل المقاومة الأخرى لو تسنى لجيش الاحتلال الأميركي أن يمسك بالوضع الأمني في العراق ويسيطر عليه؟
فالمقاومة العسكرية في العراق شكلت الجاذبية المركزية التي أعطت للمقاومات الأخرى عوامل قوتها وفعاليتها. إلاَّ أن هذا لا يعني تجاهل دور تلك الوسائل ولا التقليل من شأنها، وهذا لا يعني أيضاً وضعها في أولوية العوامل التي تسبق دور المقاومة المسلحة وتأثيرها.
إننا هنا نثبت جملة من الحقائق التي لا يجوز تجاهلها أو تجهيلها في تقييم مرحلة ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق، وبالتالي العمل من أجل تقويم كل التشويهات التي يمارسها العديد من القوى، وبالأخص منها تلك التي يرتكب إثمها ممن هم محسوبون على البيت العربي، ومن أهم تلك الحقائق هي التالية:
-إن الحقيقة الأولى التي يتم تجهليها وتجاهلها يحصل تحت ضباب تحديد الأولويات عندما يتبارى المقاومون السياسيون في ترجيح كفة المقاومة السياسية على كفة المقاومة العسكرية، وذلك خطأ لا يجوز السكوت عنه، بل لا بدَّ من كشفه ودعوة أصحابه إلى التراجع عنه، وتغيير تصنيف الأولويات من جديد.
-والحقيقة الثانية التي يتم تجهيلها وتجاهلها أيضاً هي في نسبة الفضل في إيصال الاحتلال الأميركي إلى حافة الهزيمة إلى كل العوامل باستثناء عامل المقاومة المسلحة.
-والحقيقة الثالثة التي يتم تجهيلها وتجاهلها هي وطنية المقاومة العراقية عندما ينسبونها إلى مجهولين يتسللون عبر حدود العراق الجغرافية، والأسوأ من ذلك كله عندما ينسبونها إلى من تواطأ مع الاحتلال الأميركي ولا يزال يتواطأ، ومنهم الذين يعملون على اجتثاث المقاومة الوطنية بكل الوسائل والسبل.
-والحقيقة الرابعة التي يتم تجهيلها وتجاهلها هي نسبة المقاومة إلى كل القوى الأخرى باستثناء حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي أسَّس للمقاومة قبل الاحتلال، وأطلقها وقادها بعد الاحتلال.
-والحقيقة الخامسة التي يتم تجهيلها وتجاهلها هي نسبة الفضل في قيادة مراحل الإعداد قبل الاحتلال، ومن ثم قيادة المقاومة بعد الاحتلال، إلى كل عامل آخر باستثناء نسبتها إلى الرئيس الشهيد صدام حسين.
إن ما نود تثبيته هنا، استناداً إلى ترتيب الأولويات من هذه الحقائق معكوسة لنثبِّت أن صدام حسين هو رائد المقاومة وقائدها بحكم رئاسته للعراق وأمانته لحزب البعث العربي الاشتراكي. وبالتالي دعوته إلى كل القوى الأخرى للمشاركة في المقاومة واضعاً كل خبرة البعثيين وإمكانياتهم لمساعدة كل المقاومين على شتى انتماءاتهم السياسية والدينية والعرقية.
هذه الحقيقة الشاملة تستدعي أن نضع كل من وضع ثقله إعلامياً وسياسياً إلى جانب المقاومة العراقية، بمواصفاتها المذكورة أعلاه، في موقع الذي يُسجل له فضل في الإسناد والمشاركة.
واستناداً إلى أن تحرير العراق لم يكن مهمة وطنية عراقية فحسب، ولم يكن مهمة قومية عربية فحسب، بل كان أيضاً مهمة عالمية، سيكون العراق بشعبه كله وبحزبه الطليعي وقائده العظيم هو العامل الأساسي في تحرير العالم. ذلك كله يستدعي أخلاقياً أن يعترف العالم كله بفضل ما قدمه كل أولئك عندما أنقذوه من خطورة مشروع كان سيتربع فيه إمبراطور أميركا على كرسي مصنوع من جماجم شعوب العالم بأسره.
إن الأمانة والوفاء، ولأن صدام حسين، رائد مشروع مقاومة وقائدها حرَّرت العالم، وقد قدَّم حياته من أجل سيادة مبادئ العدالة والسيادة للشعوب، تقضيان بالعمل الجدي والجاد لتطويبه ثائراً عالمياً يفخر به العرب على العالم، وأن يتم ذلك رغماً عن أنوف الذين تآكلتهم كل صنوف التعصب والأهواء.
34-المرحلة المقبلة ولعبة تجميع الأوراق
كانون الأول 2008

يصح تسمية المرحلة القادمة بمرحلة ما بعد تحرير العراق، أي مرحلة ما بعد هزيمة مشروع القرن الأميركي الجديد. تلك الهزيمة التي ستلقي بظلالها على العالم كله، لتعيد دول العالم بأكمله حساباتها الجديدة بعد أن أفلتته المقاومة الوطنية العراقية من قيود المخاطر المؤكدة التي كانت تنتظره فيما لو نجح المشروع الأميركي في تطبيق فرضيته بإنهاء التاريخ عند أيديولوجيا اليمينيين الجدد بقيادة إدارة جورج بوش.
ولأن المصالح الأميركية كقاعدة عامة، والمشروع الأميركي المهزوم كقاعدة خاصة، كان يمثل المحور المركزي الذي على أساسه كان على دول العالم برمته أن يفصلوا مشاريعهم ومصالحهم على مقاييسه، لا بدَّ من تحديد المتغيرات التي لحقت بهذا المشروع بعد هزيمته في العراق، وما هي قواعد تلك المتغيرات.
لقد تجاوزت قرارات إدارة اليمين المتطرف كل الشرائع والضوابط التي كانت تربط الولايات المتحدة الأميركية مع دول العالم، إذ بلغت درجة تعالي أصحاب المشروع سقفاً لا يمكن لكل تلك الدول أن تتحمل وطأته، بما فيها دول المنظومة الرأسمالية التي لم تترك لهم إدارة جورج بوش ما يأسفون به على انهياره.
أما على صعيد المتغيرات المرتقبة التي ستتحكم بقرارات الإدارة الجديدة، إدارة أوباما، فلن تكون بتقدير كل المحللين، خارجة عن خط حماية الولايات المتحدة الأميركية والمحافظة على قوة تأثيرها في أي نظام عالمي، وستكون تلك المتغيرات محكومة بالدرجة وليس بالنوع. ومن المقدر لها أن تعود إلى سياسة الاحتواء بقوة السياسة والاقتصاد، متجاوزة وسائل الاستيلاء بقوة السلاح والمقدرة العسكرية بعد إثبات فشلها. فاستخدام وسيلة الصدمة والترويع بلغة السلاح ولَّت إلى غير رجعة بعد أن أثبتت المقاومة الوطنية العراقية أن تلك الوسيلة أضعف بكثير مما تصوره الكثيرون في العالم. وأما الصدمة والترويع بمعنى السياسة والاقتصاد فسوف تكون استراتيجية إدارة الرئيس أوباما.
ونتيجة لحالة الضعف والوهن التي أصيبت بهما الولايات المتحدة الأميركية في العراق، لا بدَّ من أنها ستنعكس بتقديم عدد من التنازلات في صياغة نظام عالمي جديد، لكن على ألاَّ تمس تلك التنازلات ثوابت النظام الرأسمالي الأميركي.
ولكي لا تكون سقوف التنازلات الأميركية مرسومة من قبل الإدارة الأميركية لوحدها، نعتبر أن هناك فرصة ثمينة أمام كل الدول المتضررة للاستفادة من حالة الضعف الأميركي للحصول على مزيد من التنازلات التي تضمن لها مصالحها القومية والوطنية في المرحلة اللاحقة. والأحرى بالعرب أن يستفيدوا منها لأنهم الأكثر تضرراً في الماضي القريب والزمن الراهن من العدوان الأميركي سواءٌ أكان عدواناً عسكرياً أم عدواناً اقتصادياً وسياسياً، وتأتي في مقدمة المتضررين العراق وفلسطين ولبنان.
هناك عدد من مظاهر الحركة الدائرة الآن في العالم وخاصة الوطن العربي والإقليم الجغرافي المجاور، تلك المظاهر ابتدأت بالصعود قبل الآن بقليل، تعود أسبابها إلى الحسابات التي فرضتها الانتخابات الأميركية بإسقاط إدارة اليمينيين الأميركيين الجدد، وتصعيد الإدارة التي وعدت بتغيير وسائل اليمين وأخطائه.
وعلى وقع وعود رئيس الإدارة الجديدة بالتغيير راحت تلك الدول والقوى في تجميع أوراقها، وما يمكن أن تحصل عليه من أوراق قوة، لتشكل لها قوة ضغط على أية طاولة مفاوضات قادمة، وهي قادمة لا محالة.
وهنا لا بدَّ من التمييز بين عدد من الحسابات:
-الأول تمثله استراتيجية المقاومة الوطنية العراقية التي لن تتراجع عن ضمان فرض الانسحاب الكامل غير المشروط، ومن ثمَّ إعادة بناء النظام السياسي الوطني على قاعدة التعددية والديموقراطية.
-والثاني: تمثله استراتيجية بعض الدول العربية لتوظيف تلك النتائج في قطف بعض المصالح الوطنية.
–والثالث: تمثله استراتيجية بعض دول الجوار العربي لقطف نتائج تضحيات الأمة العربية لمصالحه الفئوية الخاصة.
ومن أهم تلك الأوراق التي يتم تجميعها ما حققته المقاومة العربية في العراق وفلسطين ولبنان. تلك المقاومة التي لولاها لما قُدِّر لأي لاعب، سواءٌ أكان عربياً أم غير عربي، أن يصبح لاعباً على طاولات المفاوضات القادمة. فالمقاومة وحدها هي عامل القوة الذي يستقوي به رواد المفاوضات، ولكن هل يمكنهم أن يستثمروا هذا العامل بكفاءة وحكمة واقتدار لضمان مصالح الوطن العربي، كل الوطن العربي، ومصالح الإقليم، كل مصالح الإقليم؟
بل هل ستكون القوى الراغبة في التفاوض قادرة على حماية المقاومة العربية ورافضة للتفريط بها؟
وهل من دفع الروح والدم والمال قادر على توظيف ما دفع ليبقى مصدر حماية للأمة العربية وقضاياها من غوائل ما تضمره المخططات الاستعمارية والصهيونية؟
إن القادم من الأيام يحمل مشروع إعادة صياغة نظام عالمي جديد، بتواطؤ استعماري صهيوني، وقد يتم تمريره بما يتناسب مع توزيع الحصص بين أطراف ذلك التحالف من جهة، وقد تلعب بعض الأنظمة العربية الرسمية دور التابع الدائم من جهة أخرى، وتعمل بعض القوى الإقليمية للمحافظة على مصالحها على حساب مصالحنا من جهة ثالثة.
ولما كانت الصورة واضحة عند الآخرين في القادم من الأيام، فهل ستكون بالوضوح ذاته عند أطراف فصائل المقاومة العربية؟


35-افتتاحية نشرة (طليعة لبنان الواحد) عدد كانون الأول 2008
مجازر غزة مهماز العام الماضي إلى من لم تحركهم النخوة العربية
واستشهاد صدام حسين هدية العراق والبعث إلى الأحرار العرب

حدثان ترافقا مع نهاية العام 2008، يجمعهما تقاطع مبدئي، وبهما الكثير من الدروس، لا يمكن المرور عليهما من دون تسجيل مواقف ذات دلالات وعبر.
يجمع الحدثين معاً رباط الدم والكرامة العربية التي لا تجيز الرضوخ لكل وسائل الصدمة والترويع كأسلوب صهيوني أمبريالي في إخضاع إرادة الشعوب بواسطة البطش والجريمة.
منذ مجزرة دير ياسين في العام 1948، كأسلوب صهيوني متمرس في ارتكاب الجريمة، وصولاً لمجازر غزة في نهايات العام 2008، تراكمت شلالات كثيفة من الدم الفلسطيني لتروي حقل الكرامة العربية التي تأبى الاستسلام لمنطق (الحق للأقوى). والبرهان على ذلك أنه قد مضى أكثر من نصف قرن من عمر النضال الفلسطيني، استهلك حياة ستة أجيال من الفلسطينيين، ولم يخضع الأباة منهم لذلك المنطق، وأبت البندقية الفلسطينية أن تخضع وأن تستسلم.
لقد مضت ستة عقود من الذبح والقتل والتشريد والتهجير الجماعي والفردي للفلسطينيين، حتى وصل انتشارهم إلى شتى الأصقاع في العالم، ولم يستسلموا ولم يخضعوا. وتأتي مجازر غزة لتُضاف إلى مسيرة النضال وتسجل جريمة إنسانية كبرى في سجل الصهيونية، وتسجل إشراقة جديدة في تاريخ الشعب الفلسطيني.
لم تلو كل تلك المجازر ذراع المقاتل الفلسطيني ولن تلويه كل المجازر القادمة التي تخطط لها الصهيونية، ولم ترهب صور بشاعة تلك المجازر شعب فلسطين لأنه قدَّم، وسيقدم الشهيد تلو الشهيد، إلى أن تتحرر فلسطين كل فلسطين، من البحر إلى النهر، وهي الأمنية التي استشهد من أجلها صدام حسين، شهيد العراق والبعث والأمة العربية، بل شهيد فلسطين بامتياز.
من أجل صموده على مبدئه، تحرير كل شبر من الأرض العربية المحتلة، وفي طليعتها أرض فلسطين، دفع حياته ولم يركع، بل ظل واقفاً بشموخ وإباء العراقيين والفلسطينيين، بشموخ الكرامة العربية التي أصبحت أسوارها منيعة لا تخشى كل مجازر الصدمة والترويع الصهيونية والأمبريالية، والتي أثبتت إفلاسها أمام مناعة أسوار الكرامة العربية.
وإذا كان العرب قد انقسموا إلى فريقين: فريق النظام العربي الرسمي، وفريق الذين طلقوا السلطة ورفضوها إلاَّ من خلال خندق المقاومة، فإن أكثر ما يُخزي هو أن الصفة الرسمية قد جرَّدت الذين يتصفون بها من عامل النخوة العربية والإنسانية، ذلك العامل الذي حرمهم من نعمة الغضب للكرامة ولم يحركهم الدم العربي الذي سُفح، ولا يزال يُسفَح، في لبنان والعراق وفلسطين.
أما الذين طلَّقوا السلطة، أي الفريق الذي اعتنق المقاومة، بالأظافر والأسنان، فينظرون إلى الدم العربي المسفوح على الأرض العربية، في غزة والعراق، كذخيرة وتميمة تحصن الشعب العربي بالكرامة والإباء.
إنهم يرون في شلالات الدم العربي المسفوح سيولاً ستبلغ الزبى، وستجرف معها كل معالم الذين تفرجوا على الأطفال وهم يُذبحون، والنساء وهن يمتن وزغرودة الشهادة تملأ شفاههن، وستندثر كل معالم الاستسلام وعوامله لتغرق تحت أقدام الأباة من الذين سموا فوق الجراح ليجعلوا منها وقوداً لن تبقي ولن تذر.
فمن شهادة صدام حسين إلى شهادة أهل غزة ستبقى المقاومة هي الرابط الحقيقي والفاعل بين جحافل الثوار العرب الذين، مهما طال الزمن وارتفع الثمن، لبالغون النصر والحرية، ليس من الاستعمار والصهيونية فحسب، بل من كل العرب الذين تجردوا من الإحساس بالكرامة العربية أيضاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق