بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 19 يناير 2010

أبحاث ومقالات قبل العام 2003 (1)

أبحاث ومقالات ومراجعات كتب
قبل العام 2003
فهرست المواد
- في سبيل مشروع وطني سياسي – جبهوي على الصعيدين الوطني والقومي.
- كلام هادئ في مغالطات كبيرة
- العدوان على العراق أسبابه مقدماته ونتائجه
- إحتمالات تطور الأوضاع في لبنان بعد العدوان الأميركي على العراق في العام 1991
- الزناد ضد أفغانستان والعين على فلسطين والعراق
- قراءة تاريخية في نهج التسوية في أزمة الصراع العربي-الصهيوني.
- عفلق وقضية فلسطين
- عفلق والبعد الإيماني طريق ثالث بين التعصب الديني والإلحاد
- المركزية الديموقراطية: نظام للحزب أم نظام للمجتمع؟
-ملفات بيت الحكمة: المقاومة اللبنانية للعدو الصهيوني: البدايات والنتائج
- في معرض تشكيل ملف عن الأحزاب اللبنانية وجَّهت مجلة البيــان، التي تصدر في الإمارات العربية المتحدة، الأسئلة التالية لحزب البعث العربي الاشتراكي.
- أسباب ووظائف المواقف المؤيدة للعراق على المستويين العربي والعالمي
- حفل تأبين الشهيد حسين علي غريب.
- تحرير جنوب لبنان: صراع بين موضوعية كتابـة التاريخ وبين شبق الكسب الفئوي
- مقال لمجلة شؤون جنوبية
- الرابع والعشرون من أيـار من العام 2000
- تغيَّر العالم، فهل تغيَّر العرب؟
- إشكالية العلاقة بين القومية والدين
- مراجعـة كتـاب حاكميـة الله وسلطان الفقيـه
- مراجعة كتاب قريش من القبيلة إلى الدولـة المركزيـة
- مراجعة كتاب "جذور الميكيافيلية في كليلة ودمنة"
- مراجعة كتاب الجهاد
- مراجعة كتاب (المقاومة وتحرير جنوب لبنان)
- مراجعة كتاب (مركزيــة الأنـا)
- مراجعة لـ(موسوعة أعلام العرب … ): لخليل أحمد خليل
-مراجعة كتاب »من ميشال عفلق إلى ميشال عون« لفايز القزي.


في سبيل مشروع وطني سياسي – جبهوي على الصعيدين الوطني والقومي
طليعة لبنان الواحد: العام 1989م
نتائج مرحلة ما بعد الاحتلال الصهيوني للأراضي اللبنانية في حزيران 1982
إن مرحلة ما قبل الأحداث اللبنانية التي انفجرت عسكرياً عام 1975، كانت تشهد محطات إيجابية في تأريخ الحركة الوطنية اللبنانية، على الصعيد التنظيمي الذاتي للأحزاب الوطنية وعلى صعيد النضال الديمقراطي المشترك لهذه الأحزاب، وعلى صعيد النضال القومي انطلاقاً من دعم المقاومة الفلسطينية ومشاركتها في الكفاح المسلح واحتضانها سياسياً وعسكرياً على الساحة اللبنانية.
إن تلك المحطات الإيجابية كانت ركيزة أساسية لنضال الحركة الوطنية أثناء الأحداث الدامية في 13 نيسان 1975وما تلاها من تطورات لاحقة، إذ انها على الأقل قد جعلت الحركة الوطنية في مواجهة تلك الأحداث بأقل ما يمكن من الإرباك.
وتطورت التجربة، ونضجت أكثر فأكثر، عندما أخذت تعبر عن نفسها ببرنامج إصلاحي سياسي موحد لأطرافها من جهة، وانتظام تلك الأطراف في مؤسسات جبهوية مشتركة على الصعيد العسكري والسياسي والتنظيمي من جهة أخرى.
وكان من الممكن ان تطور الحركة الوطنية اللبنانية تجربتها تلك، لتصبح نموذجاً يحتذى ولكانت فعاليتها، أهم وأبقى فيما لو استطاعت ان تبقى متماسكة صلبة، مصرة على تثبيت تلك التجربة.
ولكن الظروف التي سبقت الاجتياح الصهيوني عام 1982للأراضي اللبنانية، كانت تحمل في طياتها مشروعاً لتفكيك تلك التجربة، وقد نجحت المؤامرة في ذلك. وكانت من نتائجها الواقع السيئ الذي نشهده اليوم في العام 1982 لوضع الحركة الوطنية اللبنانية بشكل عام ولوضع أحزابها منفردة يشكل خاص.
في هي الأسباب التي عملت على تفكيك تلك التجربة الفريدة التي أرست أسسها أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية؟
إن أسباب تفكيك تلك التجربة، تعود في تقديرنا إلى عاملين: أحدهما ذاتي والآخر إقليمي.
أولاً: العامل الإقليمي:
أما العامل الإقليمي الذي سوف نعمل على تحليله أولاً، قد ساهم بشكل أو بآخر على إبراز العامل الذاتي، وهذا ما يعطيه أرجحية أولى في التحليل.
في تقديرنا ان هناك طرفين إقليميين لعبا دوراً كبيراً على الساحة اللبنانية قبل الاجتياح الصهيوني في حزيران 1982 بقليل، وبعد هذا الاجتياح، وتمثل دورهما في تفكيك الحركة الوطنية اللبنانية على المستوى التنظيمي، وفي مصادرة قرار هذه الحركة على المستويين السياسي والعسكري، بواسطة أدواتهما على الساحة اللبنانية .
إن هذين الطرفين هما النظام السوري الذي عمل على تنفيذ هذا المخطط منذ دخوله الأراضي اللبنانية في 6/6/1976، وما زال حتى الآن. والرف الثاني هو نظام الآيات في إيران، الذي استقطب شعبياً وسياسياً قبل الاجتياح وحول هذا الاستقطاب إلى عمل منظم بعده. ومن ضمن من استقطب هذا النظام كثير من أطراف الحركة الوطنية اللبنانية وفصائل المقاومة الفلسطينية، ولكل طرف منهم سبب ذاتي في اتخاذه قراراً بتأييد النظام الجديد في طهران.
وسوف نلقي الضوء على دور كل من هذين الطرفين الإقليميين على صعيد العمل الموجه لتفكيك الحركة الوطنية اللبنانية تنظيماً وقراراً.
إن عام 1980، الذي رافق انتصار الحركة التغيرية في إيران، تلك التي ركب موجتها التيار المذهبي،، بقيادة الخميني،، والتي لاقت استحساناً وتأييداً من أكثر من طرف على الساحة اللبنانية، الساحة الأكثر حساسية لاستقبال كل الموجات التي يأتي مصدرها من الخارج.
ماذا تمثل حركة التغيير في إيران؟
إنها تمثل أولاً: انقلاباً ضد السياسة الخارجية لنظام الشاه وتحويله من نظام أساسي محسوب في خانة الإمبريالية الأميركية، لكي يلقى هذا الانقلاب هوى وتأييداً من أنصار الاتحاد السوفيتي.
وتمثل ثانياً: سقوط نظام أساسي تستند إليه العنصرية الصهيونية بكيانها الإسرائيلي وان سقوطه يجد تأييداً في الوسط الفلسطيني بشكل عام، ومن الذين يقفون في الطرف القومي الذي يعمل على اقتلاع هذا الكيان.
وهو يمثل ثالثاً: انتصاراً لرجال الدين في استلامهم السلطة السياسية، وهذا يؤدي إلى تأييد من المسلمين كافة بشكل عام، ومن الذين يدينون بالمذهب الشيعي بشكل خاص.
إن كل طرف على الساحة اللبنانية، من الذين ابتهجوا لإسقاط نظام الشاه واستلام الخميني موقع السلطة،قد استند في تأييده إلى أسبابه الخاصة وإلى ما يعتبره تغييراً يخدم تطلعاً فئوياً لديه.
ولكن أي من هذه الأطراف لم يحاكم التغيير الذي حصل، محاكمه شاملة وكلية، بإيجابياتها الموجودة وبسلبياتها المحتملة، لكي بكون التقييم موضوعياً متكاملاً وغير مجتزأ.
هذا في نظر الأطراف اللبنانية، أما من وجهة نظر القوى الإقليمية بالنسبة لهذا التغيير، فقد حصل توافق، غير مخطط له،، بين كل من النظام السوري والكيان الصهيوني، حول تأييد نظام الآيات في إيران، ولكل من الطرفين الإقليميين أسبابه في التأييد، لن نخوض في تفاصيلها لأن لها إطاراً آخراً.
إن النظام الجديد في إيران، صاحب استراتيجية تصدير الثورة الإسلامية إلى خارج حدود إيران، لم ينتظر طويلاً لتثبيت سلطته حتى ابتدأ فعلاً وفي أقل من سنة إلى تنفيذ أطماعه وذلك بافتعاله حرباً مع القطر العراقي، على الحدود الدولية، بحرب نظامية من جهة، وداخلياً في القرى والمدن العراقية بمحاولة نشر الفوضى وغارات العصابات من جهة أخرى.
لضرورة فهم العامل الإقليمي، ومدى تأثيره سلباً على مسيرة الوضع في ما كان يعرف بالمنطقة الوطنية، لا بد من الإشارة إلى المصالح المتداخلة لتلك الأطراف على الساحة اللبنانية. اننا في تقييمنا هذا سوف نستثني العدو الصهيوني وحليفه الأميركي، منعاً للوقوع في تكرار شرح خطورة المخططات الصهيونية والإمبريالية على الوضع في لبنان، وسوف يقتصر تحليلنا على القوى التي تعتبر بشكل أو بآخر صديقة أو حليفة لقوى التغيير الوطني على هذه الساحة أو لمن اعتبر لسبب أو لآخر في خانة هذه القوى.
إن النظام السوري كقوة إقليمية ذات تأثير مباشر ومعار على الساحة اللبنانية بحكم الجوار الجغرافي والجوار القومي، دخل على الساحة اللبنانية للمحافظة على ما يمتلك من مصالح سياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية، ومن منطلق قطري، وذلك للامساك بقرار القوى الفلسطينية واللبنانية، تسهيلاً لفرض دور له على المستوى الدولي، يساعده في رسم الحلول للمنطقة من جهة وتأمين ما يعتبره من وجهة نظره المصلحة القومية، وبشكل خاص على صعيد القضية الفلسطينية.
وعندما حصلت المواجهة السياسية، وبعض الإعاقات العسكرية ضد قواته في 6/6/1976 من قبل كافة القرى الفلسطينية واللبنانية على الساحة الوطنية، التي لم تمنعه من السيطرة العسكرية على كافة الأراضي اللبنانية التي دخلها، وبالتالي استطاعت تلك القوى بعد الدخول السوري ان تبني مؤسساتها السياسية والعسكرية المشتركة لمتابعة المعركة في إفشال مخطط النظام السوري لاحتواء القرار الوطني فلسطينياً ولبنانياً.
إن صمود الصف الفلسطيني- اللبناني، ضد احتواء القرار لم يدفع بالنظام السوري إلى التراجع، ولكنه أخذ يفتش عن بديل وعن موطئ قدم سياسي وشعبي على هذه الساحة عندما عجز عن اختراق جبهة القوى الوطنية الفلسطينية- اللبنانية عسكرياً.
إن موطئ القدم المقصود، لم يكن سوى حركة أمل ذات الاتجاهات المذهبية الشيعية التي استطاعت أن تلملم في صفوفها وعلى أطرافها كل المتضررين من الوجود الوطني لبنانياً وفلسطينياً، وكل الذين تعرضوا في أرزاقهم وحياتهم الخاصة لخسائر. وعند ما حمل التغيير في إيران، واتضحت اتجاهاته الأيديولوجية والسياسية أعطى زخماً وقوة لتلك القوى المذهبية التي كان النظام السوري يؤهلها "حصان طروادة" وبادر هذا النظام في نفس الوقت، وليس لأسباب استراتيجية قومية بل لأسباب لا علاقة لها بالمصلحة القومية، إلى التعاون مع النظام الإيراني للاستفادة من زخمه الجديد على صعيد السياسية الدولية من جهة، وعلى صعيد الساحة الإسلامية والشيعية في لبنان من جهة أخرى.
إن هذه الوقائع تفسر لنا،إعلان ساعة الصفر لمعركة النظام السوري ضد الصف الوطني اللبناني والفلسطيني منذ عام 1980، وان أعلنت تلك المعركة لم يكن شاملاً ضد كافة أطراف هذا الصف وإنما كان موجهاً بشكل أساسي ضد حزب البعث العربي الاشتراكي، وهو قد لجأ إلى تجزئة معركته لأسباب تكتيكية وضد الطرف الأقرب منالاً، ولأسباب تلامس عواطف المنفعلين بالنظام الإيراني الجديد وبوجهه المذهبي بشكل خاص ولهذا فتحت المعركة ضد القطر العراقي على الساحة اللبنانية وضد ما معتبرة عامة الناس امتداداً للعراق من مؤسسات دبلوماسية وتجارية عراقية في لبنان من جهة، وضد حزب البعث العربي الاشتراكي من جهة أخرى، وذلك تحت أسماء مفتعلة أو مختلفة تروجها وسائل إعلام النظام السوري وإعلام مخابراته وامتداداته على الساحة اللبنانية.
إن السبب الرئيسي لفرض المعركة على حزب البعث العربي الاشتراكي في لبنان له أوجه عدة، حاول أكثر من طرف من حلفائه ان يبتعد عن فهمها، وآثر الاقتناع بما أثير من أسباب ظاهرية، وان أوجه فرض المعركة ضد حزب البعث العربي الاشتراكي، كان وجهها الرئيسي الدور المهم والوحيد الذي يلعبه القطر العراقي في دعم المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية سياسياً ومادياً وعسكرياً، وان إرباكه على الساحة اللبنانية يأتي بنتيجتين: الأولى، منع الدعم المذكور، وما له من تأثير سلبي على المؤسسات الوطنية المشتركة، أما الثانية فهي شطب الموقع السياسي والعسكري للحزب وما له من تأثير مهم على مدى تماسك الحركة الوطنية اللبنانية، وعلى مدى مساهمته في حماية الثورة الفلسطينية.
ولكن المعركة الأساسية بشكل عام، كان مقصوداً منها الجميع، ورغم ذلك لم تخض الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية ، المعركة بشكل جبهوي صحيح إلا حيثما تفرض الظروف الجغرافية و السياسية ذلك.
إنه في الوقت الذي خاض فيه النظام السوري معركته العسكرية، كان من ناحية أخرى يخوض معركة سياسية على قاعدة ان المقصود هو إنهاء حزب البعث العربي الاشتراكي وشطب دوره عن هذه الساحة، ولذلك فقد أعد هذا النظام بالتفاهم مع الأحزاب الوطنية قبل الاجتياح الصهيوني في حزيران عام 1982، تركيبة جديدة للحركة الوطنية اللبنانية يعزل فيها حزب البعث. وان هذه التركيبة قد وجدت هوى وقناعة في نفوس تلك الأحزاب، وفي تقديرنا انها كانت لدافعين عندها أحدهما فئوي، والدافع الآخر حفاظاً على الرأس من الشطب.
وعندما جاء الاجتياح في عام 1983، كان تأثيره في هذا المشروع يقتصر على تأخير التنفيذ لا غير، إذ ان النظام السوري، تابع تنفيذ المشروع الأساسي فيا تفكيك التجربة الوطنية اللبنانية والفلسطينية، مباشرة بعد الاجتياح حيت باشر في ضرب الوحدة الفلسطينية، منطلقاً من تفكيك حركة فتح، صاحبة القرار والموقع الأساسي في الثورة الفلسطينية. إن التصفية ضد المقاومة الفلسطينية انطلقت بدءاً من البقاع، مروراً في البداوي وطرابلس ف 1983 وصولاً إلى مخيمات بيروت مند 1985، ومخيمات الجنوب في عام 986 1.
أما بالنسبة للشق المتعلق بالحركة الوطنية اللبنانية فقد عمل النظام السوري على تدجينها في أطر جبهوية فسيفسائية، لا قرار لها، سياسياً أو عسكرياً إلا ضمن توجيهات تأتي من فوق على الصعيد الإقليمي، ومرتهنة لقرار القوى الطائفية والمذهبية وعلى رأسها حركة أمل على الساحة اللبنانية.
ولم يكتف النظام السوري ببديل مذهبي واحد للحركة الوطنية اللبنانية بل خلق ردائف مذهبية أخرى، تلك التابعة للنظام في إيران والتي أسست فيما بعد ما سمي "حزب الله". وأصبح هذا منافساً أساسياً، ينطلق، بتعصب وجهل، مدعوماً بإمكانيات مادية وعسكرية كبيرة،، وبقرار حمايته من النظام السوري، وطرح هذا الحزب نفسه بديلاً لكل ما هو وطني أو قومي، وحتى اعتبر نفسه بديلاً لحركة أمل التي تشاركه تطلعاته المذهبية ولأنها لا تشاركه في تطلعاته السياسية، أخذ يعمل على أساس انه الوريث الشرعي للقرار الشيعي على الساحة اللبنانية.
ولكنه رغم ما حصل من تطورات أمنية وعسكرية ضد حزب الله في الجنوب والضاحية الجنوبية منذ أوائل نيسان عام 1988, وحتى أواخر أيار من العام نفسه، لم يتغير وضع المرحلة كثيراً لان القرار ما زال مصادراً من جهة ولان الذين صادروا القرار الوطني ما زالوا هم المذهبيون المتغصبون وجل ما تعتبره تغييراً. إن إحدى المذهبية قد قلص دورها، وإنما الطموح الذي نتطلع إليه هو إعادة الحياة للقرار الوطني وليس لغيره.
من هنا نخلص إلى ان العامل الإقليمي الذي مثله النظامان السوري والإيراني، قد استطاع ان يقلب المعادلة الصحيحة رأساً على عقب إذ انهما دفعاً بالقرار الوطني أشواطاً بعيدة إلى الوراء، حين فرضوا القرار المذهبي على هذه الساحة.
ولكن الأمر لم يقتصر عند هذا الحد وإنما أخذ النظامان المذكوران، دوراً، وحيداً وأساسياً إذ أن النظام السوري يفاوض عن جميع حلفائه، إن كان مع الحكم اللبناني أو مع الإدارة الأميركية من جهة، ويفاوض النظام الإيراني حول الساحة اللبنانية من جهة أخرى وكأن لا رأي ولا دور لأي من حلفائهما.
ثانياً: العامل الذاتي:
إن العامل الإقليمي الذي ساهم في تفكيك الحركة الوطنية اللبنانية، استخدم أسلوب الترهيب والترغيب، كما مر معنا، على الأطراف الوطنية، وجعل منها ديكوراً، تنطق باسمه، وهي تلهث وراء اكتساب موقع سياسي أو عسكري محدودين، هنا أو هناك، وكل ما استطاعت ان تحصل عليه بعض التجمعات الشكلية في طرابلس، أو في صيدا، أو على الصعيد العام حيث لم تحصل سوى على يافطات جبهوية لا مضمون لها، وحتى من حيث الشكل ليس لها وجود، وإنما هي نوع من الملهاة التي تشغل عدداً من القياديين في صياغة النصوص وعقد المؤتمرات لمناقشة هذه النصوص وبعد الاتفاق عليها، يخرج الجميع ليضم كل واحد منهم نصه إلى أرشيفه التاريخي.
وقد أشرنا أثناء معالجة العامل الإقليمي إلى أن الساحة اللبنانية هي الأكثر حساسية في استقبال المتغيرات الإقليمية، والتفاعل معها، ولكن ما هي الأسباب التي تطبع الواقع اللبناني بهذه السمة؟
انه في تقديرنا أن التعددية السياسية والأيديولوجية والطائفية على هذه الساحة، التي لا يجمعها مفهوم وطني واحد يصهر تلك الاتجاهات ويبتعد بها عن الفئوية والتفتيت والتزمت.
وأن كان غياب المفهوم الوطني الواحد، هو من مسؤولة الصيغة الهشة التي عمل على أساسها النظام اللبناني في كافة عهوده السابقة، فان مسؤولية الإطار الجبهوي الوطني الواحد هو مسؤولة الأحزاب، القوى الوطنية صاحبة المصلحة في التغيير.
فغياب المفهوم الوطني الواحد والإطار الجبهوي الواحد، في ظل التعددية، هو نتيجة للعوامل الذاتية والفئوية والمتزمتة التي تحكم الأحزاب والقوى على هذه الساحة.
إن تلك السلبيات التي تحكم علاقات الأطراف، سياسية كانت أم عقائدية أم طائفية، تدفع بكل طرف إلى بلوغ أهداف ومصالح فئوية، التي قد تجد مع الآخرين جوامع مشتركة في تلك المصالح، ولكن هذه الجوامع لا تشكل قاعدة ثابتة تسمح باستمرار التحالف إلى نهايات مراحل محددة بمفهوم المنطق ولمبدأ. ولكن لماذا لا تمثل تلك الجوامع المشتركة تلك القاعدة الثابتة؟
إنه في تقديرنا، وحسبما تدل عليه بعض الظواهر، حسب التجربة التي تمارس على الساحة اللبنانية، ان العوامل الذاتية لقيادات الحركات والأحزاب والشلل على كثرتها تلعب دوراً كبيراً في حرق المراحل، والرضوخ لضغوطات المراحل الأمنية والسياسية التي تبدو في حركة دائمة على هذه الساحة.
ومن هذه العوامل الذاتية لتلك القيادات، هو طلب الوصول الشخصي إلى مواقع محددة والمحافظة عليها على حساب قناعة المجموع من جهة، والحرص هذا، يعززه حرص على السلامة الخاصة لتلك القيادات من جهة أخرى.
إن هذه التفسير يعزز صحته، الأسلوب الذي تستعمله القوى الإقليمية بالترهيب الذي يؤثر على الحركات قيادات وقواعد.
إننا لن نخوض بدارسة نفسية للحركات السياسية في لبنان، ولكن التأشير على هذا الجانب حتى في شقة الإنساني مسألة ضرورية لفهم التناقض الحاصل بين مبدئية بعض الأحزاب وعقائديتها وبين أسلوبها النضالي المطبق على الأرض. إن تطبيق الأساليب النضالية لا تحكمه مبادئ ونظريات فقط، وإنما يحكمه مدى تماسك الإنسان في سلوكه النضالي أثناء مواجهة الأخطار التي يتعرض إليها المناضل.
إن التعددية في كافة جوانبها التي يحكمها التعصب والتزمت والفئوية من جهة والتي تحكمها المواصفات الشخصية للقادة والقواعد في جانبها الإنساني، هي عامل أساسي في خضوع الأطراف الداخلية، استقواء بالعوامل الخارجية.
إن مسألة الخضوع تلك يحددها: الطموح الذاتي للقادة في الحركات السياسية ومدى المقدرة على التأشير داخل تلك الحركات.
الهدف الاستراتيجي للأحزاب السياسية والعقائدية، ومدى الصلابة النضالية لقادتها ولقواعدها.
إن بعض الحركات السياسية في لبنان وخاصة تلك التي تأسست في ظل الأحداث اللبنانية تخضع بدورها لطموحات قادتها، تلك الطموحات التي لا تحدها استراتيجية سياسية أو عقائدية، وهذا ما يفسر، خضوع تلك الحركات لأي تغيير يأتي.
أما بعض الأحزاب العقائدية والسياسية على هذه الساحة فبعضها يعمل انطلاقاً من مصالح دولية بحكم الارتباط العقائدي أو السياسي، إذ يحاول الربط ما بين تلك المصالح الخارجية وبين مصالحه المحلية، ولكن في معظم الأحيان كانت تلك المصالح الخارجية تأخذ أرجحية وأولوية في نضال تلك الأحزاب.
وبإيجاز، فان أية حركة سياسية، أو أي حزب سياسي على الساحة اللبنانية، كانت تأخذ قراراً في قربها أو بعدها من أي تغييرات، عسكرية أو أمنية أو سياسية، على الساحة الإقليمية، بناء على مواقف حزبية من هذا الجانب أو ذاك للمتغيرات الإقليمية، ودون النظر إلى تلك المتغيرات بشكل كامل وكلي. ولهذا فان الإرباك الحاصل فيما القرار السياسي لتلك الحركات اللبنانية يأتي من النظر إلى أجزاء من المتغيرات التي تتوافق مع سياسة هذا الطرف أو ذاك. إن هناك أجزاء أخرى في تلك المتغيرات يكمن فيها التناقض، وغالباً ما تحصل هذه الأجزاء تناقضات استراتيجية لا بد ان تصطدم في النهاية مع استراتيجيات الحلفاء من أطراف الحركات السياسية أو الحزبية على الساحة اللبنانية، وهذا ما أثبتته التجربة منذ عام 1980 وحتى اليوم.
إن عوامل التنافر بين الحركات المحلية والقوى الإقليمية المذكورة موجودة بالفعل، ولكن عوامل التلاقي، في تقديرنا، لا تخرج عن الإطار المرحلي، وأما عوامل التنافر. فتدخل في الإطار الاستراتيجي.
إن ما جعل الحركات المحلية، سياسية أو حزبية أو مذهبية،تغلب العوامل المرحلية في تحالفاتها مع القوى الإقليمية، تحديداً مع النظام الإيراني، ليست إلا الأسباب التبريرية التي طبعت سياسة تلك الأطراف في تبرير تحالفاتها تلك، للتعمية على السبب الأساسي الذي لا يخرج عن إطار العامل الذاتي الذي يتلخص بشيء من الانهزامية وشيء من الانتهازية، وشيء من الفئوية، وشيء من المصلحة الآنية الضيقة الأفق.
وهكذا كان في تقديرنا، إن العامل الإقليمي للأطراف الخارجية صاحبة المصلحة في السيطرة على الساحة اللبنانية، والعامل الذاتي لبعض أطراف الحركة الوطنية اللبنانية في تبرير قرارها بالتحالف مع العامل الإقليمي، هما السبب الرئيسي في القضاء على تلك التجربة الإيجابية الحبهوية السابقة للاجتياح الصهيوني، التي خاضتها الحركة الوطنية اللبنانية وارتضت تفكيكها بوعي أو دون وعي منها، في هذه المرحلة بالذات.
ولا بد من الحكم، أن العدو الصهيوني الذي عمل طويلاً ودون نتائج تذكر، لتفكيك التحالف الوطني اللبناني- الفلسطيني على الساحة اللبنانية، قد استطاعت فصائل هذا التحالف ان تقدم وثيقة وفاته على طبق من ذهب، نتيجة عجزها عن رؤية صورة المؤامرة بشكل واضح، والتي توقعوها من الشرق، فإذا بها تطل برأسها من الغرب، توقعوا إدارتها وتنفيذ فصولها من قبل العدو، فإذا بهذه الفصول تنفذ من صديق أو حليف.
ولكن ما يتبادر إلى الذهن، ليس البكاء على الأطلال، لانه حتى الآن لم تصبح التجربة إطلالاً، بلا ان وقائع المرحلة الراهنة تؤشر على ان القرار الوطني الغائب أصبح هو الضرورة المطلوبة في هذه المرحلة. فكيف نعمل على استعادة هذا القرار؟

ملامح المرحلة القادمة
إن العوامل الإقليمية، بأطرافها العدوة، والمفترض أن تكون صديقة، مع امتداداتها الداخلية على الساحة اللبنانية وصلت إلى مرحلة الخطوط الحمر على المستويات الجغرافية والسياسية والعسكرية، ان الخطوط الحمر تلك كان من الممكن ان تؤدي إلى تقسيم فعلي للساحة اللبنانية على المستوى الآني والمستقبلي، لولا انه في تقديرنا، أن التقسيم مستحيلاً على هذه الساحة الصغيرة، لانها ليست منفصلة عن واقعها القومي العربي، بزخمه الفكري والسياسي والأيديولوجي الوحدوي، الكامن والمحرك لكل الصراعات التي تدور على الساحة العربية شكل عام، وعلى البوابة الشرقية للأمة العربية، وعلى الساحة اللبنانية بشكل خاص.
إن هذه الصراعات، وما تتصف به من شراسة ووحشية، تحديداً على الساحة اللبنانية موضوع دراستنا، كان من الممكن أن تؤدي بنا إلى استنتاجات سلبية تصب في إطار المزيد من التجزئة والتقسيم في جسم الأمة العربية، أو لأحداث مزيد من التفتيت في الأجزاء القائمة حالياً. ولكن قناعتنا بحتمية انتصار الفكر الوحدوي هو الذي يدفعنا إلى التأكيد على الاتنتاجات الإيجابية لان هذه الصراعات ليست إلا مظاهر حقيقية تصب في مجرى التغيير الذي تعمل على أساسه الحركة القومية الوحدوية في الأمة العربية، باتجاه التوحيد لا التفتيت.
إن هذه الصراعات، رغم دمويتها ووحشيتها، فإنما تؤكد أن الخطر الوحدوي الداهم ضد قوى التجزئة هو خطر فعلي وموجود، ولولا هذا الوجود، لما تألبت كلا قوى التآمر والتجزئة والتقسيم من أعداء الوحدة العربية، واندفعت في تخطيط المؤامرات وتنفيذها ضد الفكر الوحدوي وقواه الفعلية على الأرض.
من هنا نعتبر أن هذه الصراعات التي تعاني منها الأجيال الحالية، ليست إلا المظاهر الإيجابية، لجدية استراتيجية التغيير، ولجدية القوى التوحيدية وأهميتها على المستويين القومي والوطني.
إن الصورة الراهنة كما تبدو على الساحة اللبنانية، على المستويات الجغرافية والسياسية والعسكرية، قد أصبحت محكومة بكثير من الثبات ومقدر لها أن لا تتغير، لان الخطوط الحمر أصبحت مرسومة ومضبوطة ومحمية عن قبل القوى الإقليمية والدولية، ولكن تثبيت هذه الخطوط لا يدل على أنها متجهة باتجاه القسيم- كما أشرنا في البداية- ولكنها تدل على أن الجميع دخلوا مرحلة المآزق السياسية والعسكرية، فهي بهذه الحالة ممنوعة من التقدم أو التراجع من جهة، وهي ممنوعة من تكريس هذه الخطوط في إطار استراتيجي من جهة أخرى.
إن مرحلة المأزق هذه، هي محطة مؤقتة، لابتكار حلول ورسم خرائط سياسية وأمنية لا خرائط جغرافية لمستقبل لبنان، وهذه الخرائط لن تكون إلا محكومة بمصالح القوى الإقليمية والدولية. ولن يستطيع أن يمنع تقاسم هذه المصالح سوى أفق وحدوي عربي.
ولكنه في الوقت الذي لم يشق الجهد الوحدوي العربي بعد طريقه بقوة وفعالية، هل يمكن الاستكانة إلى ما يرسم من مشاريع وتوزيع مصالح؟
وهل يمكن أن نعتبر أن ما سوف يرسم من مشاريع حلول، أو ما سوف تنبثق عنه المرحلة من نتائج لن تكون سوى في مصلحة القوى الإقليمية والدولية؟
إننا في الوقت الذي نؤشر فيه على مخاطر ما يرسم من حلول على الساحة القومية بشكل عام أو على الساحة اللبنانية بشكل خاص، وفي الوقت الذي نؤشر فيه على نتائج الإيجابية للوضع القطري اللبناني من خلال فهمنا لاستراتيجية العمل القومي.
نجد في هذا الوقت أن رؤية الأمور، لا يمكن أن تكون أما سلبية بكافه نتائجها، وأما إيجابية بكافة نتائجها، ولكن هذه الهوية تستند إلى ما طرأ من تغييرات سلبية مرعية تحمل على إعاقة الوعود إلى هذا الهدف نفسه.
من خلال هذه الرؤية علينا أن ننظر إلى ملامح المرحلة القادمة، فكيف تبدو أمامنا هذه الملامح من خلال ما حصل فيما المراحل السابقة من تراكمات سلبية أو إيجابية على طريق الوصول إلى الهدف الاستراتيجي؟
انطلاقاً من اعتبار الساحة اللبنانية، ساحة مفتوحة على الصراع الإقليمي والدولية حيث تتداخل فيها العوامل الداخلية مع العوامل الخارجية، يرفد أحدهما الآخر على الصعد السياسية والعسكرية، استناداً إلى ما تقتضيه مصلحة هذا الطرف أو ذاك، أو ما تقتضيه مصالح المتحالفين خارجية وداخلي، حيث كل طرف من أطراف التحالف (الداخلي الخارجي) يتعاطى مع الآخر على قاعدة التبادل المصلحي.
إن الأطراف الداخلية التي ارتبطت في أحلاف مع القوى الخارجية انطلقت أساساً من الحاجة إلى دعم سياسي أو مادي أو عسكري، للاستقواء في وجه الخصوم المحليين، وانجرفت فيما بعد تحت نير الخضوع للابتزاز الخارجي، وهذا ما يبدو واضحاً وجلياً في العودة إلى ملف تلك التحالفات شرقية أم غربية.
إن تغذية الصراعات الداخلية في الوقت الذي كانت الساحة اللبنانية تفرز فيه ميليشيات جديدة، تضيف مناخات أخرى من أسباب التناحر، حولت الصراع الداخلي إلى قطار يتجول بين كافة المناطق اللبنانية يحولها إلى ساحات دموية، وقودها التنظيفات المسلحة ومنها تلك التي تعتبر في صف الحلف الواحد.
في خضم هذه البؤرة من التعقيدات والتدخلات التي قد تبدو للمراقب بأنها مستحيلة على الفرز، مما لا تسمح بالرؤية الواضحة، لا بد في هذه الحالة للخروج من متاهات التفصيلات المعقدة، التي تحول دوت الوضوح في التحليل، من اللجوء إلى تحديد للقضايا الرئيسية، التي تشكل سبباً للصراع من جهة، والى تحديد قوانين هذا الصراع ووسائله من جهة أخرى.
أولاً- قضايا الصراع على الساحة اللبنانية:
إحدى هذه القضايا هي وطنية، أما الأخرى فهي قومية، أما القضية الوطنية فمصدرها الأول التناقض الحاصل بين الطوائف اللبنانية ومقدار الحصص التي تطالب بها كل طائفة لنفسها وهو ما نطلق عليه الصراع الطائفي- الطائفي- الإشارة إلا أن هذا الصراع ليس صراعاً دينياً- دينياً وإنما يصح تسميته الصراع الطوائف السياسي هو ما يقوده أمراء الطوائف.
ومصدرها الثاني هو التناقض الحامل ببن ما هو وطني وما هو طائفي، فطرف الصراع الأول يمثله أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية بتياراتها المحلية والوطنية والقومية،أما طرفه الثاني فيمثله أمراء الطوائف جميعاً.
أما القضية القومية فمصدرها الفكر القومي العربي الوحدوي الذي يمثل الطرف النقيض للفكر القطري التقسيمي، الأول يعتبر لبنان جزءاً من الأمة العربية أما الآخر فيخضع لبنان إلى قطرية ضيقة، بجب فصله عن جسمه القومي العربي.
وفي هذا الإطار، تأتي القضية الفلسطينية كجزء من القضية القومية في صلب الصراع القائم على الساحة اللبنانية، ويفرض ذلك، التواجد الأساسي للثورة الفلسطينية في لبنان، القطر العربي المجاور لحدود فلسطين المحتلة.

ثانياً: وسائل الصراع وقوانينه:
اعتبرت الأطراف الطائفية القطرية عند المسيحيين في معرض صراعها مع الأطراف الطائفية القطرية عند المسلمين، أن الوجود الفلسطيني المسلح على الساحة اللبنانية، عنصراً مرجحاً لخصومها في الصراع المحلي، ولهذا عملت على شطب هذا العنصر الخارجي ذو التأثير والنفوذ الداخلي، من ساحة الصراع، بلجوئها إلى التعاون مع العدو الصهيوني، ظناً من هذه الأطراف أن نتائج المعركة سوف تكون مضمونة لصالحها، وسوف يكون الحسم بسرعة ودقة.
لقد أخطأت هذه الأطراف بالتقدير، لانها عندما أستندت إلى دعم خارجي لم تضع في حسابها ضعف تحالفاتها الداخلية، وقوة الصف الداخلي الذي يتكتل في وجهها، بعضها له الحمق القومي، وبعضها الثاني العمق الوطني، وبعضها الثالث له العمق الطوائفي. ورغم انه توفر للقوى القطرية المصلحة، دعماً إقليمياً آخر، من النظام السوري مه كان هذا الدعم يجب ان يصب في مصلحة خصوم القوى الطوائفية القطرية من وطنيين وقوميين بحكم المنطق والمبدأ ، ولكن ساحة الصراع اتجهت نحو التوازن، فالاستقرار إلى فترة زمنية محدودة.
كان من الممكن أن نصف تخل النظام السوري، بأنه تداخل أيجابه لمنع مجازر طائفية كما كان يدعى في حينه، لولا ان اتجاهات الصراع منن عام 80 19 أخذت تؤكد على أن النظام السوري عمل على تجميع القوى الطائفية القطرية اللبنانية من المسلمين لوضعها في مواجهة المشروع الوطني من حجه ولإرباك المقاومة الفلسطينية من جهة أخرى.
وان هذه الاتجاهات أصبحت على الشكل التالي:
قوى طائفية مسيحية- قطرية مدعومة صن الصهيونية في مواجهة قوي وطنية لبنانية مع الفصائل الفلسطينية.
إلى قوى طائفية مسيحية مدعومة من الصهيونية والنظام السوري، أضف إليها قوى طائفية إسلامية في مواجهة القوى الوطنية اللبنانية مح الفصائل الفلسطينية.
رغم هذا التطور الإيجابي في حجم القوى المناهضة للمشروع الوطني وللقضية الفلسطينية لم يطرأ أي تغيير يذكر في ترجيح كفة الصراع إلى يحد الطرفين المتواجهين.
ولكن الأمور اتجهت إلى الأسوأ بعد أن ابتدأ الجسم الواحد للحركة الوطنية بتمزق ويتشرذم قبل الاجتياح الصهيوني في حزيران 1982 بقليل، وبلغت درجة كبيرة من السوء، بعد استكمال شطب التجربة الجبهوية الأولى للحركة الوطنية اللبنانية بعد الاجتياح من جهة، وتمزيق الوحدة الفلسطينية على الساحة اللبنانية وخارجها من جهة أخرى.
ولهذا أصبحت قوى المواجهة، إذا ما أضيف إليها عنصر جديد هو التواجد الإسرائيلي على الساحة اللبنانية على الشكل التالي:
الصهيونية والنظام السوري، والقوى الطائفية المسيحية والمذهبية والإسلامية في جانب وفي الجانب الآخر قوى وطنية مشرذمة بعضها خاضع للهيمنة السياسية والعسكرية، مع قوى فلسطينية مشرذمة ومتناحر بعضها يخضع لنفس الهيمنة الإقليمية.
عند هذا الحد، أصبحنا نعتبر أن قانون التحالف السابق في مرحلة ما قبل عام 1982، التي كانت منطقية ومبدئية، ليس هو كالقانون الشاذ الذي يحكم التحالفات في هذه المرحلة، لانه بعد أن كان المشروع الوطني هو طرف أساسي في الصراع قبل 1982، فان هذا المشروع قد تحلل وانتهى في هذه المرحلة، فبديل للصراع بين: الوطني والقومي في مواجهة الطائفي القطري، تحول الصراع إلى القطري الطائفي والمذهبي الإسلامي في مواجهة الإقليمي والطائفي المسيحي. وانبثق عن هذا الصراع، صراعات حزبية أخرى بين أبناء الصف الواحد:
-مسيحي طائفي ضد طائفي
-مذهبي إسلامي ضد مذهبي إسلامي
-مذهبي إسلامي قطري ضد الوطني والقومي (لا تمييز بين وطني حلف أو قومي حليف).
إن وسائل الصراع وقوانينه في هذه المرحلة قد أعطت الغلبة لكل ما هو قطري وطائفي ومذهبي وشعوبي، على حساب كل ما هو وطني وقومي.
لماذا تحولت الصورة من النقيض إلى النقيض إذن؟
لماذا انتصرت ووسائل الصراع المذهبي الطائفي القطري؟ انه في تقديرنا عائد للعوامل الذاتية للقوى والأحزاب الوطنية اللبنانية والفلسطينية من جهة أخرى.
ولكن منذ أواخر عام 1987 وحتى الآن برزت عوامل إقليمية إيحابية أخذت تعزز الثقة بإمكانية انحسار العوامل السلبية وضرورة فرص التراجع عليها في المرحلة القادمة.
إن العوامل الإقليمية الجديدة التي تصب في خانة العوامل الإيجابية تندرج في محطتين:
المحطة الأولى، تبرز في انتفاضة الضفة الغربية وقطاع غزة، وما فرضته من عناصر تراجع عند العدو الصهيوني أولاً، و استعادة القضية الفلسطينية لأولويتها في الصراع على الساحة والعربية. ثانياً، ولإمكانية استعادة منظمة التحرير الفلسطينية وحدتها ودورها ثالثاً.
أما المحطة الثانية: فتبرز في الانتصارات العسكرية والسياسية التي حققتها ثورة الحزب في القطر العراقي، على الجبهة الشرقية بعد استعادة الفاو والشلامجة خلال شهر نيسان وأيار عام 1988. وصولاً إلى قبول إيران مرغمة وقف إطلاق النار في 20 تموز عام 1988.
إن هذا التحول على الجبهة الشرقية، سوف تبرز تأثيراته العامة على فرض الانحسار على التيارات المذهبية والشعوبية، في المستقبل القريب أولاً، وعلى استعادة ثورة الحزب في القطر العراقي لدورها وتأثيرها على الساحة العربية بشكل عام وعلى اتجاهات قضايا الصراع المختلفة على هذه الساحة بشكل خاص.
بعد استعادة منظمة التحرير دورها وتأثيرها في مسألة الصراع العربي- الصهيوني وبعد استعادة ثورة الحرب دورها وتأثيرها في محمل قضايا الصراع على الساحة العربية، وبشكل خاص القضيتين اللبنانية والفلسطينية، ترى أن ملامح المرحلة القادمة، سوف تتجه لاستعادة الدور الوطني والقومي قوتهما على الساحة اللبنانية في مواجهة الأدوار القطرية والمذهبية والشعوبية، وما يبرز من صراعات محدودة على هذه الساحة تصب في تأكل المشاريع المعادية وتآكل القوى الظرفية المذهبية منها والشعوبية.
إضافة إلى العوامل الإقليمية الإيجابية، هناك عوامل داخلية على الساحة اللبنانية، أخذت تشق طريقها تجاه الإيجابية، وظهور هذه العوامل لكل تكن منفصلة عن تلك الإقليمية فإنما عجل بظهورها كذلك فشل المشاريع المذهبية والطائفية من جهة، وبروز التناقضات الإقليمية في شكل صراعات محلية بين حلفائهما على الساحة اللبنانية.
إن أهم هذه الظواهر الإيجابية في الداخل، تمثلت في هذه المرحلة في الصراع الإيراني السوري، حلفاء الأمس واليوم، بواسطة أدواتهما "حزب الله" وحركة "أمل"، وأهمها ما حصل في نيسان 1988 في الجنوب حيث برز من خلال هذا الصراع هشاشة الدعوة الشعوبية الإيرانية، وتشكلت ردة في الجنوب والضاحية بشكل خاص ضد الشعوبية التي مثلت في مرحلة من المراحل تياراً إعلامياً بارزاً في أوساط الطائفة الشيعية، حتى وأن كانت تلك الموجة الجديدة في معاداة الشعوبية الإيرانية هي ردة فعل غاضبة ضد ممارسات الجماعات المنفعلة بالنظام الإيراني، فإنها في نفس الوقت تعبير أصيل عن التاريخ الوطني والقومي، انتماء وممارسة لجنوبيين.
إضافة إلى ما حصل من عودة إلى الأصالة الوطنية والقومية داخل الأوساط التي ظن المراقب من الخارج أنها انحرفت تجاه الشعوبية، هناك تحول لم يظهر إلى العلن بشكل جدي، ولكنه مرشح إلى الظهور وهذا التحول هو العودة إلى الأصول الوطنية والمشروع الوطني عند الوطنيين اللبنانيين، بعدما عانى الذين انحرفوا منهم تجاه الانهزامية والانتهازية والذين ظنوا يوماً أن ركوبهم موجة المشاريع المذهبية وانحناءهم لها، قد يعود بالفائدة عليهم، من حيث الخلاص التصفية أولاً وإلى الوهم بالمراهنة على انهم يستطيعون التأثير على أصحاب لمشاريع الطائفية والمذهبية لتثمير بعض جهودهم الإيجابية إلى صالح المشروع الوطني ثانياً.
فشلت تلك المراهنات، وهناك نقمة تكمن في نفوس الجميع الوطنيين دون استثناء أحزاباً وقوى وتياراً شعبياً، ضد إفرازات هذه المرحلة، والجميع ينتظرون من يعلق الجرس. فمن أين نبدأ، أصبح واضحاً،أما من الذي يبدأ وكيف ومتى، هذا هو السؤال؟
***
نظرات أولية في المشروع السياسي والجبهوي للأحزاب والقوى الوطنية اللبنانية
من خلال السياق العام لتجربة العمل الوطني، تنظيماً ومشروعاً سياسياً، اصبح واضحاً استحالة التقاء المتناقضات بين العمل الوطني وبين غيره من المشاريع الأخرى، رغم أن المشاريع المختلفة تحمل إسقاط التقاء تكتيكية تشكل قاسماً مشتركاً، ولكن هذه النقاط تصب في صالح استراتيجية الطرف الأقوى داخل حلف المتناقضات.
وأصبح واضحاً كذلك، أن المؤامرة على الساحة اللبنانية لم تصل إلى نتائج إيجابية لصالحها، إلا في الوقت الذي انحسر فيه العمل الوطني على مستوى التنظيم والمشروع السياسي، ليفسح الطريق أمام استنفار، وسع للمشاريع المذهبية والطائفية.
إن مخاطر المرحلة السابقة امتدادا إلا المرحلة الراهنة ، ازدادت بفعل عاملين. أولهما، سيطرة الوهم عند بعض الأطراف الوطنية في إمكانية تأسيس تحالف بين المشروع الوطني والمشاريع المذهبية (تنظيماً وسياسة) والثاني وهو الأشد خطورة هو تسليم قيادة هذا التحالف إلى الطرف المذهبي.
أما النتائج التي حصدتها المؤامرة نتيجة تلك العوامل، كانت على المستوى الوطني بارزة في إلغاء الدور السياسي والعسكري والقيادي والتنظيمي للحركة الوطنية اللبنانية، أما على المستوى القومي فهو محاولة إلغاء المقاومة الفلسطينية، بدورها السياسي والتنظيمي وشطب عملها العسكري وإيقافه.
أما الأسباب التي جعلت المؤامرة تسرع خطواتها وتبلغ تلك النتائج، فهو كما أشرنا إليه سابقاً، بفعل العامل الإقليمي والعامل الذاتي لدى كل من الأطراف الوطنية اللبنانية والفلسطينية.
من هنا اصبح الواجب لاستعادة ما فقده العمل الوطني اللبناني من مواقع وأدوار يدعونا للعمل على خطين أولهما معالجة القصور الذاتي عند أطراف الحركة الوطنية وإعادة النظر بأخطاء مرحلة ما بعد الاجتياح الصهيوني في حزيران عام 1983 لإعادة النظر في مبادئ وقوانين التحالف. وثانيهما، محاولة فهم الحلاقة بين هذه الحركة وبين القوى الإقليمية على قاعدة المصلحة الوطنية والقومية، وإرساء التحالفات على قاعدة سياسية واضحة، وقاعدة تنظيمية تحفظ التوازن والتكافؤ في العلاقات الجبهوية.
في هذه الإطار كيف نفهم استراتيجية الحمل الوطني في المرحلة المقبلة، سياسياً وتنظيمياً، وعلى المستويين الوطني والقومي؟
في سبيل هذه الغاية لا بد من وضع الخطوط الرئيسية لخطة مشروع يتبناه الحزب بأفكاره الأساسية، ومسلماته المبدئية، يكون منطلقاً لحوار مع الأحزاب الأخرى.
وتلك هي خطه المشروع:
أولاً: على الصعيد الوطني:
1) على الصعيد التنظيمي الجبهوي:
أ- نقد لمرحلة ما قبل 1982.
ب- المرحلة الراهنة: تكامل المشاريع الطائفية - الذهبية على الساحة اللبنانية.
جـ- الاتجاهات المستقبلية للمشاريع الطائفية والمذهبية.
د- هل يمكن التحالف بين الوطني من جهة، والطائفي- المذهبي من جهة أخرى؟
2) على الصعيد التنظيمي السياسي:
أ- تحديد وحدة لبنان على المستوى السياسي.
ب- تحديد عروبة لبنان.
جـ- تحديد ديمقراطيته.
ثانياً- على الصعيد القومي:
1- التحالف الوطني- القومي الراهن، وسلبيات هذا التحالف: مصادرة القرار الوطني بشكليه المباشر،بواسطة القوى المذهبية المهيمنة.
2- كيف نفهم التحالف الوطني- القومي، أو العلاقة بين الوطني والقومي؟
3- التحالف الوطني اللبناني مع القضية الفلسطينية.
أ- أخطاء المقاومة قبل الاجتياح الصهيوني للأراضي اللبنانية في حزيران 1982: هل هناك أخطاء استراتيجية أ م تكتيكية؟ كيف نعالجها؟ موقف القوى المذهبية والطائفية من هذه الأخطاء، وكيف كان يجب ان يكون الموقف الوطني من حرب المخيمات؟
ب- كيف نفهم القضية الفلسطينية، وكي نفهم الثورة الفلسطينية؟ تحديد هذا الفهم من المنظارين الوطني اللبناني والقومي العربي من خلال المهمات التالية: حقها المشروع في القتال ضد العدو. تنظيم العلاقات اللبنانية- الفلسطينية على الصعيد الرسمي. تنظيم الحلاقات بين الأحزاب الوطنية اللبنانية والثورة الفلسطينية.

أولاً: على الصعيد السياسي:
إن فصل المشروع الوطني في المعالجة عن العلاقة مع المشروع القومي، ليس فصلاً تعسفياً، بل أن ما تقتضيه المسألة الوطنية أولاً، هو أن يكون هناك تفاعل وتفاهم على الجوامع المشتركة للأطراف المشاركة في أي عمل سياسي – جبهوي واحد على الصعيد الوطني، يكون منطلقاً لعمل هذه الأطراف مجتمعة في بناء علاقة واضحة ومتفق عليها مع الأطراف القومية.
على هذا الأساس، سوف نقسم معالجتنا وتحديدنا هذا الجانب إلى مستويين الأول تنظيمي والآخر سياسي.

1) على الصعيد التنظيمي – الجبهوي:
أ- نقد لمرحلة ما قبل الاجتياح الصهيوني في حزيران 1982:
كان من الممكن أن تمثل مرحلة ما قبل الاجتياح، تجربة رائدة في العمل الجبهوي الوطني، لو استطاعت الأطراف المشاركة أن تعالج الأخطاء التي وقعت فيها، على صعيد العلاقة مع جماهيرها الشعبية أولاً، وعل صعيد الصمود في وجه الترهيب الاقليمي ثانياً، وعل صعيد القناعة بمقدرة التحالف الوطني على مقاومة المؤامرة ثالثاً، والالتباس في تحديد الضالعين بالمؤامرة بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر رابعاً.
إن هذه الثغرات والأخطاء في العمل اليومي المباشر او الصادرة عن القصور في استشراف آفاق المستقبل في تحديد التالفات المنطقية، دفع بأطراف الحركة الوطنية اللبنانية إلى الغرق أكثر فأكثر في الخطأ، وبدلاً من المعالجة الإيجابية لتلك الاخطاء، وقعت في شرك ابتزاز الآخرين لها الذين تصيدوا هذه الأخطاء واستعملوها عنواناً للتحريض ضدها لا لتقومي عملها، ولذلك أخذ المشروع الوطني بالانحسار والمشروع المذهبي القطري بالتوسع والانتشار، فحيث كان يصاب المشروع الوطني بالوهن، كان المشروع القطري – المذهبي يتألق قوة وسطوة.
إن ما حصل من تغيير في إيران، وامتداد تأثير هذا التغيير عل الساحة اللبنانية، من أنعاش لمشروع مذهبي كان في طور التكوين والبناء بمساعدة إقليمية، ومنذ عام 1980 وقع أطراف الحركة الوطنية تحت تأثير ظواهر هذا التغيير دون سبر جوهره وتطلعاته واستراتيجيته.
جاء هذا التغيير في الوقت الذي أخذ المشروع المذهبي على الساحة اللبنانية، يكتسب قوة وتأثيراً ليزداد قوة وتوسعاً بفعل نجاح المشروع المركزي المذهبي في إيران، ولكي تقع أطراف الحركة الوطنية في شرك التأييد للمشروع المركزي، ظناً منها أنها تمتص النقمة الجماهيرية على أخطائها إذا وقفت مواقف التأييد تلك.
ولم تمض سنتان ونيف على ذلك، حتى كان حصان طروادة القطري – المذهبي قد استطاع الدخول إلى الحصن الوطني، وأخذ يأكل من رصيده، أو ما تبقى له من رصيد، ولذلك أخذت بعض أطراف الصف الوطني تخضع أكثر فأكثر للابتزاز، تارة بالترهيب وتارة أخرى بالترغيب. وحضر الاحتلال الصهيوني بثقلة، ليعطي أرجحية للقوى المذهبية ويكسبها أسباباً أخرى للنمو، عندما راجت وبشكل واسع إشاعات ودعاوى هروب حملة السلاح من لبنانيين وفلسطينيين أمام جحافل العدو الغازي، وقد ساهم فيتلك الإشاعات والدعاوى أطراف الصف الوطني بأنفسهم، ولكن لكي يلقوا التهمة على المقاومة الفلسطينية هذه المرة ظناً منهم أن ذلك يعفيهم من مسؤولية أمام الجماهير، بينما كان يجب أن يقفوا موقف الجريء والثوري والموضوعي في تقييم ما حدث لا أن يساهموا في دفن الثورة الفلسطينية، ظناً منهم أنهم سوف يتخلصون من المسؤولية.
واستناداً إلى ذلك، فقد استطاع التيار القطري والمذهبي أن يؤسس للمرحلة الراهنة، مستفيداً من انهزامية وتبريرية وقع فيها أطراف المشروع الوطني.

ب- المرحلة الراهنة: تكامل المشاريع الطائفية – المذهبية على الساحة اللبنانية.
قبل العام 1983، شهدت الساحة اللبنانية صراعاً بين مشروعين، على الصعيد الوطني العام، الأول مشروع طائفي – مسيحي، في مواجهة مشروع وطني، أما في هذه المرحلة فقد استسلم المشروع الوطني للمشاريع الطائفية الاسلامية. ولذا فقد كثرت المشاريع الطائفية في الجانب الاسلامي، وأن هذه المشاريع تفرعت إلى مشاريع مذهبية، وتفرعت أكثر فأكثر لتصبح مشاريع مذهبية – مذهبية.
إن هذه المشاريع في جناحي لبنان المسلم والمسيحي، قد أخذت تتكامل ويبرر بعضها بعضاً، وأصبح من مسؤوليات الصف الوطني أن يحارب على أكثر من جبهة ويحارب أكثر من مشروع، بعد أن كان يواجه مشروعاً واحداً حدوده معروفة وواضحة، فأصبحت حدود المشاريع الطائفية في هذه المرحلة، متداخلة ومتنوعة، وأن هذا التداخل يفرض على الصف الوطني مسؤوليات أكثر، ويتطلب منه تضحيات جساماً، فبعد أن كان مستقلاً في حدوده، اصبحت حدوده مخترقة في كل زاروب وكل شارع.

جـ- الاتجاهات المستقبلية للمشاريع الطائفية والمذهبية:
إن خطورة هذه المشاريع، تبدو واضحة، إذا تصورنا أن الأطراف الوطنية قد مسحت فعلاً بوجودها التنظيمي وابرز مثل على ذلك ساحة الجنوب التي استقرد بوضعها الأمني والسياسي طرفان مذهبيان، كانا يعملان على ذبح كل ما هو وطني، فكانا متفقان استراتيجياً على هذه المهمة، ولكنهما دون أن ينسقا خطواتهما التكتيكية.
إن خطورة المشاريع الطائفية والمذهبية تنبع من استراتيجية التعصب القائمة على قاعدة الغاء الآخرين من طوائف أو مذاهب أخرى، وكذلك إلى أحزاب علمانية أو أية دعوات تتعارض اتجاهاتها مع أصحاب المذهب المهيمن، حيث يتحول أصحاب المذهب الواحد إلى حركة شوفينية، وهذه الحركة كلما ازدادت قمعاً ودموية كلما كثر الناقمون عليها، مما يزيدها قمعاً على قمع لحماية نفسها من الوجهة المذهبية المنغلقة، وإذا تحولت هذه الحركة إلى حركة سياسية، فإنها تعمل على إلغاء المعارضين لها حتى داخل المذهب الواحد، وهذا ما يحصل فعلاً على أرض الواقع.
فالمذهبية السياسية في جانب آخر من جوانب الخطورة التي تمثلها على مسيرة العمل الوطني أنها تمارس وصاية على أبناء الطائفة التي تدعي تمثيلها.
فبالنسبة للوضع السياسي العام، إن المشاريع الطائفية تعمل في اتجاهات معادية للاتجاهات الوطنية لأنها تتعلق في حدود الحقوق الطائفية والمذهبية، ولا يعنيها من الحقوق العامة سوى ما يؤمن مصالح أفرادها الفئوية، وفي أغلب الأحيان تكون هذه المصالح منحصرة في زعماء هذه الطائفة ومن يدور في فلكهم بشكل مباشر.
وإذا كانت كل طائفة تحذر حذو الأخرى على الساحة اللبنانية، كما عرفنا ذلك من الواقع اللبناني في الماضي والحاضر – فإنه يتشكل طائفة لكل الطوائف، هي طبقة زعماء الطائفية السياسية من مارونية وسنية ودرية وشيعية.. الخ.
أما على الصعيد الفكري العام، فإن كل طائفة من هذه الطوائف، تحاول أن تغلق على نفسها في تقاليدها وعاداتها وطقوسها، لأن الفكر المذهبي هو فكر منغلق وتعصبي، لأن هذا الفكر قائم على مسلمات طوباوية تعطي فيها هذه الطائفة أو تلك لنفسها، صكا إلهياً بصوابية انتمائها وأحقيتها في قيادة البشرية.
وإذا أغلقت العقول، فإن أية أفكار طوباوية حتى الساذجة منها، تصبح من القرائن التي لا يجوز النقاش حولها، لأنها تستند إلى أمر الهي ما ورائي ولا يجوز في هذه الحالة أن يجادل مخلوق إرادة خالقة.
ومع أن معالجة موضوع الصنمية في الفكر المذهبي لها إطار آخر، نظن أن الاشارة إلى مخاطر الفكر المذهبي تكفي في هذه المطالعة السياسية.
ولهذا نرى أن المشاريع المذهبية التي تهيمن على الساحة اللبنانية في هذه المرحلة، إذا ما قدر لها الاستمرار، تشكل خطراً كبيراً ومباشراً على وحدة لبنان كوطن، لا نرتضية أن يبقى منفصلاً عن إطاره القومي، فكيف الأحرى به إذا ازداد تفتتاً وانقساماً؟ وهل هناك أكثر دلالة من جدية المشاريع السياسية الطائفية التي تطرح شرقاً وغرباً، من مشاريع مسيحية إلى مشاريع اسلامية، والتي سوف تنتهي إلى مشاريع المذاهب على طول الساحة اللبنانية وعرضها، رغم ضيق رقعة هذا البلد الصغير؟
ومن هنا نجد أهمية قصوى كفصيل وطني وقومي، في أن نطرح السؤال التالي:

د- هل يمكن التحالف بين الوطني والطائفي – المذهبي؟
وكي يكون جوابنا على ذلك موضوعياً، لا بد من الإشارة إلى تجربة التحالف بين الوطني والمذهبي، منذ السادس من شباط عام 1984.
إن معظم أطراف الصف الوطني في لبنان، يدركون نظرياً، نقاط التناقض الكثيرة بين المشروع الوطني والمشروع الطائفي أو المذهبي، ولكن التجربة خلال تلك المرحلة بين الوطني والمذهبي، حاول فيها بعض أطراف الصف الوطني، التذاكي بمحاولتهم التنظير التبريري لضرورة التحالف بين النقيضين، أو بما ابتدع من مصطلحات تتنافى مع الحد الأدنى لما تسمح به المبدئية الوطنية، عندما أطلقوا اسم الصف الوطني والإسلامي، بينما الموضوعية الوطنية لا تعرف صفوفاً بهذا الشكل، لأن الوطنية كمصطلح سياسي واجتماعي يجمع في صفه المسلم والمسيحي، فهو مصطلح جامع مطلق، وليس مصطلحاً نسبياً، وإلا كان الواجب أن يقال تعبير أدق في مثل هذه الحالات "الوطنيون اللبنانيون" دلالة على رفض الطائفية والمذهبية مسيحية كانت أم إسلامية. لأن تعبير الصف الوطني والإسلامي هو تعبير انتهازي أمام موجة طوائفية سياسية، أجتاحت الساحة اللبنانية في هذه المرحلة وهنا نتسأل فيما لو استمر النظام اللبناني الذي وضع أسسه الكيان الصهيوني أثناء اجتياح عام 1983، والذي أوصل فيه بشير الجميل إلى رئاسة الجمهورية، هل كان مبرراً للصف الوطني أن يطلق شعار الصف الوطني والمسيحي؟
إذا كان لا يصح هذا الصف الأخير، فإن الصف الأول هو صف غير شرعي.
في مفهومنا الوطني، لا محاباة في تفسير مفهوم الوطنية، ولا خجل في علاقة الوطنية بالدين، حتى حسب الشعار التقليدي الذي حفظناه "الدين لله والوطن للجميع".
من هذا المفهوم الواضح، والذي شكل جامعاً مشتركاً لكل الطوائف اللبنانية بعد التجارب التاريخية المريرة في الاقتتال الطائفي، والمجازر الدموية التي كانت نتائج له، لا يجوز للوطنيين العلمانيين أن يزاوجوا بين المتناقضات المذهبية والوطنية في الوقت الذي دفع الشعب اللبناني بكل طوائفه دما وأرواحاً وممتلكات في معظم محطاته التاريخية، نتيجة للصراعات الطائفية.
على الوطنيين أن يحددوا بدقة مفهوم "الوطنية" من جهة، وأن يحددوا علاقة هذا المفهوم مع الدين من جهة أخرى. كما عليهم أن يحددوا العلاقة بين الدين وبين الطائفية السياسية. وعلى أساس هذه المفاهيم، تدرس التجربة الراهنة التي سيطرت فيها الطائفية السياسية، على مقدرات الأمور وعلى قيادة المعركة في الجانب المسيحي منذ 13 نيسان 1975، وفي الجانب الإسلامي منذ السادس من شباط عام 1984.
إن هذه المسالة تستطيع دراستها وبحثها دراسة وافية وعلمية، ولكن لا بد في سياق هذه المطالعة السياسية من أن نحدد بعض الظواهر التي أثبتتها التجربة الراهنة، وعلى المدى الذي استطاعت فيه المذهبية من إلغاء أو محاولة إلغاء كل المشاريع الأخرى.
ففي الجانب المسيحي، حاولت القوات اللبنانية، وبعد جنوحها السافر إلى التنظير الديني المسيحي المغلق، إلغاء دور الأحزاب الأخرى على الساحة المسيحية، وحتى إلغاء دور بعض الشخصيات الوطنية المسيحية، أما بالنسبة للأحزاب الوطنية فقد ألغت وجودها إلغاء تاماً.
أما في الجانب الإسلامي، فإذا ما استقرأنا تجربة طرابلس مع حركة التوحيد الإسلامية، وتجربة الضاحية الجنوبية لبيروت بشكل خاص، وبيروت الغربية بشكل عام، وكذلك تجربة الجنوب، لوجدنا، أن كل هذه التجارب، وحيث يتواجد مناخ مذهبي منظم، قد ألغى بشكل مادي وسياسي، أي نشاط لأحزاب الحركة الوطنية اللبنانية، وقد وصلت وسائل الالغاء إلى حدود التصفيات الجسدية لكوادر هذه الأحزاب.
ولم تقتصر التجربتان الطائفيتان شرقاً وغرباً على إلغاء أحزاب الحركة الوطنية فحسب، وإنما عملت كذلك على إبراز التناقض بينها وبين القضايا القومية، فقادت كل منهم مجازر دامية ضد الثورة الفلسطينية، إحدى القضايا القومية الرئيسية على الساحة اللبنانية. كما نفت كل منهما أية علاقة بين لبنان وبين الأمة العربية، فلبنان الفينيقي عند أحزاب اليمين المسيحي هو تجريد للبنان من عروبته، وشعار "العروبة والصهيونية وجهان لعملة واحدة" عند حزب الله هو تجريد للبنانيي، وللعرب من هذه العروبة.
أما هل تدل هذه المؤشرات على أن التحالفين المذهبي والوطني هو مستحيل بالمطلق؟
في مثل ظروف الساحة اللبنانية التي تتعرض لاحتلال جزء من أرضها، وتتعرض لاعتداءات صهيونية متكررة، يمكن أن تكون التحالفات مبررة تحت شعار التحرير، بين كل اللبنانيين وطنيين وطائفيين ولكن لهذه التحالفات ظروفها الموضعية وشروطها العلمية والسياسية.
إن الظروف الموضوعية متوفرة للتحالف، بينما الشروط العلمية والسياسية غير متوفرة، فقياساً على قواعد المنطق بأن الجزء هو متضمن في الكل، فللكل أرجحية منطقية على الجزء، فعندما تكون أرض الوطن محتلة، فعلى جميع أبنائه أن يعملوا الطوائف والمذاهب هي الجزء، أما من حيث المفهوم السياسي الوطني، فإن مفهوم الوطنية هي الكل الذي يعمل لأجل مصالح كل الأجزاء، فلذلك يعتبر المشروع الوطني شاملاً لكل المشاريع الأخرى، فالاستنتاج في هذه الحالة أن يتبوأ قيادة معركة التحرير طرف يمثل هذه الأجزاء، على أن يتمتع هذا الطرف بشمولية تمثيله البشري وشمولية مشروعه السياسي.
استناداً إلى ذلك، يتضح لنا أن المنطق الشاذ هو الذي يسيطر على العلاقات والتحالفات والمشاريع في هذه المرحلة، وليس السبب سوى غياب التأثير والفعالية لأحزاب الحركة الوطنية اللبنانية، التي انساقت في تسليم مقدرات الأمور وقيادتها، تنظيماً وسياسة إلى الأجزاء، التي ليست سوى ممثلة للتيارات الطائفية والمذهبية. وأن هذا من الممكن أن يؤخر معركة التحرير وقد يحرفها باتجاهات خطيرة إلى عكس ما تتطلبه المصلحة الوطنية من جهة، ومن الممكن أن تجر لبنان إلى مشاريع حلول، أو إلى حلول فعلية بعيداً عن المصلحة الوطنية كذلك من جهة أخرى.
لهذه الأسباب مجتمعة، نعتبر أن المشروع الوطني، على المستوى التنظيمي والسياسي هو البديل الموضوعي والعلمي، من حيث المصلحة الوطنية العليا، وعلى المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو المشروع المؤهل موضوعياً، لقيادة الساحة اللبنانية باتجاه وحدته السياسية والفكرية والتحررية.

2) على الصعيد السياسي:
إن لبنان هذا البلد الذي يستوعب سبعة عشر طائفة والذي يعمل على أرضه العديد من الأحزاب والحركات السياسية، هذه الحركات التي تكاثر عددها أثناء الأحداث بشكل ملفت للنظر بالإضافة إلى التيارات الإعلامية والسياسية والفكرية التي تعتبر امتداد للتيارات الفكرية والسياسية في العالم والى ما تمثل بعض التيارات الإعلامية من مصالح لأنظمة إقليمية ودولية.
هذا التعدد الكبير للطوائف الدينية، والاتجاهات الحزبية السياسية، قد افرز، ويفرز تعددية في التناقضات ويفرز العديد من المشاكل التي تربك مسيرة بناء وطن بحيث لا يستطيع تأمين مصالح مواطنيه.
ولكن هذه التعددية لا يمكن تجميع أطراف منها تشكل أكثرية فاعلة، تستطيع توجيه الأمور وقيادتها، ونرد ذلك إلى التعددية في الشعارات والحلول والمشاريع، ولذلك لا بد من استقراء الوضع لتحديد شعارات على المستوى السياسي والاجتماعي الوطنيين، تكون جامعاً مشتركاً، يلامس مصالح الجميع.
إن تحديد هذه المشاريع والمفاهيم والشعارات التي يجب أن تكون قابلة للتنفيذ كذلك، هي إحدى مهام التيار الوطني ومتى استطاع هذا التيار صياغة مشاريعه على المستوى السياسي، بالشكل الذي يؤمن فيه أوسع ما يمكن من الاستقطاب الجماهيري حوله، فإن صياغة المشاريع الاقتصادية والاجتماعية التي لن تكون سوى مثالاً لوحدة الشعار السياسي، تصبح في الأهمية الثانية والأقل مشاكل في التطبيق إذا كان الشعار السياسي موحداً للأكثرية الجماهيرية، وموحداً للحركات والأحزاب على الساحة اللبنانية.
إن شعار لبنان الحر الموحد الديمقراطي العربي، الذي توافقت عليه الأحزاب والحركات الوطنية على الساحة اللبنانية، يجب أن يكون شاملاً بمضامينه الاطمئنان لأكثرية الجماهير اللبنانية، على مستوى التحديد النظري، وعلى مستوى التطبيق من قبل واضعيه ورافعيه.
فكيف من جهة نظرنا، نرى التحديد العلمي والموضوعي لكل قضية يطرحها هذا الشعار، وذلك فيما ستعلق بالوحدة، والعروبة، والديمقراطية؟

أ- كيف نفهم وحدة لبنان؟
نرى على أرض الواقع أن وحدة لبنان، قد أخذت محوراً خطيراً في هذه المرحلة، وهي كما أنها تثير مخاوف الأطراف الطائفية لتدفع أحدهما للتهديد في بناء كيان خاص به، رداً على محاولة الآخر بإعلان كيانه، في تثير مخاوف الوطنيين أكثر، لأن الأطراف الطائفية يبرر كل منهم مشروع الآخر، وهذه المشاريع التقسيمية هي من صلب العقائد المذهبية والطائفية لهذه الأطراف، بينما خوف الوطنيين عائد إلى وعيهم خطورة التقسيم من حيث المبدأ والتطبيق.
ولهذا وأن كنا، نعطي الأولوية لوحدة الشعب اللبناني، على قاعدة المضامين الوطنية لوحدة الانتماء إلى هذا الوطن، فإن لوحدة الأرض أهمية لضرورة تثبيت هذه المضامين واستقرارها في نفوس الخائفين، من أن يكون هذا الوطن ممراً للاستعمار، أو مستقراً، أو أن تكون هذه الوحدة مهددة بتدخلات من الجوار العربي مما يثير مخاوف الخائفين من هيمنة الأكثرية المسلمة في هذا الجوار.
إنه بالإضافة إلى الدور الوطني الواجب ممارسته من قبل الأحزاب الوطنية، ومدى الدقة المطلوبة في أسلوب تعاطيها مع احتمالات الخوف التي تساور الخائفين بشقيهم، فإن للمفهوم القومي لانتماء لبنان العربي، نظرية وتطبيقاً، لها أهمية وتأثيراً في مسألة التطمين تلك، للخائفين من ذوبان الأقليات المسيحية في الأغلبية الإسلامية العربية من جهة، والى لجم الشعارات الغير مسؤولة من قبل المذهبيين المسلمين وشعارات قصور النظر من قبل بعض الأطراف الوطنية من جهة أخرى، فكيف نرى من وجهة نظرنا تحديد عروبة لبنان؟
ب- كيف نفهم عروبة لبنان؟
لقد حصل التباس تاريخي في أذهان بعض الأطراف المسيحية في لبنان، حول علاقة العروبة بالإسلام، وأن هذا الالتباس اندفع في عدم التمييز بين العروبة والإسلام، وأن هذا الالتباس قد يكون دافعه وخلفياته الدعوات الاستعمارية، ودعوات القوى المعادية للوحدة القومية على المستوى العربي، وذلك لوضع جزء من العرب الذين يدينون بالمسيحية في وجه الوحدة القومية العربية.
لقد غاب عن ذهن هؤلاء، أو أنه قد غيب عنهم، أن الأرض العربية كانت موطناً ومنطلقاً لكافة الأديان السماوية، اليهودية، المسيحية، والإسلام. فإذا كانت الأكثرية في العالم العربي هي من المسلمين، فليس معنى ذلك أن العروبة والإسلام هي شيء واحد وإنما، تربطهما علاقات وثيقة وأنه في هذه الحالة، هدف تلك الدعوات أن تضع الإسلام في مواجهة الديانتين اليهودية والمسيحية. وليس هذا هو الواقع.
إن الأديان السماوية الثلاثة، كانت محطات بارزة في الأمة العربية، وهي جزء من تراثها وحضارتها، وأن ما يميز الاسلام في حياة الأمة العربية هو أنه ساهم في وحدة هذه الأمة.
من هذا الاطار، نعتبر أن الأمة العربية هي كل، وليست جزءاً، بل أن من يدينون بالأديان السماوية، يعتبر كل مها جزء، يخضع لقانون الكل، فالمفهوم القومي العربي أشمل من الواقع الديني، ولهذا فإن فهمنا للمسألة القومية، هي مجال اطمئنان للأديان السماوية، الأكثرية منها أو الأقلية، وليست مصدر خوف أو مصدراً لالحاق الغبن بهذه الأقلية أو تلك من معتنقي هذه الأديان.
إضافة إلى ذلك فإن فهمنا للعروبة، من منظار إنساني تقدمي اشتراكي، وكما يؤمن الاطمئنان على مستوى الايمان الديني فإنه يؤمن الاطمئنان كذلك إلى أبناء الأقطار العربية في شتى حقول حياتهم، السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية. وأن كانت بعض الدعوات القومية، في قصورها الفكري ولطرحها الاقتصادي والاجتماعي القاصر كذلك، هي التي شكلت مصدراً للخوف ليس عند الاقليات الدينية فقط وإنما عند الأقليات القومية كذلك.
الدعوة القومية الوحدوية الاشتراكية بمنهاجها الاقتصادي والاجتماعي والديمقراطي أثارت أخوف عند المسلمين من الطبقات الرأسمالية والاقطاعية والمرتبطة مصالحها بمصالح قوى الاستعمار.
أما على المستوى السياسي، فقد تكون بعض التجارب السياسية القاصرة والتي مصدرها أقطار عربية، والتي مورست على الساحة اللبنانية، كانت مصدراً يؤكد مخاوف بعض الأطراف المسيحية الطائفية على هذه الساحة.
فإن العروبة التي نريدها للبنان، كقطر عربي، ليست عروبة طائفية، ذات اتجاهات للهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية، وإنما عروبة تصب في مصلحة لبنان الوطني، عروبة تعتبر عوناً له في المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.

جـ- كيف نفهم لبنان الديمقراطي؟
الديمقراطية لها علاقة بالمضمون التقدمي الوطني، وبالمضمون القومي التقدمي الاشتراكي الوحدوي، وهذه المضامين الوطنية والقومية تمنع من إخضاع لبنان إلى إرادة القوى الخارجية كما لارادة غير أبنائه، وهذا ما يؤمن العلاقات السياسية المتكافئة على الصعيد العام، كما يضمن الحريات الشخصية والعامة لمواطنية، في علاقاتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وإن الديمقراطية بشكل عام نظرية وممارسة، يمكن النظر اليها والاتفاق على مضامينها وممارستها وتكريسها كأسلوب في الحياة لا يستطيع مقطع في بحث إلا أن يضع عناوينها الرئيسية دون الخوض في تفاصيلها.
ثانياً: على الصعيد القومي:
1) التحالف الوطني – القومي الراهن:
من المسلمات المبدئية والسياسية، أن تتكامل قضيتان قطريتان داخل الجسم القومي الواحد، وأن يتكامل نضال الحركات التي تدافع عن تلك القضايا، أما كيف نفهم التكامل على صعيد القضايا والنضال في سبيلها، فله مكان آخر. لكن قبل ذلك، علينا أن نحدد الواقع الراهن الذي تسير فيه هذه القضايا في المرحلة الراهنة.
على الساحة اللبنانية، تلتقي قضايا ثلاث يشملها عنوان واحد، الأراضي السورية المحتلة، والأراضي اللبنانية المحتلة، وأرض فلسطين المغتصبة، وعلى هذه الساحة كذلك، تلتقي حركات تحررية قومية ثلاث تعتبر الساحة اللبنانية ساحة أساسية للعمل في سبيل تحرير تلك الأراضي، فما هي العلاقة الراهنة بين تلك القضايا، والعلاقة ما بين تلك الحركات؟
العلاقة المبدئية والسياسية بين تلك القضايا، أن المحتل هو عدو واحد على صعيد المرحلة الراهنة، مرحلة احتلاله لاراض عربية سورية ولبنانية وفلسطيني، وعلى الصعيد الاستراتيجي في معركة الوجود بين القومية العربية والصهيونية، فشعار التحالف المرفوع، يندرج تحت قاعدة نظرية، تعمل على أساسها الحركات القطرية الثلاث، هو أن التحالف السوري الفلسطيني – اللبناني هو ضرورة مبدئية لقيام توازن في القوى بين العدو الصهيوني المحتل، وبين القوى العربية، تلك التي تعمل في سبيل تحرير الأرض.
أما الذي يحصل على أرض الواقع، إذا وضعنا هذا الشعار المرفوع لمحاكمة الأمور على أساسه، فهو التالية: إذا استقرأنا الاطروحات السياسية لتلك الأطراف:
أ- على الصعيد السياسي، إذا استقرأنا الاطروحات السياسية لتلك الاطراف يظهر أن هناك تبايناً شاسعاً في المواقف والى الدرجة التي يتبادل فيها هؤلاء الأطراف تهم الخيانة. ولكن سرعان ما يلتقون، ولقاؤهم يتم بتبادل الشهادات بالوطنية والقومية، إلى أن يقع الخلاف مرة أخرى، ليدخلوا الدائرة المفرغة في تبادل تهم الخيانة، ثم لتبادل الشهادات الوطنية.
وأن سجل هذه الدائرة المفرغة مليء بالأمثلة، والادلة كثيرة وهناك بعض منها:
- 1976 تاريخ الدخول السوري إلى لبنان، تمت مواجهته بشعارات التخوين من قبل الحركة الوطنية بجميع أحزابها، ومنظمة التحرير الفلسطينية بجميع فضائلها.
- 1983 بداية الهجوم الدموي ضد منظمة التحرير الفلسطينية من قبل من هم مفترض فيهم أن يكونوا حلفاء لها حيث جوبهت منظمة التحرير الفلسطينية بشعارات التخوين من قبل النظام السوري، وحلفائه من أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية.
- 1988، زيارة منظمة التحرير الفلسطينية إلى دمشق، شطبت شعارات التخوين له. ولم ندخل حتى الآن في مرحلة بناء الشهادات بالوطنية لأننا ما زلنا نعيش بداية المرحلة الجديدة.
إن استعراضنا لبعض العناوين، ليس إلا استدلالاً، على هشاشة التحالفات وعلى سطحية الخلافات وإلا ما هو التفسير الذي نعطيه للأحكام تطلق جزافاً بحق هذا أو ذاك، بأنه خائن، ثم يتحول إلى وطنين ثم يتحول إلى خائن؟
ب- على الصعيد العسكري والأمني: إن هشاشة التحالف السياسي وقواعده المنيعة التي كانت باستمرار تمنع الوصول إلى جوامع سياسة لدى أطراف التحالف، السوري – الفلسطيني – اللبناني. انعكست تناقضات عسكرية وأمنية، فهي من الناحية العسكرية حولت التعارضات السياسية إلى مواجهات دموية واقتتال داخلي وجانبي، على حساب التناقض الأساسي مع العدو الصهيوني، وعرفت في جوانبها كذلك ملاحقات واغتيالات واعتقالات بين أطراف التحالف ذاك.
ولذلك، فإن صورة التناقضات ذات النتائج الدموية كانت منذ عام 1980، وحتى اليوم واضحة حسب المحطات التالية:
1976- السوري + المسيحي (الانعزالي!!) في مواجهة الوطني اللبناني والفلسطيني.
1980- السوري + المذهبي (الوطني!!) في مواجهة التحالف الوطني اللبناني + الفلسطيني.
1982- السوري + الفلسطيني القطري المنشق، في مواجهة الفلسطيني الشرعي.
1985- السوري + المذهبي + صمت الوطني، في مواجهة الفلسطيني الشرعي والمنشق (حرب المخيمات).
1988- فترة الهدنة بين المتصارعين تحولت إلى الفلسطيني المنشق والقطري في مواجهة الفلسطيني الشرعي.
وطوال تلك المحطات باستثناء محطات الهدنة التي كانت قصيرة وقليلة، كانت مليئة بالملاحقات والاعتقالات، حتى التصفيات الجسدية.
فأي تحالف هذا الذي ندعو اليه، بالتنظير السياسي والاعلامي، في الوقت الذي يرفع فيه الخنجر؟!! هل هناك استحالة في الوصول إلى تحالف يؤدي إلى مواقع القوة؟ إذا كان الجواب نعم، فلماذا كل هذا التاريخ الدموي بين تلك الاطراف التي تحمل عبئاً واحداً على الأقل، وهو تحرير الأرض من اغتصاب عدو واحد؟
إن الاعباء المصيرية الواحدة، يجب أن تؤدي بالمبدأ والمنطق إلى تحالف طبيعي بين أصحاب الهم الواحد، وليس العكس، ولكن لماذا يمتنع الطبيعي ويسود الشاذ؟ هذا في تقديرنا يعود إلى القصور في فهم أسس العلاقة الوطنية – القومية، من الناحيتين لنظرية والتطبيقية.
إن هشاشة التحالفات، ليست لسبب، سوى أن مبدئي وأساسيات العلاقة بين الوطني والقومي، غير واضحة كاحتمال أول، أو أن لها أوجه أخرى لدى تلك الحركات والفصائل ثبت فشلها كاحتمال ثان. ولهذا فإن دراسة التجربة دراسة موضوعية هي مهمة مطلوبة، والى أن نستحصل على نتائج موضوعية في هذا الجانب فلا بد أمامنا من التأشير على الثغرات والاخطاء التي مورست داخل التحالف الوطني – القومي في نتائجه الراهنة، وهذه النتائج في مظاهرها الأخطر هي التالية:
النتيجة الأولى، مصادرة القرار الوطني،تحت ستار المصلحة القومية. وأن مصادرة القرار قد طالت القرار الوطني اللبناني والقرار الوطني الفلسطيني. وذلك باستخدام كافة الأساليب المتاحة من ترهيب وترغيب، ولكن بقيت قوى أخرى، تمردت على تلك الأساليب، تضم قوى لبنانية ذات اتجاهات قومية تدافع عن القرار الشرعي القومي والوطني، وقوى فلسطينية تدافع عن القرار الشرعي الفلسطيني.
النتيجة الثانية، تلزيم الساحة اللبنانية إلى هيمنة قوى مذهبية، التي بدورها صادرت القرار الوطني وأدعت أنها صاحية الشرعية الوطنية لا غيرها. وأن هذه الهيمنة والمصادرة الداخلية، تمت بدعم واسناد سوري، مستخدمة في فرض سلطتها أساليب الترهيب من جهة وأساليب الترغيب بشعارات وطنية شكلية.
إن التجربة السياسية، على صعيد بناء تحالف وطني – قومي على الساحة اللبنانية، قد وصلت إلى حدود المأزق، فلماذا وكيف الخروج منه؟
2- كيف نفهم إذن أسس التحالف الوطني – القومي، أو العلاقة بين الوطني والقومي.
من بديهيات الأمور أن نتفق على أسس ومبدئية القضية الوطنية والقومية أولاً، وأن لا نخطئ في تصنيف من هو وطني ومن هو خائن ثانياً، وأن يكون الحوار هو القاعدة الاساسية والمبدئية في حسم التعارضات التكتيكية بين من يتفق على أنهم حلفاء مبدئيين ثالثاً.
إن قضية احتلال الأرض الفلسطينية، ثم احتلال أجزاء من الأرض السورية، انتهاء باحتلال أجزاء من الأرض اللبنانية، أن مبدئية تحير هذه الأرض، هي قضية واضحة المعالم، واضحة الأسس. وأن نرفع شعار التحالف بين الأطراف المتضررة هو شعار منطقي ومبدئي. إلى هذا الحد ليس هناك حتى تعارضات طفيفة بين كافة الأطراف. ولكن التناقضات والتخوين تبدأ عندما تأتي مرحلة التطبيق، فهذه التناقضات لا تطفو على السطح من جراء الاتفاق على وسائل التحرير، لأن الجميع متفقون على اتباع أسلوب الكفاح الشعبي المسلح. ولكنها تطل برأسها عندما يأتي دور البحث في بناء المؤسسات الجبهوية، وهنا تبدأ النزعات الفئوية في قيادة هذه المؤسسات لتبدأ الصراعات الجانبية، وهنا يطغى الجانبي على الأساسي.
ولا بد من الإشارة إلى عنوان رئيسي، تردد، ما زال حتى الآن، هو الخوف من الهيمنة، والخوف من مصادرة القرار.
على صعيد الحركة الوطنية اللبنانية، من هو الطرف الذي يقود، أو الذي يتبوأ مسؤوليات أكثر في المؤسسات المشتركة. والهاجس عند الجميع هيمنة هذا الطرف على ذاك، واستفراد هذا الطرف أو ذاك بتلك المؤسسات وبما يكسبه حصصاً سياسية أكثر.
على صعيد المقاومة الفلسطينية، مع تسليم كافة الفصائل الفلسطينية في منظمة التحرير الفلسطينية لشرعية قيادة المنظمة، كان عامل الاستئثار الفئوي، يلعب دوراً عند هذا الفصيل أو ذاك.
على صعيد التحالف الذي لم يتجاوز إطاره الشعار النظري، بين السوري والفلسطيني والوطني اللبناني، كان هاجس الجميع، وبشكل خاص هاجس المقاومة الفلسطينية، أن لا تنازل عن قرارها المستقل للطرف السوري.
وبنظرة عامة، كان الخوف من هيمنة الطرف الآخر، هو خوف فعلي. لم يكن القوي بين الأطراف يستطيع تقديم تطمينات مقنعة، لأن القوي فعلاً كان يريد الهيمنة، ولم تكن الأطراف الأقل قوة مطمئنة خوفاً على دورها من الإلغاء.
وهكذا ساد الخوف بين الأطراف المتحالفة، على حساب عنصر الاطمئنان بالقوة الذي يجب أن يشيعه مبدأ التحالف، نظرة وتطبيقاً.
ولكن يجب الإشارة، إلى أنه في الفترة التي تلت الاجتياح الصهيوني عام 1982، سلمت اليوم بعض الأطراف الخائفة سابقاً من الهيمنة، قرارها بطواعية متناهية إلى غيرها من القوى الإقليمية والمحلية، كما فعلت بعض أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية إلى النظام السوري والقوى المذهبية. أما بعض الأطراف الفلسطينية، وكنوع من تطمين الوطنيين اللبنانيين سلمت قرارها إلى هؤلاء الوطنيين، حتى في بعض الأحيان على حساب بروزها الإعلامي في مقاومة العدو.
إن ثغرات ما قبل 1982، قد عولجت بثغرات أخرى بعد عام 1982، أن تحول هاجس الارتهان إلى الغير داخل الصف الواحد، كمقتل ساهم في فكفكة المشروع المشترك، إلى ارتهان فعلي وبطواعية غير منتظرة، وما لم تستطع الأطراف المتحالفة أن تمنعه بالحوار الديمقراطي، فقد أعطته مرغمة تحت ضغوط الترهيب.
إن هاجس الهيمنة الذي يحاول القوي فرضه، بينما يعمل الأقل قوة على منعه، لو اعتبرناه ثغرة أساسية في التحالفات التي كانت موجودة (فلسطيني - لبناني) أو في التحالفات التي كان يتم العمل لتحقيقها (سوري - فلسطيني - لبناني) لوجب أن نخلص إلى استنتاجات، اكسبتنا إياها التجربة، تعفينا من الخطأ والخلل في المستقبل، وذلك بتركيز علاقة موضوعية بين الوطني والقومي.
واستناداً إلى ذلك، فإن القضية الواحدة، وإيماننا بها، منطقاً ومبدأ، والعمل على النضال من أجلها في صيف جبهوي، نظرة وتطبيقاً، هي من الأسس التي لا يمكن نكران أهمية جوانبها تلك، في مسيرة النضال الطويلة.
ولكن العمل الجبهوي بين الوطني والقومي، نظرة وتطبيقاً، عليه أن يأخذ بالاعتبار موضوع التكامل بين النضالات الوطنية، والحركات التحررية الوطنية، على حساب الهيمنة والتطويع. وأن عملاً جبهوياً صحيحاً، يستطيع أن يحدد لكل طرف من أطرافه موقعاً في المعركة، يصب في مصلحة الهدف الاستراتيجي للجسم الجبهوي مستنداً إلى حاجته لجهود كل أطرافه، على كافة المستويات الشعبية والسياسية والعسكرية.
إن تجربتنا في الحركة الوحدوية العربية الاشتراكية، تنظيماً وسياسة ونضالاً تعطي صورة واضحة، عن تكامل الوطني والقومي، حيث تنصهر فيها القضايا القومية في وحدة، يحرك النضال من أجلها، هدف واحد، وتنظيم واحد يجمعه وجدان واحد، حيث لا شعور فيه لهيمنة طرف على آخر، ولا خلاف على أولوية قضية على أخرى، إلا ما يحدده التنظيم الواحد بموضوعية ودقة.
وإن كنا لا نستطيع أن نصهر الحركات الوطنية، التي كما تجد فيما بينها جوامع مشتركة، فإنما هناك تعارضات وتناقضات تفرقها كذلك، فإن تجربتنا الوحدوية وشعورنا بضرورة العمل الجبهوي، وحرصنا عليه، تعطينا دافعاً إضافياً في الدعوة اليه والاصرار على تطبيقه والنضال من أجله، كمرحلة أساسية من مراحل نضالنا الوحدوي على مستوى الإنسان والجغرافيا.
وعلى اساس وعينا هذا لأهمية العمل الجبهوي، ضمن أصول ومبادئ العلاقة بين ما هو وطني وما هو قومي، علينا أن نلقي الأضواء على تجربة العمل المشترك بين الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية.

3- التحالف الوطني اللبناني مع الثورة الفلسطينية
منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية في عمليتها الأولى ضد العدو الصهيوني من الحدود اللبنانية كانت هذه الثورة تكتسب اهتماماً واحتضاناً عربياً بشكل عام، واحتضاناً وطنياً وشعبياً على الساحة اللبنانية بشكل خاص.
لقد كان هذا الاحتضان يتنامى نوعاً وكماً، إذ انه كان يتحول من الدعم الإعلامي والمادي إلى المشاركة الفعلية في القتال إلى جانب الثورة الفلسطينية، إلى الدفاع عنها بالتظاهرة، إلى حمل السلاح في صفوفها، إلى تشكيل قوات وميليشيات خاصة بالأحزاب انتقلت إلى القتال الفعلي دفاعاً عن هذه الثورة، منذ إطلاق المؤامرة ضدها في أوائل عام 1975.
ومنذ إطلاق هذه المؤامرة، تطورت العلاقة بين الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية إلى درجة من التنسيق الفعلي في بناء مؤسسات مشتركة على الصعيد العسكري بشكل خاص وإلى تأسيس غرف عمليات مشتركة على الصعيدين السياسي والعسكري.
وعرفت الأحداث اللبنانية منذ 13/4/1975 وحتى حزيران 1983، نواة جبهوية لو قيض لها ان تستمر لاكتسبت غنى أكثر وفعالية أكثر في وجه المخطط الصهيوني، من جهة، ولكانت نواة حقيقية لعمل جبهوي مبني على علاقات وطنية قومية يجتذب اليها قوى أخرى على الساحة العربية من جهة أخرى.
ولكن بدايات التآمر الجديد، هذه المرة ضد التحالف اللبناني - الفلسطيني انطلق منذ عام 1980 لتفكيك التجربة الذاتية للحركة الوطنية اللبنانية، وبالتالي تفكيك أول نواة لتجربة جبهوية على المستوى القومي بين الفصائل الوطنية اللبنانية وفصائل الثورة الفلسطينية. عن أهمية هذه التجربة انها تعمدت بالدم اللبناني الفلسطيني، وانها بنيت على مؤسسات مشتركة، ولذا كانت الحاجة بالقضاء عليهما، ملحة ودموية، وأهم ثغرة تسللت منها المؤامرة، ان التجربة لم تكن قد نضجت بعد، لان المخاوف من الهيمنة داخل أطرافها كانت تنمو من جهة، وان بعض الأطراف الفلسطينية واللبنانية، كانت تنتظر مغريات من النظام السوري لبناء تجربة جديدة ينضم إليها هذه المرة العنصر السوري الرسمي وحلفاءه،، لإعطاء التحالف زخماً وقوة من جهة أخرى.
كان هذا الزخم مطلوباً إلى جانب التحالف اللبناني - الفلسطيني، ولكن الأنظار كانت تتجه إليه من منطلقات الاستقواء به، أما هو فكان يندفع في الاقتراب من هذا التحالف من منطلقات أخرى، تستند هذه المنطلقات إلى قاعدة الاحتواء، حيث انه يضع نفسه في موقع الأمين على القضايا القومية، إلى ان أتيح له أخيراً ان يحقق أهدافه، بينما الآخرون في الصف الوطني اللبناني الفلسطيني، قدموا له من التسهيلات ما لم يكن يحلم به.
ولكن الذي يثبر اهتمامنا في هذا المشروع هو إلغاء الضوء على التجربة الجبهوية اللبنانية الفلسطينية، ولماذا فشلت هي بالذات وكيف السبيل إلى استعادة هذه التجربة ما دام الصراع العربي- الصهيوني، لم يأخذ أبعاده الحقيقية بعد، في زج الإمكانيات العربية الشعبية والرسمية في الصراع ضد الصهيونية.
إذا استقرأنا المواقف السياسية والإعلامية، الصديقة منها أو المتآمرة على التحالف اللبناني- الفلسطيني لاستطعنا تحديد المعالم الرئيسية للأخطاء، التي كانت منفذاً لمهاجمة هذا التحالف فما هي هذه الأخطاء؟ وكيف نفهم بالتالي التحالف مع قضية العرب الأولى؟

أ- أخطاء المقاومة الفلسطينية قبل الاجتياح الصهيوني في حزيران عام 1982.
إن حصر الأخطاء بالمقاومة الفلسطينية كعنوان، خلفياته الأساسية، ان كافة الأطراف المعادية والحليفة، حاولت ان تلقي بالعبء على المقاومة الفلسطينية وحدها، إما تهرباً من تحمل المسؤولية، وإما محاباة للأطراف التي هيمنت على ما يسمى بالساحة الوطنية بعد الاجتياح. ولكنها بشكل أو بآخر قد ساهمت في تأكيد الاتهامات التي وجهتها الأطراف الإقليمية أو المذهبية المحلية للعمل ضد المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. وفي الوقت الذي عملت الأطراف الوطنية اللبنانية وبعض الفصائل الفلسطينية على تبرئة نفسها، فانها قد أدت صحة إدانة القوى المعادية لها عندما انجرت في الحملة الإعلامية الموجهة ضد ما يسمى انحرافاً في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، أو ضد القوى العربية التي كانت تدعم بجدبة المؤسسات المشتركة الفلسطينية - اللبنانية.
لهذا السبب، ترانا، من منطق الثورية والجرأة الأدبية، أن لا نلصق كافة هذه الأخطاء بأحد طرفي التحالف، لأنها لم تكن كذلك على الواقع أولاً ولان المستهدف كل أطراف التحالف فلسطينيين ولبنانيين ثانياً.
وفي تقديرنا، وبعد استقراء البيانات أو المقابلات الصحفية للحلفاء أو لغيرهم نحدد الأخطاء التي يتكلمون عنها بالعناوين التالية:
لم تستطع التجربة الجديدة بعد سقوط مؤسسات الدولة، من التعامل مع جماهير الثورة بمنطق الثورة لأجل الجماهير.
التعاطي بين أطراف التحالف بمنطق الهيمنة ومصادرة القرار، وخاصة من قبل الثورة الفلسطينية اتجاه الحركة الوطنية اللبنانية.
الانحراف السياسي لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية في مواقفها الاستسلامية من مشاريع الحلول السياسية المطروحة لحل مشكلة الشرق الأوسط.
إن وقوفنا أمام هذه الأخطاء لمعالجتها في هذا المشروع، لن يستطيع إيفاءها حقها من المعالجة الموضوعية، لكثرة التفصيلات المحيطة بها. ولكثرة الآراء والأطراف التي عالجتها بمنطق اللامسؤول في ظرف طغا فيه الخطاب الإعلامي الموجه، على كل وسائل العلاج الموضوعي والعلمي. بينما المطلوب ان تسود روحية الناقد الحريص على كشف الأخطاء حتماً الذاتية منها كي تصب في مصلحة التقويم لتجربة، نحرص على استمرارها، وليس العمل على تهديمها وتفكيكها.
ولهذا، نجد انه لا بد من معالجة سريعة، معالجة نقدية، لتلك الأخطاء، وعلى هذا الأساس فانه في تقديرنا، وفيما يختص بالأخطاء التي مورست بحق الجماهير في مرحلة استلام السلطة من قبل القيادة المشتركة اللبنانية- الفلسطينية، لم تكن تقع على كاهل الجانب الفلسطيني وحده بلا مارستها أجهزة الأحزاب اللبنانية كذلك وإذا فتحت ملفات الوقائع فلن يجرئ أي طرف ان يبرر لنفسه أو يبرأ نفسه من المسؤولية، ولكن الخطأ الأكبر الذي ارتكبه الجميع، انه سمح للأخطاء بان تتراكم، لتصبح مادة سهلة للاستغلال من قبل المتربصين، الذين حملوها قميص عثمان للدخول في صراع مسلح مع أطراف التحالف الوطني اللبناني- الفلسطيني.
ولا بد من الإشارة إلى ان النفس الانتهازي قد ساهم في إفساح المجال أمام القوى المذهبية التي حملت السلاح في وجه التحالف لكي تتابع معركتها موحدة الصفوف في وجه أطراف متحالفة لم تكن بمستوى الشجاعة الثورية لتصحيح مسارها في التعاطي مع الجماهير من جهة، ولإدراك خطورة القوى التي نصبت نفسها مدافعه عن هذه الجماهير من جهة أخرى.
واستناداً إلى ذلك، وبالإضافة إلى اننا نحمل مسؤولبة ممارسة الأخطاء إلى الجميع، فاننا في الوقت نفسه نسجل القصور في معالجة هذه الأخطاء في حينه، ومنع وجود ممثل شرعي مذهبي يدافع عن هذه الجماهير، كبديل لتشجيعه في تجزئة المعركة والتزلف إليه بشعارات التأييد لنموذجه في إيران.
أما بالنسبة لخطأ وقعت فيه بعض الأطراف الفلسطينية، في تعاطيها مع المؤسسات المشتركة للتحالف، بمنطق الهيمنة، لامتلاكها الامكانات والقدرات، فهذه مسألة بجب إعطاءها حقها في التقييم المشترك مع انه ليس مبرراً لأي طرف ان يساهم في القضاء على تجربة نامية وجدية، استناداً إلى هذا الخطأ، الذي وان تطلبت معالجته وقتاً، فانما هذه المعالجة لن يحلها الخطاب الإعلامي بل ان موقعها هو الحوار المباشر والصريح و الموضوعي والجدي.
أما الذي ركز علب الخطاب الإعلامي الموجه من أساليب الهروب التي مارستها القوات المشتركة في مواجهة العدو الصهيوني، فهي تنصب على تحميل المسؤولية، من وجهه نظر القوى المذهبية، لكافة أطراف التحالف الفلسطيني- اللبناني، وذلك كتبرير لادعائها قيادة التحرير فيما بعد، وهي التي لم تقاتل في حينه. ولن نقول أكثر من ذلك. أما من وجهة نظر بعض الأحزاب الوطنية اللبنانية وبعض الفصائل الفلسطينية، فانها ركزت على مسؤولية فتح وياسر عرفات واتهمتهما بالهروب، لماذا؟
من المستغرب ان يكون ذلك كذلك، في الوقت الذي كان الجميع مشاركاً في القوات العسكرية وفي غرفة العمليات المشتركة.
ولكن فهمنا لهذه المزايدة، انها تصب في إطار الخطاب الإعلامي الموجه، ولغايات غير البكاء على خسارة المعركة، لا يعفينا من معالجه الموضوع بهدوء وموضوعية، ليس لإعفاء أحد من المسؤولية بل لفهم طبيعة المعركة العسكرية في ذلك الظرف بالذات، آخذين بعين الاعتبار القوى المتقابلة، وأساليب القتال لدى كل من الطرفين.
في تقديرنا، انه ليس هكذا، يتم تقييم المعركة، بين جيش نظامي حديث، وبين قوات مؤهلة لممارسة حرب العصابات.
وإن التقييم الموضوعي، وليس تقييم الخطاب الإعلامي الموجه، عليه ان لا ينسى التضحيات الجسام التي بذلت في مواجهة العدو في أكثر من موقع في الجنوب فكيف بالأحرى لما جرى في بيروت من صمود.
وفي الوقت الذي يعمم الخطاب الإعلامي الموجه ظاهرة الهروب، فان كافة الأطراف الأخرى الحليفة التي ساهمت في تغذية الخطاب المذكور بحسن نية أو سوئها، نراها تتغنى بما حصل في الرشيدية وبرج الشمالي والشقبف وعين الحلوة وخلدة والدامور وأخيراً في ببروت.
لننفض الغبار، عن الوقائع في التقييم، وليس عن البيانات التحريضية ذات الأغراض المتعددة الجنسيات والأهداف.
وأما وقد جاء الاتهام بحق منظمة التحرير الفلسطينية بالانحراف والخيانة فهذه مسألة تثير الاستهجان، كنا قد القينا الضوء عليها في بداية هذا الفصل، حول سياسة التحالفات البهلوانية التي تحول الوطني إلى خائن، ثم تحوله إلى وطني تارة أخرى، فهي مسألة مثيرة للدهشة، انه لم يكن مقصوداً منها محاكمة الاتجاهات السياسية، بالقدر الذي كان المقصود، القضاء، على الثورة الفلسطينية وجمع السلاح من أيدي كافة عناصر الفصائل الفلسطينية، ان هذه الاتهامات يعتبرها الخطاب السياسي الموجه في خانة الإنقاذ الوطني الفلسطيني.
إن العودة إلى فتع أرشيف ملف حرب المخيمات، منذ معركة البارد والبداوي، حتى مخيمات صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة، واستكمالها في مخيم الرشيدية، إلا الشاهد الأقوى والأكثر دلالة على اتجاهات المؤامرة، وليس على اتجاهات تقويم للخطوط السياسية.
وباختصار، واستقراء لما أشرنا إليه في إدراج الأخطاء وطريق معالجتها، والتي أكدت على تحميل مسؤوليتها للمقاومة الفلسطينية، لم تكن وليدة الحرص على هذه المقاومة مطلقاً، بل كان المقصود ضرب هذه المقاومة وشطب دورها، لتصبح ملحقاً في كافة المحافل والمؤامرات الدولية، تعارض أو توافق بما يملى عليها من توجهات وتوجيهات.
بعد هذا الاستعراض، هل نفهم فعلاً ان تكون علاقة التحالف مع الثورة الفلسطينية بهذا المستوى من الهشاشة والسطحية؟ لهذا لا بُدَّ من طرح السؤال التالي:

ب- كيف نفهم القضية الفلسطينية؟ وبالتالي كيف نفهم العلاقة مع الثورة الفلسطينية؟
إذا كان الصراع مع الإمبريالية هو صراع أساسي بالنسبة للأمة العربية، فان القضية الفلسطينية هي في القلب من هذا الصراع، لانها تمثل خطوط التماس المباشرة مع الإمبريالية، زرعته في هذا الموقع الجغرافي المهم لغاية أساسية في معركتها لمنع الوحدة بين أقطار هذه الأمة، ولتكريس التجزئة الجغرافية من جهة، ولاستخدامه ذراعاً ضاربة ضد أية محاولات وحدوية من جهة أخرى.
فإذا كانت القضية الفلسطينية، بما تمثله من قضية مركزيه في الصراع العربي- الصهيوني المباشر، فانها تعتبر قضية مركزية في الصراع العربي- الإمبريالي كذلك.
واستناداً إلى ذلك، فان القصية الفلسطينية بما هي قضية قومية، هي قضية أممية كذلك، وعلى عاتق الأمة العربية تقع مهمة دعمها، كما تقع هذه المهمة على عاتق كل حركات التحرر في العالم والتي تقف في صف مواجهة الإمبريالية.
إن تحديدنا لعروبة القضية الفلسطينية ولعالميتها، يجعل أساليب دعم هذه القضية وتبنيها واضحاً، وعلى رأس أولويات هذه الأساليب تأتي العلاقة مع الثورة الفلسطينية كحركة تعمل على تحرير أرضها.
وإذا انطلقنا افتراضاً، من انه ليس للقضية الفلسطينية شعب يعمل ويناضل في سبيلها، لكان من أولويات المهمات القومية والعالمية ان تعمل لخلق ثورة فلسطينية، لانه لا معنى لقضية ما بدون شعب يعمل لأجلها. لان الشعب هو القضية وليس أي شيء آخر.
استناداً إلى ذلك، فان للقضية الفلسطينية شعب وثورة، وهذه الثورة هي المعنية بشكل مباشر لقضيتها. وعندما نعترف بان لقضية ما ثورة تعمل لأجلها، فان مجرد قناعتنا بعدالة هذه القضية، يشكل الدافع الواجب لمساندتها منا خلال مساندة الثورة التي تعمل لأجلها.
إن شخصية القضية لا تنفصل عن شخصية الشعب، فهما شيء واحد وشخصية الشعب تمثله شخصية الثورة التي تقوده، والمحافظة على شخصية الثورة هي محافظة على شخصية الشعب وشخصية القضية.
وإن مجرد قناعتنا بأن هناك ثورة ذات قضية محددة وذات شخصية محددة، نعتبر ان القضية ومن يمثلها من المسلمات التي علينا ان نتعاطى معها بمنطق المساندة والمساعدة، كأن نفتش عن أسرع الوسائل وأجداها لتكون المساندة والمساعدة ذات معنى. وليس من مهمتنا ان نشكك في الثورة، هل هي صالحة أو غير صالحة، هل هذه القيادة هي شرعية أو غير شرعية.
ان تتحول مهمتنا القومية إلى التدخل في شرعية قيادة الثورة أو عدم شرعيتها هو تدخل مستهجن، وغير مفهوم، فيكفي ان تكون القيادة في موقع الثورة وطريق التحرير لكي نقر بشرعيتها. ولكن إذا كان المقصود ان نساهم في التقييم حول أساليب التحرير، فليس معنى ذلك التدخل بمسلمات لتغييرها، لان المسلمات التي بضعها شعب من الشعوب لنفسه كحقه في اختبار قيادته مثلاً بالإجماع أم بالأكثرية، فالأمر سيان، هي حق من حقوقه، لا نسلبه إياها تحت أي ذريعة من الذرائع.
استناداً إلى هذا الإطار العام وقياساً على ما يجرى على أرض الواقع، نجد ان الأمور تسير باتجاه شاذ لما هو منطقي ولما هو متعارف عليه في العلاقة بين الثورات التحررية الأم وبين الاتجاهات التحررية المساندة والمساعدة والمشاركة.
أين تقع الثورة الفلسطينية في هذه المرحلة في برامج الحركات الأخرى، قومية كانت أم وطنية أم مذهبية أو طائفية؟.
إن الثورة الفلسطينية بلغت شأناً مهماً في حياة الأمة العربية، وظاهرة مضيئة في مسيره الصراع العربي - الصهيوني في مرحلة هزيمة 1967 وما بعدها، كانت ثورة جمعت حولها التأييد الشعبي العربي الواسع وبدون تحفظات وكذلك التأييد العربي الرسمي كأنظمة منفردة أو كأنظمة مجتمعة في مؤتمرات القمم العربية، باعتراف لها بشرعيتها وآحادية هذه الشرعية. ان هذا الاعتراف الشعبي والرسمي، قد حصل في ظل القيادة الفلسطينية التي ما زالت دون تغيير حتى الآن، وان كانت هذه القيادة قد حازت على إجماع عربي في مراحلها الأولى، فانها ما زالت مستمرة بشبه إجماع عربي في هذه المرحلة.
إن همنا في إبراز مسألة القيادة الفلسطينية ليس من منطلق الدفاع عن هذه القيادة، بل من منطلق التأشير على أخطاء من الآخرين من حركات قومية أو وطنية أم طائفية في التعاطي مع ثورة شقيقة. وهذه الأخطاء يأتي على رأسها، التدخل غير المشروع في سائل داخلية، هي حق من حقوق الشعب الفلسطيني، ولا حق لغيره في اختيارهما.
من هنا نجد ان مرحلة ما بعد 1982، مرحله الاجتياح الصهيونية للأرض اللبنانية قد بدأها العدو الصهيوني في معركة لشطب ثورة الشعب الفلسطيني وقيادة هذه الثورة، وقد استمرت في متابعة المخطط أدوات أخرى، ولكنها هذه المرة على أيدي حلفاء الثورة من لبنانيين وطنيين ومذهبيين، وغير لبنانيين كذلك.
إن ما يفعله ويفعله حلفاء الأمس، بسوء نية أو بغيرها، من حصار للشعب الفلسطيني نتج عنه الموت والجوع والدمار، وبحجة تصفية قيادة منظمة التحرير، المعترف بها فلسطينياً وعربياً ودولياً، كان هذا الفعلي يحصل تحت شعار انحراف هذه القيادة وخيانتها، والمستهجن كما مر معنا في إطار معالجة التحالفات أن يتحول الوطني إلى خائن فإلى وطني، وتحت هذه الحجة اللامنطقية يتتابع الحمل التصغوي للشعب الفلسطيني، والهدف الأبعد هو تجريد هذا الشعب من سلاحه الذي لا يصب سوى في إطار تجريد هذا الشعب من ثورته.
إذا افترضنا، أن قيادة هذه الثورة قد قصرت في أساليب التحرير، أو أنها ارتأت ومن منطلق مخلص، إشباع أسلوب ما، سياسياً كان أم عسكرياً، ببنما حلفاء هذه الثورة لم يقتنعوا بما ارتأت قيادة الثورة، فليس هكذا تعالج الأمور، لان هذه المعالجة ليست منطقية حتى من قبل الفصائل الفلسطينية ذاتها، فكيف بالأحرى إذا كانت هذه المعالجة قد جاءت من حلفاء من الثورة؟
إن الإصرار على تصحيح الأخطاء، بقوة السلاح بين فصائل الثورة الواحدة، أو ببنها وبين حلفائها على المستوى القومي، لن يقع في خانة الغيرة على الثورة، بل أنه يقع في خانة التآمر عليها وخيانته لها.
لذلك، فاننا نرى، وحسب تقديرنا، ان للثورة الفلسطينية، كما لغيرها من الثورات الوطنية على الساحة العربية، شخصيتها المستقلة وقرارها المستقل، هذا حقها على حلفائها، أما حق حلفائها عليها أن يسددوا ما يجدوه خطأ فيما خطواتها على قاعدة أسلوب الحوار في المؤسسات المشتركة. وأن أسلوب المعالجة هذا هو الأسلوب الذي على الحلفاء ان لا يتخطوه، واجباً علبهم، ما دامت الثورة لم تنزلق إلى درك الخيانة لانها في هذا الحالة لن تكون ثورة مفهومة، ولا حاجة لتطبيق قوانين العلاقات التحالفية المعروفة معها.
استناداً إلى ذلك، فان العلاقة في التحالف بين ثورات شقيقة، هي علاقة التكامل والتفاعل فيما بينها، كذلك هي علاقة التكافؤ والاحترام المتبادل.
وعلى هذه الأسس، يتم تحديد الحقوق المترتبة علينا للمقاومة الفلسطينية،والتي تتلخص بالمهمات التالية:
حقها المشروع في القتال ضد العدو الصهيوني.
تنظيم العلاقات اللبنانية الفلسطينية على الصعيد الشعبي والوطني الرسمي.
تنظيم العلاقات بينها الأحزاب الوطنية اللبنانية والثورة الفلسطينية.
إن الخوض في تفاصيل فهمنا لهذه المهمات، قد يأخذ حيزاً كبيراً، ولكن العودة إلى دراسة التجربة المشتركة قبل عام 1982، لا بد أن تصل بنا إلى قواعد وأسس سليمة لمتابعة مهمات التحرير. بعد عام 1982 فقد استجدت قضايا ومهمات أخرى، وثغرات كثيرة كانت نتائجها سلبية على مسيرة المشروع الوطني اللبناني وعلى مسيرة الثورة الفلسطينية. ومن اخطر هذه النتائج بداية الانتكاسة المستمرة حتى هذا اليوم الذي شهدنا فيه، مشروعينا التحرريين اللبناني والفلسطيني، خاضعين للقوى المعادية أو التي تدعي التحالف والصداقة.
وأنه بالرغم من أن السلبيات كثيرة، والمهمات المطلوبة أكثر، فان مراجعة المرحلة السابقة، والبدء في بناء مرحلة جديدة وعلى أسس متينة وصلبه وواعية، هي افصل من الاستمرار في مرحلة التراجعات الوطنية التي قد تتعمق أكثر فاكثر، فعلى الأقل أن تعمل لإيقاف مرحلة التداعيات الوطنية والقومية من أن ندعها تستمر في الانهيار.
وان الدعوة للعودة إلى البناء ليست آتية من فراغ ولا من باب التمني، بل انها تستند إلى متغيرات فعلية على الصعيد المحلي والإقليمي والعربي تتمثل في انتفاضة الأرض المحتلة وفي إيقاف الخطر الشعوبي على البوابة الشرقية للأمة العربية، حيث تنعكس آثار هذين الحدثين إيحاباً على الساحة اللبنانية. أما تجربة قوى الأمر الواقع فانها بدأت مرحلة التراجع الفعلي بعد فشل تجربتها، وبعد اكتشاف زيفها أمام الجماهير التي أنشدت إليها بحرارة في يوم من الأيام الماضية، ولكنها تنتظر البديل، فمن يكون هذا البديل؟
في تقديرنا لن يكون سوى مشروعاً جبهوياً وطنياً وقومياً على المستويين اللبناني والفلسطيني من جهة، وعلى مستوى الحركات والأحزاب العربية من جهة أخرى. *****
رد أول على المشروع الوطني- السياسي الجبهوي
في إطار دعوتها لمناقشة "في سبيل مشروع وطني سياسي جبهوي، عن قبل أوسع قاعدة، وبعدما أنجزت "طليعة لبنان الواحد" نشر آخر حـلقة من المشروع " تلقت مقالاً من الرفيق أبو هيثم، تحت عنوان:"ملاحظات أساسية". وطليعة لبنان الواحد إذ تقدر ما تضمنه الرد من أفكار قيمة، تنشره بنصه الحرفي، لجعله مادة إضافية للنقاش والإغناء آملة وصول ردود إضافية:
بشغف واهتمام وبتعمق في الدراسة. تابعت ما تضمنته الأعداد 56 و57 و58 من نشرة طليعة لبنان الواحد حول ما أسمته "المضمون السياسي" للمشروع الوطني- الجبهوي على الصعيدين الوطني والقومي.
وتحسساً مني بواجب المشاركة في خوض غمار البحث حول هذه المسألة الحيوية من جهة أولى، وتلبية لطلب نشرة طليعة لبنان الواحد بإرسال الملاحظات أو وجهات النظر المتعلقة بهذا الموضوع من جهة ثانية، وانطلاقاً من تجربتي المتواضعة في ميدان العمل الجبهوي من جهة ثالثة، فانه يسعدني، في هذا المجال، إبداء الملاحظات التالية.
أولاً: إن التطرق إلى مسألة صياغة مشروع للعمل الجبهوي، من قبل نشرة طليعة لبنان الواحد، أو من قبل صاحب المشروع المذكور، يؤكد على أصالة التعاطي مع قضايا النضال الوطني والقومي، وعلى نظرة علمية ثورية في فهم قوانين النشاط السياسي، وبالتالي النضالي الجماهيري. هذا من حيث المبدأ، أي من حيث الشروط الضرورية الواجب توفرها في العملية الثورية الهادفة إلى تحقيق غاية ثورية ما، بغض النظر عن الأبعاد أو عن الطبيعة الثورية لهذه الغاية كأن تكون انقضاضاً على النظام السياسي القائم واستلاما للسلطة، أو نضالاً شعبياً مسلحاً لإخراج القوات الأجنبية المحتلة من أراضي الوطن، أو ضغطاً جماهيريا على أرباب الحكم من اجل تحقيق بعض المطالب والإنجازات أن على الصعيد المطلبي- الاجتماعي أو على الصعيد السياسي الوطني والقومي، الخ...
ثانياً: من المفروض بل من المؤكد أن واضع المشروع الوطني السياسي- الجبهوي عندما يفكر إنما يفكر بعقلية بعثية بمقدار ما ينظر إلى الواقع السياسي، الوطني والقومي، نظرة موضوعية ترى سيئات هذا الواقع كما ترى إيجابياته " وتتلمس تناقضاته الرئيسية والثانوية كما تتلمس عوامل استنهاض على درب التقدم والتطور.
إذن هناك توازن في النظرة إلى الأمور، توازن ثوري وعقلاني، مبدئي وموضوعي، وهو توازن مطلوب بشكل خاص في مثل القضية التي تتناولها بالبحث والمناقشة، عنيت قضية العمل الجبهوي. إلا انه يجدر الانتباه في هذا الميدان، وبدقة متناهية، أن لا يؤدي، هذا التوازن إلى الإخلال بالبنية أو الهيكلية التنظيمية الثورية والشعبية لحزبنا، وان، لا تكون النتائج العملية لهذا التوازن، في شتى الاحتمالات وصيغ العمل الجبهوي، على حساب القضايا المبدئية للحزب وعلى حساب الإضرار بمصالح وأهداف الأمة الحيوية وبتربية الجماهير العربية التربية القومية الثورية.
ثالثاً: في تجارب الشعوب وثوراتها التحررية، كانت توجد، غالباً، جبهات وطنية تقدمية تأخذ على عاتقها مهام تحقيق الاستقلال أو القيام بالثورة الاجتماعية- الطبقية الهادفة إلى إسقاط الحكم المستبد وبناء النظام التقدمي الاشتراكي.
ومن خلا ل دراسة التركيبة التنظيمية لهذه الجبهات، كان يلاحظ دائماً، أو على الأغلب، وجود ما يمكن تسميه بالحزب القائد لهذه الجبهة أو تلك، أي أن الجبهة الوطنية التقدمية، في هذا البلد أو ذاك، ومهما انضوى في صفوفها من أطراف وطنية متحالفة، كان لا بد من وجود طرف قوي في داخلها، يقود هذه الجبهة بمقدار ما يتعاون في نضاله مع باقي الأطراف المتشكلة منها.
إن وجود هذا الطرف الأقوى أو الحزب القائد كان، وباستمرار، يشكل الضمانة الفعالة في تأمين أواصر اللحمة والتعاون ما بين أطراف الجبهة من جهة وفي اشتداد ساعدها ودورها النضالي من جهة أخرى. وكلما كان هذا الحزب (القائد) يشكل من القوة المادية والمعنوية ما يعادل قوة مجموع الأطراف الأخرى، أو يفوقها، كلما كانت هذه الجبهة أقدر على ممارسة مهامها وأصلب عوداً في علاقاتها الداخلية، وفي هذا السياق لا مبرر لأية أوهام أو مخاوف من تسلط أو هيمنة فئوية قد يصدرا عن الحزب القائد طالما انه ملتزم بالتصور السياسي المشترك للجبهة وببرنامجها العلمي، ويناضل مع الآخرين وفق هذا التصور ومن خلال توجهات هذا البرنامج.
رابعاً: عندما يقرر أحدهم، ومن موقعه المسؤول في قيادة العمل الوطني بإطاره الجبهوي، صياغة مشروع ما لهذا العمل، فمن الضروري أن لا يغفل في مشروعه ذكر مسائل تعتبر جوهرية وحيوية من الوجهة السياسية، ويمكنها أن تشكل نقاط اختلاف وتباعد أو اتفاق وتقارب بين أطراف الجبهة المنشودة. هذا من جانب، ومن جانب آخر فان التطرق إلى بعض القضايا الهامة (والهامة جداً) ببضعة اسطر أو بكلام لا يتعدى العناوين العريضة، إنما يشكل ثغرة كبيرة في صميم المشروع الجبهوي، ويترك الباب مشرعاً أمام الاجتهادات المختلفة، وربما المتناقضة في فهم هذه القضايا، الأمر الذي يؤدي، وبسبب المفاهيم المتباينة حول النظرة إلى هذه القضايا والمواقف منها، إلى خلق حالة من البلبلة في صفوف أطراف التحالف الوطني، قيادة وكوادر وقواعد. وبالتالي انعكاس هذه الحالة على الصعيد الجماهيري.
خامساً، وأخيراً من المؤكد- كما هو مـفترض- أن واضع هذا المشروع السياسي- الجبهوي، عندما يكتب عن مسألة العمل الوطني- الجبهوي، فانه يستحضر ما في ذهنه، على الأقل، أسماء بعض الحركات والأحزاب السياسية، وربما الشخصيات العاملة في الميدان السياسي، الوطني والقومي، وبالتالي فان يفترض وجودها أو وجود بعضها في إطار الحمل الجبهوي المقترح أو المنشود. ولا بد أيضاً أن يكون مقتنعاً (أي واضع هذا المشروع) بأن هذه الأحزاب والحركات والشخصيات السياسية سوف تخدم، بناء على طبيعة تركيبتها التنظيمية- الاجتماعية أو بناء على تاريخها الوطني وبرامجها السياسية أو، على أدنى تقدير. بناء على بعض مواقفها الراهنة من قضايا النضال الوطني والقومي، المهام الموكولة على عاتق الجبهة، والتي يجب ان تكون مهاماً وطنية وقومية بطبيعة الحال. أما إذا غابت هذه الأمور- الحقائق، عن ذهن واضع هذا المشروع السياسي- الجبهوي، فان هذا المشروع لن يتحول، في احسن حالاته، سوى إلى وثيقة سياسية مكتوبة لا تخرج عن كونها مجموعة تطلعات وتمنيات مشروعة، ولكنها غير قابلة التطبيق على أرض الواقع.
قد يبدو للبعض، من الوهلة الأولى، إن هذه الملاحظات المستخلصة من مطالعتي للمشروع السياسي- الجبهوي لا تغني الموضوع المذكور بنقاط محدده وواضحة أو باقتراحات عملية مضافة، بيد أن الأمر هو بخلاف ذلك، اعتماداً على التفنيد الذي سأبينه فيما يلي للملاحـظات الخمس، والذي سيؤدي إلى نتيجة منطقـية، حسب وجهة نظري، فحواها أن المشروع المطروح سابق لأوانه و لمرحلته السياسية على الصعيد الميداني وليس على الصعيد النظري البحت.

تفنيد الملاحظات:
أ- بالنسبة للملاحظة الأول، وكما سبق ذكره، فان ا لكلام عن ضرورة قيام جبهة سياسية- وطنية وقومية، هو كلام سليم من حيث المبدأ، ولا يوجد أي غبار على صحة هذا التوجه في إطار النضال السياسي للجماهير وتعبيراتها التقدمية على الصعيدين الوطني والقومي، ولا أتصور وجود عاقلين، يؤمنان بالعمل السياسي الثوري ويلتزمان بأطره التنظيمية، يمكن ان يختلفا نظرياً ومبدئياً حول هذه المسألة.
وتبدو ضرورة قيام تحالف سياسي- جبهوي، أمراً أكثر إلحاحاً في مثل الحالة اللبنانية الراهنة حيث هيمنة قوى الاحتلال الأجنبية وتفاقم التمزق في العلاقات الداخلية والتشرذم الطائفي والمذهبي... حيث يكاد ذلك يودي بالكيان الوطني اللبناني، أي بوحدة الأرض والشعب والمؤسسات. ولا أظن، أن هذه الصورة القائمة عن الوضع اللبناني قائمه فقط في أذهان البعثيين، بل هي تكاد تكون شاملة في نظرة كل اللبنانيين، أفراداً ومنظمات ومسؤولين، إلى بلدهم، ومن البديهي، إنطلاقاً من هذا الواقع، ان يندفع جميع الوطنيين والمخلصين لبلادهم للتفكير بإنقاذ أنفسهم قبل إنقاذ شعبهم من مخاطر استمرار المحنة الوطنية، ولكن الحقائق، كما يقال، هي أشياء عنيدة لا تقبل الجدال ، ومن جملة هذه الحقائق الساطعة، أن الحالة المأساوية للبنان لم تستحث سوى البعثيين إلى التحرك والنضال على طريق سبرغور درب الخلاص والإنقاذ، وبالتالي دفع الثمن الغالي (شهداء ومعتقلين ومهجرين...) لقاء مواقفهم الجريئة والمبدئية، بينما وقف الآخرون، كل الآخرين، يتفرجون على خراب وطنهم ونهب ثروته وقضم أراضيه وموت شعبه...
وهنا، سوف يظهر من يقول ن ذلك الأمر لا يجب أن يدفع إلى القنوط والتخلف عن أداء الواجب الوطني والقومي، بل يجب أن يمدنا بالمزيد من أسباب النضال وصولاً لتغيير هذا الواقع الشاذ.. أمر صحيح، لا سيما وأن مفاهيم التضحية والاستقلالية والثورية والشعبية والأخلاقية هي من المسلمات في القاموس السياسي والنضالي لحزبنا، حزب البعث العربي الاشتراكي. ولكن التساؤل المطروح في موضوع بحثنا، وبشكل محدد، هل يخدم الواقع السياسي الحالي للقوى والأحزاب المسماة وطنية وتقدمية، والذي يعرف الجميع، أغراض وأهداف الجبهة المنشودة؟ وهل الظروف الذاتية، سواء ظروفنا أو ظروف الأطراف الأخرى التي مفترض مشاركتها في هذا العمل الجبهوي، مهيأة بدورها لتحقيق قيام هذه الجبهة؟. من المعروف أن النشاط السياسي، لا يعطي اعتباراً، أو بمعنى أدق لا يترك مجالاً لتحكم الأهواء والتمنيات الشخصية العاطفية مهما فاحت رائحتها وزكت. وفي الكثير من الأحيان، وقياساً على قو ل الشاعر:" ما كل ما يتمنى المرء يدركه، فان العديد من الغاية النبيلة والمشروعة تصطدم بحواجز وموانع قوية تحول دون ترجمتها العملية، ولكن ذلك الأمر لا يبعث على اليأس، إذ سرعان ما تنقشع الغيوم السوداء وتهدأ أمواج البحر العاتية وتصبح الظروف اكثر ملاءمة لتحقيق هذه الغايات.
وفي العودة إلى موضوع الملاحظة الأولى، نجد أن واضع المشروع الجبهوي لم يؤشر إلى الغاية الثورية أو الوطنية من وراء تأسيس الجبهة السياسية- الوطنية المقترحة، باستثناء ما تطرق إليه في الحلقة الثالثة (ص ا 4- 2 4) من كلام مفاده أن هذا المشروع السياسي- الجبهوي، يجسد البديل الذي تنتظره الجماهير اللبنانية بعد فشل تجربة قوى الأمر ا لواقع واكتشاف زيفها!.. بالله عليكم، هل يشكل هذا الكلام نواة برنامج صالح لقيام جبهة وطنية- قوميه؟! وهل تنتظر جماهيرنا خلاصها الوطني في مشروع تجمع سياسي- وطني أم في قيام دولة واحدة، موحدة، عادلة، قادرة على بسط سيادتها على كامل الأراضي اللبنانية؟
والخوف، كل الخوف، أن تتحول قوى الأمر الواقع (الحزب التقدمي الاشتراكي على سبيل المثال لا الحصر..) بقدرة ساحر إلى قوى فاعلة ومؤثرة داخل الجبهة الوطنية- السياسي المنشودة، وربما إلى تبوء قيادتها أيضاً !... وعندها كيف نبرر أو نفس لأنفسنا ولجماهيرنا أن هذه الجبهة تمثل بديلاً لقوى متشكلة منها وهي قوى لطالما أساءت في ممارساتها ومواقفها السابقة والراهنة إلى قضية العمل الوطني الجبهوي، ولطالما قاست وعانت منها جماهيرنا؟!
وفي العودة مرة ثانية إلى موضوع الملاحظة الأولى، أي غاية الجبهة، وفي استعراض سريع للأهداف المحتملة لهذه الجبهة، نجد أن هذه الأهداف يمكن أن تتمحور حول بعض النقاط الرئيسية التالية:
1- تحرير الجنوب اللبناني من نير الاحتلال الصهيوني.
2- تحرير لبنان من وجود القوات السورية المحتلة.
3- دعم الثورة الفلسطينية.
4- تحقيق مطالب اجتماعية- اقتصادية من أجل تخفيف وطأة العيش عن كاهل الجماهير.
5- استلام السلطة في لبنان!.
بالنسبة للنقطة الأولى، المتعلقة بتحرير أراضي الجنوب من قوى الاحتلال - الصهيوني وعملائه، فإنني لا اعتقد انها تشكل غاية بحده ذاتها للجبهة المنشودة أو لبرنامج عملها، وذلك لاعتبارين الأساسيين. أولهما، أن الكفاح المسلح ضد قوات الكيان الصهيوني في الجنوب يتم حالياً من خلال "جبهة المقاومة الوطنية" حيث يشارك حزبنا في نضاله العسكري، على الرغم من الصعوبات المعروفة التي تعترض طريقه في هذا المجال، وتؤثر بالتالي على حجم دور وعطائه. أما لجهة الاشكالات السياسية والعسكرية والأمنية والتنظيمية التي تقوم بين أطراف جبهة المقاومة الوطنية لتحرير الجنوب، والتي هي قائمة بالفعل بين حزبنا على الأخص وبين اغلب أطرافها، فإن حلها أو العمل على حلها يكون من ضمن إطارها وليس العكس، مع التأكيد طبعاً على أن حزبنا لن يعدم وسيلة لتمكينه من القيام بدوره الوطني والقومي في هذا الميدان. وعلى كل الأحوال. وإذ ا كانت مسألة قتال العدو الصهيوني وإخراج قوات الغازية من الأراضي اللبنانية في الجنوب هي التي تشكل العنوان البارز لهذه الجبهة المقترحة والغاية من وراء إنشائها، فان هذه الغاية تنتفي متى علمنا أن حزبنا قد طرح تصوراً على أطراف جبهة المقاومة الوطنية وخطة عمل لنضالها العسكري والسياسي، وبالتالي يصبح من الأجدى متابعة التحرك في هذا المجال. أما ثاني الاعتبارين فيتلخص بعدم جواز اقتصار التحالف السياسي بين أطراف منتشرة من أقصى شمال لبنان إلى أقصى جنوب حول مسألة واحدة، هي مسألة تحرير الجنوب، وإغفال المسائل السياسية الأخرى، والتي تكاد توازي بأهميتها وبطابعها الوطني المصيري مسألة التحرير.
بالنسبة للنقطة الثانية، المتعلقة يسحب القوات السورية من لبنان، يبرر التساؤلان التاليان: هل يمكن، في ظل الظروف السياسية الراهنة التي تعيشها القوى والمناطق الخاضعة للاحتلال العسكري السوري، قيام جبهة سياسية- وطنية قادرة على تحقيق هذه المهمة؟ ومن هي الأطراف الوطنية القابلة، عملياً، بالاشتراك في هذه الجبهة والمستعدة لتحمل تبعات النضال ضد "السوريين" في مناطقها المحتلة؟
فيما يتعلق بالتساؤل الأول، لا أعتقد أن الظروف السياسية الموضوعية، ورغم نضجها (الأمر الذي يبحث على الدهشة عند بعض المتعمقين في دراسة تجارب الشعوب التحررية والحركات الثورة!)، سوف تساعد، في المرحلة الراهنة، على خلق حالة شعبية- مسلحة تقاتل السوريين وتعمل على إخراجهم من المناطق المحتلة، وذلك لأسباب عدة من أبرزها انفراد النظام السوري عن سواه من الأنظمة الدكتاتورية في العالم بسمات معينة لن تردعه (كما لم تردعه في السابق) عن ممارسة الفاشية بأبشع صورها واقتراف المجازر البشرية الرهيبة، تحت حجة ردات الفعل، ولنا في مجزرة باب التبانة في طرابلس، والتي قد لا تكون آخر فصول كيفية التعاطـي "السوري" مع الأصوات المطالبة بالحرية والكرامة، أكبر شاهد على المدى الذي يمكن أن يصله القمع "السوري". أما إذا كان المقصود بالعمل المسلح ضد القوات السورية المحتلة ما نسمعه بين الفينة والأخرى من عمليات عسكرية (لا تتعدى في معظمها طابع الإزعاج والإقلاق وخلق حالة من الإرباك في صفوف الضباط والجنود)، فإنها لن تؤدي، كما يظن البعض، إلى خلق الحالة المطلوبة والتي سبق أن أشرت إليها بعبارة "الحالة الشعبية- المسلحة"، لان هذه الحالة لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال تضافر جهود الفعاليات والقوى السياسية الوطنية الموجودة في مناطق الاحتلال والتي، للأسف ومع وضع هلالين بين كلمة وطنية، لم تستطيع حتى الأمن الخروج من مأزقها السياسي وفك ارتباطها بأهداف سياسة النظام السوري في لبنان. ويقودنا الكلام عن هذه الجبهة على قاعدة النضال العسكري ضد قوات الاحتلال السورية.
وفي غربلة سريعة لهده الأطراف، فاننا لن نجد من بينها طرفاً مستعداً عملياً لخوض معركة ضد السوريين، إلا إذا كان الأمر هنا يعول فيه على بعض التجمعات العسكرية الطارئة، مثل حركة 9 شباط ومن هي على شاكلتها، ومع مشروعية تعاطي الحزب مع هذه التجمعات، إلا أنني لا أتصور أن واضع المشروع السياسي- الجبهوي أدخل في حساباته ضم هذه التجمعات إلى الجبهة المنشودة، لاعتبارات متعددة من بينها ارتباط نشاط هذه التجمعات لحساب قوى معينة (أبو عمار، الجيش، القوات...) مما يفقدها استقلاليتها من جهة، ويتحكم بخط تحركاتها التي يغلب عليه الطابع المخابراتي من جهة أخرى. إن هذا الكلام لا يمنع بالتأكيد حق الحزب ببناء نوع من العلاقات الثنائية أو التعاون ا لمتبادل الذي يخدم أهدافنا الوطنية والقومية.
أما إذا كان المقصود ببعض أطراف الجبهة السياسية - الوطنية التحالف مع فعاليات وقوى سياسية معادية للدور السوري في لبنان، ولكنها في نفس الوقت مناهضة للخط القومي العربي ومتنكرة، في الجوهر وليس في الشكل، لعروبة لبنان وقدره القومي، أي بتعبير واضع التحالف مع بعض الفعاليات القائمة في المناطق اللبنانية "الشرقية"، فإنني لا أتصور إمكانية نجاح مثل هذه الخطوة ولا أتلمس فوائدها على الصعيدين الوطني والقومي، مع الأخذ بعين الاعتبار، كما في حالة التعامل مع التجمعات المسلحة الطارئة، مشروعية إقدام الحزب على صياغة أشكال معينة من العلاقات الثنائية هذه الفعاليات "الشرقية" والتي تستمد ضروراتها من بعض القواسم المشتركة في النظرة إلى الدور التخريبي للنظام السوري في لبنان. كما أن بناء هذه العلاقات تحتاج إلى "ريشة رسام ماهر" كما ورد في أحد أحاديث الرفيق القائد صدام حسين، وذلك كي لا تنعكس نتائجها سلباً على قواعدنا وجماهيرنا وعلى تطلعاتنا وأهدافنا الوطنية والقومية. ومما يعزز من ضرورة الانتبـاه الشديد وأخذ الحذر في صياغة هكذا علاقاته أن تلبه الفعاليات "الشرقية" ليست معادية للنظام السوري على طول الخط وان احتمالات التقائها أو تفاهمها معه، بحكم معطيات سياسية معينة قد تستجد، تبقى من الأمور الواردة في أي لحظة، الأمر الذي قد يلحق اكبر الضرر بالحزب ومن مختلف الجوانب، هذا من جهة، أما من جهة أخرى فان المعارك والمناوشات العسكرية التي تحصل عادة بين المنطقتين "الشرقية" و "لغربية"، وعلى الرغم من الأدلة الواضحة التي تؤكد دعم، بل مشاركة السوريين في هذه المعارك والمناوشات، سرعان ما تتحول، بفعل السياسة الخبيثة للنظام السوري، ولاعتبارات إقليمية ودولية مرتبطة بالحاجة إلى استمرار الوجود العسكري السوري في لبنان، إلى معارك ومناوشات بين قوى لبنانية- لبنانية، الأمر الذي قد يخدع الفئات الشعبية الكادحة ويجعلها بالتالي غير راضية عن العلاقات الثنائية التي يفتحها مع بعض الأطراف "الشرقية".
إن هذا الكلام عن تعقيدات الوجود العسكري السوري في لبنان لا يعني على الإطلاق عدم استنباط الأشكال المناسبة للنضال، بما في ذلك الشكل العسكري، من أجل إخراج القوات السورية، ولكنه يؤكد على حقيقة غياب العوامل والشروط اللازمة لقيام تحالف جبهوي - سياسي على هذا الصعيد، في المرحلة الراهنة.
بالنسبة للنقطة الثالثة، المتعلقة بدعم الثورة الفلسطينية، فإنني لا أرى، موضوعياً، على الساحة اللبنانية أحداً غير حزبنا يمكن أن يقدم على خطوة التحالف مع هذه الثورة، وذلك استناداً إلى الواقع السياسي الحالي، واقع التناقض السوري- الفلسطيني (الشرعي)، هذا التناقض الذي دفع بغالبية أطراف "الحركة الوطنية" إلى استعداء الثورة الفلسطينية وممثلها الشرعي الوحيد، منظمه التحرير الفلسطينية، إلى رهن مواقفها من القضية الفلسطينية ومن تحركات منظمة التحرير لحساب النظام السوري ورؤيته، التي لا تتعدى، إطار المزايدات الكلامية، لمسألة الصراع العربي الصهيوني، إنطلاقاً من ذلك، تنتفي شروط قيام جبهة وطنية- سياسية لدعم الثورة الفلسطينية كونها لا تتعدى طرفين اثنين، بالإضافة إلى اشكالات معينة، قد يجد الحزب نفسه مجبراً على تجاوزها في علاقته مع الثورة الفلسطينية لاعتبارات مبدئية، وهو ما سوف يتم التطرق إليه في تفنيد الملاحظة الثانية.
بالنسبة للنقطة الرابعة، المتعلقة بالمسألة الاجتماعية- المعيشية للجماهير، فانها لا تشكل، لوحدها فقط، مبرراً كافياً أو عنواناً لقيام تحالف سياسي- جبهوي، فكيف يكون، في هذه الحالة، مصير التحالف المنشود مع غياب المبررات، العناوين الأخرى التي، تم تناولها في النقاط الثلاث السابقة؟ ناهيك عن وجود تجربة بناءة في هذا المجال، ويجدر تعزيزها وتطويرها، إلا وهي تجربة "المؤتمر النقابي الوطني" الذي استطاع حتى الآن عقد ثلاث دورات نقابية وطنية، وتمكن من تحقيق بعض الإنجازات المطلبية والاجتماعية، على الرغم من الظروف السياسية والأمنية الصعبة التي مرت وتمر بها البلاد، والتي كانت ولا زالت تعيق نضاله الوطني،- الاجتماعي.
بالنسبة للنقطة الخامسة، أي إسقاط النظام اللبناني واستلام السلطة!. فانها، وبكل تأكيد، لم تكن واردة في ذهن واضع المشروع الجبهوي- الوطني، ولم تشكل بالتالي حيثية من حيثيات هذا المشروع لسبب بسيط، وهو أن إسقاط نظام ما يفترض وجوده أصلاً، الأمر الذي لا ينطبق على الحالة اللبنانية بعد اكثر من 14 عاماً من الحرب.
مما تقدم يتضح غياب الشرط الأساسي من شروط قيام الجبهة- السياسية الوطنية المنشودة، أي غياب الهدف أو الغاية الرئيسية من وراء إنشائها، ليس على الصعيد النظري، وإنما على قاعدة معرفة الواقع الحي المتحرك، هذا الواقع الذي يشكل المنطلق في اتخاذ المواقف وصياغة القرارات.
(ب) بالنسبة للملاحظة الثانية، وهي تتعلق بمقولة الستراتيجية والتكتيك وتوظيف التصرف التكتيكي في خدمة الأهداف الستراتيجية، وانطلاقاً من اعتبار ان المشروع السياسي الوطني- الجبهوي المطروح يلحظ بصورة أكيدة التحالف الوطني اللبناني مع الثورة الفلسطينية، وبالعودة إلى ما تضمنته هذه الملاحظة من ضرورة مراعاة التوازن بين النظرة الواقعية والموضوعية للأمور وبين الأفكار والقضايا المبدئية في عقيدة الحزب، بين الخطوة المطلوبة في المكان والزمان وبين مقتضيات وشروط تحقيق هذه الخطوة... فإنني اعتقد، وفيما خص مسألة التحالف الوطني اللبناني مع الثورة الفلسطينية ، أن بعض الاشكالات الرئيسية سوف تعترض بناء العلاقة التحالفية الوطيدة هذه، ومن أجل توضيح هذا الرأي أسوق المثال التالي: من المعلوم أن الثورة الفلسطينية تعيش اليوم، وبعد قرارات المجلس الوطني الفلسطيني الأخير، مرحلة تحقيق دولة الاستقلال السياسي، وان الانتفاضة الشعبية الرائعة لجماهيرنا الفلسطينية الحربية في الأراضي المحتلة محكومة بسقف توكيد هذا الاستقلال وليس تحرير كامل التراب العربي في فلسطين، وأن أبو عمار، الذي أعلن اعترافه بدولة إسرائيل ضمن حدود قرار تقسيم فلسطين الصادر عن مجلس الأمن الدولي في عام 1949، لم يخف استعداده للذهاب إلى القدس، برحلة شبيهة برحله أنور السادات، إذا ما حصل على مباركة عربية جماعية لهذه الخطوة.. هذا في الجانب الفلسطيني، أما من جهتنا فاننا، وفي نفس الوقت الذي نعلن فيه احترامنا للقرار الوطني الفلسطيني المستقل وقبولنا بما تجده منظمة التحرير الفلسطينية مناسباً لقضيتها، لا نستطيع أن نتصور للحظة إقدام الحزب على الاعتراف بوجود دولة اسمها "إسرائيل" على شبر من الأرض العربية، هذا الأمر لم ولن يكون في صلب مبادئنا وأهدافنا القومية.
إن تحالفنا مع الثورة الفلسطينية، في ظل المرحلة السياسية الراهنة، ضمن إطار جبهوي، سوف يضطرنا، من منطلق الترجمة العملية لاصول ومبادئ العمل الجبهوي، ومن منطلق "اننا نقبل بما تقبل به منظمة التحرير الفلسطينية لنفسها ، إلى اتخاذ مواقف معينة لا تنسجم، بل وتتعارض مع طروحات الحزب الفكرية والسياسية، وفي هذه الحالة نتساءل كيف ستكون نظرة الجماهير العربية لنا؟ وبأي، منطق نبرر لأنفسنا ولجماهيرنا عملية التخلي (لا سمح الله) عن جوهر عقيدتنا وأولويات أهدافنا القومية وعن تصورنا للصراع العربي- الصهيوني الذي لن تكون نهايته الحتمية سوى بزوا ل الكيان الصهيوني المصطنع واستعادة كامل الأراضي العربية السليبة؟ وهل يصح تربية الجماهير العربية على الإقرار بحق "إسرائيل" في الوجود "إسرائيل" ككيان غريب زرعه الاستعمار في قلب وطننا العربي لخدمة أهداف ومصالحه وليس اليهود كأفراد إذا أدى ذلك الإقرار إلى قيام دولة فلسطين المستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة؟.
أنني اعتقد في هذا المجال أن مواقف الحزب القومية يجب أن تبقى، كما هي الآن، مبدئية ومتميزة، مع مشروعية أبدائه المرونة المطلوبة وإعطائه هامشاً من حرية الحركة، فلا يعارض الخطوات التي ترتأيها منظمة التحرير الفلسطينية مناسبة لخدمة القضية، ولكنه كذلك لا يؤيد أو يبارك أي عملية سياسية أو خطوة تنفيذية تؤدي للاعتراف بـ "إسرائيل" وتبعاً لذلك يصبح من الأجدى عدم "التورط" في عمل جبهوي مع منظمة التحرير الفلسطينية، والاكتفاء بصيغة العلاقات الثنائية والتعاون الذي لا يلزمنا، في المقابل بتقديم تنازلات قد نندم عـليها ساعة لا ينفع الندم.
(ج) بالنسبة للملاحظة الثالثة، المتعلقة بضرورة وجود الحزب القائد للجبهة السياسية- الوطنية وأهمية هذا الوجود في ضمان تفعيل نضال هذه الجبهة وتقويه العلائق الرفاقية والكفاحية بين أطرافها، فاننا نتساءل: من يمكن ان يكون، يا ترى، هذا الحزب على الساحة اللبنانية؟
في الماضي القريب، وتحديداً في مرحلة السبعينات وحتى أواسط العام 1982 (تجربة الحركة الوطنية)، وحسب تصور حزبنا، وكان تصوراً صائباً، جسد الحزب التقدمي الاشتراكي، بقيادة كمال جنبلاط، القيادة- الأساس في نضال الحركة الوطنية وفي تمكين هذه الصيغة التنظيمية المتقدمة من العمل السياسي الوطني المشترك من الديمومة والاستمرارية.
ومما كان يدفع حزبنا إلى التمسك بهذه الصيغة، تحت قيادة كمال جنبلاط، عدة اعتبارات من أبرزها ان الحزب التقدمي الاشتراكي كان يشكل، بالإضافة إلى حجمه ودوره السياسي والوطني، القاسم المشترك بين التيارين الأكثر قوة في صفوف الأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية المؤتلفة في إطار الحركة الوطنية عنيت التيارين: الأممي والقومي، وبكلمة أوضح الحزب الشيوعي اللبناني وحزبنا، حزب البحث العربي الاشتراكي.
أما اليوم، فان الحزب التقدمي الاشتراكي بقيادة وليد جنبلاط، وفي ظل مواقفه التي باتت معروفة من قضايا النضال الوطني والقومي، لا سيما مواقفه الأخيرة من القطر العراقي ومن الرفيق القائد صدام حسين التي وصلت إلى مستوى كيل السباب والشتائم، لم يعد صالحاً للعب هذا الدور القيادي على صعيد العمل السياسي- الحبهوي، بل لا أفترض وجوده، من حيث الأساس، في ظل استمرار، في هذه المواقف، طرفاً في إطار المشروع السياسي الجبهوي - الوطني المنشود...
هذا بالنسبة للحزب التقدمي الاشتراكي، أما بالنسبة للفصائل الوطنية والتقدمية الأخرى العاملة على الساحة اللبنانية، واستناداً إلى مأزقها السياسي والتنظيمي والجماهيري بسبب مصادرة المحتل "السوري" لحرياتها خياراتها الوطنية، فانني لا أعتقد بوجود من هو قادر، من بينها، على أداء هذا الدور.
انطلاقاً مما تقدم يتضح غياب شرط أساسي آخر من شروط قيام جبهة وطنية- سياسية، الأمر الذي يلغي بدوره أحد الأسباب المهمة لقيام هذه الجبهة في المرحلة الحالية.
(د) بالنسبة للملاحظة الرابعة، فقد أغفل المشروع السياسي- الجبهوي المطروح تناول مواضيع وقضايا سياسية أساسية ومركزية من جهة، واكتفى بالتطرق إلى بعض المواضيع والقضايا الأخرى ذات الأهمية القصوى تلميحاً يفي بإعطائها حقها من الدراسة والتوضيح من جهة أخرى.
لقد خلا هذا المشروع، على سبيل المثال لا الحصر، من المسائل الرئيسية التالية، التي يجب أن تشكل أسباباً لوحدة الموقف السياسي لاطراف الجبهة المنشودة.
1- الموقف من النظام السياسي السائد في لبنان، بصيغة دولة 1943 وهنا نتساءل: هل ترك واضع المشروع الجبهوي الباب مفتوحاً أمام الأطراف المحتلة للائتلاف الجبهوي كي تغوص في هذه المسالة وتخرج من جراء ذلك بالموقف المناسب؟، إذا كان قد فعل هذا الأمر، فقد أخطأ لاعتبار بسيط وهو: أنه في أسوأ الحالات ومهما كان موقفنا حيال صيغة 1943، ومهما كان هذا الموقف متعارضاً أم ومختلفاً مع نظرة ومواقف الأطراف الأخرى، فانه لا يعفينا من طرح تصوراتنا ورؤيتنا لهذه المسألة في مسودة المشروع المذكور، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فان هذه لباقي الأطراف كامل الحق في طرح تصوارتها الذاتية حول هذه المسألة أيضاً في مشاريعهم الجبهوية، ومن خلال عرض هذه التصورات على جدول أعمال اجتماعات اللجنة التحضيرية لولادة الجبهة الوطنية- السياسية ومناقشتها يمكن الاتفاق على موقف موحد وملزم لجميع الأطراف.
2- الموقف من مسألة الوفاق الوطني الداخلي، كمدخل وحيد لإنهاء حالة الحرب وحل الأزمة السياسية الداخلية وصولاً إلى تحقيق الأمن والاستقرار و إلى بناء الوحدة الوطنية على دعائم متينة،، في هذا الإطار لا يحوز الاكتفاء بطرح العموميات، الشعارات العريضة، بل يجب أن يتضمن مشروع الجبهة الصيغة الفضلى لإجراء هذا الوفاق، أي شروطه، وعوامل نجاحه.
3- الموقف من الشرعية اللبنانية، وفي هذا المجال يجب على أطراف الجبهة حسم مواقفها نهائياً من مسألة النظرة إلى الشرعية اللبنانية والعلاقة معها على أنها تشكل عامل توحيد ووحدة للبلد والراعي الطبيعي والأكثر أهلية لقيادة الحوار الداخلي والوفاق الوطني. والموقف من الشرعية يفترض التأكيد على دعم توجهاتها نحو بسط سلطتها وسيادتها على كامل الأراضي اللبنانية، واعتبار هذه السيادة حقاً حصرياً عليها دون سواها من القوى المسلحة، لبنانية كان أم غير لبنانية. وفي هذا السيادة فان تأكيد هذه الحقوق الطبيعية والوطنية للشرعية لا يعني، على الإطلاق، تكبيل خيارات الجبهة السياسية أو برنامجها النضالي المطلبي، وإنما على العكس من ذلك، سوف يبقى للجبهة حريتها في انتقاد أو معارضة سلوك سياسي معين مصادر عن الشرعية وفي طرح أوراقها السياسية البديلة وفي متابعة تحركاتها النضالية المطلبية... ولكن شريطة أن لا تؤدي هذه الأمور إلى زعزعه الاستقرار الوطني إلى إعاقة طرق الحل الوطني الديمقراطي للأزمة اللبنانية وإلى فتح ثغرة في الجدار يمكن أن تتسلل منها القوى المتضررة من إنهاء حالة الحرب فتعيد خلط الأوراق من جديد وتستمر دوامه معاناة الشعب والوطن.
4- الموقف من قضية الإصلاح السياسي ذلك أننا، وان كنا نعطي الأولوية في اهتماماتنا السياسية الوطنية والقومية لقضية تحرير لبنان واستعادة وحدته وبناء مؤسسات الشرعية، فاننا لا نستطيع أن نتجنب، في مشروع العمل الجبهوي – الوطني، مسألة الإصلاح السياسي وسبل تحقيقه.
هذا فيما بتعلق بخلو المشروع المطروح من بعض القضايا السياسية المركزية، لم ما بالنسبة للقضايا الأخرى، فلم يتناولها كما سبق ذكره، سوى بالإشارة والتلميح، في حين أن المطلوب هو التعمق في دراستها والتأكيد على ضرورتها نظراً لدورها الحيوي والهام في بناء المجتمع الجديد الأفضل والإنسان المبدع والخلاق، وفي هذا الإطار سوف اكتفي بالتحدث عن مسألة الديمقراطية في لبنان وفهمها، ليس بالكلام المجرد العام، كما جاء في مضمون المشروع الجبهوي الموضوع بين أيادينا، وإنما من خلال ارتباطها الجدلي بقضية حقوق الإنسان وبتطوير المجتمع من مختلف النواحي.
إن التطرق إلى مسألة الديمقراطية في لبنان يفترض حكماً التطرق إلى بعض مفاصلها الجوهرية التالية:
1- الحريات العامة وكيفية صيانتها وحمايتها قولاً وفعلاً، حيث لا يجوز التغني بما تضمنه الدستور اللبناني من حرية الرأي والمعتقد والكلام، الصحافة والنشر الخ...) بينما تتوقف هذه الحريات أو تنتهك في الميدان العملي عندما تصطدم بالواقع السياسي الطائفي في لبنان وبمصالح فئات متسلطة وحاكمة تنظر إلى الوطن على انه مزرعة تدر لها الأرباح، والى المواطنين على أنهم مجرد أجراء في هذه المزرعة، لا حقوق لهم سوى خدمة مصالحها الفئوية الضيقة.. كما أنه لا يجوز تحت عنوان حرية التملك أو التعاقد أو الاستثمار (خصوصاً فيما يتعلق بقوانين الايجار) صياغة مشاريع قوانين أو تنفيذ قوانين ذات صبغة طبقية تكون ويلاً وخراباً على مصالح وحياة الفئات الشعبية الكادحة.. وفي إطار الكلام عن الحريات الشخصية للمواطن، فانه لا معنى لهذه الحرمات إذا لم يكرسها القانون بوضوح ويحميها من قوى التخلف ومن قـوة التقاليد البالية و الموروثة، فحرية الزواج، على سبيل المثال، هي من المسائل التي يجب الإقرار بها وذلك بإقامة محاكم مدنية لزواج تعمل إلى جانب المحاكم الشرعية المختصة، أن توكيد القانون اللبناني على هذه الحرية أمر سوف يعطي نتائج إيجابية عظيمة على صعيد تمتين أواصر الوحدة والانصهار الوطنيين، ناهيك عن احترام المبادئ الأساسية لشرعة حقوق الإنسان.
2- ديمقراطية التعليم، وتتحقق هذه الديمقراطية من خلال توفير العوامل المساعدة على النهوض التعليمي والثقافي لأبناء الشعب، ومن أبرز تلك العوامل المطلوبة:
- الإقرار بإلزامية التعليم ومجانيته (في المرحلة الدراسية الابتدائية كخطوة أولى).
- تأمين الكتاب المدرسي الوطني للتلاميذ بسعر الكلفة.
- توحيد كتاب التربية المدنية وتعميم التدريبي بموجبه في مختلف المدارس الرسمية والمجانية والخاصة، وذلك من أجل تقوية اللحمة الوطنية بين أبناء البلد الواحد وزرع روح حب الوطن والتضحية في سبيله، في قلوب الناشئة، على قاعدة نبذ الطائفية والمذهبية والعشائرية.
- تعريب المناهج التربوية، بهدف الإفساح في المجال أمام العدد الأكبر من أبناء الشعب لاستيعاب هذه المناهج واستكمال دراساتهم وخلق حوافز البحث العلمي عندهم، ناهيك عن ارتباط هذه المسألة بتعزيز الروابط القومية بين اللبنانيين وأبناء أمتهم.
- تعزيز دور المدرسة الرسمية في التعليم، بناء ومختبرات وإدارة وهيئة تدريسية، وفي هذا الإطار يجب اعتماد سياسة تأهيل المعلم، عبر إخضاعه لدورات تدريبية مستمرة وإطلاعه على آخر التطورات في طرق التعليم ... بيد أن هذا التأهيل لن يعطي ثماره المرجوة ما لم يقترن بإنصاف المعلم من الناحية المادية، أي من ناحبة ضمان معيشته واستقراره الاجتماعي.
- إخضاع النشاط التربوي الخاص ومراقبة وزارة التربية الوطنية، وذلك كي لا يتحول إلى عبء على مسيرة التعليم الرسمي الوطني من جهة، وكي لا ينحرف عن الأهداف الوطنية والـقومية ا لمتوخاة من العملية التعليمية من جهة أخرى.
- توفير فرص عمل للخريجين.
3- ديمقراطية الحياة السياسية، وفي هذا الباب تبرز ضرورة الإقرار بحرية العمل السياسي في لبنان من خلال تشريع قانون عصري وديمقراطي للأحزاب يصون هذه الحرية وممارستها بالشكل الذي لا يتعارض مع قوانين النظام العام ولا يسيء إلى الوحدة الوطنية والتماسك الداخلي للمجموعات التي يتشكل منها الوطن.
ويدخل في باب ديمقراطية الحياة السياسية في لبنان أيضاً، ضرورة إقرار قانون جديد للانتخابات البرلمانية يرتكز على أساس النظرة الوطنية الواحدة لمجموع الشعب من مختلف الطوائف والمناطق، وينطلق من اعتبار لبنان دائرة انتخابية واحدة يصار فيه انتخاب المرشح إلى المجلس النيابي على أساس تمثيله لهذه الدائرة وليس تمثيله لسكان منطقة معينة أو طائفة ما، وبحيث يعرض المرشح في برنامجه الانتخابي مشاريع إنمائية وطنية تخدم في أغراضها جميع المواطنين وليس فئة محددة منهم ترتبط بالمرشح المذكور ارتباطات طائفية ومذهبية وعشائرية ومناطقية..
إن من أبرز فوائد اعتماد هكذا قانون انتخابي، تنمية النشاط السياسي في لبنان وفق مفاهيم عقلانية وديمقراطية ووفق نهج يسوده المنطلق والإقناع والحقيقة مما يساعد في أضعاف التأثيرات الطائفية والعشائرية على الحياة السياسية والحزبية.
أمر صحيح أن الوصول إلى هذا الطموح يتطلب سنوات عده من النضال، ولكن إدراج هذه المسألة في صلب البرنامج الجبهوي – الوطني المنشود يشكل الخطوة الأولى على طريق هذا النضال من جهة، ويزرع في عقول أطراف التحالف الجبهوي التفكير الوطني الجاد والحضور الدائم لهذا الهدف السامي في سلوكها من جهة ثانية، ويعود الجماهير على التفكير وفق هذا السياق من جهة ثالثة...
انطلاقاً مما تقدم يتبين، وبسبب خلوه من المواصفات والشروط الضرورية المطلوبة لقيام عمل جبهوي، أن المشروع السياسي، الجبهوي المطروح يصلح لأن يكون تحليلاً موضوعياً لمرحلة أو مقالاً سياسياً – وثائقياً أو بصورة أدق تقييماً لتجربة نضالية، وليس مشروعاً سياسياً جبهوياً قابلاً للحوار والمناقشة حول أمور وقضايا خلا من بعضها بالأساس وتعرض للبعض الآخر تلميحاً فقط.
(هـ) بالنسبة للملاحظة الخامسة والأخيرة، وهي الأهم، في نظري، لانهما تتعلق بماهية أطراف التحالف المنشود، أي بتسميه القوى السياسية-"الوطنية" المرشحة للانضمام إلى عضوية الجبهة المقترحة.
بادئ ذي بدء اعتقد أننا بحاجة إلى قراءة علمية وموضوعية لمفهوم "الوطنية"، في زمن اختلط فيه، كما يقولون، الحابل بالنابل وتعرضت الكثير من القيم والمفاهيم للتشويه، بحيث تحول من كان "وطنياً" قبل عدة سنوات، وربما على أشهر!. وبسبب مواقفه السياسية، إلى "لا وطني" حتى لا نقول خائناً !، والعكس بالعكس، وفي وقت راح فيه البعض يعطي تعاريف ومقايبس معينة للوطنية تلائم أوضاعه الشاذة وتبرر تطلعاته الفئوية.. هذا من جانب، ومن جانب آخر، واستناداً إلى الواقع السياسي الميداني، واقع وحقيقة الأحزاب والحركات السياسية "الوطنية" في لبنان، فان خروج المشروع المطروح بين أيدينا إلى النور سوف يؤدي إلى إسقاط العديد من أسماء هذه الأحزاب والحركات من حساباته وإلى إدخال أسماء جديدة فيه.
وكي لا نخرج من إطار الواقع اللبناني الراهن، فاننا نتساءل: من يقترح المشروع الجبهوي المذكور لعضويته من أطراف لبنانية وطنية؟ هل هي الأحزاب والقوى التي كانت تتشكل منها، في السابق، الحركة الوطنية؟ لا أظن ذلك الأسباب جوهرية لم تعد خافية علينا.
إذن من هي تلك الأطراف، إذا لم تكن الحزب التقدمي الاشتراكي الحزب الشيوعي اللبناني و الحزب السوري القومي الاجتماعي، وحزب العمل والأحزاب الناصرية؟
هل هي منظمة العمل الشيوعي، التي، وان تمتعت بحدود معينة من الاستقلالية عن هيمنة القرار السوري، إلا انها لن تغامر بعلاقة تحالفية مع حزب البعث العربي الاشتراكي في المرحلة الحالية؟
هل هي التنظيم الناصري في صيدا، بزعامة مصطفى سعد، الذي، وان كانت علاقاتنا به "معقولة" إلى حد ما نظراً للحالة السياسية القائمة، فانه لن يذهب بعيداً في "أغضاب" النظام السوري؟
أنني لا أرى، بناء على الواقع الميداني السياسي، إمكانية لقيام جبهة سياسية- وطنية، هذا إذا كان المشروع المطروح يفترض أطرافا تتشكل منها وموجودة على الساحة اللبنانية وليس في مكان آخر من هذا العالم! وبالتالي فان النتائج العملية لهذا المشروع ستكون مخيبة للأمال، بغض النظر عن الهواجس والتطلعات الوطنية الصادقة والكامنة وراء وضعه.
ومن التساؤلات الأخرى المطروحة في هذا المجال: لا بد من وجود قوى، لبنانية ستعمد إلى مواجهة ومعاداة التحالف السياسي- الوطني، هذا إذا لم يكن المشروع المذكور يفترض أعداء داخليين له، فم هم، يا ترى،أعداء هذا التحالف؟ هل هم قوى الإقطاع السياسي والطائفي؟ وبشخص من؟ هل هم بشخص كامل الأسعد وجوزف سكاف وريمون أده وصائب سلام؟
أم هم قوى اقتصادية- اجتماعيه متسلطة؟ وكذلك بشخص من؟.
هل هم حزب الكتائب والقوات اللبنانية أم هم حركة أمل وحزب الله وحزب جنبلاط؟ أم هم أولئك كلهم؟!
هو هم الدائرون في فلك النظام السوري وسياسته في لبنان؟ أم هم عملاء الكيان الصهيوني في الجنوب؟ أم هم الاثنين معاً؟. وفي هذه الحالة يجب تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية، فعملاء الكيان الصهيوني في لبنان لا يقتصرون على جماعة انطوان لحد في منطقة ما يسمى "الحزام الأمني" بل هم موجودون في كل مكان تقريباً، انهم موجودون في "المنطقة الشرقية"، سواء بصيغة علاقة مادية مع البعض، أم بصيغة الوقوع أسرى أكاذيب وأضاليل الصهيونية ودعاياتها المغرضة، أنهم موجودون أيضاً في مناطق الاحتلال السوري وداخل صفوف ما يسمى بالأحزاب اليسارية والحركات الإسلامية، ففي الجنوب هناك أكثر من مؤشر عليه وجود تيار "إسرائيلي" داخل حركة أمل، وفي منطقة الجبل لم تعد الزيارات المتواصلة لبعض الشخصيات "الإسرائيلية" (الشيخ أمين طريف...) من الأمور الخافية على أحد والمستظلة بحجة التواصل الدرزي اللبناني الإسرائيلي!
وفي، هذا الإطار يجدر الانتباه إلى العملاء الآخرين، الذين لا يقلون خطراً على قضايا الوطن والأمة ومستقبلها،عنيت أذناب النظام الفارسي الشعوبي والذين يشكلون قوة، لا بأس بها، لا سيما في صفوف الطائفة الإسلامية الشيعية، ويستمدون أسباب استمراريتهم من دعم حكام إيران اللامحدود لهم من جهة وسيطرة المفاهيم الدينية المتخلفة على عقولهم من جهة أخرى.
هذا ويدخل في باب العمالة الصهيونية وأعداء الأمة والوطن كذلك تلك المواقف والممارسات الصادرة عن بعض أدعياء القومية والتقدمية والتي تخدم، بشكل أو بآخر وبطريقة مباشرة أو غير مباشرة، المشاريع الاستعمارية والأهداف الصهيونية. وإلا كيف نفسر استعداء بعض القوى السياسية اللبنانية "التقدمية" للعراق ووقوفها إلى جانب إيران (المتحالفة مع "إسرائيل" والمستقوية بدعمها العسكري...) في حربها العدوانية عليه وعلى الأمة بأسرها؟!....
الحذر، كل الحذر، من الخلط بين رفع الشعارات ذات أفق قومي ووطني، بين شروط ومقتضيات ترجمة هده الشعارات.. والانتباه، كل الانتباه، من طرح مشاريع للعمل السياسي الوطني أو برامج النضار، الوطني مع المشترك بمعزل عن الظروف الموضوعية والذاتية الملائمة.
وفي الاستنتاج، وكما أن لكل مرحله من مراحل النضال الجماهيري، في تاريخ الأحزاب الثورية، أسلوباً أو صيغة من الممارسة تطابقها وتخدم غاياتها، فأنني على اقتناع بان واقع المرحلة السياسية الراهنة تحتم على نضال حزبنا الجماهيري في لبنان أن يركز على تمييز دوره السياسي، دون أن يغيب عن البال إمكانيات قيام بعض أوجه التنسيق والتعاون مع طرف أو أكثر من الأطراف اللبنانية، بغرض تحقيق مهمة محددة، وليس برنامج متكامل لجبهة سياسية وطنية – قومية. نأمل أن تنقشع الغمامة السوداء قريباً عن سماء لبنان كي يصبح تحقيق هذا الطموح قابلاً للتطبيق لما فيه مصلحة وطننا وشعبنا وأمتنا.
الرفيق أبو هيثم 22/3/1989
***
رد ثان على المشروع الجبهوي
تواصل طليعة لبنان الواحد نشر الردود التي وردت، إليها، من بعض الرفاق على المشروع الجبهوي الوطني القومي، آملة في الوقت نفسه بأن تتلقى أكثر ما يمكن من الملاحظات والمناقشات كمساهمة في إغناء المشروع شكلاً ومضموناً.
وفيما يلي تنشر مناقشة للرفيق عبدو:
تطرح الورقة المقدمة للنقاش تحت عنوان "في سبيل مشروع وطني سياسي جبهوي" مشروعاً جبهوياً على المستويين اللبناني الفلسطيني من جهة، وعلى مستوى الحركات والأحزاب العربية من جهة أخرى". ومرد هذا الطرح إلى التقدير الذي أعطته الورقة لعاملي النصر العراقي والانتفاضة الفلسطينية، هذا التقدير الذي ظهر في اكثر من مكان في الورقة ولا سيما صفحاتها الأخيرة. وتتميز هن ه الورقة بالنزعة التفاؤلية التي تنظر إلى المستقبل نظرة إيجابية من حيث إمكانية عوده العمل الوطني البعيد عن المذهبية والطائفية، والملتزم بمصالح الجماهير، وعروبة لبنان، إلى احتلال مركز الصدارة في المناطق المسماة وطنية.
وإذا كنا لا نعيب على الورقة تفاؤلها، لأنه يوجد فعلاً ما يشجع عليه، إلا ان ما يحتاج النقاش فيها هو ما يلي:
ا- تحدثت الورقة عن عناوين مشروع وطني، وهذه العناوين تندرج في سياقه الأفكار الوطنية التي لا تغني عن الاجتهاد في البحث عن خطوات المشروع الوطني العملية، إذ أن المشروع الوطني لا بد له من أن يأخذ عـلى عاتقه تحقيق خطوات عملية معنية، صغيرة كانت أم كبيرة، في سياق خطة متكاملة تتوافق فيها الأهداف الستراتيجية مع الخطوات التكتيكية. وإذا أردنا الحديث عن تحالف جديدة لا يكون لحديثنا معنى ما لم نحدد المشروع الوطني بخطواته المطلوب تنفيذها، لكي يأتي التحالف نضالياً وليس إعلامياً، يدور حول عناوين كبيرة وفضفاضه غالباً ما تكون غير ممكنة التحقق، كالعنوان المركزي الذي نراه في كل تحالف يعقد على الساحة "الوطنية والإسلامية"، وهو عنوان تحرير الجنوب اللبناني. فغالباً ما يقول المتحالفون أن كل الذين يجمعهم العداء للكيان الصهيوني عليهم أن يتحدوا معاً في جبهة واحدة، مع العلم أن جميع هؤلاء يعلمون بان تحرير الجنوب مرتبط بظروف إقليمية ودولية هي أكبر من قدراتهم السياسية وإمكانياتهم العسكرية.
وبالتـالي، فان طرح هكذا عنوان لا يصلح قاعدة لتحالف على الرغم من ضرورة طرحه كعنوان دائم لاستمرار التمسك بالجنوب، واستمرار الإيمان بالكفاح في مواجهة العدو الصهيوني.
كذلك الأمر فيما يتعلق بتحقيق "لبنان العربي الديمقراطي"، فهذا العنوان أيضاً فيه من السعة ما يجمع قوى من كل شكل ولون، ولكن هكذا عنوان لن يقيم أبداً تحالفاً حقيقياً ما بينها. ما هو التحالف الحقيقي إذن؟
إنه ذلك الذي يقوم على تحديد طبيعة المرحلة وتحديد التحدي الأهم الذي يواجهه الوطن في هذه المرحلة، وتحديد مصلحة الجماهير الحقيقية وبالتالي الالتزام بها من خلال الدعوة إلى خطوات عملية، تندرج من الأكثر إلحاحاً إلى الأقل إلحاحاً في سياق مشروع متكامل. وهذا التحديد هو الذي يقود إلى عملية فرز حقيقية في القوى بحيث تتضح المواقف وتتبلور التحالفات.
2- إن ما ذهبت إليه الورشة من تحديد للمفاهيم (الوطنية،القومية، العربية...) هو مهم بدون شك، ولكن العلة لا تكمن في ذلك، لأنه من الناحية الفعلية توجد على الساحة "الوطنية" مجموعة من القوى إلى المنسجمة في تحديدها لهذه المفاهيم، ولكنها مع ذلك غير قادرة على إقامة تحالف حقيقي فيما بينها، والسبب في ذلك هو أن التحالف الذي ينسجم مع التحديد الحقيقي لهذه المفاهيم بكل ما فيها من تناقض مع القوى المذهبية المتمثلة على الساحة "الوطنية" بأمل وحزب الله لبنانياً، وبالنظام السوري عربياً نقول أن هذا التحالف يقتضي الدخول في صراع يؤدي إلى خسائر لا بد من دفعها. فهل هناك من هو مستعد لدفع الثمن، كما دفعنا نحن في حزب البعث العربي الاشتراكي، لكي نتحالف معه؟
أنني في الحقيقة أشك في ذلك، لا سيما عندما يتبين لنا أن الخطوة الأولى في أي مشروع وطني فعال تكمن ليس فقط في مواجهة هذه القوى المذهبية التي تعمل على ساحتنا، وتستعمل جماهيرنا، بل أيضاً في مواجهة النظام السوري بكل بطشه وإرهابه الذي يصل حدود ارتكاب المجازر الجماعية.
3- في تقييم التجربة الماضية للحركة الوطنية أغفلت الورقة دورا أساسياً لقائد وطني هو كمال جنبلاط الذي باغتياله فقد العمل الوطني، دون شك، ركيزة أساسية من ركائزه، مما ساهم في توفر ما اسمته الورقة "العامل الذاتي" في مسألة الخضوع، وهو ذلك المتمثل في "الطموح الذاتي للقادة في الحركات السياسية، ومدى القدرة على التأثير في تلك الحركات "كما ورد في الصفحة (9). وإذا كان غياب كمالاً جنبلاط ليس نهاية الكون، إلا أننا لا نرى بين القيادات الموجودة على الساحة، وأبرزهم وليد جنبلاط. إلا من هم ممن "يغلبون العوامل المرحلية بسبب شيء من الانهزامية، وشيء من الانتهازية وشيء من الانتهازية، وشيء من الفئوية، وشيء من المصلحة الآنية الضيقة" (ص 13).
لا سيما عندما نعلم أن معظم هؤلاء القادة باتوا من أصحاب الرساميل الكبيرة، فاحترفوا الترف بدءا بالسفر وصولاً إلى المقامرة مع فهم غريب لشرا ء الأراضي، ولا سيما في منطقة البقاع. فهل هؤلاء ما زالوا يصلحون لقيادة العمل الوطني. وهذه مسألة جديرة بالاعتبار، لان مصالح هؤلاء المادية سوف تحدد مواقفهم في المستقبل كما تحددها الآن، في حين يبدو الأمل ضعيفاً في تغيير هذه القيادات عن طريق عمليات إصلاحية داخلية في الأحزاب المختلفة.
4- في مسألة تنظيم العلاقة مع المقاومة الفلسطينية، لا يبدو لي انه هناك مشكلة، ذلك أن الانتفاضة في الأراضي المحتلة جعلت من الساحة اللبنانية ساحة غير أساسية في النضال الفلسطيني، على عكس ما كان عليه الأمر سابقاً، وبالتالي باتت منظمة التحرير الفلسطينية تمتلك القدرة على إقامة تحالف مع الأحزاب الوطنية دون أن يكون في ذلك أي نوع من أنواع الهيمنة، وليس من غريب الصدف أن تكون صيدا في هذه الأيام، ساحة مفتوحة للعمل السياسي أمام الجميع.
5- إن النصر العراقي في حرب الخليج يمكن لمفاعيله أن توظف في صالح إقامة تحالف وطني جديد على الساحة اللبنانية، ولكن ذلك أن يكون إلا إذا استطاعت القوى في المنطقة الشرقية، المتحالفة مع العراق، دفع العامل السوري إلى الانكفاء. ولكن قبل ذلك على الحزب في لبنان أن يعمل على الاتصال بكل القوى التي يستطيع الاتصال بها، من أجل توضيح ظروف هذه العلاقة، والتأكيد على الموقف العراقي القائل بدعم كل الأطراف الساعية إلى تحقيق وحدة لبنان.
كما أننا نرى من المفيد في هذا المجال أن يؤكد الحزب بكل الوسائل المتاحة له على هذا الموقف، لان جماهيرنا متضايقة فعلاً من الوجود السوري وتريد الخلاص منه، ولكنها لا تستشيغ بسهولة العلاقة مع أطراف الشرقية، علاوة على أننا في مرحلة لاحقة سوف نجد أنفسنا بدون شك في مواجهة هذه القوى التي تتلقى الآن دعما كبيراً من العراق.
وفي النهاية أريد أن أقول أن مناقشة الرفيق "أبو هيثم" التي نشرت في العدد (63) من طليعة لبنان الواحد، تجعلني أتبنى الكثير مما ورد فيها، ولا سيما اقتراحه بالاستمرار في العلاقات الثنائية، إن مع الأطراف الداخلية أو مع المقاومة الفلسطينية، ولكن مع ذلك يجب أن تكون خطتنا جاهزة لاقامة تحالفات مستقبلية، ذلك يقتضي أعداد توجه نحو مشروع وطني يتجاوز العنوان الذي طرحته الورقة، إلى خطوات أكثر تحديداً، مع الآخذ بعين الاعتبار بالتجربة الغنية التي مر بها حزبنا، من أجل اختيار القوى التي يجب أن يتحالف معها الحزب مستقبلاً.
بمعنى آخر، نحن اليوم إذا أردنا إقامة تحالف ما، سوف تكون الخطوة الأولى فيه مواجهه السوريين وإتباعهم، وهذا معناه أننا لن نجد على الساحة "الوطنية" من نتحالف معه، أما إذا تعرض الوجود السوري لنكسة ما، وهذا ما يفترضه طرح الورقة، في هذا الوقت، فان علينا أن نواجه المرحلة القادمة بخطة جاهزة تنطلق من اعتبار أن جزبنا برصيده المعنوي الكبير الذي حصله من صموده في لبنان، وانتصاره في حرب الخليج. يجب أن يكون في الموقع الأساسي من أي تحالف سوف يقوم، حتى لو سقط من هذا التحالف أحزاب كبيرة، كالحزب التقدمي الاشتراكي مثلاً، الذي وصمته مواقف السنوات الأخيرة باللون المذهبي، إضافة إلى تذبذب قيادته ولا مبدئيتها في اتخاذ المواقف.
إن حزبنا بعمقه القومي يشكل، كما أثبتت الأحداث، صمام الأمان للعمل الوطني في لبنان، لأنه الحزب الوحيد الذي لم يفرط بالقضايا الوطنية من خلال نحرها على مذابح الطائفة والمذهب، فيما رفع الارتهان والانهزام الأحزاب الأخرى إلى تحوير، بل مسخ كل المفاهيم الوطنية، لدرجة جعلها تفتقد كل مصداقية جماهيرية، في حين أنها تدعي تمثيل هذه الجماهير. من هنا على الحزب أن يبادر وبأقصى سرعة إلى وضع ورقة تتناول تصورنا للصيغة المستقبلية للبنان، وبشكل خاص شكل السلطة الذي ندعو إليه، ونرى فيه خلاص البلد، لان الصراع على السلطة هو جوهر الصراع الحقيقي في الشق الداخلي من الأزمة اللبنانية وكل ما يتبع ذلك يندرج في إطار التفاصيل، التي لا أقول بأنها غير مهمة، ولكن ليس من الصعب التوافق حولها.
علينا أن نقول بوضوح: ما هو شكل السلطة الذي نسعى إليه والذي يحب ان يدور التفاوض حوله مع الطرف الآخر؟ في الحقيقة، أن موقفنا من هذه المسألة ليس فيه شيء من الوضوح، فيما لو قيس بموقفنا من رحيل القوات السورية مثلاً.
إن طرح هذه الورقة، والترويج لها إعلامياً، يجب أن يأتي كخطوة أولى وفي سياق خطة تعتمد مواجهة السوريين، بقدر إمكانياتنا، في الخطوة الثانية. واعتبار هاتين الخطوتين المدخل الحقيقي لأي تحالف جدي جديد يمكن أن نقيمه. وإذا كنت قد وضعت الخطوة السياسية قبل أي خطوة أخرى، فلاننا نحتاج، كما أرى، إلى أن نؤكد للجميع أننا طلاب قضية وطنية كبيرة وليس موقفنا الانتقام من الموقف السوري في حرب الخليج. كما يروج لذلك أعداء الحزب ولبنان.
ولكي تكون هاتان المقدمتان مدخلاً لتحالف جديد، لا بد من اتصالات تجري، بالشكل المناسب، بالأحزاب العلمانية أي تلك التي ليس لها تركيبة طائفية وطموحها اكبر من مستوى الطائفية. حتى إذا حصل الانكفاء السوري كان الحزب جاهزاً لتسلم زمام قيادة تحالف وطني حقيقي جديد يوظف كل رصيده المادي والمعنوي في دعمه من أجل الوصول إلى الأهداف الوطنية والقومية التي يتوخاها الحزب من الساحة اللبنانية.
***

كلام هادئ في مغالطات كبيرة
نشرت جريدة الديار، بتاريخ 6، 7، هـ 9- 1990 مقالتين: الأولى، تحت عنوان »الخديعة الكبرى... وتهالك اللانظام العربي الراهن« على حلقتين متتاليتين.
الثانية، تحت عنوان بين التزام أصيل بالقومية وضرورات توزيع عادل للأعباء.
المقالتان وقعهما الدكتور ممدوح البلتاجي، رئيس الهينة العامة للاستعلامات المصرية. محتويات المقالتين: يحدد الكاتب مراحل نمو النظام العربي أو مراحل تحولاته في ثلاث:
- الأولى: مرحلة التبعية للاستعمار.
- الثانية: مرحلة الصحوة القومية بقيادة ثورة 23 يوليو عن طريق الشارع العربي.
- الثالثة: وهي المرحلة الراهنة حيث يسود فيها حسب تعبير الكاتب نظام »اللانظام«.
أما المرحلة الثالثة، وهي التي تدور حولها مضامين المقالتين، فيضعها الكاتب تحت مجهر معالجاته: ضربت الثورة المصرية ونظام الصحوة القومية في العام 1967، حيث انتصر المشروع الأجنبي (الإسرائيلي- العربي)، فتحولت اهتمامات العرب، حتى الذين مثلوا إرادة الصمود، إلى موقف دفاعي منحسر جل اهتماماته إزالة ثار العدوان. انفرطت الجبهة العربية بسبب تقاعس الثروة النفطية، وتزايد ظاهرة الانكفاء الذاتي، وضربت كل محاولات التكامل الاقتصادي، ازدادت الخلافات العربية، دخلت القوة العظمى الأولى شريكاً مباشراً، في حسم التوازن الاستراتيجي لصالح إسرائيل..
قاد العراق في مؤتمر بغداد العام 1979 حركة الحصار والملاحقة والخنق والتجويع، ضد القاهرة، لاستلاب دورها القيادي، شاركها في ذلك دول الخليج الغنية، وقع العراق مباشرة في مستنقع حرب الثماني سنوات مع إيران، اتجه رأسمال دول الخليج نحو استنزاف نفسه بعيداً عن بناء القاعدة التنموية العربية، وانغمس في حلقة التآكل المنظم في بورصات وبنوك الغرب.
يخلص الكاتب إلى أن سمة اللانظام العامة جعلت مراكز المبادرة أو القرار الحقيقية للعالم العربي من خارجه!.
إلى هنا ينتهي التشخيص العام ويبتدئ الكاتب في تحليل وتعليل السمات الخاصة لدور العراق في أزمة الخليج، وتجدر الإشارة إلى أن العام استهلك 30% من المقالتين و 80% منهما لدور العراق المخادع (حسب تعبيره)، ليخلص بنتائج أن هناك واجبات تجاه مصر لسبب أعبائها في هذه المرحلة، على العرب أن يؤدوها كاملة.
ولضرورة المحافظة على منهجية واضحة للرد على الدكتور البلتاجي، وجدنا من المناسب أن نعرض مواقفه التي حددها حول العديد من الموضوعات المتشابكة في مقالتين، وهذه الموضوعات هي التالية:
النظام المصري- أمريكا وحلفائها- إسرائيل وحلفائها- دول النفط العربية – العراق.
بداية، وللأمانة الموضوعية نعتقد أن الكاتب قد حدد مراحل التحول في النظام العربي تحديدا دقيقاً، لكننا نسجل عليه أن ما يؤثر في التحولات ليست الأنظمة فحسب، وإنما لا ننسى الدور المؤثر للاتجاهات الفكرية والسياسية التي تنغرس في أذهان الجماهير بقيادة الحركات الشعبية المنظمة المسلحة بمناهج فكرية وسياسية ثوريه، من هنا نجد في مقالتيه تغليب عواطفه تجاه الأنظمة وليس تجاه لجماهير.
ما هو موقع الكاتب وموقفه من النظام المصري الراهن؟ ان لم يكن دورنا أن نحدد العوامل النفسية الذاتية المؤثرة في صياغة الاتجاهات لكننا نرى أنفسنا مضطرين إلى الاعتقاد بأن موقع الدكتور البلتاجي على رأس مؤسسة رسميه تابعة للنظام المصري، ولن يصل إلى هذا لموقع إلا من مارس هذا العمل عشرات السنين، يكون خلالهما قد تأقلم نفسياً واكتسب سمة التأثر بكل ما هو تابع للنظام الذي يخدمه.
لذلك نرى أن كل ما جاء لسانه وفيما يختص بالنظام المصري يأتي في خانة الدفاع عن هذا النظام سواء كان ظالماً أو مظلوما، في مواقفه أم مصيب، وهذا ما يسم دفاعه بالعصبوية "النظامية" ويشكل سبباً لوقوعه في تناقضات متعددة.
إن الدكتور البلتاجي، أظهر إعجابه وبقيت أحكامه الإيجابية ثابتة لصالح النظام المصري، رغم أنه قد شهد تحولات جذريه بين مرحلتين: مرحلة الصحوة التي مثلتها ثورة 33 يوليو المجيدة، ومرحلة ما أطلق عليهما الكاتب نفسه مرحلة الموقف الدفاعي المنحسر تسعى فيه دول المواجهة مع إسرائيل إلى إزالة آثار العدوان حتى لو كان عنا طريق المفاوضات السلمية مع العدو الإسرائيلي. المرحلة الأولى مثلهما الرئيس الراحل جمال عبد الناصر واتسمت بشعار "ما اخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة"، أما المرحلة الثانية فمثله أنور السادات واتسمت بشعاره، ان التناقضات مع العدو الصهيوني هي تناقضات نفسية، وما زالت هذه المرحلة مستمرة بقيادة الرئيس حسني مبارك.
انطلاقاً من هذا التناقض، لا ندري كيف استطاع دكتور البلتاجي ان يقتنع بالتوفيق بينهما حيث وصف الأولى بأنها "كسرت، إلى حين ونسبياً، نظام التبعية" ورغم نسبية الكسر فإنها قد حققت مـا نصبو إليه من امتلاك للإرادة والقرار العربي الحر.
باعتراف الدكتور البلتاجي، أن كسر نظام التبعية هو طموح هام من طموحاتنا القومية، فهل جاءت المرحلة. الثانية لتناضل من أجل الكسر المطلق للتبعية؟
في تقديرنا جاءت المرحلة الثانية، لا بنية تطوير المكاسب النسبية التي حققتها المرحلة الأولى للنظام العربي في مصر، وإنما، لتعيد الأمة العربية إلى مرحلة نظام التبعية، ولتي كانت واضحة في شعار أنور السادات المشهور، "99 % من أوراق الحل هي بيد أميركا". وبتلك الرئيس حسني مبارك الطريق ذاته حسب منطق الشعار السالف ذكره، فعهد الرئيس مبارك هو امتداد لمرحلة الساداتية.
بالرغم من موقفه اللامقتنع من مرحلة "الموقف الدفاعي المنحسر" يبرز حماس الدكتور البلتاجي إلى جانب كافة المواقف التي اتخذتها أو تتخذها قيادة هذه المرحلة، وللتأكيد على صحة ما نقول تقتطع بعض العبارات الدالة على حكمنا.
1- مصر الوفية (الكاتب يقصد النظام، ونحن مقتنعون بوفاء الشعب المصري) حينما فشلت في رأب الصدع العربي في قمة القاهرة (آب 1990) "انحازت مصر- وبحسم واجب- إلى الشرعية.. شرعية مواثيق العرب... وشرعية العلاقات الدولية المعاصرة".
وبدورنا نسأل: هل يتم رأب الصدع العربي بإرسال قوات مصرية لتقف إلى جانب قوات حلف الأطلسي حامية إسرائيل؟ فإذا كانت المسألة نفسية، كما على عهد السادات، من هنا يبدأ الانزلاق الخطر ومن هنا يتأكد إصرار الرئيس حسني مبارك على متابعة خطى ا لسادات.
ما هي شرعية العلاقات الدولية؟ أين هذه الشرعية التي لم تستطع تطبيق قرارات مجلس الأمن التي تدين العدو الصهيوني؟ نحن إذا كنا لن ندافع عن الذين يخرقون هذه الشرعية أو الذين يتمردون عليها، إنما يحق لنا أن نؤشر بإصبع الاتهام إلى من ينظرون إلى هذه الشرعية بعين واحدة.
3- ورد عنده فيما يختص بموقف مصر من الحرب العراقية الإيرانية العبارة التالية: "استنفار النخوة القومية المصرية.. " هل يعني الكاتب ما يقول، أم أنها زلة لسان؟
لا نظن أنها زلة لسان فالمسألة القومية عنده متلازمة مع مفهومه للقومية المصرية، فهل هناك ما يتعارض بين تعبيره وبين المفهوم العامي المصري حينما يعبر عن نفسه بأن، "مصر أم الدنيا"؟
لن ننزلق إلى التسطيح في تفسير التعبير السابق ذكره والترابط بين التعبيرين: "القومية المصرية" و"مصر أم الدنيا"، وإنما نعود إلى ما ذكره الكاتب في مقالته الثانية عن المسألة القومية حينما يعبر أن "هوية مصر العربية وانتمائها القومي حقيقة موضوعية استراتيجية وليست أداة سياسية تكتيكية... تلك قضية محسومة منعقد عليها إجماع مصري وسع رغم بعض الخلاف أو بعض الجدل حولها...".
في مقالته الثانية وحسب تعريفه للقضية القومية والخلاف الواقع حولها ي مصر، يدل بشكل واضح ومن خلال عدم قدرته على التمييز بين لقومية المصرية والعربية، أن الكاتب هو من المناصرين لبعض لمصريين الذين يجادلون، في هوية صر العربية حساب صر لمصرية.
ان توضيحنا لهذا الجانب له أهمية أساسية في تفسير المواقف الخاطئة التي أتخذها الكاتب أثناء معالجته لأكثر من قضية في مقالتين اثنتين.
3- بعد حرب تشرين في العام 1973 وحينما أدركت مصر بحدسها السياسي الدقيق (حسب تعبيره) مخاطر إبقاء حالة اللاسلم واللاحرب بعد أكتوبر وحررت أراضيها بالتفاوض والسلام،... يتابع الكاتب بما معناه: واصل النظام المصري سعيه لحسر احتلال الإسرائيلي عن بقية الأراضي العربية المحتلة وإقرار الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني في إطار سلام عادل وشامل مستقر.
ونتيجة لهذه السياسة الحدسية برزت مصر، يتابع الكاتب، من عقد كامل مضى، كدولة صانعة للاستقرار والسلام الإقليميين يحترم المواثيق والعهود.
لست أدرى لماذا يسعى الدكتور البلتاجي إلى استخدام مفردات غامضة في تحليله وتعليله، هذه المفردات تساعده على الهروب من النظر إلى، لحقيقة بجرأة، مثل استخدامه الحدس السياسي الدقيق الذي تتميز به مصر. الحدس الذي يكشف المخاطر...
لنا ملاحظتان في هذا السياق:
الأولى: لماذا يخلط باستعماله تعبير مصر، بين النظام وبين الشعب، وبين الاستراتيجية الفكرية لكل منهما وكذلك الاستراتيجية السياسية. فهل ما يقصده ان لا فرق بين الاتجاهات السياسية وبين الحدس السياسي؟ هل هو حدث النظام، أم حدس الجماهير، أم حدس القوى المصرية المعارضة للنظام؟
بدورنا، لا نشك أن الدكتور البلتاجي يحسب أن النظام المصري هو كل مصر.
هل أصبح الحدس بديلاً للاتجاهات العلمية؟ وهل يتميز النظام المصري بحالة إلهامية قدسية لا يأتيها خطأ من أمامها أو ورائها؟
هل النظام المصري، الذي يقصده الدكتور البلتاجي، هو حالة منفصلة عن البشر، أم أن تكوينه والممثلين له من البشر؟ فإذا كانوا بشراً، لن نظن بالحالة الحدسية إلا حالة عابرة تعبر عن موقف أنساني سريع.
تقديرنا أن تعبير الحدس السياسي الدقيق الذي يحدد اتجاهات قرار بمثل الخطورة التي يتميز بها الصراع العربي- الصهيوني، ليس إلا مباركة من الدكتور البلتاجي لاتفاقيات كامب- ديفيد.
ولان أسلوب المفردات الغامضة هو الذي يطغى على التحليل في المقالتين، فهو لم يستخدمه في هروبه من تحديد موقعه في النظام المصري واتجاهاته فحسب، وإنما لجأ إلى استخدام هذه المفردات الغامضة كلما أضطر أن يتكلم عن أميركا، عرابة اتفاقيات كامب- ديفيد. وإلى أن نصل إلى تحديد هذه المفردات الخاصة بأميركا "لا بد هن تحديد موقع الدكتور البلتاجي في حماية نظام كامب- ديفيد المصري، وكيف يحاول أن يستغفل عقول القراء لتمرير قناعاته تلك بأسلوب المفردات الغامضة".
يحاول الدكتور البلتاجي أن يعبر عن معارضته لنظام الصحوة التي تمثلها ثورة 23 يوليو من جهة، وأن يدافع بحرارة غن نظام كامب- ديفيد. فكيف يحصل ذلك؟ إليك تعبيراته التالية بالنص الحرفي:
- "ثانيها نظام الصحوة أو التحرر الوطني والصعود القومي حيث قادت الثورة المصرية النظام العربي عن طريق الشارع العربي وبدلت الخريطة السياسية لهذا العالم وكسرت، إلى حين نسبياً، نظام التبعية... ".
- "هوية مصر العربية وانتمائها القومي حقيقة موضوعية استراتيجية وليست أداة سياسية تكتيكية... تلك قضية محسومة منعقد عليها إجماع مصري واسع رغم بعض الخلاف أو بعض الجدل حولها... وهو جدل لا بأس به، إذا ما أريد للعقل المصري أن يتحرر بالديموقراطية وأن تثرى بالرؤى المتباينة روافد الفكر والقمل الوطني والقومي في بلادنا... ".
فهل الديموقراطية في شيء أن يتنكر أحدنا لأمه وأبيه؟
- "... وبعدها ارتأت مصر- وعن حق- تحرير أراضيها المحتلة عن طريق المفاوضات السلمية... ".
-"وهي ما تخلت عن أرض عربية أو سيادة عربية أو حق عربي حينما أدركت بحدسها السياسي الدقيق مخاطر إبقاء حالة اللاسلم واللاحرب بعد أكتوبر وحررت أراضيها بالتفاوض والسلام ".
- "وبعد تحرير التراب الوطني المصري اثر توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل...".
- "ومنذ عقد كامل مضى برزت بقوة كدولة صانعة للاستقرار" والسلام الإقليميين تحترم المواثيق والعهود... ".
من العودة إلى كافة هذه التعبيرات وغيرها في مقالتي الدكتور البلتاجي، يبرز بوضوح موقفه الخجول بالنسبة لمرحلة الصحوة القومية، في الوقت الذي يدافع فيه بحرارة عن مرحلة كامب - ديفيد.
- كيف يحدد موقفه من أميركا؟
إن أميركا هي صانعة كامب ديفيد، ومن يدافع عن كامب ديفيد عليه أن يدافع عن صانعه، لكن الدفاع عن أميركا لا يتناسب مطلقاً مع الإخلاص للقومية العربية الذي يبدي الدكتور البلتاحي حرصه عليه، وبالرغم من ذلك فهو يدافع فكيف؟. "
فإلى القارئ ما توصلنا إليه، بملاحقتنا للمفردات التي استخدمها الدكتور البلتاجي كلما اجبر على الكلام عن الدور الأميركي في الشرق ا لا وسط:
4- في هذه الفقرة نقتطف كافة المفردات التي تتعلق بالكلام عن أميركا:
- "مند أن ضربت الثورة المصرية، ومعها الصمود القومي، بالعنف المسلح عام 00067 انتصر المشروع الأجنبي- الإسرائيلي- ا لغربي... ".
-... ودخلت القوة العظمى الأولى شريكاً مباشراً في حسم التوازن الإستراتيجي لصالح إسرائيل".
- "... ناهيك عن التآكل المنظم لهذه الأموال في بورصات وبنوك الغرب التي تديرها جماعات معروفة بولاءاتها الحقيقية لدى العالم أجمعين.
- "... والإخلال بالحد الأقصى المتفق على ضخه في منظمة الدول المصدرة للبترول يبدو بدوره لدى الدول المتضررة كما لو أنه يأتي تنفيذاً لتوجيهات القوة الأجنبية المستهلكة للبترول... ".
- بعد إعدام الجاسوس البريطاني بازوفت وقعت القوى الوطنية والقومية في فخاخ العراق لاعتبارات، لعل أهمها تلك الحملة الشرسة والمدبرة التي قادتها إسرائيل والأوساط الموالية لها ضد العراق... ".
- عندما رفضت إسرائيل كافة مبادرات السلام يؤازرها عوامل عدة ومنها "... تباطؤ- ان لم يكن انصراف- أميركي عن دفع عجلة السلام...".
- بعد دخول العراق إلى الكويت، "ارتفعت طبول الحرب وبدأت القوات الأجنبية تندفع إلى المنطقة... وبدا الغرب بقيادة أميركا لدى قطاعات الشارع العربي القومي كما لو كان يكيل بالفعل بمكيالين... ".
بالعودة إلى هذه التعبيرات نرى ما يلي:
أ- يخشى الدكتور البلتاجي ان يذكر أميركا بالاسم فهو يستعمل مفردات يتلطى وراءها ليمنع إلا راج عنه في تسمية الأشياء بأسمائها ولهذا فهو عندما يريد ان يسمى أميركا يستعمل المفردات التالية: (الأجنبي- الإسرائيلي- الغربي)- (ا لقوة ا لعظمى ا لا ولى) (بورصات وبنوك الغرب)- (جماعات معروفة بولاءاتها الحقيقية)- (القوى الأجنبية المستهلكة للبترول)- (إسرائيل والأوساط الموالية لها) (القوات الأجنبية).
ب- عندما يضطر إلى تحديد الموقف الأميركي من قضايا إلى شرق الأوسط فهو يستعمل مفردات يراد بها تخفيف المسؤولية عن أميركا، وكأن الدكتور البلتاجي يريد أن يوحي بأن 99% من الأوراق الإيجابية، و1% من الأوراق السلبية فقط هو بيدها. لذلك يستعمل مفردات مثل "تباطؤ أميركي" وكنا نتمنى أن يكون هناك خطأ مطبعي في وضع كلمة "تباطؤ" بدل كلمة "تواطؤ" التي هي اصح. ولكن الظن خاب عندما وجدنا انه يستعمل المنطق الدفاعي التخفيفي عن الدور الأميركي في تدخله على أرض الخليج العربي عندها اخذ يوحي بأن الجماهير العربية غير محقة بحكمها على أن أميركا تكيل الشرعية الدولية فعلاً بمكيالين، عندما استعمل المفردات التالية: "بدا... كما لو كان... ". وليس أمامنا إلا أن نحكم ضمير الدكتور البلتاجي، هل أميركا تكيل بمكيالين أم لا؟
من خلال مواقف الدكتور البلتاجي المؤيدة لنظام كامب ديفيد أولاً، وعواطفه الإيجابية تجاه الإمبريالية الأميركية ثانياً، ولموقعه الفكري الميني- قومي ثالثاً، فستطيع متابعة النقاش معه حول المسائل الأخرى التي حدد مواقفه السلبية تجاهها، واضعاً في مركز الدائرة القطر العراقي كأساس لنقده، مستعيناً في نقده بالعوامل الأخرى. وهذه المسائل، تحديداً، هي التالية:
1- العراق ومسألتي: الحرب العراقية- الإيرانية من جهة، واستعادة الكويت من جهة ثانية.
3- القوى الوطنية والقومية، والجماهير العربية، المخدوعة بالمطالب ا لعراقية.
3- دول الخليج التي تتحمل مسؤولية في انكسار نظام الصحوة ا لقومية.
لقد راعينا في ترتيب القوى التي نقدها الدكتور البلتاجي، الأولوية في قائمة اهتماماته، حيث شكل العراق المركز الأساس في هذه الدائرة بالرغم من ذلك فإننا نرى أن نبدأ بالهرم من قاعدته في الرد، على! الشكل التالي:
1- دول الخليج.
3- القوى الوطنية والقومية.
3- ا لعراق.
أولاً: دول الخليج:
مثلت دول الخليج، في نظر الدكتور البلتاجي، الحلقة الوسيطة التي تعبث تخريبا في إطارين:
- قومي: التقصير لمحي دعم المعركة ضد العدو الصهيوني.
- طبقي: التقطير على أبناء الوطن العربي.
في هذين الإطارين، يتابع البلتاجي، كان الدور التخريبي لأنظمة الخليج يترجم نفسه، بشكل مباشر أو غير مباشر، في خدمة بورصات الغرب من جهة وفي التواطؤ مع العراق في مؤتمر بغداد في العام 1979 ضد مصر من جهة أخرى، وإغراق السوق النفطية لمنع ارتفاع أسعار البترول في سياق سياسة خسارة بصالح شعوب ودول عربية من جهة ثالثة.
إلى هنا، وحسب أننا عبرنا بوضوح وإيجاز عن وجهة نظر الدكتور البلتاجي بالنسبة لدول الخليج.
" نحن نتفق مع الدكتور البلتاجي حول الدور التخريبي الذي تمارسه أنظمة دول الخليج على المستويين القومي والطبقي، لكي نكون أوضح فإننا نرى أنفسنا ملزمين بالإشارة إلى بعض جوانب عقيدتنا الفكرية والسياسية حول المسألة القومية:
1- إن الإيمان بالقضية القومية فكريا، لا يستقيم بدون العمل للوحدة السياسية بين الأقطار العربية، والوصول إليها يتخذ الشكلين الفكري والسياسي، وتبدأ أساساً في تجنيد الجماهير العربية للارتقاء بوعينا السياسي والنضالي، لأنها تمثل القاعدة الرئيسية لوحدة راسخة. هذه الوحدة يقف قي طريقها عوائق أهمها:
- الإمبريالية الأميركية والبريطانية بشكل رئيسي، وربيبتها إسرائيل، الكيان المصطنع على أرضنا العربية الفلسطينية.
- الكيانات القطرية المحكومة بأنظمة لا تتبنى النظرية القومية بشكلها العميق الواعي العلمي، هي أنظمة متعددة الألوان والمشارب والعلائق الخارجية.
- الرجعية العربية، التي أصبحت اليوم تتمثل بدول الخليج الثرية، والتي تحمي نفسها بسياج واه من الشعارات الإسلامية.
2- إن الوحدة العربية، تقوم أساساً على وحد ة المصير القومي، ولا يمكن ان تشكل مطلباً ملحاً للجماهير العربية إذا لم تكن ذات، مضامين اجتماعية- اقتصادية. وهو ما يعبر عنه بمبدأ الاشتراكية.
استناداً إلى مبدأي الوحدة والاشتراكية نرى أن موقع أنظمة الدول الخليجية يقع في الطرف النقيض للحركة القومية العربية الوحدوية الاشتراكية في اكثر من وجه، أهمها أن هذه الأنظمة ضالعة بالتبعية للإمبريالية وأنها تعيش في رفاهية وبذخ بما لا يمكن تصوره. فرؤيتنا لواقع هذه الأنظمة يحكمها نظرية التغيير الثوري الجذري وليست نظرية التوفيق الإصلاحية، فكيف نتعارض مع الدكتور البلتاجي في هذه الرؤية؟
- امتناع دول الخليج عن الدعم الواجب تقديمه إلى دول المواجهة، ليست دوافعه الرغبة في التقتير أو التقطير، كما يراه إلى"ة الدكتور البلتاجي، وإنما دوافعه الحقيقية تتمثل في الضغط الذي تمارسه الإمبريالية (ونقول لها بالفم الملآن بدون خجل أو تعمية) على الأنظمة البترولية لاتباع هذه السياسية التي هي إحدى الوسائل، التي تتبعها الإمبريالية في حماية الكيان الصهيوني، تلك الوسائل التي تستند إلى منع الترسانة العربية من أن تحقق توازناً مع إمكانيات العـدو.
- كنا نتمنى أن يكون الدكتور البلتاجي جريئاً بأحكام عندما يتناول الجانب الخاص بإغراق السوق النفطية العالمية بفائض من الإنتاج غير المبرر لدول الخليج وعلى رأسها أمراء دولة الكوبت، الذين ما ارتضوا هذه السياسة الإغراقية بدون ضغوط أميركية واضحة ليس للإضرار بالشعب العربي فحسب وإنما بشكل أساسي لمنع العراق من متابعة إنتاجه للسلاح الاستراتيجى، وهذه مسألة لها علاقة في لقمة العيش ليس فحسب، وإنما لها علاقة باستعادة الكرامة العربية من خلال امتلاكنا لوسائل القوة الرادعة لأي عدوان وأهمها العدوان الإسرائيلي والهيمنة العسكرية الأميركية.
- أما بالنسبة للثروات الطائلة لبعض العائلات والمليارات الضخمة، والإسراف المخيف على الملذات الترفيهية، حسب مفردات الدكتور البلتاجي من خلالها نرى أن الفرق الشاسع بين غنى خليجي وفقير عربي لا تحل بوسائل الكرم وما تريد النفس أن تبذله من صدقات، وإنما هو حق من حقوق كل العرب، لان الثروة هي ثروة عربية وليست خليجية فحسب، وإنما الحل يكون في بناء نظام اشتراكي قومي، تتكامل فيه طاقات الأمة وثرواتها على قاعدة بناء القاعدة الصناعية- الزراعية- ا لدفاعية- ا لتكنولوجية المتطورة.
- بالتالي ننظر إلى دول الخليج العربي نظرة الشريك الواحد لثروات الأمة، من حيث استخدام هذه الثروات سلاحا يعين الأمة العربية على بناء علاقات متكافئة ميع كافة دول العالم من جهة وبناء اقتصاد عربي تفيد منه كافة الأقطار العربية بجماهيرها العريضة من جهة أخرى.
هذا البناء يتم على قاعدة تأمين حد التساوي بالغنى وليس التساوي بالفقر، وهذه الثروات هي حق من حقوق الأمة العربية وواجب ملزم من واجدات هذه الأنظمة تجاه هذه الأمة.
ان نظام التبعية، الذي تكلم عنه الدكتور البلتاجي، ما زال سائداً بشكل خاص على أنظمة الخليج العربي، هذا النظام الذي تسعى الإمبريالية الأميركية للمحافظة عليه، والدفاع عنه بكافة الوسائل، وهي تقف بشراسة توازى أهمية وجوده وفائدته لها. وان ما حصل من تدخل سريع من قبل التحالف الأنكلو- أميركي في السعودية تحت ستار المحافظة على شرعية الأنظمة القائمة، هو أبلغ دليل على التواطؤ الأميركي وعلى أهمية هذه الشرعيات القائمة في المحافظة على مصالح الإمبريالية، السبب الذي يفسر لنا سيادة منطق التقتير والتقطير، والبذخ الفاحش في مقابل الفقر.
من هنا علينا أن نحدد موقفنا من مفهوم التضامن الذي يبكيه الدكتور البلتاجي، وموقفنا من، اللانظام العربي القائم ".
إذا كانت مفاهيم "التضامن العربي " و"المواثيق العربية" و"الشرعية الدولية" نصوصا منزلة لا يمكن مناقشتها، لكان من الواجب على- هذه المفاهيم ان تحمل مضامين العدالة.
ونحن بدورنا نتوجه إلى الدكتور البلتاجي، هل يفهم التضامن. و العربي بأن يعترف الفقير بشرعية الغني في الوقت الذي يأكل الغني حق الفقير؟
إذا كانت الإمبريالية الأميركية هي عدوة للعرب، لأكثر من سبب يعرفه هو ونعرفه نحن وتعرفه جماهير الأمة العربية، ألا يحق لنا أن نتساءل عن سبب الغيرة الجامحة التي دفعت بالإمبريالية إلى حماية شرعية إحدى العائلات الخليجية، مثل آل الصباح وآل سعود وآل نهيان؟ هل هي للمحافظة على التضامن العربي، أم للمحافظة على الشرعية الدولية أو المواثيق العربية؟
إذا كان ذلك كذلك، فأين هي المواثيق العربية التي تدفع بأميركا إلى الاعتراف بشرعية الغزو السوري للأراضي اللبنانية؟ وأين هي سلة. المهملات التي ألقت الصهيونية بها قرارات مجلس الأمن الخاصة بمصر والأردن وسوريا ولبنان؟
ثانياً: القوى الوطنية والقومية:
جاء الدكتور البلتاجي، لكي يستغفل الجماهير العربية، وكذلك قواها الوطنية والقومية، بسذاجة ليس بعدها سذاجة. يقول ان العراق قد مارس عملية خداع لهذه الجماهير، كيف؟ حصل ذلك عندما طرحت القيادة العراقية مطالب ظاهرها العدل، وباطنها العذاب.
ما هي هذه المطالب؟
أهمها فكرة العدل الاجتماعي العربي، ثم حديث القيادة العراقية عن الثروات الطائلة لبعض العائلات والمليارات الضخمة والإسراف المخيف على الملذات، كل هذا يحصل في الوقت الذي تستشري فيه ظاهرة الفقر عند الملايين العربية.
ان القيادة العراقية، بإثارتها هذه الفكرة، حسبما يرى الدكتور البلتاجي، كأنها تضلل الجماهير العربية وقواها الطليعية.
أي منطق هو هذا الذي يستند إليه؟ هل كل من بشر بضرورة العدالة الاجتماعية هو مضلل الجماهير؟
أن الدكتور البلتاجي يعترف طوال الوقت الذي يعالج فيه موضوع "الثروة النفطية ث! بأن هذه الثروة، عندما تقاعست وقطرت تقطيرا، ساعدت على انفراط الجبهة العربية. وان هذه الثروات قد استنزفت في مشروعات غير إنتاجية "ناهيك عن التآكل المنظم لهذه الأموال في بورصات وبنوك الغرب... ". هنا نتساءل هل الدكتور البلتاجي يعمل لخداع الجماهير، عندما يحنق كثيراً على ضياع هذه الثروات وتقاعسها عن القيام بدورها القومي، أو على الأقل عندما يعبر عن الأعباء التي تتحملها مصر عندما يتساءل "هل سنتحمل وحدنا، أو بمشاركة لا تتكافأ مع حجم مواقفنا وتضحياتنا، هذه المرة أيضاً، كل أعباء اختياراتنا الصحيحة لصالح الأمة العربية؟ ثم يذهب الحمد والشكر " والعرفان فعلا- لا قولا- للقوة ا الأجنبية من منطلق "عقدة الخواجا" التقليدية لدى البعض منا؟ "
من يناشد الدكتور البلتاجي في ندائه؟ ألا يناشد الثروة النفطية للقيام بواجباتها تجاه مصر؟-ألا تعني المناشدة أن أنظمة الخليج لا تقوم بواجباتها تجاه بلده؟ والذي لا يقوم بواجباته، هل لتعبيرات تنديد به هو خداع للآخرين؟
- هناك وجه آخر يحاول الدكتور البلتاجي أن يصف فيه الخداع الذي يمارسه العراق على الجماهير العربية وقو 6ها القومية والوطنية، وهو يحاول أن يجعل قلبنا ينفرط حزنا على هذه الجماهير والقوى التي وقت في أفخاخ العراق ".
أما كيف وقعت، فهنا المصيبة الكبرى، أجل لقد وقعت لا لما العراق تعرض لحملة "خبيثة ظالمة" من قبل إسرائيل والأوساط الموالية لها، وقد صدقت الجماهير هذه الحملة. لقد وقعت الجماهير، إذا، في فخاخ العراق... ولكن هذه الحملة، كما يعبر الدكتور البلتاجي، أكانت حجة للأسف، تستهدف إثبات أن للعرب دائما وجه كريما)؟
إن ما زاد الحزن في أنفسنا، هو استياء الدكتور البلتاجي من نجاح الحملة، لماذا؟ لأن العراق بدا "عندئذ كقوة عربية قومية يراد كسرها وحرمانها- ومعها العرب أجمعين- من السلاح والتكنولوجيا دفاعاً عن النفس... ".
إن الدكتور البلتاجي، يشهد أن للعراق قوة تكنولوجية، وهو يلوم إسرائيل والأوساط الموالية لها التي قادت الحملة، لأنها كانت السبب في انخداع الجماهير العربية وقواها الوطنية والقومية بأن العراق بدا أنه قوة عربية قومية... وهل هناك حس أصيل اكثر من حس الدكتور البلتاجي، لماذا؟ لأنه يلوم إسرائيل، ومن يستطيع منكم أن يلومها؟ النتيجة، لم نستطع ان نفهم كيف كان العدل ظاهر المطالب ". العراقية، ولم يكن هو المضمون الفعلي لها. ولم نفهم كذلك كيف كان باطنها العذاب؟
هل هنا ليس من تفسير لذلك أقل من أن المطالب العراقية هي فعلا صحيحة؟ لكن ما يعذب الدكتور البلتاجي هو أن الوضوح في صحتها دفعت الجماهير وقواها التقدمية لتصديقنا بكل وعي واقتناع؟
فعذرا من الدكتور بلتاجى، إذا قلنا له، أن من ينخدع بنظام كامب ديفيد، والذي يحاول آن يغطي الفكر القومي "الميني- جوب " الذي، يتغطى بقشرة من الأصالة، وكما بينا ذلك في مقدمة ردنا عليه " والذي لا يجرؤ أن يقول لأميركا "ما أحلى الكحل بعينيك "، أنك لست المرجع الصالح ولست المؤهل الذي يصف الجماهير وقواها الوطنية) ! والقومية بالانخداع.

ئالثـــــــاً: ا لعرا ق:
كانت المقدمة في المقالتين جذابة، إلى الدرجة التي كنت أتصور فيها أن الدكتور البلتاجي سوف يصل إلى نتائج يطلب فيها العمل على القضاء على مرحلة "اللانظام العربي فإذا به يدعو إلى القضاء على العراق بما يمثل من قوة ومقدرة على نسف هذا "اللانظام ".
في مقالتيه، يدور البلتاجي حول فكرة مركزية فيما يختص بالعراق، وهي التالية:
"قادت العراق في مؤتمر بغداد 79 حركة المقاطعة العربية لمصر-، بل قل الحصار والملاحقة والخنق والتجويع- بهدف استلاب دور القاهرة القيادي موضوعيا، في العالم العربي... " " ا! المعركة هي حول مبدأ التنافس على الزعامة، هكذا بكل بساطة، معركة انتخابية بين مرشحين، مصر والعراق، في هذه الحملة يتبنى الدكتور البلتاجي ترشيح مصر فيها، ولهذا ضمن واجبه كداعية انتخابي أن يعدد مثالب العراق، وأن يبرز حسنات مصر، لذلك نثبت فيما يلي أوجه المقارنة بين المرشحين كما يعتقدها هو:
- العراق مخادع.. لأنه غزا الكويت، بينما مصر تمثل قيادة عربية- مخلصة لأنها كانت تسعى لاحتواء الأزمة والتوسط من أجل الحل العربي لها. !
- العراق ضرب التضامن العربي وقسم العرب إلى راديكاليين وثوريين، بينما مصر دعت إلى مؤتمر القاهرة للمحافظة على هذا التضامن.
- العراق يتمرد على الشرعية الدولية، بينما مصر تدفع باتجاه احترام المواثيق الدولية والمحافظة على شرعيتها.
فالنتيجة، إذا، إدانة للعراق لأنه يعمل بالخداع، وضرب التضامن، والتمرد على الشرعيتين العربية والدولية.
ولتبرير إدانة العراق يحدد، الدكتور البلتاجي الكثير من التفاصيل نحاول أن نوجزها بما يلي:
أ- حصار وتجويع مصر، في مؤتمر بغداد 1979.
ب- كسر أضعف حلقات اللانظام العربي القائم بغزوه للكويت.
ج- ممارسة أسلوب الخداع لتغطية عمله، على كل من:
* قيادة عربية مخلصة وبشكل أشمل على مستوى الجماهير العربية.
أما كيف حصلت عملية الخداع، وهي محور العنوان الذي حملته المقالة الأولى »الخديعة الكبرى«!... وتهالك اللانظام العربي الراهن. لقد طرح العراق مطالب وهي: العدل الاجتماعي العربي- السياسة البترولية الخاطئة لبعض الدول المصدرة للبترول- لا شرعية الثروات الطائلة لبعض العائلات- الخطاب السياسي الجديد أي المزاوجة بين الخطاب الإسلامي والقومي.
إن هذه المطالب جاءت للتغطية على خطيئته الأساسية في احتلال الكويت، ولذلك، يعدد الدكتور البلتاجي، أساليب العراق الملتوية لكي يتهرب من حل هذه المسألة بالتالي:
- لم يرض بتزامن انسحاب قواته من الكويت مع انسحاب قوات أجنبية في مؤتمر القاهرة.
- السخرية من العقل العربي عندما طرح مبادرته في ضرورة بحث كافة الاحتلالات في الشرق الأوسط.
- مبادرته تجاه إيران لتطبيق اتفاقية الجزائر التي رفض تطبيقها سابقاً.
إن أهداف العراق من كل ذلك، كما يراها الدكتور البلتاجي، هي التالية:
- التواطؤ بين أهداف العراق ومصالح الولايات المتحدة الأميركية قد يدفع العراق للتخلي عن حلفاء الأمس.
- تواطؤ مع إيران لفرض نوع من الحكم الثنائي العراقي الإيراني للمنطقة.
إن منطق محاكمة الأمور على أساس تجزئتها إلى وقائع منفصلة عن بعضها البعض لا علاقة تفاعلية بينها من جهة، وعلى أساس الجهل بتحديد الأسباب والنتائج من جهة أخرى. استطعنا أن نكتشف أن الدكتور البلتاجي يجهل أو يتجاهل المنطق الجدلي وضرورة العلاقة بين الأسباب والنتائج، فهو يعتمد العقل الستاتيكي في كافة المراحل النظرية الساندة في مقالتيه. والمثال على ذلك انه ينظر بمنظار واحد في تقييمه لمرحلة الصحوة القومية في مصر التي كسرت حلقة النظام التبعي، وكذلك لمرحلة الاستسلام في مرحلة نظام كامب- ديفيد. كلاهما يدلان على إخلاص القيادة المصرية للمسألة القومية العربية... وقد يأتي نظام آخر مختلف عن الاثنين معا، فحسب منطق الدكتور البلتاجي، سوف يكون مخلصا كذلك. والسبب أن البلتاجي لا يتميز بحس نقدي جرئ وثوري في تحديد الأمور بوضوح أي باختصار أنه يتميز بموقف اللاموقف، وهو الذي يصف في نهاية مقالته الثانية أي نظام عربي جديد بقوله: "ومن يدرى لعله أفضل، بل هو في الغالب أفضل... "، إنما استدلالنا لهذا النمط من التفكير الجائر الذي لا يجرؤ فيه الدكتور البلتاجي على تحديد موقف، هو أكبر دليل على الضياع الفكري الذي يعانى منه في مقالتيه. هذه الحيرة تربكه وتجعل نتائجه هزيلة، وتدل دلالة واضحة على انه يحاول استخدام الفكر، أو ما يسمى فكرا، لغايات سياسية تخدم الأطراف والقوى المعادية للامة العربية وهي أميركا ودول الخليج ونهج كامب ديفيد.
أما جهل أو تجاهل الدكتور البلتاجي في تحديد الأسباب والنتائج فقد دفعه إلى الاعتقاد أن غزو العراق للكويت، هو سبب، وما تفرع عنه من أمور أخرى، نتائج، كمثل أن العراق لتغطية دوافعه في الاحتلال لجأ إلى اتهام أمراء الكويت باللجوء إلى سياسة إغراق السوق النفطية، وإلى اتهامهم بسرقة البترول من حقول الرميلة...
ولكي نعيد الأمور إلى نصابها، فإننا نلفت نظر الدكتور البلتاجي إنه كان عليه أن يحدد الأسباب أولاً ولن نفعل شيئا جديدا لأننا سوف نستخدم المعلومات ذاتها التي استخدمها هو بالذات!
- الثروة النفطية، منذ العام 1967، تقاعست عن القيام بدورها في دغم دول المواجهة في معركة المصير العربي.
- الثروة النفطية استنزفت في مشاريع لا علاقة لها بالتنمية، وتآكلت في بورصات ومصارف الغرب.
- الكويت أغرقت السوق النفطية لمنع ارتفاع سعر البترول، وهي سياسة ضارة لمصالح الدول العربية.
- الكويت "سرقت بترول حقول الرميلة، (وإذا لم يقم الدليل القاطع على ذلك لدى الدكتور البلتاجي، فلن يعني ذلك، أن الواقعة تصبح كاذبة).
- إسرائيل والأوساط الموالية لها قاما بحملة شرسة ضد العراق، وليسمح لنا الدكتور البلتاجي أن نقول بوضوح إن أميركا وبريطانيا هما الضالعان. غاية هذه الحملة تجريد العراق من الإمكانيات العسكرية التي امتلكها وحقق فيها التوازن مع التفوق العسكري الإسرائيلي.
في تقديرنا، شكلت تلك العوامل المذكورة أسباباً رئيسية في إعاقة العمل القومي لمنع تحقيق المصلحة القومية، وإذا كانت تشكل عوامل ضارة في العراق كقطر، كما نفهمها كقوى وطنية وقومية، فلأن العراق يمثل اليوم طموح الجماهير العربية كمدافع يمتلك الإمكانيات، عن مصلحة الأمة العربية قاطبة.
ولان المؤامرة على العراق، من قبل الإمبريالية الأميركية ولسبب من موقعه المتميز، ابتدأت منذ سلك هذا القطر طريق الدفاع عن المصلحة القومية، استخدمت فيها الإمبريالية وسائل كثيرة كان أهمها الرادع الصهيوني، وإشغاله بحرب طويلة مع إيران، وأخيراً قيادة حملة شرسة خبيثة وظالمة منذ أوائل نيسان في العام 1995، هذه الحملة كانت رديفا لمؤامرة اقتصادية كانت تجري في الخفاء، كان ضالعا فيها بشكل مباشر أمراء الكويت باتباعهم سياسة إغراق السوق النفطية العالمية وسرقة النفط من آبار حقول الرميلة.
ليس صحيحا أن العراق خدع قيادة عربية مخلصة في توسطها لمعالجة الخلاف القائم بين العراق والكويت على قاعدة الحل العربي لها. وإنما السبب كان مبطنا في نوايا أمراء الكويت، المدعومة بالتشجيع والحماية الأميركيين، بالوصول في المفاوضات إلى حائط مسدود، واتباع أسلوب المماطلة في الوصول إلى نتائج حتى تستطيع أميركا إيجاد المخارج اللازمة لتدخل مباشرة على ارض الكويت ا لعربية.
الخطة مرسومة بدقة بين أميركا وأمراء الكويت، والذي فاجأهم هو عندما لجا العراق إلى اتخاذ فعل جذري في معالجة الأمور لتفويت الفرصة على المتآمرين (أميركيين وأمراء)، إنما جاء هذا الأسلوب في المعالجة ليس خرقا للشرعية القومية ولا للشرعية الدولية، وإنما لمنع استخدام هاتين الشرعيتين غطاء للتآمر الإمبريالي الأميركي والثروة/ النفطية الخليجية.
أصبحت الأسباب واضحة، وأصبح واضحا كذلك أنها قادت إلى نتيجة اضطر فيها العراق إلى ممارسة حقوقه التاريخية المشروعة في استعادة ارض الكويت إلى حضن العراق الأم، لأنه عندما وجد أن هذه الثروة تهدر لصالح الإمبريالية والمصالح الشخصية للأمراء، وبعد أن حاول بالعلاقة الأخوية أن تعود هذه الثروة لتصب في مصلحة الأمة العربية، وبعد أن واجهه إصرار من الأمراء في تثبيت موقعها المعادي لمصالح الجماهير العربية، كان لا بد من استعادة هذه الحقوق العربية لأصحابها الحقيقيين.
إن الذي حصل، كشف وبشكل لا لبس فيه، مجموعة من ردأت الفعل !- كنتائج، كشفت وبالعلن مدى الترابط القوي بين مصالح الإمبريالية الانكلو- أميركية وبين مصالح أمراء النفط.
من هذه النتائج كان الحصار الأكثر، فأي تحالف كشف عنه هذا الحصار حول العراق؟
1- إصدار قرار أميركي سريع لحصار العراق عسكرياً واقتصادياً، تبناه مجلس الأمن لأسباب متعددة ليس بينها على الإطلاق ما يدل على أنه حماس للمصلحة العربية.
فإذا كان السبب غير ذلك، فليقل الدكتور البلتاجي، ما هي مصلحة الأمة العربية أو على الأقل الدول العربية الفقيرة في حماية أمراء آل الصباح وآل سعود، وهل يستطيع أن يقول غير ما ورد في مقالتيه حول الدور التآمري للثروة النفطية على الاقتصاد العربي، وهو ما كتبنا عنه بالتفصيل في فقرة سابقة في ردنا هذا؟
وهل من العدل أن يعود أمراء آل الصباح إلى حكم الكويت لزيادة سرقاتهم التي فاقت مئات المليارات من الدولارات ووضعت في خدمة الإمبريالية ا لأنكلو- أميركية؟
هل قدمت جيوش الأطلسي إلى أرض العرب في نجد والحجاز محبة بالمحافظة على الشرعية الدولية؟ إذا كان هذا السبب صحيحا فلينتظر القارئ ردنا على ذلك في المكان المخصص له.
3- حصل فرز حقيقي داخل الجامعة العربية، بين راديكاليين وقوميين ثوريين، هذا الفرز يحسبه الدكتور البلتاجي "انتكاسة وتقهقر إلى ماضي سحيق تخبطنا جميعا فيه وخسرنا جميعا- بسببه... "، كما جاء في مقالة ثالثة له نشرت في جريدة الديار". نتساءل هنا، هل كانت انتكاستنا السابقة بسبب الفرز السابق، أم بسبب شدة المؤامرة التي لم يقف فيها العرب يدا واحدة في مواجهتها؟ المؤامرة كانت وما زالت منصبة على التيار القومي الثوري. إننا نصبح أقوياء في مواجهتها كلما ازدادت فضيلة النضال والتضحية عند جماهير الأمة العربية، وهذا الازدياد، في الوقت ذاته، يتطلب زيادة في حجم القوة المعادية لمواجهته، وهذه قوانين الصراع في معارك التحرر.
إن العراق أضاف زيادة نوعية في فضيلة النضال والتضحية داخل التيار القومي الثوري، وهذه الإضافة زادت الإمبريالية الانكلو- أميركية هلعا بشكل أساسي، وزرعت الأرق والقلق، في عيون أمراء الثروة النفطية. وقد أثارت خوف الأنظمة الراديكالية على مواقعها، هي التي ربطت قرارها ومصيرها بتوجيهات المعسكر الإمبريالي خوفا من بطشه العسكري أولاً، وبرضى أصحاب الثروة النفطية طمعا ببعض فتات موائدهم ثانيا.
حصل الفرز، نعم، انهار التضامن العربي. ! وعن أي تضامن تتكلم؟.
نفهم التضامن على أنه حالة من التكافؤ والاحترام المتبادل والتعاون الاقتصادي والسياسي والعسكري، يقوم فيه كل بدوره على قاعدة التكامل. ولا تقوم أية حالة تضامنية إلا على قاعدة التحديد الفكري والسياسي لمصير المجموعات المتضامنة. "
إن التضامن العربي، كما هو في حالته الراهنة، كان تعبيراً عن هدنة لوقف إطلاق النار بين الأنظمة غير المتجانسة. هذه الأنظمة نصنفها إلى ثلاثة مستويات: أنظمة الثروة البترولية التي تربط مصيرها ومصالحها الإمبريالية، الأنظمة الراديكالية التي تسعى لكسب رضى القوتين (ا لثروة، والإمبريالية)، والأنظمة ا لعربية الثورية.
في هذا الواقع الذي يعيشه التضامن العربي، والذي يصب بنتائجه الإيجابية في صالح أنظمة الثروة البترولية، نجد أن من مصلحة هذه الأنظمة قيام ستاتيكو عسكري سياسي، فهي ما دامت تحتفظ بثرواتها دون من ينغص عليها هناءة العيش نجدها تعمل جاهدة للمحافظة على هذا الستاتيكو.
فأين مصلحة بقية الأعضاء في الواقع التضامني الراهن؟
هل مصلحة الأنظمة الراديكالية تتأمن باصطياد فتات الموائد العامرة على حسابها وحساب شعوبها؟
هل مصلحة الأنظمة الثورية تتأمن، في أن تخرج أنظمة الثروة البترولية على قواعد التضامن الهش، لتحيك المؤامرات ضدها وضد شعوبها؟
فأي تضامن يدافع عنه الدكتور البلتاجي؟ هل هو التضامن الذي يدعو فيه أمراء الخليج لصرف مكافآت إلى مصر وشعب مصر نتيجة الأعباء القومية التي يقوم بها النظام المصري؟
" لا تبكى ليلى، جانب الدكتور البلتاجي، ولا تأسف على هند. كلتاهما سوف تبيعان نظام مصر أمام الفارس الأشقر جورج بوش، لأنه لن يسمح حتى لمصر أن تمارس راديكاليتها إلا بوصاية مارغريت تاتشر وبرعاية من اسحق شامير. لن تفتح ليلى وهند ذراعيهما إليك إلا بأمر من جيمس بايكر لتعويضك نتيجة الخدمات التي تؤديها لصاحبة الجلالة، الإمبريالية، في تأمين غطاء شرعي لها لدخول الأماكن المقدسة للمسلمين.
نحن نتفق معا، ليس بضرورة التضامن فحسب، وإنما نحن طلاب الوحدة الكاملة" سواء تحققت هذه الوحدة بعد سنة أو بعد مائة سنة، لكننا لن نتفق معك بالتضامن كيفما كان.. فللتضامن الذي نؤمن به شروط موضوعية إذا لم تشكل مضمونا لتضامن حقيقي يصب في مصلحة الأمة العربية، حقوقا وواجبات، يصبح شعارا ملقى على طريق قديمة أهملت لأنها لم تعد تستوعب حركة التطور الثوري المعاصر.
من هنا، ما تسميه في مقالتك الثالثة بالغزو الذي أحدث شرخا هائلاً في جدار المستقبل الذي دفع بالتضامن العربي إلى الاحتضار، لا يستقيم مع حكمك في مطلع مقالتك الأولى حين تصف هذه المرحلة بأنها مرحلة حصار الثورة القومية بعد أن ضربت عسكريا في العام 1967 حيث استقر "وضع قائم على تقسيم فعلي للعالم العربي إلى دول الأغلبية الفقيرة المكتظة بالبشر والسلاح، ودول الأقلية الغنية الضعيفة في الكثافة السكانية والقدرات الدفاعية والتي ترفل في ثراء لا مثيل له في التاريخ. "أو لم تقل كذلك في مقالتك الأولى- الجزء الأول منها- وهكذا أصبحت مراكز المبادرة أو القرار الحقيقي في شؤون العالم العربي من خارجه " أو لم تقل كذلك ما يناقض عشقك للتضامن "... تزايدت ظاهرة الانكفاء الذاتي على النفس وضربت كل محاولات التكامل الاقتصادي العربي وهو حجر الزاوية في الأمن القومي بمفهومه الشامل.. بل وبدأت مرحلة جديدة من الخلافات العربية- العربية...، وألم تقل بأن هذا هو النظام- أو على الأصح- اللانظام العربي القائم... ". !؟!
ألم تغفل مسؤولية أساسية فيما يحصل من لا تضامن عربي إلى أنظمة الثروة البترولية؟ هل تحمل هذه الأنظمة المسؤولية عن التآكل المفجع للامة العربية، قبل غزو العراق للكويت، أم بعده؟ !؟ إذا كانت هذه الأنظمة تتحمل مسؤولية اللاتضامن، قبل غزو الكويت، وهذا ما تؤكد بنفسك أنه حصل قبل العام 1973، فكيف تحمل العراق مسؤولية احتضار تضامن عربي؟ اعترفت أنت أنه غير موجود؟
قليل من الروية في الأحكام، عزيزي الدكتور البلتاجي، فالاستعجال يجرك إلى مأزق التناقضات القاتلة فيما تكتب.
أخيراً، كيف واجه القطر العراقي حالة الحصار العسكري- السياسي - الاقتصادي الذي اجتمعت لفرضه، كافة الدوائر الإمبريالية، وبعض من تربطهم مع الغرب صداقات استراتيجية، وبعض دول العالم الثالث بفعل خضوعها لنظام التبعية العالمي الإمبريالي، وبعض من الأنظمة العربية كي منطلقاتها وأسبابها المختلفة؟
إننا نختار من وسائل المواجهة التي لجأ إليها العراق التي حددها الدكتور البلتاجي بنفسه:
1- قادت الإمبريالية الانكلو- أميركية حملة الحصار ضد العراق، في ضمان الحصول على قرارات مجلس الأمن ذات الأرقام: 0 6 6-1 66-663-664، وكان مضمون كل قرار لاحق يصعد في إجراءات الحصار. والعنوان البارز الرئيسي الذي أعطاه جورج بوش لهذا الاهتمام هو أن العراق تمرد عـلى الشرعية الدولية، وللأسف فقد خدع الدكتور البلتاجي بهذا التفسير الإعلامي.
ولكي يدل العراق على أن جورج بوش يخدع الرأي العام العالمي والعربية ببكائه على استخفاف العراق بالشرعية الدولية، فقد لجأ إلى تقديم مبادرة سلمية، يفضح فيها بكاء جورج بوش. كانت المبادرة التي أعلنها الرئيس صدام حسين تتضمن خطة يعمل مجلس الأمن على استعادة هيبة قراراته المداسة وذلك على قاعدة انسحاب القوات الأجنبية من الخليج وانسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي العربية المحتلة وانسحاب القوات السورية من لبنان. وهذه الاحتلالات بعضها قد مر عليه عشرات السنوات ولم تنسحب فيها قوات الاحتلال بالرغم من قرارات الشرعية الدولية.
يصف الدكتور البلتاجي هذه المبادرة، بأنها ضرب من الإصرار أو بالأحرى الإصرار على السخرية من العقل العربي أو من العالم بأسره، كيف يصل الدكتور البلتاجي، إلى هذه النتيجة؟!!!: العراق لم يتحدث بشكل حاسم عن الانسحاب من الكويت، وطرح " عبارات مبهمة. متحدثا عن الحقوق التاريخية للعراق على الكويت- إن الحديث عن هذه الحقوق تبرر، كما يظن الدكتور، القبول بفكرة الحقوق التاريخية لليهود على "يهودا" و "السامرة" والقبول كذلك بفكرة الحقوق التاريخية لتركيا.
نستحلف الدكتور البلتاجي بأصالته القومية، هل هو مع الحقوق التاريخية للأمة العربية في الوحدة السياسية أم هو ضدها؟
إن الدعوة للوحدة العربية نابعة من ضرورات متعـددة وعلى رأسها التاريخ الواحد للأمة العربية، فهل ينكر البلتاجي هذه المسلمة؟ وإلا فنحن ننتظر منه أن يشرح لنا ما هي مفاهيمه حول المسألة القومية العربية والوحدة العربية.
إن من يقارن بين الحقوق التاريخية للصهيونية في "يهودا والسامرة، وكذلك تركيا، وبين الحقوق التاريخية للعرب في تحقيق وحدتهم هو واحد من اثنين، وليسمح لنا الدكتور البلتاجي والقراء الكرام، فهو إما جاهل وإما أن يكون منتسباً إلى أية جنسية ما عدا الجنسية العربية.
وإذا ما تجاوزنا تحليل الإشكالية التي يطرحها الدكتور، بإطار الفكرىء فإنما لكي نطرح السؤال عليه: إذا كان مضمون الهجوم الإنساني العالمي الذي تتزعمه "الحبيبة" أميركا على العراق، رغبة منها بحماية شرعية القرارات الدولية، فليقل لنا الدكتور البلتاجي، وهذا لم يتجرأ على الإجابة عليه في مقالاته، لماذا الهجوم الإنساني المزعوم لم يشمل برعايته تطبيق قرارات مجلس الأمن السابقة للقرار 660، فهل يكون السبب حسب تعبير الدكتور أن هناك "تباطؤ- إن لم يكن انصراف- أميركي عن دفع عملية السلام... "؟ نظن أن عجلة السلام قد "بنشرت نفسها، فلماذا القسوة على أميركا باتهامها أنها انصرفت عن دفعنا… أميركا لن تنصرف أبدا عن الاهتمام أ بالسلام حتى لو اقتضى الأمر أن يقطع جورج بوش إجازته المخصصة للعبة الغولف المحببة كثيرا لديه، فهو يضحي بلعبته المحببة كرامة لعيون السلام إذا كان هذا السلام هو سلام أحبابه أمراء الخليج، أصحاب الوجه الصبيح، وليس الوجه الكريه كما يصفه الدكتور البلتاجي.
3- أما، الطامة الكبرى في الخداع العراقي... وهو الرهان القاطع.
سيد الأدلة جمعاء على الخديعة الكبرى... يتابع الدكتور البلتاجي، أن، يعلن العراق قبوله لاتفاقية الجزائر مع إيران... ياللهول. الاتفاقية التي فرضها الشاه. وأشعل العراق الحرب بسببها... ثمانى سنوات من الحرب المدمرة من أجل لا شيء... ويتابع الدكتور البلتاجي بإسقاط العراق أوراق التوت، كما يشاء، وكذلك أوراق الحور، يبتدئ بالأدلة القاطعة وينتهي بالتهويل وضرب الرأس ولطم الخدود، كل ذلك لان العراق ارتضى أن يطبق اتفاقية الجزائر بعد أن حارب من اجل إلغائها مدة ثماني سنوات.
نسى الدكتور البلتاجي أنه بنفسه قد أكد"أن سبب الحرب لم يكن بسبب إلغاء الاتفاقية عندما يقول في إحدى مقالتيه: عندما أوضح دور مصر في الوقوف إلى جانب العراق "خلال حرب الثماني سنوات المريرة مع إيران، فقد كان ذلك التوجه (توجه مصر) بدوره مبنيا على رؤية عميقة وصحيحة لمقتضيات الحفاظ على الأمن القومي العربي المهدد بانهيار جداره الشرقي وتدفق الفكر المتطرف وأعمال التخريب الذي أرادت طهران في ذلك الوقت تصديرهما عنوة إلى كل المنطقة... ".
يؤكد الدكتور البلتاجي، إذن، أن سبب الحرب لم يكن سوى القرار الذي اتخذته إيران، وهي تعيش مرحلة الزهو بانتصار الثورة على الشاه، ومضمون هذا القرار هو تصدير الثورة إلى كل المنطقة انطلاقا من العراق، السبب الذي جعل العراق في موقف الدفاع وليس في موقع افتعال الحرب بهدف إلغاء اتفاقية الجزائر.
إن الموقف العراقي عندما وقع اتفاقية الجزائر كان ينشد إلى التوجه للانخراط في المعركة الأساسية ضد العدو الصهيوني، وهو الذي رضى بتطبيقها مجدداً، رغم انتصاره بالحرب ضد إيران، وللسبب ذاته هو التفرغ للمعركة الرئيسية في مواجهة الإمبريالية الأنكلو- أميركية التي زرعت الأرض العربية بالجيوش والأساطيل البحرية والجوية.
3- من المآخذ التي يسجلها الدكتور البلتاجي على العراق أنه استخدم "خطاباً سياسياً جديداً موجهاً بالدرجة الأولى إلى الشارع العربي وبعض القوى الوطنية والدينية والقومية العربية ألا وهو الخطاب الإسلامي والقومي في آن واحد... وراح النظام البعثي العلماني يستعيد مشاعر الجماهير...
أن الدكتور البلتاجي يأخذ على العراق الذي يحكمه حزب علماني أن يستخدم الخطاب الديني، ويخشى من خطورة استجابة الجماهير لهذا الخطاب لمدى عمقه في الوجدان العربي- الإسلامي والقومي.
إن هذا الاستغراب، إن دل على شيء، فإنما يدل على جهل بفكر حزب البعث العربي الاشتراكي، وتحديدا موقف الحزب من الدين. لذلك استنكر استثارة مشاعر الجماهير ضد الإمبريالية والصهيونية من خلال الخطاب القومي- الإسلامي.
يحاول الدكتور البلتاجي الإيحاء بأن علمانية حزب البعث العربي الاشتراكي تتناقض مع المعتقدات الدينية بشكل عام والمعتقدات الإسلامية بشكل خاص. لهذا الغرض، لا نجد أية تناقضات بين البعث والدين، أو بين القومية العربية والإسلام.
هنا سنذكر في عجالة موجزة موقف حزب البعث من الدين أولا ومفهوم الإسلام ثانياً، ومن يريد التوسع في الاطلاع فليرجع إلى أدبيات الحزب وتراثه الفكري.
1- يعتبر الحزب أن الدين هو مسألة حيوية في حياة المجتمع ولذلك فهو ليس حياديا بين الإيمان والالحاد، وإنما هو حزب يؤمن بالله وبالأديان السماوية لهذا حدد الحزب موقفه من الإسلام ا أولاً بوصفه عقيدة دينية ا للمسلمين العرب وغير العرب، إنما للعرب شرف حمله ونشره بين الشعوب والأمم، وهو يمثل ثورة عظمى في التاريخ العربي.
2- استلهم الحزب روح الرسالة الإسلامية في نضاله من أجل تحقيق النهوض الحضاري للامة ووحدتها، ولذلك اعتبر الحزب بأن الإسلام ثورة شاملة أحدثت انقلابا جذريا في حياة المجتمع العربي.
3- ميز الحزب بين موقفه من الدين، وبين الأحزاب الدينية ولا، ووقف ضد الطائفية كظاهرة اجتماعية دينية تعصبية تعمل على تمزيق المجتمع العربي ثانيا. لذلك اعترف حزب البعث بحرية الاعتقاد لأعضائه.
وحيث إن الإسلام هو من الأديان السماوية، وتعتنقه أكثرية عربية، وهو يمثل ثورة في وجه الاستعمار والصهيونية، فما هي الخطورة التي تتمثل في استنهاض مشاعر العرب المسلمين ضد الاحتلال الإمبريالي والصهيوني الذي يدنس الأراضي المقدسة؟
إن الدور الذي يلعبه الدكتور البلتاجي في تشويه الحقائق، وتفسير الوقائع بلا منطقية تارة وبجهل تارة أخرى. وبإصرار على تبرئة الإمبريالية وأمراء الثروة النفطية بعد إدانتهما، وثم بإدانة العراق بعد تشويه مواقفه. إن هذا الدور قد اتضحت أهدافه التي تصب في موقع الدفاع عن أيديولوجية الاستسلام الخانقة، المرتعدة الفرائص أمام أية قوة سياسية أو عسكرية أو فكرية تحاول إلقاء الضوء على انهزاميتها.
لن نسيء الظن إذا توصلنا إلى استنتاج أساسي لأهداف الدكتور البلتاجي التي أراد الوصول إليها من خلال نشره سلسلة من المقالات، إذ انه سرعان ما يفصح عن هذه الأهداف بالتالي:
أولا: التبشير بتغير المرحلة الراهنة التي يمر بها "اللانظام العربي"
وهو يقول في هذا الصدد، بعد أن يعدد المخاطر التي يعتقد أن العراق أوقع التضامن العربي فيها...،... لسوف تكشف الساعات أو الأيام، أو ربما الأسابيع القليلة القادمة عن المواقف الدقيقة لكل اللاعبين... (وعلى ضوئها)... سوف تتبلور ملامح النظام الجديد وهو بالقطع مختلف عن اللانظام العربي الراهن... ومن يدري لعله أفضل، بل هو في الغالب افضل.
إن الدكتور البلتاجي يتحدث من موقع العارف بخفايا الأمور، أو من موقع المدفوع لكي يتكلم بما نطق به في مقالاته، وإلا فهل يمتلك حدسا قوياً يستطيع أن يحدد فيه الساعات أو الأيام أو الأسابيع؟
إذا استطاع أن يستنتج، باستقراء الوقائع، أن هذا اللانظام سوف ينهار لصالح نظام آخر، فكيف يستطيع أن يحكم على النظام الجديد بأنه قد يكون افضل، ثم يؤكد بأنه افضل.
هل من غريب الصدف أن يعلن جيمس بايكر وزير خارجية أميركا، في الليلة ذاتها التي جاءت مباشرة بعد كتابة الدكتور البلتاجي لمقالاته، عن ضرورة البحث لخلق بنية جديدة للأمن في المنطقة العربية بمشاركة عربية كبيرة، هذه البنية الجديدة تسمح بديمومة الوجود الأميركي في المنطقة؟
فالطامة الكبرى هنا، والخداع الكبير الذي يمارسه الدكتور البلتاجي، هو أنه قام بإطلاق قنابل كثيفة تسيل الدموع، لكي يبشر بضرورة الرضوخ للبنية الأمنية الجديدة، كابتكار أميركي، للسيطرة المباشرة على المنطقة العربية.
ثانيا: حيث إن نظام الرئيس مبارك قد حسم خياراته النهائية إلى جانب نظام كامب- ديفيد الذي أسسه سلفه الراحل أنور السارات، قد حدد له دوراً أساسياً في البنية الأمنية الأميركية الجديدة، جاء الدكتور البلتاجي، في مقالته التي عنوانها »بين التزام أصيل بالقومية وضرورات توزيع عادل للأعباء«. حيث قال؟ »هل سنتحمل وحدنا... كل أعباء اختياراتنا الصحيحة لصالح الأمة العربية؟! ثم يذهب الحمد والشكر والعرفان فعلا- لا قولا- للقوى الأجنبية من منطلق »عقدة الخواجا« التقليدية لدى البعض منا؟!«
وفيما قاله فهو يطالب بحصة مصر من صندوق التبرعات الذي أسسه جورج بوش من أموال المساكين فقراء الخليج التي نهبها أمراؤهم لصالح خزانات جورج بوش.
أخيراً، كنا نتمنى أن يكون ما كتبه الدكتور البلتاجي نابعاً، كما يختتم مقالته الثانية، بأن ما يفعله ليس إلا دراسات علميه يجريها في ما تقتضيه أمانة المسؤولية المهنية والوطنية. ولذا فلن نتراجع عن التمني عليه بأن ينظر إلى التطورات الراهنة، بأنها سلسلة محبوكة من المؤامرات ضد الأمة العربية كلها بدءا بالقطر العراقي الشقيق، الذي لو سقط لا سمح الله، لن يكون لأي منا موقع ومكان سوى تحت جزمة أصغر جندي صهيوني حقير.
***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق