بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 22 يناير 2010

مقالات العام 2007 (1)

مقالات العام 2007


محتويات الكتاب

(1): كلمة في مهرجان بعلبك في الأول من كانون الثاني 2007
(2): حزب البعث بعد صدام حسين
(3): في ندوة شعبية في صور:
(4): خذوا مالكم السياسي واتركونا نأكل من خيرات أمتنا ودعونا نتنفَّس ثقافة نكهتها عربية
(5): المشهد العراقي في كانون الثاني 2007
(6): مقابلة مع مجلة الوطن العربي
(7): كلمة في المهرجان القومي لتأبين الشهيد صدام حسين
(8): خطة بوش الجديدة استئناف للهولوكوست ضد الشعب العراقي، ولكن؟
(9): المشهد العراقي في شباط 2007: خطة بوش – المالكي الأمنية تتآكل تحت وابل من عمليات المقاومة الوطنية العراقية
(10): هل العدوان على سورية يأتي بعد العدوان على العراق؟
(11): أمام سلسلة الإخفاقات الدولية... الإمبراطورية الأميركية في تراجع؟ أم باتت أكثر خطراً؟
(12): المشهد العراقي في آذار 2007: الخطة الأميركية الجديدة في العراق مغامرة أخرى سيكون نصيبها الفشل.
(13): من أجل تحديد موقف موضوعي من الدور الإيراني حيال قضايا الأمة العربية.
(14): ستون عاماً ومسيرة البعث تتألَّق.
(15): في الذكرى الرابعة لاحتلال العراق: النجف الرافضة للاحتلال تتصل مع تاريخها المقاوم.
(16): العالم يضبط ساعة المتغيرات الراهنة على إيقاع المقاومة الوطنية العراقية
(17): الأمة العربية تنتج الثورة وتستفيد من ثورات الآخرين
(18): المشهد العراقي في نيسان:الخطة الأميركية الجديدة عاجزة عن إنقاذ مشروعها في العراق
(19): العولمة الأميركية والطائفية السياسية تبتلعان الأول من أيار،
(20): مؤامرة شرم الشيخ: «وثيقة العهد الدولي» لمساعدة لصوص «مغارة جورج بوش»
(21): لاريجاني والدجل الإيراني المستمر
(22): في ذكرى هزيمة حزيران: مقال للقدس العربي.
(23): افتتاحية طليعة لبنان الواحد (حزيران 2007) في ذكرى وفاة مؤسس البعث.
(24): المشهد العراقي في حزيران 2007.
(25): لقد قصَّرت حركة التحرر العربية في دعم تجربة المقاومة الوطنية العراقية. فهل هي مستعدة لاستثمار النصر القادم؟
(26): جورج بوش والقشة التي ستنقذه من الغرق.
(27):بين مطرقة الاستعمار وسندان القوى الإقليمية: قضايا الأمة في العراق وفلسطين ولبنان سلعة للمساومة
(28): المشهد العراقي في شهر آب 2007.
(29): قرار الإعدام الجديد: استئناف لتصفية العقيدة العسكرية الوطنية للجيش العراقي.
(30): مقابلة مع المشاهد السياسي في أيلول 2007.
(31): تمخض تقرير كروكر – باتريوس فولَّد كذبة جديدة.
(32): تأسيس عمل جبهوي في لبنان: وجهة نظر في الثوابت والأسس.
(33): في معركة البدائل بين المقاومة والاحتلال.
(34): تداعيات الأزمة التركية – العراقية.
(35): تهافت نهاية التاريخ أسبابه وأبعاده.
(36): يا جماهير شعب الولايات المتحدة الأميركية، اتحدوا وانقلبوا على لصوص إدارتكم.
(37): بداية الكلام في بكائية الجياع والمرضى.
(38): القومية العربية بين ثوابت الفكر النظري ومتغيرات الخطاب السياسي.
(39): كلمة في المهرجان القومي في الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد صدام حسين.

(1): كلمة في مهرجان بعلبك في الأول من كانون الثاني 2007
بعد تقديمه بصفته عضو الهيئة التأسيسية لحزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي، ألقى كلمة، من أهم ما جاء فيها:
حق للقائد الثائر الشهيد صدام حسين علينا أن نذرف دمعة وفاء في مناسبة استشهاده،
لكن القائد الرمز لا يؤمن بأن الدموع تحرر الشعوب والأوطان، لا يؤمن بأن الدموع تسهم في تحرير الأمة.
لقد آمن القائد بأن السلاح الوحيد لتحريرها، وللدفاع عن كرامتها، يمر عبر المقاومة، ولا شيء غير المقاومة.
القائد الشهيد هو ابن حزب البعث العربي الاشتراكي الذي قال مؤسسه المرحوم ميشيل عفلق، منذ اغتصبت الصهيونية أرض فلسطين: فلسطين لن تحررها الحكومات العربية بل الكفاح الشعبي المسلح.
كان حزب البعث العربي الاشتراكي قد اتخذ استراتيجية المقاومة، ولم يجد غيرها بديلاً لتحرير فلسطين، ولهذا احتضن المقاومة الفلسطينية منذ انطلاقتها الأولى في 1/ 1/ 1965، ودافع عنها وانخرط مناضلوه في صفوفها.
إذا كان الشهيد الرمز يؤمن بالدموع، فهي تلك التي تنهمر من فوهات البنادق، والعبوة الناسفة، والمضادات للدروع، ولهذا حمل أول قاذفة، بعد أن قاد معركة المطار في بغداد، ليتصدى بها إلى طلائع قوات الاحتلال التي دخلت بغداد. ومن بعدها نزل إلى الخندق لكي يقود المقاومة التي وضع أسسها وحضَّر مستلزماتها.
لم يقاوم الرئيس القائد من وراء المذياع، ولا من شاشات التلفزيون، بل نزل إلى الخندق، ومن بعد الخندق قاوم الاحتلال وعملاءه وهو في الأسر، وقاومهم وهو على منصة الإعدام.
لقد راهنت قوات الاحتلال وعملائها على أن يقتلوا الملك، فتنهار رقعة الشطرنج، وتوهموا أنهم بأسر الملك تنهار المقاومة، ولكن خاب فألهم:
أسروه فاشتد ساعد المقاومة،
وأحالوه إلى المحكمة فظهرت إرادته التي استعصت على المحتلين، واشتد ساعد المقاومة.
أصدروا حكماً بالإعدام بحقه وحق رفاقه، فازداد صلابة، وتابعت المقاومة طريقها المرسوم.
ونفَّذوا به حكم الاغتيال ولم يرمش له جفن.
كان فوق مستوى البشر في آخر لحظات حياته قبل أن يصعد إلى بارئه.
ماذا أراد أن يقول في كل سلوكه؟
أراد أن يقول لرفاقه: إن من ينزل تحت سقف هذه المواقف ليس بعثياً.
وأراد أن يقول لأبناء أمته: إن من ينزل تحت سقفها فهو ليس عربياً.
لقد ترك لنا الشهيد تُراثاً كبيراً من فكره وسلوكه، وآمن بأن تاريخ الأمة زاخر بالرجال العظماء.
كما آمن بأن الأمة غير عقيمة بل إنها تنجب الأبطال باستمرار.
وإذا راهن الاحتلال، وعملاؤه، من الغرب أو من الشرق، على موته لكي يبتلعوا العراق فهم واهمون لأن المقاومة ستسمر، وزنود المقاومين لن تسترخي، ولن تستكين.
يتوهم جورج بوش أنه باغتيال صدام حسين سوف تنفتح أمامه أبواب النصر، لذا فهو يقوم بمغامرة أخرى.
إن جورج بوش مصمم على أن يتحدى إرادة شعبه الذي رفض الحرب ويتظاهر ضدها، لكن المقاومة العراقية تعتبر أن ما يعد له رئيس أكبر دولة في العالم، لن يكون إلاَّ مغامرة خاسرة أخرى، وستكون المعركة الأخيرة التي ستؤدي إلى هزيمة الإمبراطورية الأميركية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

(2): حزب البعث بعد صدام حسين
نشر في مجلة الشراع قي 22/ 1/ 2007
أول ما يتبادر للذهن عند طرح هذه المسألة هو أن نقف عند حقيقة بديهية تُعرِّف مفهوم الحزب أولاً، ومن بعده تُعرِّف الأفراد الحزبيين وأدوارهم ثانياً.
إن الحزب أصل والأفراد فروع، أما الأصل فهو كالجذع الذي تتكاثر منه وفيه الأغصان، وأما الأفراد فهم كالأغصان بعضها، وبفرادة منه وفيه، يلتحم بالجذع ويضيف إليه صلابة وقوة واستمراراً، وأما الآخرون فيعطون الثمر الذي ينمو ويتكاثر.
كان حزب البعث العربي الاشتراكي فكرة انطلقت بمبادرة من ميشيل عفلق، ونشرها في دوائر ضيقة بين عدد من المثقفين، ونمت الفكرة واتسعت، فاستوعبت بعض طلائع الأمة ممن اقتنعوا بأن الفكر الذي ناقشوه لا يمكن انتشاره إلاَّ بطريقة منظَّمة، واستفادوا من مفهوم الأحزاب، كون التنظيم الحزبي اكتسب أهمية في نضالات الشعوب في العصر الحديث، فانعقد المؤتمر التأسيسي في السابع من نيسان من العام 1947.
وتلا المؤتمر التأسيسي مؤتمرات أخرى، وترسَّخ مفهوم البعث في ذاكرة الأمة، وبنموه فرض دوره في تاريخ الفكر العربي، كما فرض نفسه في تاريخ الأمة العربية السياسي.
خلاصة القول، كان حاملو الفكرة من المتميزين في تاريخ الحزب، قادوه ورعوه وناضلوا في صفوفه، وتركوا تأثيرات فكرية وسياسية ونضالية جمَّة، اغتنى بها فكر الحزب، وتركت بصمات عميقة، لا يمكن أن يتناساها البعثيون، وبها لا يمكن لتأريخ الأمة أن يكتمل إذا لم تكن تلك التأثيرات في القلب منها.
ومن بعدها رحلوا الواحد بعد الآخر، فحياة الإنسان قصيرة، بينما حياة المتميزين في تاريخ الحزب لا يمكن حسابها بمقاييس الزمن، بل يتم حسابها بمقاييس التأثير. وكما أن استمرارية الأحزاب لا ترتبط بحياة المتميزين فيه، لأن دورتها الحياتية لا تخضع للقانون البيولوجي في الحياة والموت الذي يرتبط بولادة الإنسان وموته. فإذا كانت حياة الأفراد، متميزين أم غيرهم، مرتبطة بالقانون البيولوجي، فإن حياة الأحزاب أو موتها مرتبط بقانون التغيير والتجديد، وهي دورة حياة مستمرة مرتبطة بمدى تجديد نفسها فكرياً وسياسياً وتواصل نضالاتها، وتجديد طاقاتها البشرية بالأفراد بحيث لا تترك فراغاً بين جيل وجيل. وهذا ما يدفعنا إلى تحديد عاملين، في حال توفرهما لا يمكن للأحزاب أن تموت، وهما:
-التجديد في الفكر والسياسة بما يتناسب مع متغيرات المراحل.
-والتجديد الدائم والمتواصل في كسب الأجيال الشابة.
هكذا نفهم نظرياً أسس المفاهيم الحزبية، وهكذا نفهم العلاقة بين الحزب كمؤسسة ومناضليه كأفراد.
أما التجديد في بنى الحزب الفكرية والسياسية والنضالية، فغالباً ما تكمن في إبداعات المتميزين في الحزب، وقيادتهم له. فهو بالقدر الذي يوفِّر لهم الإمكانيات البشرية، فهم يوفِّرون له خلاصات تجاربهم وقدراتهم الفكرية، وإبداعاتهم النضالية. واستناداً إلى ذلك نجد أن هناك علاقة جدلية بين الحزب كأسلوب في التنظيم والفعالية وبين الأفراد المبدعين الذين يناضلون في صفوفه ثم يرحلون، ونرى أن تلك العلاقة بطرفيها، لا تخرج عن قاعدة أساسية، يكون الحزب فيها الأصل فهو الأول، وغيره من الأفراد هم الفرع فهم الثاني.
يرحل الأفراد ويبقى الأصل، رحل القائد المؤسس واستمر الحزب، ورحل صدام حسين وسوف يستمر الحزب. وهل يرى آخرون أن القائد المؤسس كان يرغب في رحيل الحزب الذي أسس بعد أن يرحل هو؟ وهل يرون أن صدام حسين كان يرغب برحيل حزب البعث بعد رحيله؟
لم يكن هذا وذاك، فالمتميزون في حزبهم كانوا يستمدون العطاء من حزبهم ويستقوون به، وحزبهم يقوى بهم ويستمر، فعلاقتهم أخذ وعطاء، وهي علاقة جدلية متواصلة. ولأن الحزب ليس حالة تنمو من تلقاء نفسها، فهو مجموعات من أفراد منظمين، ينمو كلما ازدادت نسبة المتميزين بينهم من المنتسبين إليه، فلا استمرار له من دونهم، فهم يتحولون بحزبهم ومعه إلى كتلة واحدة تجمع بينهما علاقة تفاعل وتواصل.
فالذي جعل الحزب يستمر بعد رحيل مؤسسه ورفاقه، وكل الذين تركوا أثراً أو أكثر في تاريخه، هو أنهم أسهموا كل من موقعه، وفي موقعه، بضخ عوامل الاستمرار لحزبهم من أجل أن يبقى حياً ولا يموت. وعوامل الاستمرار إنما هي في العمل على تجديده وإغنائه بسبل الفكر والنضال.
فكما أضاف سابقوه إضافات نوعية في تاريخ حزبهم، أضاف صدام حسين إضافات أيضاً. أما إضافاته فقد تميزت ليس بتعميق فكر الحزب فحسب، بل بتعميق تجربته السياسية، والنضالية أيضاً. فكان الأكثر إبداعاً في تاريخ الحزب:
-خاض أولاً تجربة مرحلة النضال الإيجابي بعد ثورة السابع عشر – الثلاثين من تموز، فقادها، واستفاد من أخطائها وصحَّح فيها. وأرسى أسس المشروع النهضوي العربي المعاصر، والكلام عنه كثير، ونتاجات ذلك المشروع هو أكثر مما يتصور العالم أنه قد حصل، وهو المشروع الذي استطاعت المؤسسات الاستعمارية أن ترصده بدقة، ولما اكتشفت مخاطره على مصالحها، خططت من أجل تدميره ونفذَّت مخططها في الاحتلال المباشر للعراق.
-كما خاض ثانياً تجربة النضال الميداني في مواجهة الاعتداءات ذات الألوان والمشارب المتعددة، بدءاً من مواجهة العدوان الإيراني في العام 1980، مروراً بمواجهة العدوان الصهيوني، والحد من سرعة انتشاره منذ بداية اتفاقيات كمب ديفيد، وانتهاء بتخطيطه وإعداده لمقاومة آخر عدوانات العصر باحتلال العراق، في العام 2003، التي لا تزال فصولها مستمرة حتى الآن.
إن الإضافات التي أبدعها صدام حسين وأصبحت تجربة رائدة إنما تركت في تاريخ الحزب وفكره وتجربته السياسية أثراً عميقاً، وستصبح تُراثاً لحزبه وأمته، مما لا يمكن إلاَّ اعتبارها من أهم عوامل الحياة التي ستُغنيهما معاً، كما أن التأثير نفسه سيُضاف إلى تاريخ التجربة الثورية في العالم، زاداً كبيراً، ودرساً ماثلاً في كل زوايا القضايا العربية على خصوصيتها، وإلى كل قضايا التحرر من الاستعمار على شموليتها.
ففي رحيل شهيدنا الكبير، مهما كانت الطريقة التي رحل بها، سواءٌ أكانت اغتيالاً في أسر الاحتلال الأميركي، أم استشهاداً في خندق المقاومة، أم موتاً عادياً على فراش الموت، ترك لحزبه وشعبه وأمته أسلوب فكر ونضال ما يساعدها على الحياة والاستمرار.
فبرحيل صدام حسين سيستمر الحزب، بكل تأكيد، من بعده. ولأن الحزب مؤسسة، وعلى الرغم من أنه يستمر بإبداعات المبدعين فيه، فهو مصنع للرجال والمبدعين أيضاً، فنحن البعثيون لن يفاجئنا أن يخرج صدام آخر، أو العشرات كأمثاله، كما أن حزب البعث العربي الاشتراكي سيفاجئ الآخرين، بأن قيادة الحزب في العراق مستمرة وموجودة. فليس هناك فراغ، والفراغ ممنوع في حزب أصبح مؤسسة، والدليل على ذلك يبرهن عليه واقع الأمر في العراق. لقد أسر العدو الأميركي كل القيادات المعلنة، ولم تحصل أية متغيرات سلبية على واقع المقاومة، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أن القيادات البديلة جاهزة، وستبقى جاهزة أيضاً بحيث يغيب أحدهم، لسبب أو لآخر، ليحل مكانه آخرون من مخزون هذا الحزب الذي لن تنضب ينابيعه. أما السر فليس سراً لأن حزباً كحزب البعث أصبح مؤسسة وليس تابعاً لأفراد ينتهي بنهاية حياتهم، فهو قادر على الإنتاج والتوليد حتى قبل أن يشعر بحاجة إلى تبديل أو تغيير أو ملء شواغر.
وإجمالاً، سيبقى الحزب وسيستمر بعد اغتيال أمينه العام، ولكن من المحال أن لا يكون البعثيون أوفياء للمبدعين في تاريخ مسيرتهم، وصدام حسين الشهيد سيبقى نقطة مشعة في هذا التاريخ، وسيبقى حياً في نفوس البعثيين وعقولهم، ماثلاً في تراث حزبهم الفكري والسياسي والحضاري والنضالي.
والأهم من كل ذلك، والأكثر إلحاحاً، هو أن المقاومة الوطنية العراقية، التي أسسها صدام حسين وقادها من الخندق ومن وراء القضبان، ستبقى الشعلة الملتهبة، ويقودها بعثيون أفذاذ، ولن تتوقف مسيرتها، ولن يخمد أوارها، ولن يخف وهجها وتأثيرها، إلاَّ بهزيمة آخر جندي محتل سواءٌ أتى من الغرب أم أتى من الشرق ليعود العراق واحداً موحداً، ليس ليستكمل مسيرة نهوضه الوطني فحسب، بل ليكون أيضاً الأنموذج الثوري في معركة التحرر القومي، وتحرير الأمة العربية من الاستعمار والصهيونية، وفي المقدمة منها أرض فلسطين المغتصبة.

(3): في ندوة شعبية في صور:
مواقف الرئيس صدام حسين، ورفيقيه برزان والبندر، تفوق مستوى البشر.
بمناسبة اغتيال الرئيس صدام حسين ورفيقيه، برزان التكريتي وعواد البندر، نظَّمت قيادة منطقة الجنوب لحزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي ندوة شعبية في مدينة صور، في مقر المؤسسة الوطنية الاجتماعية، حضرها بعض الكادر المتقدم للحزب، وعدد من الشخصيات الثقافية والسياسية، ألقى فيها الرفيق حسن خليل غريب عضو الهيئة التأسيسية للحزب، أضواء حول معاني اغتيالهم، بعد أن قدَّمه الرفيق محمود قاسم، مسؤول منطقة صور للحزب، بكلمة مؤثرة دعا فيها إلى متابعة مسيرتهم النضالية بكل دلالاتها ومعانيها.
ومن أهم ما جاء في كلمة الرفيق غريب، ما يلي:
إن الكلام عن الشهيد صدام حسين واسع اتساع مساحة الإبداع التي ميَّزت مراحل حياته كلها منذ أن انتسب لحزب البعث العربي الاشتراكي سواءٌ أكان بتولي قيادة الحزب أم قيادة الدولة.
كان من أخطر المهمات التي قادها هو المشروع النهضوي في العراق، بحيث يتأكد يوماً أكثر من سابقه بأنه كان يشكل الخوف الأساس، فعمل من أجل اقتلاعه كل القوى المعادية للأمة العربية، لأن ذلك المشروع وضع العراق على طريق المعاصرة بآفاق وحدوية قومية عربية. وقد عبَّرت القوى المعادية عن خوفها من خلال العدوان الإيراني الذي ابتدأت فصوله في العام 1980، ويستأنفه تحت خيمة الشيطان الأكبر في هذه المرحلة. واستكملته الرأسمالية الأميركية من خلال العدوان الثلاثيني في العام 1991، الذي أعلن فيه جيمس بيكر أن بلاده ستعيد العراق إلى مرحلة ما قبل العصر الصناعي، فنفَّذ القسم الأكبر منه في العدوان الثلاثيني، واستأنف تدميره والوفاء بوعده في العام 2003، من العدوان و الاحتلال، الذي ارتكب فيه، ولا يزال يرتكب، أكثر أنواع البشاعة وأقذر أنواع الجرائم وحشية، بحيث يشمل تدمير البشر والحجر وكل ما له علاقة بالبناء الحضاري المعاصر للأمة.
فإن كانت جوانب هذه المؤامرة واسعة وشاسعة، ولا يمكن الإلمام بأكثر جوانبها في محاضرة أو دراسة أو ندوة، فإننا سنقوم بالتركيز على المعاني والأنموذج النضالي الذي سطَّره الرئيس الشهيد ورفيقيه لكي يكون أمثولة ليس لرفاقه البعثيين والشعب العراقي فحسب، بل لكل المناضلين العرب والأمة العربية أيضاً، وليس بكونه ثائراً عربياً فحسب، وإنما بكونه رمزاً عالمياً للثورة في مواجهة الاستعمار أيضاً. أوَ ليست مواقفه البطولية، والأداء النضالي العالي للمقاومة العراقية، هما من استنهضا كل قوى التحرر في العالم؟
إسمحوا أن أحصر موضوع هذه الندوة بالكلام عن المعاني الكبيرة للحالة النضالية التي أعطى الرئيس الشهيد الأنموذج الحي عنها، ليس في التنظير لها فحسب، وإنما الذي زادها إشراقاً ومعان هو أنه طبَّقها فعلياً بنفسه أيضاَ. إن حالة الانتقال تلك وضعت القائد الشهيد في موقع الثائر بامتياز. فكيف تصاعدت المزايا النضالية للشهيد لتصل به إلى وضعه في موقع الثائر برمزيتيه العربية والعالمية؟
من أولى معالم إعداده للمقاومة الشعبية كانت ظاهرة في استراتيجية تحويل حزب البعث والشعب العراقي إلى شعب مقاتل، ابتدأت في تأسيس الجيش الشعبي في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، ومرَّت بإعداد النخب المقاتلة من الجيش العراقي، التي هي الأكثر تأهيلاً للقيام بالمهمات الخاصة، كالحرس الجمهوري وفدائيي صدام، ومنها تلك المجاميع التي أعدَّت بعناصرها وأسلحتها الخاصة، بتدريبها ومستودعاتها، لمواجهة الاحتلال الذي كان واضحاً عند القيادة حصوله في أي وقت. وهنا لا ننسى دور فرق التصنيع العسكري، التي لعبت، ولا تزال تلعب دوراً في غاية الأهمية في هذه المرحلة. وتوَّج الحزب، بقيادة الرئيس صدام حسين، تلك المراحل كلها بتجربة تدريب الشعب كله التي ابتدأت في العام 1998، وتقوم على فكرة حشد الشعب ورفع الاستعداد القتالي، وتحشيد كل الطاقات الشعبية لمواجهة العدوان المرتقب على العراق. على أن تستقطب الرجال والنساء من كل الأعمار القادرة على التدريب وحمل السلاح. فتوسَّعت التجربة، وشملت أعضاء القيادة في الحزب والدولة.
إلى هنا كانت التجربة لم تتجاوز الإعداد النظري والتأهيل الميداني، التي أسهمت تجربتيْ القادسية الثانية، وأم المعارك في الكشف عن أهميتها، ولكن الأهم من كل ذلك هي التجربة الراهنة في مرحلة معركة الحواسم، التي لا تزال مستمرة حتى الآن.
في هذه المعركة حصلت عملية انتقال الحالة النضالية الشخصية، عند صدام حسين، إلى موقعها الأكثر أهمية ودلالة. ومن أهم معانيها، أن يشرف القادة على تأهيل الآخرين وإعدادهم لممارسة الحالة النضالية شيء، وأن يمارس المخططون بأنفسهم وينفذون ما خططوا له شيء آخر.
بمراجعة وقائع تلك التجربة التي انخرط فيها صدام حسين، نستذكر الوقائع التالية:
-شارك القائد الشهيد مشاركة ميدانية في معركة المطار، وكان على رأس طلائع المقاومين ضد دخول قوات الاحتلال إلى بغداد.
-بعد احتلال بغداد نزل إلى الخندق، وقاد المقاومة منه، بعد أن أعاد تنظيم الحزب. وإن في العودة إلى مضامين رسائله التسع التي سبقت أسره في 15/ 12/ 2003، أكثر الدلالات أهمية في قيادته للمقاومة.
-حوَّل أسره إلى مأزق للاحتلال، إذ رفض الخضوع لشروط التفاوض مع قيادته، واشتدَّت أعمال المقاومة وتصاعدت.
-حوَّل مسرحية محاكمته إلى خندق آخر للمقاومة، فأفشل تلك المسرحية وأهدافها، ووضع آسريه في مواقف حرجة.
بينما ظل الأميركيون واهمين بأن ضغطهم على الرئيس صدام حسين ستعطي ثمارها، فيعلن الإذعان لشروطهم في توجيه نداء للمقاومة لتوقيف عملياتها والانخراط في العملية السياسية الهشة وغير الشرعية، ويحظى بمكاسب شخصية له ولعائلته ولرفاقه في الأسر، استخدموا وسيلة ابتزازه في الاختيار بين الموت إذا ظلَّ على إصراره، والحياة إذا ما أعلن استجابته، فأصدروا حكماً بالإعدام عليه، فاختار الموت من أجل الدفاع عن كرامة العراقيين والعرب.
وضعوه أمام حبل المشنقة ولم يهتز له جفن، فنفَّذوا به حكم الاغتيال، ففارق الحياة ببطولة، واستعاد حزبه وأمته الحياة بما ترك لهما من دروس قام بممارستها بنفسه، وما أعظمها من دروس:
لقد حدد الأرضية النضالية والسقف النضالي، وكأننا به يدعو حزبه وأمته إلى رفض النزول دونه. أوَ ليس من تكون له مثل تلك المواقف إلاَّ هو فوق مستوى البشر؟
تلك هي المعاني والدلالات التي لا شك بأنها ستبقى ماثلة في أذهان أبطال المقاومة الوطنية العراقية، من البعثيين، وكل المقاومين من قوميين وناصريين وشيوعيين ووطنيين، الذين نقلوا المقاومة وتأثيرها من أرض الرافدين إلى شوارع أميركا، ودخلت إلى مؤسسات البيت الأبيض والبنتاجون، كما إلى مؤسسات أميركا التشريعية.
تلك المعاني والدلالات كانت ماثلة في شهادة الرجال الرجال، البطلين: برزان التكريتي وعواد البندر، رفيقيْ القائد العظيم.
وستبقى أمثولة الشهداء الثلاثة هادياً ونبراساً لكل رفاقهم الذين هم على الطريق نفسها لسائرون.


(4): خذوا مالكم السياسي واتركونا نأكل من خيرات أمتنا
ودعونا نتنفَّس ثقافة نكهتها عربية
25/ 1/ 2007 حسن خليل غريب
يتبارى غربيون وشرقيون على غزو أمتنا طمعاً بخيراتها، ويزعمون بأنهم يصدرون إليها الحضارة المادية والروحية.
جعلوها فقيرة واستغلوا فقر البعض، بالمال أو بالكرامة، وكلَّفوا السماسرة بشراء الذمم بواسطة ما يحسبونها مساعدات تحمل مظاهر الإنسانية، وبواطنها الطمع والجشع والأغراض الدنيئة.
جعلوها أمة جاهلة بالروح، وكلَّفوا السماسرة بشراء الأنفس بواسطة ما يحسبون أنها وصفات لخلاصها في الآخرة، تحمل مظاهر الأخلاق، وبواطنها القتل والظلم.
وقد صحَّ القول فيهم: إنهم يقودون أمتنا، وأبناء أمتنا، إلى ما يحسبونه جنة في الدنيا والآخرة، مغلولين بأصفاد السماسرة والتجار ولصوص الهياكل المادية والروحية.
ماذا أقول لهم، وقد بلغ بي القرف حداً لا يمكن السكوت عنه، أو الكلام بهدوء وحكمة؟
وماذا عساي أن أقوله في لحظة القرف تلك، غير أن أقول:
خذوا مالكم، سواءٌ أكان حلالاً أم كان حراماً، ودعونا نعيش على طريقتنا من دون ارتهان لهذا أو لذاك.
خذوا نظرياتكم وثقافاتكم، سواءٌ أكانت تلك التي تغدق علينا وعود خلاص أرواحنا بالآخرة، أم كانت تلك التي تغدق علينا وعود خلاص أجسادنا في الدنيا.
خذوا هواءكم الذي تتصدقون به علينا، ولكل منكم نكهة لهوائه، فنحن نرفض أي هواء لا تكون نكهته عربية، كما نرفض أن تكون نكهة هوائنا مستوردة، سواءٌ أكانت نكهتها أميركية أم كانت أعجمية.
لقد سبقناكم منذ آلاف السنين بدعوات خلاص الأنفس في الآخرة، وسبقناكم منذ آلاف السنين بصياغة نظريات خلاص الأجساد في الدنيا.
لقد علمناكم أصول الحضارة، فتسابقتم على كراسي «الأستذة». والأغرب من كل ذلك، أصبحنا نحن التلامذة، وأنتم المعلمين.
لقد علمناكم أصول احترام الروح، كمتمم للجسد، فلاحقتمونا بتصدير الغيبيات.
لقد سبقناكم إلى التبشير بولادة السيد المسيح، ونشرنا تعاليم العدالة والسلام، فرحتم تبشرون بمسيح آخر سيأتي، لينشر الخير ويقضي على الشر، فملأتم الدنيا ظلماً وشراً.
لقد سبقناكم إلى التبشير بولادة النبي محمد، ونشرنا تعاليم وحدة الشعوب، فرحتم تبشرون بمحمد آخر سيأتي لينشر الخير والعدل ويقضي على الظلم، فملأتم الدنيا ظلماً وظلاماً.
فيا أساتذة العالم، من شرق أتوا أم من غرب، نصرخ بملء أصواتنا: نرفض أن تكونوا أنتم المعلمين وأن نكون نحن التلامذة. نرفض أن نتعلَّم منكم، هذا هو خيارنا الديموقراطي، ونرفض أن نتلقى خلاص أرواحنا في الآخرة على أيديكم، هذا هو خيارنا الروحي.
إنزلوا عن أكتافنا، وخذوا ثقافاتكم معكم، فلدينا من الثقافة ما يكفينا ويكفي كل البشرية.
إنزلوا عن أكتافنا، وخذوا أموالكم ومساعداتكم، ودعونا نأكل بالمال العربي، فمعدتنا لا تهضم غيره، حتى لو كان مالكم بمقادير مال هارون وقارون.
إنزلوا عن أكتافنا، وخذوا ورودكم، فنحن نرفضها. خذوها فهي مردودة إليكم سواءٌ أكانت تحمل أشواكاً أم كانت لا تحملها.
دعونا نزرع ورودنا العربية، حتى لو كانت كلها أشواك، فأشواك ورودكم لم تترك مكاناً في جسمنا إلاَّ وملأته بالجروح الثخينة التي لن تندمل. ولن يوقف نزيفها إلاَّ بلسم عربي تصنعه المقاومة العربية التي بشَّرت بها أمتنا في تاريخها المعاصر، كما بشَّرت بولادة أنبياء المحبة والسلام في تاريخها القديم.
دعونا نتنفس هواءً عربياً، فرئتنا تأنف كل هواء لا يحمل نكهة عربية. بالله عليكم، وباسم من تضحكون علينا بأنكم تحملون رسالاتهم، فنحن أدرى بثقافتهم وإراداتهم ووسائل دعواتهم أكثر منكم، أوَ لم يولدون عرباً، ويبشرون بالعربية، ويموتون على الأرض العربية؟
خذوا أموالكم التي تشترون بها ذمم من يبيع سيادة أمته وكرامتها، وارحلوا،
خذوا من تعتقدون أنهم رُسل محبة وعدالة، وارحلوا، فنحن نعرف كيف نحترم الأنبياء والأولياء والأئمة.
إن أنبياءنا ورسلنا هم من طينة أخرى، ومن عجين آخر، فهم عرب وسيبقون عرباً،
خذوا كل ما تضحكون علينا بأنكم تصدِّرونه من أجل صلاحنا، وارحلوا عنا، وارحلوا عنا، وإياكم أن تعودوا لتبيعوا الحضارة في بلاد الحضارة، وأن تبيعوا الدين في أرض كرَّمها الله بالدين.


(5): المشهد العراقي في كانون الثاني 2007
طليعة لبنان الواحد عدد كانون الثاني 2007
كلَّل حزب البعث العربي الاشتراكي مسيرته النضالية، في أواخر العام الماضي، بتاج الشهادة الكبرى التي قدَّمها مهراً لأمته، القائد صدام حسين، وتبعه في قافلة الشهداء المناضليْن البطلين: برزان التكريتي وعواد البندر، فبشهادتهم، وشهادة من سبقوهم من رفاقهم، تلألأ جبين البعث بالمزيد من جواهر النضال والجهاد ودررهما. وبالإضافة إليهم، وإذا ما حنينا رؤوسنا إجلالاً لكل شهداء فصائل المقاومة الوطنية العراقية، من إسلاميين، ووطنين، وقوميين، وشيوعيين... أفراداً وجماعاتٍ وأحزاباً، نشاهد العراق العظيم يعتمر على هامته الناصعة أحلى تاج يضعه على رأسه، وهو أن العراقيين بكل تعددياتهم الحزبية، وتعددياتهم العرقية والدينية، قد رسموا أسمى مبادئ الديموقراطية الراسخة على قواعد الدفاع عن كرامة العراق والموت في سبيل المحافظة على سيادته. وبرهنوا على أن رومانسيتهم في حب الوطن على طريقتهم، ترتقي إلى مصاف العلمية والموضوعية، كما برهنوا «أن الوطن هو حب قبل كل شيء».
لم يقف الرومانسيون العراقيون، بأكبر اصطفاف وطني، ليبكوا أطلال البنى التحتية التي دمَّرها الاحتلال ومطاياه من الخونة، بمساعدة كبرى من الجار الإيراني الذي يجب أن «نفتِّش عليه قبل الدار»، كما لم يقفوا نادبين ما يفتعله من شروخ قومية ودينية، بل رفعوا السيف لقطع دابر من دمّر ومن شرخ، ومن أسعف «الشيطان الأكبر» بتمهيد دروب الاحتلال والتدمير وافتعال الشروخ.
لم تكن وقفة أبطال العراق رومانسية، بل كانت تصب في قلب الموضوعية والمعادلات العلمية، وبرومانسيتهم صفعوا كل معادلات حكماء ليبراليي العرب الذين يفكرون بالعقل الاستعماري الذي يدعو القوميين العرب إلى طلاق بائن مع الكرامة والحرية السيادية. وهم، الليبراليون، بما يمثِّلون من انسلاخ عن تقاليد الكرامة القومية، كأعلى مبدأ من مبادئ الإنسانية، كانوا يسخرون من ضعف رومانسية الرومانسيين، وقوة حجتهم، والآن يسكتون صامتين مذهولين من قوة صوت الرومانسية وضعف صوت حكمتهم التكنولوجية الهائلة التدمير.
بندقية الكرامة تهزم أكبر مشروع امبراطوري في القرن الواحد والعشرين
على وقع صوت رصاص البنادق الرومانسية ينخفض صوت النصر الذي أعلاه جورج بوش، ويضعه في مواجهة مع معركتين: معركته مع الشعب العراقي، ومعركته مع الشعب الأميركي.
وإذا كان من الجدير التذكير بتأثيرات مقاومة الشعب العراقي على أرض العراق، فإن من أهم تأثيراتها أنها نقلت المعركة إلى الشارع الأميركي، ودخلت إلى كل مؤسسات الولايات المتحدة الأميركية الفكرية والسياسية والعسكرية والتشريعية، تلك التي رصدنا بعض تفصيلاتها في تقارير (طليعة لبنان الواحد) السابقة، وقد تراكمت تفاعلات ردود فعلها، من خلال نصائحها التي قدَّّمتها إلى جورج بوش، الناطق باسم «اليمين الأميركي المتطرف».
-ذكَّرته نتائج الانتخابات النصفية، لكنه لم ير ولم يسمع.
-وذكَّره جيمس بيكر، كبير المقرَّبين من والده بمخاطر مغامرته في العراق، فأصمَّ أذنيه وأغلق عينيه.
-ذكَّرته القيادات الميدانية في العراق، عسكرية وسياسية، ومن أهمهم زلمان خليل زاده، وجورج كايسي، بأن استراتيجيته الجديدة لن تكون أكثر من ديكور لتجميل قراره، لكنه قرَّر ألاَّ يسمع ولا يرى.
لكنه قرَّر أنه «صاحب القرار في العراق»، فألغى، بديموقراطيته مفاعيل نتائج الانتخابات. وقرَّر إلغاء المبدأ الأخلاقي الذي يقول: «إن صديقك من صدقك». وردَّاً على نصائح القيادات الميدانية قرَّر إقالتهم من مواقعهم وعيَّن بدائل عنهم، ممن لهم أقبح الوجوه، كمثل (نيغروبونتي).
فبعد أن أقال كل من أسهم في احتلال العراق، وبعد أن استقال بعض روَّاد المشروع طوعاً وقرفاً وقناعة بأن مشروعهم يشرف على الهزيمة، أعلن جورج بوش استراتيجيته «استراتيجية النصر»!!! بإرسال عشرات الآلاف من جنوده إلى مقتلة جديدة، وبشر بها خاصة وأنه قد دعا الأميركيين للصبر لأن لنصره ثمناً عليهم أن يدفعوه، وقد صدق بقوله لأن القديم من جنوده، كما الجدد، سيتعرضون للموت على أيدي أبطال المقاومة الميامين.
لم ينس جورج أن يطلب النجدة من «كافور زمانه» «المالكي»، عبده ومنفِّذ جرائمه وجرائم «جار العراق»، فمحضه الثقة. بينما نتساءل كم من القوة يمتلك عبد عجزت قوة سيده المطلقة عن أن تفعل شيئاً.
كما لم ينس طلب العون من منظومة دول الخليج الرسمية، التي لا تستطيع الدفاع عن نفسها، فكيف بها تساعد من كانت تراهن عليه لحمايتها؟
بندقية الكرامة على طريق حسم المعركة ضد أعداء العراق والأمة العربية
قرَّر حاكم أميركا، الذي أصمَّ أذنيه عن سماع صوت الأكثرية من شعبه، على طريقته الديموقراطية الذي وعدنا بتصدير المليارات من أطنانها.
قرَّر حاكم أميركا الذي أصمَّ أذنيه عن سماع أصوات الأمهات الأميركيات المنددات بموت أبنائهن في حرب غير شرعية.
قرَّر أن يرسل عشرات الآلاف منهم إلى مذبحة جديدة ليعود بهم في توابيت صنعتها شركاته العملاقة ولم تستطع بيعها حتى الآن.
قرَّر «صاحب القرار في العراق» البدء بمغامرته الأخيرة، رافساً برجله معارضة الشارع، ومطالبة المؤسسات الدستورية بالانسحاب من العراق، ونصائح القيادة العسكرية الميدانية التي أقالها، ومعارضة العشرات من أبرز قيادات حزبه الجمهوري، قرَّر أن يكون الديموقراطي الوحيد في العالم، والمُرسَل «الإلهي» الوحيد الموكولة إليه رسالة تخليص البشرية مما يسميه «إرهاباً» واجتثاثه، لقد قرَّر ذلك في مرحلة تُعتَبر من أكثر المراحل ضعفاً في تاريخ رئيس للولايات المتحدة الأميركية.
وفي المقابل قرَّرت المقاومة العراقية أن تستمر في معاركها ضد التحالفات كلها، التي لا ترى عدواً لها سوى حزب البعث العربي الاشتراكي وقيادته التي يمثلها الشهيد الرمز صدام حسين:
1-معركة الحسم ضد الخصمين اللدودين الاحتلال الأميركي والإيراني
يعرف جورج بوش، كما يعتزُّ المسؤولون الإيرانيون، أنه لولا «إيران لما استطاعت أميركا أن تصل إلى كابول وبغداد»، لكنه الآن يدخل في مغامرة جديدة للدخول إلى بغداد من دون مساعدة إيران، بل هو يشتبك معها، في أكثر من مكان، إلاَّ أن يستجيب لشروطها. أما شروطها فهي الرضوخ إلى الاعتراف بأطماعها في بناء شرق أوسط جديد تنسجه على مقاييس مشروعها الإيديولوجي. ذلك المشروع الذي يقف على حدود العداء التام مع حقوق الأمة العربية ومصالحها، ومن أهمها أن تتجزَّأ الأمة وتتفتَّت إلى دويلات طائفية، وبها تنال الدولة الإسلامية بالمفهوم الإيراني حصتها المذهبية، وبمثل هذا التقسيم أيضاً تنال «إسرائيل» اعترافاً بها كـ«دولة يهودية».
ففي منطق الاستغلال والميكافيلية، يتشابه المشروعان الأميركي والإيراني، فكلاهما يستندان إلى نظرية الظهور الإلهي. وتلك النظرية تتجاوز حكماً مصلحة العرب في بناء وحدة فكرية أو سياسية، لأن الفكر الوحدوي القومي يتناقض تماماً مع المشروعين معاً.
تعتبر المقاومة الوطنية العراقية، تطبيقاً لمنهجها الفكري والسياسي الواضح والمعلن، أن كل قوة تعادي الفكر القومي العربي تقع تحت مرمى نيرانها. وهي تضع استراتيجية النظام الإيراني في موازاة استراتيجية الاحتلال الأميركي إلاَّ إذا تراجعت إيران عن عدائيتها لعروبة العراق ووحدته. وفي الحال التي يحصل فيها التراجع والمراجعة ، ستكون يد المقاومة العراقية ممدودة لـ«الجار» الإيراني للتعاون والتنسيق والمشاركة ضد الاحتلال الأميركي، ولاحقاً لمواجهة أية نوايا عدوانية تبدر منه تجاههما معاً أو واحداً منهما على قاعدة اعتبار الصراع مع الرأسمالية والصهيونية تمثِّل التناقض الرئيسي لهما، ولا تناقض يسبقه.
فهل يحصل ذلك؟
يبقى الجواب متعلقاً بالجانب الإيراني، والكرة في ملعبه. وليس لنا إلاَّ أن نتمنى وندعو. والدعوة مشروعة بدعوة الظالم إلى الكف عن ظلمه حتى يستجيب. ومن واجبات جميع العرب، سواءٌ أكانت الأمور واضحة عندهم بأن النظام الإيراني يمارس أشد أنواع الظلم على العراق أم كانت غير واضحة، أن يقولوا «كلمة حق في وجه ظالم» حتى يفيء إلى أمره.
2-معركة الحسم ضد الصديقين: الاحتلال الأميركي وعملائه
دخل جورج بوش العراق على أكتاف العملاء والخونة، وحملهم على دباباته، فأذعنوا لأوامر وليَّ أمرهم، وانصاعوا لتعليماته وهم صاغرون. ولما كشفت قوة المقاومة عن ضعفه، وصغَّرت شأنه، استهان به حلفاؤه وبخاصة النظام الإيراني، والخائفون منه وهم كُثُر، وراحوا يمارسون الابتزاز عليه، وتقاسموا معه العملاء والخونة فأصبحت كل فرقة منهم حصة لطامع ومعتد. لقد احترقت أوراق الكثيرين من العملاء، فقد أفلس بعضهم من تجميل وجه الاحتلال، وأقال الاحتلال بعضهم الآخر لأنهم لم يخدموه بما فيه الكفاية. واستمرَّ البعض. لكن من استمر منهم انقلبوا عليه، واستقووا بإسنادات إيرانية، وهم ممن ركبوا سفينة الطائفية والمذهبية والعرقية، واستطاعوا أن يوفِّقوا بين عمالتهم للاحتلال الأميركي لإسقاط نظام حزب البعث العربي الاشتراكي الوطني، وعمالتهم للنظام الإيراني لأسباب طائفية. وإلى هؤلاء ينتسب نوري المالكي، رئيس حكومة العمالة المزدوجة بين الاحتلال الأميركي والإيراني. فخضع جورج بوش للأمر الواقع، وهو الآن يقف في مواجهة عميله المالكي كما يقف الند في مواجهة نده.
فهل يمكن للعميل المرتزق، العميل الطائفي، أن يسند الاحتلالين معاً؟ وأين يقع في خريطة استراتيجية المقاومة؟
بلا شك بأن ما ينطبق على أصل الشر ينطبق على الذنب، وأن مقاومة رأس الاحتلال لن تستثني كل ما له علاقة به، واستنتاجاً بأن الانتصار على الأصل انتصار على إفرازاته. وكما أن معادلة موازين القوة تنص على أن منع القوي من تحقيق أهدافه، تجعل منع الضعيف عن تحقيق أهدافه ليست بالعسيرة. وإذا كانت المقاومة حققت أكثر النتائج أهمية في إثخان جسد الاحتلال الأميركي بالجراح وجسد عملائه، وهو محميٌ من إيران وعملاء إيران بملاحقة المقاومين وقتلهم، وهو مُغرَقٌ بمساعدات أنظمة عربية وإقليمية ومشاركتهم، فهي ليست عاجزة عن إثخان جسد الاحتلال الإيراني بالجراح وجسد عملائه، بمفردهما، إذا ما أصرَّ وعاند على متابعة المعركة ضد أهداف المقاومة الوطنية العراقية.
يكفي أن نشير في معرض تحليل هذا الجانب، إلى أن دخان الخلاف الذي يتصاعد من مداخن البيت الأبيض، ومداخن الحكومة العميلة، ليس أكثر من دلائل تؤكد وجود الخلاف بين عصابات اللصوص عندما يعجزون عن النجاح في سرقة ما، إذا ذاك يعمل كل منهم على تحميل مسؤولية الفشل للآخر. إن الخلاف بحساباتنا سيتعمَّق وستزداد الفجوة بينهم حينما تتبخَّر نتائج حملتهم الأمنية الراهنة، التي من أجلها قرَّر جورج بوش استقدام مزيد من الجنود إلى العراق، ستتبخَّر كما تبخَّرت نتائج سابقاتها التي باءت بالفشل.
3-معركة الحسم ضد أوهام الإقليم ورهاناته
دخل جورج بوش إلى العراق، بينما لم تكن تركيا، حليفه الأهم في المنطقة، تعرف أن المخاطر التي ستُحدق بها نتيجة الاحتلال ستكون بالحجم الذي هي عليه الآن. فمانعت في البداية عندما رفضت حكومتها دخول قطعات من الجيش الأميركي إلى شمال العراق عبر الحدود التركية. ولما أخذت الحكومة التركية تتلمَّس حجم المخاطر الاستراتيجية التي ستحدق بها نتيجة تقسيم العراق علا صوتها، وأعلنت أنها لا تستطيع بعد الآن السكوت على تقسيمه. وكلما غرق العراق أكثر في بحور الفوضى والانفلات الأمني، وهو مفتوح على هذا الواقع، كلما ارتفع جدار المخاوف التركية، وكلما تمسَّكت تركيا بمبدأ إعادة توحيد العراق. ونحن نعتبر أن الموقف التركي سيكون الأكثر حدَّة والأكثر نشاطاً في المراحل القادمة، ألا يقول المثل: «إن الباب الذي يأتيك منه الريح إقفله واستريح»؟
هذا هو حال الموقف التركي الآن، لأن استقرار الأمن التركي الاستراتيجي مرتبط بمنع قيام دولة كردية انفصالية في شمال العراق، ولهذا نعتبر أن الموقف التركي هو ما يجب أن تقابله الأنظمة العربية بمواقف مماثلة.
4-معركة الحسم ضد الاحتلال وأوهام أصدقائه العرب
دخل جورج بوش العراق، بينما كانت أنظمة الخليج تراهن على أن الاحتلال الأميركي للعراق سيُخلِّصها من التجاور مع نظام حزب البعث العربي الاشتراكي، بقيادة صدام حسين، وبالتالي سيحميها الوجود الأميركي الطويل الأمد من مخاطر وصول إيران لتربض على كتف حدودها الشمالية.
وكما فشلت أوهام جورج بوش، تبعثرت أوهام أنظمة الخليج وغيرها. فلم تمض أربع سنوات على الاحتلال حتى تبخَّرت أوهام الواهمين. وإن الأنظمة فيها تعيش اليوم أزمة حادة، فهي ليست قادرة على رفض مغامرات جورج بوش، وليست قادرة على السكوت عنها. فقد تقزَّم الحامي المفترض إلى طالب للحماية، وتحول منقذ تلك الأنظمة من الغرق إلى طالب منهم قشة الإنقاذ.
لقد ساعدت تلك الأنظمة إدارة جورج بوش، بالمال وتقديم التسهيلات اللوجستية، ونامت على موسيقى حلم سعيد، ولكنها استفاقت على واقع موسيقى أخرى تنبئ بالويل والثبور. وهي استكمالاً لمرحلة الإذعان أصدرت بياناً تؤيد فيه مغامرة بوش الأخيرة، ونحن نؤكد بأن تلك الأنظمة لا تصدق أن جورج بوش سيفلح ببضعة آلاف من الجنود في الوقت الذي عجزت فيه مئات الآلاف منهم عن إنقاذ حلمه من الموت والهزيمة، وإنما حالة الخضوع والركوع أصبحت عادة متأصلة بالذين يطمعون بالمحافظة على كراسيهم وتكديس الثروات الهائلة، حتى ولو كانوا تحت حماية عدو العرب والإنسانية.
إلى أين سيتهرَّب هؤلاء من قدرهم؟ فهذا قائدهم الأعلى لا يستطيع حتى حماية نفسه، فمن يحميهم من المشروع الإيراني القادم إليهم على حصان وصاية جديدة، وهيمنة جديدة، واستكبار جديد، وتمزيق ما عجز الاحتلال الأميركي على تمزيقه؟ مشروع لا يمكن أن ينبني إلاَّ على أشلاء الأمة. فطريقه وأهدافه هو غير طريقها وأهدافها.
تلك الحقائق لن تمر من دون موقف جدي عاجل تقفه تلك الأنظمة، إلى جانب موقف تركيا، تمنع فيه تقسيم العراق، وتساعد وتشارك في إعادة توحيده. وعلى أن تعي أن مشاركتها الحالية القائمة على استنهاض الشعور المذهبي لمواجهة الواقع المذهبي الآخر، لهو إغراق جديد للعراقيين في مشاكل لن تنتهي، كما هو تعميق للغرق في التفتيت والتقسيم.
ولا نحسب أن أي نظام عربي آخر مُستثنى من تلك الدعوة، فمن كان غارقاً في مساعدة المشروع الأميركي، كالنظام الأردني، عليه أن يبدأ بمراجعة خطأه والعودة إلى الصواب. وعلى من كان من النائين بنفسه عن المشروع الأميركي، كالنظام السوري، أن يحذر من الوقوع في الأفخاخ المنصوبة له، فليس لدى جورج بوش ما يعطيه لأحد، فهو سيرحل من العراق، وسيرحل عن كرسي «من يأمر وينهى» بشكل يتزامن مع هزيمته التي تلوح راياتها على أرض الرافدين. وهو الآن يمر بأضعف مواقعه بالتأثير على الكيان الصهيوني، هذا إذا كانت لديه مواقع في التأثير حتى وهو في أعلى مراحل القوة. كما أن المراهنة على بناء علاقات مع عملاء الاحتلال الأميركي في العراق، حتى لو كانوا حلفاء لحليفه الإيراني، ليس في مكانه ولا في زمانه، فمشروع إيران الإيديولوجي لن يكون في مصلحة وحدة الأمة العربية على الإطلاق، وهو حتماً لن يصب في مبدأ حماية وحدة الشعب السوري وأرضه.
5-المقاومة تنتصر في معركة تنظيم صفوفها واستئناف نشاطها
لقد راهنت الإدارة الأميركية، والنظام الإيراني، ومعهما تحالف الأنظمة العربية الرسمية، وضعفاء النفوس ممن كانوا محسوبين على حزب البعث والمقاومة، وكل السائرين في ركاب من قمنا بتعدادهم، على أن حسم المعركة ستكون باغتيال صدام حسين ورفاقه، لكن الذي تأكَّد لدينا أن قيادة الحزب والمقاومة في العراق، بمباركة وتأييد قوميين، حسمتا مسألتين معاً، وهما:
أ-الحسم السريع في إعادة ترتيب الوضع التنظيمي في العراق، على قواعد النظام الداخلي وأسسه.
ب-واشتداد نار المقاومة اشتعالاً، كماً ونوعاً، بالإضافة إلى أنها اكتسبت عاملاً جديداً تمثَّل في تحويل العراق إلى مقاومة شاملة، لا تميِّز فيها بين المقاوم الملتزم والمواطن العادي.
فليطمئن الخائفون على مصير حزب البعث العربي الاشتراكي وقيادة المقاومة، لأن من أسَّس لأعظم مقاومة في التاريخ، لن يعجز عن لمِّ شمل الحزب وإعادة تنظيمه ليتابع مسيرة التحرير والاستقلال.
فالمواجهة التي تنفذها المقاومة بأداء وتضحية عاليين، ليست من السهولة بمكان. وهي إذا كانت ليست معبَّدة بالورود، بل بالعرق والجوع والجرح والدم والروح، فهي سهلة لأن وقودها جاهز في نفوس كل المناضلين يُعطي فيها القادة الأنموذج عندما يتصدَّرون طلائع المناضلين في تقديم أرواحهم بشجاعة وكبرياء.
فالمقاومة اليوم تتصدى لآخر مغامرات جورج بوش، كما تصدت لمغامرته الأولى، وهي عاقدة العزم على الاستمرار على الرغم من أن وحوش أميركا وعملائهم ومرتزقتهم دخلوا بمغامرتهم الجديدة عاقدين العزم على ارتكاب كل أنواع الوحشية والإرهاب، فكبر الخسارة التي ينتظرها أركان الإدارة الأميركية تبرِّر، في نظرهم، كل وسائل الوحشية وبشاعتها.
لكن المقاومة زادت من نشاطها بما جعل جورج بوش يستقبل جثث أكبر قادته العسكريين في العراق قبل أن يعلن خطته الأمنية الجديدة ويقوم بتطبيقها مع أركان حكومته العميلة في العراق.
فهل بعد ذلك يصمد الليبراليون على حكمتهم؟
وهل بعد ذلك ستنتصر مغامرة بوش الأخيرة؟

(6): مقابلة مع مجلة الوطن العربي
نُشرت بتاريخ 2/ 2/ 2007
تناول الباحث والكاتب حسن خليل غريب جملة من المواضيع الفكرية ذات العلاقة بالفكرين الديني والقومي وحاول استشراف مستقبل العلاقة بينهما على أسس موضوعية.
وقد أصدر عن تلك المسائل سبعة كتب من أهمها، كتابا «الردة في الإسلام» أضاء فيه على تكوين المذاهب الإسلامية، تحليلاً تاريخياً، ونقداً نصياً لعوامل الخلافات بينها. كما حاول أن يقرأ تكوين القومية العربية التاريخي، ودور الإسلام فيه، في كتابه (نحو علاقة سليمة بين العروبة والإسلام)، وفيه أطلَّ على المرحلة الحديثة والمعاصرة، وعمل على تحديد أسس الصراعات بين قوى ثلاث (الحركات الإسلامية، والماركسية، والقومية)، تلك الصراعات التي لا تزال تلعب دوراً سلبياً في تسريع التكوين الوحدوي السياسي للأمة العربية، ودوراً سلبياً في إعاقة حالة المواجهة مع القوى المعادية للأمة العربية. وكان آخر إصداراته كتاب «الجريمة الأميركية المنظمة في العراق»، بعد أن سبقه كتابا: «المقاومة الوطنية العراقية: معركة الحسم ضد الأمركة»، و«المقاومة الوطنية العراقية: الامبراطورية الأميركية بداية النهاية».
كان لمجلة الوطن العربي في بيروت لقاء معه، تركَّزت وقائعه عن رؤيته للواقع الفكري السائد الآن، وعن تطلعاته إلى آفاق المستقبل.

الوطن العربي: في أجواء الأمة العربية الساخنة تلاحظ بوضوح برودة زائدة في الحركة الفكرية القومية، إلى ماذا ترد السبب؟
-إن سخونة الأجواء السياسية في السماء القومية العربية يترافق مع سخونة ونشاط في الأجواء الفكرية المعادية لمصالح الأمة العربية التي تهب عليها من الخارج أو بتأثير منه وتشجيع، مترافقاً مع سخونة من حالات العداء الفكري الموجَّه من بعض الحركات السياسية والحزبية العربية إلى القومية العربية، محتوى فكرياً وسياسياً. أي أن حركة الفكر العربي التي تروِّج لـ«التغريب الثقافي» تتفق من دون تنسيق أو لقاء مباشر مع بعض حركات الفكر العربي التي تتجه به خارج الإطار القومي لتجعل منه فكراً أممياً، وهو الذي تمثله بعض الأصوليات الفكرية الدينية والعلمانية الأممية. أما الأصولية الأولى فاتخَّذت وجه الحركات الدينية السياسية، وأما الثانية فاتَّخذت وجه الأممية الماركسية.
إن حالة الافتراق الفكري بين تيارات عربية أساسية ثلاث، القومية والدينية السياسية والماركسية العلمانية، تجعل الأمة أقل حصانة في مواجهة موجة التغريب، كما تجعل منها أكثر ضعفاً في المواجهة مع الخارج، وفي هذه الحالة الكثير مما تستفيد منه القوى الراغبة في الهيمنة على الأمة والاستيلاء عليها عبر أكثر من وسيلة ومن أهمها اجتثاث الفكر القومي.

الوطن العربي: تبدو كأنك في واد وواقع الأمة في وادٍ آخر. تخوض الأمة مواجهة عسكرية وسياسية، تتطلب توفير إمكانيات عسكرية وسياسية، فهل الخوض في مسألة التوحيد الفكري توفر للأمة دبابات ومدافع؟
-إن العدوان القادم من الخارج له إستراتيجيته العسكرية لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية، ويستخدم لتحقيقها كل أسلحته العسكرية والإعلامية والثقافية والفكرية أيضاً، ولن يستطيع ذلك إلاَّ إذا قضى على توق الجماهير العربية إلى الوحدة السياسية، وهذا لن يتم إلاَّ بتبديل الثقافة الوحدوية بثقافة أخرى تناصبها العداء. وتتعاون كل تلك الوسائل من أجل تبديل الفكر الوحدوي ويكمِّل أحدها الآخر، ومن أهم البدائل التي يستخدمها تفتيتية المذاهب الدينية، وكل فكر عابر للقومية. إن التكامل بين وسائله يعني أن جوهر استراتيجيته الفكرية تعمل على أساس تعميق حالة التفتيت السائدة في الأمة من أجل إضعاف وحدتها إن لم يكن إلغاءها، خاصة وأن مظاهر التفتيت وواقعه يكمن في أكثر زاوية: تبتدئ بحالة التمزق المذهبي وثقافة المذاهب، وتمر بحالة التقسيم القطري وثقافة التجزئة السياسية، لتنتهي عند التصارع بين المذاهب الفكرية الكبرى بين قومي يدعو إلى تغليب المصلحة القومية بوحدتها في المواجهة، وأممي ديني وماركسي يقفز فوق الأطر القطرية والقومية ليتعامل مع قوى خارجية تتناقض مصالحها مع المصلحة القومية.
ألا ترى معي أن التفتيت الحاصل بين التيارات السياسية والفكرية الكبرى ينعكس على وحدة المواجهة؟
ألا ترى أن الثقافة القطرية تُبعد القطريين عن هموم وقضايا قطرية أخرى، هذا إذا لم تنتصب خنادق العداء أحياناً بين قطر عربي وقطر عربي آخر، بحيث ينشغل كل قطر بهموم الوطنية وحدها؟
ألا ترى أن الثقافة المذهبية، التي تغلِّب الدفاع عن المذهب على الدفاع عن الوطن، تدفع بالغارقين فيها إلى التعاون مع قوى خارجية ولمصلحتها على حساب مصالحهم وسيادة دولتهم الوطنية؟
إننا نرى بناء على ذلك أن مضمون الثقافة، المبنية على وحدة الفكر القومي والوطني، هي شرط أساسي من شروط المواجهة مع قوى العدوان القادمة من الخارج.
فإذا كانت هذه النتيجة تتوافق مع الفكر الموضوعي النظري، فإن الواقع السائد الآن، يبرهن على صحتها، ومن أهم مظاهرها أن الكثير من الحركات الدينية السياسية تقع في أخطاء التحالفات على حساب أوطانها. فتكون من أهم نتائج تلك الأخطاء أن التعدديات الفكرية تحول مسار المواجهة مع الخارج إلى مسارات المواجهة بينها في الداخل.
واستناداً إلى ذلك لا نرى خلاصاً من حالة التشرذم في المواجهة الدائرة الآن إلاَّ بالانتقال إلى وحدة الفكر، وليس هناك من خلاص إلاَّ بوحدة الفكر على الصعيد القومي.

الوطن العربي: ولماذا تدعو إلى التوحيد على قاعدة الفكر القومي وليس على قاعدة الفكر المذهبي أو الديني أو الأممي الماركسي؟
-من البديهيات أن نرى أن كل مجتمع تعددي يتطلب استراتيجية موحَّدَة تلبي مصالح قوى التعدد فيه، وليس مصلحة فئة واحدة. ولأن ثقافة كل فئة تتعارض، أو تتناقض أحياناً كثيرة، مع الثقافات الأخرى، ولأنه لا يمكن تجزئة المجتمعات الوطنية أو القومية إلى دويلات لكل منها قوانينها الخاصة، فلا يمكن إذاً أن يكون الحل إلاَّ بقوانين عامة تضمن مصالح الجميع، كما لا يمكن على المدى الطويل أن تنصهر تلك التعدديات في مجتمع واحد متماسك إلاَّ بوجود ثقافة واحدة. ومنطقياً لا يمكن أن تكون هذه الثقافة واحدة إلاَّ على قاعدة توحيد الفكر. ولأن ثقافة المذاهب الدينية تشد المذهبيين إلى مرجعياتهم المذهبية حتى لو كان على حساب الانشداد إلى وطنهم، وتشد الأمميين إلى مرجعياتهم الأممية حتى ولو كان على حساب أوطانهم، فهل بعد كل ذلك يجوز ألاَّ نحصر وحدة الفكر إلاَّ بالفكر الوطني أو القومي؟

الوطن العربي: وماذا يبقى للحركات الدينية، أو للطوائف الدينية، من تعاليمها؟ وهل تتنازل هي عنها؟ وأين موقع الدين في الدولة القومية أو الوطنية؟
-إن علاقة الدولة القومية بالدين هي من الإشكاليات الصعبة التي تعاني من البحث فيها تيارات الفكرين القومي والديني ممن يولون اهتمامهم بالتوفيق بينهما. وعلى ضوء النظر إلى حدود العلاقة بين الفكرين، بما يجعل المسافة بينهما أكثر قرباً، نرى وجوب ضمان وجود عاملين أساسيين، وهما:
1-الاعتراف المتبادَل بسلطة كاملة للدولة القومية على المجتمع القومي سياسياً واجتماعياً واقتصادياً.
2-توفير ضمانات تطمئن المتدينين إلى أن عقائدهم لن تتعرَّض للانتقاص من حقوقها أو منعها من ممارسة طقوسها، بل احترامها وحمايتها.
الوطن العربي: كيف نظرت أنت، من خلال أبحاثك، إلى تلك الإشكالية؟
-من البديهيات التي على التيار الديني أن يعترف بها، هو أن عصر الدول الدينية قد انتهى بانتهاء مرحلة التوسع الإمبراطوري، وبدأ عصر جديد هو عصر الدولة القومية. فعصر الدولة القومية أصبح بديهياً لأن قوانين العالم أصبحت محكومة بمفاهيم العولمة. وعلى الرغم من رفضنا للشوائب التي ترافق تطبيق العولمة والنظر إليها، فإن المؤسسات الأممية والإنسانية تعمل على قوننة العلاقات بين الدول، وتُخضِع تلك العلاقات إلى تشريعات وقوانين موحَّدة تقوم هيئة الأمم المتحدة بضمان تطبيقها وحمايتها. ومن أهم أحكامها الاعتراف بسيادة الدول على أراضيها، بحيث يُعتَبر أي اختراق لها منافٍ للتشريعات الأممية، وتُلزم، مبدئياً، منظومة الدول بالدفاع عن أراضي الدولة التي تتعرَّض للعدوان.
ونتيجة لذلك يصبح من المحال أن تفكر أية حركة دينية، ممن يعتقدون بقيام دولة دينية عالمية، أن تبنى دولة دينية مكتملة الشروط الأممية. أما استراتيجيتها ببناء دولة دينية، داخل حدودها الجغرافية المعترف بها دولياً، تحكم بفقه المذهب الحاكم، ففيه من الصعوبات الكثيرة التي يُعتبر عامل العدالة والمساواة مفقوداً بين التعدديات الدينية التي لا تخلو منها أية دولة.
أما عن كيفية العلاقة بين قوانين الدولة القومية وتشريعاتها، من وجهة نظرنا القومية، وبين تطبيق قوانين وتشريعات تحفظ للتعدديات الدينية حقوقها، فتنطلق من الاعتبارات التالية:
1-إن معرفة مصير الإنسان بعد الموت هو من أكثر الإشكاليات حدة، ومن أكثرها تأثيراً في التاريخ البشري. وقد لعب العامل الديني، ولا يزال يلعب، التأثير الكبير على ثقافة البشرية منذ وجود الإنسان على الكرة الأرضية حتى الآن. سواءٌ أكان الأمر يعود إلى التاريخ السحيق أم التاريخ المعاصر. ولهذا لا يمكن لأي فكر أن يلغي الدين كأكثر الحاجات الروحية الضرورية للبشر. فالدين، إضافة إلى ذلك، كان من أكثر القضايا الفلسفية انتشاراً واهتماماً به. فلهذا السبب يُعتبر إلغاء الظاهرة الدينية ضرب من ضروب المستحيل. وهذا ما أراه صالحاً ليشكل عامل التطمين الأول للمتدينين.
2-في عصر العولمة من ضمن ظاهرة انتشار مئات الأديان أيضاً، أصبح من المستحيل أن تفرض دولة ما نظاماً دينياً أحادي الجانب، فمن يريد أن يفعل ذلك، لا يمكنه أن يتجاهل القوانين والتشريعات الأممية التي تُلزم الحكومات أخلاقياً بالاعتراف بحقوق الأديان والمذاهب من غير الدين أو المذهب الحاكم.
3-في الدولة القومية، المتعددة الأديان والمذاهب، تعترف الدولة القومية بحرية الاعتقاد الديني وتحترمه وتحميه، لكنها لا تستند في أنظمتها وتشريعاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى فقه الأديان والمذاهب وتشريعاتها الخاصة، إلاَّ إلى كل ما هو مشترك ويتعلق بالقيم الإنسانية العليا، وتكافح كل ما فيه من تعاليم ومعتقدات تتسرب منها عوامل التفرقة بين أبناء المجتمع الوطني أو القومي الواحد.
الوطن العربي: لكن هل هناك حركات دينية لا تزال تعمل من أجل بناء أنظمة دينية سياسية؟
-إن الحركات الأصولية الدينية، تنتشر في شتى المجتمعات، وفي شتى الأديان. والكثير منها، سواءٌ أكان في الشرق أم في الغرب، تنشط من أجل إحياء مشاريعها مما تستند إلى تسميته بـ«الأوامر الإلهية» لخوض المعركة الأخيرة بين ما تسميه «قوى الخير، وقوى الشر»، وتلك مظاهر تبرز واضحة فيما يدور من صراعات دموية تشهدها أمتنا العربية بشكل خاص، وتشكل المسرح الأساسي لها.

الوطن العربي: ولكن هل يمكن الوصول إلى حلول لتلك الصراعات الدينية؟
-إن فكرة ما يعتبرونه مقدَّساً، المتغلغلة في دعوات تلك الحركات، هي السبب في ذلك. ولكل حركة منها مقدساتها التي تحقنها في عقول المنتمين إليها، ومن أهم مخاطرها أنها تحقن أتباعها بأنه لا خلاص لأنفسهم في مرحلة ما بعد الموت إلاَّ إذا قاتلوا من أجل تطبيق تلك التعاليم وماتوا من أجلها.

الوطن العربي: إذا كان الأمر كذلك، فهل ترى حلاً لمشكلة يبدو أنه يقترب من حدود المستحيل؟
-إن العقل البشري لم يُصب باليأس من معالجة أية مشكلة مهما بلغت درجة التوهم بأنها مستعصية على الحل. وإنني أرى حول هذه القضية أن من يُعقِّد البحث عن الحلول هم قادة الحركات الدينية السياسية أنفسهم. فمنهم من يستندون إلى تأويل النص الديني بما يخدم اتجاهاتهم الفكرية السلبية في تكفير الآخر، أي الحكم بحرمان روحه من النجاة بعد الموت على قاعدة «الفرقة الوحيدة الناجية»، ويهملون النصوص المُحكَمة أو التي يمكن تأويلها، والتي تفسح الطريق أمام الآخر بخلاص نفسه، واعتبار أن أي خيار روحي يمكنه أن يشكل خلاصاً للنفس في الآخرة. فمتى انتهت قواعد الحوار بين الأديان والمذاهب إلى نتيجة مشتركة يعترف فيها الدين الواحد للآخر، أو المذهب الواحد للآخر، بأن تعاليمه وخياره الروحي يشكلان طريقاً لخلاصه، تبدأ إشكالية المقدَّس خطوتها الأساسية نحو لجم جموح الحركات الدينية السياسية من التأثير على أتباعهم. ومن بعدها تبدأ الخطوات الأولى الأساسية في ترسيخ أسس لمرحلة تعايش فعلي بين أبناء المجتمع الوطني الواحد، أو المجتمع القومي الواحد، إذ أنهم ساعتذاك، بعد أن يطمئنوا إلى أن مصيرهم بعد الموت واحد، تبقى مسألة التعاون على إنتاج سعادة الجميع في حياة الدنيا سالكة وميسورة.
الوطن العربي: وهل ما يتم تسميته في هذه المرحلة «إرهاباً» عائد إلى ثقافة الحركات الأصولية؟
-إنني أعتقد أن الإرهاب ليس إنتاجاً أصولياً دينياً بقدر ما هو إنتاج سياسي، تستخدمه بعض الحركات الأصولية الدينية من أجل غرض سياسي، كما تستخدمه الحركات السياسية العلمانية أو بعض الأنظمة السياسية من أجل تحقيق أهداف لا علاقة لها بالدين، وتستخدمه مافيات سياسية أو اقتصادية بعيدة كل البعد عن الدين والأخلاق الإنسانية.
وعلى الرغم من أن بعض الدول الرأسمالية أنتجت وشجَّعت واستخدمت بعض الحركات الدينية السياسية في تنفيذ مخططاتها، إلاَّ أنه بعد أن انقلب بعضها على أوامر تلك الدول تمَّ تعميم ذلك المصطلح، وألصقته بتلك التي انقلبت عليها، بينما الحركات التي لا تزال خاضعة لها لم تنل شرف شمولها به. كما أن الحركات المافيوية نجت أيضاً من إلصاق التهمة بها، لأنها على تنسيق دائم بين الحكومات التي تستفيد منها في كل ما تقترفه من جرائم.
بيروت : حوار وتصوير حسن جوني


(7): كلمة في المهرجان القومي لتأبين الشهيد صدام حسين
9/ 2/ 2007
يا ماجدات العراق
يا رجال العراق الأماجد
يا أبطال المقاومة الوطنية العراقية
أيها الرفاق البعثيون
لا تتسِّع مجلدات للكلام عن صدام حسين، فقد ارتبط تاريخ العراق والأمة العربية، وكذلك تاريخ حركات التحرر في العالم، بما ضخَّه كفرد متميِّز من دروس وعبر، منذ انتسابه لحزب البعث العربي الاشتراكي حتى تاريخ شهادته.
ولأنه كان فرداً متميزاً في حزبه ملأت سيرته الذاتية، كما ملأت سيرته الحزبية، كل تاريخنا المعاصر، وفيه ترك تأثيرات لا يجوز أن تُمحى فحسب، وإنما أن تُدرَس أيضاً لأن فيها الكثير من الإضافات النوعية.
كانت مميزاته نوعية في أنه أرسى قواعد ومبادئ ترسم معالم الطريق الواضح أمام الشعوب التي تنشد التحرر على خطيْ النهضة في الداخل والانعتاق من نير هيمنة العدوان القادم من الخارج. وتلك هي مهمة لا تعاني منها بقية شعوب العالم وحركاتها الثورية كما يعاني منها الوطن العربي.
تواجه الوطن العربي العديد من المهمات والتحديات، وتتلخص في ثلاث مهمات كبرى:
-مهمة توحيد الوطن العربي فكرياً وسياسياً.
-ومهمة استنهاضه حضارياً.
-ومهمة تحريره من الاحتلال الصهيوني والاستعماري.
إنها مهمات ثلاث لا يمكن تجزئتها، ولا يمكن أن يتصدى لها إلاَّ أهلها. مهمات ثلاث تقتضي توفر عوامل ثلاثة أيضاً:
-استراتيجية فكرية جذرية وحدوية ترسم طريقاً واضحاً.
-وإجراءات ثورية تختصر عامل الزمن.
-وحركات ثورية تكون مستعدة للتضحية والبذل والعطاء.
تلك هي المعادلة التحدي التي انخرط فيها صدام حسين، فكان القائدَ المفكرَ الثائر، فتفاعل مع المهمات الثلاث، وأسس للعوامل الثلاثة، ونقل عصارة فكره، ووضع عقله الاستراتيجي في قلب المعركة، وحمل معوله على كتفه، وقاد حزبه من الخندق، فكان الأنموذج والمثال.
لقد نقل قصور الرئاسة إلى بيوت العمال والفلاحين، وإلى مقاعد الدراسة وحرم الجامعات، وأصبحت تلك القصور في بيوت العلماء، وأصبحت المصانع العراقية قصوراً يتباهى بها البعث وقائده. وتحوَّل العراق إلى ورشة نهضوية تصدِّر نفسها إلى أقطار الوطن العربي الكبير، فزرعت الخوف في نفوس الجشعين من الشركات الاحتكارية الرأسمالية، وزرعت الخوف في نفوس خدَّامهم الذين تعودوا على سماع إملاءات سادتهم والإذعان لها.
لقد حمل بندقيته إلى جانب المقاتلين الذين أشرف على تأهليهم وتدريبهم وتسليحهم، تحسباً ليوم العدوان الوحشي، فالقائد ليس هو الذي يأمر ليُطاع، وإنما القائد هو الذي يسير على رأس القافلة ليكون أول من يتصدى.
لقد تعرَّض للأسر في الخندق، وهو الذي رفض كل إغراءات الدنيا، وكان قادراً على الحصول عليها. ولكنه ربط مصيره بمصير أمته منذ البداية، لأنه آمن بأنه لن يكون كريماً في أمة لا تدافع عن كرامتها.
لقد حوَّل منصة المحكمة العميلة إلى خندق آخر للمقاومة، فأذهل بمواقفه العدو قبل الصديق، وأثبت أن أمة تنجب صدام حسين هي أمة جديرة بالحياة. وأثبت أن حزباً أنجب صدام حسين هو حزب جدير بقيادة الأمة إلى شاطئ الأمان.
حمل صدام حسين كتابه بيمينه ورحل.
رحل وهو واثق بشعبه وبحزبه،
رحل وهو واثق بأن شعبه سيلتقي بجناحيه لتوحيد العراق بعد تحريره.
رحل وهو واثق بأن رفاقه، بمشاركة كل الوطنيين، سوف يستمرون في القتال حتى طرد آخر جندي محتل، وآخر عميل خائن، وآخر متواطئ على وحدة العراق وعروبته.
لقد رحلت أيها الرفيق الشهيد، والتحق بركب شهادتك برزان وعواد ظافريْن بعز الشهادة. لقد رحلتم وظل رفاقكم وشعبكم على العهد مستمرين، ونحن نشاهد نار في كل يوم صليات بنادقهم تصل إلى داخل البيت الأبيض والبنتاغون.
ستعود بغدادُ إلى العراقيين، وإلى أحضان العروبة قريباً، وسيعود العرب إلى بغدادَ مدينةِ السلام بعد أن تصد غزوات الفرس والروم، فيتلاقى الحبيب مع حبيبه، وسيشمون فيها روائح الطيب العربية بعد أن لوَّثها الغزاة بكل الروائح الخبيثة، وبكل اللهجات الهجينة واللكنات المستوردة. وستبقى مواقفكم مشعل نور وهداية طالما شعوب الأرض تشعر بأنها بحاجة إلى أبطال هم أكبر من الأبطال.

(8): خطة بوش الجديدة استئناف للهولوكوست ضد الشعب العراقي، ولكن؟
21/ 2/ 2007
كلمة هولوكوست تعني في اللغة اليونانية «الحرق الكامل للقرابين المقدمة لخالق الكون». وفي التوراة تعني» الكارثة«. وفي القرن التاسع عشر تم استعمال الكلمة لوصف الكوارث أو المآسي العظيمة.
واستخدمت كلمة «الهولوكست الأسود« لوصف موت اعداد كبيرة من الزنوج على السفن التي كانت تقلهم إلى عبوديتهم في الولايات المتحدة .
ونضيف إلى تلك التعريفات «الهولوكوست الأحمر« لوصف اجتثاث الهنود الحمر، سكان أميركا الأصليين، على يد المستوطنين الأوروبيين البيض، إن وليم برادفورد حاكم مستعمرة بليتموت، الذي استخدم كل أنواع الأوبئة للقضاء على الهنود الحمر، يقول: «إن نشر هذه الأوبئة بين الهنود عمل يدخل السرور والبهجة على قلب الله، ويفرحه أن تزور هؤلاء الهنود وأنت تحمل إليهم الأمراض والموت. إنه على المؤمنين أن يشكروا الله على فضله هذا ونعمته». وفي قوله يجمع ما بين وصف الهولوكوست بالكوارث وبأنها «الحرق الكامل للقرابين المقدمة لخالق الكون».
وينطبق التعريف أعلاه على ما يجري في العراق منذ أن قام العرق الأميركي الأبيض باحتلال العراق في العام 2003. ولذلك نضيف إلى المصطلحات «الهولوكوست العراقي».
شنَّت إدارة جورج بوش العدوان على العراق تحت هدف أساسي مُعلَن، نشر الديموقراطية فيه بعد اجتثاث ما يزعم أنه «ديكتاتورية حزب البعث»، أو «ديكتاتورية صدام حسين». وتحت الشعار المزعوم كانت تلك الإدارة تريد أن توحي برسالة إلى الأميركيين، وإلى الشعوب الأخرى ذات الإيديولوجيات الشوفينية الملوَّثة بالتفوق العرقي والحضاري، أن احتلال العراق هو دفاع عن الإنسانية التي خلقها الله من أجلهم، وقد عتب على كل من لم يجاروه في مخططه، ولم يشكروه على ما قدَّمه لهم من فضل ونعمة.
من أجل أن نثبت صحة مصطلح «الهولوكوست العراقي»، شكلاً ومضموناً، علينا أن نعرِّج على الأسباب التالية:
1-لم يبق ادِّعاء جورج بوش وإدارته بأنه رسول لله على الأرض موضع نقاش أو تشكيك، فقد أعلنها في أكثر خطاباته. كما أنه مدعوم من أكثر الطوائف المسيحية أصولية وإيماناً بانتظار المعركة الحاسمة بين «قوى الخير والشر» تمهيداً لظهور«المسيح المخلِّص» على أرض فلسطين. وأصبح من الثابت أن حسم المعركة لصالح «قوى الخير» يوجب عليهم تقديم القرابين مهما بلغ حجمها، ونوع الطريقة التي يستخدمونها من أجل ذلك، وهي وصلت إلى حدود الأمر بـ«بقر بطون النساء الحوامل».
2-أعلنت إدارة جورج بوش أن العراق هو أحد ثلاثة أقانيم للشر، وكان على رأس أولوياتها في الاقتلاع، وهذا ما حصل بالفعل. وقد جمعت إدارته إيديولوجياتان: إيدولوجيا «تفوُّق الرجل الأبيض» مع إيديولجيا «التوراة» بكل مضامينها التي تزعم أنها «إلهية»، وكلاهما يؤمنان إيماناً وثيقاً بوجوب تطبيق «الهولوكوستية» بكل تفاصيلها. فالأولى تستند إلى إبادة كل من ليس أميركياً أبيضاً لأن ذلك، حسب زعم أهم روَّاد قدامى الأميركيين، «يدخل السرور والبهجة على قلب الله»، أما الثانية فتدعو إلى قتل البشر واقتلاع الشجر والحجر، ولا يستثني من ذلك «بقر بطون النساء الحوامل».
3-كان الانتصار الأول للهجمة الأميركية على العراق في المراحل الأولى للعدوان عند الواهمين عبارة عن «نصر إلهي»، رفع من أجله جورج بوش «صلاة الشكر» على متن أحد بوارجه الحربية، بينما كان «هولوكوست تدمير الدولة العراقية» يجري على أقدام اللصوص، ممن أدخلهم بوش إلى «هيكل الخلاص»، وأقدامهم.
4-لم يشكر العراقيون ما فعلته أيدي الاحتلال، ولم تدخل البهجة نفوسهم لما فعله «المسيح الدجال»، بل دعوا عليها بالكسر، وكسروها بالفعل. واشتد ساعد جاحدي معروف «المبعوث الإلهي»، وتوسَّعت رقعة رفضهم، ووصلت «الموسى» إلى يد الشارع الأميركي، وهو أكثر ما أوجع «ذقن إدارة جورج بوش» وأوجع «ذقنه» أيضاً.
5-حسم الشارع الأميركي قراره لصالح إنهاء مهمة جورج بوش «الإلهية»، ووصل الكثيرون إلى وصفه بـ«المسيح الدجال»، وطرقت الديموقراطية أبواب البيت الأبيض ودخلت إلى المؤسسات التشريعية، فلم يعترف بها، ورفضها، لأن الديموقراطية لن تكون عادلة أمام أوامر «التكليف الإلهي»، فالبشر ليسوا أدرى بمصالحهم أكثر من «ربهم»، وأولياء الأمر الناطقين باسمه، والحاكمين باسمه، والمدلِّسين باسمه.
6-لقد ذابت ثلوج ديموقراطية إدارة جورج بوش، و«بان مرجها»، و«بال مبعوث الله الأميركي» على كل خطاباته، ومزاعمه بتصدير «خيرات الديموقراطية» إلى العالم عامة، وإلى العراقيين بخاصة. وأصرَّ على استئناف «مهمته الإلهية» في العراق، فابتكر له مشعوذوه «استراتيجية جديدة»، التي على الرغم من كل تقييمات عسكرييه وسياسييه وماسكي دفاتر حساباته وحاملي مفاتيح مقابر جنوده، وكأنهم يزرعون في نفسه أن من كلَّفه بالمهمة لن ينساه، فراح يتابع مهمته في العراق.
7-لقد أرسل بوش المزيد من الجنود إلى العراق، وحشر في بغداد وحدها أكثر من مائة ألف جندي، بين جندي أميركي مُرغَم ومرتزق طامع بأجر مغرٍ وعميل خائن مأجور.
إن مقدمات ما ذكرنا تؤكد أن هولوكوست جديدة يقوم جورج بوش بتطبيقها في العراق الآن، وتلك أهم مظاهرها:
-لم تُجدِه نفعاً كل أنواع الكوارث، والجرائم، والمحارق، ووسائل الإبادة بالنابالم واليورانيوم المنضَّب، والاعتداء على أعراض ماجدات العراق، ودفن الأطفال والنساء والشيوخ تحت أنقاض بيوتهم، والحجز على حرية مئات آلاف العراقيين الأحرار. بل تابع المهمة القذرة بعيون لا ترمش لها جفون.
-لم تُجْدِه نفعاً تعميم وسائل «الهولوكوست» على النجف وكربلاء والفلوجة والقائم والموصل والرمادي وتلعفر وبيجي وكركوك وتكريت، ولم ترو ظمأه للدم والقتل والسحل. بل استقدم عشرات الآلاف من جنوده ليعيث قتلاً وتدميراً واعتقالاً ببغداد تحت شعاره «فرض النظام».
-لم تُجْدٍه نفعاً اغتيال قائد العراق العظيم، ورفاقه، وهم قادة العراق الشرعيين باعتراف كل قوانين الديموقراطية في العالم، بل عاث جورج بوش فساداً في أرض العراق ودم شعبه. وهو مستمر بما بدأ به للقضاء على كل أثر يُشتَمُّ منه رائحة وحدة العراق أرضاً وشعباً.
-لم يُجْدِه نفعاً تجويع العراقيين وقطع أرزاق من لم يستطع قطع رقابهم، وعاث لؤماً وخبثاً بإرغامهم على الهروب إلى خارج العراق حتى بات عددهم يفوق الملايين الخمسة. بعد أن فاق عدد القتلى السبعماية ألف عراقي على أيدي من جاءوا يحملون إلى العراق سلالاً من «الديموقراطية».
وباختصار، لم يأت جورج بوش باستراتيجيته الجديدة بشيء جديد. فالقتل مستمر والتدمير مستمر والاعتقال مستمر والتعذيب لم تتغير وسائله، والاغتصاب مستمر بل فاق ما كان يجري إذ أخذ من ينسبون أنفسهم للعراق يتعلمون اغتصاب أخواتهم وأمهاتهم بمباركة من رؤساء عصابتهم، زمنيين وروحيين، على مقاعد الحكومة أم على مقاعد الميليشيات.
«الهولوكوست» مستمر في العراق، سواءٌ أكان بطبعته القديمة أم بطبعته الجديدة.
«الهولوكوست» مستمر بإبادة شعب العراق منذ دنَّست قدم جورج بوش أرضه.
«الهولوكوست» مستمر بطباعة «ديموقراطية» مزعومة على الرغم من أن المسافة بين بغداد وواشنطن قد ملأتها بساطير الجنود الأميركيين القتلى، وقد وصلت إلى البيت الأبيض تطرق أبوابه بشدة.
أما الجديد في المشهد العراقي الآن، فإن مفاهيم الهولوكوست تُصاغ بشكل جديد، وتلك الصياغة يتشارك فيها عاملان تضافرا معاً، بما لا يمكن لجورج بوش أن يفلت بفعلته، وهما:
-جهد المقاومة العراقية ونضالها، التي تعمل على تحويلها من «محرقة» إلى «مفخرة».
-عامل استنزاف خطة بوش الجديدة الذي صمَّم الشعب الأميركي على القيام به وتوفير حظوظ النجاح بالضغط على من يُسمونه بـ«الرئيس الغبي».
أما جهد المقاومة العراقية، وهي قد بدأت نتائجها تبشر بالخير، فقد وضعت خطة «فرض النظام» تحت اختبار عسير، خاصة وأن أعداد الجنود الأميركيين القتلى تزداد، وترافقها خسارة أكبر منها في أعداد موتى الجنود العملاء أيضاً.
إن إصرار المقاومة العراقية، بكل فصائلها، على مواجهة «الهولوكوست الجديدة»، ليس بالندب والبكاء، بل مواجهتها بالحديد والنار، فالعراقيون يرفضون أن يكونوا ضحايا ضعفاء بل مقاومين أشداء، كما هم يرفضون أن تُضاف «الهولوكوست العراقية» إلى سجل «محارق التاريخ»، وتتحول إلى مبكاة يستدرون بها عطف العالم. وإنما أن تتحوَّل إلى مفخرة من البطولات التي ترغم من تُسوِّل له نفسه بارتكاب مثلها أن يحسب ألف حساب. ولكن جُلَّ ما تطلبه المقاومة من الشعب الأميركي، وشعوب العالم الحر، أن ينصبوا محاكم «نورنبرغ جديدة» لمحاكمة آخر صاحب محرقة في التاريخ المعاصر وأركان إدارته، وكل من تواطأ معه من رؤساء وحكومات في الغرب والشرق معاً.
أما صوت الشارع الأميركي، فقد أخذ يتعالى رفضاً، بكل وسائل الإعلام. وبكل وسائل الاستجوابات في مجلسيْ النواب والشيوخ. وأخذت أصوات الجنود القتلى أو الذين ينتظرون حتفهم بين رمال صحراء العراق، تتعالى إما بواسطة رسائلهم، أو بواسطة كاميراتهم، لتصل إلى أهلهم صرخات مدوية بالشكل الذي لا تتركهم فيه يرتاحون، أو يريحون.
لقد أعلن الديموقراطيون، لأنهم وصلوا إلى كراسي الحكم بأصوات رافضي الحرب على العراق في الشارع الأميركي، أن إصرار جورج بوش على العناد وعلى صمِّ أذنيه لكي لا يسمع نتائج الانتخابات الديموقراطية لن يجعله بمنأى عن سلسلة من الضغوط أعدوا لها مستلزماتها وأطلقوا عليها «حرب استنزاف خطة بوش الجديدة». ولا يزال تهديد هيلاري كلينتون لجورج بوش ودعوته إلى سحب الجيش الأميركي خلال تسعين يوماً يصم أذنيه ويعمي بصره.


(9): خطة بوش – المالكي الأمنية تتآكل تحت وابل من عمليات المقاومة الوطنية العراقية
طليعة لبنان الواحد: افتتاحية عدد شباط 2007
أطلقت الإدارة الأميركية، بالاتفاق مع حكومة المالكي العميلة، مغامرة جديدة، منذ أواسط شهر شباط، تحت اسم «فرض القانون» في بغداد، وقد حشدا لها أكثر من مائة ألف جندي، أكثريتهم الساحقة تضم قطعات من جيش الاحتلال الأميركي. ولقراءة مستقبل نجاحها أو فشله، لا بدَّ من دراسة موازين القوى بين طرفيْ الصراع: الاحتلال وعملاؤه من جهة، والمقاومة الوطنية العراقية والشعب العراقي من جهة ثانية.
قرَّر جورج بوش متابعة معركة الاستيلاء على العراق، بخطة جديدة، واستراتيجية جديدة، وهو يعترف أنها فرصته الأخيرة في إنقاذ مشروع المحافظين الجدد قبل أن يدق ناقوس نهاية ولايته في العام 2008.
وافتتح مرحلة الدفاع عن خطته، داعياً الأميركيين إلى التحلي بالصبر، لأن الخطة لن تكون نزهة سريعة بل يتطلب إنجازها أشهراً حدد سقف انتهائها في تشرين الثاني القادم. ومرارة استجداء الصبر من الأميركيين تعود إلى عاملين لم يستطع إغفالهما، وهما: اليأس الذي دبَّ في نفوس القادة العسكريين الأميركيين في العراق، التي وصفها الجنرال كايسي، قبل استبداله بقائد آخر، بأن زيادة القوات الأميركية ليس أكثر من تجميل لن تكون لها نتائج على الأرض. أما العامل الثاني فهو التخطيط الذي بدأه الحزب الديموقراطي تحت مُسمَّى «استنزاف خطة بوش»، وتوجتها هيلاري كلينتون، المرشحة للرئاسة الأميركية، بدعوة بوش إلى سحب الجيش الأميركي من العراق خلال تسعين يوماً وإلاَّ فسوف تسحبه بنفسها.
فجورج بوش يخوض معركته الأخيرة وهو يواجه نوعين من المقاومة: المقاومة الوطنية العراقية على أرض العراق مدعومة بالشعب العراقي، والمقاومة الأميركية مدعومة بأكثرية الشعب الأميركي الممثلة في الشارع كما في داخل المؤسسات التشريعية الأميركية. وهذا يعني في قاموس التوازن العسكري بين طرفين أن الشعبين العراقي والأميركي يقفان إلى جانب المقاومة العراقية، ويرفضان الاحتلال رفضاً مطلقاً. السبب الذي يجعل معادلة الصراع في العراق تميل بشكل واضح إلى صالح المقاومة العراقية، وهي في المقابل تشكل خسارة أساسية لإدارة جورج بوش.
على الرغم من أن تلك المعادلة ستحدد مسار الصراع الدائر في العراق، وسيتحدد على ضوئها نتائج مغامرة بوش الراهنة، التي لم تكن الأولى، وإنما ستكون الأخيرة، تأتي التداعيات السلبية في علاقات المجتمع الدولي مع إدارة جورج بوش لتصب في خارج مصلحة عناده على متابعة معركة خاسرة، ستزداد فيها معاناة الشعب العراقي، كما ستزداد الخسائر الأميركية على أكثر من صعيد، سواءٌ أكان الأمر عائداً إلى خسارته في الأرواح، أما كان استنزاف جديد لميزانية أميركا، أم كان دفع خسائر جديدة تقع في صفوف أصدقائها في العالم. ومن أهم معالم التداعيات السلبية، هي التالية:
-تأتي عملية الانسحاب التجميلية للقوات البريطانية من العراق أكثرها خطورة وأشدها إيلاماً، خاصة وأنها ترافقت مع قرار الدانمارك في سحب قواته، وبهذا تتداعى عوامل الإسناد الأوروبي لتكاد أن تكون خالية تماماً.
-بعد الانسحاب البريطاني الذي لن يبقى تجميلياً تحت ضغط الشارع البريطاني، لن يقدِّم تأييد رئيس حكومة أستراليا أ يؤخر، لأن هذا التأييد لا يتعدى كونه ديكوراً سياسياً خالٍ من أي دعم عسكري.
-تستعيد الإدارة الأميركية من تصريحات الروس والفرنسيين الناقدة للأداء السيئ لقوات الاحتلال الأميركي في العراق، مقرونة بدعوات إلى برمجة الانسحاب، ممانعة الدولتين للعدوان الأميركي على العراق في العام 2003، وتلك نواة ستؤسس إلى موقف روسي وفرنسي جدي خاصة وأنها تستند إلى جدار من الاعتراض السياسي الأميركي في الشارع وفي القوى السياسية المؤهلة للوصول إلى البيت الأبيض في العام 2008.
-خسارة الإدارة الأميركية لعامل الإسناد الإيراني الجدي الذي حصلت عليه قبل العدوان وبعد الاحتلال، وهو إن كانت أسبابها تعود إلى خلاف حول الحصص في العراق وفي الوطن العربي، إلاَّ أنه يؤدي إلى إضعاف في قوة الصديقين اللدودين في مواجهة المقاومة العراقية.
-تُضاف إلى خسائر إدارة جورج بوش السابقة، خسائر أخرى تتزايد معالمها وعلاماتها، في المواقف التركية كما في مواقف أصدقاء أميركا من العرب. أما السبب فهو أن المخاطر التي تتأسس في العراق اليوم، السائرة نحو التقسيم الطائفي والعرقي، لهي أكثر من خطيرة على النسيج المجتمعي للشعب التركي والنسيج المجتمعي لمجتمعات الدول العربية الرسمية، وأشدها خطورة ما سوف يتعرض له الأمن الوطني لتلك الدول.
هل بعد هذا الإيجاز السريع للعوامل السلبية التي تحيط بخطة بوش الجديدة ما يدعو إلى الغموض في نتائجها، وإلى أين ستصل؟
باستثناء ما سيدفعه الشعب العراقي من آلام وعذاب ومجازر وحشية في هذه المرحلة، التي قد تكون شبيهة بما حصل في الفلوجة أنموذجاً، وهي تستأهل من كل العالم استنكارها والضغط من أجل إنهائها، ليس هناك أي سبب يدعونا إلى القول بأن خطة بوش الجديدة ستحقق له النصر. وليس هناك في أداء المقاومة العراقية البطولي وصمودها في مواجهة وحشية جورج بوش ما يدعونا إلى الخوف عليها من الهزيمة، وليس في التداعيات التي تشهدها الساحة العراقية في هذا الظرف إلاَّ كل ما يؤكد أن النصر أصبح في متناول المقاومة، والهزيمة أصبحت تدق البيت الأبيض والبنتاغون بكل قوة.

(10): هل العدوان على سورية يأتي بعد العدوان على العراق؟
مجلة الوفاق العربي/ تونس 10/ 3/ 2007
إن الإجابة عن هذه الإشكالية ليست فنية يمكننا تحديدها وفق آليات حسابية، بل تقتضي الإجابة عنها اعتبار قضايا القطرين معاً بمثابة قضية واحدة، لأنهما قطران في أمة واحدة، لهما أعماق تاريخية وفكرية وسياسية واجتماعية واحدة، وهما يواجهان مصيراً واحداً خاصة في مرحلة الاحتلال الأميركي للعراق بكل أهدافه ومراميه. ولهذا تقتضي معالجتها تحديد إطار الصورة العامة، بكل مقاييسها تلك.
وهنا يستوقفنا أيضاً تحديد عامل الخصوصية الذي يربط ما بين القطرين، الذي لا بدَّ من توضيحه. فهل هو عامل جغرافي؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا نتساءل: هل جاء دور الكويت أو السعودية أو مصر أو .... بعد العراق؟ فالكويت والسعودية والأردن وتركيا وإيران يرتبطون مع العراق بعامل جغرافي أيضاً.
وهل الربط بين القضيتين يعود إلى العامل التاريخي والثقافي و...؟ وإذا كانت تلك العوامل هي المقصودة، فهي ضعيفة أيضاً لأن الكويت والسعودية والأردن ومصر... يرتبطون مع العراق بتلك العوامل أيضاً.
إذن هناك عامل يربط العراق بسورية مختلف عن العوامل التي تربطه مع الدول الأخرى. ونحن لا نستطيع تحديده إلاَّ في إطاره التاريخي والسياسي المرتبط بحركة المواجهة بين الأمة العربية والمخطط الإمبريالي – الصهيوني من جهة، وتحديد هذا الإطار في إطاره الإيديولوجي التاريخي لتيارات حركة التحرر العربية أيضاً. وما يساعدنا على تحديده مسألتان: مسألة تكوين النظام العربي الرسمي من جهة، ومسألة التكوين الإيديولوجي للحركات السياسية العربية من جهة أخرى.
والتساؤل عن تتابع أدوار الأقطار العربية حسب الأجندة الأميركية في هذه المرحلة، أي بمعنى من يأتي بعد من في العدوان والاحتلال أو الاحتواء، نرى أنه لن تكون الإجابة عنه واضحة من دون تحديد مواصفات المشروع الأميركي من جهة، ومن جهة أخرى تحديد مواصفات من يُراد له إخضاعاً بالاحتلال العسكري المباشر، أو بالاحتواء كوجه غير مباشر من وجوه الاحتلال.

أولاً: النظام العربي الرسمي أسهم في تكوينه الاستعمار القديم وورثته الأميريالية الجديدة
لم تمر مرحلة الانتدابين البريطاني والفرنسي على الأقطار العربية من دون تأثير، فلما انتهى الانتدابان تباعاً، كانت الأنظمة العربية القطرية قد تكونَّت على أساس الارتباط بينها وبين الدولتين المنتدبتين ارتباطاً وثيقاً على قاعدة أن تضمن الدولتان مصالحهما الاقتصادية في تلك الأقطار، وحمايتها بوسائل سياسية وثقافية واتفاقيات اقتصادية وعسكرية وأمنية مع الأقطار العربية التي أعطيت استقلالها تباعاً، أو تلك التي نالتها بشكل أو بآخر، وكانت آخرها الخروج من إمارات الخليج العربي في العام 1971.
إذن كانت عوامل تكوين النظام العربي الرسمي بشكل عام تقوم على أساس عقد سياسي تمَّ بين النخب العربية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وأنظمة الانتداب، بحيث يتبادلان عوامل إسناد كل منهما للآخر، وفيه تضمن تلك الأنظمة للدول الأجنبية مصالحها، وتوفر الأخيرة الحماية لتلك الأنظمة من السقوط.
لقد عكَّر صفو تلك العلاقات محاولات مواجهتها على قواعدها استثناءات أفرزتها الحركة الحزبية القومية العربية الممثلة بحزب البعث العربي الاشتراكي الذي تأسس في العام 1947، وحركة القوميين العرب التي تأسست بعد اغتصاب فلسطين، وتتوَّجت بالحركة الناصرية في العام 1952، وانطلاقة الثورة الفلسطينية في العام 1965، واتَّخذت كلها أهداف التحرر من الاستعمار والصهيونية. أما ما يُذكَر عن الحركة الشيوعية العربية فقد أسهمت في وقت مبكر، أي أوائل العقد الثالث من القرن الماضي، في نشر الوعي الطبقي، ولم يكن قد نضج عندها البعد الوطني والقومي لأنها كانت ذات مرجعية سياسية وإيديولوجية أممية، ولا يزال بعض أطرافها حتى في مرحلة الغزو الأميركي يغلِّبون وسائل النضال المطلبية على وسائل النضال التحررية الوطنية.
إن عملية الفرز تلك، كانت محوراً أساسياً في المواجهة بين تلك الحركات والأحزاب، والأنظمة التي نشأت عن بعضها (الناصرية والبعث) في كل من مصر وسورية والعراق من جهة، وبين النظام الرأسمالي العالمي والصهيونية العالمية مدعوميْن من الأنظمة العربية الرسمية الأخرى.
كانت أهداف التحالف الثلاثي هو نشر مشروع الهيمنة الإمبريالية وتثبيت الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، وحماية الأنظمة الرسمية العربية، ضد حركة التحرر العربية. وقد تزعمت أميركا قيادة هذا التحالف بعد الحرب العالمية الثانية.
ونتيجة سلسلة من المؤامرات ضد الحركة القومية العربية النامية والفتية، والتي كانت ناشطة بعد اغتصاب فلسطين، إلى أن بدأت تضعف بالتدريج بعد حرب حزيران من العام 1967. وبها انتقلت أطراف التحالف المذكور إلى موقع الهجوم لاستئصال ما ظلَّ حياً من أطراف الحركة العربية المقاوٍمة والممانعة والرافضة، وقد بدأت حالة الهجوم تلك تعطي نتائجها الفعلية منذ توقيع اتفاقيات كامب ديفيد في أواخر العقد السابع من القرن الماضي، ولا تزال حركة الهجوم مستمرة ضد من بقي على خط المقاومة والممانعة وبرزت بأوضح صورها في العدوان على العراق في العام 1991، واستُكمٍلت باحتلال العرق في العام 2003. وقد كان التحالف المذكور يعتبر أن القضاء على النظام السياسي في العراق هو استكمال لخطة القضاء على كل مظاهرها المقاومة وعواملها في الوطن العربي.
وإذا كان النظام العربي الرسمي هو واقع يشير إلى النخبة العربية التي لا تريد من أنظمتها أكثر من المحافظة على مصالحها الفوقية، فإن هناك حركة لها أعماقها الإيديولوجية والشعبية في المجتمع العربي كانت تشكل العامل المعيق الآخر المناهض لحركة التحرر العربية، وهي الحركات الدينية السياسية التي يُعبَّر عنها بمصطلح «السلفية الدينية الإسلامية».

ثانياً: الاتجاهات الإيديولوجية الإسلامية السلفية تكونَّت على الموروث الثقافي الديني الأشد تعصباً، وحركة الاستسلام العربي فتحت لها أبواب النشاط
تؤرِّخ وقائع بداية استنهاض الحركة السلفية إلى مرحلة أنور السادات، الذي كان يُضمر على إطلاق مسار التسوية الاستسلامية مع العدو الصهيوني، ولكي يُضعف مد الحركة القومية العربية التحررية، وهي الوحيدة التي قد تعرقل مسارات التسوية، فقد مدَّ الحركة السلفية الدينية بوسائل الصحوة والنشاط. ولذا ارتبطت مرحلة إعادة استنهاض تلك الحركة بمرحلة بداية مسارات التسوية السياسية، أي في أوائل العقد السابع من القرن الماضي.
استفادت حركة أنور السادات، وهذا لم يكن خارج إرادة الأمبريالية الأميركية، من خدمات الحركة السلفية بعدائيتها للوحدة العربية على أساس قومي أولاً، ولمضمون القومية السياسي بإقامة الدولة المدنية الحديثة ثانياً. وفي المقابل كانت تلك الحركات تتعطش إلى فسحة أمنية مناسبة تطل بها على الشارع العربي، وقد تكون قد راهنت على أنها تستفيد من خدمات التحالف النظامي العربي مع مراكز القوى العالمية لكي تنقلب عليها لاحقاً، كما حصل في تجربة القاعدة «حركة أسامة بن لاذن» مع الأميركيين في أفغانستان، بحيث حرروها من الاحتلال السوفياتي ومن بعدها قاموا بالانقلاب المذكور.
كانت الحركة القومية العربية، التي أسست لنفسها كياناً سياسياً فاعلاً منذ أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، هي المطلوب رأسه من كل تلك الأطراف، وهنا لا يجوز أن نعبر بسرعة عن تلك الحقيقة لنرد على القائلين بأن الحركة القومية قد فشلت، وأعلنوا موتها، لنقول بأن الحركة القومية العربية كانت الاستثناء الجديد في حياة الأمة العربية لأن عمرها الزمني كان في طور النمو لأنها كانت حديثة الولادة، وهي قد جاءت بالأصل رداً على فشل المشاريع التاريخية التي تدعو السلفية إلى إحيائها من جهة، ورداً طبيعياً على عدائية الاستعمار والصهيونية من جهة أخرى.

ثالثاً: المشروع الأميركي – الصهيوني مثال واضح للأنموذج الإمبريالي بامتياز
على الرغم من أن المشروع الأميركي – الصهيوني أصبح من الوضوح بما فيه الكفاية عند المثقف العربي، إلاَّ أنه من المفيد أن نذكِّر بأهم أهدافه: السيطرة الكاملة على الوطن العربي، لاستكمال دائرة النظام العربي الرسمي الخاضع للإرادة الأميركية، كشرط ضرورى وكاف، لضمان مصالح الاستعمار والصهيونية، وهي لن تكتمل إلاَّ باقتلاع كل أنواع المقاومة والممانعة العربية، أنظمة رسمية وحركات وأحزاب ثورية وثقافة قومية وحدوية، وتعميم ثقافة الإذعان واقتصاديات السوق والتحلل من مفاهيم السيادة الوطنية، والإيمان بسيادة الديموقراطية الرأسمالية التي يعتبرها المشروع الأميركي آخر الديموقراطيات في العالم، وعلى حدود التاريخ أن تنتهي عند حدودها.
وبمثل هذه الاستراتيجية اقتحمت الإدارة الأميركية، إدارة المحافظين الجدد، العالم ولم تنتظر أن تسقط في الأمة العربية عوامل مقاومة مشروعها، لأن صبرها قد نفذ خلال نصف قرن من الزمن، فلجأت إلى استغلال آلتها العسكرية بشكل مباشر، فابتدأت في يوغوسلافيا، ومرَّت بأفغانستان، وحطت رحالها في العراق، وكانت تخطط لاستكمال مشروعها العسكري لاجتياح سورية وغيرها من دول الجوار لولا أن عوامل المقاومة في العراق كانت البديل الشعبي للإمكانيات النظامية العسكرية، وهي التي أعاقت قطار الاجتياح الأميركي، ووضعته على سكة الفشل، وهي التي أجَّلت مرحلة اجتياح سورية.
وإن كان واقع الاحتلال الأميركي الآن على شفير الإفلاس في العراق، نرى أنه من الموضوعية أن نتخيَّل السيناريو المعاكس في تصور احتمال وجود واقع آخر. ولهذا يدعونا الأمر إلى إلقاء نظرة شاملة على المخطط النظري للإدارة الأميركية، الذي جرى تطبيق خطوات مهمة منه حتى الآن.

رابعاً: وسائل الإمبريالية الجديدة: إخضاع الوطن العربي بالتقسيط للإرادة الصهيو أمبريالية
تتدرج الأجندة الأميركية بأهدافها لإخضاع الأنظمة والحركات الثورية العربية حسب المراحل التالية:
-القضاء على الأكثر مقاومة.
-ومن بعدها الأكثر ممانعة.
-والضغط على الأنظمة ودفعها إلى مرحلة التعايش (الحلول السلمية).
-ومن ثم نقلها إلى مرحلة الدمج النهائي بالمشروع الأميركي - الصهيوني.
كان العراق، بقيادة نظامه الوطني، وهذا ما أثبتته على الأقل وقائع محاكمة الرئيس الشهيد صدام حسين ورفاقه، يمثل النظام العربي الوحيد الذي يتَّخذ خندق مقاومة الاستعمار والصهيونية استراتيجية للمواجهة معهما، وعندما لم يرضخ النظام المذكور لإرادة الاحتواء، ترغيباً، كان الترهيب هو العلاج الوحيد فكان الاحتلال الأميركي للعراق التي كانت من أهم مآثره وأكثرها قذارة هو اغتيال الرئيس وبعض رفاقه، ويعمل على استكمال اغتيال من بقي منهم.
إن ما جرى للعراق، يؤكد بما لا لبس فيه ولا شك، تواطؤ النظام العربي الرسمي الذي تأكَّد اندماجه في المشروع الإمبريالي – الصهيوني، كما تأكَّد فيه أن الحركات السياسية الدينية، وإن لم تندمج في المشروع ذاته لأن لها أهدافها الخاصة، فقد تعاونت مع الشيطان من أجل إجهاض مشروع بناء الدولة العربية المدنية.
فإذا كان العراق يأتي في أولوية الأجندة الأميركية والصهيونية لأنه الأكثر مقاومة لمشروعهما من خلال رفض الاعتراف بالكيان الصهيوني، حتى ولو مرحلياً، ومنه يأتي رفض الخضوع لأية أوامر أميركية لأن تلك الأوامر في شتى مقاييسها تتناقض كلياً مع مصلحة الأمة العربية، وقد نال ما ناله على أيدي الاحتلال الأميركي، فأين تأتي سورية في تلك الأجندة؟
هناك حقيقتان لا يمكن بناء الفرضيات حول المسألة من دون الإشارة إليهما، وهما:
-الحقيقة الأولى: إن النظام السوري قد انخرط في مسار التسوية السياسية مع العدو الصهيوني، وهي تتضمَّن بنتائجها الفعلية الانتقال من سقف مقاومته إلى سقف «التعايش معه». وقد يشكل هذا تكتيكاً لاستعادة الأراضي السورية المحتلة. ولكن هل هناك ضمانات يستطيع النظام الذي نوى الانخراط في مرحلة التعايش تمنعه من الانتقال إلى مرحلة الدمج الكامل بالمخطط المذكور؟
-الحقيقة الثانية: إن لدى النظام السوري أوراق قوة في مسألة الصراع العربي –الصهيوني، أو العراقي – الأميركي، وهو لا يستطيع أن يتنازل عنها من دون أن يحصل على أثمان مقابلها. بينما المشروع الإمبريالي – الصهيوني يعمل على إرغامه في سبيل تقديمها تحت وعود خُلَّبيَّة.
واستناداً إلى هذه الحقيقة نستطيع القول إن النظام السوري لا يزال يحتل موقعاً ممانعاً، بغض النظر عن وسائله في المناورة السياسية التي يسلكها في هذه المرحلة.
ونتيجة كل ذلك، وقبل كل شيء، وفي إطار مراحل تراتبية القضايا الأكثر استعجالاً في الأجندة الأميركية، استناداً إلى معايير مستويات سقوف الرفض العربي، يأتي دور العدوان على سورية مباشرة بعد العدوان على العراق.

خامساً: الأسباب التي تجعل العدوان على سورية يأتي مباشرة بعد العراق
إن احتمال العدوان على سورية بعد العدوان على العراق من عدمه مرتبط بنجاح مخطط احتلال العراق من عدمه، فالقرار إذاً مرتبط بيد المقاومة الوطنية العراقية. ونجاح المقاومة العراقية، سيُرسي أسساً جديدة لنظام عربي رسمي يتبنى استراتيجية المقاومة الشعبية خياراً أساسياً في المواجهة مع الأمبريالية والصهيونية، كما أنه سيُرسى قواعد جديدة في مقاومة ذلك المشروع، وهو سيفتح أمام الحركات التحررية العربية نافذة إذا لم تكن أبواباً واسعة لقيادة الجماهير الشعبية التي هي بطبيعتها جاهزة للحركة والنضال، ونجاح العملية السياسية في العراق تحت الاحتلال الأميركي المباشر أو غير المباشر هو نجاح لعملية الدمج النهائي للنظام العربي الرسمي في عجلة المشروع الصهيو أميركي.
وكي لا يأتي العدوان على سورية مباشرة بعد العراق، فمن مصلحتها أن لا تبيع أوراق القوة التي تمتلكها في موقعها الممانع بأي ثمن للأسباب التالية:
-ليس لدى إدارة جورج بوش في أوج قوَّتها ما تعطيه لسورية، فكيف بها وهي الآن في أضعف مواقعها؟
-ليست الأثمان التي ستقبضها سورية، حتى لو استطاع جورج بوش أن يصرفها، ما يعادل الخسائر الاستراتيجية، وأكثرها وضوحاً:
-تفتيت العراق إلى فيدراليات مذهبية، لعلَ من أخطرها فيدرالية جنوب العراق، وما سوف تعكسه من سلبيات على أمن النسيج الاجتماعي في الوطن العربي بشكل عام، وعلى أمن النسيج الاجتماعي في سورية بشكل خاص.
-تفتيت العراق إلى فيدراليات عرقية، من أخطرها الدولة الكردية الانفصالية في شمال العراق، بما سوف تعكسه من نتائج سلبية على الأمن الوطني السوري بشكل خاص.
-القبضة الصهيونية الحديدية التي تلتف على عنق العراق، ورؤيتها في العراق عامة، وفي منطقة الانفصال الكردي شمالاً بشكل خاص، ليست صعبة على المراقب والمتابع. بما لهذا الوجود المباشر أو غير المباشر من نتائج خطيرة على الأمن القومي العربي، وعلى الأمن الوطني السوري بشكل أخص.
-تلك الوقائع والحقائق الجديدة، فيما لو نجح المشروع الأميركي في تثبيتها، ستشكِّل أبواباً لدمج الوطن العربي نهائياً في المشروع الأميركي - الصهيوني، وستكون سورية في قلب مشروع الدمج هذا.

سادساً: أبواب الأمل ليست مقفلة بالمطلق
ولكي لا تكون أبواب الأمل مقفلة في وجه الثوريين لأنها ستكون قاتلة، ستبقى معلقة بمدى إيمان من يريد أن يؤمن من الحركات والأحزاب العربية بمدى اختيار المقاومة الشعبية كطريق لإنجاز مهمات الاستقلال الحقيقي. ونعطي أولوية لإيمان تلك الحركات والأحزاب، لأن الجماهير العربية جاهزة ولديها الحوافز الحقيقية للبذل والعطاء، والاصطفاف حول أية دعوة للمقاومة. وهذا يدفعنا إلى الاستطراد بالطلب من النظام السياسي في سورية إلى الاتكال على ما تمتلكه جماهير سورية الشعبية من إمكانيات البذل والعطاء والتضحية والانخراط في أي مشروع مقاوم ضد التحالف الإمبريالى – الصهيوني.


(11): أمام سلسلة الإخفاقات الدولية...
الإمبراطورية الأميركية في تراجع؟ أم باتت أكثر خطراً؟
14/ 3/ 2007 (مجلة الوفاق العربي – تونس)
بداية نرى أنه من المفيد أن نميِّز بين مفهومين للإمبراطورية الأميركية:
-المفهوم الشائع الذي يُطلق على أميركا، الدولة الاستعمارية بامتياز، مجازاً تعبير «الإمبراطورية»، من دون تحديد مميزاته الخاصة به.
-أما المفهوم الآخر، فهو الذي يميِّز، على أساسه، بعض المفكرين الأميركيين بين أميركا «الأمة» وأميركا «الإمبراطورية»:
فأميركا «الأمة»، كما يعرِّفونها، هي تلك الأمة التي تدافع عن حدودها الجغرافية، بغض النظر عن نظامها السياسي والاقتصادي، ولكنها تحترم حدود الدول الأخرى ومصالحها.
أما أميركا «الإمبراطورية» فهي تلك التي تعمل للاستيلاء على دول العالم، الرافضة لإملاءاتها، بوسائط مباشرة أو غير مباشرة، وتسليم مقاليد الأمور فيها إلى أنظمة سياسية عميلة. وقد ارتفع سقف طموحاتها في ظل إدارة الرئيس جورج بوش، وفي ظل انهيار الاتحاد السوفياتي، إلى مستوى الاستيلاء العسكري المباشر على العالم، والتفرد بحكمه والسيطرة عليه.
إن مفهوم التوسع الرأسمالي التقليدي لأميركا هو ما تتعايش على أساسها أنظمة دول العالم الرأسمالية فيما بينها، تستخدم تلك الدول مواجهات تقليدية مع أميركا من أجل الحصول على حصصها، أو تحصيلها. وهي كانت قبل وصول أصحاب «القرن الأميركي الجديد» إلى السلطة، تتَّجه إلى بناء سدود تحمي مصالحها في مواجهة «أمركة العالم»، وازدادت رغبة في ذلك بعد الكشف عن وجههم الحقيقي في المرحلة الراهنة، خاصة بعد احتلال العراق.
إن المفهوم الإمبراطوري الأميركي المتطرف تأسس حديثاً، أي بعد هزيمة حرب فييتنام مباشرة، بالتعاون بين الطبقة الرأسمالية الأميركية الأكثر مغالاة، واليمين المسيحي الذي يؤمن بنظرية ظهور السيد المسيح، والصهيونية العالمية. وهو ما نتج عنه لاحقاً «اليمين الأميركي المتطرف» الذي يعمل من أجل «قرن أميركي جديد» تسود فيه «الديموقراطية الرأسمالية الأميركية» كأعلى مراحل تطور الفكر الإنساني، الذي به يعبِّر عنه فوكوياما بنظريته «نهاية التاريخ».
لقد أسهم في تكوين المنهج الإمبراطوري الأميركي عاملان أساسيان، وهما:
-العامل الأول، إيديولوجي غيبي: وهو سر التحالف بين الدعوات الثلاث، التي تؤمن كل منها بالنزعة الفوقية والشوفينية، وإيديولوجيته كونية تعمل من أجل تصدير نفسها إلى العالم: فاليمين الأميركي المتطرف يؤمن بتفوق «العرق الأبيض» وأعلاها درجة «الأبيض الأميركي». واليمين المسيحي المتطرف كـ«رسول للخير» يؤمن بالمعركة الأخيرة بين «الخير والشر» على أرض فلسطين. والصهيونية العالمية تؤمن بإيديولوجية «شعب الله المختار»، على قاعدة سيطرته على العالم.
-العامل الثاني، إيديولوجي سياسي اقتصادي: ويمثله انهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه، بما نتج عنه من هزيمة للمذهب الاشتراكي في صراعه مع المذهب الرأسمالي. وإسقاط المذهب الاشتراكي هو تعزيز للنزعة الرأسمالية الفوقية، وإسقاط كيانه السياسي العسكري الأمني كان تعزيزاً للكيان السياسي العسكري الأمني للولايات المتحدة الأميركية، بما عزَّز إيمان «التحالف الثلاثي» في الاستفراد بحكم العالم، وهي النزعة التي دفعت به لاستغلال القوة العسكرية الكبرى لأميركا التي انفلتت من عقالها في المرحلة المعاصرة.
وكأن التحالف الثلاثي كان ينتظر وصوله إلى حكم أميركا، بإيصال جورج بوش الإبن إلى سدة الرئاسة، فراح ينفِّذ خطته الكونية تحت شعارات القضاء على «محاور الشر». فابتدأ في يوغوسلافيا، ومرَّ بأفغانستان، وحطَّ رحاله في احتلال العراق. ومنذ تلك اللحظة انقلبت إدارة جورج بوش على كل الاستراتيجيات الأميركية التقليدية السابقة، وراحت تعمل على أسس إمبراطورية تجتاح العالم كله، بما فيه منظومة الأنظمة الرأسمالية.
تلك المقدمات كانت ضرورية لتحديد مصير، ليس أميركا الدولة الرأسمالية القوية، ذات النزعة في الاستيلاء على اقتصاد العالم بوسائلها التقليدية، بل لتحديد مرحلة تطبيق النهج الإمبراطوري على أسس عملية عسكرية مباشرة، وأسس إيديولوجية كونية تجتاح العالم لتطبيق «أوامر إلهية».
لقد تعثَّر المشروع الإمبراطوري الآن، وهو يعيش مراحل فشل تطبيقه الأخيرة، وسينعكس الفشل على وضع الرأسمالية العالمية كلها، كما ستنعكس على أسس المواجهة بين دول العالم الحر والنامي، وبين الرأسمالية الأميركية بشكل خاص والرأسمالية العالمية بشكل عام. لكننا لا يجوز على الإطلاق أن نمر حول هذا الموضوع مرور الكرام، أي أن نتجاهل التساؤل، الذي يحاول الجميع تقريباً تجهيله، ومفاده: ما هو العامل الأساسي والرئيسي الذي دفع بالجموح الإمبراطوري الأميركي إلى مهاوي الفشل؟
كانت التجربة العراقية مفصلاً أساسياً ورئيسياً، إذا لم يكن الوحيد، من مفاصل تطور منهجية المواجهة مع الاستعمار. وهي التجربة التي لولا وضعها الولايات المتحدة الأميركية في العراق أمام مأزق فعلي لجمت فيه «الحصان الإمبراطوري الأميركي الجامح» لكانت الإمبراطورية الأميركية قد عمَّت العالم من محيطه إلى محيطه. وبذلك، وكما أنها أحبطت الحلم الإمبراطوري الأميركي، وهي تقوده الآن من فشل إلى فشل، فإنها حدَّدت معالم جديدة وجدية لاستراتيجية جديدة في المواجهة بين العالم كله، وخصوصاً دول العالم النامية، وبين ليس الشبق الإمبراطوري الأميركي الذي يصل إلى نهاياته المحتومة فحسب، بل أمام توق الرأسمالية الأميركية التقليدي أيضاً، ووضعه أمام حقائق جديدة في المواجهة التي لن تستطيع أميركا تجاهلها في استراتيجياتها القادمة في الهيمنة على اقتصاد العالم.
لقد حمل المشروع الإمبراطوري الأميركي مخاوف شديدة التأثير على حلفائه قبل أعدائه، وهي ما دلَّت عليه مواقف كل من فرنسا وألمانيا وروسيا المعلنة، ومواقف الصين المضمرة، قبل احتلال العراق، بحيث حالت دون استصدار قرار من مجلس الأمن يجيز لإدارة جورج بوش استخدام القوة العسكرية.
لكن تلك الدول وغيرها شعرت بالإحباط بعد احتلال بغداد مباشرة، وبعد إعلان الرئيس جورج بوش النصر، وتوجيه التهديدات للدول التي لم تشارك فيه، فتزاحمت تلك الدول على أعتاب البيت الأبيض لتصحيح مواقفها، طلباً للصفح خوفاً على مصالحها في العراق. ولكن..
ما إن أعلنت المقاومة الوطنية العراقية بيانها الأول، حتى لكأنَّ مفاجأة دعت جميع المتهافتين إلى التخفيف من سرعة التهافت، وكلما كان يكبر حجم تأثير المقاومة على قوات الاحتلال كانت تلك الدول ترفع من سقف ممانعتها للإمبراطور الأميركي.
لهذه الأسباب لم تقع إدارة الرئيس جورج بوش في إخفاقات دولية، كما أنها لم تقع في إخفاقات في احتلال العراق، لأن قرار العدوان والاحتلال كان قراراً يحمل كل الإخفاقات الأخلاقية والقانونية والشرعية الدولية، و على الرغم من ذلك كان الشارع الأميركي قابلاً به، ومن امتنع في البداية من الدول عن تأييده، تهافتوا على التأييد طوال أقل من شهر بعد احتلال بغداد. فليست إخفاقات إدارة الرئيس جورج بوش هي التي وضعت أميركا، سواءٌ أمام حالة تراجع أم حالة خطر، بل المقاومة العراقية هي التي كشفت عنها، ووضعت بقوة مواجهتها للاحتلال كل إخفاقات تلك الإدارة أمام الرأي العام الدولي والشعبي عارية مكشوفة، ودفعت القوة الأميركية العظمى إلى مآزق الفشل ومتاهاته.
بالإجمال، أصبحت الولايات المتحدة الأميركية في أضعف حالاتها وأكثرها حرجاً، فما فعلته وما أنتجته، وما لاقته من مقاومة شعبية مسلَّحة في العراق، لم يرغمها على التراجع عن حلمها الإمبراطوري، الذي سيُدفن إلى عقود طويلة فحسب، وإنما وضعت النظام الرأسمالي برمته، وكذلك الصهيونية العالمية، وكيانها المغتصب في فلسطين، أمام حرج جديد أيضاً.
من نافل القول، إن ما يشهده الشارع الأميركي، شعباً ومؤسسات وأحزاب، من انقسامات حادة حول احتلال العراق، إنما هي دعوات لتقليل الخسائر المنظورة التي تدفعها أميركا في العراق، التي ستُرغمها على دفع خسائر غير منظورة في العالم، وبشكل خاص على صعيد الأمة العربية.
أما الخسائر غير المنظورة، فستكون متعددة الاتجاهات، وهي ستبدأ في استعادة تنشيط الدور السوفياتي والصيني في العالم، وتخفيض سقف المهابة الأميركية عند حلفائها من الأنظمة الرأسمالية، إلى ضعف تأثيرها على الأنظمة العربية الرسمية الصديقة لها بحيث لن تنطلي بعد الآن «أكذوبة التوازن العسكري النظامي» بين الأمة وأعدائها على الجماهير الشعبية العربية. وصولاً إلى استعادة حركة التحرر العربية حيويتها، حتى ولو تدريجياً، لأن تجارب المقاومة المسلحة في كل من فلسطين ولبنان، والأعلاها درجة ونوعاً في العراق لأنها ستسحق رأس الأفعى، ستكون جاهزة لمرحلة دراسة وتقييم واستخلاص نتائج سيكون سقفها الاستراتيجي وقاعدتها الأساسية هو أن القوى التسليحية النظامية، مهما بلغت من الشدة والفتك فإنها لن تستطيع أن تحتلَّ أرضاً، او تسهم في تركيع شعب يريد أن يتحرر.
فإذا كان انهيار الاتحاد السوفياتي قد شكَّل نافذة وأملاً للرأسمالية العالمية في بسط سلطتها على العالم، فإن تجارب المقاومة الشعبية المسلَّحة في الأمة العربية، قد شكَّلت بداية وأملاً للشعوب التوَّاقة للتحرر.
ومن هنا تبدأ في تقديرنا معادلة ليس التراجع في أحلام أباطرة أميركا ووضع دولتهم أمام خطر فحسب، بل ستفرض على أحلام الرأسماليين في أميركا والعالم، وبالأخص منهم الحزب الديموقراطي في أميركا مراجعة استراتيجيتهم في الهيمنة على اقتصاد العالم أيضاً.
وأخيراً، تبقى الحقيقة الغائبة، أو التي يتم تجاهلها عن حسن نية أو سوئها، هي أن للعرب فضل يجب أن يعمَّ العالم، هو أنه على وقع طبول المقاومة الوطنية العراقية في مواجهة الإمبراطور الأميركي على أرض العراق، يُحضِّر العالم نفسه لدخول مرحلة جديدة من التداعيات ستعمل على تشكيل نظام عالمي جديد بعد أن أصبح «النمر الأميركي» من دون مخالب كان يرهب العالم بها. وسيؤرخ العالم لتلك البداية، أي تقليم تلك الأظافر، على رمال صحراء العراق وعلى جذوع نخيله، وكان ثمنها أرواح المقاومين العراقيين ومعاناتهم وبطولاتهم. أولئك الأبطال الذين وفروا البرهان لما قاله المفكر الأميركي إيمانويل تود: «أميركا ليست تلك القوة العظمى، ولا يمكنها في المرحلة الراهنة أن تُرهب سوى الدول الضعيفة، وإذا أصرَّت على أن تثبت قوَّتها الهائلة، فإنها لن تفلح أكثر من أن تكشف للعالم عن عجزها«. كما وفَّرت البرهان لما ينتظره يوهان غالتونغ، المفكر النرويجي حينما قال: « المركز هو الولايات المتحدة والأطراف هي أجزاء كبيرة من العالم. ومثل كل نظام فإن للإمبراطورية دورة حياة عضوية: تلقيح وحمل وميلاد وطفولة ومراهقة وبلوغ وشيخوخة وموت».
نخلص إلى هذه النتيجة لنشير إلى تداعيات فشل الإمبراطور الأميركي في العراق، التي تظهر تباعاً ابتداء بخطاب المواجهة الذي يتعالى في أميركا اللاتينية، والأمل الذي عاد إلى منظومة الدول الأوروبية، والوعي الذي عاد إلى ذاكرة الدول الاشتراكية سابقاً.


(12): الخطة الأميركية الجديدة في العراق مغامرة أخرى سيكون نصيبها الفشل،
وقد تكون تأخيراً للانسحاب من أجل إقرار قانون النفط
الرفيق حسن خليل غريب في ندوة عقدها منتدى صور الثقافي:
المحاور الأساسية للندوة:
الخطة الجديدة استئناف للعدوان والاحتلال وأهدافهما
الخطة في ميزان المقاومة الوطنية العراقية
ضعف حركة الشارع العربي عن تأييد المقاومة العراقية ونصرتها
المصدر الذي يرتكب جرائم بحق المدنيين
الكشف عن واقع المقاومة العراقية
عن دور الإعلام العربي
الدور الإيراني في العراق
بدعوة من الهيئة الوطنية اللبنانية لدعم المقاومة والشعب العراقي، وبمناسبة الذكرى الرابعة للعدوان على العراق، استضاف منتدى صور الثقافي في جنوب لبنان، في الساعة الخامسة والنصف من مساء 20/ 3/ 2007، الرفيق حسن خليل غريب لندوة حوارية تحت عنوان: «خطة الإدارة الأميركية الجديدة في ميزان المقاومة الوطنية العراقية».
قدَّم الرفيق حسن عباس، عضو لجنة المتابعة للهيئة، الندوة بكلمة حيا فيها نضال المقاومة الوطنية العراقية وصمود الشعب العراقي في مواجهة وحشية الاحتلال، ونوَّه بما قدماه من شهداء كان آخرهم الشهيد طه ياسين رمضان الذي سبقه الرئيس صدام حسين، شهيد العراق والأمة العربية. وقد طلب من الحضور الوقوف دقيقة صمت إجلالاً للمناسبة.
واستهلَّ الرفيق حسن خليل غريب كلامه بتوجيه الشكر لرئيس المنتدى وهيئته الإدارية، ودعا إلى تعزيز دور المنابر الثقافية التي تحترم الرأي الآخر في عصر انتشرت فيه منابر الإعلام التي تعمم الثقافة السطحية. كما شكر الهيئة الوطنية اللبنانية لتشريفه بتقديم هذه الندوة. وانتقل إلى تقديم آرائه في موضوع الندوة، وأهم ما جاء فيها:
الخطة الجديدة استئناف للعدوان والاحتلال وأهدافهما
إن أقل ما يقال في خطة جورج بوش الأخيرة في العراق هي أنها المغامرة الأخيرة لإدارة اليمين الأميركي المتطرف في العراق. وهي مغامرة بالفعل لأن الخطة الاستراتيجية الأم قد تآكلت وفشلت تحت ضربات المقاومة الوطنية العراقية منذ بداية العدوان العسكري النظامي، وانتقال المواجهة بين الاحتلال والشعب العراقي إلى استراتيجية المقاومة الشعبية المسلحة منذ العاشر من نيسان من العام 2003.
ومن أجل تفسير إصرار إدارة جورج بوش على متابعة العمل الحربي ضد العراق، بخاصة أنه أعلن النصر في الأول من أيار من العام 2003، علينا أن نعرف ماهية الأهداف الإيديولوجية لتلك الإدارة، التي هي باختصار نتيجة جمع بين مشاريع «إلهية» ثلاثة، تعتبر أن مساحة مشروعها تعم الكرة الأرضية كلها، وهي:
-مشروع اليمينين الأميركيين المتطرفين الذين يعملون من أجل سيادة العرق الأبيض تحت قيادة «العرق الأبيض الأميركي».
-مشروع الصهيونية العالمية التي تؤمن بسيادة «شعب الله المختار» على العالم.
-مشروع اليمين المسيحي المتطرف الذي ينتظر الخلاص على أيدي «المسيح المخلِّص» في آخر معركة يخوضها الخير ضد الشر في هرمجدون على أرض فلسطين.
خلاصة القول إن أهداف محور الشر الثلاثي الذين اجتمعوا تحت قيادة جورج بوش تقودها إيديولوجية أممية يزعم أصحابها أن الله وكَّلهم بالسيطرة على العالم وحكمه، فكانت نقطة بدايتهم الجدية في العراق. ويعتبرون أن فرصتهم الأخيرة المعاصرة هي في تحقيق نصر ما، لإنقاذ مشروعهم المنهار، وهذا ما يفسر إصرار إدارة جورج بوش على متابعة الحلم بالنصر ضاربين بعرض الحائط كل نتائج الانتخابات التي أتت بالحزب الديموقراطي إلى مجلسيْ النواب والشيوخ، على قاعدة المطالبة الشعبية الأميركية بالانسحاب من العراق. وهذه هي بالفعل حقيقة الديموقراطية التي يبشرنا جورج بوش بتعميمها في بلادنا.
ترتكز خطة الإدارة الأميركية الجديدة على أسس سياسية وعسكرية، من أهم تفاصيلها، دعم وإسناد من تسميهم بقوى الاعتدال في المجتمع العراقي، من سنة وشيعة، في مواجهة من تسميهم بـ«العصاة» بين الطائفتين، ويتوسلون من أجل إنجاحها بالأنظمة العربية المتواطئة معهم، وبدول الجوار الجغرافي ذات المصلحة في احتلال العراق.
والجانب الثاني من الوسائل التي تلحظها الخطة هي تصحيح ما ارتكبته إدارة الاحتلال من أخطاء في تعميم الفقر والبطالة في العراق، وتصحيحاً لها تغدق الخطة الوعود من أجل تحسين الوضع المعيشي والخدماتي للشعب العراقي.
أما الجانب العسكري والأمني للخطة، فتبتدئ في بغداد على قاعدة تقسيمها إلى مربعات أمنية معزولة بحواجز «كونكريتية» أو أسلاك شائكة، أو حواجز مائية، لها مداخل ومخارج تتم مراقبة الداخلين إليها والخارجين منها، بعد القيام بإحصاءات لسكان كل مربع. وبعد أن تكتمل ما تسميه مرحلة التطهير الأمني لكل مربع، يأتي دور العامل الاقتصادي في تحسين فرص العمل وتقديم الخدمات. وهكذا يتم تكرار التجربة في المربعات الأخرى في بغداد. وفي اللحظة التي تنجح فيها خطة «فرض القانون» في بغداد، يقوم الاحتلال بتعميمها على مناطق العراق الأخرى.
أيتها السيدات والسادة
على هامش دخان تحليل أهداف الخطة ومتابعة مدى نجاحها أو فشلها يتم تمرير أخطر مشروع في العراق، وكان يشكل أهم الأهداف الأساسية للعدوان على العراق واحتلاله، وهو مشروع «قانون النفط» الذي أقرَّته حكومة المالكي العميلة وأحالته إلى ما يُسمى المجلس الوطني العراق من أجل الموافقة عليه.
لقد أعدت الشركات الأميركية والبريطانية نص القانون المذكور، ومن أهم ما يقره هو تحديد حصة الشركات بما يقارب من الـ 80% من الاستثمارات، بواسطة عقود تصل إلى عشرات السنين قابلة للتجديد. والباقي يتم توزيعه حصصاً على الإثنيات المذهبية والعرقية.
لكن فلتطمئن نفوس المتسائلين الصادقين حول مصير هذا القانون، أن كل عقد أو اتفاقية تتم تحت ظل الاحتلال لا تحوز على أية شرعية قانونية وطنية أو دولية. وهي غير مُلزِمة لأي نظام سيحكم العراق بعد هزيمة الاحتلال.
الخطة في ميزان المقاومة الوطنية العراقية
أما ردَّ المقاومة الوطنية العراقية، على خطة جورج بوش الجديدة، هو أنه ليس كل ما يخطط له أحد طرفيْ الصراع هو ما يمكن أن يُكتَب له النجاح. وإذا كان الأمر ذو علاقة على الأرض فإننا نرى أن الخطة تتآكل بعد أقل من شهر من انطلاقتها في بغداد، وحبل الفشل مستمر على جرار المقاومة الوطنية العراقية. أما واقع التقييم فإننا نقيسه على وقع طبول الرفض التي ترتفع أصواتها في شوارع المدن الأميركية، وتتَّسع لتشمل كل دول العالم قاطبة، باستثناء الشوارع العربية التي هي الأكثر صمتاً. أما السبب في غياب الشارع العربي فله علاقة بغياب أحزاب حركة التحرر العربي التي تنشغل بأزماتها الداخلية. ولهذا السبب نستعيد ما قاله الرئيس صدام حسين شهيد العراق والأمة العربية أمام وفد عربي سأله عن السبب في رفضه مطالب الأميركيين، وإن في استجابته ما يجنِّب العراق ويلات الحرب والتدمير، قائلاً: نحن سنخوض المعركة وعلى العرب أن يستفيدوا منها. أما المقصود فنحن نفهمه اليوم أن على حركة التحرر العربية أن تضع تجربة العراق في المواجهة مع الإمبريالية والصهيونية، بعد أن أثبتت نجاحها، أمام الدرس والتمحيص والاستفادة، فهل تفعلها أحزاب حركة التحرر العربي؟
أيتها السيدات والسادة
لكي تعرفوا نتيجة المواجهة الدائرة على أرض العراق الآن، عليكم متابعة ما يجري على أرض أميركا. فالشارع الأميركي، والحركات السياسية والإعلامية والفكرية تقاتل مع المقاومة العراقية من أجل إخراج الجيش الأميركي من العراق الآن قبل الغد.
وبعد أن قدَّم الرفيق غريب عرضه للمشهد الراهن في العراق، تقدَّم بعض الحاضرين بمداخلات وأسئلة تناولت المسائل التالية:
-أسباب ضعف حركة الشارع العربي في تأييد المقاومة العراقية ودعمها.
-على من تقع مسؤولية الاعتداء على المواطنين العُزَّل.
-حجم وجود فصائل المقاومة ذات المشاريع السياسية الدينية ومدى تأثيرها.
-غياب دور الإعلام عن دعم المقاومة.
-وقائع الدور الإيراني في العراق، وموقف المقاومة منه.
وقد أجاب الرفيق غريب عن تلك المسائل، ومن أهم ما جاء في توضيحه ما يلي:
ضعف حركة الشارع العربي عن تأييد المقاومة العراقية ونصرتها
-إن حركة الشارع العربي في دعم هذه أو تلك من القضايا القومية أو العالمية، صعوداً أو هبوطاً، ترتبط بعاملين: الأول مدى استجابة الجماهير ومدى وعي حركة التحرر العربية، أحزاباً وحركات وقوى، لتلك القضايا. أما الجماهير العربية فهي توَّاقة لدعم كل أنواع المواجهة ضد المشاريع الأميركية والصهيونية. لكن هذه الجماهير هي بحاجة إلى قيادة تنظِّم صفوفها، وتحدد لها وسائل حركتها النضالية. ولأن أحزاب وحركات التغيير، من المحيط إلى الخليج تعيش أزمات داخلية، وهي عاجزة عن تنظيم صفوفها، فهي أيضاً عاجزة عن قيادة الشارع العربي. لهذا لا نرى في الأفق ما يبشِّر بتسريع حركة الجماهير، الجاهزة للحركة، قبل أن تخرج تلك الأحزاب من أزماتها الداخلية، التي تعود أسبابها الرئيسية إلى غياب الرؤية القومية ووحدة القضايا الوطنية العربية وترابطها الجدلي. هذا في الوقت الذي بتنا فيه على قناعة بأن الطليعة هي التي تدفع الثمن الغالي أولاً لتلتحق بها، من بعد أن تحقق انتصارات ملموسة، شرائح أوسع. وهذا هو قدَر المقاومة الوطنية العراقية الآن، وقد أثبتت الوقائع أنها أهل لها.
المصدر الذي يرتكب جرائم بحق المدنيين
-كثرت الأحاديث عن تحميل المقاومة وزر الجرائم التي تُرتكب ضد المدنيين، وتأتي هذه الأحاديث وكأنها تصدِّق ما يروِّج له الاحتلال وعملاؤه، وهذا فيه ما يثبت للأسف أن الطرفين معاً يمارسان الأكاذيب من أجل تشويه أهداف المقاومة، وعندما يصدِّقها الرأي العام يعني أنها قد نجحت في ذلك. وعن هذا الأمر، أكَّدت المقاومة بكل فصائلها أنها ليست مسؤولة عن ذلك، فهي عندما تقاوم الاحتلال فهي إنما تدافع عن الشعب، وعملياتها العسكرية تستهدف جنود الاحتلال وكل من يتعاون معه. أما تلك العمليات التي تستهدف المدنيين فقد أثبتت الوقائع والتقارير أن من يقوم بها، هما طرفان: الأول هو الاحتلال الذي يريد أن يفكك وحدة العراقيين ويزرع حاجزاً بينهم وبين المقاومة، والثاني هي الميليشيات المذهبية المسلحة، التابعة للفريق العميل الحاكم، التي تهدف إلى تعميق الهوة بين الأديان والمذاهب لتبرر إقامة كياناتها المذهبية السياسية تحت اسم «الفيدرالية».
الكشف عن واقع المقاومة العراقية
-أما عن فصائل المقاومة العراقية، التي تعمل تحت شعارات سياسية دينية، فهي تؤدي دورها التحرري وتحصر أهدافها المرحلية في مقاومة الاحتلال، وقد أعلنت جميعها أن هدفها الأساسي هو تحرير العراق، وتنسِّق فعالياتها العسكرية مع الفصائل الأخرى في أكثر من إطار. ومن أهم ما تعمل عليه في هذه المرحلة هو التحذير من الانجرار إلى ردات الفعل في مواجهة وسائل الميليشيات العميلة الهادفة إلى تفكيك اللحمة الاجتماعية بين العراقيين على أسس طائفية ومذهبية، ومن أهم مظاهرها تفجير السيارات في الأسواق العامة ودور العبادة. أما ما يتم الترويج له من أنها تشكل العصب الأساسي في المقاومة العراقية فهذا فيه الكثير من المغالطات، لأن مؤسس المقاومة والذي أعدَّ لها بسنوات قبل الاحتلال، والذي اعتبرها الاستراتيجية الأساسية بعد وقوع الاحتلال، فهو حزب البعث العربي الاشتراكي. وبالفعل كما تدل كل الوثائق والبراهين هو أن المقاومة العراقية على قاعدة «الكفاح الشعبي المسلح»، ابتدأت في العاشر من نيسان على أيدي الفصائل التي أعدَّها الحزب، بقيادة الرئيس الشهيد صدام حسين، الذي أعلن أمام وفد عربي «إن العراق سيخوض المواجهة مع الأميركيين، وعلى العرب أن يستفيدوا منها». وقد تأسست كل الفصائل الأخرى، ومنها الفصائل الإسلامية، بعد تلك الانطلاقة بأشهر. أما العصب الأساسي وموقع الثقل في المقاومة العراقية فهي المقاومة الوطنية، بفكرها ومقاتليها، وتغطي كل العراق، جغرافياً وإثنياً. أما من أسهم فيها من الإسلاميين والعرب، فهو جهد له قيمته الإيجابية القصوى، لأنه يجعل العراقي يشعر بأن معركته التي يخوضها ضد الاحتلال هي معركة العرب والمسلمين معاً.
عن دور الإعلام العربي
-أما عن الإعلام العربي الذي يغيِّب دور المقاومة، فغني عن القول بأنه مأجور. ولكن وحيث إن من يريد إبراز دورها من الصادقين فهم ممن لا يمتلكون الإمكانيات التي تُيسِّر تأسيس وسائل إعلامية تقوم بواجبها، ولكن المقاومة تفرض نفسها بسبب من شدة تأثيرها على الإعلام الغربي لوحده، وتبرز آثارها على ما يجري في الشارع العالمي، بشكل عام، والشارع الأميركي بشكل خاص. وهي التي تشكل وسيلة إعلامية، من دون قصد، للمقاومة العراقية.
الدور الإيراني في العراق
-وتبقى مسألة الدور الإيراني في العراق، وهنا لا بدَّ من التوقف عند المسألة الخلافية بين من يعرف حقيقة ذلك الدور ومن لا يعرفه. وكما أننا نحترم كل الآراء المبنية على الجهل بحقيقة ذلك الدور لقلة المعلومات التي تصلها، نتمنى على من يتبناه من الحضور الكرام أن يسمع رأينا ويعترف بحقنا في الكشف عن الدور الحقيقي.
إن إيديولوجيا حزب البعث العربي الاشتراكي قومية تعترف بحدود الدول الأخرى وسيادتها، فهي تعترف بحدود إيران وسيادتها، وبهذا لا تطمع بأي شبر من الأرض الإيرانية. أما إيديولوجيا النظام الحاكم في إيران فهي مبنية على أسس أممية، أي من حقها أن تبني الدولة الإسلامية العالمية، وبذلك فهي لا تعترف بالحدود الجغرافية للدول الأخرى، وتأتي البوابة العراقية من أهم مداخلها الأساسية. فبناء على اعتقاد النظام الإيراني الإيديولوجي فهو لا يعير حرصاً على حدود الدول الأخرى، بل يبدي عداءً لأية وحدة قائمة على العامل القومي، فهو إذاً يعتمد على استراتيجية إلغاء الحدود الجغرافية العراقية واختراقها والدخول منها لتحقيق المشروع الاستراتيجى الأممي، ومن أجل ذلك يعمل على اقتطاع العراق، أو أي جزء منه، وتوكيل نظام سياسي يتولى الحكم فيه، ويرتبط بما يعتقد أنه يمثل المركزية الإسلامية في إيران.
أما من حيث وقائع الدور الإيراني في العراق، فهناك جملة من المظاهر والأعمال والوسائل التي لا يجوز إغفالها من أجل تكوين معرفة موضوعية لحقيقته، ومن أهمها: التنسيق مع «الشيطان الأكبر» في احتلال بلدين إسلاميين في أفغانستان والعراق، والتنسيق والتعاون معه بعد الاحتلال. والسكوت عن وجود «الغدة السرطانية»، أي الوجود الصهيوني في العراق تحت كافة الأشكال والألوان، الأمني والتجاري والتمثيلي. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل: هل هناك علاقة منطقية بين التمويل الإيراني لقتال العدو الصهيوني في لبنان، والتنسيق معه في العراق؟ وهل هناك ربط منطقي بين إعلان العداء للإمبريالية الأميركية والتعاون معها في آنٍ واحد؟
أما المقاومة الوطنية العراقية، وحزب البعث العربي الاشتراكي، فيطلبان من أي نظام إيراني أن تكون إيران جاراً آمناً في مصالحه وسيادته وخياراته السياسية، ولكن من شروط الجوار الحسن أيضاً أن تكون إيران أمينة على مصالح جيرانها وسيادتهم وخياراتهم السياسية. فهل هذا حاصل على أرض الواقع؟
كل الوقائع الميدانية المبنية على تقارير مؤكَّدَة تدل على أن النظام الإيراني ليس بعيداً عن توفير شروط الجوار الحسن مع العراق فحسب، وإنما يسلك سلوكاً لا يختلف عن سلوك الاحتلال الأميركي أيضاً. وعلى الرغم من ذلك فلا تزال في هذه المرحلة فرصة أمامه لكي يثبت حسن نواياه، في سلوك أساسي ومُستعجل، وهو الانتقال إلى ضفة مقاومة «الشيطان الأكبر» كحد أقصى وهو أقرب إليه من حبل الوريد، أو دعوة ميليشياته التابعة له، إلى رفع شرها عن المقاومين العراقيين والامتناع عن ملاحقتهم وقتلهم أو اعتقالهم، وهذا أضعف الإيمان.
وإذا كان أملنا في أن تتم الاستجابة إلى دعوة المقاومة، أو لا تتم، كما للاستجابة لدعوة العرب المخلصين لقوميتهم، ولأن إيران والعراق، بعمقه القومي العربي، جاران أبديان، يبقى الدعاء من أجل أن يسعى النظام الإيراني لتوفير شروط «الجوار الحسن» بين إيران والعراق، وإن كان يمثِّل أضعف الإيمان، فهو دعاء من الواجب تكراره، حتى للمرة المليون، لأنه من الخطأ الاعتقاد بأن حالة العداء الراهنة سوف تستمر إلى آخر الزمان. على ألاَّ تكون مبادرات حسن النية من طرف واحد، وعلى ألاَّ يحول اعتبار التناقض الرئيسي محصوراً ضد الولايات المتحدة الأميركية طالما أن للنظام الإيراني أطماع مشابهة حتى ولو كانت بعمق إيديولوجي له اتجاهاته الخاصة. وعلى ألاَّ تحول مبادرات حسن النية من طرف المقاومة، وأنصارها، دون الكشف عن مخاطر المشروع الإيراني طالما ظلَّ مصراً على تطبيقه في العراق.

(13): من أجل تحديد موقف موضوعي من الدور الإيراني حيال قضايا الأمة العربية
25/ 3/ 2007
مداخلة تم توزيعها في المؤتمر الرابع للحملة الدولية في القاهرة (28-29/3/ 2007)
انقسم المثقفون العرب، وحركاتهم السياسية، حول الموقف من الدور الإيراني في القضايا العربية إلى محورين:
الأول ينظر إليه بعين الإيجابية، استناداً إلى دعمه لحزب الله في لبنان في المواجهة مع العدو الصهيوني، وقد عمَّموا هذا الموقف حاسبين أن النظام الإيراني يقوم بدور داعم لكل القضايا العربية، فكانت قياساتهم العامة مبنية على مواقف جزئية للنظام الإيراني بما يحمل ذلك من أخطاء في الاستنتاجات الموضوعية، بينما لم ينظروا إليه ولم يقيِّموا دوره في العراق، حيث نسَّق وتعاون إلى أقصى حدود التعاون مع الأمبريالية الأميركية.
أما الثاني فيرى هذا الدور من خلال محاكمة كلية لمواقف النظام الإيراني، واضعين في موازين الحساب كل أدواره، وليس بعضها، حيال المواجهة مع طرفيْ التحالف المعادي: الاستعمار والصهيونية، استناداً إلى سلوكاته في كل من لبنان ضد الصهيونية، والعراق ضد الاحتلال الأميركي.
لقد اهتمَّ المحور الثاني باتخاذ موقف موضوعي من دور النظام الإيراني من القضايا القومية، خاصة أنه يتقاطع مع أكثر من حلقة من حلقات المشروع الأميركي الصهيوني في كل من العراق وفلسطين ولبنان، وإذا كانت فلسطين لا تُعتبر أنموذجاً مثالياً نقيس عليه الدور الإيراني لكي نفهمه على حقيقته، فإن ذلك الدور يمكن فهمه بجلاء ووضوح أكبر في كل من لبنان والعراق. ويرى هذا المحور أن الخطأ في تقدير الدور الإيراني، كما أنه يشكل إيجابية جزئية في بعض قضايانا القومية قد يشكل خطراً عليها كلها في قضايا جزئية أخرى، إذ ذاك نقطف الخطورة بعد فوات الأوان، وتتبخَّر الإيجابيات الجزئية.
من الخطأ أن نحصر موقفنا بالخطوات الجزئية الإيجابية من دون ربطها بالسقف الاستراتيجي العام لمشروع النظام الإيراني. فالخطوات الجزئية، سواءٌ أكانت سلبية أم إيجابية، مخطَّطٌ لها أن تصب في مصلحة مشروعه الاستراتيجي. فقد يوظِّف دوره الإيجابي في بعض القضايا العربية من أجل خدمة مشروعه العام. إذ أنه كما يقدِّم خدمات لبعض قضايانا علينا أن لا نغفل الاحتمال بأن يكون الهدف من تقديمها هو توظيفها لمصلحته الاستراتيجية. ففي مثل هذا الاحتمال، وإن كانت خدماته تفيدنا تكتيكياً إلاَّ أنها ستلحق الضرر بقضايانا الاستراتيجية.
ولكي نحدد الدور السياسي الإيراني بدقة، يتوجَّب علينا أن نعرف مضمون أهداف النظام الإيراني الإيديولوجية، أي أهدافه الاستراتيجية أولاً، وننظر إلى دوره بشكل أشمل وأوسع. فما هو هذا المضمون؟
معرفة الأسس الإيديولوجية للنظام السياسي في إيران مدخل ضروري لمعرفة أهدافه السياسية
إن كنا نبتعد كقوميين علمانيين عن تسمية الأسباب بمسمياتها، لدقة حساسيتها في ثقافتنا، إلاَّ أنه أصبح مفروضاً علينا أن نسميها بمسمياتها الحقيقية لأغراض التشخيص الموضوعي السليم. إن أهداف إيديولوجيا النظام الإيراني تؤسس لقيام نظام سياسي شيعي عالمي، على قاعدة تشريع قيام دولة سياسية في مرحلة الغيبة الكبرى للإمام «محمد المهدي المنتظر»، ويقودها «الفقيه العادل» الذي يُعتَبَر نائبه طالما لم يظهر. وتلك النظرية أصبحت معروفة بنظرية «ولاية الفقيه»، التي يتم تطبيقها في إيران، وهي تعتبر المجتمعات الشيعية في العالم التي تؤمن بتلك النظرية امتداداً للمرجعية الحاكمة في إيران. وإن الخطاب الإيراني السياسي الداعي إلى قيام وحدة إسلامية، أو دولة إسلامية عالمية، ليست إلاَّ غلافاً تكتيكياً، ينقض أهدافه ما جاء من تعليمات دينية مذهبية صارمة في نص تم توزيعه تحت عنوان «الوصية الإلهية» التي أذيعت بعد وفاة الإمام الخميني.
إن مضمون تلك الإيديولوجيا يقتضي بناء مرجعية مركزية سياسية لشيعة العالم تلتزم بأوامر الفقيه العادل، وهذه المرجعية تتمثَّل بالنظام الإيراني، يحتل علي الخامنائي مركز «نائب الإمام»، إذ يمثل المرجعية الدينية العليا الذي يلتزم بفتاويه كل الذين يقلدونه. ويمثل فيه رئيس جمهورية إيران مركز الحاكم السياسي. وتلتزم المجتمعات الشيعية في العالم، التي تؤمن بنظام «ولاية الفقيه» بتنفيذ «التكليف الشرعي» الصادر عن مرجعية علي الخامنائي، التي هي أوامر ملزمة يُحرَّم مناقشتها.
إن قيام نظام سياسي، على تلك الأسس الأممية، يجعل حدود الدول القومية الحديثة غير ذات صفة قانونية إذ يحق للمرجعية الدينية والسياسية في داخل النظام السياسي الإيراني أن تخترقها، وتستبيحها، وأن تغزوها أيضاً، كما يجعل من شيعة العالم رعايا من رعاياه، من واجبها أن تلتزم بالولاء لمرجعيته، وهذا يكون على حساب الولاء لأوطانها. إن تلك الإيديولوجيا، هي بلا شك، معادية تماماً لكل وحدة قومية ويكون من أهمها الوحدة القومية العربية.
كما أن تشريع الدولة الإسلامية لا بدَّ من أن يستند إلى الفقه الشيعي الإثني عشر، الذي كما هو يتعارض بأكثر جوانبه مع فقه المذاهب الإسلامية الأخرى، فإنه يتناقض أيضاً مع علمنة الأنظمة السياسية للدولة المدنية الحديثة، التي لا تستقيم العدالة فيها بين مواطنيها من دونها. ولهذا أعلن بعض القادة التابعين لنظام ولاية الفقيه في إيران أن «العلمانية والصهيونية وجهان لعملة واحدة».
فدولة «ولاية الفقيه» تقف في موقع العداء التام ضد مسألتين، لا يمكن للدولة القومية العربية أن تقوم إلاَّ عليهما، وهما: الوحدة الوطنية والقومية جغرافياً ومجتمعياً، ووحدة التشريع المدني الذي يتساوى فيه كل المواطنين بالحقوق والواجبات.
إن الاعتقاد بحرية الدول والشعوب في بناء أنظمتها السياسية، يقودنا إلى احترام حرية الشعب الإيراني في اختيار النظام السياسي الذي يريد داخل حدود إيران الجغرافية المعترف بها دولياً. ولكن بما أن إيديولوجيا النظام تحمل أبعاداً أممية دينية، على الشيعة في العالم، وتشكل مشروعاً «إلهياً»، نجد فيها خطورة بالغة على مجتمعنا العربي، لأن النظام الإيراني يُلزم الشيعة العرب في الولاء والعمل على القفز فوق مرجعياتهم القومية والوطنية إلى الولاء للنظام الإيراني.
كانت تلك المقدمة الفكرية ضرورية من أجل الدخول لتحديد تعريفنا للدور السياسي الإيراني الراهن.
الدور السياسي للنظام الإيراني ترجمة لإيديولوجيته الفكرية
لا يمكن لإيديولوجيا ذات أبعاد عالمية أن تنجح من دون استراتيجية سياسية تتناسب مع حجم المهمة الإيديولوجية، ويأتي على رأسها أن تكون المرجعية الفكرية والسياسية، التي تمثل مركزيتها الدولة الإيرانية، قوية وقادرة وذات نفوذ في محيطها الجغرافي. ولهذا تعمل إيران في هذه المرحلة من أجل أن تكون قوية وقادرة في محيطها الجغرافي، ومن أهمه الوطن العربي، وبخاصة منه أقطاره الشرقية، ويشكل العراق بوابتها الرئيسية بفعل عاملين أساسيين، وهما:
-العامل الجغرافي بحيث إن الخليج العربي يشكل حاجزاً مائياً بين إيران والوطن العربي، وليس لإيران حدوداً برية مع الوطن العربي إلاَّ عبر الحدود مع العراق.
-والعامل الاجتماعي بحيث يسكن الشيعة العراقيون في جنوب العراق الذي هو امتداد جغرافي بري مفتوح على إيران. وبمثل هذا العامل يخطط نظام ولاية الفقيه في إيران لتقوية نفوذه بين شيعة العراق، ليفتح له بوابات العبور إلى الأرض العربية.
هنا نرى من المفيد أن نضيء على مقارنة بغاية من الأهمية تساعدنا على فهم ما يجري بين العراق وإيران، وبالتالي بين إيران والوطن العربي. وتستند تلك المقارنة إلى لأبعاد الإيديولوجية التي تؤمن بها الأحزاب والتيارات القومية، ومنها ما يؤمن به حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان يقود النظام السياسي في العراق قبل الاحتلال.
إيديولوجيا حزب البعث قومية تحصر أهدافها ووسائل نضالها من أجل مصلحة المجتمع العربي وداخل حدوده الجغرافية. ولهذا فقد حددها دستور الحزب في الماد السابعة، تحديداً دقيقاً، وقد جاء فيها بالنص: «الوطن العربي هو هذه البقعة من الأرض التي تسكنها الأمة العربية، والتي تمتد ما بين جبال طوروس وجبال بشتكويه وخليج البصرة والبحر العربي وجبال الحبشة والصحراء الكبرى والمحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط». أما الحدود المجتمعية فقد جاء عنها في المادة الثالثة من الدستور، ما يلي: «الفكرة التي يدعو إليها الحزب هي إرادة الشعب العربي في أن يتحرر ويتوحد، وأن تعطى له فرصة تحقيق الشخصية العربية في التاريخ وأن تتعاون مع سائر الأمم على كل ما يضمن للإنسانية سيرهم القويم إلى الخير والرفاهية». وفي المادة العاشرة: «العربي هو من كانت لغته العربية، وعاش في الأرض العربية أو تطلع إلى الحياة فيها، وآمن بانتسابه إلى الأمة العربية». أما في مادته الحادية عشرة، فقد نصت على أن: « يجلى عن الوطن العربي كل من دعا أو انضم إلى تكتل عنصري ضد العرب وكل من هاجر إلى الوطن العربي لغاية استعمارية».
إن هذه النصوص تثبت بما لا شك فيه، أن الحزب لا يطمع بأية قطعة أرض خارج الحدود الجغرافية للوطن العربي. كما أنه ليست من أهدافه أن يضم إلى المجتمع العربي من لا يؤمن بالقومية العربية. وكل هذا يعني أن العراق بقيادة حركته القومية، وخاصة نظام حزب البعث، ليست له أية مطامع جغرافية في الأرض الإيرانية، أو غيرها من أراضي دول الجوار الجغرافي الأخرى.
وفي المقابل، إن إيديولوجيا النظام الإيراني ذات بُعدين: البعد المذهبي الذي يعتبر أن شيعة العالم هم امتداد له، والبعد الأممي الذي يعتبر أن بناء دولة إسلامية أممية لا يمكن أن يتحقق من دون توسيع حدود إيران الجغرافية. ولأن في العراق تتوفر شروط أنموذجية للبعدين: الجوار الجغرافي البري، والتجانس المذهبي في جنوب العراق، ففيهما ما يُثبت أطماع النظام المذكور في أرض جيرانه الأقرب منهم فالأبعد.
استراتيجية النظام الإيراني السياسية عدائية ضد القومية العربية تعمل على تنفيذها في العراق
منذ أن انتهت الحرب الإيرانية – العراقية في العام 1988، ظلَّ الالتباس حول من بدأ العدوان سائداً في أوساط المثقفين العرب وحركاتهم السياسية، بينما كان نظام حزب البعث العربي الاشتراكي السياسي في العراق يعمل جاهداً من أجل بناء علاقات الجوار الحسن مع النظام الإيراني، وتلك وقائع موثَّقة ومؤكدة، ولعلَّ الطلب بإيواء الطائرات العراقية، المدنية والحربية، عند إيران في أثناء العدوان الثلاثيني على العراق في العام 1991، دليل على حسن نوايا قيادة الحزب والثورة في ذلك التاريخ. أما البرهان على عدوانية النظام الإيراني فكانت ماثلة في رفضه إعادة تلك الطائرات إلى الحكومة العراقية بعد انتهاء العدوان. لكن هذا لم يمنع النظام السياسي في العراق من الإصرار على متابعة سياسته في نسج العلاقات الإيجابية مع النظام الإيراني، فيما بعد، لعلَّ أبرزها تسهيل زيارة الحجاج الإيرانيين إلى العتبات المقدسة في النجف وكربلاء والكوفة وسامراء...
وظلَّت مبادرات حسن النوايا مستمرة حتى ليل 19 – 20/ 3/ 2003، بداية العدوان الأميركي والبريطاني والصهيوني على العراق، وبعد احتلال بغداد، أخذت تتسرَّب مظاهر الدور الإيراني في مساعدة العدوانيين على احتلال العراق، ومن ثم أعلنت بشكل واضح، حيث اعترف أكثر من مسؤول إيراني بذلك، بأنه «لولا إيران لما استطاعت أميركا الدخول إلى كابول وبغداد»؟
تؤكِّد الأهداف الإيديولوجية والسياسية والعملية للنظام الإيراني عدوانيته بشكل ظاهر وواضح، وهذا ما يدفعنا إلى البناء عليها في تحليل الدور الحقيقي الذي تمارسه إيران في العراق اليوم، وعليها سنقوم بتفسير أسباب الالتباسات التي حصلت، ولا تزال، في الجدال الدائر بين من ينظرون إلى الدور الإيراني بعين الإيجابية، والذين ينظرون إليها بعين السلبية.
إن الموقف والسلوك من قضايا العرب الكبرى هو المكيال الذي نحدد على أساسه التناقض الرئيسي
للأمة العربية مصلحة استراتيجية، وأبدية، في حماية سيادتها على أرضها وثرواتها وحريتها في اختيار نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وتطلب من الدول الأخرى أن تحترم تلك الخيارات كشرط مسبق لعلاقات إيجابية تسهم في بناء عالم مستقر وآمن. وكل دولة لا تحترم تلك الخيارات تقع حتماً في دائرة التناقضات الرئيسية، ومن واجب الأمة العربية أن تعد موجبات المواجهة مع تلك الدول والقوى.
هذا التعريف يقودنا إلى وضع الصهيونية والإمبريالية في مصاف الدول والاستراتيجيات المعادية للأمة العربية لأنها تعمل على تهديم كل ما يتناقض مع مصلحة الأمة، بدءاً باغتصاب أرض فلسطين، مروراً بسرقة الثروات العربية، وتنصيب أنظمة سياسية لا تستجيب لمصلحة الأمة، وكانت أكثر المظاهر عدائية هو ما حصل في احتلال العراق بطريقة عسكرية مباشرة.
وعلى الافتراض العلمي والموضوعي، نقول: إذا أقلعت الصهيونية والإمبريالية عن ممارسة العدوان على مصلحة الأمة القومية، بعناصرها كلها أو بعضها، هل نبقيها في دائرة التناقض الرئيسي؟
نحن لا نحدد عوامل التناقض الرئيسي مع الآخرين بهويتهم القومية أو الدينية، أي نحن لا ننظر لأميركا والشعب الأميركي نظرة العداء لأنهم أميركيون، كما لا ننظر إلى الصهيونية والشعب اليهودي بعين العداء لأنهم يهوداً، وإنما نحددها بمواقفهم من قضايانا. فلأن أميركا تعتدي على مصالحنا ننظر إليها بعين العداء، وكذلك بالنسبة لليهود. فهم متى امتنعوا عن السطو على مصالحنا، نمتنع نحن عن النظر إليهم بعدائية، بل اعتبارهم أصدقاء.
ما هو موقع النظام الإيراني من مصالح الأمة القومية والوطنية في خياراتها الداخلية؟
إن إيران، قبل كل شيء، جار جغرافي وجار ثقافي تاريخي، يكفي أن يتوفَّر فيها شرط الجوار الجغرافي ليدفعنا إلى الحرص على بناء علاقة «الجوار الحسن» معه، لأنه لا يجوز على الإطلاق أن يبقى «جاران أبديان» على علاقة توتر دائم، لأنهما سيدفعان ثمناً من أمنهما واقتصادهما، ولنتصور فداحة هذا الثمن إذا كانت كل دولة على علاقة توتر مع جيرانها؟
إن من شروط الجوار الحسن أيضاً أن يتعاون الجاران على حماية بعضهما البعض، وفي أسوأ الحالات ألاَّ يشارك الجار أية قوة معتدية على جاره، فيكون موقف الحياد هو «أضعف الإيمان». أما الأسوأ في كل ذلك فهو أن يشارك الجار عدواً مشتركاً في العدوان على جاره.
فهل في العمق الإيديولوجي والسياسي والسلوكي ما يوحي بأن إيران تسعى من أجل «جيرة حسنة» مع العراق والأمة العربية؟
في الإطار النظري الإيديولوجي والسياسي، كأهداف استراتيجية للنظام الإيراني، تبيَّن أن مصلحة إيران تتناقض مع مصلحة الأمة العربية في الوحدة السياسية وفي حماية الحدود الجغرافية وحماية وحدة المجتمع العربي، لأن نظام الطائفية السياسية هو بحد ذاته يتناقض كلياً مع وحدة المجتمعات القومية والوطنية، وحيث إن النظام الإيراني يسعى من أجل بناء دولة دينية يكفي أن يكون عاملاً للتفتيت، ليس على وحدة المجتمع الوطني فحسب، بل وحدة المجتمع الديني أيضاً، إذ تبدأ الإشكالية تصطدم بأرض الواقع عندما يجري التنافس والصراع حول أي فقه ديني سيكون أساساً للتشريع، وتتعمَّق أكثر عندما يبدأ الصراع حول أي فقه مذهبي سيكون الأساس.
لم تقف أهداف النظام الإيراني عند حريته في بناء النظام السياسي الذي يختاره الشعب الإيراني، لأنه لو توقف الأمر عند هذا الحد، لما كان الأمر يعنينا بشيء، لأننا سنحترم حتماً حريتهم في خياراتهم. لكن الأمر تعدَّى تلك الحدود، قبل الاحتلال الأميركي، وبداية لعدوانهم في العام 1980، إذ بدأوا تحريض شيعة العراق، وشكَّلوا مجاميع من عملائهم للعبث بالأمن الداخلي العراقي كمقدمة لعدوان كان مبيتاً من أجل تعميم نظام «ولاية الفقيه» في العراق كمرحلة أولى. واستأنفوا مشروعهم الطائفي السياسي عندما أدخلوا عملاءهم تحت عباءة الاحتلال الأميركي في العام 2003، فمارسوا الاعتداءات على العراقيين، وحولوا ساحة العراق إلى ميدان للصراع الطائفي، وكانوا أكثر المتحمسين لإقرار الدستور العرقي على أسس طائفية، ناهيك عن حماسهم في إقرار النظام الفيدرالي بتقسيم العراق إلى كانتونات طائفية، من أجل تطبيقها افتعلوا كل الأسباب، وسلكوا كل وسائل الإجرام في التهجير الطائفي من أجل تثبيت كانتون شيعي في العراق يدين بالولاء لمرجعية نظام «ولاية الفقيه» في إيران بأبعاده الأممية. وهو أول الغيث، فيما لو استقرت الأمور لهذا المشروع، من أجل تعميمه على أقطار الأمة العربية الأخرى.
ما هو موقع النظام الإيراني من مصالح الأمة القومية والوطنية في خياراتها التحررية؟
إن الالتباسات الأساسية التي أسهمت في وجود المواقف المتباينة من سلامة مواقف النظام الإيراني في هذه المرحلة تجاه قضايا الأمة العربية، تتلخَّص في مظاهر الدعم الذي قدَّمه، والذي لا يزال يقدمه، لحزب الله في لبنان، من أجل مواجهة العدو الصهيوني.
لقد استند المدافعون عن سلامة المواقف الإيرانية التحررية إلى عامل النصر الذي حققه حزب الله في لبنان في مرحلتين: فرض الانسحاب على العدو الصهيوني في أيار من العام 2000، والصمود التاريخي في مواجهة العدو في 12 تموز من العام 2006.
من دون نقاش أو مقدمات أو نقد للتفاصيل، نعتبر أن لهذا النصر نتائج تعود بأفضل الإيجابيات على معنويات الجماهير الشعبية العربية، كما على تقديم استراتيجية للمواجهة مع العدو الصهيوني تسفِّه كل مقولات النظام العربي الرسمي. وكانت تلك المواجهات التي خاضها حزب الله، بدعم إيراني وسوري، تصب في مصلحة الأمة العربية من دون شك، وكانت إسهاماً جدياً في معركة المواجهة مع الصهيونية، وعلى حركة التحرر العربية أن تستفيد منه.
من هذا الموقع الجزئي، وفيما لو كان يمثل الموقع الوحيد في المواجهة مع الصهيونية والأمبريالية، لكان من الخطأ أن نرشق النظام الإيراني بوردة تسيء إليه، بل كان من الواجب الاعتراف بأنه أسهم بإنجاز أفضل المواجهات مع العدو الصهيوني، كونه يمثل التناقض الرئيسي مع الأمة العربية. ولكنه كان موقعاً واحداً من مواقع المواجهة، ومن أهمها موقع المواجهة الكبرى التي تخوضها المقاومة الوطنية في العراق ضد الاحتلال الأميركي. ومن هنا تبدأ الالتباسات في تعريف موقع النظام الإيراني في خريطة المعركة التحررية العربية.
إن تناقض الأمة العربية الرئيسي ينحصر في رأسين اثنين: الاستعمار الأميركي، والاستيطان الصهيوني.
وفي المقابل، علينا الاعتراف بأنهما يشكِّلان التناقض الرئيسي في إستراتيجية النظام الإيراني، كما هو ظاهر في الخطاب الإيديولوجي والسياسي للنظام المذكور. فالخطاب الظاهر يشير إلى أن الوجود الصهيوني في فلسطين هو «الغدة السرطانية» التي يجب اقتلاعها وإزالتها من الوجود، وإقران النظام الإيراني القول بالفعل عندما وفَّر كل الإمكانيات المادية والتسليحية التي أتاحت لحزب الله، ولمجاهديه الأبطال، أن ينجزوا ما أنجزوه من انتصارات لكل جماهير الأمة العربية. وهو إذاً يعمل على اقتلاع تلك «الغدة».
أما موقف النظام الإيراني في العراق قبل الاحتلال الأميركي وبعده فهو موقف مختلف تماماً، وفيه يبرز بوضوح التناقض الحاد. إذ يعتبر النظام الإيراني في إيديولوجيته وخطابه أن الولايات المتحدة الأميركية هي «الشيطان الأكبر»، فهل يُقرن النظام الإيراني القول بالفعل في محاربة «الشيطان» الذي يقبع على أرض العراق؟
إننا لا نرى أن النظام يقوم بما يعلن، ونستدل على ذلك من القرائن التالية:
-التنسيق مع الشيطان الأكبر قبل العدوان، إذ لولاه لما «دخل إلى كابول وبغداد». فهل من المنطقي أن يكون هذا الدور التنسيقي بين «الملاك» و«الشيطان» مجرد كلام يلامس آذاننا، ولا نتوقف عند أعماق أهدافه؟
-في الوقت الذي كانت دماء العراقيين تسيل، وأرواحهم تُزهَق، وصواريخ «الصدمة والرعب» تؤرق ليل أطفال العراق ونسائه وشيوخه، كانت أعلام من ربَّاهم ودرَّبهم النظام الإيراني طوال سنوات على أرض إيران ترفرف تحت حماية قوات الاحتلال الأميركي. وهل تخفى رايات «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق»، بقيادة آل الحكيم، وقواتهم العسكرية والأمنية المنتسبة تحت لواء «فيلق بدر»؟ وهل تخفى رايات «حزب الدعوة الإسلامية» الذي أعطى للاحتلال أهم كوادره، كمثل ابراهيم الجعفري، ونوري المالكي، وغيرهم، لكي ينصبَّهم الاحتلال الأميركي على رأس حكومات لخدمته والتستير على جريمته كمحتل؟
أكان دور هؤلاء أن يتعاونوا مع الشيطان أم كان عليهم أن يقاتلوه؟ وهل ينفع الزعم الإيراني بأن هؤلاء عراقيون وهم أحرار بما يقومون به؟ وهل يتناسى النظام الإيراني بأن هؤلاء يلتزمون بـ«التكليف الشرعي» لـ«ولاية الفقيه»؟
-من مبادئ الأخلاق المعروفة أنك إذا لم تقاتل الشيطان، لسبب أو آخر، فعليك أن تدعو بالنصر للذي يقاتله، أما أن تقاتل من يقاتل الشيطان، فهذا ورب الكعبة من الأمور العجاب. وهل كانت التنظيمات التابعة لإيران إلاَّ الأداة التي كانت تلاحق المقاومين، وتقتلهم أو تأسرهم أو تهجرهم من قراهم ومدنهم، في الوقت الذي كانت توفِّر الحماية لجنود «الشيطان»؟
-من مبادئ القانون الدولي أن أي احتلال لا يجوز أن يكتسب شرعية في احتلال بلد آخر. وعلى الرغم من ذلك، قام بسلسلة من الخدع لتشريع وجوده، بمساعدة من «الشياطين الصغار» الدوليين، ولكانوا فشلوا في تمرير خدعهم لولا أن وضعت التنظيمات التي تأتمر بأوامر النظام الإيراني كتفاً أساسياً في المشاركة بكل مراحل ما يسمونه بـ«العملية السياسية»، بدءاً بتشريع قوانين بول بريمر، وإجراء انتخابات غير شرعية لتنصيب حكومات يحمي المشاركون فيها قوات الاحتلال والمطالبة ببقائها، والبصم على ما سموه «الدستور العراقي»، ذلك الدستور الذي شرَّع تمزيق وحدة العراق، بتعميم مبادئ المحاصصة في الحكم، وتوزيع أرض العراق وثرواته حصصاً طائفية.
-وهذا البعض من الوقائع هل يعفي النظام الإيراني من المسؤولية؟ هل تعفيه أسباب تقول إن النظام الإيراني يعمل من أجل مصلحته، والدول التي تعمل من أجل مصلحتها فهي غير مذنبة. أو القول إننا بدلاً من أن نلوم إيران علينا أن نلوم النظام العربي الرسمي الذي تآمر وتواطأ مع الاحتلال ضد أمتهم العربية.
إذا كان عمل النظام الإيراني لمصلحته مسألة شرعية ومعترف بها. فلماذا لا نشرِّع للولايات المتحدة الأميركية وللصهيونية أعمالهم لأنهم يعملون من أجل مصالح دولهم؟
هل تناسى المعترفون بشرعية قيام النظام الإيراني لضمان مصالحه، أنه يتعاون مع الشيطان الأكبر الذي لم يطلق عليه النظام الإيراني هذا اللقب إلاَّ لأنه يعمل لضمان مصالحه على حساب مصالح الشعوب الأخرى؟
فهل يجوز للنظام الإيراني أن يضمن مصالحه على حساب «ذبح العراق» بالتعاون مع أية جهة حتى لو كانت «الشيطان الأكبر» بذاته؟
وهل من الأخلاقية الإنسانية والدينية أن يدافع المظلوم عن نفسه بممارسة الظلم على الآخرين؟
وهل يجوز أن نبرر للذئب وحشيته في افتراس «قطيع من الغنم» لأن راعيه قد عجز عن حماية قطيعه؟
وأخيراً، وليس آخراً، نتمنى ألاَّ يغطي فعل إيجابي قام به أي فرد أو جماعة أو دولة على أخطاء يقوم بها. وهكذا فمن غير الجائز أن يغطي الفعل الصائب للنظام الإيراني في مساعدة حزب الله في مواجهة العدو الصهيوني لنعطيه براءة ذمة عن جريمته التي يرتكبها في العراق.
ومن غير الجائز أن نعطيه براءة ذمة من أنه يساعد في قطع ذنب الأفعى في فلسطين، ويمتنع، بل يمنع الآخرين من قطع رأسها في العراق وحمايته. فالأفعى تبقى حية من دون ذنب، لكن الذنب يفنى إذا قُطع الرأس. وهذا يجعلنا نستنتج، حتى يثبت العكس، أن النظام الإيراني يتلاعب بعقولنا عندما يخوض معركة «الغدة السرطانية» ويمتنع عن خوض المعركة الكبرى مع «الشيطان الأكبر».
ونحن عندما نؤشر على أعماق التناقض الخطير، الذي يمارسه النظام الإيراني، والذي تبقى الأوساط السياسية والفكرية عاجزة عن كشفه، فإنما نسلك طريق الرؤية الموضوعية المبنية على التساؤل التالي: أوَلم يكن الله، جل جلاله، عادلاً عندما نصب موازينه ومكاييله في محاسبة الإنسان على كل أفعاله وليس بعضها: فالحسنة بمثلها وأما السيئة فبالعقاب؟

(14): ستون عاماً ومسيرة البعث تتألَّق
ونيسان العام 2007 نيسان العطاءات الكبرى
(الافتتاحية: طليعة لبنان الواحد عدد آذار من العام 2007)
ستون عاماً مضت بعد أن رُشَّت بذور البعث في الأرض العربية، فنبتت، وأورقت، وأزهرت، وأثمرت، وكانت سلال جناها مليئة بالنضال والعطاء والتضحية، وطفحت مكاييلها بما كبر من أرواح البعثيين، وبما طفحت بدمائهم، ومعاناتهم. تلك العطاءات، لم يحل دون تقديمها نعيق من هنا، ونعيق من هناك. اجتثاث من هنا، أو اجتثاث من هناك. وأصروا على متابعة مسيرتهم، ونصبوا سارية على كل جبال الأمة ووهادها، من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي، ورفعوا عليها راية رسالة أمتهم الخالدة.
يستقبل البعثيون كل نيسان من كل عام، ويتلون تاريخ مسيرة البعث الزاخرة بالعطاء. وهم يتلون سفر عام مسيرتهم الستين، في نيسان من هذا العام، فإذا بها لا تزال مستمرة بزخم أكبر، وبذل أكبر، وكرم أكثر، وعطاء أكثر. لكن السابع من نيسان من هذا العام كان متميزاً، وفارداً، ونقطة ساطعة في تاريخ الأمة العربية، وتاريخ حزبها، حزب البعث العربي الاشتراكي.
يستقبل البعثيون نيسانهم، هذا العام، وقد توشَّح باللون الأحمر المكلَّل بدماء صدام وطه وعواد وبرزان وسعدون، كما توشَّح بدماء رفاقهم الذين يحتضنهم ثرى العراق الحبيب في كل يوم.
يدفع البعث شهداء في العراق كل يوم ويحتفظ الحزب بأسمائهم لكي يعلن عنها، عندما يتحقق النصر وتعلنه قيادة المقاومة من على متن «بوارجها» التي ستملأ مياه دجلة والفرات.
إنه نيسان الستين، نيسان العطاءات الكبرى، نيسان الذي تصدَّرت فيه قيادة البعث قوائم الشهداء.
إنه نيسان العطاءات الكبرى، لأنها كبرت بشهادة الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي.
إنه نيسان العطاءات الكبرى، لأن رفاق صدام حسين أبوا إلاَّ أن يستشهدوا على طريقته.
إنه نيسان العطاءات الكبرى، لأن صدام حسين رسم خطوط الحد الأدنى للشهادة في سبيل الأمة.
إنه نيسان العطاءات الكبرى، لأنها تتم على طريقة صدام حسين.
يا نيسان، يا موعد البعثيين باللقاء مع تاريخهم في كل عام
يا نيسان، إن كرم البعثيين ليست له حدود، خاصة إذا كان مهراً للأمة ومهراً لكرامتها وسيادتها.
يا نيسان، لقد أقسم البعثيون أنهم من أجل كرامة الأمة وسيادتها تصبح الأرواح رخيصة، والدم غزيراً.
يا نيسان، تمر علينا في كل عام مرة واحدة، ويتقدَّم البعثيون بكشف عن حسابات نضالاتهم أمام محكمتك، فهل وجدت غير أن البعثيين يتبارون فيمن يكون أكثر سخاءً في التضحية والفداء؟
كرم البعثيين السخي، ليس شعراً نتغنى به، ولا قصيدة ننشدها، فالبعثيون أصبحوا القصيدة التي تنشدها الأمة، وأصبحوا الناي الذي يجول الشعاب والوهاد، وتلال الجبال، ورمال الصحراء، وفيء النخيل، ومياه دجلة والفرات... شعاب فلسطين الحبيبة، وتلال جنوب لبنان، وكل تلة انتصب فوقها البعثيون على أرض الوطن العربي من محيطه إلى خليجه.
البعثيون هم أولئك الذين لم يقرعوا طبول التعبئة والنضال إلاَّ وكانوا في طليعة المقتحمين. وهم أولئك الذين لم يدخلوا ساحة نضال إلاَّ وكان القادة في الطليعة.
البعثيون هم الذين لم ترتفع استغاثة في أي ركن من أرض العروبة إلاَّ ولبوا النداء.
هكذا كان تاريخ البعث، وسيبقى.
لم يرفع البعث راية الرسالة الخالدة إلاَّ وكان كفؤاً لحملها وحمايتها.
لقد حمل البعثيون أرواحهم على أكفهم، ورفعوا راية رسالتهم، وتحدوا كل مفاصل قوة «الصدمة والرعب»،
وتحدوا أكبر قوة في العالم في الوقت الذي أصيب فيه الآخرون بالرعب والصدمة.
كانوا أكفياء والله، واستنار بكفايتهم الشرق والغرب،
فكانوا الشعلة التي أضاءت الطريق للأحرار في العالم،
وسطعت أنوارها على دروب كل الذين غلبتهم الصهيونية والاستعمار على أمرهم، فاستنهضت آمال التحرر في نفوسهم.
لقد شحذ البعثيون الهمم على أسوار بغداد، فاستفاق العالم على إمبراطور العالم صريعاً على أرض الرافدين مدمَّى يلملم أذياله للهروب.
لقد هشَّمت مطارق المقاومة كل مواطن قوته التي زعم أنها تستعصي على التهشيم. إنها مقاومة أسَّسها شهيد العروبة والعراق، وقادها من الخندق والأسر، والتي لا يزال يقودها بعد استشهاده.
إنها مقاومة شديدي البأس الذين بعثوا في الأمة روح النضال، وغرسوه من نخلة إلى نخلة، ومن حبة رمل إلى حبة رمل.
ستون عاماً انقضت، ولم تكن كأعوام الآخرين، بل كانت لها نكهتها البعثية، ورائحتها البعثية.
ستون عاماً كانت طيبة زكية كطيب البعثي وزكاته.
طيبة كطيب علاقته مع أحباب الأمة ومحترمي سيادتها.
ومرة كالحنظل البعثي حينما يواجه أعداء الأمة والمتنكرين لمصالحها.
تلك هي روح البعثي ومبادئه، تلك هي سيرة البعثي وتاريخه.
ستون عاماً انقضت، والبعث يتألَّق،
وستبقى يا بعث قائداً للمسار، وستبقى ضماناً للمصير.
***

(15): في الذكرى الرابعة لاحتلال العراق
النجف الرافضة للاحتلال تتصل مع تاريخها المقاوم
11/ 4/ 2007
لقد حسب الكثيرون حسابات غريبة، ووضعوا النجف كرمز في مكانها الغريب عن موقعها، وراحوا يراهنون على اقتلاعها من تاريخها النضالي وبطولات أبنائها. فكانت مراهناتهم خاسرة، فتاريخ شعب، وإن طُمس لفترة، إلاَّ أنه سيظهر من بين خلايا أكثر صخور الطمس صلابة. والنجف اليوم تبرهن على ذلك.
أولاً: في مدينة النجف اندلعت الشرارة الأولى لتحرير العراق من الاحتلال البريطاني
ما أشبه النجف اليوم بأمسه. بعد الحرب العالمية الأولى، دخلت القوات البريطانية، في 6/ 11/ 1914، إلى جنوب العراق، وأكملت احتلاله، في تشرين الثاني من العام 1918. ولم تكن ممارسات قوات الاحتلال البريطاني حينذاك غير تلك التي تقوم بها قوات الاحتلال الأميركي بعد مرور أكثر من ثمانين عاماً.
»بدأت سلطات (الاحتلال البريطاني) بإصدار الأوامر والبيانات الصارمة، مستولية على بعض الأراضي موزِّعة إياها على عملائها من شيوخ العشائر، وزوَّدتهم بالسلاح والعتاد والأموال بقصد تكريس الاحتلال وإطالة عمره«.]راجع: صادق حسن السوداني: لمحات موجزة من تأريخ نضال الشعب العراقي: وزارة الثقافة والإعلام: بغداد: 1979م: ص 4-5[. ولم تكن ردود فعل العراقيين، ضد قوات الاحتلال البريطاني، في أوائل القرن العشرين، غير تلك التي تقود خطاهم في مقاومة الاحتلال الأميركي – البريطاني في القرن الواحد والعشرين.
بعد دخول الجيش البريطاني إلى بغداد؛ ولما انكشف خداع البريطانيين عن وعودهم الكاذبة في إعطاء العراقيين الاستقلال بعد انتهاء الحرب، خاصة وأنه جاء في بيان القائد العسكري البريطاني، بعد احتلال بغداد، في 11/ 3/ 1917م، ما يلي: »إن جيوشنا لم تدخل مدنكم وأراضيكم بمنزلة قاهرين أو أعداء، بل بمنزلة محررين«!!!.
ولما كان الاحتلال يستفز مشاعر العراقيين، انتفض أهالي النجف ضد الحاكم البريطاني، وقتلوه، في آذار من العام 1918م؛ وهاجموا قوات الاحتلال في أكثر من مكان وكبَّدوها خسائر فادحة، فكانت ثورة النجف خطوة تمهيدية لثورات أكبر تواصلت على الرغم من كل وسائل الاضطهاد ومحاولات النفي والإبعاد. فبعد أن كرَّس مؤتمر (سان ريمو)، في نيسان من العام 1920م، نظام الانتداب البريطاني على العراق، أعلن العراقيون أن »الحرية تؤخذ ولا تُعطى«، واندلعت ثورة العشرين، في 30 حزيران / يونيو من العام 1920م. وفيها سقط لقوات الاحتلال البريطاني آلاف الخسائر بالأرواح.
ثانياً: على الحدود الجنوبية للعراق انتصر العراقيون في القادسية الثانية:
غنيٌّ عن البيان أن العراق انتصر على العدوان الإيراني في حرب السنوات الثمانية (1980-1988) باجتماع جناحيه، خاصة من بوابة العراق الجنوبية التي كان العدوان الإيراني يراهن على اختراقها بالعامل المذهبي، فكانت مراهناته غيبية وساذجة، إذ كان أبناء جنوب العراق هم المدافعون الأشداء عنه وحماية حدوده الجنوبية.
ثالثاً: مظهران متناقضان في بدايات مرحلة العدوان الأميركي – البريطاني، ومرحلة الاحتلال:
كانت مرحلة الأسابيع الثلاثة، التي امتدَّت منذ بداية العدوان في 19/ 3/ 2003، حتى احتلال بغداد في 9/ 4/ 2003، من أكثر المراحل المجهولة في مجريات الحرب العدوانية، وفي مجريات المواجهة التي قام بأودها أبناء جنوب العراق. ولأنه تمَّ التعتيم على مجرياتها، خاصة وأن تداعيات مرحلة ما بعد الاحتلال قد أكلت كل الوقت وغيَّبت كل ما قبلها. فانشدَّت الأنظار إلى متابعة ما ستؤول إليه نتائج المواجهة بين المقاومة والاحتلال.
لهذا سنقوم بالإضاءة على ثلاثة عوامل مهمة، لها علاقة بطبيعة ما يتفاعل في جنوب العراق اليوم، خاصة بعد المظاهرات التي حصلت في النجف. وتلك العوامل هي: البطولات والملاحم البطولية التي سجَّلتها الأكثرية الساحقة من أبناء جنوب العراق، والخيانة الموصوفة لأقلية عراقية رهنت مصيرها بمصالح الاحتلال الأميركي والنظام الإيراني. والموقف المتماوج وغير المستقر للمرجعية الشيعية في العراق.
1-أما البطولات والملاحم فهي تلك التي سجَّلها أبناء جنوب العراق في المراحل الأولى للعدوان، بعد أن استطاع بعض الباحثين عن أحداث تلك المرحلة تكوين صورة حقيقية، ومنهما الأستاذين: رعد الحمداني، والصارم العراقي. فقمنا بالاعتماد على بعض ما جاء في نتائج بحثهما، وهذا يدفعنا أيضاً للاعتذار إلى كل من بذل جهداً في هذا السبيل ولم نحصل على نتائج جهده.
ابتدأت البطولات في أم قصر، تلك التي تسنى للعالم أن يشاهدها على شاشات التلفزة، وامتدت إلى البصرة والناصرية والسماوة والنجف ولم تنته في كربلاء، بل انتقلت إلى مطار صدام الدولي، بكل مشاهد البطولات التي بذلها الجيش العراقي بكل فصائله وتشكيلاته، بمشاركة مباشرة من الرئيس الشهيد، ولم تتوقف البطولات التي بذلتها القوات النظامية إلاَّ بسبب استخدام العدو الأميركي سلاحاً فتاكاً جعل الاستمرار فيها مغامرة خاسرة. إلاَّ أن المواجهات تواصلت بعد احتلال بغداد، من دون أي فاصل زمني، واستمرت بوسائل حرب التحرير الشعبية التي امتدت إلى كل زوايا العراق. وساعتئذٍ تفاوتت حدتها بين جناحي العراق، فكانت قوية في نصف، وضعيفة في النصف الآخر، أي قوية في النصف الغربي والشمالي، وضعيفة في النصفين الجنوبي والشرقي.
لم يكن ذلك التفاوت من دون أسباب، منها الظاهر، ومنها المخفي. ولكنها كانت ذات علاقة وثيقة بالعامل الثاني.
2-العامل الثاني: خيانة الميليشيات العراقية المرتبطة بالنظام الإيراني:
إن من بذل بطولات كبيرة في بداية زخم العدوان، خاصة وأن موازين القوى كانت مختلَّة بالمطلق لصالح القوة العسكرية الأميركية، يستطيع أن يبذل مجهودات كبرى في مرحلة حرب التحرير الشعبية. وإذا كانت مظلة المقاتل النظامي الحماية الجوية فإن المظلة التي تحمي المقاوم الشعبي هي البيئة السكانية التي يقاتل على أرضها. ومن هذه النقطة نبتدئ في تحليل الواقع، لنصل إلى نتائج لعلنا نستفيد منها في رؤية ما يجري على أرض جنوب العراق الآن.
تغلغلت الأفعى الأميركية عن طريق الكويت، محمية بحدود شرقية يرابط عليها النظام الإيراني الذي اعترف بأن له الفضل باحتلال العراق. فتسللت الأفعى وأخذت تمتد بفعل تفوق قوتها النظامية ، وهذا لا يلغي أنها قد أدميت خلال تسللها، ولما استقرَّ المقام لها من دون تثبيت مواقعها، ولما انتقل الشعب العراقي إلى استراتيجية المواجهة الشعبية، ابتدأت مشكلة توفير أسباب الحماية الشعبية للمقاومين في جنوب العراق تتفاقم، وكان للدور الإيراني الأثر الخطير في ذلك.
فبدلاً من أن ينقل النظام الإيراني القوى العراقية التي كان يؤويها في إيران (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، وفيلق بدر)، أو التي كان يغذيها ويساعدها وبتحالف معها وهي نائمة في العراق (حزب الدعوة الإسلامي)، فقد دفع بها لكي تبدأ بدورها الخبيث المرسوم لها. وكان هذا الدور ماثلاً في ظاهرتين: التعاون والتنسيق إلى الحدود القصوى مع الاحتلال من جهة، وإلى ملاحقة البعثيين والوطنيين وكل من يبدر منه فعل لمقاومة للاحتلال أو يُبطنه من جهة أخرى.
إنه دور لا يمكن للاحتلال أن يقوم به من دون مساعدة أدوات محلية تعينه في النظر والسمع، فهو من دونها يصبح أعمىً وأخرساً.
إن تلك العوامل ليست ذات أعماق شعبية، فقد تكوَّنت قوتها بواسطة ميليشياتها مدعومة بالإمكانيات المادية والتسليحية، وأكثرها خطراً وأهمية الإمكانيات الأمنية التي وفَّرتها أجهزة المخابرات الإيرانية، بالقيادة والأفراد، التي يرجح البعض عددها بعشرات الآلاف، وقد أخذت أعدادها تتكشف بعد انتهاء شهر العسل بين الاحتلال الأميركي والنظام الإيراني.
3-أما العامل الثالث فهو دور المرجعية الشيعية في العراق، التي يمثلها السيستاني تحديداً، ولم تكن بدايته مثل نهايته. ونعيد الذبذبة في مواقف المرجعية إلى تجاهلها لأهمية العامل الوطني، إذ خضعت إلى ضغوطات نخبة من السياسيين الشيعة المستفيدين من الاحتلال، خاصة وأن همها كان محدوداً بسيطرتها على عائدات الخمس والزكاة والنذور، وساعدها الاحتلال الأميركي والنظام الإيراني، بتسليمها مفاتيح «العتبات المقدسة» بعد مسرحية معركة الكوفة بين «جيش المهدي» وقوات الاحتلال الأميركي في الكوفة والنجف.
بداية حظيت المرجعية الشيعية في العراق بتنويه الرئيس الشهيد صدام حسين في رسالته إليها، بتاريخ 14/ 8/ 2003، مثمِّناً ما قاله السيستاني (لابراهيم الجعفري) «إن أي دستور يُوقَّع في ظل الاحتلال الأمريكي هو باطل». ودعاه الرئيس الشهيد إلى استكمال ذلك الموقف الوطني بالدعوة للجهاد ضد الاحتلال. وكانت المراهنات مشروعة في بداية الأمر إلى أن ثبت ضعفها بعد تسليم المرجعية مفاتيح العتبات المقدسة. ذلك السبب الذي أسهم في تصاعد وتيرة انحراف مواقف المرجعية باتجاه محاباة الاحتلال، والسكوت عنه، واستأنفتها بإصدار فتاوى شملت تشريع الانتخابات تحت الاحتلال، وتشريع توقيع دستور للعراق، والسكوت تماماً عن جريمة الاحتلال، ورعاية ما تُسمى بـ«العملية السياسية» التي يرعاها كل من الاحتلال الأميركي والنظام الإيراني معاً.
رابعاً: الرئيس الشهيد صدام حسين، وقيادة قطر العراق، يعالجان الخلل برؤية وطنية:
لقد عالج الشهيد صدام حسين، مواكباً ما يجري في جنوب العراق، الجناح الآخر للشعب العراقي، من خلال رسالتين وجَّههما إلى العراقيين في الجنوب:
الأولى: رسالة إلى السيد السيستاني: كان قد سبق الرسالة لقاء أجراه ابراهيم الجعفري مع السيستاني في 6 أغسطس 2003 في النجف ليطلعه على أعمال المجلس. والجعفري هو أحد المسؤولين في حزب الدعوة، الذي عُيِّن في 30 تموز 2003 أول رئيس دوري لمجلس الحكم الانتقالي في العراق لمدة شهر. ويُذكر أنه في حزيران 2003 أصدر السيستاني فتوى تعارض صياغة دستور جديد من قبل جمعية تعينها قوات الاحتلال. كما دعا في الشهر نفسه العراقيين إلى ممارسة نوع من «الجهاد المدني» ضد الاحتلال الأمريكي.
ورداً على تلك المواقف وجَّه الشهيد صدام حسين رسالته السابعة، تاريخ 14/ 8/ 2003م، جاء فيها: إن »موقف السيد السيستاني وعموم الحوزة العلمية في النجف مهم لجهاد العراقيين، وإن الحوزة لم تدعُ للجهاد لطرد الاحتلال حتى الآن«. وإنها »في وضع لا يتمنى مخلص وأمين له أن يستمر، وإنما ينتهي إلى إعلان الجهاد ليكون الشعب كله موحداً في موقفه ضد الاحتلال«. وأضاف إن »السيد السيستاني يحظى باحترامنا«، خاصة تصريحاته لإبراهيم الجعفري التي قال فيها: »إن أي دستور يُوقَّع في ظل الاحتلال الأمريكي هو باطل«. لذا فنحن »نرحب بهذا التصريح؛ لأنه يتضمن عدم الاعتراف بالاحتلال، ويعتبر أن كل ما يصدر من قرارات في ظل الاحتلال باطل «.
2-الرسالة التي وجهها إلى الشعب الأميركي، وهو في أسره، في 23 تموز 2006، وجاء فيها: «اثبت المجاهدون في عراق الفضيلة والجهاد بفضل ارادة الله ان اميركا نمر من ورق وأن شعبنا سيطبق بنصفيه على الغزاة لان شعبنا اصيل وواع ويدرك اهمية التسامح ورتق الجروح بدلا من فتقها».
3-وخاطب بيان قيادة قطر العراق، بتاريخ 7/ 9/ 2006، أبناء أبطال ثورة العشرين المجيدة بالقول: إن العراق اليوم يشهد تصاعدا كبيرا للمقاومة المسلحة ضد الاحتلال وأعوانه مما أدى إلى تقريب ساعة النصر، واضطرار الاحتلال للاعتراف بأنه فشل في إخضاع الشعب العراقي، ويتجلى ذلك في انخراط الآلاف من أبناء الجنوب في المقاومة بشكليها المسلح والسلمي، كالمظاهرات والاحتجاجات التي طالبت بخروج الاحتلال الايراني من الجنوب وغيره، وضد الاحتلال الأمريكي للعراق. وهكذا أخذنا نشهد تحقق ما أراده القائد المجاهد صدام حسين...، حينما بشر بتحليق النسر العراقي بجناحيه لأجل التسريع بتحرير الوطن. إن حزبنا يدعوا أهلنا في الجنوب، من علماء دين وشيوخ عشائر وشخصيات اجتماعية بارزة ومناضلين لتعزيز التعاون مع المقاومة المسلحة وتصفية عقبات التحرير الباقية ورفض تسلل الأجانب إلى وطننا لتغيير هويته العربية.
خامساً: دعوة إلى أن تكون مظاهرات النجف بداية اكتمال جناحي العراق في طرد المحتل
وبناء على أن الحزب وقائده، كانا حريصين على مناشدة كل العراقيين ودعوتهم إلى الجهاد من أجل تحرير العراق، ورفض الاحتلال وعملائه، وكل إفرازاته، ليكون العراق وطناً للجميع.
ولأنه ثبت، بما لا يقبل الشك:
-أن العراق لن يكون إلاَّ موحداً. وأن كل دعوة أو محاولة لتطييفه ليست إلاَّ دعوة لتقسيمه. وهي أيضاً لا يمكن لها البقاء والاستمرار إلاَّ بإسناد خارجي لكي يوظفها لمصالحه.
-وأن كل تدخل خارجي، تحت أية صيغة كانت، مصيره الاندحار والهروب. وما يجري الآن في الشارع الأميركي ومؤسسات أميركا التشريعية هو برهان على أن الخلاف بينها وبين جورج بوش، ليس على إعلان الهزيمة، وإنما على توقيتها فقط. وهذه النتائج سيحصدها النظام الإيراني أيضاً، لأن أي بقاء له في العراق بعد الهزيمة الأميركية سيكون محرقة له، ولن يكون حجمها أقل من حجم محرقة «القادسية الثانية».
-أن كل دعوة لتقسيمه، على قاعدة الفيدرالية أو غيرها، هي إما مستحيلة أو واهمة. والسبب يعود إلى أن دعوات التقسيم لا تصدر إلاَّ عن إيديولوجيا مذهبية أو عرقية، بينما تأكَّد أن عمق ثقافة العراقيين مستند إلى ثقافة وطنية وقومية توحيدية. ولأن الأمر كذلك، فلن تستطيع أية حركة ميليشاوية مهما بلغت إسناداتها الخارجية، أو حتى الداخلية، من القوة، ستبقى عاجزة عن الحفر في بنية الشعب العراقي الوطنية والقومية.
نتوجَّه بدعوة أساسية، ودعوة ثانوية:
أما الدعوة الأساسية، فهو أن تُعيد المرجعية الشيعية حساباتها، وتعيد ترتيب مواقفها، على قاعدة أن العراق وطن نهائي لكل أبنائه، وأن تستعيد موقفها السابق في رفض الاحتلال وأية نتائج فرضها على واقع العراق والعراقيين، وأن تميز موقفها المبدئي عن كل مواقف التيارات السياسية والاقتصادية، المدعومة بالميليشيات، التي تغتنم فرصتها في تكديس رساميلها، أو في الحلم بالحصول على كرسي في التراكيب السياسية، على أشلاء وطنها وشعبها.
أما إذا كان الخوف من الأذى الدنيوي، أو الإقصاء عن موقع في هرمية المرجعية هو ما تخضع له المراجع الشيعية في اتخاذ مواقفها، فأين هو مصير: إن أشجع المواقف في «قول كلمة حق في وجه ظالم»؟
فهل تقتدي مرجعية السيستاني بمواقف أكبر المراجع الشيعية الأخرى، كأمثال السادة أحمد الحسني البغدادي، وحسين المؤيد، والخالصي، و... وكلهم أعلنوا مواقفهم الرافضة للاحتلال وكل تدخل خارجي آخر؟ وكلهم دعوا إلى الجهاد من أجل تحرير العراق؟
فهل تبادر المرجعية الشيعية إلى الدعوة لإعادة اصطفاف «مقلِّديها» على قاعدة وطنية؟
وهل تبادر إلى تمييز نفسها عن الحركات السياسية الدينية التي تستغل الدين، ومرجعياته، لأغراضها الخاصة؟
ستزول الميليشيات وسيهرب قادتها لا محالة، فالعودة إلى الدعوة لكلمة الحق هي الأبقى، خاصة وإن الدعوة إلى الجهاد ضد المحتل هي من ضرورات الدين والوطن، فهل تفعلها مرجعية السيستاني قبل فوات الأوان من أجل عراق متحرر موحَّد؟
هل ستفعلها فتكسب؟ أم أنها ستترك الزحف يسبقها فيسحقها؟ خاصة إن جماهير الجنوب كشفت كل الأكاذيب ووسائل الخداع، وسوف تتجاوز كل العوائق، وستضطرم نار المقاومة التي ترفض الاحتلال المباشر وكل أشكال التدخل الخارجي.
أما دعوتنا الثانوية فهي إلى منتسبي الميليشيات، من الذين يتذرعون بتوفير لقمة العيش، فنقول «إن الحرة تموت ولا تأكل بثدييها». فاتخذوا موقف الأحرار، فتكسبون موقعكم في وطن يسير نحو التحرر في وقت أصبح قريباً. في وطن آمن حر خالٍ من كل وجود خارجي، وخالٍ من كل وجود يرى العراق من ثقب «إبرة الطائفية».
فهل تعيد مظاهرات النجف وصل ما انقطع من تاريخها في ثورة العشرين وما انقطع من تاريخها في المواجهات البطولية التي خاضتها قبل أربع سنوات في مواجهة العدوان الأميركي – البريطاني؟
نُشر منها في السفير (18/ 6/ 2007) العدد (10726)
النجف الرافضة للاحتلال تتصل مع تاريخها المقاوم
حسن خليل غريب
حسب الكثيرون حسابات غريبة، ووضعوا النجف كرمز في مكانها الغريب عن موقعها، وراحوا يراهنون على اقتلاعها من تاريخها النضالي وبطولات أبنائها. فكانت مراهناتهم خاسرة، فتاريخ شعب، وإن طُمس لفترة، إلا انه سيظهر من بين خلايا أكثر صخور الطمس صلابة. والنجف اليوم تبرهن على ذلك.
أولا: في مدينة النجف اندلعت الشرارة الأولى لتحرير العراق من الاحتلال البريطاني. ما أشبه النجف اليوم بأمسه. بعد الحرب العالمية الأولى، دخلت القوات البريطانية، في 6/11/,1914 الى جنوب العراق، وأكملت احتلاله، في تشرين الثاني من العام .1918 ولم تكن ممارسات قوات الاحتلال البريطاني حينذاك غير تلك التي تقوم بها قوات الاحتلال الأميركي بعد مرور أكثر من ثمانين عاما.
ثانيا: على الحدود الجنوبية للعراق انتصر العراقيون في القادسية الثانية: غنيٌّ عن البيان ان العراق انتصر على العدوان الإيراني في حرب السنوات الثماني (1980ـ1988) باجتماع جناحيه، خاصة من بوابة العراق الجنوبية التي كان العدوان الإيراني يراهن على اختراقها بالعامل المذهبي، فكانت مراهناته غيبية وساذجة، إذ كان أبناء جنوب العراق هم المدافعون الأشداء عنه وحماية حدوده الجنوبية.
ثالثا: مظهران متناقضان في بدايات مرحلة العدوان الأميركي ـ البريطاني، ومرحلة الاحتلال: كانت مرحلة الأسابيع الثلاثة، التي امتدت منذ بداية العدوان في 19/3/,2003 حتى احتلال بغداد في 9/4/,2003 من أكثر المراحل المجهولة في مجريات الحرب العدوانية، وفي مجريات المواجهة التي قام بأودها أبناء جنوب العراق. ولأنه تم التعتيم على مجرياتها، خاصة وان تداعيات مرحلة ما بعد الاحتلال قد أكلت كل الوقت وغيّبت كل ما قبلها. فانشدت الأنظار الى متابعة ما ستؤول اليه نتائج المواجهة بين المقاومة والاحتلال.
لهذا سنقوم بالإضاءة على ثلاثة عوامل مهمة، لها علاقة بطبيعة ما يتفاعل في جنوب العراق اليوم، خاصة بعد المظاهرات التي حصلت في النجف. وتلك العوامل هي: البطولات والملاحم البطولية التي سجّلتها الأكثرية الساحقة من أبناء جنوب العراق، والخيانة الموصوفة لأقلية عراقية رهنت مصيرها بمصالح الاحتلال الأميركي والنظام الإيراني. والموقف المتماوج وغير المستقر للمرجعية الشيعية في العراق.
أما البطولات والملاحم فهي تلك التي سجّلها أبناء جنوب العراق في المراحل الأولى للعدوان، بعد ان استطاع بعض الباحثين عن أحداث تلك المرحلة تكوين صورة حقيقية.
العامل الثاني: خيانة الميليشيات العراقية المرتبطة بالنظام الإيراني: إن من بذل بطولات كبيرة في بداية زخم العدوان، خاصة وان موازين القوى كانت مختلّة بالمطلق لصالح القوة العسكرية الأميركية، يستطيع ان يبذل مجهودات كبرى في مرحلة حرب التحرير الشعبية. وإذا كانت مظلة المقاتل النظامي الحماية الجوية فإن المظلة التي تحمي المقاوم الشعبي هي البيئة السكانية التي يقاتل على أرضها. ومن هذه النقطة نبتدئ في تحليل الواقع، لنصل الى نتائج لعلنا نستفيد منها في رؤية ما يجري على أرض جنوب العراق الآن.
أما العامل الثالث فهو دور المرجعية الشيعية في العراق، التي يمثلها السيد السيستاني تحديدا، ولم تكن بدايته مثل نهايته. ونعيد الذبذبة في مواقف المرجعية الى تجاهلها لأهمية العامل الوطني، إذ خضعت الى ضغوطات نخبة من السياسيين الشيعة المستفيدين من الاحتلال، خاصة وان همها كان محدودا بسيطرتها على عائدات الخمس والزكاة والنذور، وساعدها الاحتلال الأميركي والنظام الإيراني، بتسليمها مفاتيح «العتبات المقدسة» بعد مسرحية معركة الكوفة بين «جيش المهدي» وقوات الاحتلال الأميركي في الكوفة والنجف.
لذلك نتوجّه بدعوة أساسية، ودعوة ثانوية: أما الدعوة الأساسية، فهي ان تعيد المرجعية الشيعية حساباتها، وتعيد ترتيب مواقفها، على قاعدة ان العراق وطن نهائي لكل أبنائه، وان تستعيد موقفها السابق في رفض الاحتلال وأية نتائج فرضها على واقع العراق والعراقيين، وان تميز موقفها المبدئي عن كل مواقف التيارات السياسية والاقتصادية، المدعومة بالميليشيات، التي تغتنم فرصتها في تكديس رساميلها، او في الحلم بالحصول على كرسي في التراكيب السياسية، على أشلاء وطنها وشعبها.
أما دعوتنا الثانوية فهي الى منتسبي الميليشيات، من الذين يتذرعون بتوفير لقمة العيش، فنقول «إن الحرة تموت ولا تأكل بثدييها». فاتخذوا موقف الأحرار، فتكسبون موقعكم في وطن يسير نحو التحرر في وقت أصبح قريبا. في وطن آمن حر خال من كل وجود خارجي، وخال من كل وجود يرى العراق من ثقب «إبرة الطائفية».
([) كاتب لبناني.

(16): العالم يضبط ساعة المتغيرات على إيقاع المقاومة الوطنية العراقية
فهل تلتقط الأمة العربية هذه الفرصة؟
افتتاحية طليعة لبنان الواحد (عدد نيسان 2007)
لقد التقطت معظم دول العالم وشعوبها الرسالة التي بثَّتها نتاجات أعمال المقاومة الوطنية العراقية بعد وقت قليل من انطلاقتها، مباشرة بعد انتهاء مرحلة المواجهة العسكرية النظامية. وعرفت أنها واصلة إلى خواتيم تثلج قلب الأحرار في الأمة العربية والعالم، وإلى كل ما يغيظ قلوب «قُوّاد» الاستعمار والصهيونية، وبخاصة قلوب زمرة الشر في إدارة جورج بوش.
بعد أن زحف الكثيرون من قادة العالم أمام الامبراطور الأميركي يباركون النصر، ويستجدون العطاءات بعد أن شُبِّه لهم أنه حقَّق نصراً، أخذوا بعد أقل من شهرين ينفضون الغبار عن «رُكبٍهٍم»، وراحوا يدعون بـ«الكسر» على اليد الأميركية بواسطة المقاومة الوطنية العراقية لأنهم كانوا أكثر عجزاً عن كسرها بأنفسهم.
ارتفعت بداية أصوات التمرد من بعض قادة دول أميركا اللاتينية، وهي مؤهلة بالفعل للانخراط في أية مواجهة مع النظام الرأسمالي.
وأرسلت بعض دول أوروبا إشارات إلى إمبراطور أميركا تدل على أنها تأكدت من أن بدايات مأزقه في العراق، تسير به باتجاه الضعف.
ولم يكن الشارع الأميركي ببعيد عن التقاط ملامح القوة عند المقاومة العراقية، وأيقنوا أنها سترغم إدارة جورج بوش على إعلان الهزيمة، طالما ظلَّ يدفع دماً ومالاً تستنزفهما المعارك العبثية التي يأمر بها، والتي تُدمِّر العراق حجراً حجراً، وتعمل على تمزيق نسيجه الاجتماعي قطبة إثر قطبة.
ولم يمض العام الرابع، على الاحتلال، والعام الرابع على انطلاقة المقاومة، إلاَّ وأخذت آثار ما كانت تخطط له المقاومة العراقية ترتسم في الشارع الأميركي، لتنتقل متغيرات واضحة المعالم والأهداف في مؤسسات أميركا الدستورية والتشريعية، التي بدورها تضغط الآن على إدارة جورج بوش، وتستنزفها، وترفع أصواتها مطالبة بـ«عزله» و«عزلها».
لقد أصبحت نهاية سقوط الاحتلال مرتبطة بعامل الزمن، أما القرار فقد اتخذه الشعب الأميركي. وأما المقاومة الوطنية العراقية، فسوف لن تترك لأحد فرصة للتراجع عن قرار الانسحاب، لأن قرار التحرير مستمر، وقرار استنزاف أميركا بالدم والمال مستمر أيضاً.
لقد بدأت المتغيرات في الشارع الأميركي ضد احتلال العراق تتوالى وتواصل، وهذا الأمر لن تحول دونه خطة جورج بوش الجديدة التي راحت تتآكل بعد أقل من شهرين من بداية تطبيقها، تلك الخطة التي يعمل على تنفيذ جانبها العسكري عملاؤه وحلفاؤه، في ظل تآمر الجوار الجغرافي، وتحت صمت العرب وسكوتهم، اللهم إلاَّ ما يصدر من تصريحات لا تسمن الشعب العراقي ولا تغنيه من جوع، ولا تحميه من قتل أو تشريد.
إن المتغيرات اجتاحت الشارع الأميركي ومؤسساته التشريعية، وهي تعد العدة لعزل استراتيجية جورج بوش وإدارته في الهيمنة على العالم بسياسة «الصدمة والرعب»، وتصدير الديموقراطية بـ«القوة المسلحة»، هذا إذا كانت ديموقراطية فعلاً، و«الفوضى البنَّاءة»، هذا إذا كانت بنَّاء فعلاً.
لقد قرَّر الشعب الأميركي أن يعود إلى سياسة «الاحتواء»، وضرب كل ما له علاقة بسياسة التصدير الحربي المباشر، وهذا يعني التراجع عن احتلال العراق.
هذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أن مرحلة الاحتلال تسير إلى نهايتها المؤكَّدَة، وأن العراق عائد إلى رحاب الحرية على قطار التحرير. وإنه على الرغم من أن هذه النتيجة لا تعني أن العالم، وفي المقدمة منه أمتنا العربية، وعراقها الأشم، سيتخلص من براثن النظام الرأسمالي العالمي، إلاَّ أنه بديلاً من أن يقاتل الاحتلال العسكري فسوف يتفرَّغ للمواجهة على أسس نضالية تحررية سياسية واجتماعية واقتصادية، بما توجبه من آليات مناسبة. وفيها سيوظِّف الشعب العربي، باستثناء مهمة تحرير فلسطين على قواعد المقاومة العسكرية، كل إمكانياته للقضاء على مواقع الاستعمار المتغلغل في البنى الاقتصادية والسياسية والأمنية العربية.
إن المتغيرات التي فرضتها المقاومة العراقية على الاحتلال الأميركي والشارع الأميركي سوف تنعكس بشكل إيجابي على دول العالم قاطبة، لذا راح الجميع يعدُّون أنفسهم للاستفادة منها باستثناء الأمة العربية، أنظمة رسمية وحركات تحرر باستثناءات قليلة، السبب الذي يدفعنا إلى رفع الصوت عالياً: أفيقوا أيها العرب، فقد مهَّدت لكم المقاومة العربية، وخاصة المقاومة في العراق، طريقاً تستعيدون فيه حريتكم من نير الاستعمار والصهيونية، وهي فرصة تاريخية للحصول على نصر طالما عجزت الأنظمة الرسمية عن توفيره.
إن الأنظمة الرسمية العربية، بدلاً من الاستفادة من هذه الفرصة، فإنها تعمل بطريقة عبثية على إنقاذ إدارة جورج بوش من مآزقه. أوَ ليس من المثير للاستغراب أن تعمل الأنظمة الرسمية من أجل إنقاذ إدارة أميركية، يعمل الأميركيون أنفسهم من أجل عزلها؟
إن مظاهر الحركة السياسية العربية، بدءاً من مؤتمر القمة العربية في الرياض، وليس انتهاءً بمؤتمر شرم الشيخ في مصر، تحمل الكثير من العزم على الارتهان لإدارة أميركية يمينية تسير نحو الموت السريع. وتبدو مظاهر «الإنقاذ العربي» لإدارة جورج بوش أكثر وضوحاً من خلال الوسائل التي تبذل كل جهودها وإمكانياتها لاستكمال خطة الإدارة العسكرية في الإطباق على العراقيين قتلاً وعزلاً وسحلاً، في جانبين:
-الأول: بيان قمة الرياض، من أجل تركيب أرجل لـ«عملية سياسية» تحتضر، باستدراج البعثيين للانخراط فيها تحت دخان «إعادة النظر في قانون اجتثاث البعث».
-الثاني: استحضار عملائها المزروعين في بعض فصائل المقاومة العراقية، وقد فتحت لهم أذرع بعض وسائل الإعلام العربي وقلوبها، للتشهير بحزب البعث، والزعم بضعف تأثيره في الفصائل المقاومة. والأكثر غرابة هو استحضار العامل الإسلامي، لحساسيته ومدى تأثيره، لوضعه في مواجهة مع العمق القومي والوطني الذي يمثله حزب البعث العربي الاشتراكي، وكافة التيارات القومية والوطنية، في المجتمع العراقي.
على الرغم من هذا الدور الذيلي الذي تلعبه معظم الأنظمة الرسمية العربية، فإنه أصبح من المؤكَّد أنه لن ينال من قوة المقاومة العراقية وشدة تأثيرها، كما لن تستطيع تلك الأنظمة أن تعمل على تفتيت المقاومة وجرها إلى اقتتال داخلي من خلال حفر بؤر تستهدف إضعاف قيادة الحزب لها، فهي أكبر وأوعى من أن تنزلق إلى متاهات الصراع الداخلي، فقيادة المقاومة والتحرير التقطت أهداف ما تخطط له تلك الأنظمة بتحريض من قبل الإدارة الأميركية، وهي أكَّدت أنها لن تتلهى بالانزلاق إلى ردود الفعل، وعملت على تفويت كل الفرص بحكمة ودراية وصبر وهدوء لافت للنظر.
فإذا كانت الأنظمة الرسمية العربية واهمة بأنها ستفلح بمساعدة جورج بوش، فإن الدعوة الصادقة تبقى برسم أحزاب حركة التحرر العربي من أجل الاستفادة من نضال المقاومة العربية والارتقاء إلى مستوى المسؤولية التاريخية في نسج وصياغة استراتيجية جديدة يلعب فيها كل طرف دوراً داعماً ومساعداً للمقاومة العراقية والاستفادة من فرصة ما وفَّرته من متغيرات على صعيد العالم، لعلَّ وعسى أن تتعاون على كتابة تاريخ جديد للعمل الجبهوي القومي العربي.
أما الأنظمة العربية الرسمية فعليها أن تؤهل نفسها للعب دور قادم، لمرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي، من أجل المساعدة على إعادة توحيد العراق من جديد، في ظل نظام سيقوده كل العراقيين الذين أسهموا في تحريره، وفي المقدمة منهم كل فصيل مقاتل.
وأما بعض فصائل المقاومة العراقية، التي تحاول تطييف المقاومة العراقية، فعليها ألاَّ تتناسى أن كل دعوة إلى بناء دولة عراقية على قواعد عرقية وطائفية، لن تصب نتائجها إلاَّ في مصلحة «فدرلة» العراق وتقسيمه، وستصب في مصلحة المشروع الأميركي والإيراني، صاحبا المصلحة الوحيدة في تقسيم العراق على أساس تلك القاعدة.
وعلى وقع المتغيرات القادمة، التي فرضتها المقاومة الوطنية العراقية، نضع السؤال الملح: هل تستفيد الأنظمة العربية، وأحزاب حركة التحرر العربي وتياراته وقواه، من زخم الفرصة المؤاتية لها لتصيغ خيارات الأمة في التحرر من الاستعمار والصهيونية، ويأتي في طليعتها مقاومة تحويل أقطار الأمة إلى مقرات للاستعمار ومستقرات لكل طامع أجنبي؟

(17): الأمة العربية تنتج الثورة وتستفيد من ثورات الآخرين
وحق لرموزها أن يتصدروا بوابة الثقافة العربية والخطاب السياسي العربي
(طليعة لبنان الواحد عدد نيسان 2007)
لقد طغت على ثقافة بعض الأحزاب العربية في التحرر من الاستعمار كل أنواع الثقافات المستوردة، وتحولت تلك الأحزاب بثقافاتها إلى أحزاب تستهلك ثقافة الآخرين ولا تعمل على إنتاجها. وبدت مع تلك الموجة وكأن أمتنا عقيمة، أو كأنها لا تنتج إلاَّ الهزائم، وبهذا السبب ارتفعت صور الأبطال العالميين من رواد الثورة العالمية فوق هامات أعضاء تلك الأحزاب، وتصدرت صورهم المهرجانات والتظاهرات، وفي المقابل خلت من صورة أي رمز عربي، وإذا كان حظه كبيراً فإنه يسلم من افتعال انتقادات لاذعة تُلصَق به، أو اتهامات باطلة تعمل على تشويه رمزيته.
يرفعون صور أبطال الثورة العالمية، ولا يشعرون أنهم يعبدون الفرد. وإذا ارتفعت صور رموزنا في الثورة العربية، تتكاثر الاتهامات بأن القوميين يعشقون عبادة الفرد.
إن الأسوأ من كل ذلك هو أن آلياتهم في النقد تعمم خطاب الهزيمة. وهو خطاب أقل ما يُقال فيه أنه خطير، لأنه يزرع اليأس في نفوس الجماهير التواقة للثورة، تلك الجماهير التي لم تبخل يوماً في البذل والعطاء والاستجابة إلى أي نداء يدعوها للثورة في مواجهة الاستعمار والصهيونية.
لقد قرأت تلك الأحزاب تجارب الآخرين، وتستخف بقراءة تراث الأمة العربية الثوري.
قرأت تجارب الآخرين وعممتها كثقافة وحيدة الجانب، وتجاهلت، أو جهلت، أن تاريخنا الحديث والمعاصر، استئنافاً لبعض المحطات التاريخية، وهي ليست قليلة، زاخر بالرموز الثورية التي أنتجتها التجارب الثورية العربية.
فإذا كان من المشروع، والواجب أحياناً كثيرة، أن نقرأ كل تجارب العالم الثورية، وأن نستفيد منها، إلاَّ أنه من غير المشروع على الإطلاق أن نستوردها كما هي، بعيداً عن تمثلها وتعريبها وتطبيقها. إنه يصح الحكم في هكذا حالة أن تلك الأحزاب نسخت، ولم تقرأ. والفرق كبير وشاسع بين أن تستورد وتنسخ وأن تقرأ وتتمثَّل.
إنها ثغرة أخذت بعض الأحزاب والحركات والقوى العربية تردمها، ولكنها لم تصل بها إلى نهايات موضوعية حتى الآن. وإن هذا الأمر، وإن تخللته آمال بتطويره وتعميقه، إلاَّ أنه سائر إلى تثبيت مبادئ وأسس في إعادة صياغة ثقافة، يليها خطاب سياسي، يعيد لصورة الثورة العربية إشراقتها، ولكي نجعلها مصدر اعتزاز وفخر نتقدم بها إلى الثورات العالمية الأخرى، وهي تشير بوضوح إلى أن للأمة العربية دور في إنتاج الثورة ليعمل على تعزيز موقع الثورة العالمية.
إننا نعرف في تاريخ الثورة ذات الطابع العالمي، ثورة كوبا وثورة فييتنام، ونضعهما في موقع الاحترام والتقدير. وهما قد اكتسبتا طابعهما العالمي من أنهما وجَّهتا ضربة موجعة إلى قطار الاستعمار العالمي. وبانتصارهما توجت حركة التحرر العربي رموز الثورتين بأكاليل من العزة والفخار، وأصبح من حقهم علينا أن نقدم لهم آيات الاحترام والتقدير.
أما في المقابل، فإننا نشير بسرعة وإيجاز، إلى أن الأمة العربية سطَّرت فصولاً مهمة ليس في مقاومة الاستعمار فحسب، بل أضافت إليها مقاومة الصهيونية أيضاً، وقد قاد تلك الثورات رموز ليس من المنطقي أن نطمر حقهم التاريخي بالتجاهل والتجهيل والجهل.
ولو أردنا أن نعطي شواهد نجد أنه ليس من المنطقي أن نتجاهل ثورة العام 1936 في فلسطين التي قادها عبد القادر الحسيني، وعمر المختار التي قاد الثورة ضد الاستعمار الإيطالي في ليبيا، وأحمد بن بللا الذي قاد الثورة ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وجمال عبد الناصر الذي قاد الثورة المصرية ضد الاستعمار والصهيونية معاً، وياسر عرفات الذي أسس لأهم ثورة فلسطينية ضد الصهيونية، وصدام حسين الذي أعدَّ لأهم ثورة في تاريخنا المعاصر ضد الاستعمار والصهيونية معاً، تلك الثورة التي لا تزال مستمرة حتى الآن. تلك الثورة التي ستنعم بنتائجها الباهرة كل الشعوب المعادية للاستعمار والصهيونية في العالم. ومنها نتساءل:
هل نحن ننتج الثورة؟
نعم.
وهل نحن استفدنا من التراث الثوري العالمي؟
نعم.
فهل يستعيد العرب الثقة بنفسهم؟
نعم، طالما الأمة تسهم في مقاومة الاستعمار والصهيونية، وتكشف ضعفهما أمام ثورة الشعب العربي وإمكانياته وعطاءاته النضالية.
ونقولها نعم لأن الأمة العربية اليوم تقود الثورة العالمية، من خنادقها المتقدمة في لبنان وفلسطين، والعراق. نقولها بكل ثقة بالنفس: على أيدي المقاومين في العراق ستتغير معالم اتجاهات الهيمنة على العالم والاستفراد بقيادته من قبل شياطين الشر في الولايات المتحدة الأميركية. وهناك يتعرَّض رأس الأفعى الأميركية للسحق.
إذن، أيحق لرواد الثورة العرب أن يصبحوا رموزاً نعتز بها؟
نعم. والمريح أن هناك بعض الإطلالات بين الأحزاب والقوى والحركات العربية تسير باتجاه الاقتراب من بعيداً عن الفئوية والتعصب، وتعلن أن الأمة العربية تمتلك من الرموز الثورية ما يمكنها أن تعتز بهم أمام الثوريين في العالم.

المشهد العراقي في نيسان 2007
(18): الخطة الأميركية الجديدة عاجزة عن إنقاذ مشروعها في العراق ولن يحل القضية العراقية إلاَّ مشروع المقاومة الوطنية
في 22/ 4/ 2007، دعت منظمة حزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي في البقاع إلى ندوة شعبية في بلدة جب جنين، البقاع الغربي، في قاعة المحاضرات التابعة للبلدية، تحت عنوان «متابعة التطورات في العراق»، ألقاها الرفيق حسن خليل غريب.
وأهم ما جاء في كلمة الرفيق حسن خليل غريب:
لا تضيع أرض وراءها مقاتل، ولا تضيع كرامة وراءها مقاوم
كانت المقاومة الشعبية سلاح الشعوب التي توفِّر عامل التوازن بين الدول الضعيفة التسليح في مواجهة عدوان الدول التي تمتلك أكبر ترسانات الأسلحة المتطورة، وتلك هي الاستراتيجية التي رسم حزب البعث معالمها منذ تأسيسه وقد أثبتت فعاليتها.
وقام الحزب أيضاً، بالتحضير لمقاومة العدوان الأميركي بسنوات، وبعد أن انطلقت في توقيتها المرسوم، تحوَّلت إلى المقاومة الأكثر تأثيراً في إحداث متغيرات استراتيجية على مستوى العالم، ولكنها للأسف ظلَّت الأكثر تجهيلاً في تاريخ المقاومات، وكانت الأقل دعماً والأكثر أعداء.
إن المقاومة العراقية هي الأكثر تأثيراً على الصعيدين العربي والدولي والشعبي العربي التحرري لأنها:
-ستعيد صياغة التاريخ العربي الذي انحدر فيه النظام العربي إلى الاستسلام التام أمام الأمركة والصهينة.
-وستعيد صياغة التاريخ العالمي الذي كان ينحدر باتجاه التسليم لقطبية واحدة تحكم العالم.
-وأعادت الحيوية إلى جماهير الأمة العربية وأعادت الثقة إليها،
باختصار لا يمكن الانتصار على الصهيونية والاستعمار إلاَّ بقطع رأس الأفعى في العراق وعلى أيدي المقاومة العراقية. فمن يريد اجتثاث الصهيونية ولا يدعم المقاومة العراقية، حتى لو قاوم الصهيونية، فإنه يؤخر التغلغل الصهيوني ولا يجتثه.
قبل الدخول إلى صلب البرهان على ما جاء أعلاه، علينا أن نعلن أن كل مقاومة تُلحق الأذى بالتحالف بين الأمركة الآن والصهيونية العالمية، في لبنان وفلسطين، هي مقاومة تصب في النهاية في الفائدة الاستراتيجية للأمة العربية.
لماذا تمتلك المقاومة العراقية كل تلك الأوراق؟ وكيف انطلقت؟ ما هي أهدافها؟
وما هي المخططات التي تتبعها إدارة جورج بوش من أجل إنهائها؟ أي ما هو مضمون خطتها الجديدة التي يجري تطبيقها الآن في العراق؟
تلك هي العوامل التي ستحدد نتائج الصراع الدائر في العراق بين المقاومة الوطنية العراقية من جهة، والمشروع الأميركي، وعملائه، وداعميه، ومشاركيه، والمتواطئين معه، من جهة أخرى. وهذا ما سنلقي عليه الأضواء في ندوتنا هذه.
في أهداف المشروع الأميركي الاستراتيجي ما يخيف أصدقاؤه
إن المخاوف من مشروع اليمنيين المتطرفين الأميركيين لا تقتصر على حركة التحرر العربي وحدها، بل أثارت مخاوف حلفاء أميركا في المنظومة الرأسمالية العالية، أما السبب فيعود إلى أن تلك المنظومة تتحالف مع مشروع الرأسمالية الأميركية التقليدي على قاعدة «أسرق العالم ودعني أسرق معك»، أما المشروع الذي تتبناه إدارة بوش فهو «دعني أسرق العالم من دون شريك».
ولهذا تخشى دول النظام الرأسمالي العالمي إذا استأثرت إدارة بوش بحكم أوحدي للعالم. وإذا كان الأمر هكذا بالنسبة للأصدقاء فكيف يكون الأمر بالنسبة للمنافسين أو الممانعين من غير دول المنظومة الرأسمالية؟
تلك الحقيقة تكشف لنا سر المعادلة التي تعمل على أساسها الدول الصديقة لأميركا، أي أن تلك الدول لن تكون منزعجة من فشل أميركا في العراق، إلاَّ أنها لن تكون مسرورة في خروج جيش الاحتلال الأميركي مهزوماً، ومن أجل ذلك تساعد إدارة جورج بوش على «خروج مشرِّف»! من العراق.
دول العالم وأنظمته تعمل على تركيب نظام سياسي مقبل على مقاسات مصالحها
ولأن معادلة الصراع وصلت إلى وضوح تام، وتدل على أن الهزيمة لاحقة بالجيش الأميركي، راحت كل دول العالم، ومنها بعض الأنظمة العربية الرسمية، ودول الجوار الجغرافي، تعمل على رسم مستقبل لعراق بعد الاحتلال، بما يتناسب مع مصالحها، وبخاصة محاولة توفير أفضل الشروط لدعم نظام سياسي جديد سيحكم العراق بعد التحرير.
أما الأسباب فهي أن أهداف مشروع المقاومة العراقية بشكلها الراهن إذا انتصرت، وهي ستنتصر، لن تكون بأقل من إعادة توحيد العراق الوطني كأنموذج لتوحيد الأمة العربية، وهذه الأهداف ستصطدم مع مشاريع الآخرين التي لا تصب في مصلحة العراق الموحد، ومصلحة الأمة العربية.
إذن، ففي المقدار الذي يراهن فيه العالم على انتصار المقاومة العراقية، فهو يعمل على قطف نتائجها ليستغلها من أجل مصالحه.
إن المقاومة العراقية على قاب قوسين أو أدنى من الانتصار، والمشروع الأميركي هو على قاب قوسين أو أدنى من الهزيمة، وهذا ما دفع بكل الأطراف إلى العمل من أجل أن يكون لكل طرف حصة في عراق ما بعد الاحتلال الأميركي.
قراءة في المشهد العراقي الراهن
ومن هذه الزاوية سنقوم بقراءة للمشهد الراهن في العراق والعالم:
-على مستوى الصراع في الداخل الأميركي بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري:
-تأكد الحزب الديموقراطي من فشل مشروع اليمينيين المتطرفين الجدد بقيادة إدارة جورج بوش، المشروع الذي أخاف العالم كله، والذي قام على خطة الاستيلاء على العالم بالقوة العسكرية، وراحوا يضغطون باتجاه إعادة عقارب الساعة لإحياء الاستراتيجية الأميركية التقليدية، والتي تعتمد على استراتيجية «احتواء العالم» بقوة رأس المال والمخابرات. هذا السبب دعا كل القوى المتضررة من مشروع اليمينيين الأميركيين إلى إسناد حركة الحزب الديموقراطي في أميركا.
-إدارة جورج بوش تعمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مصالح أميركا التي تضررت بشكل كبير من جراء احتلال العراق.
وهكذا انقسم المجتمع الأميركي بين داع للنصر، وبين معلن للفشل، مع أرجحية لدعوات الانسحاب الأميركي من العراق، تشهد الساحة العالمية والعربية اصطفافات جديدة تعمل على صياغة تحالفات جديدة. وكل منها ينشد الاستفادة من المرحلة الانتقالية في محاولة للحصول على حصة في عراق ما بعد الاحتلال:
التآمر على شق المقاومة العراقية من أخطر معالم المرحلة الانتقالية
إن الحصول على تلك الحصة دفعت بتلك الأطراف إلى العمل للتسلل إلى صفوف المقاومة العراقية، كون أي نظام سياسي سيقود العراق ستكون فصائل المقاومة في القلب منه. ومن يعمل على اقتطاع حصته عليه أن يتغلغل إلى القلب. وتدور السيناريوهات الآن على بناء علاقات وعوامل تأثير في ساحة المقاومة.
قبل أي شيء آخر، لقد اعترف الجميع، بمن فيهم إدارة جورج بوش، أن المحور الرئيسي والعقدة الأكبر في جسم المقاومة العراقية يستند إلى دور حزب البعث العربي الاشتراكي، لهذا نرى أن التركيز في هذه المرحلة يتمحور حول هذا الدور. أما لماذا يتم التركيز الآن على إضعاف دور حزب البعث في قيادة المقاومة؟
إن فكر حزب البعث العربي الاشتراكي، في العراق والأمة العربية، يستند إلى ثوابت لم يتراجع عنها على الرغم من أن قيادته اختارت الشهادة من أجل المحافظة عليها وحمايتها، بمواقف بطولية ورجولة تفوق التصور الإنساني، وتلك الثوابت هي:
-محاربة الاستعمار حتى رحيله بكل أشكاله وألوانه عن سرقة ثروات الأمة العربية.
-مقاومة الصهيونية العالمية حتى خروجها من أرض فلسطين، وإعادة فلسطين حرة عربية من النهر إلى البحر.
-مواجهة الرجعية العربية المتحالفة مع الاستعمار والصهيونية.
-مواجهة الرجعية الدينية ونبذ الطائفية السياسية.
-وفي مقابل كل ذلك توحيد الأمة العربية، كهدف لا عودة عنه، على قواعد العدل والمساواة بين كل تعدديات الأمة العربية الدينية والعرقية.
من تلك الثوابت نستطيع الاستنتاج كم جمع الحزب من العداوات، ونستطيع أن نتصور حجم وأعداد الذين يعملون على اجتثاث فكر البعث. ولقد اجتمعوا كلهم الآن في خندق إضعاف تأثيره في أي نظام سياسي سيحكم العراق بعد التحرير.
استدراج للبعثيين وإضعاف لقيادة البعث للمقاومة
نحن نلمح حتى الآن مظهرين يتم العمل عليهما بسرعة وإصرار، وهما:
-الأول ما ورد في البيان الختامي للقمة العربية في الرياض: إعادة النظر بقانون اجتثاث البعث.
-الثاني توليد فصائل تزعم أنها تقود مقاومة الاحتلال الأميركي تحت عباءات إسلامية، وقد تحوَّل كل همها إلى التشهير بحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق والزعم بأنه لا تأثير له في المقاومة العراقية.
مظهران يستأثران بالاهتمام، كونهما وليدين جديدين، سبقا مؤتمر القمة العربية بقليل، ويتناميان بعدها بسرعة تكاد تكون يومية. وقد تزامنا مع تكليف لجنة بيكر هاملتون وازدادا سرعة بعدها. إنها باختصار محاولة لسحب البساط من تحت أرجل مقاومة البعث التي كان مؤسسها ومعدها قبل الاحتلال، ومطلقها بعد الاحتلال مباشرة.
تراهن الأطراف الضالعة بهذه المؤامرة على استدراج البعثيين، الذين تمردوا على قرارات الحزب، أو الذين التحقوا بصفوف عملاء الاحتلال، أو الذين وهنوا، أو الذين انطلت عليهم وسائل الحرب النفسية، إلى الانخراط في ما تُسمى «العملية السياسية» من أجل تثبيت أسس لنظام سياسي في العراق سيستفيد منه كل الذين سيلتقون في مؤتمر شرم الشيخ في مصر.
كما أن بعض الأنظمة العربية تقوم بمحاولة لتطييف المقاومة العراقية كرد فعل على التدخل الإيراني المذهبي في العراق، وهي بمثل تلك الطريقة تضيف مشكلة جديدة، وهي إنما تداوي المرض الإيراني بمرض آخر.
كما تحاول تلك الأنظمة، بتوجيه من مخابرات جورج بوش، تصوير الصراع في العراق وكأنه صراعاً طائفياً طرفاه: شيعي تقوده إيران والآخر سني يقوده نظام عربي سني.
وكما أن المقاومة الوطنية العراقية، بقيادة حزب البعث، واجهت الهدف الأول بوعي وحكمة، مستندة إلى ثقتها بالتزام البعثيين في العراق في الاستمرار بالقتال حتى النصر، والمحافظة على الثوابت الجبهوية مع كل فصائل المقاومة، فهي كما نحسب لن تضيَّع بوصلة تحديد جدولة التناقضات الرئيسية، وسوف يبقى هدف القتال ضد الاحتلال الأميركي في مركز الدائرة، وهي تتعاطى سلباً وإيجاباً مع الدور الإيراني على مقاييس اقترابه أو ابتعاده عن الدور الأميركي، ومدى اقترابه أو ابتعاده عن مصلحة العراق الواحد الموحد، الوطني العربي. ولأنه حتى هذه اللحظة لا يزال الدور الإيراني مستمراً بعدائه للشعب العراقي، تضعه المقاومة العراقية تحت مرمى أهدافها، ولكن ستفتح له كل أبواب الخروج عن غيه، ليتحول إلى جار تحكم علاقات إيران مع العراق، وعبره مع الأمة العربية، عوامل «حسن الجوار» بكل ما تعنيه وما يترتب عليها من حقوق وواجبات.
على جميع القوى أن تضبط ساعتها على قرار المقاومة الوطنية العراقية
إن العراق والأمة العربية والعالم يقفون الآن على أبواب مرحلة الحسم لأن المرحلة القادمة تحمل بشائر النصر الأكيد، لكنها في المقابل تحمل إنذارات خطيرة يحاول فيه كل المتآمرين أن يقطفوا ثماراً منعتهم المقاومة من قطفها منذ موجة الاحتلال الأولى. وهي باختصار:
-تعمل بعض دول الجوار الجغرافي على تطييف العراق لاقتطاع حصة منه، وتعمل على تقوية حكومة المالكي كضمان لتلك الحصة.
-وتعمل دول الجوار العربي على تطييف فعل المقاومة لموازنة القوى الطائفية الأخرى.
-ويغرق العراق في متاهات التمذهب والطائفية، وهي تلك المتاهات التي يعمل الاحتلال على تغذيتها والاستفادة منها لعلَّه ينجح من خلالها فيما فشل فيه بالاحتلال العسكري.
باستثناء بعض الشلل التي تزعم أنها تقاتل في العراق، وتتلقى تمويلاً خارجياً لأهداف لها صلة ببعض القوى العربية والدولية، وبها تستغل حاجة المقاومين المادية، فالمقاومة العراقية تعي تماماً أهداف تلك التكتيكات وتعمل على إحباطها.
ونؤكد أخيراً أنه لن تنجح أية مشاريع سياسية في إعادة توحيد العراق، بعد الانسحاب الأميركي منه، واستعادة العروبة إليه، إلاَّ ما يحمل منها فكراً وطنياً وقومياً يلبي حاجة التعدديات فيه.

(19): العولمة الأميركية والطائفية السياسية تبتلعان الأول من أيار،
(طليعة لبنان الواحد عدد نيسان 2007)
على قاعدة أن «الديموقراطية الرأسمالية» تمثل نهاية تاريخ الديموقراطيات في العالم، اجتاحت الأمركة ساحة الأول من أيار، وردمت كل آثاره لتمحو معه أية تأثيرات للفكر الاشتراكي على عقل العمال والفلاحين، الذين عليهم أن يكونوا في خدمة الرأسمال والرأسماليين. وأن ينعموا بدفء أولياء نعمتهم من أصحاب المصالح والمصانع والحقول.
لم يحكم أولياء الرأسمالية العالمية على الأول من أيار، كرمز من رموز حقوق العمال فحسب، وإنما يعملون على إلغاء مفهوم الدولة الحديثة، كراعية للقطاع العام أيضاً.
تحت سقف القرار بإلغاء هذين الرمزين: الأول من أيار، ودولة القطاع العام، بكونهما عامليْن من عوامل المحافظة على آخر معاقل الشريحة الأكبر في المجتمعات الوطنية، انجرفت الحكومات اللبنانية، منذ العام 1992، المتعاقبة على بناء أرضية سياسية واقتصادية تستجيب لتعميم مفهوم الديموقراطية الرأسمالية التي روَّج لها فوكوياما، كأحد أهم المفكرين الأميركيين المدافعين عن المذهب الرأسمالي في العالم بشكل عام، والمذهب الرأسمالي الأميركي بشكل خاص.
بفعل ذلك لم يبق من الأول من أيار في لبنان إلاَّ الذكرى، ولكن هل تنفع الذكرى؟
لم يبق من الأول من أيار في لبنان إلاَّ ممثلين للعمال منقسمين و«مرتهنين» داخل إحدى جيبيْن: جيوب السلطة وجيوب الطوائف:
-السلطة التي تعمل على أمركة اقتصادنا، خاصة وأنها لم تتغير منذ وصلت امتدادات الأمركة إلى لبنان، وثبَّتت مواقعها، وأشرفت إدارة الأمركة في العالم على حمايتها ومدها بأسباب البقاء والاستمرار.
-أو داخل جيوب الطوائف، التي يعمل رؤساؤها على استبدال الاصطفاف إلى جانب الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والوطنية بالاصطفاف إلى جانب حماية النظام الطائفي السياسي.
وهكذا وقع الأول من أيار رهينة بين فكيْ كماشة خطيرة، فكها الأعلى أمركة لا ترحم، وتطييف يبتز ويضلل.
ولكن أوَ ليس هناك من حل؟
نعم، أما قاعدته فلن تكون خارج وعي العمال لمصلحتهم، لأنه لن يشعر بجوع الجائع إلاَّ الجائع نفسه. وفي دائرة الشعور بالجوع والغبن، لن نجد من بين فكيْ الكماشة، الأمركة والتطييف، إلاَّ من هو مُتخم ومُسترخٍ على ما يكدسه من أموال ومواقع في السلطة.
وإلى أن يبلغ العمال سن وعي حقوقهم، تبقى أيها «الأول من أيار» على هامش الانتظار على أرصفة المتخمين الذين لن يتورعوا عن اجتياحها لتنظيفها من آخر آثارك الرمزية.
ووداعاً لهذا العام، ونحن ننتظرك في العام القادم، وكل عام، ولكننا لن ننساك. فهل تجد من يقرضك بضعة آلاف من المتظاهرين في الشوارع أو المعتصمين في الساحات؟
هل ستجد من يقرضك بضعة آلاف من المتظاهرين «المليونيين» لكي يتظاهروا مطالبين بتوفير لقمة العيش لأولادك؟


(20): مؤامرة شرم الشيخ: «وثيقة العهد الدولي» لمساعدة لصوص «مغارة جورج بوش»
3/ 5/ 2007
تحت تطبيل وسائل الإعلام وتزميرها، وفي ظل وعود كاذبة وزَّعها جورج بوش على بعض شعبه الذي لا يزال مخدوعاً تنطلي عليه أكاذيب رئيسه، حشدت إدارة المذكور عشرات الدول في شرم الشيخ لتوحي أنها لا تزال تقبض على زمام الأمور في العراق. وأنها تستطيع أن تلقى مساندة من المجتمع الدولي.
وعلى أثر تلك الدعوة استجابت أكثر من خمسين دولة، استطاع ساحر أميركا أن يُخرجهم من أكمامه في لعبة سحرية مُتقَنَة. فكان من بين الحاضرين من هو خائف على رقبة نظامه، ومنهم من بدأ اللعبة مع عصابة جورج بوش ويخشى الهروب منها من دون انسحاب «مُشَرِّف»، ومنهم من لا يزال يطمع ببعض «ترياق العراق»، ومنهم من جاء خائفاً من تداعيات فشل مشروع عصابة اليمنيين الجدد على مستقبل أمن نظامه وهذا هو حال أنظمة دول الخليج العربي، بقيادة السعودية، وقد ظهرت آثار الخوف على لسان وزير خارجيتها الذي قدَّم الوضع بخطاب قرأنا فيه معالم الحسرة والألم، التي كان نظامه أوَّل من سهَّل بداياتها التي كان يجهل أنه واصلاً إليها. ولعلَّ ما قرأناه يكون فاتحة تلعب فيه السعودية والأنظمة التي تدور في فلكها دوراً يغفر بعض ذنوب ما ارتكبته بحق العراق وشعب العراق، عندما سهَّلت لأميركا طريق العدوان وشاركت فيه.
لقد اجتمع كل هؤلاء، ولكل أغراضه وأهدافه، تلك التي لا ترتفع فوق سقف نجاح مخطط إدارة بوش في ابتلاع العراق, والتي يحسبون فيها أنهم سيلتقطون بعض ما يتركه لهم رئيس «مغارة لصوص أميركا».
حضر كل أولئك، وهم غافلون، أو مُستغفَلون، وهم تناسوا أو يتناسون، أن من جاؤوا لمساعدته، وإنقاذه، قد سقط تحت نعال الشارع الأميركي في انتخابات تشرين الثاني الماضي. وكان قد سقط قبل ذلك باستقالة أهم أعمدة عصابته أو إقالتهم. وقد سقطت إدارته، ممثلة بآلاف كبار الموظفين والمساعدين تحت نعال «مومسات أميركا»، حيث كانت عميدتهن تفتح ذراعيها لتقديم الاستشارات لآلاف أولئك الموظفين. أوَ ليست فضيحة بول وولفويتز، رئيس البنك الدولي، الذي أمر بدفع راتب كبير من مالية العراق لإحدى صديقاته؟ هي رأس الخيط الذي دلَّ على مدى تأثير «المومسات» في قيادة من يقودون أميركا، ويطمعون بقيادة العالم؟
لم يقف الأمر على قيادة «المومسات»، بل بدأته إدارة جورج بوش، بقيادة الخونة. وفي هذا الصدد يكشف جورج تينيت، في كتابه «في قلب العاصفة»، أن رئيسه » لم يستمع إلى نصائح كاتم أسراره، أي جورج تينيت، بل كانت أذناه مفتوحة إلى «العلاقة الغرامية» بين البيت الأبيض وأحمد الجلبي، رئيس حزب«المؤتمر الوطني» العراقي، والتي شبهها تينيت بـ «الحب الأعمى» الذي يصيب «مراهقة».
لقد تناسى كل من حضر، أنهم جاؤوا إلى شرم الشيخ لإنقاذ عصابة من اللصوص، يترأس «مغارتهم» جورج بوش بنفسه. وإن كنا نطلق هذا اللقب، فليس لأنه من استخدامنا، أو أنه من قبيل السخرية السياسية. لقد بدأ به مسؤول بريطاني، بتصريح يدل على حقيقة أن ما جرى في العراق، هو حقيقة من أفعال عصابة من اللصوص، شبيهة بعصابة «علي بابا والأربعين حرامي».
كيف بدأت الحكاية؟
في الأول من أيار من العام 2003، أعلن جورج بوش، رئيس الإدارة الأميركية، انتهاء العمليات العسكرية في العراق، قائلاً: إن »الجزء الأكبر من المعارك قد انتهى في العراق«، وأضاف »في هذه المعركة، حاربنا من أجل الحرية ومن أجل السلام في العالم. وإن الولايات المتحدة وحلفاءنا فازوا فيها«. لكن »معركة العراق مجرد نصر واحد في حرب على الإرهاب وما زالت دائرة«.
وأخذت تلك الإدارة من خلال تصريحات وزير خارجيتها كولين باول توزِّع التهديدات ضد كل من عارض الحرب، أو أبدى ممانعة لها، أو أضمر في قلبه خوفاً من احتلال العراق، وكان من أبرز تلك القوى:
-حمَّل فرنسا نتائج معارضتها لأمريكا. واتهمها بأنها كانت وراء رفض الأمم المتحدة لضرب العراق بسبب تهديدها باستخدام حق الفيتو.
-وعبَّر عن أهداف زيارته إلى سوريا أمام لجنة فرعية تابعة لمجلس الشيوخ قائلاً: إن الأسابيع الأخيرة يجب أن تكون قد علمت السوريين أن العالم ضاق ذرعاً بالدول التي »تضمر الشر لجيرانها«.
وإن أقلَّ ما تدل عليه تلك التصريحات هو أنها لا تصدر عن دولة عظمى بل عن رئاسة عصابة تهدد الآخرين بقطع أرزاقهم، أو تهديد أمنهم، بعد نجاحها في أكبر عملية سطو ضد أهم آبار نفطية في العالم.
ولقد كشفت الأوساط السياسية الغربية حقيقة أهداف احتلال العراق، ففي 17/ 10/ 2003، أعرب الوزير البريطاني السابق «توني بين» عضو حزب العمال عن اعتقاده بأن الولايات المتحدة وبريطانيا احتلتا العراق لسرقة نفطه، مشيراً إلى أن التوصيف القانوني للأوضاع في العراق، في تلك الفترة وحتى الآن، هو عملية »سطو مسلح«حيث استخدمتا جيوشاً هائلة من أجل سرقة العراق. ودلَّل علي صحة رأيه بقوله إن سلطات الاحتلال أعلنت أنه بإمكان الشركات الدولية الذهاب إلى العراق وخصخصة أصول النفط العراقية.
وفي المقابل، راح المؤيدون والمشاركون في العدوان والاحتلال يعلنون عن أدوارهم وبطولاتهم، لعلَّهم ينالون الحظوة والمكافأة من رئيس عصابة «مغارة احتلال العراق»، وفي هذا الصدد أعلن محمد على أبطحي نائب الرئيس الإيراني للشؤون القانونية والبرلمانية، في ختام أعمال مؤتمر الخليج وتحديات المستقبل الذي نظمه مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية سنوياً بإمارة أبو ظبي مساء الثلاثاء 15/1/2004م، أن بلاده قدمت الكثير من العون للأمريكيين في حربهم ضد أفغانستان والعراق، وأكَّد أنه »لولا التعاون الإيراني لما سقطت كابول وبغداد بهذه السهولة«.
واستطراداً إن أهم ما قامت به إيران في العراق فهي أنها تطوَّعت لتشكل جيش العراق من محازبيها سواء من العراقيين أو الإيرانيين المهاجرين إلى العراق، وبدعم مباشر من ضباط وعناصر الاستخبارات الإيرانية والباستيج الذين تدفقوا إلى العراق دونما رقابة, وبطرف مغمض من المحتلين الأمريكيين والبريطانيين.
ومن أهم أولئك العملاء والتنظيمات، عبد العزيز الحكيم، الذي يترأس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق. وكان قد عاش في إيران خلال 23 عاماً. وهو قائد فيلق بدر, الذراع المسلح للمجلس. وشارك في لقاءات المعارضة التي رعتها الولايات المتحدة خارج العراق، وكان من أول الحريصين للحصول على مقعد لتنظيمه في مجلس الحكم المؤقت. ودعا في خلال لقاء جمعه مع «جورج علي بابا» إلى عدم خروج الأميركيين من العراق.
لقد أسهمت إيران بتدمير البنى التحتية: العسكرية والتعليمية والصحية، بحيث أن »كل المُعدّات الإنشائية الثقيلة والمصانع الحربية والمدنية والمكائن الثقيلة فككّت وُنهبت ونقلت إلى إيران. باعها الأكراد لإيران بأسعار بخسة، سوية مع جماعة الحكيم وحزب الدعوة. مئات الألوف من السيارات والشاحنات وشاحنات الأحواض والكومبيوترات تمّ تهريبها إلى إيران«.
ومن المفيد ألاَّ ننسى أن موفق الربيعي، وهو إيراني الأصل والتبعية، له حظوة من قبل القوات الأميركية، وكذلك إبراهيم الجعفري، ونوري المالكي...وكل قادة حزب الدعوة.
وانبرى عملاء الموساد والسي آي إيه، ومن أهمهم أحمد الجلبي، يقدمون النصح لإدارة اليمين الأميركي المتطرف باحتلال العراق. وبعد الاحتلال كانوا يدعون إلى بقاء قوات الاحتلال، لحماية عمليات «السطو والسرقة»، فهو قد قال: «ثمة حاجة كبيرة لبقاء القوات الأمريكية ولفترة طويلة في العراق». وتنكشف نواياه من وراء هذه الدعوة إذا عرفنا أنه منذ بداية الأمر قد استولى رجاله، من الذين دربتهم المخابرات الأمريكية في دول أوروبا الشرقية، على عدد كبير من البنوك والممتلكات العراقية. واقتسم أياد علاوي مع الجلبي الأموال المنهوبة من البنوك العراقية. أما الجلبي فقد شارك عدد من أقربائه المقربين في النهب، ومن أبرزهم: سالم الجلبي (ابن شقيقه)، . الذي درس في إنجلترة وتدرب في أمريكا، وقصته مع التجارة المشبوهة طويلة. ومن خلالها، بنى علاقات وطيدة مع عدد من أقطاب الصهيونية.

فشل عصابة السطو المسلح في السيطرة على ثروات العراق
بعد أشهر قليلة كانت قد مرَّت على احتلال العراق، استطاعت المقاومة العراقية أن تُرغم إدارة «جورج علي بابا» على الشعور بوطأة عملية «السطو المسلح» وفداحة الثمن الذي يتوجب عليه دفعه لقاء إنجاحها، فراحت تلك الإدارة تستنجد بمن كانت قد هدَّدتهم بقطع رقابهم وأرزاقهم ونسلهم، لمساعدتها على إنجاح عمليتها القذرة بتوزيع الوعود عليهم باقتطاع حصة لهم من غنائم «المغارة». وكأن تلك الدول، كمثل فرنسا وروسيا وألمانيا، وجدت فرصتها لنيل الحظوة من «جورج علي بابا» فساعدته على استصدار القرارين: 1511، و1546، لقاء عهود ووعود بإشراكهم في عمليات النصب على العراقيين ونهبهم. إلاَّ أن القرارين، لم يشكلا «الطبيب المداويا» لجيوب اللصوص فزنود المقاومين كانت تحول بينهم وبين الفريسة الدسمة، وبذلك استمرت الأزمة على حالها، وراحت تزداد سوءاً، فلا استطاع اللص الأميركي أن يسرق بالحجم الذي كان يخطط له، ولا مساعدوه حصلوا على ما سالت لعاب تواطئهم لأجله.
وكأنَّ إدارة «جورج علي بابا»، ركبها الوهم بالنصر، أو كأنَّ النصر سيكون «إلهياً» سيغدقه الله على «اللصوص» الذين يسرقون «الهيكل» في أميركا والعالم، فراحت تطبِّق خطة جديدة، من أهم بنودها، بالإضافة إلى استخدام المزيد من القتل ومن جدران العزل في العراق، وكانت الدعوة لعقد مؤتمر «شرم الشيخ» في مصر تشكل وجهاً آخر لها. ومن أجل عقده، ولعلَّه يأتي بالنتائج التي عجزت عن الإتيان به أربع سنوات من قتل العراقيين وتجويعهم وتشريدهم وتفتيتهم، لملمت فيه إدارة «جورج علي بابا» كل «لصوص المغارة» ممن شاركوا في مؤامرة تدمير العراق، أو تواطأوا أو سكتوا، من الذين لم يقتنعوا بعد أن رئيس عصابتهم، «جورج علي بابا»، يتعرَّض للعزل والمحاكمة على أرض أميركا نفسها. ولا عجب في أن يحضر هؤلاء ذلك المؤتمر، فهو يمثِّل القشة الواهية التي يراهنون عليها في إنقاذ ما يستطيعون إنقاذه، من غنائم «المغارة»، قبل أن تدمِّر المقاومة الوطنية العراقية سقفها على رؤوسهم، لتُعيد العراق إلى أبنائه، وتستعيد سرقات لصوص المغارة رغماً عنهم وعن زعيمهم.
وبذلت إدارة عصابة مغارة «جورج علي بابا» جهدها لعقد مؤتمر شرم الشيخ، وكانت لا ترى مخرجاً لقرارات سيتخذها المؤتمر من دون حضور إيران. لكن إيران تأخرت في إعطاء موافقتها على الحضور، وهي كانت كالحبيب الذي عرف موقعه «فتدللا». وكان تدللها عائداً إلى رغبتها في الحصول من «عملية السطو المسلح» على حصة مجزية. فهل ستقدمها لها كوندالي «جورج علي بابا»؟
أفراد العصابة يتبادلون التهم والمسؤوليات
لقد سبق المؤتمر المذكور تداعيات في غاية من الدراماتيكية، الذي لم يفت العالم رؤيتها، وهو يرى لصوص المغارة يتبادلون التهم، ويلقي بعضهم مسؤولية الفشل على البعض الآخر، وقد شاهد العالم هذا المنظر الذي سبقه تبادل التهاني بين اللصوص من الذين راحوا يتبارون في إضفاء البطولات على أنفسهم في احتلال العراق.
كان آخر ما جادت به إدارة فتح مغارة النهب في العراق، في هذا الأسبوع، أنها حمَّلت حكومة المالكي مسؤولية الصرف على ما أسمته مهمة «إعمار العراق» لأن المكلَّف الأميركي رفض تمويل حرب اللصوص من جيوبه الخاصة، وكان قد سبق هذا القرار كثير من تبادل التهم بين جماعة اللصوص: أمير الـ«مغارة» الأميركي، ولصوص المغارة من العملاء المأجورين. فراح كل منهم يُلقي اللوم على الآخر ويتهمه بالتقصير، هذا بعد أن نفذ صبر كل واحد منهم، ونحن لن ننسى تمرد العبد «نوري المالكي»، على سيده «جورج علي بابا». ولن ننسى السجالات الإيرانية – الأميركية حول تحميل أحدهما الآخر مسؤولية الانهيار الذي يلم بالعراق، دولة وشعباً. وقال المثل سابقاً: إذا اختلفت «العواهر» فإنك ستسمع كل ما لم تكن تعرفه من تبادل الفضائح. وهكذا أخذ كل من أسهم في احتلال العراق يكيل التهم إلى شريكه، ليصبح كل واحد، بالنظر إلى نفسه، أنه «الشريف» الوحيد بين مجموعة من «العواهر».
كاتم أسرار «جورج علي بابا» يكشف قشرة الثلج عن أميره فـ«بان المرج».
كانت فاتحة بوابة تبادل الاتهامات بين «عواهر» إدارة «جورج علي بابا» تلك التي بدأها «جورج تينيت»، من خلال كتابه «في قلب العاصفة»، فهو يرى أن إيديولوجيا المحافظين الجدد وإصرارهم على إطاحة النظام الوطني في العراق كانت سبباً للحرب على العراق «لتكون نقطة تحول في الأنظمة في الشرق الأوسط».
فهل كواتم أسرار المشاركين في مغارة «جورج علي بابا» سـ«يبقُّون البحصة» لاحقاً؟
لكل مرحلة لصوصها، ولكل اللصوص أسرار، ولكل خزانة أسرار سدنتها وحافظوها، وليست هناك مرحلة ثابتة، بل تتغيَّر المراحل، ولكل اللصوص من يتناقض معهم. ولكل المشاركين والمتواطئين في مغارة «جورج علي بابا» كاتمو أسرار، فلكل منهم «جورج تينيت» سيظهر في الوقت المناسب.
ولكل من يشارك في عمل غير أخلاقي كبوات طال الزمن أم قصر، فيا ويلهم عندما تتزحلق أرجلهم. فيا ويل كل من كانت له حصة في عصابة أمير اللصوص في العالم.
إننا ننتظر أن تفرقهم المصالح، وسوف يختلفون على نسب السرقات، فيتبادلون التهم والمسؤوليات عندما تنكشف أدوارهم القذرة. ولكل من هؤلاء «جورج تينيت» ينتظرهم على مفترق ما، ليكشف كم كانوا من العواهر، الذين تآمروا على شرف العراق وكرامته.
نافل القول في نتائج مؤتمر شرم الشيخ
باستثناءات نادرة، لكي تعرف هوية هذا المؤتمر وأهدافه، عليك أن تعرف من يحضره. إنهم ممن التزموا «دفن قضايا الشعوب» عندما آمنوا بأن الله قد سخَّر الشعوب لهم، وأمرهم بتقليدهم، وبالانصياع لأوامرهم، وتعاليمهم. لكن الغريب في الأمر، على الرغم من أننا فقدنا الأمل في نظامنا العربي الرسمي، لا يجوز لنا إلاَّ أن نتساءل: كيف يمكننا أن نغفر للشقيق الذي أسهم في قتل شقيقه، ومن ثم يشارك في دفنه؟
من معرفتنا لكل المشاركين فيه، نرى أن مؤتمر شرم الشيخ ليس قصة قائمة بذاتها، بل هو تتمة، أو هو خاتمة لقصة «علي بابا والأربعين حرامي»، وهو مؤتمر إعلان نهاية تلك القصة، لأن مقدماتها ابتدأت عندما لم يجد كل اللصوص المشاركين فيها وسيلة لملئها بالغنائم وحمايتها أولاً، واختلفوا على تقسيم تلك الغنائم ثانياً. ونهاياتها كانت في تبادل التهم بالتقصير فيما بينهم، ومن أقرب تلك النهايات هو أن الخلافات دبَّت بين لصوصها الكبار وأعوانهم، وليست ببعيدة عن اللصوص الصغار.
كان من أهم ما لفت انتباهنا قبل اختتام المؤتمر، بالإضافة إلى نبرات الحسرة والألم التي رافقت خطابه فيه، تصريح لسعود الفيصل قال فيه: يبقى الأساس أن نتائج المؤتمر هي ما سوف تحققه المصالحة في العراق. وتصريحه هذا لا ينمُّ عن تفاؤل بقدر ما ينم عن يأس. فلعلَّه يعرف أن المصالحة لن تحصل لأن شروطها غير مكتملة، وعدم اكتمالها هو استحالة إجرائها بين من هو عميل لعصابة لصوص الاحتلال، ومن هو مقاوم للاحتلال.
أما وإننا نغامر بقراءتنا المسبقة لنتائج قرارات مؤتمر لم تُعط فرصة للاختبار، فهو إيماننا بأن ما قام على «سطو مسلَّح» لن يُهزَم إلاَّ بـ«كفاح مسلَّح». والتتمة تقع على زنود أبطال المقاومة الوطنية العراقية، كما كانت البداية تستند إلى تلك الزنود.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق